المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الثانية والعشرون: في مقاصد أمثلة القرآن - القواعد الحسان لتفسير القرآن

[عبد الرحمن السعدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌القاعدة الأولى: في كيفية تلقي التفسير

- ‌القاعدة الثانية: العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب

- ‌القاعدة الثالثة: الألف واللام الداخلة على الأوصاف وأسماء الأجناس تفيد الاستغراق بحسب ما دخلت عليه

- ‌القاعدة الرابعة: إذا وقعت النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام دلت على العموم

- ‌القاعدة الخامسة: المقرر أن المفرد المضاف يفيد العموم كما يفيد ذلك اسم الجمع

- ‌القاعدة السادسة: في طريقة القرآن في تقرير التوحيد ونفي ضده

- ‌القاعدة السابعة: في طريقة القرآن في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌القاعدة الثامنة: طريقة القرآن في تقرير المعاد

- ‌القاعدة التاسعة: في طريقة القرآن في أمر المؤمنين وخطابهم بالأحكام الشرعية

- ‌القاعدة العاشرة: في طرق القرآن إلى دعوة الكفار على اختلاف مللهم

- ‌القاعدة الحادية عشرة: مراعاة دلالة التضمن والمطابقة والالتزام

- ‌القاعدة الثانية عشرة: الآيات القرآنية التي يفهم منها قصَّار النظر التعارض:

- ‌القاعدة الثالثة عشرة: طريقة القرآن في الحجاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلة

- ‌القاعدة الرابعة عشرة: حذف المتعلق المعمول فيه: يفيد تعميم المعنى المناسب له

- ‌القاعدة الخامسة عشرة: جعل الله الأسباب للمطالب العالية مبشرات لتطمين القلوب وزيادة الإيمان

- ‌القاعدة السادسة عشرة: حذف جواب الشرط يدل على تعظيم الأمر وشدته في مقامات الوعيد

- ‌القاعدة السابعة عشرة: بعض الأسماء الواردة في القرآن إذا أفرد دل على المعنى المناسب له، وإذا قرن مع غيره دل على بعض المعنى، ودل ما قرن معه على باقيه

- ‌القاعدة الثامنة عشرة: إطلاق الهداية والإضلال وتقييدها

- ‌القاعدة التاسعة عشرة: الأسماء الحسنى في ختم الآيات

- ‌القاعدة العشرون: القرآن كله محكم باعتبار، وكله متشابه باعتبار، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث

- ‌القاعدة الحادية والعشرون: القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان والأحوال في أحكامه الراجعة للعرف والعوائد

- ‌القاعدة الثانية والعشرون: في مقاصد أمثلة القرآن

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون: إرشادات القرآن على نوعين

- ‌القاعدة الرابعة والعشرون: التوسط والاعتدال وذم الغلو

- ‌القاعدة الخامسة والعشرون: حدود الله قد أمر بحفظها ونهى عن تعديها وقربانها

- ‌القاعدة السادسة والعشرون: الأحكام في الآيات المقيدة

- ‌القاعدة السابعة والعشرون: المحترزات في القرآن تقع في كل المواضع في أشد الحاجة إليها

- ‌القاعدة الثامنة والعشرون: في ذكر الأوصاف الجامعة التي وصف الله بها المؤمن

- ‌القاعدة التاسعة والعشرون: في الفوائد التي يجتنيها العبد في معرفته وفهمه لأجناس علوم القرآن

- ‌القاعدة الثلاثون: أركان الإيمان بالأسماء الحسنى

- ‌القاعدة الحادية والثلاثون: ربوبية الله في القرآن على نوعين: عامة وخاصة

- ‌القاعدة الثانية والثلاثون: الأمر بالشيء نهي عن ضده

- ‌القاعدة الثالثة والثلاثون: المرض في القرآن -مرض القلوب- نوعان: مرض شبهات وشكوك، ومرض شهوات ومحرمات

- ‌القاعدة الرابعة والثلاثون: دلَّ القرآن في عدة آيات أنَّ من ترك ما ينفعه مع الإمكان ابتلى بالاشتغال بما يضره، وحُرم الأمرَ الأول

- ‌القاعدة الخامسة والثلاثون: تقديم أعلى المصلحتين وأهون المفسدتين

- ‌القاعدة السادسة والثلاثون: مقابلة المعتدي بمثل عدوانه

- ‌القاعدة السابعة والثلاثون: اعتبار المقاصد في ترتيب الأحكام

- ‌القاعدة الثامنة والثلاثون: قد دلت آيات كثيرة على جبر المنكسر قلبه، ومن تشوفت نفسه لأمر من الأمور إيجاباً أو استحباباً

- ‌القاعدة التاسعة والثلاثون: في طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية

- ‌القاعدة الأربعون: في دلالة القرآن على أصول الطب

- ‌القاعدة الحادية والأربعون: قصر النظر على الحالة الحاضرة

- ‌القاعدة الثانية والأربعون: الحقوق لله ولرسوله

- ‌القاعدة الثالثة والأربعون: الأمر بالتثبت

- ‌القاعدة الرابعة والأربعون: علاج ميل النفوس إلى ما لا ينبغي

- ‌القاعدة الخامسة والأربعون: حث الباري سبحانه في كتابه على الصلاح والإصلاح

- ‌القاعدة السادسة والأربعون: ما أمر الله به في كتابه

- ‌القاعدة السابعة والأربعون: السياق الخاص يراد به العام إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة

- ‌القاعدة الثامنة والأربعون: متى علق الله علمه بالأمور بعد وجودها، كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء

- ‌القاعدة التاسعة والأربعون: إذا منع الله عباده المؤمنين شيئاً تتعلق به إرادتهم، فتح لهم باباً أنفع لهم منه وأسهل وأولى

- ‌القاعدة الخمسون: آيات الرسول: هي التي يبديها الباري ويبتديها

- ‌القاعدة الحادية والخمسون: كلّما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين: يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة

- ‌القاعدة الثانية والخمسون: إذا وضح الحق وبان، لم يبق للمعارضة العلمية، ولا العملية محل

- ‌القاعدة الثالثة والخمسون: من قواعد القرآن: أنه يبين أن الأجر والثواب على قدر المشقة

- ‌القاعدة الرابعة والخمسون: كثيراً ما ينفي الله الشيء لعدم فائدته وثمرته المقصودة منه، وإن كانت صورته موجودة

- ‌القاعدة الخامسة والخمسون: يُكتب للعبد عمله الذي باشره، ويكمل له ما شرع فيه وعجز عن تكميله قهراً عنه، ويكتب له ما نشأ عن عمله

- ‌القاعدة السادسة والخمسون: تحال المصالح على قدر الوسع والطاقة

- ‌القاعدة السابعة والخمسون: في كيفية الاستدلال بخلق السماوات والأرض وما فيهما على التوحيد والمطالب العالية

- ‌القاعدة الثامنة والخمسون: الكمال إنما يظهر إذا قُرن بضده

- ‌القاعدة التاسعة والخمسون: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}

- ‌القاعدة الستون: أنواع التعليم القصصي في القرآن

- ‌القاعدة الحادية والستون: معرفة الأوقات وضبطها حث الله عليه، حيث يترتب عليه حكم عام أو حكم خاص

- ‌القاعدة الثانية والستون: الصبر أكبر عون على جميع الأمور، والإحاطة بالشيء علما وخبرا هو الذي يعين على الصبر

- ‌القاعدة الثالثة والستون: العبرة بصدق الإيمان وصلاح الأعمال

- ‌القاعدة الرابعة والستون: الأمور العارضة التي لا قرار لها بسبب المزعجات أو الشبهات قد تَردُ على الحق وعلى الأمور اليقينية ولكن سرعان ما تضمحل وتزول

- ‌القاعدة الخامسة والستون: قد أرشد القرآن إلى المنع من الأمر المباح إذا كان يفضي إلى ترك الواجب، أو فعل محرم

- ‌القاعدة السادسة والستون: من قواعد القرآن أنه يستدل بالأقوال والأفعال على ما صدرت عنه من الأخلاق والصفات

- ‌القاعدة السابعة والستون: يرشد القرآن إلى الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق، للخروج من الشبهات والتوهمات

- ‌القاعدة الثامنة والستون: ذكر الأوصاف المتقابلات يغنى عن التصريح بالمفاضلة إذا كان الفرق معلوماً

- ‌القاعدة التاسعة والستون: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه

- ‌القاعدة السبعون: القرآن كفيل بمقاومة جميع المفسدين ولا يعصم من جميع الشرور إلا التمسكُ بأصوله وفروعه وتنفيذ شرائعه وأحكامه

- ‌القاعدة الواحدة السبعون: في اشتمال كثير من ألفاظ القرآن على جوامع المعاني

الفصل: ‌القاعدة الثانية والعشرون: في مقاصد أمثلة القرآن

‌القاعدة الثانية والعشرون: في مقاصد أمثلة القرآن

اعلم أن القرآن الكريم احتوى على أعلى وأكمل وأنفع المواضيع التي يحتاج الخلق إليها في جميع الأنواع، فقد احتوى على أحسن طرق التعليم، وإيصال المعاني إلى القلوب بأيسر شيء وأوضحه.

فمن أنواع تعاليمه العالية: ضرب الأمثال، وهذا النوع يذكره الباري سبحانه في الأمور المهمة، كالتوحيد وحال الموحد والشرك وحال أهله، والأعمال العامة الجليلة. ويقصد بذلك كله توضيح المعاني النافعة، وتمثيلها بالأمور المحسوسة، ليصير القلب كأنه يشاهد معانيها رأي العين. وهذا من عناية الباري بعباده ولطفه.

فقد مثّل الله الوحي والعلم الذي أنزله على رسوله في عدة آيات بالغيث والمطر النازل من السماء، وقلوب الناس بالأراضي والأودية، وإن عمل الوحي والعلم في القلوب كعمل الغيث والمطر في الأرض، فمنها: أراضٍ طيبة تقبل الماء وتنبت الكلأ والعشب الكثير. كمثل القلوب الفاهمة التي تفهم عن الله ورسوله وحيه وكلامه، وتعقله، وتعمل به علماً وتعليماً بحسب حالها. كالأراضي بحسب حالها. ومنها أراض تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، فينتفع الناس بالماء الذي تمسكه فيشربون ويسقون مواشيهم وأراضهم، كالقلوب التي تحفظ الوحي من القرآن والسنة وتلقيه إلى الأمة ولكن ليس عندها من الدراية والمعرفة بمعانيه ما عند الأولين وهؤلاء على خير ولكنهم دون أولئك.

ص: 64

ومنها: أراض لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، كمثل القلوب التي لا تنتفع بالوحي لا علما ولا حفظا ولا عملا.

ومناسبة الأراضي للقلوب كما ترى في الظهور. وأما مناسبة تشبيهه الوحي بالغيث لأن الغيث فيه حياة الأرض والعباد وأرزاقهم الحسية، والوحي فيه حياة القلوب والأرواح ومادة أرزاقهم المعنوية.

وكذلك مثّل الله كلمة التوحيد بالشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. فكذلك شجرة التوحيد ثابتة بقلب صاحبها معرفة وتصديقا وإيمانا وإرادة لموجبها، وتؤتي أكلها وهو منافعها كل وقت من النيات الطيبة والأخلاق الزكية، والأعمال الصالحة والهدْي المستقيم، ونفع صاحبها وانتفاع الناس به. وهي صاعدة إلى السماء لإخلاص صاحبها وعلمه ويقينه.

ومثّل الله الشرك والمشرك الذي اتخذ مع الله إلهاً يتعزز به، ويزعم أنه سينال منه النفع، ودفع الضرر كالعنكبوت اتخذت بيتاً وهو أوهن البيوت وأوهاها، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا إلى ضعفها. كذلك المشرك ما ازداد باتخاذه ولياً ونصيراً من دون الله إلا ضعفاً، لأن قلبه انقطع عن الله، ومن انقطع قلبه عن الله حلّه الضعف من كل وجه. وتعلقه بالمخلوق زاده وهناً إلى وهنه، فإنه اتكل عليه وظن منه حصول المنافع، فخاب ظنه وانقطع أمله، وأما المؤمن فإنه قوي بقوة إيمانه بالله وتوحيده وتعلقه بالله وحده، الذي بيده الأمر والنفع ودفع الضرر، وهو المتصرف في أحواله كلها، كالعبد الذي استقام على صراط مستقيم في أقواله وأفعاله، منطلق الإرادة تحررعن رق المخلوقين، غير مقيد لهم بوجه من الوجوه، بخلاف المشرك فإنه كالعبد الأصم الأبكم الذي هو كَلٌّ وعالة على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير، لأن قلبه متقيد للمخلوقين مُسْتَرق لهم،

ص: 65

ليس له انطلاق ولا تصرف في الخير ولا شعور به.

ومثله أيضاً كالذي خر من السماء فتخطفته الطيور ومزقته كل ممزق.

وهؤلاء الذين زعموا أنهم آلهة ينفعون ويدعون لو اجتمعوا كلهم على خلق أضعف المخلوقات، وهو الذباب لم يقدروا باجتماعهم على خلقه، فكيف ببعضهم!! فكيف بفرد من مئات الألوف منهم!! وأبلغ من ذلك أن الذباب لو يسلبهم شيئاً لا يقدروا على استخلاصه منه ورده، فهل فوق هذا الضعف ضعف؟ وهل أعظم من هذا الغرور الذي وقع فيه المشرك شئ؟ وهو مع هذا الغرور وهذا الوهن والضعف متقسِّم قلبه بين عدة آلهة، كالعبد بين الشركاء المتشاكسين، لا يتمكن من إرضاء أحدهم دون الآخر. فهو معهم في شر دائم وشقاء متراكم. فلو استحضر المشرك بعض هذه الأحوال الوخيمة لربأ بنفسه عما هو عليه، ولعلم أنه قد أضاع عقله ورأيه بعدما أضاع دينه. وأما الموحد فإنه خالص لربه، ولا يعبد إلا خالقه وبارئه ولا يرجو غيره ولا يخشى سواه، وقد اطمأن قلبه واستراح، وعلم أن الدين هو الحق وأن عاقبته أحمد العواقب، ومآله الخير والفلاح والسعادة الأبدية، فهو في حياة طيبة، ويطمع في حياة أطيب منها.

ومثَّل الله الأعمال بالبساتين، فذكر العمل الكامل الخالص له الذي لم يعرض له ما يفسده كبستان في أحسن المواضع وأعلاها، تنتابه الرياح النافعة، وقد ضَحَى وبرز للشمس، وفي خلاله الأنهار الجارية المتدفقة، فإن لم تكن غزيرةً فإنها كافيةٌ له كالطل الذي ينزل من السماء، ومع ذلك فأرضُه أطيب

ص: 66

الأراضي وأزكاها. فمع توفر هذه الشروط لا تسأل عما هو عليه من زَهاءِ الأشجار وطيب الظلال ووفور الثمار، فصاحبه في نعيم ورغد متواصل، وهو آمن من انقطاعه وتلفه، فإن كان هذا البستان لإنسان قد كبر وضعف من العمل، وعنده عائلة ضعاف لا مساعدة منهم ولا كفاءة، وقد اغتبط به حيث كان مادته ومادة عائلته، ثم إنه جاءته آفة وإعصار أحرقه وأتلفه عن آخرهم. فكيف تكون حسرة هذا المغرور؟ وكيف تكون مصيبته؟ وهذا هو الذي جاء بعد العمل بما يبطل عمله الصالح من الشرك أو النفاق أو المعاصي المحرقة. فيا ويحه، بعد ما كان بستانه زاكيا أصبح تالفا قد أيس من عوده وبقي بحسرته مع عائلته.

فهذا من أحسن الأمثال وأنسبها. فقد ذكر الله صفة بستان من ثبته الله على الإيمان، والعمل الصالح. وبستان من أبطل عمله بما ينافيه ويضاده، ويؤخذ من ذلك أن الذي لم يوفق للإيمان ولا للعمل أصلا أنه ليس له بستان أصلاً.

ووجه تشبيه الأعمال بالبساتين: أن البساتين تمدها المياه وطيب المحل وحسن الموقع، فكذلك الأعمال يمدها الوحي النازل من حياة القلوب الطيبة. وقد جمع العامل جميع شروط قبول العمل من الاجتهاد والإخلاص والمتابعة، فأثمر عملُه كل زوج بهيج.

وقد مثّل الله عمل الكافر بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، فيأتيه وقد اشتد به الظمأ، وأنهكه الإعياء، فيجده سراباً.

ومثّله برماد الشيء المحترق، فجاءته الرياح فذرته فلم تبق منه باقية. وهذا مناسب لحال الكافر وبطلان عمله، فإن كفره ومعاصيه بمنزلة النار المحرقة، وعمله بمنزلة الرماد والسراب الذي لا حقيقة له، وهو كان يعتقده نافعا له، فإذا وصله ولم يجده شيئا تقطعت نفسه حسرات،

ص: 67

ووجد الله عنده فوفاه حسابه.

كما مثّل نفقات المخلصين بذلك البستان الذكي الزاهي.

ومثّل نفقات المرائين بحجر أمْلسَ عليه شيء من تراب، فأصابه مطر شديد فتركه صلداً لا شيء عليه، لأن قلب المرائي لا إيمان فيه ولا تصديق ولا إخلاص، فهو قاس كالحجر، فنفقته حيث لم تصدر عن إيمان، بل عن رياء وسمعة لم تؤثر في قلبه حياةً ولا زكاةً. كهذا المطر الذي لم يؤثر في هذا الحجر الأملس شيئاً.

وهذه الأمثال إذا طبقت على مُمَثَّلاتها وضَّحتها وبينتها وبينت مراتبها من الخير والشر والكمال والنقصان.

ومثّل الله حال المنافقين بحال من هو في ظلمة، فاستوقد ناراً من غيره، ثم لما أضاءت ما حوله، وتبين له الطريق، ذهب نورهم وانطفأ ضوءهم، فبقوا في ظلمة عظيمة أعظمَ من الظلمة التي كان عليها أولاً. وهكذا المنافق استنار بنور الإيمان، فلما تبين له الهدى غلبت عليه الشقوة، واستولت عليه الحيرة، فذهب عنه نوره أحوج ما هو إليه، وبقي في ظلمة متحيراً. فهم لا يرجعون لأن سنة الله في عباده أن من بان له الهدى، واتضح له الحق ثم رجع عنه أنه لا يوفقه بعد ذلك للهداية، لأنه رأى الحق فتركه، وعرف الضلال فاتبعه.

وهذا المثل ينطبق على المنافقين الذين تبصروا وعرفوا، ثم غلبت عليهم الأعراض الضارة فتركوا الإيمان.

والمثال الثاني وهو قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانهم مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19] ينطبق على المنافقين الضالين المتحيرين الذين يسمعون القرآن ولم يعرفوا المراد منه، لأنهم أعرضوا عنه، وكرهوا سماعه اتباعاً لرؤسائهم

ص: 68

وسادتهم.

ومثّل الله الحياة الدنيا وزهرتها والاغترار بها بحالة زهرة الربيع، تعجب الناظرين، وتغر الجاهلين، ويظنون بقاءها، ولا يؤَمِّنون زوالها، فَلَهَوا بها عما خلقوا له، فأصبحت عنهم زائلة وأضحوا لنعيمها مفارقين في أسرع وقت كهذا الربيع إذا أصبح بعد الاخضرار هشيماً، وبعد الحياة يبساً رميماً.

وهذا الوصف قد شاهده الخلق واعترف به البر والفاجر، ولكن سكر الشهوات وضعف داعي الإيمان اقتضى إيثار العاجل على الآجل.

ص: 69