الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبهذا تنتهي الرسالة. ولا يمكن أن ألخِّص هنا كلَّ ما قاله، وإنما المقصود استعراض المباحث الرئيسة وترتيبها وبيان أجزاء الكتاب، وعلى القراء أن يراجعوا كلام المؤلف في موضعه ويستمتعوا ببيانه واستنباطاته ودقائقه.
(2) رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه:
توجد هذه الرسالة في مكتبة الحرم المكي برقم [4665](ص 1 - 20) وهي ضمن دفتر طويل مرقّم الصفحات، في كل صفحة منها أكثر من ثلاثين سطرًا. وقد أصاب هذا الدفتر بللٌ في أطراف الصفحات وخاصةً في أعلاها، أثَّر في الكتابة، فلا تُقرأ بعض الكلمات إلّا بصعوبة. وفي هوامشها زيادات وإلحاقات لم تسعها الصفحة، فكتبها الشيخ في هوامش الصفحات التالية. وفي كثير من صفحاتها شطب وضربٌ على بعض الفقرات والأسطر.
وكان سبب تأليفها أن الشيخ أراد تحقيق بعض المسائل المتعلقة بأحكام الجرح والتعديل لما وجد عند المتأخرين كلامًا مخالفًا للصواب وغير وافٍ بالتحقيق، ثم رأى أن يضمّ إليه شيئًا من الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه، فجمع هذه الرسالة، ورتَّبها على ثلاثة أبواب كما قال في المقدمة. والموجود منها بين أيدينا بابان فقط. ولم نجد الباب الثالث ضمن هذا الدفتر ولا في المسوّدات الأخرى.
عقد المؤلف الباب الأول للكلام على بعض ما يتعلق بخبر الواحد، وقسَّمه إلى أربعة فصول:
الأول: في وجوب العمل بخبر الواحد، نبَّه فيه المؤلف ــ كما قال ــ على ما لم يقف عليه في كتب أهل العلم أو رآه غير مستوفًى. وذكر ثلاثة أنواع من الحجج على ذلك من آيات القرآن الكريم، وتكلم عليها بما يشفي.
ثم ذكر شبه المخالفين، وهي: أن العقل لا يجوِّز أن يتعبد الله عباده بخبر الواحد، وأنه لا يفيد إلّا الظن والظن لا يغني من الحق شيئًا، وأن عامة الأخبار المروية بطرق الآحاد غير مستجمعة لشروط القبول. وقد فنَّد المؤلف جميع هذه الشبه، وردَّ على كتّاب الإفرنج وأتباعهم، وبعض الفرق الغالية كالخوارج والروافض، وأفراد من المعتزلة والجهمية وبعض الغلاة من أهل الرأي الذين خالفوا أهل الحديث في نقدهم للأحاديث والآثار، وبيَّن منهج المحدثين في التمييز بين الصحيح والضعيف، والشروط المتفق عليها لقبول خبر الواحد. وأكَّد في آخره على ضرورة الابتعاد عن الهوى في الحكم على الحديث، والالتزام بتطبيق الأصول والقواعد عند نقده.
والفصل الثاني فيما يفيده خبر الواحد، ذكر فيه أن خبر الواحد المستجمع للشروط وإن كان وجوب العمل به ثابتًا قطعًا، فدلالة اجتماع الشرائط على نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ظنية. ونظير ذلك أذان المؤذن وفتوى العالم وشهادة العدلين، فوجوب العمل بها ثابت قطعًا، وإن كان يمكن في كل واحدٍ من هؤلاء أن يخطئ ويغلط. ثم تكلم على ما نُقِل عن بعض الأئمة من أنه يفيد العلم، وذكر تشنيع بعض الناس عليهم بسبب هذا القول، ثم ردّ عليهم وبيَّن المقصود من كلام الأئمة وأنهم أرادوا واحدًا من المعاني الآتية:
الأول: أنه يفيد العلم للزوم الحكم الذي تضمَّنه لمن ثبت عنده.
الثاني: أنه يفيد العلم بمعنى أن احتمال خلافه احتمالٌ غيرُ ناشئٍ عن دليل.
الثالث: أنه يفيد العلم اليقيني في بعض الصور، كالمتلقَّى بالقبول والمحتفَّة به قرائن.
وعقد الفصل الثالث لبيان المعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد، فذكر أن مدار وجوب العمل به على إفادته الظنّ، وهنا احتمالان: الأول أن تكون إفادة الظن هي العلة، والثاني أن تكون هي الحكمة، والعلة ضابطها، وهو نفس إخبار الثقة. والذي رجَّحه المؤلف هو الثاني مع زيادة وصف في الضابط كأن يقال: خبر الثقة خبرًا لم يتبين خطؤه، وهذا معنى قول أهل الحديث:"من غير شذوذ ولا علة قادحة".
والفصل الرابع للمقابلة بين الرواية والشهادة، وقد فصَّل الكلام فيه عن وجوه الخلاف بينهما، وذكر استشكال بعضهم التخفيفَ في الرواية بالاكتفاء بخبر واحدٍ، على خلاف الشهادة لإثبات الزنا التي تتطلب أربعة شهود، وفي الدماء ونحوها رجلين، وفي الأموال رجلين أو رجلًا وامرأتين، مع أن القياس عكسه، فإن الشهادة إنما تثبت بها قضية واحدة، وأما الرواية فإنها تكون دينًا يُعمَل به إلى يوم القيامة في قضايا لا تحصى. وردَّ على هذا الإشكال من ثلاثة أوجه، فذكر أن الحاجة داعية إلى معرفة الحكم الشرعي للعمل به، وهذا يقتضي التوسعة فيما يُعرف به، وعارض ذلك خشية غلط الراوي، والموازنة بين هذين مما يصعب على الناظر، فلا يسعه إلا أن يكل الأمر إلى عالم الغيب والشهادة. ثم إن الظن الحاصل بخبر الثقة الواحد الذي يقبله أهل الحديث لا ينقص عن الظن الحاصل بشهادة العدلين التي يقضي بها الحكَّام، بل لعله أقوى منه لوجوه. وأخيرًا فإن الله قد تكفَّل بحفظ الدين، وبيَّنه بلسان النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك السنة. فمن المحال أن يُلصَق بالشريعة ما ليس منها على وجهٍ لا يمكن لأهل العلم نفيُه عنها، لأن ذلك منافٍ للحفظ الذي تكفَّل الله به.
أما الباب الثاني فقد عقده المؤلف لبيان شرائط حجية خبر الواحد، وذكر أنها على ثلاثة أنواع، والموجود منها الكلام على النوع الأول فقط، وهو ما يُشترط في المخبر حال الإخبار، تكلم فيه أولًا على العدالة وضوابطها، وتطرق إلى البحث عما إذا روى العدل عن رجل ولم يجرحه، هل يعتبر ذلك تعديلًا له؟ ثم تكلم على الشرط الثاني وهو الضبط، وعرَّف الضبط بأنه اجتماع الثبات والتثبت، فكون الإنسان ضابطًا لميزان نفسه عند التلقي وعند الأداء هو الثبات، ثم إنه قد يكون مع ثباته في نفسه يتفقَّد نفسه عند الأداء، فيعرف حقيقة الحال فيحدِّث بحسبها، فهذا هو المتثبت. وبهذا يخرج خبر المغفَّل والمتساهل.
وفي الفصل الأخير ذكر أن غالب ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام مبني على اعتبار أحاديث الراوي، ويدلُّ عليه كلام الأئمة، وتحرَّر للمؤلف باستقراء كثير من كلامهم أن لهم مذاهب:
الأول: مذهب ابن حبان، فعنده أن المسلمين محمولون على العدالة، فكل راوٍ لم يُجرَح فالظاهر أنه عدل. وبيَّن ضعف مذهبه، وردَّ عليه، وقال في آخره: والذي تبيَّن لي أن ابن حبان لم يلتزم الاعتبار، بل أخذ "التاريخ الكبير" للبخاري، ونقل غالبه إلى "الثقات". وكثير ممن أخذه عنه لم يعرفه ابن حبان، ولا عرف ما روى، بل وكثير منهم لم يعرف عمن رووا ولا من روى عنهم.
هذه فائدة جليلة توصَّل إليها المؤلف بعد دراسة الكتابين والمقارنة بينهما، وانظر تتمة الكلام هناك.