الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من استقراء ما ذكرناه يبدو بأن اصطلاح المرسل لما ذكر من حيث اللغة ممكناً، وعلى هذا هو والمنقطع سيان لغة واصطلاحاً، ويبدو بأن المنقطع أكثر عموماً- وبه قال ابن عبد البر- عن المرسل إذ أن الأول يتحدد بكل ما لم يتصل سنده سواء كان يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره، أمّا الثاني فهو ما أرسله التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمحدثون كما ذكرنا سابقاً يفصلون بين المرسل والمنقطع ويجعلون بينهم اختلافاً واضحاً.
وقد جعل الحنفية وإمام الحرمين المعضل والمرسل سواء، وعند الجمهور يعتبر المعضل أخص، وعندنا المعضل والمرسل متباينان.
(4)
مذاهب العلماء في قبول الحديث المرسل والعمل به أو رده:
وقد اختلف العلماء في قبول الحديث المرسل بين القبول مطلقاً والرد مطلقاً أو التفصيل فيه.
ويرجع الخلاف في هذه المسألة إلى القواعد المتبناة من أئمة الأصول والفقهاء في أصول الرواية.
أولها: قبول رواية المجهول العدالة والاحتجاج به.
وثانيها: هل أن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له أم لا؟.
وثالثها: قول الراوي: حدثني منِ لا أتهم أو نحو ذلك هل يحتج به إذا لم يسمعه أم لا؟.
ورابعها: هل يقبل التعديل مطلقاً أم لابد من ذكر سببه، وهل يشترط عدد معين في التعديل؟.
إن استقراء هذه القواعد ومناقشتها لتبيين ما هو الحق منها، فتخرج في قبول المرسل أورده إطلاقاً أو التفصيل في ذلك.
أ- المذهب الأول: قبول المرسل:
ممن قال بقبول الحديث المرسل والعمل به: مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وجمهور أصحابهما، وأكثر المعتزلة كأبي هاشم، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وابن القيم وابن كثير وغيرهم، ولهم في قبوله أقوال:
* أولها: قبول كل مرسل سواء بعد عهده وتأخر زمنه عن عصر التابعين حتى مرسل العصور المتأخرة، وهذا توسع غير مقبول، ومردود بالإجماع في كل عصر، ولو عمل به لزالت فائدة الإسناد وبطلت خصِّيصة هذه الأمة.
ثانيها: قبول مراسيل التابعين وأتباعهم مطلقاً، قال ابن الحنبلي في "قفو الأثر: "والمختار في التفصيل قبول مرسل الصحابي إجماعاً، ومرسل أهل القرن الثاني والثالث عندنا
(الحنفية) وعند مالك مطلقاً1. ومن الحجج لهذا القول: أن احتمال الضعف في التابعين لاسيما بالكذب بعيد جداً، فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على عصر التابعين، ثم للقرنين الذين يلونه، فإرسال التابعي وبقية القرون الثلاثة بالجزم من غير وثوق بمن قاله، مناف لها.
واوسع من هذا قول عمر- رضي الله عنه "المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنياً في ولاء أو قرابة".
إلا إن كان المرسل معروفاً بالإرسال عن غير الثقات، فإنه لا يقبل مرسله. وأما بعد العصر الثالث، فإن كان المرسل من أئمة النقل قبل مرسله2، وهو قول عيسى بن إبان، أبو بكر الرازي والبز دوى وأكثر المتأخرين من الحنفية، وقال القاضي عبد الوهاب المالكي:"هذا هو الظاهرمن المذهب عندي"3.
* وثالثها: قبول إرسال التابعين على اختلاف طبقاتهم، وهو قول مالك وجمهور أصحابه، وأحمد بن حنبل، وكل من يقبل المرسل من أهل الحديث.
* ورابعها: قبول مراسيل كبار التابعين دون صغارهم لقلة روايتهم عن الصحابة كما حكاه ابن عبد البر في التمهيد.
واختلف القائلون بقبول المرسل في طبقته هل هو أعلى من المسند، أو دونه، أو مثله؟. والقائلون بأنه أرجح وأعلى من المسند، وجّهوه بأن من أسند فقد أحالك على إسناده، والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم، ومن أرسل مع علمه ودينه وإمامته وثقته فقد قطع لك بصحته وكفاك النظر فيه. قال القرافي في شرح التنقيح:"إن المرسل أقوى من المسند بهذا الطريق؛ لأن المرِسل- بكسر السن- قد تذمم الراوي وأخذه في ذمته عند الله تعالى، وذلك يقتضي وثوقاً بعدالته، وأما إذا أسند فقد فوّض أمره للسامع، ينظر فيه، ولم يتذممه، فهذه الحالة أضعف من الإرسال"4.
وساوى بين المرسل والمسند في وجوب الحجة والقبول محمد بن جرير الطبري، وأبو فرج المالكي، وأبو بكر الأبهري، وعندهم متى تعارض مدلول حديث مرسل وآخر مسند فلا ترجيح إلا بأمر آخر خارجي. وقد قدم أكثر محققي المالكية والحنفية كأبي جعفر الطحاوي،
1 ابن الحنبلي: قفو الأثر. ص 14.
2 العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص 27.
3 المصدر نفسه: ص 28.
4 القرافي: شرح التنقيح. ص 164.
وأبي بكر الرازي بتقديم المسند على المرسل عند التعارض، وأن المرسل دون المسند بالرغم من قبوله والعمل به.
- ب - المذهب الثاني: رد المرسل:
قال الإمام مسلم- رحمه الله في مقدمة صحيحه: "والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة"1.
وهو قول عبد الرحمن بن مهدي ويحي بن سعيد القطان وابن المديني وأبي خيثمة زهير بن حرب ويحي بن معين وابن أبى شيبة والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم من أئمة الحديث2.
قال ابن أبى حاتم: "سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل ولا لقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة"3. وهو قول جمهور الشافعية واختيار إسماعيل القاضي وابن عبد البر وغيرهما من المالكية والقاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة كثيرون من أئمة الأصول.
والحجة في رد المرسل هو أنا إذا قبلنا خبر من لا نعلم حاله في الصدق والعدالة ممن حاله على خلاف ذلك، فنقول على الدين والشرع ما لم نتحقق من صحته، قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وقال عز وجل:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
وروى الحاكم في كتابه (علوم الحديث) عن يزيد بن هارون قال: "قلت لحماد بن زيد: يا أبا إسماعيل هل ذكر الله عز وجل أصحاب الحديث في القرآن؟ " قال: "نعم، ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} ، فهذا فيمن رحل في طلب العلم ثم رجع به إلى من وراءه ليعلمهم إياه"، وقال الحاكم:"في هذه الآية دليل على أن العلم المحتج به هو المسموع دون المرسل"4.
ومن الأدلة على رد المرسل ما رواه أبو داود في سننه في حديث عن ابن عباس- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم". وما رواه الشافعي- رحمه الله قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها
1 الإمام مسلم: الجامع الصحيح. ج. ص 132.
2 العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص30.
3 ابن أبى حاتم: كتاب المراسيل. ص 7.
4 الحاكم: معرفة علوا الحديث. ص 26.
إلى من لم يسمعها". والحديثان دلا على أن شأن الرواية اتصال الإسناد، فمتى جوزنا للفرع قبول الحديث من شيخه من غير وقوف على اتصال السند الذي تلقاه شيخه أدى ذلك إلى اختلال السند لجواز أن يكون هذا الساقط غير مقبول الرواية، فلا يجوز الاحتجاج بخبره.
قال الإمام ابن عبد البر: "الحجة في رد الإرسال ما أجمع عليه العلماء من الحاجة إلى عدالة المخبر عنه، وأنه لابد من معرفة ذلك، فإذَا حكى التابعي عمن لم يلقه لم يكن بد من معرفة الواسطة، إذ قد صح أن التابعين أو كثيرا منهم رووا عن الضعيف"1.
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: "إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه"2.
هذا وقد وجد بعد الصحابة من القرنين، من وُجدت فيه الصفات المذمومة، لكن بقلة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة، إذ كثر آنذاك وانتشر، وقد روى الشافعي- رحمه الله عن عمه: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، قال:"إِني لأسمع الحديث أستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أي يسمعه سامع فيقتدي به، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به وقد حدث به عمن أثق به، أو أسمعه من الرجل أثق به، قد حدث عمن لا أثق به". وهذا كما قال ابن عبد البر: "يدل على أن ذلك الزمان، أي زمان الصحابة والتابعين كان يحدث فيه الثقة وغيره".
ج - المذهب الثالث: التفصيل في المرسل:
للاحتجاج بالحديث المرسل عمد الفقهاء والأصوليون إلى اعتماد معيار لنقد الحديث المرسل وتمحيصه للتأكد من صلاحيته في استنباط الأحكام الشرعية.
قال الإمام الشافعي- رحمه الله: "وأحتجُّ بمرسل كبار التابعين، إذا أسند سن جهة أخرى، أو أرسله من أخذ من غير رجال الأول، أو وافق قول الصحابي، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه"3. أما أئمة الجرح والتعديل كيحي بن سعيد القطان وعلى بن المديني وغيرهما فوضعا قاعدة للتفصيل في قبول وردّ الحديث المرسل وذلك في التفريق بين من كان لا
1 ابن عبد البر النمري: التمهيد ج1 ص6.
2 الخطيب البغدادي: الكفاية. ص 387.
3 النووي: المجموع. ج1.ص99.
يرسل إلا عن ثقة، وبين من يعرف بإرساله عن كل أحد سواء كان ثقة أم ضعيفاً، فيقبل مرسل الأول ويرد مرسل الثاني. قال ابن أبى حاتم في بداية كتابه (المراسيل) :"كان يحي بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول هو بمنزلة الريح"1.
إن عدالة كبار التابعين كسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومكحول وأمانتهم تحول دون روايتهم عن غير الثقة، فلا يستجيز هؤلاء الجزم بحديث إلا بعد التأكد من ثبوته وعدم وجود ما يقتضي القدح في المرسل، والدليل على ذلك ما جاء عن ابن عمر- رضي الله عنهما أنه كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا أبيه عمر- رضي الله عنه وأحكامه مع علمه بأنه لم يدركه ولم يختلف عليه اثنان في قبولها منه مرسلة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله:"إذا لم يقبل سعيد بن المسيب عن عمر فمن يقبل"2.
وإذا جاء المرسل من وجهين، وكل من الراويين أخذ العلم عن شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه، فإن مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب، والعادة تمنع تماثلهما في الكذب عمداً وخطأ.
قال إمام الحرمين: "إذا قال أحد أئمة الجرح والتعديل حدثني الثقة أو حدثني من لا أتهم ونحو ذلك وكان ممن يقبل تعديله ويرجع إليه فهو مقبول محتج به بالرغم من إرساله؛ وذلك لأنه لا يقول ذلك إلا عند تحققه من ثقة ذاك الراوي وصدقه. وقد روى عروة بن الزبير لعمر بن عبد العزيز عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له" فأرسله ولم يسنده، فقال له عمر بن عبد العزيز: "أتشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ " فقال: "نعم أخبرني بذلك العدل الرضي"، فلم يسم مَنْ أخبره، فاكتفى منه عمر بن عبد العزيز بذلك.
فالقول المختار في التفصيل هو أن من عرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة عدل مشهور بذلك فمرسله مقبول ومن لم تكن عادته ذلك فلا يقبل مرسله، وبهذا القول يحصل الجمع بين الأدلة المتقدمة. فلا يمكننا إنكار قبول المرسل في الصدر الأول، وقد رد جماعة منهم الكثير من المراسيل، فيعزى قبولهم إلى الثقة بمن يرسل الحديث، وإلى هذا أشار ابن عباس- رضي الله عنهما قال:"كنا إذا سمعنا أحدنا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف".
1 ابن أبي حاتم. كتاب المراسيل. ص3.
2 العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص77.