المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} الآية. {نَحْنُ نَقُصُّ} : - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١١

[ابن عادل]

الفصل: قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} الآية. {نَحْنُ نَقُصُّ} :

قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} الآية.

{نَحْنُ نَقُصُّ} : مبتدأ وخبر، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه، قال تعالى:{وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]، أي: أتَّبعي أثره، {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] ، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً، كما يقال: تلا القرآنَ إذا قرأهُ؛ لأنَّه يتلُو، أي: يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ، والمعنى: نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ، والقرُونِ الماضية.

روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال: لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً، فقالوا: يَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم َ لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ عز وجل ذكره {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 2‌

‌3]

فقالوا: يا رسول الله، لو ذكرتنَا، فأنزل الله عز وجل {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} [الحديد: 16] .

قوله: {أَحْسَنَ القصص} في انتصابه وجهان:

أحدهما: أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول، كالخلقِ بمعنى: المخلُوقِ، أو جعلته فعلاً بمعنى: مفعُول، كالقَبْضِ، والنَّقْضِ بمعنى: المَقْبُوض، والمَنْقُوض، أي: نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله: {أَحْسَنَ القصص} : لِمَا فيه من العبرة، والنُّكتة، والحكمةِ، والعجائب التي ليست في غيرها.

ص: 5

فإحدى الفوائد في هذه القصة: أنه لا دافع لقضاءِ الله، ولا مانع من قدر الله، وأنَّهُ تعالى إذا قضى لإنسان بخير؛ فلو اجتمع العالمُ، لمْ يقدروا على دفعه.

والفائدة الثانية: أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ، والنُقصَانِ.

والفائدة الثالثة: أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج، كما في حقِّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ؛ فإنَّه لما صبر، نال مقصُوده، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه.

والوجه الثاني: أن يكون منصوباً على المصدر المبين، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً، أي: نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص.

وعلى هذا؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان، لا إلى القصَّة، والمراد بهذا الحسن: كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة، والبلاغة.

و «أحْسَنَ» : يجوز أن يكون: أفعل تفضيل على بابها، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها، أي: القصص الحسن.

قال العلماء رضي الله عنهم: ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن، وكرَّرها بمعنى واحدٍ، في وجوهٍ مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة، وقد ذكر قصة يوسف عليه الصلاة والسلام ُ ولم يكرِّرها؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرِّر.

فصل

قال القرطبي: وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً:

أحدها: أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم، ما تتضمن هذه القصَّة؛ لقوله تعالى في آخرها {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} [يوسف: 111] .

وثانيها: لحُسن مجاوزة يوسف إخوته، وصبْرِه على أذاهُم، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم، وكرمه في العفو عنهُم، حتَّى قال:{لَا تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم} [يوسف: 92] .

وثالثها: أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين، والملائكة، والجنِّ، والشياطين، والإنس، والطيرِ، وسير الملوكِ، والمماليكِ، والتُّجارِ، والعلماءِ، والجهال، والرِّجال، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ، وذكر التَّوحيد، والفقهِ، والسِّير، وتعبيرِ الرُّؤيا، والسِّياسةِ، والمعاشرةِ، وتدبير المعاشِ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا.

ص: 6

ورابعها: أنَّ فيها ذكر الحبيب، والمحبُوب، وسيرهما.

وخامسها: أنَّ «أحْسنَ» هنا بمعنى: أعجب.

وسادسها: سُمِّيت أحسن القصص؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة، وانظُر إلى يوسف، وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز، قيل: والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف، وحسن إسلامهُ، ومستعبر الرؤيا، والسَّاقي، والشَّاهد فيما يقال، فما كان أمْر الجَمِيع إلَاّ إلى خير، والله تعالى أعلم.

قوله: {بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} «الباء سببيَّة» ، وهي متعلقةٌ ب «نَقُصُّ» و «مَا» مصدريَّة، أيك بسبب إيحائنا «.

قوله: {هذا القرآن} يجوز فيه وجهان:

أظهرهما: أن ينتصب على المفعولية ب» أَوْحَيْنَا «.

والثاني: أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني: بَيْن» نَقُصُّ «وبين» أوْحَيْنَا «فإن كلاًّ منهما يطلب» هذا القُرآنَ «وتكون المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا» أحْسنَ «: منصوباً على المصدر، ولم يقدَّر ل» نَقُصُّ «مفعولاً محذوفاً.

قوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] تقدّم إعراب نظيره، والمعنى: قد كنت من قبله، أي: من قبل وحينان لمن الغافلين، أي: لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا.

وقيل: لمن الغافلين: عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك، كقوله تعالى:{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلَا الإيمان} [الشورى: 52] .

قال بعض المفسرين: سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص؛ لما فيها من العبر، والحكم، والنُّكتِ، والفوائد التي تصلْح للدِّين والدُّنيا، من سير الملوكِ، والمماليكِ، والعلماء، ومكرِ النِّساء، والصبْر على أذى الأعداء، وحسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد.

قال خالد بن معدان:» سورة يوسف، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة «.

وقال عطاء رحمه الله:» لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونُ إلا استراح لهَا «.

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ} الآية.

رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف؟ فأنز الله تعالى هذه السورة.

ص: 7

وفي العامل في «إذْ» أوجهٌ:

أظهرها: أنه منصُوب ب «قَالَ يَا بُنَيَّ» أي: قال يعقوب: يا بني وقت قول يُوسف لهُ: كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا أسهل الوجوه؛ إذ فيه إبقاء «إذْ» كونها ظرفاً ماضياً.

وقيل: الناسب له: «الغَالفينَ» قاله مكيٌّ.

وقيل: هو منصوبٌ ب «نَقُصُّ» أي: نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيه [إخراج]«إذْ» عن المضيِّ، وعن الظرفيَّة، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً، أي: نقصُّ عليك الحال وقت قوله، لزم أخراجها عن المضيِّ.

وقيل: هو منصوب بمضمر، أي: اذكُر.

وقيل: هو منصُوب على أنَّه بدل من «أحسن القصص» بدل اشتمال.

قال الزمخشري: «لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص» و «يُوسفُ» اسم عبرانيٌّ، ولذلك لا ينصرف، وقيل: هو عربيٌّ، فقال الزمخشريُّ:«الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ؛ لأنه لو كان عربيًّا، لانصرف» وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال: «الأسف في اللغة: الحُزن، والأسف: العَبْد، واجتمعا في يوسف؛ فسُمِّي بهما» .

روي ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ قال: «الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين» .

قوله: «يَا أبَتِ» قرأ ابن عامر: بفتح التَّاء، والباقون بكسرها، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.

ص: 8

وهذا مختصٌّ بلفظتين: يا أبَتِ ويَا أمَّتِ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء، لو قلت:«يَا صَاحِبتِ» لم يجُز ألبتَّة؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو: «يا ابْنَ أمَّ» ويجوز الجمع بين هذه التَّاء، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً؛ كقوله:[الرجز]

3044 -

يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا

وقول الآخر: [المتقارب]

3045 -

أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا

فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ

وقول الآخر: [الطويل]

3046 -

أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا

لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا

وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً؛ فإنَّه قال: «فإن قلت: فما هَذه الكسْرة؟ قلتُ: هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك:» يا أبي «قد زُحلقَتْ إلى التاء؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً.

فإن قلت: فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً؟ .

قلت: امتنع ذلك فيها؛ لأنَّها اسم، والأسماءُ حقُّها التحريكُ؛ لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً؛ لأنها حرف لين، وأما التاء، فحرفٌ صحيحٌ، نحو كافِ الضمير؛ فلزم تحريكها.

فإن قلت: يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه؛ لأنَّها في حكم الياء، إذا قلت: يا غُلام، فكَمَا لا يَجُوز:«يا أبتي» لا يجوز «يا أبتِ» قلت: الياءُ والكسرة قبلها شيئان، والتَّاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء، والكسرة متعرَّض لها؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير؛ ألا ترى إلى قولهم:«يَا أبَتَا» مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ، كيف

ص: 9

جاز بينها وبين التاء، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه؟ فالكسرة أبعد من ذلك.

فإن قلت: قد دلَّت الكسرة في «يا غُلام» على الإضافة؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها، فإن دلَّت على مثل ذلك في:«يا أبت» فالتَّاء الَمعوَّة لغو، وجودها كعدمها.

قلت: [بل] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت: «يا أبِي» .

وكذا عبارة أبي حيَّان، فإنه قال: وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء، كما قال:[الرجز]

3047 -

يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا

وفيه نظر؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يجمع بينهما، وهذا تاء أصلها للتأَنيث.

قال الزمخشريُّ: «فإن قلتك ما هذه التَّاء؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث: قلبُهَا هاءً في الوقف» .

قال شهاب الدِّين: وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف، قرأ به ابنُ كثير، وابن عامرٍ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في «بِنْت وأخْت» وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث: سيبويه؛ فإنه قال: «سَألْت الخليل عن التَّاء في:» يَا أبتِ «فقال: هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء» يا خالة وعمَّة «يعنى: أنَّها للتَّأنيث» ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث: كتبُهم إيَّاها هاءً، وقياس من وقف بالتَّاء: أن يكُبهَا تاء، ك «بِنْت وأخْت» .

ثم قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر؟ .

قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاةٌ ذكر، ورجل ربعة، وغلامٌ يفعة قلت: يعني: أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ، كما في الأسماء المستشهد بها.

ثم قال الزمخشري: «فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة؟ .

قلت: لأن التأنيث والإضافة تناسبان؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره» .

قال شهاب الدين: «وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي، أي: أنه شَبَهٌ في الصُّورة» .

وقال الزمخشري: «إنه قرىء» يَا أبتِ «بالحركات الثلاث:

ص: 10

فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما.

وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ؛ كقراءة من قرأ: {قَالَ رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] بضم الباء، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا: إنَّه مضافٌ للياءِ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ. وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين.

والمذهبُ الآخر: أنَّها كسرة أجنبيَّة، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها. فأما الفتح ففيه أربعة أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين:

أحدهما: أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله: [الوافر]

3048 -

ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي

بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي

وكما اجتزأ بها في:» يَا بْنَ أمَّ «و» يَا بْنَ عَمّ «.

والثاني: أنه رخم بحذف التاء، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة؛ كقول النابغة الجعديِّ:[الطويل]

3049 -

كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ

وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ

بفتح تاء أميمة.

الثالث: ما ذكره الفرَّاء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وقطرب في أحد قوليه: وهو أن الألف في:» يَا أبَتَا «للنُّدبة، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة.

الرابع: أن الأصل» يا أبَة «بالتنوين، فحذف التنوين، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني.

وردَّ هذا: بأ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو:» يَا ضَارِباً رجُلاً «.

وقرأ أبو جعفر:» يا أبِي «بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء، وقرأ الحسن، والحسين، وطلحة بن سليمان، رضي الله عنهم» أحَدَ عَشَر «بسُكُون العين؛

ص: 11

كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً.

قوله {والشمس والقمر} يجوز فيه وجهان:

أحدهما: أن تكون الواو عاطفة، وحينئذ: يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} فهذا كقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بعد قوله:» ومَلائِكتهِ «ويحتمل أن لا تكون كذلك، وتكون الواوُ لعطف المغايرة؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال» أحَدَ عَشَرَ «ومن جملتها الشمس والقمر، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ.

والوجه الثاني: أن تكون الواو بمعنى:» مَعَ «إلا أنَّه مرجوحٌ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ، ولا أخلال بمعنى، رُجِّح على المعيَّة؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله، بمعنى: أنه رأى الشمس، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً.

قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يحتمل وجهين:

أحدهما: أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت «أنكُم» في قوله تعالى:{أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] . كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

والثاني: أنه ليس [بتأكيد]، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال:«فإن قلت: ما معنى تكرار» رَأيْتُمْ «؟ قلتُ: ليس بتكرار؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له؛ كأنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ قال لهُ عند قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر} كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال: (رأيتهم لي ساجدين) وهذا أظهر؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى» .

و «سَاجِدينَ» : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل: لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل: لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما؛ كما قال في صفة الأصنام:{وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]، وكقوله عز وجل:{يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] .

والرُّؤية هنا: مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين؛ كالعلميَّة؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله:{رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم.

وقال بعضهم: إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا.

ص: 12

قال القفَّال: ذكر الرُّؤية الأولى؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ، والشَّمس والقمر، والثانية؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ.

فصل

ذكر المفسرون: أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب: بالإخوة، والشمس والقمر: بالأب والأم، والسجُود: بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عليه الصلاة والسلام ُ:{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} .

وقال السديُّ: «القمر: خالته، والشَّمسُ: أبُوه؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت» .

وقال ابن جريج: القَمَر: أبُوه، والشَّمسُ أمُّه؛ لأن الشمس مؤنثة، والقمر مذكَّر.

وقال وهب بن مُنبِّه رضي الله عنه: «إن يُوسفُ عليه الصلاة والسلام ُ ت رأى وهو ابنُ سبع سنين، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها، فذكر ذلك لأبيه؛ فقال: إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة، الشَّمس، والقمر والكواكب، تسجُد له؛ فقصَّها على أبيه؛ فقال: لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً» .

روى الزمخشريُّ: رحمه الله: «أن يهُودِيًّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه سولمن فقال يا محمَّد: أخبرني عن النُّجُوم التي رآهُن يوسف، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ُ؛ فنزل جبريل عليها لسلام فأخبره بذلك؛ فقال عليه الصلاة والسلام ُ لليهوديَّ: إن أخبرتك بذلك هل تسلم؟ قال: نَعمْ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم: حرثان، والطارق والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والقرع، والضروح ووثاب، وذو الكتفين رآها يوسف، والشمس والقمر [نَزلْنَ] من السَّماء، وسجدن لهُ، فقال اليهوديُّ: أي والله إنَّها لأسماؤها» .

ص: 13

واعلم ان كثيراً من هذه الأسماء غير مذكورة في الكتب المصنفة في صُور الكواكب.

فصل

زعمت طائفةٌ من العلماء: أ، هـ لم يكن في أولاد يعقُوب نبيٌّ غير يُوسف عليه الصلاة والسلام ُ وباقي إخوته لم يوح إليهم، واستدلُّوا بظاهر ما ذُكر من أفعالهم، وأحوالهم في هذه القصَّة، ومن استدلَّ على نُبوتهم، استدلَّ قوله تعالى:{آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} [البقرة: 136] وزعم أنَّ هؤلاء: هم الأسباط، وهذا استدلال ضعيفٌ؛ لأن المراد بالأسباط: شُعوب بني إسرائيل، ما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي، وأيضاً: فإنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام ُ هو المخصُوص من بين إخوته بالنبوة والرسالة؛ لأنَّه نصَّ على نُبوَّته، والإيحاء إليه في آيات من القرآن ولم ينصَّ على أحد إخوته سواه؛ فدلَّ على ما ذكرنا.

فصل

في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً، وفيها أيضاً: دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً، وفيها أيضاً: دليلٌ على مع رفة يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنه علم من تأويلها: أنَّه سيظهر عليْهم.

قوله {لَا تَقْصُصْ} قرأ حفص: «يا بُنيَّ» بفتح الياء، والباقون بكسرها، وقرأ العامة: بفك الصادين، وهي لغةُ الحجاز، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة، والإدغام لغة تميم، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة، عند قوله:{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ} [المائدة: 54] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا.

وقال الزمخشريٌّ: «الرُّؤيا بمعنى: الرُّؤية، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث؛ كما قيل: القربة والقربى» .

وقرأ العامَّة: «الرُّؤيا» مهموزة من غير إمالة، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ: وأما (الرؤيا)[يوسف: 100] : و «رُؤيَاي» الاثنتان في هذه السورة، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ.

وقال الزمخشري: وسمع الكسائيُّ: «رُيَّايَ وريَّاكَ» بالادغام، وضم الرَّاء،

ص: 14

وكسرها، وهي ضعيفة؛ لأن الواو في تقدير الهمزة؛ فلم يقو إدغامها؛ كما لم يقو إدغام «اتَّزَر» من الإزراِ، و «اتَّجرَ» من «الأجْر» .

يعنى: أن العارض لا يعتدُّ به، وهذا هو الغالبُ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله:«رِئْياً» في قوله: {أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} [مريم: 74] عند حمزة، و {عَاداً الأولى} [النجم: 50] وأما كسر «ريَّاكَ» فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة، وأما الضمُّ فهو الأصل، والياء قد استهلكت بالإدغام.

قوله «فيَكِيدُوا» : منصُوب في جواب النَّهي، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله:«إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ» .

و «كَيْداً» فيه وجهان:

أظهرهما: أنه مصدر مؤكدٌ، وعلى هذا ففي اللام في قوله:«لَكَ» خمسة أوجه:

أحدها: أن يكون «يَكيدُ» ضمن معنى ما يتعدَّى باللَاّم؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه، وقال:{فَكِيدُونِي جَمِيعاً} [هود: 55] والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد.

قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه: «فإن قلت: هلا قيل: فَيَكيدُوكَ» كما قيل: الفعل المضمَّن، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف، وذلك نحو: فيَحْتالُوا لك؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر «.

الوجه الثاني من أوجه اللَاّم: أن تكون اللَاّم معدية، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة، وبنفسه أخرى؛ ك» نَصَحَ «و» شَكَرَ «كذا قالهُ أبو حيَّان، وفيه نظر؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ.

والثالث: أن تكون اللَاّمُ زائدة في المفعول به؛ كزيادتها في قوله: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72]، قاله أبو البقاء؛ وهو وضعيفٌ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين: تقديم المعمول، أو كون العامل فرعاً.

الرابع: أن تكون اللام للعلَّة، أي: فيَكِيدوا لأجْلِك؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً، أو اختصاراً.

الخامس: أن تتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّها حالٌ من» كَيْداً «إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت.

ص: 15

الوجه الثاني من وجهي» كَيْداً «: أن يكون مفعولاً به، أي: فيصنعوا لك كيداً، أي: أمراً يكيدُونك به، وهو مصدر في موضع الاسم، ومنه: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} [طه: 64] ، أي: ما تكيدُون به؛ ذكره أبو البقاء، وعلى هذا ففِي اللَاّم في:» لَكَ «وجهان فقط: كونُها صفة في الأصل، ثم صارت حالاً، أو هي للعلَّة، وأما الثلاثة الباقية، فلا تتأتَّى بعد، فامتناعها واضحٌ.

ثمّ قال: {إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: يزيِّن لهم الشيطان، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة.

فصل

قال أبو سلمة: كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول: كنت أرى الرُّؤيا، فتُمْرضُنِي، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول:«الرُّؤيا الصَّالحة من الله، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ، فلا يُحدِّثْ به إلَاّ من يحبُّ، وإذا رَأى ما يكرهُ، فلا يُحدِّثْ به، وليتفُل عن يساره، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره» وقال صلى الله عليه وسلم َ: «الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ» . قال الراوي: وأحسبه قال: «لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً، أوْ لَبِيباً» .

قال الحكماء: الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب، والرُّؤيا الجيَّدة، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين، قالوا: والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألَاّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه، وأمَّا الإعلام بالخير، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره، بزمانٍ طويلٍ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً.

فصل

قال القرطبيُّ: «الرُّؤيا حالةٌ شريفة، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ، قال صلى الله عليه وسلم َ:» لَمْ يَبقَ بعدي من

ص: 16

المبشراتِ إلَاّ الرُّؤيا الصَّالحة، يَراهَا [الرجل] الصَّالحُ، أو ترى له «وقال صلى الله عليه وسلم َ:[أصْدقُكم رُؤيَا، أصدقكُمْ حَديثاً، وحكم صلى الله عليه وسلم َ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي: من سبعين، وروي: من [تسعة] وأرْبعينَ، وروي: من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ، وروي: من أرْبعينَ، والصحيح: حديث السِّت والأربعين، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين.

فإن قيل: إن يوسف عليه الصلاة والسلام ُ ت كان صغيراً، والصغير لا حكم لفعله، فكيف يكون لرُّؤياه حكم، حتى يقول له أبو:{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} .

فالجواب: أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة، صدق؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ، ورُوِي: أن يوسف عليه الصلاة والسلام ُ كان ابن اثنتي عشر سنة.

فصل

في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها.

وروى الترمذيُّ: أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:» الرُّؤيا برجْل طائرْ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا، فإذا حدَّث بها، وقعتْ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً، أو مُحبًّا، أوْ ناصحاً «.

قوله {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} الكاف في موضع نصب، أو رفع.

فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأي سيبويه، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف، والمعنى: مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك.

والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني: الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره.

قوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير: وهو يعلمك، والأحاديث: جمع تكسير، فقيل: لواحد ملفوظٍ به، وهو «حَدِيث» ولكنَّه شذَّ جمعه على: أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في «بَاطل وقَطيع وعَروض» .

[وزعم] أبو زيد: «أن لهَا واحداً مقدراً، وهو» أحْدُوثة «ونحوه، وليس باسم

ص: 17

جمع؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه، نحو:» شَماطِيط «، و {أَبَابِيلَ} [الفيل: 3] ففي أحاديث أولى» .

ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله: «وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة» بما ذكرنا، ولكن قوله:«ليس بجمع أحدُوثة» صحيح؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله:«اسم جمع» .

فصل

قال الزجاج: الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء: إذا أخلصته لنفسِك، ومنه: جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى: كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة.

وقيل: بإعلاء الدَّرجة (ويعلمك من تأويل الأحاديث) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل: ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان عليه الصلاة والسلام ُ غاية في علم التَّعبير.

وقيل: في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام.

وقيل: الأحاديث: جمع «حَدِيث» ، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها: مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث: كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله.

قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} يجوز أن يتعلق «عَليْكَ» ب «يُتِمُّ» وأن يتعلق ب «نِعْمتَهُ» ، وكرَّر «عَلَى في قوله:» وعَلى آلِ «لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين.

وقوله {مِن قَبْلُ} أي: من قبلك: واعلم: أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا: بسعادات الدنيا والآخرة.

أما سعادات الدنيا؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة.

ص: 18

وقيل: المراد من إتمام النِّعمة: خلاصته من المحن، ويكون وجه التَّشبيه ب» إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام «وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح

وقيل: إن إتْمَام النَّعمة هو: وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة.

وقيل:: إتمام النِّعمة على إبراهيم: خُلَّتهُ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه.

ومن فسر الاجتباء: بالدَّرجات العالية؛ فسَّر: إتمام النِّعمة: بالنُّبوَّة؛ لأنَّ الكمال المطلق، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلَاّ النُّبوَّة، يدلُّ عليه قوله تعالى:{وعلى آلِ يَعْقُوبَ} أي: على أولاده؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء، وقوله:{كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة: هو النبوة، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء؛ كقوله تعالى:{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ} .

فإن قيل: كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام؟ .

فالجواب: أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة، العصمة، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة، لا قبلها.

قوله {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} «يجُوز أن يكونا بدلاً من» أبَويْكَ «أو عطف بيان، أو على إضمار أعني» ، ثم لما وعد عليه الصلاة والسلام ُ بهذه الدرجات الثلاث، ختم [الآية] بقوله:{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقوله «عَلِيمٌ» إشارة إلى قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقوله:«حَكِيمٌ» إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط

فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها، أم لا؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها، فيكف حزن على يوسف؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه؟ وكيف قال لإخوته:{وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه، ويبعثُه رسولاً؟ .

وإن قلت: إنه عليه الصلاة والسلام ُ ما كان عالماً بهذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ؟ .

فالجواب قال ابنُ الخطيب: «لا يبعُد أن يكون: قوله: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} مشروطاً

ص: 19

بألا يكيدُوه؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم، وأيضاً: فيبعُد أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام ُ سيصلُ إلى هذه المناصب، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة، ثم يتخلَّص منها، أو يصل إلى تلك المناصب، وكان خوفه بهذا السَّبب، ويكُون معنى قوله:{وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب} [يوسف: 13] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه» .

ص: 20

قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} الآية.

قال الزمخشري: «أسماء إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام ُ يهوذا ورُوبيل، وشمعُون، ولاوي، وزبالون، ويشجر، وأمهم: ليا بن ليان، وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريتين تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد: دان، ونفتالي، وجاد وآشر، فلما توفيت» ليا «تزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين» .

قوله تعالى قرأ ابن كثير «آية» بالإفراد، والمراد بها: الجِنْس، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد؛ لأنها كانت علامات كثيرة، وزعم بعضهم: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً، تقديره: للسَّائلين ولغيرهم، ولا حاجة إليه، و «للسَّائلِينَ» : متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً ل «آياتٌ» .

فصل

معنى: {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} أنه عبرة للمتعبرين؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف، وما آل إليه أمرهم من الحسدن وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود، وعلى الرقِّ والسِّجن، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد، وغير ذلك.

وقيل: {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} ، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول صلوات الله وسلام عليه.

ص: 20

وقال ابن عباس رضي الله عنهما دخل حبر من اليهُود على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فسمع منه [قراءة] سورة يوسف، فعاد إلى اليهودِ، فأعلمهم أنَّه سمع كما في التَّوراة، فانطلق نفرٌ منهم، فسَمِعُوا كما سَمِع؛ فقالوا له: من علَّمك هذه القصَّ؟ فقال عليه الصلاة والسلام ُ: «الله عَلَّمَنِي» فنزلت: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} .

قال ابن الخطيب: «وهذا الوجه عندي بعيد؛ لأن المفهوم من الآية: أن في واقعة يُوسف عليه الصلاة والسلام ُ ت آياتٌ للسَّائلينَ، وعلى ما قلناه: ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف، بل كانت في إخبار محمَّد صلى الله عليه وسلم َ عنها، من تعلُّم ولا مطالعة.

الثاني: أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول عليه الصلاة والسلام ُ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد، فذكر الله تعالى هذه القصَّة، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد، وبالآخرة إن الله نصره، وقواه، وجعلهم تحت يده، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد.

الثالث: أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ لما عبر رُؤيا يُوسُف، وقع ذلك التَّعبير، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة، فكذلك أن الله تعالى ت كما وعد مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم َ بالنَّصر والظفر، كان الأمر كما قدَّره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره» .

قوله: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا} اللام في «ليُوسفُ» : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه «وأخُوهُ» ك هو بنيامين، وإنَّما قالوا:«وأخُوهُ» وهُمْ جَمِيعاً إخوة؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة، و «أحَبُّ» أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من «حُبَّ» المبنيِّ للمفعُول، وهو شاذٌّ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى» وإلى المفعول المعنوي ب «اللام، أو ب» في «فإذا قلتَ: زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ، تعني: أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر، فالمُتكلِّم هو الفاعل، وكذلك:» هو أبغضُ إليَّ منْهُ «أنت المبغض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ، أي: إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]

3050 -

لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلِّتْ دِيَارهُ

أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ

وعلى هذا جاءت الآية الكريمة؛ فإن الإب هو فاعل المحبَّة.

ص: 21

و» أحَبُّ «: خير المبتدأ، وإنَّما لم يطابق؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل.

وقيل: اللَاّم في:» ليُوسُفُ «: جواب القسم، تقديره: والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في:» ونَحْنُ عُصْبَةٌ «: للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع» عُصْبةٌ «خبراً ل» نَحْن «.

وقرأ أمير المؤمنين رضي الله عنه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير: ونحن نرى أو نجتمع، فتكون» عُصْبَةٌ «حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو: ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً.

قال ابن الأنباري:» هذا كما تقُولُ العربُ: إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي: يتعمم عِمَّته «.

قال أبو حيَّان:» وليس مثله؛ لأن «عُصْبَةٌ» ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب: حُكمُكَ مُسمَّطاً «.

قال شهاب الدِّين:» ليس مراد ابن الأنباري إلَاّ التشبيه؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره «.

وقال المبرد: هو من باب:» حُكمُك مُسمًّطاً «أي: لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ:

3051 -

يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً

أراد لك حكمك مُسمَّطاً.

قال: واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً؛ لعلم ما يريد القائل؛ كقولك: الهلال والله، أي: هذا الهلال، والمُسَمَّط: المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد: حكمُك ثبت مُسمَّطاً، وفي هذا المثال نظر؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير: أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ، نحو: ضَرْبِي زيداً قائماً، بخلاف:» ضَرْبِي زيْداً شديدٌ «فإنَّها ترفع على الخبريَّة، وتخرُج المسألة من ذلك، وهذه الحال، أعني:» مُسَمَّطاً «يصلح جعلها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير: حكم مرسل لا مردودٌ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا.

ص: 22

والعُصْبَة: ما زاد على العشرة، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ وعنه: مابين العشرة إلى الأربعين.

وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة.

وقيل: مابين الواحد إلى العشرة.

وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر.

وقيل: ستة. وقيل: سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة؛ لإحاطتها بالرَّأس.

فصل

بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف: وهو أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه:

أحدها: كانوا أكبر منه سنًّا.

وثانيها: أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.

وثالثها: أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا:{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} .

قال ابن الخطيب: «وها هنا سؤالات:

السؤال الأول: أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فملا كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل؟ وأيضاً: فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية؟ .

فالجوابك أنَّه عليه الصلاة والسلام ُ ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال عليه الصلاة والسلام ُ:» اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك «حين كان يحبُّ عائشة رضي الله عنها.

السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله،

ص: 23

فكَيْفَ اعتَرضُوا؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم؟ .

والجواب: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلَاّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون: هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ فلعله كان يقُول: زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه:

أحدها: أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار.

وثانيهما: أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل: أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه.

السؤال الثالث: أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم.

والجواب: المُراد من الضلال: غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب.

السؤال الرابع: أن قولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا} محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة.

والجواب: أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب «.

{اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً} الآية.

في نصب» أرْضاً «ثلاثة أوجه:

أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي: في أرض؛ كقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16]، وقول الشاعر:[الكامل]

ص: 24

3052 -

لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ

فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ

وإليه ذهب ابن عطيَّة.

قال النَّحاس:» إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بالحرف، فإذا حذفت الحرف، تعدَّى الفعل إليه «.

والثاني: النصب على الظرفيَّة.

قال الزمخشريُّ:» أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها، وأخلائها من النَّاسِ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة «.

وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال:» وذلك خطأ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ، أو قاصية أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُهَا، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة، غير التي هو فيها قريبة من أبيه «.

واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد، وقال:» وهذا الردُّ صحيحٌ، لو قلت:«جَلستُ داراً بعيدة، أوْ مكاناً بعيداً» لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها، إلا في ضرورة شعرٍ، أو مع «دخلْت» على الخلاف في «دَخلت» أهي لازمة أم متعدِّية «.

وفي الكلامين نظر؛ إذ الظَّرف المُبْهَم: عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه، و» أرضاً «في الآية الكريمة من هذا القبيل.

الثالث: أنها مفعول ثان، وذلك أن معنى:» اطْرحُوهُ «أنزلوه، و» أنزلوه «يتعدى لاثنين، قال تعالى:

{أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} [المؤمنين: 29] وتقولن: أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح: الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف؛ قال عروة بن الوردِ:[الطويل]

3053 -

ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً

مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ

والمعنى: اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه، وقي: في أرض تأكله السِّباعُ.

و «يَخْلُ لكُمْ» جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} [آل عمران: 85] .

قوله: {وَتَكُونُواْ} يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار «أن» بعد الواو في جواب لأمر.

ص: 25

فصل

اعلم: أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا: لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله:{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي: أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد قتل يوسف، {قَوْماً صَالِحِينَ} : أي: نتُوب بعد قتلهِ.

وقيل: يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول.

فقيل: شَاورُوا أجْنَبياً؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته.

وقيل: القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه.

فقال وهب: شمعون، وقال كعب: دان، وقال مقاتل: رُوبيل.

فإن قيل: كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء؟

فأجاب بعضهم: بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح.

وأيضا: فإنَّهم قالوا: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً: قولهم: {ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] والصغير لا ذنب له.

فأجاب بعضهم: بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح: أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.

ثم إنَّ قائلاً منهم قال: {لَا تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} .

قيل: إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه؛ فمنعهم من قتله، وقيل: يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح.

قوله: «فِي غَيَابَةِ» قرأ نافع: «غَيابَات» بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل

ص: 26

ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون: بالإفراد؛ لأن المقصُود: موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في ههذه القراءة: أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني:«ووجدت من ذلك الفخَّار: للخَزَف» .

وقال صاحب اللَّوامح: «يجوز أن يكو على» فعَّالات «كحمَّامات، ويجوز أن يكون على» فيْعَالات «، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة» .

وقرأ الحسن: «في غَيَبةِ» بفتح الياء، وفيه احتمالان:

أحدهما: أن يكون في الأصل مصدراً؛ كالغلبة.

والثاني: أن يكون جمع غائب، نحو: صَانِع وصنَعَة.

قال أبو حيَّانك «وفي حرف أبيَّ:» في غيْبَةِ «بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة» .

قال شهاب الدين: «والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي: شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون» .

وقال الكلبيُّ: «الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه» .

وقال الزمخشري: «هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله» .

قال المنخل: [الطويل]

3054 -

فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي

فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ

أراد: غيابة حُفرته التي يدفن فيها، والجبُّ: البشر الذي لم تُطْوَ، وسمِّي بذلك: إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض، أي: ما غلظ منها؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ: القطعُ، ومنه: الجبُّ في الذَّكر؛ قال الأعشى: [الطويل]

ص: 27

3055 -

لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً

ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ

ويجمع على جُنُبٍ، وجِبَاب، وأجْبَاب.

فصل

والألف واللام في «الجُبِّ» تقتضي المعهُود السَّابق، واختلفوا فيه:

فقال قتادة: هو جُبُّ بئر بيت المقدِس، وقيل: بأرض الأرْدُن.

وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ؛ للعلَّة التي ذكروها، وهي قوله:«يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ» لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها، كان إلى السَّلامة أقْرب؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك.

قوله «يَلتَقِطْهُ» قرأ العامَّةك «يَلْتَقِطْهُ» بالياء من تحت، وهو الأصلُ وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة: بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث، وقالوا: قُطِعَت بعضُ أصَابعه.

قال الشَّاعر: [الوافر]

3056 -

إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا

كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ

وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [الأنعام: 160 الأعرافَ: 56] .

والإلتِقَاط: تناول الشيء المطروح، ومنه: اللُّقطَة واللَّقِيط؛ قال الشاعر: [الرجز]

3057 -

ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا.....

...

...

...

...

قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} أي: يجده من غير أن يحتسب.

ص: 28

فصل

اختلفوا في الملقوط فقيل: إن أصله الحرية؛ لغلبة الأحرار على العبيد، وروي الحسين بن علي رضي الله عنهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ، وتلا قوله تعالى:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وهذا قوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته، وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الاحتساب فهو حر.

فصل

والسيَّارة: جمع سيَّار، وهو مثال مبالغة، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: يريد: المارَّة، ومفعول «فَاعِلينَ» محذُوف، أي: فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى: أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد، فاقتصروا على هذا القدر، ونظيره قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يعني: الأولى ألَاّ تفعلوا ذلك.

قوله تعالى: {قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} الآية.

«تَأمَنَّا» حال وتقدَّم نظيره، وقرأ العامَّة: تأمنَّا بالإخفاء، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة، والفصل بين النُّونين؛ لا لأن النون تسكن رأساً؛ فيكون ذلك إخفاءً، لا إدغاماً.

قال الدَّاني: «وهو قول عامَّة أئِمَّتنا، وهو الصواب؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس» .

وقرأ بعضهم ذلك: بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح، كما يشير إليها الواقف، وفيه عسر كثير، قالوا: وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام، أو قبل كماله، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها.

ومنها: [إشراب] الكسرة شيئاً من الضمِّ [نحو قيل، {وَغِيضَ} [هود: 44] وبابه، وقد تقدم في أول سورة البقرة] .

ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر؛ كإشمام الصاد زاياً في {الصراط} [الفاتحة: 6]، {وَمَنْ أَصْدَقُ} [النساء: 87، 122] وبابهما، وقد تقدم في الفاتحة، والنساء، فهذا خلط حرف بحرف، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ.

ومنها: الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة، وإنما يراه البصير دُون الأعمى،

ص: 29

وقرأ أبو جعفر: الإدغام الصَّريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك: بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء، أو الإشمام، كما تقدَّم تحقيقه.

وقرأ ابن هرمز: «لا تَأمُنَّا» بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ:«لا تِيْمَنًّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة.

قال ابو حيَّانك «ومجيئُه بعد» مَا لَكَ «والمعنى: يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم:» ما أحْسَنًّا «في التعجُّبح لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي» .

قال شهاب الدِّين: وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله:«لالتبس بالنَّفْي الصحيح» .

فصل

هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام ُ كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول.

واعلم: أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم، كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ يحب تطيب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له:{وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} والنُّصْح هنا: القيام بالمصلحة.

وقيل: البرُّ والعطف، أي: عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك.

قيل للحسن: أيَحْسُد المُؤمن؟ قال: ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل: الأب جلَاّبٌ، والأخ سَلَاّب، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب عليه الصلاة والسلام ُ {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} .

ص: 30

وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني، عادوا إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام ُ وقالوا هذا القول، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى.

قوله: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} في: «يرْتَعْ ويَلعَبْ» أربع عشرة قراءة:

أحدها: قراءة نافع: بالياء من تحت، وكسر العين.

الثانية: قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ:«نَرْتَعِ ونلعب» بالنُّون وكسر العين.

الثالثة: قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان.

الخامسة: قراءة أبي عمرو، وابن عامر:«نَرتَعْ ونَلعَبْ» بالنُّون، وسكون العين، والباء.

السادسة: قراءة الكوفيين: «يَرْتَعْ ويَلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباءِ.

وقرأ جعفر بن محمد: «نَرْتَعْ» بالنُّون، «ويَلْعَبْ» بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ.

وقرأ العلاء بن سيابة: «يَرْتَعِ ويَلْعَبُ» بالياء فيهما، وكسر العين وضمّ الباء.

وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما.

والنخعي ويعقوبك «نَرْتَع» بالنون، «ويَلْعَب» بالياء.

وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن:«يَرْتَعْ ويَلْعَب» بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.

وقرأ زيد بن علي: «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول.

وقرىء: «نَرْتَعِي ونَلْعَبُ» بثبوت الياء، ورفع الباء.

ص: 31

وقرأ ابن أبي عبلة: «نَرْعَى ونَلْعَب» .

فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ.

فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.

سُئل أبو عمرو بن العلاء: كيف قالوا: نلعب وهم أنبياء؟ قال: كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عز وجل.

قال ابن الأعرابي: الرَّتْع: الأكل بشدة، وقيل: إنه الخَصْبُ.

وقيل: المراد من اللَّعب: الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال لجابر:«هَلَاّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك» .

وقيل: كان لعبهم الاستباق، والغرض منه: تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم:«إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ» وإنما سمَّوه لعباً؛ لأنه في صُورة اللَّعِب.

وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى: أنه يبصر رَعْي الإبلِ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب؛ كفعل الصِّبيان.

ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من: رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال:

3058 -

...

...

... ..... وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ

ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي: وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالباء من تحت في «يَلْعَب» دون «نَرْتَع» ؛ فلأن رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم؛ لأنه السَّبب، والمعنى: نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم؛ لأنهم بالغون.

ومن قرأ: «نُرْتع» رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي: يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه: أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل:

نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار

ص: 32

نُرْتعه ونَلْعَبُه، فلما بناهُ للمفعول، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه، فهو في الاتِّساع كقوله:[الطويل]

3059 -

ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً.....

...

...

... .

ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتَعي» مع جزم «يَلْعَب» وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها.

وقال ابن عطيَّة: هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل: هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد:

3060 -

ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي.....

...

...

... . .

وقد تقدَّمت هذه المسألة.

و «نَرْتَع» يحتمل أن يكون وزنه: «نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء؛ قال:[الخفيف]

3061 -

تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ

فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ

ويحتمل أن يكون وزنه» نَفْعَل «من رَتَعَ يَرْتَع: إذا أقام في خصب وسعة، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى:» القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة «؛ وقال الشاعر: [الوافر]

3062 -

أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي

وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا

قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} جلمة حالية، والعاملُ فيها أحد شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه.

فإن قيل: هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال؟ .

فالجواب: لا يجُوز ذلك؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها.

قوله: {أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} فاعل: «يَحْزُنُنِي» ، أي: يَحْزُننِي ذهابُكم، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة: أنَّ «أن تذْهَبُوا» مستقبل؛ لاقترانه بحرف الاستقبال، وهي وما في حيِّزها فاعل، فلو جعلنا «ليَحْزُنُنِي» حالاً، لزم سبق الفعل لفاعله، وهو

ص: 33

مُحل وأجيبَ عن ذلك بإنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه، والتقدير: ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز، وابن محيصن:«ليَحْزُنِّي» بالإدغام.

وقرأ زيد بن علي: «تُذْهِبُوا بِهِ» بضم التَّاء من «أذْهَبَ» وهو كقوله: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية.

والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من: تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤبح قال:[الطويل]

3063 -

وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ

تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ

وأرضٌ مذْأبة: كثيرة الذِّئاب، وذُؤابةٌ الشَّعر؛ لتحرُّكها، وتقلبها من ذلك.

وقوله: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} : جملة حاليَّة، العامل فيها:«يَأكلهُ» .

فصل

لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين:

أحدهما: ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً.

والثاني: خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به.

فقيل: إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فألأجل هذا ذكر ذلك. وقيل: إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب عليه الصلاة والسلام ُ هذا الكلام، أجابوه بقولهم:{لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} وفائدة اللام في «لَئِنْ» من وجهين:

أحدهما: أن كلمة «إنْ» تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء، أي: إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام خلت؛ لتأكيد هذا الاستلزام.

والثاني: قال الزمخشري رحمه الله «هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [تقديره:] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين» .

والواوُ في: «ونَحْنُ عُصْبَةٌ» واو الحال؛ فتكون الجملة من قوله: «وَنحْنُ عُصْبةٌ» : جملة حاليَّة. وقيل: معترضة، و {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} جواب القسم، و «إذاً» : حرف

ص: 34

جواب، وحذف جوابُ الشرط، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً.

فصل

ونقل أبو البقاء: أنه قرىء «عُصْبَةً» بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم:{إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} وجوه: الأول: [عاجزون] ضعفاء، نظيره قوله تعالى:{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] أي: لعاجزون.

الثاني: أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال: أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ: عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم.

الثالث: إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا.

الرابع: أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا: لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة.

فإن قيل: إنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ اعتذر بعذرين: شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر؟

فالجواب: أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه.

ص: 35

قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} الآية: لا بُدَّ من الإضمار في هذه الآية في موضعين:

الأول: التقدير: قالوا: لئن أكلهُ الثئب ونحن عصبةٌ إنَّا إذاً لخاسرون فأذن له، وأرسله معهم، ثم يصتل به قوله تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} .

الثاني: في جواب {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} أوجه:

أحدهما: أنه محذوف، أي: عرفناه، وأوصلنا إليه الطمأنينة، وقدره الزمخشريُّ:«فعلوا به ما فعلوا من الأذى» وقدره غيره: عظمت فتنتهم، وآخرون: جعلوه فيها، وهذا أولى؛ لدلالة الكلام عليه.

الثاني: أن الجواب مثبت، وهو قوله:{قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا} [يوسف: 17] أي: لمَّا كان كَيْتَ وكَيْتَ، قالوا. وفيه بعد؛ لبعد الكلام من بعضه.

ص: 35

الثالث: أن الجواب هو قوله: «وأوْحَيْنَا» والواو فيه زائدة، أي: فلما ذهبوا به أوحينا، وهو رأي الكوفيين، وجعلُوا من ذلك قوله تعالى:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أي: تله، «ونَاديْنَاهُ» ، وقوله عز وجل:{حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] وقول امرىء القيس: [الطويل]

3064 -

فَلَمَّا أحَزْنَا سَاحةَ الحَيِّ وانْتحَى

بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ [ذِي رُكامٍ عَقَنْقَلِ]

تقدم أي فلما أجزنا انتحى وهو كثيرٌ عندهم بعد «لمَّا» .

قوله: «أن يَجعلُوهُ» «مَفْعُول» «أجْمعَوا» أي: عزمُو على أن يجعلوه؛ لأنه يتعدَّى بنفسه، وب «عَلَى» فإنه يحتمل أن يكون على حذف الحرف، وألاّ يكون، فعلى الأول: يحتمل موضعه النصب والجرَّ، وعلى الثاني: يتعين النَّصب، والجمعل يجوز أن يكون بمعنى: الإلقاء، وأن يكون بمعنى: التَّصيير فعلى الأول: يتعلَّق في «غَيَابةِ» بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني: بمحذُوف، والفعل من قوله:«وأجْمَعُوا» يجوز أن يكُون معطوفاً على ما قبله، وأن يكُون حالاً، و «قَدْ» معه مضمرة عند بعضهم، والضمير في «إليْهِ» الظاهر عوده على يوسف، وقيل: يعود على يعقُوب عليه الصلاة والسلام ُ.

وقرأ العامَّة: «لتُنَبئَنَّهُمْ» بتاء الخطاب، وقرأ ابن عمر: بياء الغيبة، أي: الله سبحانه وتعالى.

قال أبو حيَّان: «وكذا في بعض مصاحف البصرة» وقد تقدَّم أن النقط حادث فإن قال: مصحف حادث غير مصحف عثمان رضي الله عنه فليس الكلام في ذلك.

وقرأ سلَاّم: «لنُنَبئَنَّهُمْ» بالنون، وهذا صفة لقولهم. وقيل: بدل. وقيل: بيان.

قوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} جملة حالية، يجوز أن يكون العامل فيها «أوحينا» أي: أوحينا غليه من غير شعور إخوته بالوحي، وأن العامل فيها «لتُنَبئَنَّهُمْ» أي تخبرهم وهم لا يعرفونكم لبعد المدة وتغير الأحوال.

فصل

في المراد بقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} قولان:

الأول: المراد منه الوحي والنبوة والرسالة، وهو قول أكثر المحققين، ثم اختلف هؤلاء في أنه عليه الصلاة والسلام ُ هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صابياً؟ .

قال بعضهم: كان بالغاً وكان ابن سبع عشرة سنة. وقال آخرون: كان صغيراً إلا أن

ص: 36

الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عليه الصلاة والسلام ُ حين قالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] فأجابهم بقوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم: 30] .

والقول الثاني: أن المراد بهذا الوحي: الإلهام، كقوله {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] . والأول أولى؛ لأنه الظاهر من الوحي.

فإن قيل: كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟ .

فالجواب: لا متنع أن يشرفه الله تعالى بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في أخفاء ذلك [الوحي] عن إخوته: أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.

فصل

إنما حملنا كقوله تبارك وتعالى {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بأنك يوسف، أي: لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال، لأن هذا أمراً من الله تعالى ليوسف ف يأن يستر نفسه عن أبيه [وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه] طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى، فصبر على تجرع تلك المرارة، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصل إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة.

قوله

تعالى

: {وجآءوا

أَبَاهُمْ

عِشَآءً يَبْكُونَ} الآية في «عِشَاءً» وجهان:

أصحهما: وهو الذي لا ينبغي أن [يقال] غيره أنه ظرف، أي: ظرف زمان أي: جاءوا في هذا الوقت. قال أهل المعاني: جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. و «يَبْكُونَ» جملة حالية، أي: جاءوه باكين.

والثاني: أن يكون «عِشَاءً» جمع عاشٍ، كقَائِم وقِيَام.

قال أبو البقاء: «ويقرأ بضم العين، والأصل: عُشَاة، مثل: غازٍ وغزاة فحذفت

ص: 37

الهاء وزيدت الألف عوضاً عنها، ثم قلبت الألف همزة» .

وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} [آل عمران: 156] .

ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال، كما جمع فَعِيل على فُعال، لقرب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ.

وهذه قراءة الحسن، وهو من العشْوة. والعُشْوَة: هي الظلام. رواه ابن جني «عُشَاءً» بضم العين وقال: عشوا من البكاء. وقرأ الحسن: «عُشاً» على وزن «دُحَى» نحو غازٍ وغُزاة، ثم حذفت منه تاء التأنيث [كما حذفوا تاء التأنيث من] «مَألِكَة» فقالوا: مَألِك، وعلى هذه الأوجه يكون منصوباً على الحال. وقرأ الحسن أيضاً:«عُشَيًا» مصغراً.

و «نَسْتَبْقُ» نتسابق. والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى، و «نَسْتَبِقَ» في محل نصب على الحال و «تَركْنَا» حال من نَسْتَبقُ و «قد» معه مضمرة عند بعضهم.

قال الزجاج: «يسابق بعضنا بعضاً في الرمي» ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ُ:«لا سَبقَ إلَاّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ» يعنى بالنصل: الرمي وأصل السبق: الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال: استبقا وتسابقا: إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.

ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبد الله: «إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ» وقال السدي ومقاتل: «نَسْتبِقُ» نشتد ونعدو.

فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب: أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله «فأكلهُ الذِّئْبُ» قيل: أكل الذئب يوسف وقيل: عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح.

ثم قالوا: «ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا» ، أي بمصدق لنا. وقولهم «ولوْ كُنَّا صَادقينَ» جملة حالية، أي: ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.

فإن قيل: كيف قالوا ليعقوب: أنت لا تصدق الصادقين؟ .

ص: 38

قيل: المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر؛ لأنك خفتنا في الابتداء، واتهمتنا في حقه.

وقيل: المعنى لا تصدقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.

فصل

احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} ، أي بمصدق.

روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي: يا أبا أمية: أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.

قوله تعالى: {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} الآية «علَى قَمِيصهِ» في محل نصب على الحال من الدم.

قال ابو البقاء: «لأن التقدير: جاءوا بدم كذب على قيمصه» . يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.

قال: فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة «.

قلت: لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه» .

وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه؛ وأنشد:[الطويل]

3065 -

...

...

..... فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ

وقول الآخر: [الطويل]

3066 -

لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً

ِ إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ

وقول الآخر: [الخفيف]

3067 -

غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْءِ

فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ

وقال الحوفيُّ: «علَى قَميصِهِ» : متعلقٌّ ب «جَاءُوا» ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ.

وقال الزمخشري: «فإن قلت:» عَلى قَميصِهِ «ما محلهُ؟ قلتُ: محلُّهُ النَّصب على [

ص: 39

الظَّرفيةِ] ، كأنَّه قيل: وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ، كما تقولُ: جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال» .

قال أبو حيان: ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ «عَلَى» على الظرفية، بمعنى: فوق لأن العامل فيه إذ ذاك «جَاءُوا» وليس الفرق ظرفاً لهم [بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم] .

وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله: إنَّ «عَلَى» متعلقة ب: «جَاءُوا» .

ثمَّ قال أبو حيان رحمه الله: «وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو: [جاء] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ» بأحْمالٍ «في موضع الحالِ، أي: مصحوباً بأحمال» .

وقرأ العامَّةُ: «كَذبٍ» بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو:«رَجُلٌ عدْلٌ» .

وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ:«بدمٍ كذبٍ» ، أي: مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً؛ للمبالغة، قالوا: والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال: ماءٌ سكبٌ، أي: مسكوبٌ، والفاعل كقوله:

{إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] ، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلُود، ومنه قوله تعالى:{المفتون} [القلم: 6] أو على حذف مضاف، إي: ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.

وقرأ زيد بن عليٍّ: «كذِباً» بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني: مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [رضي الله عنهما] :«كّدِبٍ» بالدَّال المهملة.

قال صاحب اللَّوامحك «معناهُ: ذي كدب، أي أثر؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [أظافير الشبان] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض: الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر» .

وقيل: هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل: الطَّريُّ، وقيل: اليابس.

فصل

قال الشعبيُّ: قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا

ص: 40

قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم، وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال:{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 27 - 28] وقال: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا} [يوسف: 93] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقى على وجهه، فارتدَّ بصيراً.

قال القرطبِيُّ: «هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل: إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ» .

فصل

قال بعض العلماءِ رضي الله عنهم: لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم: تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.

فصل

استدلَّ العلماءُ بهذه [الآية] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ

ص: 41

وغيرها، كما استدلَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام ُ ت على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ

ص: 42

على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [قال ابن الربي] ولا خلاف في الحكم بها.

فصل

قال محمد بن إسحاقَ: اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.

قال بعضُ العلماءِ: إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.

قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ} قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها: لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي: زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ رضي الله عنه.

والتَّسويلُ: تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.

قال الأزهريُّ: «كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره» . وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.

قال الزمخشري: «سوَّلتْ: سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ» .

وإذا عرفت هذا فقوله: «بَلْ» ردُّ لقولهم: «أكَلهُ الذِّبُ» كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي: زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.

واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل: عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف:{وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.

وقال سعيدُ بن جبيرٍ رضي الله عنه: لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال: كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال: إنَّ يعقوب عليه السلام قال: إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه؟ .

ص: 43

وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام ُ لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوصُ، فقال: كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم؛ عرف بذلك كذبهم.

وقال القاضي: «لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب عليه الصلاة والسلام ُ القميص صحيحاً؛ علم كذبهم» .

قال عند ذلك: «فصَبْرٌ جميلٌ» يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي: صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ: معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.

وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ؟ .

وضابطه: أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله:[الطويل]

3068 -

فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ

وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ

وقول الشاعر: [الرجز]

3069 -

يَشْكُو إِليًَّ جَملِي طُول السُّرى

صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى

ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم.

وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر: «فَصْبراً جَمِيلاً» نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رضي الله عنه وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلَاّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ: أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال: اصْبرِي يا نفسُ صبراً.

ص: 44

وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ.

فصل

روى الحسنُ قال: سُئل النبيٌّ صلى الله عليه وسلم َ عن قوله «فَصبْرٌ جميلٌ» فقال عليه الصلاة والسلام ُ: «صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ» ، ويدلُّ على ذلك قوله:{إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] وقال مجاهدٌ «فَصبرٌ جَمِيلٌ» ، أي: من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ: «من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ» .

وقال ابنُ الخطيبِ: «وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم» .

ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عليه الصلاة والسلام ُ كان عالماً بأنه حي؛ لأنَّهُ قال له: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] . الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.

وأيضاً: فإنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام ُ كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه عليه الصلاة والسلام ُ مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.

فالجواب أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً: لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً:

ص: 45