الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
اعلم أن قوله {يَكْفُرُونَ بالرحمن} أنا إن حملناه على هذه الروايات كان معناه: يكفرون بإطلاق هذا الاسم على الله تعالى لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون: بل كفروا بالله إما جحداً له، وإما لإثباتهم الشركاء معه. قال القاضي: وهذا القول أليق بالظاهر؛ لأن قوله تعالى {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم به فكان المفهوم هو دون اسمه تعالى.
قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] نزلت في نفر من مشركي مكة منهم: أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية المخزومي جلسوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وعرض عليهم الإسلام، فقال عبد الله بن أمية المخزومي: إن سرك أن نتبعك فسيِّر لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها حتى تنفسح علنيا فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً لنغرس الأشجار ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو [سخر لنا الريح، فنركبها إلى الشام والبلاد لميرتنا وحوائجنا، ونرجع في يومنا؛ فقد] سخر الريح لسليمان صلوات الله وسلامه عليه كما زعمت فلست على ربك بأهون من سليمان، أو أحْي لنا جدك قصي، أو من شئت من موتانا نسأله عن أمرك، أحق ما تقول أوة باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى، ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله عز وجل {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض} [الرعد: 31] أي: شققت فجلعت أنهاراً وعيوناً {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} [الرعد: 31] .
قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} جوابها محذوف، أي: لكان هذا القرآن، لأنه في غاية ما يكون من الصحة، واكتفى بمعرفة السامعين من مراده؛ كقوله الشاعر:[الطويل]
31
80 - فأقْسِمُ لو شَيءٌ أتَاناَ
…
سِواكَ ولكِنْ لَمْ نَجْدْ عنْكَ مَدْفَعَا
أراد: لرددناهن، وهذا معنى قول قتادة: قالوا: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم.
وقيل: تقديره لما آمنوا.
ونقل عن الفراء: جواب «لو» هي الجملة من قوله {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} [الرعد: 30] وفي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض، وتقدير الكلام: وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآناً سيرت به الجبال كأنه قيل: لو سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم الموتى به لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم، كقوله:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا} [الأنعام: 111] وهذا في الحقيقة دال على الجواب.
وإنما حذفت التاء شفي قوله {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} وثبتت في الفعلين قبله؛ لأنه من باب التغليب، لأن الموتى تشمل المذكر والمؤنث.
قوله {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} أصل اليأتس: قطع الطمع عن الشيء والقنوط منه، واختلف الناس فه ههنا، فقال بعضهم هو هنا على بابه، والمعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش، وذلك أنهم لما سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم وطلبوا نزول هله الآيات ليؤمن الكفار، وعلم الله أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم ييأس الذين آمنوا من آيات الكفار، أي: ييأس من إيمانهم قال الكسائي.
وقال الفراء: «أوقع الله للمؤنين أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً فقال: أفلم ييأسوا علماً» يقول: يؤيسهم العلم، فكان فيهم العلم مضمراً كما تقول في الكلام:«يئست منك إن لا تفلح» كأنه قال: علمه علماً، قال: فيئست بمعنى علمت، وإن لم يكن سمع فإنه يتوجه لذلك بالتأويل «.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه وذلك لأنه لما أبعد إيمانهم في قوله عز وجل {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} على [التأويلين] في المحذوف المقدر، قال في هذه الآية» أفلمْ يَيْأسٍ «المؤمنون من إيمان هؤلاء علماً منهم {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} .
وقال الزمخشري:» ويجوز أن يتعلق {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} ب «آمَنَوا» على أو لو يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم «.
وهذا قد سبقه إليه أبو العباس رضي الله عنه.
وقال أبو حيان: ويحتمل عندي وجه آخر غير الذي ذكروه، وهو: أن الكلام تام
عند قوله تعالى {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} إذ هو تقرير، أي: قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعنادين، و {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} جواب قسم محذوف، أي: وأقسم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على هذا القسم [وجود] » أنْ «مع» لَوْ «في قول الشاعر:[الوافر]
3181 -
أمَا واللهِ أن لوْ كُنَْ حُرًّا
…
وما الحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ
وقول الآخر: [الطويل]
3182 -
فأقْسِمُ أن لَوِ التَقيْنَا وأنتمُ
…
لكَانَ لكُم يَوْمٌ مِنَ الشَّر مُظْلِم
وقد ذكر سيبويه أن «أن» تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها، وقال بعضهم بل هو ههنا بمعنى «عَلِمَ» و «تَبيَّن» .
قال القاسم بن مَعنٍن وهو من ثقاب الكوفيين: هي من لغة هوازن.
وقال الكلبي: هي لغة حي من النَّخع، ومنه قول رباح بن عدي:[الطويل]
3183 -
ألَمْ يَيأسِ الأقْوامُ أنِّي أنَا ابنهُ
…
وإن كُنْتُ عن أرْضِ العَشِيرةِ نَائِيا
وقول سحيم بن وثيل الرياحي: [الطويل]
4184 -
أقُولُ لهُمْ بالشِّعْبِ إذ يَأسِرُونَنِي
…
ألمْ تَيأسُوا أنِّي ابنُ فارسِ زَهْدمِ
وقول الآخر: [الكامل]
3185 -
حتَّى إذَا يَئسَ الرُّماةُ فأرْسَلُوا
…
غُضْفاً دَواجِنَ قافِلاً أعْصامُهَا
ورد الفراء هذا وقال: «لم أسمع» يَئِسْتُ «بمعنى عَلْمتُ» .
وردَّ عليه بأن من حفظ حجة على من لكم يحفظ، ويدل على ذلك: قراءة علي وابن عباس وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المدني وعبد الله بن يزيد، وعلي بن بذيمة:(أفلم يتبين) من: «تبينت كذا» إذا عرفته، وقد افترى من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، كان أصله:«أفلم يتبين» فسوى هذه الحروف [فتوهَّم] أنها سين.
وقال الزمخشري أيضاً: «وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم؛ لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنيسان في معنى الترك لتضمنه ذلك» .
وتحصل في «أنْ» قولان:
أحدهما: أنها «أن» المخففة من الثقيلة، فأسمها ضمير الشأن، والجملة الامتناعية بعدها خبرها، وقد وقع الفصل ب «لو» و «أن» وما في حيزها إن علقنا ب «ءامنوا» يكون في محل نصب، أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه، إذا أصلها الجر بالحرف، أي: آمنوا بأن لو يشاء الله، وإن علقناها ب: يَيْأس «على أنه بمعنى علم كانت في محل نصب لسدها سمد المفعولين.
والثاني: رابطة بين القسم والمقسم عليه، كما تقدم.
فصل
قال المفسرون: إن أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لما سعموا كلام المشركين طمعوا في أن يفعل الله تعالى ما سألوا فيؤمنوا، فنزل {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} يعني الصحابة من إيمان هؤلاء، يعني: الم ييأسوا وكل من علم شيئاً ييِأس عن خلافه.
يقول: ألم يؤيسهم العلم {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} .
فصل
احتج أهل السنة بقوله: {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} وكلمة «لَوْ» تفيد انتفاء
الشيء لانتفاء غيره، والمعنى: أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء، وتارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الهداية إلى طريق الجنة، ومنهم من يجري الكلام على الظاهر، ويقول: إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين فلا يكون مبايناً لهداية جميع الناس، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مراراً.
قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} ألآية قيل: أراد جميع الكفار؛ لأن الوقائع الشديدة [التي وعقت لبعض الكفار من القتل والسبي، أوجب حصول الغم] في قلوب الكل.
وقيل: أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون، فتكون الألف واللام للعهد، والمعنى لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وأعمالهم القبيحة «قارِعَةٌ» أي: نازلة وداهيةٌ تقرعهم من أنواع البلاء أحياناً بالجدب وأحياناً بالسلب وأحياناً بالقلب.
يقال: قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع: الضرب أي: لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد، أو من قتل أو أسر أو جدب أو غير ذلك من العذاب والبلاء كما نزل يخاطب المستهزئين من رؤساء المشركين.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أراد كفار قريش يصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم َ من العداوة والتكذيب بأن لايزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب من مواشيهم «.
قوله» أوْ تَحُلُّ «يجوز أن يكون فاعله ضمير الخطاب، أي: تحل أنت يا محمد وأن يكون ضمير القارعة، وهذا أبين، أي: تصيبهم قارعة أو تحل القارعة، وموضعها نصب عطف علىخبر» يَزالُ «.
وقرأ ابن جبير ومجاهد:» أوْ يَحُلُّ «بالياء من تحت، والفاعل على ما تقدم إما ضمير القارعة وإنما ذكر العفل؛ لأنها بمعنى العذاب ولأن التاء للمبالغة، والمراد: قارع وإما ضمير الرسول صلوات الله وسلامه عليه أتى به غائباً، وقرأ أيضاً:» مِن دِيَارهِمْ «جمعاً، وهي واضحة.
المعنى: أو تحل القارعة أو أنت يا محمد صلوات الله وسلامه عليك بجيشك قريباً من دراهم كما حل بالحديبية {حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله} وهو فتح مكة، وكان قد وعده ذلك. وقيل: يوم القيامة.
{إِنَّ الله لَا يُخْلِفُ الميعاد} والغرض منه: [تقوية] قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وإزالة الحزن عنه وتسليته.
فصل
قال القاضي: قوله تعالى: {إِنَّ الله لَا يُخْلِفُ الميعاد} يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده، وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بمعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق [الفساق] من العناد.
والجواب: أن الخلق غير، وتخصيص العموم غير، ونحن لا نقول بالخلف، ولكننا تخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو.
قوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} الآية لما طلبوا المعجزات من الرسول صلوات الله وسلامه عليه على سبيل الاستهزاء، وكان يتأذى من تلك الكلمات، فأِنزل الله تعالى هذه الآية تسلية له وتصبيراً على سفاهتهم فقال: إن أقوام سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام ُ استهزؤوا بهم كما أن قومك يستهزئون بك {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أمهلتهم وأطلت لهم المدة بتأخير [العقوبة]{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقبتهم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} لهم؟ .
والإملاء: الإمهال وإن تركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها ف يالمرعى، ومنه الملوان وهو الليل والنهار؟
قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ} «مَنْ» موصولة، وصلتها «هُو قَائِمٌ» والموصول مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، ودل على هذا المحذوف، قوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} ونحوهن قوله {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} [الزمر: 22] تقديره: كمن قسا قبله.
يدل عليه أيضاً {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} [الزمر: 22] وإنما حسن حذفه
كون الخبر مقابلاً للمبتدأ، وقد جاء مبيناً، كقوله {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] .
والمعنى: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أي: حافظها ورازقها وعالم بها ومجازيها بما علمت، وجوابه محذونف، تقديره: كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه.
قوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ} يجوز أن يكون استئنافاً، وهو الظاهر، جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم تقريره.
وقال الزمخشري: «يجوز أن تقدر ما يقع خبر للمبتدأ ويعطف عليه:» وجَعَلُوا «وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه» جعلوا لهُ «وهو الله تعالى أي: وهو الذي يستحق العبادة» .
وقيل: الواو للحال، والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجودة والحال أنهم جعلوا له شركاء، فأقيم الظاهر وهو «اللهُ» مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها، قاله صاحب العقد.
وقال ابن عطية: «ويظهر أن القول مرتبط بقوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} كان التقدير: أفمن له القدرة والوحدانية، ويجعل له شريك أهل ينتقم ويعاقب أم لا؟» .
وقيل: «وَجَعلُوا» عطف على «استُهْزِىءَ» بمعنى: وقد استهزؤوا وجعلوا.
وقال أبو البقاء: «هو معطوف على» كَسبَتْ «أي: ويجعلهم لله شركاء» ولما قر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال: «قُلْ سمُّوهُمْ» وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر، ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال: سمه إن شئت، يعني أنه [أخس] من أن يسمى ويذكر، ولكن إن شئت أن تضع له أسماً فافعل، وقيل:«سموهم» : أي: صفوهم، ثم انظروا: هل هي أهلٌ أن تعبد؟ على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سيمتموهم باسم الآلهة أو لم تسموهم فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها، ثم زاد في الحجاج.
قوله {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} «أمْ» هذه منقطعة مقدرة ب «بل» والهمزة والاستفهام للتوبيخ بل أتنبؤنه شركاء لا يعلمهم في الأرض ونحوه {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السماوات وَلَا فِي الأرض} [يونس: 18] فجعل الفاعل ضميراً عائداً على الله، والعائد على «ما» محذوف تقديره: بما لا يعلمه الله، وقد تقدم في تلك الآية: أن الفاعل ضمير يعود على «ما» وهو جائز هنا أيضاً.
قوله «أمْ بِظاهِرِ» أنها منقعطة. والظاهر هنا، قيل: الباطن؛ وأنشدوا: [الطويل]
3186 -
اعَيَّرْتنَا ألْبانهَا ولحُومَهَا
…
وذلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطة ظَاهِرُ
أي: باطن.
وفسره مجاهد: بكذب، وهو موافق لهذا.
وقيل: «أمْ» متصلة، أي: تنبئونه بظاهر لا حقيقة له.
والمعنى: أم يخبرون الله بأمر يعلمونه وهو لايعمله، فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك التبة؛ لا، هم ادعوا أن له شريكاً في الأرض لا في غيرها أم تموهو بظاهر من القول لا حقيقة له وهو كقوله {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30] .
ثم إنه تعالى بعد هذا الحجاج بيّن طريقتهم، فقال على وجه التحقير لما هم عليه {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} .
قال الواحدي: «معنى» بَلْ «ههنا كأنه يقول: دع ذلك زين له مكرهم لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم فكأنه يقول: دع ذلك الدليل فإنه لا فائدة فيه، لأن زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل» .
فصل
قالت المعتزلة: لا شبهة في أنه إنما ذكر ذلك لأجحل أن يذمَّهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله تعالى، فلا بد إما أن يكون شياطين الإنس وما شياطين الجن.
قال ابن الخطيب رحمه الله: وهذا التأويل ضعيف من وجوه:
الأول: أنه إن كان المزين هو أحد شياطين الإنس أو الجن فالمزين لذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن كان هو الله فقد زال السؤال.
والثاني: أن أفعال القلوب لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
والثالث: أنا دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله عز وجل وعند حصوله يجب الفعل.
قوله {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} قرأ الكوفيون ويعقوب «وصُدَّوا» مبنياً للمفعول، وفي
غافر {وَصُدَّ عَنِ السبيل} [غافر: 37] كذلك، وابقي السبعة مبنيّين للفاعل، و «صد: جاء لازماً ومتعدياً، فقراءة الكوفية من التعدي فقط، وقراءة الباقين: يحتمل أن تكون من المتعدي ومفعوله محذوف، أي: صدوا غيرهم أو أنفسهم، وأن يكون من اللازم، أي: أعرضوا وتولوا.
وقرأ ابن وثاب:» وصِدُّوا عَن السَّبيال «بكسر الصاد، وهو مبني للمفعول أجراه مجرى» قِيلَ «و» بِيعَ «فهو كقراءة: {رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65] . قوله: [الطويل]
3187 -
ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلِ حُبَا حُلمَائِنَا.....
…
...
…
...
…
...
…
.
وقد تقدم. فأما قراءة المبني للمعفول، فعند أهل السنة: أن الله صدهم. المعتزلة وجهان:
قيل: الشيطان وبعضهم لبعض، هو قول أبي مسلم رحمه الله. ومن فتح الصاد: يعني الكفار أعرضوا إن كان لازماً، وصدوا غيرهم إن كان متعدياً. وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول، وحجة القراءة الثانية قوله جل ذكره {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ} [محمد: 11] ثم مقال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
وتمسك أهل السنة بهذه الآية من وجوه: أحدها: قوله {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} وقد تقدم بالدليل أن المزين هو الله تعالى. وثانيها: قوله {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} بضم الصاد، وبينا ِأيضاً أن ذلك الصاد هو الله تعالى.
وثالثها: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، وهو صريح في المقصود، ثم قال تعالى:{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا} بالقتل والأسر {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ} أي: أشد {وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} مانع يمنعهم من العذاب. وقال الواحي: أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء، مثل قوله عز وجل {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33] وكذلك {مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد: 37] وهو الوجه؛ لأنه يقال في الوصل:» هادٍ ووالٍ وواقٍ «محذوف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر، والياء [كانت] انحذفت ف يالوصل فيصادف الوقف الحركة التي كسرت فتحذف كما يحذف سائر الحركات التي يوقف عليها، فيقال:» هَاد «و» وَال «و» وَاق «.
وابن كثير يقف بالياء، ووجهه ما حكى سيبوبه: أن بعض من يوثق به من العرب يقفون بالياء، وقد تقدم.
قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} الآية لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين فقال «مثلُ الجَنَّة» .
قال سيبويه: «مثَلُ الجنَّة» مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: فيما قصصنا أو فما يتلى عليكم مثل الجنة وعلى هذا فقوله {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} تفسير لذلك المثل.
وقال أبو البقاء: «فعلى هذا» تَجْرِي «حال من العائد المحذوف في» وُعِدَ
أي: وعدها مقدراً جريان أنهارها «.
ثم نقل عن الفراء: أنه جعل الخبر قوله:» تَجْرِي «قال:» وهذا خطأ عند البصريين، قال: لأن المثل لا تجري من تحته الأنهار وإنما هو من صفات المضاف إليه، وشبهته: أن المثل هنا بمعنى الصفة فهو كقوله: صفة زيد أنه طيل ويجوز أن يكون «تَجْرِي» مستأنفاً.
وهذا الذي ذكره أبو البقاء نقل نحنوه الزمخشري، ونقل غيره عن الفراء في الآية تأويلين آخرين:
أحدهما: على حذف لظفه «أنها» والأصل: صفة الجنة أنها تجري وهذا منه تفسير معنى لا إعراب، وكيف تحذف «أنها» من غير دليل؟ .
والثاني: أن لفظة «مثلُ» زائدة، والأصل: الجنة تجري من تحتها الأنهار، وزيادة «مثِلُ» في لسانهم كثير، ومنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] وقد تقدم.
قال الزمخشري: «وقال غيره، أي غير سيبويه: الخبر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} كما تقول: صفة زيد أسمر» .
قال أبو حيان: «وهذا أيضاً لا يصح أن يكون: تجْري» خبراً عن الصفة ولا «
أسمر» خبراً عن الصفة، وإنما يتاول «تَجْرِي» على إسقاط «أن» ورفع الفعل، والتقدير أن تجري، أي: جريانها «.
وقال الزجاج:» مثلُ الجنَّةِ «» جنة «على حذف المضاف تمثيلاً لما غاب بمان نشاهده.
ورد عليه أبو علي قال:» لا يصح ما قال الزجاج لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه؛ لأن الجنة التي قدرها جثَّة ولا تكون الصفة، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة بين المتماثلين وهوحدث والجنة جثة فلا تكون [المماثلة] «.
والجمهور على أن المثل هنا بمعنى الصفة، فلس هنا ضرب مثل، فهو كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] ، وأنكر أبو علي أن يكون بمعنى الصفة، وقال: معناه: الشبه.
وقرأ علي وابن مسعود» أمْثَالُ الجنَّةِ «، أي: صفاتها وقد تقدم خلاف القراء فيه في البقرة.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث:
أولها: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} .
وثانيها: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} أي: لا ينقطع ثمرها ونعيهما بخلاف جنات الدنيا.
و «أكلها دائم» كقوله: «تجري» في الاستئناف التفسيري، أو الخبري، أو الحالية، وقد تقدم.
وثالثها: ظلها ظليل لا يزول، أي: ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظله نظيره قوله تعالى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً} [الإنسان: 13] وهذا رد على الجهمية حيث قالوا: نعيم الجنة يفنى.
ولما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث، بين أن تلك عقبى المتقين، أي: عاقبتهم، يعنى الجنة، وعاقبة الكافرين النار.
قوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} يعنى القرآن وهم أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن {وَمِنَ الأحزاب} أي: الجماعات، يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من اليهود والنصارى {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} هذا قول الحسن وقتادة.
فإن قيل: الأحزاب ينكرون كلّ القرآن.
فالجواب: أن الأحزاب لا ينكرون كل القرآن؛ لأنه ورد في إثبات الله تعالى وإثبات قدرته وعلمه وحكمه وقصص الأنبياء عليه الصلاة والسلام ُ وهم لا ينكرون هذه الأشياء.
وقيل: المراد بالكتاب: التوراة والإنجيل، وعلى هذه ففي الآية قولان:
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنه: {الذين ءاتيناهم الكتاب} كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعو بنجران وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، فرحوا بالقرآن، لأنهم آمنوا به وصدقوه.
وسبب فرحهم به أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فنزلت الآية. والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين.
قال القاضي: وهذا القول أول من الأول؛ لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن، فإذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة.
ويمكن أن يقال: إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة، ولهذا السبب حكى الله فرحهم به.
والثاني: أن الذي أتيناهم الكتاب: اليهود أعطوا التوراة، والنصارى الإنجيل يفرحون بما أنزل في القرآن، لأنه مصدق لما معهم {وَمِنَ الأحزاب} سائر الكفار {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} وهو قول مجاهد.
قال القاضي: وهذا لا يصح لقوله {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي جميع ما أنزل الله إليك ويمكن أن يجاب فيقال:: إن قوله {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} لا يفيد العموم بدليل جواز إدخال لفظة الكل والبعض عليه، ولو كانت كلمة «ما» للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكراراً، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً.
ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة فقال {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولاا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وهذا كلام جامع لكل ماورد التكليف به، وفيه فوائد.
أولها: كلمة «إنَّمَا» للحصر، ومعناه: إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك.
وثانيها: أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء كلف بذلك.
وثالثها: أن عبادة الله لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل وهذا يدل على أن المرء مكلفٌ بالنظر والاستدلال، في معرفة الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه.
ورابعها: أن عبادة الله واجبة، وهي تبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المخض.
وخامسها: قوله {ولاا أُشْرِكَ بِهِ} وهذا يدل على نفي الأضداد والأنداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب الأصنام والأوثان والأرواح، وهو على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما تقوله الثنوية.
وسادسها: قوله (إليه أدعو) أي: كلما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات يجب عليه الدعوة إلى [عبودية] الله تعالى وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة.
قوله: {ولاا أُشْرِكَ} قرأ نافع في رواية عنه برفع «ولا أشْرِكُ» وهي تحتمل الطقع، أي: وأنا لا أشرك. وقيل: هي حال.
وفيه نظر؛ لأن المنفي ب «لا» كالمثبت في عدم مباشرة واو الحال.
قوله: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} الكاف في محل نصب، أي: وكما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض كذلك {أَنزَلْنَاهُ حُكْماً} و «حُكْماً» حال من مفعول «أنْزلْنَاهُ» .
وقيل: شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل على من تقدم من الأنبياء أي: كما أنزلنا الكمتب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بلسانهم كذلك أنزلنا إليك القرآن.
وقيل: كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا الحكم والدين «عربياً» نسب إلى العرب، لأنه منزل بلغتهم فكذب به الأحزاب، ولما كان القرِآن مشتملاً على جميع أنواع التكاليف وكان سبباً للحكم جعل نفس الحكم مبالغة.
فصل
قالت المعتزلة: دلت الآية على حدوث القرآن من وجوه:
الأول: أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث.
والثاني: وصفه بكونه عربياً، والعربي هو الذي حصر بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاُ.
والثالث: أن الآية دلت على أنه إنما كان حكماً عربياً؛ لأن الله جعله كذلك والموصوف بهذه الصفة محدث.
والجواب: أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث لانزاع فيه.
قوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائهم، فتوعدوه الله على موافقتهم على تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها.
قال ابن عباس رضي الله عنه: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم َ والمراد أمته.
وقيل: المراد منه حث الرسول عليه الصلاة والسلام ُ على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها، وذلك يتضمن تحذير جميع المكلفين بطريق الأولى.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} الآية اعمل أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشهبات في [إبطال] النبوة:
فالشهبة الأولى: قولهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] وهذه الشبهة ذكرها الله في سورة أخرى.
والشبهة الثانية: قولهم: الرسول الذي يرسله الله تعالى إلى الخلق لا بد أن يكون من جنس الملائكة كما قال: {لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وقالوا: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7] .
الشهبة الثالثة: عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بكثرة الزوجات، وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله عز وجل بقوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} وهذا أيضاً يصلح أن يكون جواباً عن الشبهات المتقدمة فقد كان لسليمان صلوات الله وسلامه عليه ثلاثمائة امرأة ممهرة وسبعمائة سرية، ولداود صلوات الله وسلامه عليه مائة امرأة.
والشبهة الرابعة: قولهم: لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف، فأجاب الله تعالى عنه بقوله {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ الله} .
الشبهة الخامس: أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخوفهم ينزول العذاب [وظهور النصرة له ولقومه، فلما تأخر ذلك احتجوا بتأخره للطعن في نبوته وصدقه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} يعنى نزول العذاب على
الكفار] وظهور النصر والفتح للأولياء فقضى الله بحصولها في أوقات معينة ولكل حادث وقت معين و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} فقيل: حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث، وتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كذاباً.
الشبهة السادسة: قالوا: لو كان صادقاً في دعوى الرسالة لما نسخ الأحكام التي نص الله على ثبوتها في الشرائع المتقدمة، كالتوارة والإنجيل، لكنه نسخها وحرفها كما في القبلة، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل، فوجب أن لا يكون نبياً حقاً.
فأجاب الله تعالى عنه بقوله {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} ويمكن أيضاً أن يكون قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} كالمقدمة لتقرير هذا الجةاب، وذلك لأِنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة، ثم يبقيه مدة مخصوصة، ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه، فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات؟ فكان المراد من قوله {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ما ذكرنا.
ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: أنه يوجد تارة ويعدم أخرى، ويحيي تارة ويميت أخرى، ويغني تارة ويفقر أخرى، فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما تقضيه المشيئة الإلهية عند أهل السنة، أو بحسب رعاية المصالح عند المعتزلة.
قوله {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي: لكل شيء وقت مقدر وقيل: لكل حادث وقت معين قضي الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة، ولا يتغير البتة عن ذلك الوقت.
وقيل: هذا من المقلوب أي: فيه تقديم وتأخير، أي: لكل كتاب أجل ينزل فيه، أي: لكل تاب وقت يعمل به، فوقت العمل بالتوراة قد انقضى، ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر.
وقيل: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} عند الملائكة، فللإنسان أحوال:
أولها نظفة ثم علقة ثم مضغة يصير شاباً ثم يصير شيخاً، وكذلك القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر السعادة والشقاوة والحسن والقبح.
وقيل: لكل وقت مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعملها إلا الله عز وجل فإذا جاء ذلك الوقت حدث الحادث، ولا يجوز حدوثه في غيره.
وهذه الآية صريحة من أن الكل بقضاء الله وقدره.
قوله: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: «ويُثْبِتُ» مخففاً من «
أثْبَتَ» والباقون بالتشديد والتضعيف، والهمزة للتعدية ولا يصح أن يكون التضعيف للتكثير، إذ من شرطه أن متعدياً قبل ذلك، ومفعول «يُثْبِتُ» محذوف، أي: ويثبت ما يشاء والمحو: ذهاب أثر الكتابة، يقال: مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْواً، إذا أذهب أثره.
قوله: «ويُثْبِتُ» قال النحويون: ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية الفعل الأول عن تعدية الفعل الثاني، وهو كقوله عز وجل {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} [الأحزاب: 35] .
فصل
قال سعيد بن جبير وقتادة «يمحو الله مايشاء» من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله «ويُثْبِتُ» ما يشاء منها فلا ينسخه.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} الرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
وعن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: «يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء.
وروي عن عمر رضي الله عنه: أنه كان يطف بالبيت وهو بيكي يقول:» اللهم إن كنت كتبتي في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كانت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني منها بفضلك وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشائ وتثبت وعندك أم الكتاب «.
ومثله عن ابن مسعود وفي بعض الآثار: أن الرجل قد يكون بقي له من عمره ثلاثون سنة، فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام، والرجل قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة.
روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم:
وقيل: الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحوا الله من دويان الحفظة ماليس فيه ثواب ولا عقاب، كقوله: أكلت. شربت. دخلت. خرجت، ونحوها من الكلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، قاله الضحاك والكلبي ورواه أبو بكر الأصم لأن الله تعالى قال في وصف الكتاب {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] .
وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 78] .
فأجاب القاضي عنه: بأنه لا يغادر من الذنوب صغير ولا كبيرة، ويمكمن أن يجاب عن هذا: بانكم خصصتم الكبيرة والصغيرة بالذنوب بمجرد اصطلاحكم، وأمام في أصل اللغة فالصغيرة والكبيرة تتناول كل فعل وعرضٍ، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن ك ان غير ذلك فهو كبير، وعلى هذا يتناول المباحات.
وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما: «هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله، فهو الذي يمحو اوالذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله فيموت في طاعته فهو الذي يثبت» .
وقال الحسن: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ} أي: من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله.
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: يمحو الله ما يشاء: من ذنوب العباد ويغفرها وثبت ما يشاء فلا يغفرها.
وقال عكرمة: ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما قال الله تعالى {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وقيل غير ذلك.
قوله {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لايبدل ولا يغير، والأم: أصل الشيء، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمَّا له، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكد مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى.
قال ابن عباس في رواية عكرمة: هما كتابان: كتاب سمي أم الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وأم الكتاب لا يغيرمنه شيء، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق.
وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت، لله فيه كل ثوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحوا ما يشاء ويثبت {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب] فقال:«علم الله ما خلقه ما هو خالقه إلى كيوم القيامة» .
قوله: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب قبل وفاتك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} ليس عليك إلا ذلك {وَعَلَيْنَا الحساب} والجزاء يوم القيامة.
قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} جواب للشرط قبله. قال أبو حيان: «والذي تقدم شرطان، لأن المعطوف على الشرط شرط، فأما كونه جواباً للشرط الأول فلس بظاهر؛ لأنه لا يترتب عليه، إذ يصير المعنى: وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب {وَعَلَيْنَا الحساب} وأما كونه جواباً للشرط الثاني وهو {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} فكذلك لأنه يصير التقدير: إنما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ولا يترتب جواب التبليغ عليه وعلى وفاته صلى الله عليه وسلم َ لأن التكليف ينقطع [عند الوفاة] فيحتاج إلى تأويل، وهو أن يقدر لكل شرط ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه، والتقدير: وإما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك أو نتوفينك قبل حلوله بهم، فلا لوم عليك ولا عتب» .
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} الآية.
لما وعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بأن يريد بعض ما وعده أو يتوفاه قبل ذلك، بين ههنا أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت، فقال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يعني أن أهل مكة الذي يسألون محمداً عليه الصلاة والسلام ُ الآيات {أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أكثر المفسرين على أن المراد: فتشح ديار الشرك فإن ما زاد من دار الإسلام قد نقص من دار الشرك؛ لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من
الكفرة قهراً وجبراً، فانتقاض أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أن الله تبارك وتعالى ينجز وعده فلا يعتبرون بهذا ونظيره قوله تعالى:{أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44] وقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] .
وقال قوم: هو خراب الأرض، أي: أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها، ونهلك أهلها، أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك؟ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً: ننقصها من أطرافها، المراد موت كبرائها وأشرافها وعلمائها وذهاب الصلحاء. قال الواحدي:«وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول، ويمكن أن يقال: هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع؛ لأن قوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن الله يقلب الأمر على هؤلاء الكفرة ويصيرهم ذليلين بعد عزهم ومقهورين بعد قهرهم، فناسب هذا الكلام ماقبله» .
قوله: نَنْقُصهَا «حال إما من فاعل» نَأتِي «أو من مفعوله.
وقرأ الضحاك» نُنَقِّصها «بالتضعيف، عداه بالتضعيف.
قوله:» لا مُعَقِّبَ «جملة حالية، وهي لازمة. والمعقب: هو الذي يكرّ على الشيء فيبطله، قال لبيد:[الكامل]
3188 -
…
...
…
...
…
..... طَلبُ المُعقِّبِ حَقَّهُ المظْلُومُ
والمعنى: والله يحكم لا رادَّ لحكمه. والمعقب: هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب؛ لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} قال بان عباس رضي الله عنه: الانتقام.
قوله: {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني من قبل مشركي مكمة والمكر: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً} أي: عند الله جزاء مكرهم.
قال الواحدي رحمه الله: يعني أن مكر جمعي الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه تعالى هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يضح إلا بإذنه، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم َ وأمانٌ لهن من مكرهم، فكأنه قيل: إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله تعالى وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله.
ثم قال جل ذكره {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} ، أي: أن اكتساب العباد معلوم لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله تعالى.
قالت المعتزلة: الآية الأولى إن دلت على قلوكم، فقوله {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} دليل على قولنا، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة، ولو كان حدوث الفعل [بخلق] الله تعالى لم تكن لقدرة العبد فيه أثر، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب.
والجواب: أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد.
ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال جل ذكره {وَسَيَعْلَمُ الكفار} قرأ ابن عامر والكوفيون «الكُفَّار» جمع تكسير والباقون: «الكَافِرُ» بالإفراد ذهاباً إلى الجنس.
وقرأ عبد الله «الكَافِرُونَ» جمع سلامة.
قال الزمخشري: «قرىء: الكَّفارُ والكَافرُون والذين كفرُوا، والكَافِرُ» .
قال المفسرون: والمراد بالكافر: الجنس، كقوله تعالى:{إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] .
وقال عطاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون «وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أبا جهل، والأول هو الصواب.
قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله احتج عليهم بأمرين:
الاول: شهادة الله تعالى على نبوته، والمراد من تلك الشهادة تعالى أظهر المعجزات على صدقه في ادعاء الرسالة، وهذا أعظم مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن، وإظهار المعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة.
والثاني: قوله {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} العامة على فتح ميم» مَنْ «وهي موصولة، وفي محلها أوجه:
أحدها: أنها مجرورة المحل نسقاً على لفظ الجلالة، أي: بالله وبمنْ عِندْهُ علمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوه.
والثاني: أنها في محل رفع عطفاً على محل الجلالة، إذ هي فاعلة، والباء مزيدة فيها.
والثالث: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي: ومن عنده علم الكتاب أعدل وأمضى قولاً، و {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجوز أن يكون الظرف صلة و» عِلْمُ «فاعل به، واختاره الزمخشري وتقدم تقريره.
وأن يكون مبتدأ، وما قبله الخبر، والجملة صلة ل «مَنْ» .
والمراد بمن عنده علم الكتاب: ابن سلام، أو جبريل عليه الصلاة والسلام ُ.
قال ابن عطية: «ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ولا يجوز وإنما يعطف الصفات» .
فاعترض أبو حيان عليه: بأن «مَنْ» لا يوصف بها ولا يغيرها من الموصولات إلا ما استثني، وبأن عطف الصفات بعضها على بعض لا يجوز إلا بشرط الاختلاف.
قال شهاب الدين: نما عنى ابن عطية الوصف المعنوي لا الصناعي، أما شرط الاختلاف فمعلوم.
وقرأ أبيّ وعلي وابن عباس وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد رضوان الله عليهم في خلق كثير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} جعلوا «من» حرف جر، و «عنده» مجرور بها، وهذا الجار خبر مقدم، و «عِلْمُ» مبتدأ مؤخر، و «منْط لابتداء الغاية أي: ومن عند الله حصل علم الكتاب.
وقرأ علي أيضاً والحسن وابن السميفع {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يحعلون» من «جارة، و» عُلِمَ «مبنياً للمعفول و» الكِتابُ «رفع بهن. وقرىء كذلك؛ إلا أنه بتشديد» عُلِّمِ «والضمير في» عِنْده «على هذه القراءات لله تعالى فقط.
وقرىء أيضاً:» وبِمَن «بأعادة الباء الداخلة على» مَنْ «عطفاتً على [» باللهِ «] .
فصل
على هذه القراءة الأولى المراد: شهادة مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال أبو البشر: قلت لسعيد بن جبير: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أهو عبد الله بن سلام؟ ، فقال: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية، وهو ممن آمنوا بالمدينة بعد الهجرة؟ .
وأجيب: بأن هذه السورة وإن كانت مكية إلا إن هذه الآية مدنية.
ويعترض هذا أيضاً: بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين لا يجوز.
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والزجاج {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} هو الله سبحانه وتعالى.
وقال الأصم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي: ومن عنده علم القرآن.
والمعنى: أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما فيه من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب من هذا الوجه دل على كونه معجزاً.
وقيل: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي: الذي حصل عنده علم التوارة والإنجيل يعني كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلوات الله وسلامه عليه فإذا انصف ذلك العالم ولم يكذبه كان ذلك شاهداً على أن محمداً رسول حق من عند الله صلوات الله وسلامه عليه.
وأما معنى القراءة الثانية: أي: أن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضل وإحسانه وتعليمه، والمراد العلم الذي هو ضل الجهل.
وأما القراءة على مالم يسم فاعله، فالمعنى: أنه تعالى لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم َ أن يحتج عليهم بشهادة الله على نبوته، وكان لا معنى لشهادة الله على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه، ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بمعاني القرآن وأسراره،
بين الله تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله، والمعنى: أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا لمن شرفه الله من عباده بأن يعلمه علم القرآن.
روى ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «مَنْ قَرَأ سُورةَ الرَّعدِ أعْطيَ مِنَ الأجْرِ عَشْر حَسنَاتٍ بِوزْنِ كُلِّ سَحابٍ مَضَى وكُلِّ سَحابِ يكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وكَانَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُوفِينَ بِعهْدِ اللهِ عز وجل سُبحَانهُ لا إلهَ إلَاّ هُوَ المَلِكُ الحقُّ المُبِينُ» .
سورة إبراهيم
مكية في قول الحسن، وعكرمة، وجابر. وقال ابن عباس، وقتادة رضي الله عنهم وهي مكية إلا اثنتين، وقيل: ثلاث من قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} [الآية: 28] إلى قوله تعالى: {فإن مصيركم إلى النار} فإنها مدنية. وهي اثنتان وخمسون آية، وعدد كلماتها ثمان مائة وإحدى وثلاثون كلمة وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا.
قال ابن الخطيب: ومتى لم يكن في السورة ما لا يتصل بالأحكام فمكة والمدينة فيه سواء، وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل في السورة ناسخ ومنسوخ؛ فيكون فيه فائدة عظيمة والله أعلم. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} يجوز أن يرتفع «كِتابٌ» على أنَّه خبر ل «الر» : إن قلنا: إنَّها مبتدأ، والجملة بعد صفة، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا، وأن يرتفع بالابتداء خبره الجملة بعده، وجاز الابتجاء بالنكرة؛ لأنَّها موصوفة تقديراً، تقديره: كتماب، أي: كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية.
قالت المعتزلة: النَّازلُ، والمنزلُ لا يكون قديماً.
والجواب: أنَّ الموصوف بالمنزل هو هذه الحروف وهي محدثةٌ.
قوله: {لِتُخْرِجَ الناس} متعلق ب «أنْزَلناهُ» . وقرىء (ليَخْرُجَ الناس) بفتح الياءِ وضمِّ الراء، من خَرَجَ يَخْرُجُ. «النَّاسُ» رفعاً على الفاعليَّة.
قالت المعتزلة: اللَاّم في «لِتُخْرِجَ» لام الغرض والحكمة، تدلُّ على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض، فدل على أنَّ أقوال الله تعالى وأفعاله معللة برعاية المصالح.
وأجيب: بأن من فعل فعلاً لأجل شيءٍ أخر، فهذا إنَّما يفعله إذا كان عاجزاً عن تحصيل ذلك المقصود إلَاّ بهذه الواسطة، وذلك محالٌ في حقِّ الله تعالى، وإذا ثبت بالدَّليل منع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل؛ ثبت أنَّ كل ظاهر أشعر به فهو مؤول على معنى آخر.
فصل
قوله تعالى: {مِنَ الظلمات} أي: لتدعوهم من ظلمات [الظَّلال] إلى نُورِ الإيمان.
قال القاضي رحمه الله: هذه الآية تبطل القول بالجبر من جهات:
أحدها: أنَّه تعالى لو خلق الكفر في الكافر، فكيف يصحُّ إخراجه منه الكتاب.
وثانيها: أنَّه تعالى أضاف الإخراج من الظُّلمات إلى النور إلى الرَّسُول عليه الصلاة والسلام ُ فإن كان خالق الكفر هو الله تعالى فكيف يصحُّ من الرسول صلوات الله وسلامه عليه إخراجهم منه، وكان للكافر أن يقول: إنَّك تقول: إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصحُّ منك أن تخرجنا؟ .
فإن قال لهم: أنا أخرجكم من الظُّلماتِ التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا: إنه كان الله سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج، وإن لم يخلقه الله فنحن خارجون منه بلا إخراج.
وثالثها: أنه صلواتُ الله وسلامه عليه إنَّما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليه ليتدبروهن؛ ولينظروا فيه فيعلموا بالنَّظر، والاستدلال كونه تعالى علماً قادراً حكيماً، ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه فحينئذ يقبلوا منه كلَّ ما جاءهم من الشَّرائع، وذلك إنَّما يكون إذا كان الفعل ويقع باختيارهم، ويصحُّ منهم أن يقدموا عليه ويتصرَّفوا فيه.
والجواب عن الكل: أن يقال: الفعل الصادر من العبد.
إمَّا أن يصدر عنه حال استواء الدَّاعي إلى الفعل والترك.
أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر.
والأول باطل؛ لأنَّ صدور الفعل يقتضي رجحان جانب الوجودِ على جانب العدم وحصول الرُّجحان حال حصول الاستواء محال، والثاني عين قولنا؛ لأنَّه يمتنع صدور الفعل عنه ألَاّ بعد حصول الرجحان، فإن كان ذلك الرجان منه عاد السؤال، وإن لم يكون منه بل من الله، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وهو المطلوب.
قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} يجوز أن يتعلق بالإخراج، أي: بتيسيره وتسهيله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من فال:«يُخْرِجُ» أي: مأذوناً لك.
وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوق لله تعالى، فإنَّ قوله:{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} معناه: أنَّ الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظلمات إلى النُّور إلا بإذن الله تعالى.
والمراد بهذا الإذن: إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق، وحمل الإذن على الأمر محالٌ، لأنَّ الإخراج من الجهلِ إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنَّهُ سواء حصل الأمر أم لم يحصل، فإنَّ الجهل متميزٌ على العلم، والباطل متيمزٌ عن الحقّ.
وأيضاً: حمل الإذن على العلم محال؛ لأنَّ العلم يتبع المعولم على ماهو عليه فالعلمُ بالخروج من الظُّلمات إلى النُّور تابع لذلك الخروج، ولا يمتنع أن يقال: إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج، ولما بطل هذان القسمان لم ببق إلا أن المراد من الإذن: المشيئة، والتخليق، وذلك يدلُّ على أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظللمات إلى النُّور إلَاّ بمشيئة الله تعالى.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف؟ .
فالجواب: لفظ الإذن مجمل، ونحن نفصل القول فيه.
فنقول: المراد بالإذن إمَّا أن يكون أمراً يقتضي رجحان جانب الوجود على جانب العدم، أو لا يقتضي ذلك، فإنَّ كان الثاني لم يكن له فيه أثر ألبتة، وامتنع أن يقال: إنه إنَّما حصل بسببه، ولأجله فبقي الأول، وهو أنَّ المراد من الإذن معنى يقتضي رجحان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم، ومتى حص الرجحان فيه حصل الوجود ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو قولنا.
فصل
دلّت الآية على أنَّ طرق الكفر، والضلالات كثيرة، وأنَّ طريق الحقّ ليس إلَاّ واحداً؛ لأنَّ الله تعالى عبر عن الجهلِ، والكفر بالظلمات، وهي صيغة جمع، وعبَّر عن الإيمان والهداية بالنُّور وهو لفظ مفردٌ.
قوله: {إلى صِرَاطِ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدلٌ من قوله «إلى النُّورِ» بإعادة العامل، ولا يضر الفصل بالجارّ؛ لأنه من معمولات العامل في المبدل منه.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنَّه جواب سؤال مقدَّر، كأنه قيل: إلى أيِّ نورٍ؟ فقيل: «إلى صِرَاطِ» ، والمراد بالصِّراط: الدّين والعزيز هو الغالب و «الحَمِيدِ» المستحق للحمد.
وقد قكر العزيز على ذلك الحميدِ؛ لأنَّ أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه عالماً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه غنيًّا عن جميع الحاجات والعزيز هو القادر، والحميدُ هو العالم الغنيّ؛ فلذلك قدّم ذكر «العَزيز» على ذكر «الحَميد» .
قوله: {الله الذي} قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي، وكان يعقوب إذا وصل خفض.
وأما الرفع فعلى وجهين:
أحدهما: أنه مبتدأ خبره الموصول بعده، أو محذوف، تقديره: الله الذي له ما في السموات، وما في الأرض العزيز الحميد، حذف لدلالة ما تقدَّم.
والثاني: أنَّه خبر لمبتدأ مضمر، أي: هو الله، وذلك على المدح، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ، والحوفي، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال:«لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ، كالنَّجم للثُّريَّا» .
قال أبو حيان: «وهذا التعليل لا يتمُّ إلَاّ أن يكون أصله» الإله «ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب» .
وقال ابن عصفور: «لا تقدّم صفة على موصوف إلَاّ حيث سمع» وهو قليل، وللعرب فيه وجهان:
أحدهما: أن تتقدم الصفة بحالها، وفيه إعرابان للنحويين:
أحدهما: أن يعرب صفة متقدمة.
والثاني: أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته.
والثاني: من الأولين أن تضيف الصفة إلى الموصوف، فعلى هذا يجوز أن يعرب «العَزيزِ الحَميدِ» صفة متقدمة. ومن مجيء تقديم الصفة قوله:[البسيط]
3189 -
والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا
…
رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ
وقول الآخر: [الرجز]
3190 -
وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَار
…
يريد: الطير العائذات، وبالعمر الطويل.
قال شهابُ الدِّين رحمه الله: «وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تكل الصفة على الحال» .
قال ابن الخطيب: «اللهُ» اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا:«اللهُ» ، ثم وصفناه كقوله:{هُوَ الله الذي لَا إله إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم} [الحشر: 22] الملكل القدُّوسُ، ولا يمكمننا أن نعكس الأمر فنقول: هو الرحمن الرحيم الله، فعلمنا أنَّ «اللهَ» اسم علم للذَّات المخصوصة، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات.
وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن: أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات، كقوله:{هُوَ الله الخالق البارىء المصور} [الحشر: 24] فأمَّا أن تعكس فتقول: هو الخالق المصور البارىء الله؛ فذلك غير جائز، وإذا ثبت هذا فنقول: الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ، وما بعده خبر هو الصحيح، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله:{العزيز الحميد} مشكل لما بيِّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال: الله الخالق، وعند هذا اختلفوا في الجواب:
فقال أبو عمرو بن العلاء: القراءةُ بالخفض على التَّقديم، والتَّأخير، والتقدير: صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السموات [والأرض] .
وقيل: لا يبعد أن تذكر الصفة أولاً ثمَّ يذكر الاسم، ثم تذكر الصِّفة مرة أخرى كما يقال: الإمام الأجلّ محمد الفقيه، وهنو بعينه نظير قوله:{صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} .
وتحقيق القول فيه: أنَّا بيَّنا أن الصِّراط إنَّما يكون ممدوحاً محموداً إذا كانا صراطاً للعالم القادر الغنيّ، والله تعالى عبَّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله:{العزيز الحميد} فوقعت الشبهة في أن ذلك: {العزيز الحميد} من هو؟ فعطف عليها قوله {الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إزالة لتلك الشُّبهة.
قوله: «وَويْلٌ» مبتدأ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء ك «سَلامٌ عَليكُمْ» ، و «لِلْكافِرينَ» خبره، و «مِنْ عذَابٍ» متعلِّق بالويلِ.
ومنعه أبو حيَّان؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصل بين المصدر ومعموله، وهو ممنوعٌ حيث
يتقدَّم المصدر بحرف مصدري وفعل، وقد تقدم.
ولذلك جوزوا تعلق «بِمَا صَبرْتُمْ» ب {سَلَامٌ} [الرعد: 24] ، ولم يعترضوا عليه بشيءٍ، ولا فرق بين الموضعين.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ما وجه اتِّصالِ قوله: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} بالويل؟ قلت: لأنَّ المعنى يولولون من عذاب شديد» .
قال أبو حيان: فظاهر يدلُّ على تقدير عامل يتعلق به {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للمبتدأ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر.
فصل
والمعنى: أنَّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسموات، والأرض، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعاً، ولا ضرَّا، ويُخلَقُ، ولا يَخْلِقُ، ولا إدراك له، فالويل كل الويل لمن هو كذلك، وإنما خصه بالويل، لأنهم يولولون من عذابٍ شديدٍ، ويقولون: يا ويلاه نظيره قوله تعالى: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع:
الأول: قوله: {الذين يَسْتَحِبُّونَ} يجوز أن يكون مبتدأ، خبره:«أوْلئِكَ» وما بعده.
وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هم الَّذينَ.
وأن يكون منصوباً بإضمار فعل على [المدح] فيهما.
وأن يكون مجروراً على البدل، أو البيان، أو النعت، قاله الزمخشريُّ، وأبو البقاء والحوفي وغيرهم.
ورده أبو حيان: بأن فيه الفصل بأجنبيّ، وهو قوله جل ذكره {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال:«ونظيره إذا كان صفة أن تقول: الدَّارُ لِزيدِ الحَسنةُ القُرشِي وهذا لا يجوز، لأنك فصلت بين» زَيْدٍ «وصفته بأجنبي منهما، وهو صفة الدَّار وهو لا يجوز، والتركيب الصحيح أن تقول: الدَّارُ الحسنةُ لزيدٍ القُرشيِّ، أو الدَّارُ لزَيدٍ القُرشي الحَسنَةُ» .
و «يَسْتحِبُّونَ» استفعل فيه بمعنى أفْعَلَ، كاسْتَجابَ بمعنى أجَابَ، أو يكون علتى بابه، وضمن معنى الإيثار، ولذلك تعدّى ب «عَلَى» .
وقرأ الحسن: «يُصدُّونَ» بضم الياء من «أصَدَّ» ، و «أصَدَّ» منقولٌ من «صَدَّ»
اللازم، والمفعول محذوف، أي: غيرهم أو أنفسهم، ومنه قوله:[الطويل]
3191 -
أنَاسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بالسَّيْفِ عَنهُمْ.....
…
...
…
...
…
...
…
. .
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} تقدم مثله [آل عمران: 99] .
قوله تعالى: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة} فيه إضمار تقديره: يستحبّون الحياة الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة؛ فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلَاّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، [وأما] من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة؛ فذلك لا يكونُ مذموماً.
والنوع الثاني من أوصاف الكفار: قوله عز وجل {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: يمنعوا النَّاس من قبول دين الله.
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} . واعلم انَّ الإضلال على مرتبتين.
الأولى: أن يسعى في صدّ الغير.
والثانية: أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ، والشبهات في المذهب الحق، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ، وهذا هو النهاية في الضلال، والإضلال، وإليه أشار بقوله:{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} .
قال الزمخشريُّ: «الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجاً؛ فحذف الجار وأوصل الفعل» .
وقيل: الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه: يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق، أي: بجهة الحرام.
ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب قال في وصفهم: {أولئك فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} وإنَّما وصف الله تعالى هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ:
الأول: أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد، والبياض.
الثاني: أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى.
الثالث: أن امراد بالضَّشلال: الهلاك، والتقدير: أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد: امتداده وزوال انقطاعه.
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} الآية لما ذكر في أوّل السورة: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] فكان هذا إنعاماً من الله على الرسول من حيث إنَّه فوض إليه صلوات الله وسلامه عليه هذا الأمر العظيم وإنعاماً على الخلقِ حيثُ أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر [إلى الرشد] ، وأرشدهم إلى نور الإيمان. ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تعهد النعمة، والإحسان في الوجيهن؛ أمَّا بالنسبة إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ فلأنه تعالى بين أنَّ سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام أجمعين كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأنت يا محمد فمبعوث إلى عالم البشر، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه تعالى ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسانهم ليسهل عليهم فهم تلك الشريعة فهذا وجه النظم.
قوله: {إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} يجوم أن يكون حالاً، أي: إلَاّ [متكلماً] بلغة قومه.
قال القرطبي: «وحَّد اللسان، وإن أضافه إلى القوم؛ لأن المراد به اللغة فهو اسم حنسٍ يقع على القليلِ، والكثير» .
وقرأ العامة: «بلِسانِ» بزنة كتابِ، أي: بلغةِ قومهِ. وقرأ أبو الجوزاء وأبو السمالِ وابو عمران الجوني: بكسر اللام وسكون السين، وفيه قولان:
أحدهما: أنَّهما بمعنى واحد، كالرِّيشِ والرِّياش.
والثاني: أنَّ اللسان يطلق على العضو المعروف وعلى اللغةِ، وأمَّا اللِّسنُ فخاص باللغة، ذكره ابن عطيَّة، وصاحب اللَّوامح.
وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدريُّ: بضم اللام والسين، وهو جمع
لِسَان كَكِتَاب وكُتُب، وقرىء بسكون السين فقط، وهو تخفيفٌ للقراءة قبله، نحو «رُسْل في رُسُل» ، و «كُتْب» في «كُتُب» ، والهاء في «قَوْمِهِ» الظاهر عودها على «رَسُولٍ» المذكور وعن الضحاك أنَّها تعود على محمد صلوات الله وسلامه عليه وغلطوه في ذلك إذ يصير المعنى: إنَّ التوراة وغيرها أنزلت بلسان العرب ليبين لهنم النبي عليه الصلاة والسلام ُ التوراة.
فصل
احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ اللُّغات اصطلاحية، فقال: لأنَّ التوقيف لجميع الرسل لا يكون إلَاّ بلغة قوم، وذلك يقتضي تقدُّم حصول اللغات على إرسال الرسل، وإذا كان كذكل؛ امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف؛ فوجب حصولها بالاصطلاح.
ومعنى الآية: وما أرسلنا من رسولٍ إلَاّ بلغة قومه.
فإن قيل: هذه الآية تدلُّ على أنَّ النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إنَّما بُعِثَ للعرب خاصة، فكيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم َ:
«وبُعِثْتُ إلى النَّاس عَامَّة» .
فالجواب: بُعِثَ إلى العرب بلسانهم والناس تبعٌ لهم، ثم بعث الرُّسلُ إلى الأطلاف يدعوهم إلى الله تعالى ويترجمون لهم بألسنتهم.
وقيل: المراد من قومه أهل بلدته، وليس المراد من قومه أهنل دعوته بدليل عموم الدعوة في قوله:{قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 158] وإلى الجنّ أيضاً؛ لأن التَّحدي ثابت لهم في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن} [الإسراء: 88] .
قال القرطبي: «ولا حجة للعجم، وعغيرهم في هذه الآية؛ لأنَّ كل من ترجم له ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه ترجمةً يفهمها لزمته الحجة وقد قال الله عز وجل {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28] ، وقال عليه الصلاة والسلام ُ:» أرْسلَ كُلُّ نبي إلى أمَّتهِ بِلسَانهَا وأرْسَشلنِي اللهُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأسْودَ مِنْ خَلْقِهِ «.
وقال صلى الله عليه وسلم َ:» لا يَسْمعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذهِ الأمَّة يَهُوديّ، ولا نَصْرانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤمِنْ بالَّذي أرسِلْتُ بِهِ إلَاّ كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ «وخرجه مسلم رحمه الله.
فصل
زعمت طائفة من اليهود يقال لهم: [العيسوية] أنَّ محمداً رسول الله ولكن إلى
العرب خاصة، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين:
الأول: أنَّ القرآن لما نزل بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب، فلا يكون القرآن حجة إلَاّ على العربِ، ومن لم يكن عربياً لم يكن القرآن حجة عليه؛ لأنه ليس بمعجزة في حقه لعدم علمه بفصاحته.
الثاني: قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ، ولسانه لسان العرب فدلَّ على أنَّه ليس له قوم سوى العرب.
والجواب ما تقدَّم في السُّؤال قبله.
قوله:» فَيُضِلُّ «استنئاق إخبار، ولا يجوز أن نصبه عطفاً على ما قبله؛ لأنَّ المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا [للإضلال] .
قال الزجاج:» لو قرىء بنصبه على أنَّ اللَاّم لام العاقبة جاز «.
قوله: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الحكيم} تمسّك أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهداية، والضلال من الله سبحانه وتعالى جل ذكره.
قالوا: وممَّا يؤكد هذا المعنى أن أبا بكرٍ، وعمر رضوان الله عنهما وعن الصَّحابة أجمعين أقبلا في جماعة من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ ما هذا؟ فقال بعضهم يا رسول الله: يقول أبو بكرٍ: الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا ويقول عمر: كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر، وتبع بعضهم عمر، فتعرف الرسول ما قاله أبو بكر رضي الله عنه وأعرض عنه حتى عرف في وجهه، ثم أقبل على عمر رضي الله عنه فتعرف ما قاله، وعرف السرور في وجهه، فقال صلوات الله وسلامه عليه:» أقضي بينكما كما قضي إسرافيل بين جبريل وميكائيل صلوات الله وسلامه عليه عليهما فقال جبريلُ مثل مقالتك يا عمر، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكرٍ، فقضاء إسرافيل صلوات الله عليه أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما؟ .
قالت المعتزلة: لا يمكن أجراءُ هذه الآية على ظاهرها لوجوه:
الأول: أنه تبارك وتعالى قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي: ليبين لهم التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك التبيان أسهل ووقوفهم على الغرض أكمل وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ إذا كان مقصود الله تعالى من إرسال الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه حصول الإيمان للمكلفين، فلو كان مقصوده الإضلال، وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود.
والثاني: أنَّه عليه الصلاة والسلام ُ إذا قال لهم: إنَّ الله يخلقُ الكفر والإضلال فيكم، فهلم أن يقولوا: فما لنبوتك فائدة، وما المقصود من إرسالك؟ وهل يمكننا أن
نزيل كفراً خلقه الله فينا؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة، وتفسد بعثة الرسل.
الثالث: إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى وميشئته، فيجب أن يكون الرضا به واجباً؛ لأن الرِّضا بقضاء الله واجب، وذلك لا يقوله عاقل.
الرابع: أنَّ مقدمة الآية، وهي قوله جل ذكره {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدلُّ على العدل، وأيضاً مؤخر الآية يدلُّ عليه وهو قوله جلَّ ذكره {وَهُوَ العزيز الحكيم} فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّه لا يمكن جعل قوله:{فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} دليل على خلق الكفر في العبد، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه:
الأول: المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالاًّ كما يقال: فلانٌ يُكفِّرُ فُلاناً ويضله أي: يحكمُ بكونه كافر ضالاً.
والثاني: أنَّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنَّة إلى النَّار.
والثالث: أنَّه يقال: إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنَّه بالألطاف صار كأنه هداه.
قال الزمخشري: «والمراد بالإضلال التخلية، ومنع الإلطاف وبالهداية: اللّطف، والتَّوفيق» .
قال ابن الخطيب رحمه الله: «والجواب قوله عز وجل {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} لا يليق به أن يضلهم.
قلنا قال الفراء: إذا ذكر فعل، وبعده آخر، فإن كان الفعل الثَّاني مشاكلاً للأول نسقه عليه، وإن لم يكن مشاكله، استأنفه ورفعه، نظيره:
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله} [التوبة: 32] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك؛ لأنَّه لا يحسن أن يقال: يريدون أن يأبى الله، فلما لم يكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف.
ونظيره أيضاً قوله: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام} [الحج: 5] ومن ذلك قولهم: «أردت أن أزُوركَ فمَنعَنِي المطرُ» بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه؛ ومثله قول الشاعر: [الرجز]
3192 -
يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فيُعْجِمُهْ
…
وإذا عرفت هذا فنقول: ههنا قال الله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ثمَّ قال: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} ذكر: «فَيُضِلُّ» بالرفع فدلَّ على أنَّه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله، وتقديره من حيث المعنى كأنَّه قال عز وجل: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه، ثم قال: ومع أنَّ الأمر كذلك فإنَّه تعالى يضلّ من يشء، ويهدي من يشاء، والغرضُ منه: التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الهداية، والضلال لا يحصلان إلَاّ من الله تعالى.
وأما قولهم: لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان للكافر أن يقول: ما الفائدة في نبوتك ودعوتك؟ فالخَصْم يُسلِّم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالاًّ فيقول له الكافر: لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً؟ وإذا لم أقدر عليه، فكيف يأمرني بهذا الإيمان؟ فالسؤال وارد عليه.
وأما قولهم ثالثاً: يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً؛ لأنَّ الرِّضا بقضاء الله واجب قلنا: ويلزمُ أيضاً على مذهبك أن يكون السعي في تكذيب الله وفي تجهيله واجباً؛ لأنَّه تعالى لما أخبر عن كفره، وعلم كفره، فإزالته الكفر عن قلب علمه جهلاً، وخبره الصدق كذباً، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ؛ فيلزمك على مذهبك، وهذا أشد استحالة ممَّا ألزمته علينا.
وأمَّا قولهم رابعاً: إن مقدمة الآية، وهو قوله تعالى:{لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدلُّ على صحَّة الاعتزال.
فنقول: قد ذكرنا أن قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1] يدلُّ على صحَّة مذهب أهل السنة.
وأما قولهم خامساً: إنَّه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً، وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له، فنقول: وصف نفسه بكونه عزيزاً، والعزيزُ: هو الغالب القاهر، فلو أراد بالإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل، وأراد عدم الكفرمنهم، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالبا؛ فثبت أن الوجوه التي ذكروها صعيفة، وقد تقدَّم البحث في هذه المسألة في البقرة عند قوله جل ذكره:
{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26] .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى
النور} الآية لما بين أنَّه إنَّما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم َ ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، وذكر كمال نعمة الله عليه وعلى قومه بذلك الإرسال أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى أقوامهم ليكون ذلك تصبيرأ للرسول صلوات الله وسلامه عليه على أذى قومه فقال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ} قال الأصم: آيات موسى عليه الصلاة والسلام ُ وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وانفجار العيون من الحجر، وإظلال الجبل، وإنزوال المن والسلوى.
وقال الجبائي آياته: دلائله وكتبه المنزلة عليه، فقال في صفة محمد عليه الصلاة والسلام ُ:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] وقال في حق موسى صلوات الله وسلامه عليه {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 5] والمقصود من بعثة سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام واحد وهو أن يسعو في أخراج الخلق من الضَّلالات إلى نور الهدايات.
قوله: «أنْ أخْرِجْ» يجوز أن تكون «أنْ» مصدرية، أي: بأن أخرج والباء في «بِآيَاتِنا» للحال، وهذه للتعدية، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى أي، ويكون المعنى: أي: أخرج قومك من الظلمات، أي: قلنا له: أخرج قومك كقوله {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} [ص: 6] . وقيل: بل هي زائدة، وهو غلط.
قوله: «وذَكِّرْهُمْ» يجحوز أن يكون منسوقاً على «أخْرِجْ» فيكون من التفسير، ويجوز أن لا يكون منسوقاً؛ فيكون مستأنفاً.
و «أيَّام: عبارة عن نعمة تعالى؛ كقوله: [الوافر]
3193 -
وأيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ
…
عَصيْنَا المَلْكَ فِيهَا أنْ نَدِينَا
أو نقمه؛ كقوله: [الطويل]
3194 -
وأيَّامُنَا مَشْهُورَة في عَدُوِّنَا.....
…
...
…
...
…
...
…
...
ووجهه: أن العرب تتجوز فتسند الحدث إلى الزمان، مجازاً أو تضيفه إليها كقولهم: نَهارٌ صَائمٌ، ولَيلٌ قَائمٌ، و {مَكْرُ الليل} [سبأ: 33] .
قال الواحديُّ:» أيَّام جمع يوم، واليوم هو مقدار المدَّة من طلوع الشَّمس إلى غروبها، وكان في الأصل: أيوامٌ، فاجتمعت الياء، والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكونِ فقلبت الراء ياء، وأدغمت إحداهما في الأخرى فقلبت ياء «.
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ، وأبيُّ بن كعب، ومجاهدٌ وقتادة رضي الله عنهم وذكرهم بنعم الله. وقال مقاتلٌ: بوقائع الله في الأمم السَّالفة. يقال: فلان عالم بأيَّام العرب، أي: بوقائعهم، فأراد بما كان في أيَّام الله من النَّعمة، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه؛ لأنَّها كانت معلومة عندهم، والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، فالتّرغيب، والوعد: أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيَّام، كعادٍ، وثمود وغيرهم.
واعلم أن أيَّام الله في حقِّ موسى عليه الصلاة والسلام ُ منها ما كانت أيام محنة وبلاء، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون. ومنها: ما كانت راحة ونعماً كأيَّام إنزال المن، والسلوى، وفلق البحر، وتظليل الغمام.
{إِنَّ فِي ذلك} التّذكر «لآياتِ» دلائل {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصّبر {شَكُورٍ} كثير الشُّكر.
فإن قيل: ذلك التذكر آيات للكلّ، فلم خصّ الصَّبَّار الشَّكور بالذِّكر؟ .
فالجواب: أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .
وقيل: لأن الانتفاع بهذا النَّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصَّبَّار الشَّكور.
ولما أمر موسى عليه الصلاة والسلام ُ أن يذكرهم بأيَّام الله، وحكى عن موسى عليه الصلاة والسلام ُ، أنَّه ذكَّرهم فقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} .
فقوله: {أَنجَاكُمْ} ظرف للنعمة، بمعنى الإنعام، أي: اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت.
قوله: {إِذْ أَنجَاكُمْ} يحجوز في ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون منصوباً ب «نِعْمَةَ» .
الثاني: أن يكون منصوباً ب «عَلْكُمْ» ، ويوضح ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه فإنه قال:«إذْ أنْجَاكُمْ» ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: إنعامه عليكم ذلك الوقت.
فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب ب «عَليْكُمْ» .
الثالث: أنه بدل من عمة أي: اذكروا وقت إنجازكم، وهو بدل اشتمال، وتقدم الكلام في «يسومونكم» .
قوله: «ويذبحون» حال أخرى من آل فرعون، وفي البقرة دون «واو» لأن قصد التفسير لسؤال العذاب، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وتقول: أتاني القوم: زيدٌ وعمرو، وذلك قوله تعالى:{وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ} [الفرقان: 68، 69] لما فسر الآثام بمضاعفة العذا بحذف الواو، وهاهنا أدخل الواو بمعنى أنهنم يعذبونهم بالتذبيح وبغيره، فالسوم هنا غير السوم هناك.
وقرأ بان محيصن «يَذْبَحُونَ» مخففاً، و «يستحيون نساءكم» يتركونهن أحياء، «وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم» ، وفي كونه بلاء وجهان:
الأول: أن تمكين الله أياهم من ذلك الفعل بلاءٌ من الله.
والثاني: أن ذلك إشارة إلى الإنجلاء، وهو بلاء عظيم، والبلاء هو الابتلاء، وذلك قد يكون بالنعمة تارة، وبالمحنة أخرى، قال تعالى:
{وَنَبْلُوكُم
بالشر
والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وهذا أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} ، قاله ابن الخطيب رحمه الله.
قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} يجوز أن يكون نسقاً على: {إِذْ أَنجَاكُمْ} ، وأن يكون منصوباً ب «اذْكُرُوا» مفعولاً لا ظرفاً.
وجوَّز فيه الزمخشري: أن يكون نسقاً على: «نِعْمةَ» فهو من قول موسى، والتقدير وإذ قال موسى اذكروا نعمة الله، واذكروا حين تأذن، وقد تقدَّم نظير ذلك في الأعراف.
ومعنى: «تَأذَّنَ» آذن ربكم إيذاناً بليغاً، أي: أعلم، يقال: أذَّن وتَأذَّن بمعنى واحد مثل: أوعد وتوعَّد، وروي ذلك عن الحسن وغيره ومنه الأذان؛ لأنه إعلام قال الشاعر:[الوافر]
3195 -
فَلمْ نَشْعُر بضَوْسِ الصُّبْحِ حَتَّى
…
سَمِعْنَا في مَجَالِسنَا الأذِينَا
وكان ابن مسعود يقرأ «وإذْ قال ربُّكُمْ» والمعنى واحد.
فيقال: «لَئِنْ شَكرْتُم» نعمتي، وآمنتم، وأطعتم:«لأزيدَنَّكُم» في النعمة.
وقيل: لئن شكرتم بالطَّاعة «لأزيدنكم» في الثواب.
والآية نصُّ في أنَّ الشكر سبب المزيد: «ولَئِنْ كَفرتُمْ» نعتمي فجحدتموها، ولم تشكروها:«إنَّ عذَابِي لشَديدٌ» .
وقيل: المراد الكفر؛ لأن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله تعالى.
قوله: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: غني عن خلقه حميد محمود في أفعاله.
والمعنى: أن منافع الشكر ومضار الكفر لا تعود إلا إلى الشَّاكر والكافر، أمَّا المعبود والمشكور فإنَّه متعالٍ عن أن ينتفع بالشُّكر، أو يستضر بالكفران، فلا حرم قال تعالى:{وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
والغرض منه: بيان أنه تعالى إنَّما أمر بهذه الطَّاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا إلى المعبود.