المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة الحجر - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١١

[ابن عادل]

الفصل: سورة الحجر

سورة الحجر

ص: 422

سورة‌

‌ الحجر

مكية بالإجماع. وهي تسع وتسعون آية، وستمائة وأربعة وخمسون كلمة، وعدد حروفها: ألفان وتسعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {ال ? رَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} تقدَّم نظير {تِلْكَ آيَاتُ} أول الرعد، والإشارة ب «تِلْكَ» إلى ما تظمنته السورة من الآيات، ولم يذكر الزمشخريُّ غيره.

وقيل: إشارة إلى الكتاب السالف، وتنكير القرآن للتفخيم، والمعنى: تلك آياتُ ذلك الكتاب الكالم في كونه كتاباً، وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان.

والمراد ب «الكِتَابِ» وال «قُرآن المبينِ» : الكمتاب الذي وعد به محمد صلوات الله وسلام عليه، أي: مبين الحلال من الحرامِ، والحقَّ من الباطل.

فإن قيل: لِمَ ذكر الكتاب، ثم مقال:«وقُرْءَانٍ» ، وكلاهما واحدٌ؟ .

قيل: كلُّ واحدٍ يفيد فائدة أخرى؛ فإنَّ الكتاب ما يكتبُ، والقرآن ما يجمع بضعه إلى بعض.

وقيل: المراد ب «الكِتَابِ» التَّوراةُ والإنجيلُ، فيكون اسم جنسٍ، وبال «قرآن» : هذا الكتاب.

ص: 422

قوله: {رُّبَمَا يَوَدُّ} في «رُبَّ» قولان:

أحدهما: أنها حرف جرٍِّ، وزعم الكوفيُّون، وأبو الحسنِ، ابنُ الطَّراوة: أنها اسمٌ، ومعناها: التَّقليلُ على المشهور.

وقيل: تفيد التكثير في مواضع الاتفخار؛ كقوله: [الطويل]

3253 -

فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهوْتَُ ولَيْلةٍ

بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تِمْثَالِ

وقد أجيب عن ذلك: بأنها لتقليل النَّظير.

وفيها سبعة عشرة لغة وهي:

«رُبَّ» بضمِّ الراءِ وفتحها كلاهما مع تشديتد الباء، وتخفيفها، فهذه أربع، ورويت بالأوجه الأربعة، مع تاء التأنيث المتحركة، و «رُب» بضم الراء وفتحها مع إسكان الباء، و «رُبُّ» بضم الراء وةالباء معاً مشددة ومخففة، و «رُبَّت» .

وأشهرها: «رُبَّ» بالضم والتشديد والتخفيف، وبالثانية قرأ عاصمٌ ونافعٌ وباتصالها بتاء التأنيث، قرأ طلحة بن مصروف، وزيد بن علي:«رُبَّتما» ، ولها أحكام كثيرة:

منها: لزوم تصديرها، ومنها تنكير مجرورها؛ وقوله:[الخفيف]

3254 -

رُبَّما الجَاملِ المُؤبل فِيهمْ

وعَناجيجُ بَينهُنَّ المَهارِي

ضرورة في رواية من جرَّ «الجَاملِ» .

ويجر ضمير لازم التفسير بعده، ويستغنى بتثنيتها وجمعها، وتأنيثها عن تثنية الضمير، وجمعه، وتأنيثه؛ كقوله:[البسيط]

3255 -

...

...

...

.

ورُبَّهُ عَطِباً أنْقَذْتَ مِنْ عَطَبِهْ

والمطابقة؛ نحو: ربَّهُما رجُلَيْنِ، نادر، وقد يعطف على مجرورها ما أضيف إلى ضميره، نحو: رُبَّ رجُلٍ وأخيه، وهل يلزم وصف مجرورهنا؛ ومضيُّ ما يتعلق به على ضميره، نحو: رُبَّ رجُلٍ وأخيه، وهل يلزم وصف مجرورها؛ ومضيُّ ما يتعلق به على

ص: 423

خلاف، والصحيح عندم ذلك؛ فمن مجيئه غير موصوف قول هند:[مجزوء الكامل]

3256 -

يَا رُبَّ قائلةٍ غَدًا

يَا لَهْفَ أم مُعاوِيًَه

ومن مجيء المستقبل، قوله:[الوافر]

3257 -

فَإن أهْلِكَ فرُبَّ فتًى سَيَبْكِي

عَليَّ مُهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ

وقول هند: [مجزوء الكامل]

3258 -

يَا رُبَّ قَائلةٍ غَداً.....

...

...

...

...

وقول سليم: [الطويل]

3259 -

ومُعْتَصِمٍ بالحيِّ من خَشْيَةِ الرَّدَى

سَيَرْدَى وغَازٍ مُشفِقٍ سَيَئُوبُ

فإن حرف التنفيس، و «غداً» خلَّصاه للاستقبال.

و «رُبَّ» تدخل على الاسم، و «رُبَّما» على الفعل، ويقال: ربَّ رجُلٍ جَاءنِي، ورُبَّما جَاءنِي.

و «ما» في «رُبمَا» ، تحتمل وجهين:

أظهرهما: أنها المهيئة، بمعنى أنَّ «رُبَّ» مختصة بالأسماءِ، فلما جاءت هنا «ما» هيَّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [يونس: 27] في «إنَّ» وأخواتها ويكفها أيضاً عن العمل؛ كقوله: [الخفيف]

3260 -

رُبَّما الجَامِلُ المُؤبَّلش فِيهِمْ.....

...

...

...

...

في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه.

والثاني: أنَّ «مَا» نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها، والعائد على «ما» محذوف تقديره: ربَّ شيء يوده الذين كفروا، ومن لم يلتزم مضيَّ متعلقها، لم يحتج إلى تأويل، ومن التزم ذلك قال: لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقعٌ لا محالة، فعبَّر عنه بالماضي، تحقيقاً لوقوعه؛ كقوله تعالى:{أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ونحوه.

قوله: «لَوْ كَانُوا» يجوز في «لَوْ» وجهان: أحدهما: أن تكون الامتناعيَّة، وحينئذ، يكون

ص: 424

جوابها محذوفاً، تقديره لو كانُوا مسلمين لسرُّوا أو تخلصوا مما هم فيه، ومفعول «يوَدُّ» محذوف على هذا التقدير، أي: ربما يودُّ الذين كفروا النجاة، دلَّ عليه الجملة الامتناعية.

والثاني: أنَّها مصدرية عند من يرى ذلك، كما تقدم تقريره في البقرة [البقرة: 96] ؛ وحنيئذ يكون هذا المصدر المؤولُ هو المفعول للودادة، أي: يودُّون كونه مسلمين، إن جعلنا «ما» كافة، وإن جعلناها نكرة، كانت «لَوْ» وما في حيِّزها بدلاً من «مَا» .

فصل

المعنى: يتمنَّى الذين كفورا لو كانوا مسلمين، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها.

قال الضحاك: حال المعاينة.

وقيل: يوم القيامة.

والمشهور: أنه حين يخرجُ الله المؤمنين من النار.

روى أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «إذَا اجْتمعَ أهْلُ النَّار في النَّارِ، ومعهُمْ من شَاءَ اللهُ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ، قال الكفَّارُ لمِنْ في النَّار من أهْلِ القِبْلةِ: ألَسْتُم مُسْلمينَ؟ قالوا: بَلى، قالوا: فَمَا أغْنَى عَنْكُم إسْلامكُم، وأنْتُمْ معنا في النَّارِ، قالوا: كَانَتْ لنَا ذُنوبٌ فأُخِذْنَا بِهَا، [فيغفر] الله لَهُمْ، بِفضْلِ رَحْمتهِ، فيَأمرُ بإخْراجِ كُلِّ مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ في النَّار، فيَخْرجُونَ مِنْهَا، فحنيئذٍ يودُّ الذين كفروا لَوْ كَانُوا مُسْلمينَ» .

ص: 425

فإن قيل: «رُبمَا» للتقليل، وهذا التَّمني يكثر من الكفار.

فالجواب: أنَّ «رُبمَا» يراد بها التكثير، والمقصود إظهار الترفع، والاستغناءُ عن التَّصريح بالغرض؛ فيقولون: ربَّما نَدمتُ على ما فعلتُ، ولعلَّكَ تَندمُ على فِعلِكَ؛ إذا كان العلمُ حَاصلاً بكثر النَّدمِ، قال:[البسيط]

3261 -

أتْرك القِرْنَ مُصْفرًّا أنَاملهُ.....

...

...

...

. .

وقيل: التقليل أبلغ في التهديد، والمعنى: أنَّ قليل الندم كافٍ في الزجر عن هذا العمل، فكيف كثره؟ .

وقيل: إنْ شغلهم بالعاذب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحياناً.

فإن قيل: إذا كان أهل القيامةِ، يتمنَّون أمثال هذه الأحوال، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلُّ ثوابه عن درجةِ المؤمنِ الذي يكثر ثوابه، والمُتمنِّي لما لم يجده يكونُ في الغصَّة وتَألُّمِ القلبِ.

فالجواب: أحوالُ أهل الآخرةِ، لا تقاس بأحوال الدنيا؛ فإن الله تعالى يُرضي كُلَّ واحدٍ بما هو فيه، وينزع عن قلوبهم الحسد، وطلب الزيادتِ؛ كما قال تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] .

قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} [الحجر: 3] الآية، أي دعْ يا محمد، الكفَّار يأخذوةا حفوظهم من دنياهم، فتلك خلاقهم، ولا خلاق لهم في الآخرةِ، {وَيُلْهِهِمُ} يشغلهم «الأملًُ» عن الأخذ بحظِّهم من الإيمان والطَّاعة، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} إذا [وردوا] القيامة، وذاقوا وبال [صنعهم] وهذا تهديدٌ ووعيدٌ.

وقال بعض العلماء: «ذَرْهُمْ» ، تهديدٌ، و {سَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، تهديدٌ آخر، فمتى يهدأ العيش بين تهديدين؟! والآية نسختها آية القتالِ.

قوله: «وذَرْهُمْ» ، هذا الأمرُ لا يستعمل له ماضٍ إلا قليلاً؛ استغناءً عنه ب «تَرَكَ» ، بل يستعمل منه المضارع نحو:{وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] ، ومن مجيء الماضي قوله عليه الصلاة والسلام ُ «ذَرُوا لحَبشَة ما وَذَرتْكُم» ، ومثله: دَعْ ويَدَعْ، ولا يقال: ودَعَ إلا نادراً، وقد قرىء:{مَا وَدَّعَكَ} [الضحى: 3] مخففاً؛ وأنشدوا: [الرمل]

3262 -

أسَلْ أمِيري مَا الذي غَيَّرهُ

عَنْ وصَالِي اليَوْمَ حتَّى وَدَعهْ؟

ص: 426

و «يَأكلُوا» مجزومٌ على جواب الأمر، وقد تقدم [البقرة: 17، 278] أنَّ «تَرَكَ» و «وَذرَ» يكونان بمعنى «صيَّر» ، فعلى هذا يكون المفعول الثاني محذوفاً، أي: ذرهُم مهملين.

قوله تعالى: {وَيُلْهِهِمُ الأمل} ، يقال: لهيتُ عن الشَّيء ألهي لُهِيَّا؛ جاء في الحديث: أنَّ ابن الزبير رضي الله عنه كان إذا سمع صوت الرَّعدِ لَهِيَ عن الحديث «.

قال الكسائيُّ، والأصمعيُّ: كلُّ شيءٍ تركتهُ، فقد لهيتهُ؛ وأنشد:[الكامل]

3262 -

ب صَرمتْ حِبالَكَ فالْهَ عَنْهَا زَيْنَبُ

أي: اتركها، وأعرض عنها.

فصل في سبب شقاء العبد

قال القرطبي: أربعةٌ من الشقاءِ؛ جمودُ العين، وقساوة القلبِ، وطُولُ الأملِ، والحرصُ على الدُّنيا.

فطُول الأملِ: داء عضالٌ، ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه، واشتدَّ علاجه، ولم يفارقه داءٌ، ولا نجع فيه دواء، بل أعيا الأطبَّاء، ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء.

وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحبُّ لها، والإعراض عن الآخرة، قال صلوات الله وسلامه عليه:» نَجَا أوَّلُ هذهِ الأمَّة باليَقِينِ والزُّهْدِ، ويهْلِكُ آخِرُهَا بالبُخْلِ والأمَلِ «.

وقال الحسن: ما أطال عبدٌ الأمل، إلا أساء العمل.

قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} ، أي: من أهل قرية، {إِلَاّ وَلَهَا كِتَابٌ} فيه أوجه:

أظهرها: أنها واو الحال، ثم لك اعتباران:

أحدهما: أن تجعل الحال وحدها الجارَّ، ويرتفع «كِتَابٌ» به فاعلاً.

ص: 427

والثاني: أن تجعل الجارَّ مقدماً، و «كِتَابٌ» مبتدأ، والجملة حالٌ، وهذه الحال لازمةٌ.

الوجه الثاني: أنَّ الواو مزيدة، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة:«إلَاّ لَهَا» بإسقاطها، والزيادة ليست بالسهلةِ.

الثالث: أن الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة؛ تأكيداً، قال الزمخشريُّ: والجملة واقعة صفة ل «قَرْيَةٍ» ، والقياس: ألَاّ تتوسط هذه الواو بينهما؛ كما قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] وإنما توسَّطت، لتأكيد لصُوقِ الصفة بالموصوف؛ كما تقول:«جَاءنِي زيْدٌ عليْهِ ثَوبهُ، وجَاءنِي وعليْهِ ثوْبهُ» .

وقد تبع الزمخشري في ذلك أبا البقاء، وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله:{وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] .

قال أبو حيَّان رحمه الله: «ولا نعلم أحداً قاله من النَّحويين» .

قال شهاب الدين: وفي محفوظِي أنَّ ابن جنّي سبقهما إلى ذلك «.

ثم قال أبو حيان:» وهو مبنيٌّ على جواز أنَّ ما بعد «إلَاّ» يكون صفة؛ وقد منعوا ذلك «.

قال الأخفش: لا يفصل بين الصفة والموصوف ب» إلا «، ثم قال: وأما نحو:» مَا جَاءَنِي رجٌلٌ إلَاّ راكِبٌ «على تقدير: إلَاّ رجلٌ راكبٌ، ففيه قُبح؛ لجعلك الصفة كالاسم.

وقال أبو علي: تقول ما مررتُ بأحَدٍ إلَاّ قائماً، وقائماً حالٌ، ولا تقول: إلَاّ قائمٌ؛ لأنَّ» إلَاّ «لا تعترض بين الصِّفة والموصوف.

قال ابن مالكٍ: وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله» مَا مَررْتُ بأحَدٍ إلَاّ زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ «: إنَّ الجملة بعد» إلَاّ «صفة ل» أحَدٍ «: إنه مذهبٌ لا يعرف لبصريِّ، ولا كوفي فلا يلتفت إليه، وأبطل قوله:» إنَّ الواو توسَّطت لتأكيد لصوف الصفة بالموصوف «.

قال شهابُ الدين رحمه الله: قولُ الزمخشريِّ قويٌّ من حيث القياس؛ فإنَّ الصفة في المعنى كالحال، وإن كان بينهما فرقٌ من بعض الوجوه.

فكما أنَّ الواو تدخل على الجملة الواقعة حالاً؛ كذلك تدخل عليها واقعة صفة، ويقويه أيضاً [نصره] به من الآية الأخرى في قوله:{مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] . ويقويه أيضاً: قراءة ابن أبي عبلة المتقدمة، وقال منذرُ بن سعيد: هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ، هي في الزمن قبل الحالة التي

ص: 428

قبل الواو، ومنه قوله تعالى:

{حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] .

فصل

لما توعد مكذِّبي الرسل بقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} الآية أتبعه بما يؤكد الزجر، وهو قوله:{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} في الهلاك والعذاب، أي: أجلٌ مضروبٌ، لا يتقدم العذاب عليه، ولا يتأخر عنه، والمراد بهذا الهلاك: عذاب الاستئصال، وقيل: الموتُ.

قال القاضي: والأول أقرب؛ لأنه أبلغ في الزَّجر، فبيَّن تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترَّ به العاقل. وقيل: المراد بالهلاك مجموع الأمرين.

قوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} «مِنْ أمةٍ» فاعل «تَسْبِقُ» ، و «مِنْ» مزيدة للتأكيد؛ كقولك: ما جَاءنِي من أحَدٍ.

قال الواحدي: «وقيل: ليست بزائدةٍ؛ لأنَّها تفيد التبعيض، أي: هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة، فيكون ذلك في إفادة عموم النَّفي، آكد» .

قال الزمخشري: «معنى:» سَبَقَ «: إذا كان واقعاً على شخصٍ، كان معناه أنَّه [جاز] ، وخلف؛ كقولك: سَبَقَ زيدٌ عمْراً، أي: جَاوزَهُ وخَلفهُ وراءهُ، ومعناه: أنه قصَّر عنه وما بلغه، وإذا كان واقعاً على زمانٍ، كان بالعكس في ذلك، كقولك: سَبٌ فُلانٌ عام كذا، معناه: أنه مضى قبل إتيانه، ولم يبلغه، فقوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} معناه: أنه لا يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده، وإنَّما يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده، وإنَّما يحصل في ذلك الوقت بعينه» .

وحمل على لفظ «أمََّةٍ» في قوله: «أجَلهَا» ، فأفرد وأنَّث، وعلى معناها في قوله:{وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} ، فجمع وذكَّر، وحذف متعلق «يَسْتَأخِرُون» وتقديره: عنه؛ للدلالة عليه، ولوقوعه فاصلاً.

وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل من ما أو قتل، فإنما مات بأجله، وأنَّ من قال: يجوز أن يموت قبل أجله مخطىء.

قوله: «وقَالُوا» ، يعنى مشركي مكَّة {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} ، أي: القرآن، وأراد به محمداً صلى الله وعليه وسلم.

والعامة على: «نُزِّلَ» مشدَّداً، مبنيًّا للمفعول، وقرأ زيد بن علي:«نَزلَ» ، مخفََّاً مبنيًّا للفاعل.

ص: 429

{إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} وذكروا نزول الذِّكر؛ استهزاء، وإنما وصفوه بالجنون، إما لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يظهر عليه عند نزول الوحي، حالةٌ شبيهةٌ بالغشي؛ فظنُّوا أنَّها جنونٌ، ويدلُّ عليه قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} [الأعراف: 184] .

وإما لأنه كانا يستبعدون كونه رسولاً حقًّا من عند الله؛ لأن الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره، فربما قال: به جنون.

قوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} ، «لَوْ مَا» : حرف تحضيضٍ؛ ك «هَلاًّ» ، وتكون أيضاً حرف امتناع لوجودٍ، وذلك كما أنَّ «لولا» متردَّدةٌ بين هذين المعنيين، وقد عرف الفرق بينهما، وهو أنَّ التحضيضيَّة لا يليها إلَاّ الفعل ظاهراً أو مضمراً؛ كقوله:[الطويل]

3263 -

...

...

...

... .

لَوْلَا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا

والامتناعية لا يليها إلا الأسماء: لظفاً أو تقديراً عند البصريين.

وقوله: [الوافر]

3264 -

ولَوْلَا يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً

لمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالِي

مؤولٌ؛ خلافاً للكوفيين.

فمن مجيء «لَوما» حرف امتناعٍ قوله: [البسيط]

3265 -

لَوْمَا الحيَاءُ ولَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكمَا

بِبعْضِ ما فِيكُمَا إذْ عِبْتُما عَورِي

واختلف فيها: هل هي بسيطة أم مركبة؟ .

فقال الزمخشري: «لَوْ» ركبت مع «لا» ، ومع «مَا» ؛ لمعنيين، وأمَّا «هَلْ» فلم تركَّب إلَاّ مع «لا» وحدها؛ للتحضيض.

واختلف أيضاً في «لَوْمَا» هل هي أصلٌ بنفسها، أم فرعٌ على «لَوْلَا» وأنَّ الميم مبدلة من اللام، كقولهم: خاللته، خالمته، فهو خِلِّي وخِلْمِي، أي: صديقي.

وقالوا: استولى على كذا، [واسْتَوَى] عليه؛ بمعنًى، خلاف مشهور، وهذه الجملة من التحضيض، دالةٌ على جواب الشرط بعدها.

ص: 430

فصل في معنى الآية

المعنى: لو كنت صادقاً في أدَّعائك النُّبوَّة، لأتيتنا بملائكة يشهدون عندنا بصدقكم فيما تدَّعيه من الرسالة؛ ونظيره قوله تعالى في الأنعام:{وَقَالُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} [الأنعام: 8] ويحتمل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم َ لمَّا خوَّفهُم بنزول العذاب، قالوا: لو ما تأتينا بالملائكة الذين ينزلون العذاب، وهو المراد من قوله:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] .

ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم بقوله: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلَاّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} فإذا كان المراد الأول، كان تقرير الجواب: أنَّ إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحقِّ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار، أنه لو أنزل عليهم ملائكة، لبقوا مصرِّين على كفرهم، فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً، ولا يكون حقًّا، فلهذا السبب ما أنزل الله تعالى الملائكة.

قال المفسرون: المراد بالحق هنا الموت، أي: لا ينزلون إلا بالموتِ، أو بعذابٍ الاستئصال، ولم يبق بعد نزولهم إنظارٌ، ولا إمهال، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة؛ فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة، وإن كان المراد استعجالهم بنزول العذاب فتقرير الجواب: أنَّ الملائكة لا تنزل إلَاّ بعذاب الاستئصال، ولا تفعل بأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم َ ذلك؛ بل يمهلهم لما علم من إيمان بعضهم، ومن إيمان أولاد الباقين.

قوله: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة} ، قرأ أبو بكر رضي الله عنه:«ما تُنزَّلُ» بضمِّ التاء، وفتح النون، والزاي مشدَّدة، مبنيًّا للمفعول، «المَلائِكةُ» : مرفوعاً لقيامه مقام فاعله، وهو موافقٌ لقوله تعالى:

{وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] ؛ لأنها لا تنزل إلَاّ بأمر من الله تعالى فغيرها هو المنزِّلُ لها، وهو الله تعالى.

وقرأ الأخوان، وحفص: بضمِّ النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الزاي مشددة مبنيًّا للفاعل المعظم نفسه وهو الباري جل ذكره. «المَلائِكةَ» ، نصباً: مفعول به؛ وهو موافق لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} [الأنعام: 111]، ويناسب قوله قبل ذلك:«ومَا أهْلَكْنَا» ، وقوله بعده:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر: 9] ، وما بعده من ألفاظ التَّعظيم.

والباقون من السبعة ما تنزَّلُ بفتح التاء والنون والزاي مشددة، و «المَلائِكةُ» مرفوعة على الفاعلية، والأصل: تَتنَزَّلُ، بتاءين، فحذفت إحداهما، وقد تقدم تقريره في:

ص: 431

{تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] ، ونحوه، وهو موافق لقوله سبحانه وتعالى:{تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} [القدر: 4] .

وقرأ زيد بن علي: «مَا نَزلَ» مخففاً مبنيًّا للفاعل، و «الملائكةُ» مرفوعة على الفاعلية، وهو كقوله:{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعرا: 193] .

قوله: {إِلَاّ بالحق} يجوز تعلقه بالفعل قبله، أو بمحذوف على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبسين بالحق، وجعله الزمخشري رحمه الله نعتاً لمصدر محذوف، أي: إلَاّ تنزُّلاً ملتبساً بالحقِّ.

قوله «إذَنْ» قال الزمخشري: «إذَنْ حرف جواب وجزاء؛ لأنها جواب لهم، وجزاء الشرط مقدر، تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين، وما أخر عذابهم» .

قال صاحب النظم: «لفظة» إذَنْ «مركبة من» إذْ «، وهو اسم بملنزلة» حِينَ «؛ تقول: أتيتك إذْ جِئْتنِي، أي: حِينَ جِئْتنِي، ثم ضم إليه» إنْ «فصار: ِإذْ أنْ، ثما استثقلوا الهمزة؛ فحذفوها، فصار» إذَنْ «، ومجيْ لفظة» أنْ «دليل على إضمار فعلٍ بعدها، والتقدير: وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا» .

قوله: «نَحْنُ» إما مبتدأ، وإما تأكيدٌ، ولا يكون فصلاً؛ لأنه لم يقع بين اسمين، والضمير «لَهُ» للذكر، وهو الظاهرُ، وقيل: للرسول صلوات الله وسلامه عليه قاله الفراء، وقوَّاه ابن الأنباري، قال: لما ذكر الله الإنزال، والمنزل، دلَّ ذلك على المنزل عليه، فحسنت الكناية عنه؛ لكونه أمراً معلوماً، ك ما في قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] فإنَّ هذه الكناية عائد على القرآن، مع أنه لم يتقدم ذكره؛ وإنما حسنت الكناية لسبب معلوم، فكذا هاهنا، والأول أوضحُ «.

فإذا قلنا: الكناية عائدة إلى القرآن، فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن؟ .

فقيل: بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر يعجز الخلق عن الزيادة، والنقصان فيه، بحيث لو زادوا فيه أو نقصوا عنه، بغير نظم القرآن.

وقيل: صانه، وحفظه من أن يقدر أحدٌ من الخلق على معارضته.

وقيل: قيَّض جماعة يحفظونه، ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاءِ التكليفِ.

وقيل: المراد بالحفظِ: هو أنَّه لو أنَّ احداً حاول تغيير حرفٍ أو نقطةٍ، لقال له أهل الدنيا: هذا كذب، وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتَّفق له لحنٌ أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان: أخطأت أيُّها الشيخ،

ص: 432

واعلم أنه لم يتفق لشيءٍ من الكتب مثل هذه الحفظ؛ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف، والتحريف، والتغيير، إما في الكثير منه، أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التَّحريف، مع أنَّ دواعي الملاحدة، واليهود، والنصارة، متوفرة على أبطاله وإفساده، فذلك من أعظم المعجزات.

فإن قيل: لم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف، وقد وعد الله عز وجل بحفظه وما حفظ الله عز وجل فلا خوف عليه؟ .

فالجواب: أنَّ جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه، فيَّضهم لذلك، وفي الآية دلالةٌ قويةٌ على كون البسملةِ آية من كل سورة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد وعد بحفظ القرآن، والحفظُ لا معنى له إلَاّ أن يبقى مصُوناً عن التغيير وعن الزيادة، وعن النقصان فلو لو تكن التسمية آية من القرآن، لما كان مصوناً من التغيير والزيادة، ولو جاز أن يظنَّ بالصحابة رضي الله عنهم أنهم زادوا، لجاز أيضاً أن يظنَّ بهم النقصان؛ وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجَّة، وهذا لا دليل فيه؛ لأن أسماء السور أيضاً مكتوبةٌ معهم في المصحف، وليست من القرآن بالأجماع.

ص: 433

قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} مفعوله محذوف، أي: أرسلنا رُسُلاً {مِن قَبْلِكَ} ف {مِن قَبْلِكَ} يجوز أن يتعلق ب «أرْسَلْنَا» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه نعتٌ للمعفو ل المحفوف.

و {فِي شِيَعِ الأولين} ، قال الفراء: هو من إضافة المصوف لصفته، والأصل: في الشِّيعِ الأوَّلين؛ كصَلاةِ الأولى، وجَانبِ الغربي حقِّ اليَقينِ، وجين القيمة.

والبصريون: يؤولنه على الحذف [الموصوف، أي: في شيعِ الأممِ الأولين، وجانب المكان الغربي، وصلاةِ السَّاعةِ الأولى.

والشِّيعُ: قال الفراء: الشَّاعُ واحدهم: شِيعَة، وشِيعَةُ الرجُلِ: أتْباعهُ، والشِّيعَةُ: وهم القوم المجتمعة المتفقة، سموا بذلك؛ لأن بعضهم يُشَاعُ بعضاً، وتقدم الكلام على هذا الحرف عند قوله تعالى:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام: 65] .

ص: 433

قوله: {وَمَا يَأْتِيهِم} قال الزمخشري: «حكاية حال ماضية؛ لأنَّ» مَا «لا تدخل على المضارع إلَاّ وهو في موضعِ الحالِ، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال» .

وهذا الذي ذكره هو الأكثر في لسانهم؛ لكنَّه قد جاءت ما مقارنة للمضارع المراد به الاستقبال؛ كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} [يونس: 15]، وأنشدوا للأعشى يمدحُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم َ:[الطويل]

3266 -

لَهُ نَافِلاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُهَا

ولَيْسَ عطَاءُ اليَوْمِ مَانِعَهُ غَدا

وقال أبُو ذؤيب: [الكامل]

3267 -

أوْدَى بَنِيَّ وأوْدَعُونِي حَسْرَةً

عِنْدَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً مَا تٌقلِعُ

قوله: «إلا كانوا» هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من مفعول «تَأتيهم» ، ويجوز أن تكمون صفة ل «رسُولٍ» فيكون في محلِّها وجهان الجرُّ باعتبار اللفظ، والرفع باعتبار الموضع، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مُقدَّرةٌ.

فصل في معنى الآية

المعنى: أنَّ عادة هؤلاء الجهَّال مع جميع الأنبياء والرسول صلوات لله وسلامه عليهم الاستهزاءُ بهم؛ كما فعلًُوا بك؛ ذكره تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم َ.

واعلم أنَّ السَّبَبَ الذي يحمِلُ هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة: إما لأنَّ الانتقال من المذاهب يشقُّ على الطِّباع.

وإمَّا لكونِ الرسول صلوات الله وسلامه عليه يكون فقِيراً، وليس له أعوان، ولا أنصارٌ؛ فالرؤساءُ يَثقُل عليهم خدمة من يكون بهذه الصِّفة.

وأمّا خذلانُ الله تعالى لهم، فبإلقاء دواعي الكفرِ والجهلِ في قلوبهم، وهذا هو السبب الأصليّ.

قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} ، يجوز في الكاف أن تكون مرفوعة المحلِّ على خبرها متبدأ مضمر، أي: الأمر كذلك، و «نَسْلكهُ» مستأنف، ويجوز أن

ص: 434

تكون منصوبة المحل، إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: مثل ذلك السلك؛ ويجوز نسلكه، أي: نسلكُ الذكر، إما ح حالاً من المصدر المقدَّر، والهاء في «نَسْلكُهُ» يجوز عودها للذكر، وهو الظاهر، وقيل: يعود للاستهزاء، قيل: على الشركِ.

والهاء في «بِهِ» يجوز عودها على ما تقدم من الثَّلاثة، ويكون تأويلُ عودها على الاستهزاء والشرك، أي: لا يؤمنون بسببه.

وقيل: للرسول صلوات الله وسلامه عليه وقيل: للقرآن.

وقال ابو البقاء: «ويجوز أن يكون حالاً، أي: لا يؤمنون مستهزئين» كأنه جعل «بِهِ» متعلقاً بالحالِ المحذوفة قائمة مقامها.

وهو مردودٌ، لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلة أو خبراً، تعلَّق بكون مطلق لا خاصِّ، وكذا الظرف.

ومحل «لا يُؤمِنُونَ» النَّصب على الحالِ، ويجوز ألَاّ يكون لها محلٌّ؛ لأنها بيان لقوله {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} ، وقوله تعالى:{وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} استئنافٌ، والسَّلكُ: الإدخال، يقال: سَلكْتُ الخَيْطَ في الإبْرةِ، والرُّمحَ في المَطْعُونِ ومنه {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] .

قال أبو عبيدة، وأبو عبيد: يقال: سَلكْتهُ وأسْلَكتهُ، أي: نظمته، قال:[الوافر]

3268 -

وكُنْتُ لِزازَ خَصْمكَ لَمْ أعَرِّدْ

وقَدْ سَلكُوكَ في يَوْمٍ عَصِيبِ

وقال الآخر في «أسْلكَ» : [البسيط]

3269 -

حتَّى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدةٍ

شَلاًّ كَمَا تَطْردُ الجَمَّالةُ الشُّردا

فصل في المعنى الإجمالي للآية

ق ل الزجاج: المعنى: قد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضَّلال في قلوبهم.

وقيل: نه تهديدٌ لكفار مكة، أي: قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من القرون الماضية، والأول أليق بظاهر اللفظ.

قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء} الآية، هذا هو المراد في سورة الأنعام، في قوله تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] الآية يعني: أنَّ

ص: 435

الذين يقولون: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7] ، فلو أنزلنا الملائكة «،» فظلُّوا فيه «أي: فظلت الملائكة فيها» يَعْرجُونَ «، وزهم يرونها عياناً.

و» ظلَّ «هذه الناقصة، والضمير في» فظَلُّوا «يعود على الملائكةِ، وهو الصحيح وقال الحسن رضي الله عنه: يعود على الكفَّار المفتح لهم الباب.

وقرأ الأعمش، وأبو حيوة» يَعْرجُونَ «بكسر الراء؛ وهي لغةُ هذيل في عَرَجَ: يَعْرِجُ، أي: صعد.

قوله

: {لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} قرأ ابن كثير:» سُكِرَتْ «مبنياً للمعفول، مخفَّف الكاف، وباقي السبعة كذلك إلا أنهم شدَّدوا الكاف، والزهري: بفتح السين، وكسر الكاف خفيفة مبنياً للفاعل.

فأما القراءة الأولى: فيجوز أن تكون بمعنى المشددة؛ فإن التخفيف يصلح للقليل والكثير، وهما مأخوذتان من: السِّكر، بكسر السين، هو السَّدُّ.

والمعنى: حُبِسَتْ أبصارنا، وسُدَّت، وقيل: بمعنى: أخذت، وقيل: بمعنى: سُحِرَت، وقيل المشدد من: سَكِرَ الماءُ بالكسر، والمخفف من سَكُرَ الشَّراب بالضم.

والمشهور أن» سَكِرَ «لا يتعدى فيكف بُنِي للمفعول؟ .

فقال أبو علي:» يجوز أن يكون سمع متعدِّياً في البصر «.

والذي قاله المحقِّقون من أهل اللغةِ: أنَّ» سَكِر «إن كان من:» سَكِرَ الشَّرابُ، أو مِنْ سَكِرَ الرِّيحشُ «فالتضعيف فيه للتعدية، وإن كان من» سَكِرَ الماءً «فالتضعيف فيه للتكثير؛ لأنه متعد مخفَّفاً، وذلك أنه يقال: سَكرَت الرِّيحُ تَسْكرُ سَكْراً، إذا رَكدَت، وسَكِرَ الرَّجلُ منَ الشِّرابِ سَكْراً، ذا رَكَدَ، ولم ينقد لحاجته.

فهذان قاصران فالتضعيف فيها للتعدية، ويقال: سَكِرتُ الماء في مجاريه: إذا منعتهُ من الجَرِّي، فهذا متعدِّ، فالتضعيف فيه للتكثير.

وأما قراءةٌ ابن كثير: فإن كانت من «سَكِرَ الماءًُ» فهي واضحةٌ؛ لأنه متعدِّ، وإن كانت من «سَكُرَ الشَّرابُ أو سَكِرَ الرِّيحُ» فيجوز أن يكون الفعل استعمل لازماً تارة، ومتعدياً أخرى، نحو:«رَجَعَ زيْدٌ» ، ورَجَعه غَيْرُه، وسَعِندَ وسَعِدَه غَيْرُه «وقال الزمخشريُّ:»

ص: 436

وسُكِّرَتْ: حُيِّرت أو حبست من السِّكرِ أو السُّكر، وقرىء:«سُكرَتْ» بالتخفيف، أي: حُبسَتْ كمَا يُحْبَسًُ المُهْرُ عنِ الجري «، فجعل قراءة التشديد محتملة لمعنيين، وقراءة التخفيف محمتلة لمعنى واحدٍ.

وأما قراءة الزهريِّ، فواضحةٌ، أي: غطيت، وقيل: هي مطاوع: اسْكرتُ المكان فَسَكرَ: أي: سَددْتهُ فانْسَدَّ.

{بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} ، أي عمل فينا السِّحْرُ، وسحرنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم َ.

فإن قيل: كيف يجوزز من الجماعة العظيمة أن يكونوا شاكِّين في وجود ما يشهدونه بالعين السليمة في النهار الوضاح؛ ولو جاز حصول الشكِّ في ذلك، ك انت السَّفسطةٌ لازمة، ولا يبقى حنيئذٍ اعتمادٌ على الحس والمشاهدة؟ .

أجاب القاضي رحمهن الله: بأنه تعالى ما وصفهم بالشكِّ فيما يبصرون، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول، وقد يجوز أن يقدم الإنسانُ على الكذب على سبيل العنادِ والمكابرة، ثم سأل نفسه، أيصحُّ من الجمع العظيم أن يظهر الشك في المشاهدات؟ .

وأجاب: بأنه يصحُّ ذلك، إذا جمعه9م عليه غرضٌ صحيحٌ معتبر من مواطأةٍ على دفع حجَّةٍ أو غلبة خصم، وأيضاً: فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين، سألُوةا الرسول صلى الله عليه وسلم َ إنزال الملائكةِ، وهذا السؤال إنما كان من رؤساءِ القوم، وكانوا قليلي العددِ، وإقدامُ العددِ القليلِ على ما يجري مجرى المكابرة، جائزٌ.

قوله:» فظلُوا «يقال: ظلّ فُلانٌ نَهارهُ يفعل كذا: إذا فعلهُ بالنَّهارِ، ولا تقول العربُ:» ظَلّ يَظَلْ «إلَاّ لكلِّ عملٍ بالنهارِ؛ كما لا يقولون: بَاتَ يَبِيتُ إلا بالليل، والمصدر الظُّلُول.

والعُروجُ: الصُّعودُ، يقال: عَرَج يَعْرجُ عُرُوجاً، ومنه: المَعَارجُ، وهي المصاعدُ التي يصعد عليها.

فإن قلنا: إن الضمير في:» فَظلُّوا «للملائكة، فقد تقدم بيانه، وإن قلنا: يعود على المشركين، فقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما:» فظلَّ المشركون يصعدون في تلك المعارج، وينظرون إلى ملكوتِ الله سبحانه وتعالى وقدرته، وسلطانه، وإلى عباده، وملائكته عليهم السلام لشكُّوا في تلك الرؤية، وأصرُّوا على جهلهم وكفرهم؛ كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاقِ القمرِ، ومجيء القرآن الذي لا يستطيع الجنُّ والإنس أن يأتوا بمثله «.

ص: 437

قوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} الأية، «جَعلْنَا» : يجوز أن يكون بمعنى «خَلقْنَا» فيتعلق به الجارُّ، وأن يكون بمعنى صيِّرنا؛ فيكون مفعلوه الأول:«بُرُوجاً» ومفعوله الثاني: الجارَّ، فيتعلق بمحذوفٍ، و «للنَّاظِرينَ» متعلق ب «زَينَّاهَا» ، والضمير ل «السَّماءِ» أي: زيَّناها بالشَّمس، والقمرِ، والنجوم.

وقيل: للبروج: وهي الكواكب، زَّنَّاها بالضوءِ، والنظر عينيّ.

وقيل: قلبي وحذف متعلقة؛ ليعُمَّ.

فصل في دلائل التوحيد السماوية والأرضية

لما أجاب عن منكري النبوة، وقد ثبت أنَّ القول بالنبوةِ فرعٌ على القول بالتوحيد، أتبعه تعالى بدلائل التوحيد وهي: منها سماويَّة، ومنها أرضية، فبدأ بذكر السماوية، فقال وعَزَّ وَجَلَّ:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} .

قال اللَّيثُ رحمه الله: البُرُوج واحدها بُرْج من بُروجِ الفلك، والبُرُوج: هي النجوم الكبار، مأخوذة من الظهور، يقال: بَرجَتِ المرأةُ، أي: ظهرت، وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس، والقمر، والكواكب السيارة.

والعرب تعدُّ المعرفة بمواقعِ النُّجوم، وأبوابها من أجلِّ العُلومِ، ويستدلُّون بها على الطُّرقاتِ، والأوقاتِ، والخصب، والحدْبِ، وقالوا: الفلكُ: اثنَا عشر بُرْجاً، كلُّ برجٍ ميلان، ونصر للقمر.

وقال ابن عطية: هي قصورٌ في السماءِ، وعليها الحرسُ.

{وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} مَرجُومٍ، وقيل: ملعُون.

قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه كانت الشياطين لا يحجبون عن السمواتِ، وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها؛ فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى صلوات الله وسلامه عليه منعوا من ثلاث سماواتٍ، فلما ولد محمدٌ صلى الله عليه وسلم َ من السموات أجمع، فما منهم من أحدٍ يريد استراق السمع، "إلَاّ رمي بشهابٍ.

ص: 438

فلمَّا منعُوا من تلك المقاعد، ذكروا ذلك لإبليس، فقال: حدث في الأرض حدثٌ، قال: فبعثهم، فوجد رسول الله صلواتالله وسلامه عليه يتلوا القرآن، فقالوا والله حدث.

فإن قيل: ما معنى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} والشيطانُ لا قدرة له على هدم السماء، فإيُّ حاجة إلى حفظ السماء منه؟ قلنا: لما منعمه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان، فحفظ الله السماء منهم، كما قد يحفظ منازلنا ممَّن يخشى منه الفساد.

والرَّميُ في اللغة: الرميُ بالحجارة، والرَّجمُ أيضاً: السبُّ والشتمُ؛ لأنه رميٌ بالقولِ القبيح، والرجمُ: القول بالظنِّ؛ ومنه قوله تعالى: {رَجْماً بالغيب} [الكهف: 22] ؛ لأنه يرميه بذلك الظنِّ، والرجم أيضاً: اللَّعن، والطَّرد.

قوله: {إِلَاّ مَنِ استرق} فيه خمسة أوجه:

أحدهما في محل نصب على الاستثناء المتصل، والمعنى: فإنها لم تحفظ منه؛ قاله غير واحدٍ.

الثاني: منقطعٌ ومحله النصب أيضاً، أي: لكن من استرق السمع. قال الزجاج رحمه الله.

موضع «» مَنْ «نصبٌ على التقدير، قال:» وجاز أن يكون في موضع خفض، والتقدير: إلا ممَّن «.

الثالث: أنه بدلاٌ من» كُلِّ شَيطانٍ «فيكون محله الجرَّ، قاله الحوفي، وأبو البقاءِ، وتقدم عن الزجاج، وفيه نظر؛ لأن الكلام موجبٌ.

الرابع: أنه نعتٌ ل» كُلِّ شَيْطانٍ «فيكون محله الجر، على خلاف في هذه المسألة.

الخامس: أنَّه في محلِّ رفع بالابتداءِ، وخبره الجملة من قوله تعالى:{فَأَتْبَعَهُ} ، وإنما دخلت الفاء؛ لأنَّ» مَنْ «إمَّا شرطيةٌ، وإمَّا موصولةٌ، مشبهةٌ بالشرطية. قاله أبو البقاء وحينئذٍ يكونُ من باب الاستثناءِ المنقطعه.

والشِّهَابُ: الشُّعلةُ مِنَ النَّارِ، وسُمِّي بها الكوكبُ؛ لشدَّة ضَوئِه، وبَريقه، وكذلك سُمَّي السِّنانُ شِهَاباً، ويجمع على:» شُهُبٍ «في الكثرةِ، و» أشْهُبٍ «في القلَّة، والشُّهْبَةُ: بياضٌ مختلطٌ بسوادٍ؛ تَشْبِيهاً بالشِّهاب؛ لاختلاطه بالدُّخانِ، ومنه: كَتيبةٌ شهباءُ لسوادِ القَوْمِ، وبياض الحديدِ، ومِنْ ثمَّ غلط الناس في إطلاقهم الشُّبهة على البياضِ الخالص.

وقال القرطبيُّ:» أتْبَعَه «: أدركهُ ولَحِقهُ، شهابٌ مُبِينٌ، أي: كوكبٌ مُضيءٌ، وكذلك:{بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] أي: شُعلة نارٍ في رَأسِ عُودٍ، قاله ابن عزيزٍ؛ وقال ذُو الرُّمَّ:[البسيط]

ص: 439

3270 -

كَأنَّه كَوكَبٌ فِي إثْرِ عِفْريَةٍ

مُسَوَّمٌ فِي سَوادِ اللَّيْلِ مُنْقَضبُ

وسُمِّي الكَوكَبُ شِهَاباً، لأنَّ بَريقَهُ يُشْبِه النَّار.

وقيل: شهابٌ شُعلة من نار تبين لأهل الأرضِ، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقتهم، كما إذا أحرقت النارُ، لم تعد، بخلاف الكواكب فِإنه إذا أحرق، عاد إلى مكانه.

فصل

قال ابن عبَّاسٍِ رضي الله عنه:» إلَاّ مِنَ اسْترقَ السَّمْعَ «يريد الخفطة اليسيرة، وذلك أن الشياطين يركبُ بعضهم بعضاً إلى سماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة، فيُرمون من الكواكب، فلا تخطيء أبداً، فمنهم من يقتله، منهم من يحرقُ وجهه وجنبه ويده حيث يشاء الله، ومنهم من تخبله؛ فيصير غولاً؛ فيقتل الناس في البراري.

روى أبو هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ» إذَا قَضَا اللهُ الأمْرَ فِي السَّماءِ، ضَربَتِ المَلائِكةُ بأجْنِحَتهَا خضعاناً لقوله كَأنَّه سِلسِلَةٌ على صِنْوانٍ، فإذَا فزعَ عَنْ قُلوبِهمْ، قالوا: مَاذَا قَال ربُّكُمْ؟ قَالُوا: الَّذي قَالَ الحَقُّ وهُوَ العليُّ الكَبيرُ، فَيُسْمعها مُسْترِقُ السَّمع، مُسْترِقُ السمعِ هَكَّذَا بَعضهُ فَوْقَ بَعْضٍ، ووَصفَ سُفْيَانُ بِكفِّه فحرَّقها وبدَّدَ بيْنَ أصَابعهِ، فيَسْمَعُ الكَلِمة، فيُلْقِهَا إلى مَنْ تَحْتهُ ثُمَّ يُلْقيها الآخرُ إلى مَنْ تَحْتهُ، حتَّى يُلقِيهَا على لِسانِ السَّاحر، والكَاهنِ، ورُبّضما أدْركهُ الشِّهابُ قبْلَ ِِأنْ يلقِيهَا، ورُبَّما ألْقَاهَا قبلَ أن يُدرِكَهُ، فيَكذِب مَعَهَا مِائةَ كِذْ، فيقالُ: ألَيْس قد قَالَ لَنَا اليَوْمَ كَذَا وكَذَا، فيصدق بتِلْكَ الكَلمةِ الَّتي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ «.

وهذا لم يكن ظاهراً قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم َ ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمانه عليه السلام وإنما ظهر في بدء أمره وكان ذلك أساساً لنبوته صلى الله عليه وسلم َ.

قال يعقوب من عتبة بن المغيرة بن الأخنسِ بن شريق: إنَّ أول من قرع للرَّمي بالنجوم، هذا الحيُّ من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجُلٍ منهم يقال له: عمر بنُ امَّة، أحدُ بني علاج، وكان أدْهَى العرب، فقالوا له: ألَمْ تَرَ مَا حَدثَ في السماء من القذف بالنُّجُومِ؟ قال: بلى فانظروا، فإن كانت معالمُ النجوم التي يُهْتدَى بها في البرِّ، والبَحْر، ويعرف بها الأنواءُ من الصيف، والشتاء، لما يصلحُ الناس من معايشهم، هي التي يرمى بها، فهي والله طيُّ الدنيا، وهلاك الخلق الذين فيها، وإن كان نجوماً غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهذا الأمر أراد

الله لهذا الخلق.

قال معمرٌ: قلت للزهريِّ: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قال:

ص: 440

أفرأيت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] الآية قال: وقد غلظتْ، وشدِّد أمرها حيث بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.

قال ابن قتيبة: إنَّ الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم َ.

وقيل: إن النجم ينقضُّ، ويرمي الشيطان، ثم يعود إلى مكانه.

فصل

قال القرطبي: «اختلفوا في الشِّهاب: هل يقتل أم لا؟ .

فقال ابن عباس رضي الله عنهما الشِّهاب يَجرح، ويَحرِقُ، ويُخْبلُ، ولا يَقْتلُ.

وقال الحسنُ، وطائفةٌ: يقتل، فعلى هذا في قتلهم بالشهب قبل إلقائها السمع إلى الجنِّ قولان:

أحدهما: يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن، ولذلك ما يعودون إلى استراقه.

والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم، ولو لم يصل لا نقطع الاستراق، وانقطع الاحراقُ، ذكره الماوردي» .

قال القرطبي: «والقول الأول أصح؛ على ما يأتي بيانه في» الصافات «» .

فصل

قال ابن الخطيب: «في هذا الموضع أبحاثٌ دقيقة على ما ذكرناها في سورة الملك، وفي سورة الجن، ونذكر ههنا إشكالاً واحداً وهو: أنّ لقائل أن يقول: إذا جوَّزتم في الجملة، أن يصعد الشيطان إلى السماوات، ويختلط بالملائكةِ، ويسمع أخبار الغيوب منهم، ثم إنه ينزل، ويلقي تلك الغيوب، فعلى هذا يجب أن يخرج الإخبار عن المغيَّبات عن كونه معجزاً، لأنَّ كل غيبٍ يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم َ يقوم فيه هذا الاحتمال؛ فيخرجُ عن كونه معجزاً دليلاً عل الصدقِ، ولا يقال: إن الله تعالى أخبر عنهم أنَّهم عجزوا بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم َ؛ لأنَّا نقول: هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ وبكون القرآن الكريم حقًّا، والقطع بهذا، لا يمكن إلَاّ بواسطة المعجز، وكون الإخبار عن الغيب معجزاً، ولا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال، وحينئذٍ يلزم الدور، وهو محالٌ باطلٌ.

ويمكن أن يجاب عنه: بانا نثبت كون محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ رسولاً، بسائر المعجزات، ثم بعد

ص: 441

العلم بنبوته، نقطع بأن الله عَجَّزَ الشياطين عن تلقف الغيب، وبهذا الطريق يندفع الدَّور «.

قوله: {والأرض مَدَدْنَاهَا} » الأرْضَ «: نصبٌ على الاشتغال، ولم يقرأ بغيره؛ لأنه أرجع من حيث العطف على جملة فعلية قبلها، وهي قوله:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} [الحجر: 16] .

وقال أبو حيَّان:» ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية، كان النَّصب أرجح من الرفع «.

قال شهاب الدين: لَمْ يعدُّوةا هذا من القرائن المرجحة للنصب، إنما عندو عطفها على جملة فعلية قبلها، لا عطف جمعلة فعلية عليها، ولكنه القياس، إذ يعطف فيه فعلية على مثلها، بخلاف ما لو رفعت، إذ تعطف فعلية على اسمية، لكنهم لم يعتبروا ذلك.

والضمير في» فِيهَا «: للأرض. وقيل: للرَّواسي. وقيل: لهما.

فصل

لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التَّوحيد، أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع:

الأول: قوله: {والأرض مَدَدْنَاهَا} قال ابن عباسٍ: بسطناها على وجه الماءِ، وبسطت من تحته الكعبة.

النوع الثاني: قوله: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبال الثوابت واحدها راسٍ، والجمع راسية وجم الجمع رواسي، قال ابن عباسٍ: لما بسط الله الأرض على الماء، مالت بأهلها كالسفينة؛ فأرساها الله بالجبال؛ لكيلا تميل بأهلها.

النوع الثالث: قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} ، يجوز فِي» مِنْ «أن تكمون تبعيضية، وهو الصحيح، وأن تكون مزيدة عند الكوفيين، والأخفش، والضمير في قوله:» فِيهَا «يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض، وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي، إلَاّ أنَّ رجوعها إلى الأرض أولى؛ لأن أنواع النبات المنتفع بها، إنما تتولَّد في الأرض، وأما الجبلية، فقليلة النفع.

وقيل: رجوع الضمير إلى الجبال أولى؛ لأنَّ المعادن من الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وغيرها؛ إنَّما تتولد في الجبال، والأشياء الموزونة في العرف والمعادة، هي المعادن لا النبات.

وفي المراد بالموزون وجوه:

قيل: المقَّدر بقدر الحاجة، أي: أنَّ الله تعالى يثبت ذلك المقدر بقدر ما يحتاج

ص: 442

إليه الناس؛ لقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وقوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] .

وقيل: المناسب المطابق للحكمة كقولهم: كلامٌ موزونٌ، أي: متناسب بعيد عن اللغو، والمعنى: موزونٌ بميزان الحكمة، والعقل.

وقيل: موزونٌ؛ بمعنى أنَّ الذي تنبته الأرض نوعان: المعادنُ، والنباتُ، أما المعادن: فهي بأسرها موزنة، وأما النبات: فيرجع عاقبته إلى الوزنِ، كالمخترف، والفواكة في الأكثر.

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} جحمع معيشة، أراد الله بها المطاعم، والمشارب، والملابس، وقيل: ما يعيش به المرءُ في الدنيا، وقد تقدَّم الكلام على المعايش في الأعرافِ.

قوله تعالى: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} ، يجوز في خمسة أوجه:

أحدها: قول الزجاج: أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ، تقديره: وأغنينا من لستم له برازقين، كالعبد، والدَّواب، والوحوش.

الثاني: أنه منصوب عطفاً على «مَعايِشَ» ، أي: وجعلنا لكم فيها معايش ومن لسْتُمْ له برازقين من الدَّواب المنتفع بها.

الثالث: أنه منصوب عطفاغً على محل «لَكُمْ» .

الرابع: أنه مجرور عطفاً على «كُمْ» المجرور بها اللام؛ وجاز ذلك من غير إعادة الجار على رأي الكوفيين، وبعض البصريين، وتقدم تحقيقه في البقرة، عند قوله:{وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] .

الخامس: أنه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، أي: ومن لستم له برازقين، جعلنا له فيها معايش، وسمع من العرب: ضربت زيداً، وعمروا، برفع «عمرو» ؛ مبتدأ محذوف الخبر، اي: وعمرو ضربته، و «مَنْ» يجوز أن يراد بها العقلاء، أي: من لستم له برازقين من مواليكم الذين تزعمون أنكم ترزقونهم، أو يراد بها غير العقلاء، أي: من لستم له برازقين من الدوابِّ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم؛ قال الله تعالى:{فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45]، وقال سبحانه:{يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] فذكرها بصيغة جمع العقلاء، ويجوز أن يراد بها النوعان؛ وهو حسنٌ لفظاً ومعنًى.

قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ} ، و «إنْ» : نافية، و «مِنْ» مزيدة في المبتدإ، و «عِنْدَنَ» خبره، و «خَزائِنهُ» فاعل به؛ لاعتماده على النَّفي، ويجوز أن يكون «عِندَنَا» خبراً ل «ما» بعده، والجملة خبر الأولى، والأولى أولى؛ لقرب الجارِّ من المفرد.

ص: 443

قال الواحدي: «الخَزائِنُ: جمع الخِزانَة، وهي اسمُ المكمان الذي يُخْزنُ فيه الشيء، أي: يحفظ، والخِزانةٌ أيضاً عمل الخازن، ويقال: خَزَنَ الشَّيء يَخْزنهُ، إذ أحْرزَهُ» .

و «خَزَائِنهُ» هو المطر؛ لأنه سبب الأرزاق، والمعايش لبني آدم، وسائر الحيوانات.

قوله: «إلَاّ بقدَرٍ معلوم» يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنهخ حالٌ من المفعول، اي: إلا ملتبساً بقدرٍ.

قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد: قدر الكفايةِ، لكل ارضِ حدُّ مقدرٌ، وقال الحكم: ما من عامٍ بأكثر مطرٍ، من عام آخر؛ ولكنه يمطر قومٌ، ويحرمُ آخرون، وربما كان في البرح، يعني أنه تعالى ينزل المطر كلَّ عامٍ بقدرٍ معلومٍ، غير أنَّه يصرفه إلى من يشاء حيث يشاء.

ولقائل أن يقول: لفظ الآية لا يدلُّ على هذا المعنى، فإن قوله تعالى:{وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} ، لا يدلُّ على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوامِ على قدر واحد، فتفسير الآية بهذا المعنى تحكُّمٌ بغير دليلٍ.

وقال ابنُ الخطيب: «وتخصيص قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} بالمطر تحكم محضٌ؛ لأن قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ} يتناول جميع الأشياء، إلا ما خصه الدليل» .

روى جعفر، عن محمدٍ، عن أبيه، عن جده، قال: في العرش مثال جميع ما خلق الله في البر، والبحر، وهو تأويل قوله:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} .

قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} الآية «لَواقِحَ» : حاتلٌ مقدرة من «الرِّياحِ» ، وفي اللواقح أقوال:

أحدها: أنها جميع «مُلْقِح» ؛ لأنه من ألْقَحَ يُلقحُ، فهو ملقحٌ، وجمعه مَلاقح، فحذفت اليمم؛ تخفيفاً، يقال: ألْقحَتِ الريحُ السَّحاب، كما يقال: ألْقحَ الفَحْلُ الأنثَى؛ ومثله: الطَّوائِحشُ، وأصله المطارحُ؛ لأنه من أطَاحَ يُطِيحُ، قال:[الطويل]

3271 -

لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخصًومَةٍ

ومُخْتَبِطٌ ممَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ

وهذا قول أبي عبيدة.

والثاني: أنه جمع لَاقِح، يقال: لقَحَتِ الريحُ: إذا حملتِ الماء، وقال الأزهري: حَوامِلُ تَحْمِلُ السَّحابَ؛ كقولك: ألقحتِ الناقةُ، فلَقِحتْ، إذا حملتِ الجَنين: َ في بَطْنِهَا، فشُبِّهتِ الريحُ بِهَا؛ ومنه قوله:[الطويل]

ص: 444

3272 -

إذّا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوانٌ مُضرَّةٌ

ضَرُوسٌ تُهِرُّ النَّاس أنْيَابُهَا عُصْلُ

الثالث: أنَّها جمع لاقحٍ، على النسب؛ كالابنِ وتامرِ، أي: ذات لقاحٍ، لأنَّ الرِّحَ إذا مَرَّت على الماءِ، ثُم مرَّت على السَّحابِ، والماءِ، كان فيها لقاحٌ قاله الفراء.

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرياحُ لوَاقِحُ الشَّجر والسَّحاب؛ وهو قول الحسن، وقتادة، والضحاك؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب؛ وأصله من قولهم: لقَحتِ الناقة، وألْقَحَهَا الفحلُ، إذا ألقى الماء فيها فحملت.

قال ابن مسعودٍ في تفسير هذه الآية: بعث الله الرياحَ؛ لتلقيح السحاب، فتحمل الماغء، وتمجّه في السحاب، ثم إنه يعصرُ السحاب، ويدره كما يدر اللقحة.

وقال عبيدٌ بن عيمر: يبعثُ الله الريح المبشرة، فتقم الأرض قماً، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث المؤلفة، فتؤلف السحاب بعضه إلى بعضٍ، فتجعله ركاماً، ثم ثبعث اللوَاقِحُ الشَّجر ثم تلا عبيد:«وأرسلنا الرياح لواقح» قال أبو بكر بنِ عيَّاشٍ رضي الله عنه: لا تقطر القطرةُ من السماء إلا بعد أن تعمل الرياحُ الأربعة فيها، فالصَّبا تُهيِّجه، والشَّمالُ تَجمعُه والجَنوبُ تُدرُّه، والدَّبُور تُفرِّقه.

فصل

قال القرطبيُّ: «روي عن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} ، أي: ذوات لقح، فلقاحُ القمح عندي أن يحبب ويسنبل، ولقاح الشَّجر كُلها: أن تثمر ويسقط منها ما يسقط، ويثيبت منها ما يثبت» .

قال ابن العربيِّ رحمه الله: إنما عوَّل مالكٌ على هذا التفسير على تشبيه الشجر بلقاح الجملِ، وإنَّ الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه من الروحُ، كان بمنزلةِ تحبب الثَّمر، وتسنبله؛ لأنه سمِّي باسم تشتركُ فيه كلُّ حاملةٍ، وهو اللِّقاحُ، وعليه جاء الحديث:

«نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ عَنْ بَيْعِ الحبِّ حتَّى يَشْتد» .

قال ابن عبد البرِّ: «الإبارُ عند أهل العلم في النخل: التَّلقيحُ، وهو أن يأخذ شيئاً

ص: 445

من طَلع ذكور النخلِ؛ فيدخله بين ظهراني طلع الإناث، [ومعنى] ذلك في سائر الثمار [ظهور الثمرة] من التِّين، وغيره، حتَّى تكون الثَّمرة مرئية، حين ينظر إليها، والمعتبر عند مالك رضي الله عنه وأصحابه فيما يذكر من الثِّمار التذكر، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط، وفي الزروع ظهوره من الأرض» .

فصل

قال عليه الصلاة ولاسلام «مِنَ ابتَاعَ نَخْلاً بَعْندَ أن تُؤبَّر، فَثمَرتُهَا لِلبَائعِ، إلَاّ أن يَشْترِطَ المُبتَاعُ» فلا يدخل الثمر المؤبَّر مع الأصولِ ف يالبيع إلا بالشرط؛ لأنها موجودة يحاطُ بها أَمَنَةً من السقوط غالباً، بخلاف التي لم تؤبَّر، إذ ليس سقوطها غالباً، بخلاف التي لم تؤبر، إذ ليس سقوطها مأموناً، فلم يتحقق لها وجود، فلم يجز للبائع اشتراطها، ولا استثناؤها؛ لِأنها كالجنين.

فصل هل يجوز لمن اشترى النخل فقط أن يشتري الثمر قبل طيبه؟

اشترى النَّخل، وبقي الثمر للبائع، جاز لمشتري الأصل شراءُ الثمرة قبل طيبها، في المشهور عن مالكٍ رحمه الله ويرى لها حكم التعبيةِ، وإن انفردت بالعقدِ، وعنه في رواية أنه لا يجوز، وبه قال الشافعيُّ، وأبو حنيفة، والثَّوريُّ، وأهل الظاهر.

فصل في النهي عن بيع الملاقح والمضامين

نهي النبي صلى الله عليه وسلم َ عن بَيعِ المَلاقحِ والمَضامِنيِ والمَلاقِحُ: الفحول من الإبلن، الواحد مقلحٌ، والمَلاقِحُ ما في بطون النوقِ من الأجنَّة، الواحدة: مَلْقُوحةٌ، من قولهم: لَقحْتُ، كالمَحْمُومِ من حَمّ، والمَجْنُون من جنّ، وفي هذا جاء النَّهيُ.

قال أبو عبدية: المَضامِينُ ما في البطونِ وهي الأجنَّةِ، والمَلاقِيحُ: ما في أصلابِ الفحُولِ، وهو قول سعيد بن المُسيَّبِ، وغيره.

وقيل: بالعكسِ.

ص: 446

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم َ عن بيع [المَجْر] وهو بيع ما في بطُونِ الأمَّهاتِ.

قال ابن عابس رضي الله عنهما ما هَبَّتْ ريح قَطُّ إلَاّ جَثَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ عَلى رُكْبتَيْهِ، وقال:«اللَّهُمَّ اجْعلهَا رحْمةتً، ولا تَجْعلهَا عَذاباً، اللَّهُمَّ اجْعَلهَا رِيَاحاً ولا تَجْعلهَا رِيحاً» قال ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب الله عز وجل: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} [القمر: 19]، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} [الذاريات: 41] وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] وقال تعالى: {يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] .

قوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} ، قد تقدّم أنَّ الماء: هل ننزل من السماء أو من السحاب.

وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} ، قال الأزهريُّ:«تَقُولُ العربُ لِكُلِّ ما فِي بُطونِ الأنْعَامِ، ومِنَ السَّماءِ، أو نهْرٍ يَجْري: أسْقَيْتُه، أي: جعلته شَرْباً له، وجعلتُ له منها مَسْقى لشرب أرضه أو ماشيته، فإذا كانت السُّقْيَا لِسقْيهِ، قالوا: سَقاهُ، ولم يقولوا: أسْقَاه» .

ويؤكده اختلاف القراء في قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] ، فقرؤا باللغتين، وسيأتي بيانهما في السورة التي بعدها، ولم يختلفوا في قوله:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الإنسان: 21]، وفي قوله:{والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] .

قال أبو علي: سَقَيْتُه حتَّى رَوِيَ، وأسْقَيتهُ نَهْراً، جعلتهُ شُرْباً، وقوله:{فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} جعلناه سُقْياً لكم، وربما قالوا في «أسْقَى» سَقَى؛ كقول لبيدٍ يصفُ سحاباً:[الوافر]

3273 -

أقُولُ وصَوْبُهُ منِّي بَعِيدٌ

يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُللِ الجِبَالِ

سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى

نُمَيْراً والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ

فقوله: «سَقَى قَوْمي» ليس يريد به ما يروى عطاشهم، ولكن يريد رزقهم سَقْياً لبلادهم، يخصبون بِها، وبعيدٌ أن يَسْألَ لِقومِهِ ما يروي العطاش به ولغيرهم ما يخصبون به، فأما سَقَيَا السَّقيَّة، فلا يقال فيها: أسْقاهُ. وأما قول ذي الرُّمة: [الطويل]

3274 -

وأسْقِيهِ حتَّى كَادَ ممَّا أبُثُّهُ

تُكلِّمُنِي أحْجَارهُ ومَلاعِبُه

[يريد بقوله: «أسقيه» : أدعو له بالسقاء، وأقول: سقاه الله] .

ص: 447

واتَّصل الضميران هنا: لاختلافهما ربتة، ولو فصل ثانيهما، لجاز عند غير سيبويه وهذا كما تقدم في قوله تعالى:{أَنُلْزِمُكُمُوهَا} [هود: 28] .

قوله تعالى: {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} جملة مستأنفة، و «لَهُ» متعلق ب «خَازِنينَ» ، والمعنى: أنَّ المطر في خَزائِننِا، ولا في خَزائِنكُمْ. [وقال سفيان: لستم بمانعين] .

قوله تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} الآية، هاذ النَّوع السادس من دلائل التوحيد، وهو الاستدلال بالإحياء، والإماتةِ على وجودِ الإلهِ القادر المختار.

قوله: «لَنَحْنُ» يجوز أن يكون مبتدأ، و «نُحْيِي» خبره، والجملة خبر «إنا» ويجحوز أن يكون تأكيداً ل «إنَّا» ، ولا يجوز أ، يكون فصلاً؛ لأ، هـ لم يقع بين اسمين، وقد تقدم نظيره [الحجر: 9] .

وقال أبو البقاء: لا يكون فصلاً لوجهين:

أحدهما: أن بعده فعلاً.

والثاني: أنَّ معه اللام.

قال شهابُ الدِّين رحمه الله: «الوجه الثاني: غلطٌ؛ فشإن لام التوكيد لا يمنع دخولها على الفصل، نصَّ النحاة على ذلك، ومنه قوله {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} [آل عمران: 62] ٍ، جوَّزوا فيه الفصل مع إقرانه باللام» .

فصل

من العلماءِ من حمل الأحياء على القدرِ المشتركِ بين إحياءِ النبات والحيوان، ومنهم من قال: وصف النبات بالإحياء مجاز؛ فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان، وقوله جل ذكره:{وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} يفيد الحصر، أي: لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا لنا، «ونَحْنُ الوَارثُونَ» إذا مات جميع الخلائق، فحينئذٍ يزول الملك كلِّ أحدٍ، ويكون الله سبحانه هو الباقي المالك لكلِّ المملوكات، وحده لا شريك له، فكان شبيهاً بالإرثِ.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين} قال ابن عباس رضي الله عنهما المستقدمين: الأموات، والمستأخرين: الأحياءُ.

وقال الشعبيُّ رضي الله عنه: الأولين، والآخرين.

وقال عكرمة: المستقدمون: من خلق الله، والمستأخرون: من لم يخلق.

ص: 448

وقيل: المستقدمين: القرون الأولى، والمستأخرين: أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ.

وقال الحسن: المستقدمين: في الطَّاعة والخير، والمستأخرين: في صفِّ القتال.

وقال ابن عيينه: أراد من سلم، ومن لم يسلم.

وقال الأوزاعيُّ: أراد المصلِّين في أول الوقت، المؤخِّرين إلى آخره.

روى أبو الجوزاء، عن ابن عباس: كانت امرأةٌ حسناء تصلِّي خلق النبي صلى الله عليه وسلم َ فكان قومٌ يتقدمون إلى الصف الأول؛ لئلا يرونها، وآخرون يتأخَّرون، ليرونها.

وفي رواية: أنَّ النساء كنَّ يخرجن إلى الجماعة، فيقفن خلف الرجال، من النساء من في قلبها ريبة، فتقدم إلى أول صفِّ النساء؛ لتقرب من الرجال؛ فنزلت الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:«خَيْرُ صُفوفِ الرِّجالِ أوَّلُها وشَرُّها أخرُهَا، وخَيْرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُهَا وشَّرُّهَا أوَّلُهَا» .

وروري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ رغَّب في الصف الأول في الصلاة [فازدحم] النس عليه؛ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.

والمعنى: إنَّا نجزيهم على قدر نيَّاتهم.

فصل

قال القرطبي: «الآية تدلُّ على فضل أول الوقت في الصلاة، وعلى فضل الصف الأوَّل، كما تدل على فضل الصف الأول في الصَّلاة، كذلك تدلُّ على فضل الصفِّ الأول في القتال‘ فإنَّ القيام في وجه العدوِّ، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عملٌ، ولا خلاف في ذلك» .

واعلم أنَّ ظاهر الآية يدل على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم؛ فيدخل فيه

ص: 449

علمه بتقدّمهم، وتأخرهم، في الحدوثِ، الوجود في الطاعات وغيرها؛ فلا ينبغي أن تخص بحالةٍ دون حالةٍ.

ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} على ما علم منهم، وذلك تنبيه على أنَّ الحشر، والنشر، البعث، والقيامة، أمرٌ واجبٌ {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي: أنَّ الحكمة تقتضي وجوب الحشر، والنشر، وعلى ما تقرر في أول سورة يونس عليه السلام.

ص: 450

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ} الآية هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد؛ لأنه ثبت بالدلائل القاطعه أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوَّل لها، وإذا ثبت هذا وجب انتهاء الحوادث إلى حادث أوَّل، هو أولُ الحوادث، وإذا كان كذلك، وجب انتهاء الناس إلى إنسانٍ هو أول الناس، وذلك الإنسان الأول، غير مخولقٍ من الأوبين؛ فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى.

فقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} إشارة إلى ذلك الإنسان الأول، وأجمع المفسرون على أن المراد آدمُ صلوات الله وسلامه عليه.

ونقل في كتب الشِّيعة، عن محمد بن علي الباقر، أنَّه قال: قد انقضى قبل آدم صلوات الله عليه الذي هو أبونا ألف ألف آدم، أو أكثر.

قال ابنُ الخطيب رحمه الله: «وها لا يقدحُ في حدوث العالم، بل الأمر كيف كان لا بدَّ من الانتهاء إلى إنسانٍ أول، هو أول الناس، فأما أن ذلك الإنسان الأول هو أبونا آدم، فلا طريق له إلَاَّ من جهة السمع» .

ص: 450

واعلم أنه تعالى قال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59]، وقال تعالى:{إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} [ص: 71]، وقال هاهنا:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} ، فطريقُ الجمع أنه جعل التُّرابَ طيناً، ثم تركه حتَّى صار حمأ مسنوناً، ثم خلقه منه، وتركه حتى جفّ، ويبس وصار له صلصلة.

واعلم أنه تعالى قادر على خقله من أي جنس أراد، بل هو قادرٌ على خلقه ابتداء، وإنما خلقه على هذا الوجه؛ إما لمحض المشيئة، أو لما فيه من دلالة الملائكة؛ لأنَّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلقِ الشَّيءِ من جنسه.

وسمِّي إنساناً: إما لظهوره وإدراك البصر إياه، وإمَّا من النسيان؛ لأنه عهد إليه فنسِي.

عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: بعث الله تعالى جِبْريلَ عليه السلا إلى الأرض؛ ليأتيه بطينٍ منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص منِّي؛ فرجع ولم يأخذ، فقال يا ربِّ: أنها عاذتْ بك، فأعذتها، فبعث ميكايئيل صلوات الله عليه فعاذت منه، فأعاذها؛ فرجع، فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموتِ، فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذُ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخلطه، لم يأخذ من مكان واحدٍ، وأخذ من تربةٍ حمراء، وبيضاء، وسوجحاء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.

وسُمِّي آدم؛ لأنه خلق من أديم الإرض، وصعد به، فقال الله تبارك وتعالى:«أما رَحِمْتَ الأرض حين تضرعت إليك» ؟ فقال: رأيتُ أمرك وأوجب من قولها، فقال جل ذكره: «أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طيناً لازباً، وهو يلتصُ بعضه ببعضٍ، ثم ترك، حتى أنتن، وصار حمأ مسنوناً، وهو المنتنُ.

ثم قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} ، فخلقه الله بيده؛ لئلا يتكبَّر إبليس عليه، لقوله الله تعالى: أتتكبَّر على ما علمت بيدي، ولم أتكبر أنا عليه؟ .

فخلقه فكان جسداً من طينٍ أربعين عاماً، فلما رأتهُ الملائكة، فزعوا منه، وكان أشدَّهم منه فزعاً إبليسُ فكان يمرُّ به، فيضربه؛ فيصوتُ الجسدُ كما يصوتُ الفخَّار، وتكون له صلصلةٌ؛ فذلك قوله:{مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمن: 14]، ويقول: لأمر ما خلقت! ويدخل في فيه، ويخرج من دبره، ويقول للملائكة: لا ترهبوا منه؛ فإنه أجوف، ولئن سُلِّطت عليه، لأهلكنَّه، فلمَّا نفخ فيه الروح، ووصل إلى رأسه، عطس، فقالت الملائكة عليه السلام: قُل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله له: رحمك ربُّك، فلما دخل الروح في عينيه، نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت الروحُ

ص: 451

جوفه، اشتهى الطعام؛ فوثب قبل أن تبلغ الورح رجليه؛ عجلان إلى ثمار الجنَّة، فذلك قوله تعالى:{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] .

قوله تعالى: {مِن صَلْصَالٍ} ، «مِنْ» : لابتداء الغاية، أو للتبعيضن، والصلصالُ: قال أبو عبيده هو الطين المختلط بالرمل، ثم يجفُّ؛ فسمع له صلصلةٌ، أي: تصويت، قال: والصلصلةُ: الصَّوتُ؛ وأنشدوا: [الكامل]

3275 -

شَرِبَتْ أسَاوِيُّ القُطاةِ مِنَ الكَدرْ

وسَرَتْ فَتَرْمِي أحْيَاؤهَا بِصَلاصِلِ

أراد: صوتَ أجْنحَةِ أفراخِهَا، حين تطيرُ، أو أصواتَ أفراخها.

وقال الزمخشريُّ: «الطِّينُ اليابس الذي يُصلصِلُ من غير طبخٍ، فإذا طبخ، فهو فخار» .

وقال أبو الهيثم: «هو صوتُ اللِّجامِ، وما أشبهه؛ كالقعقعة في الثوب» .

وقال الزمخشري أيضاً: قالوا: إذا توهَّمت في صوته مدًّا، فهو صليلٌ، وإن توهمت فيه خفاءً، فهو صلصلةٌ، وقيل: هو من تضعيف «صَلَّ» ، إذا أنتن أنتهى.

و «صَلْصَالٍ» هنا، بمعنى مُصَلْصِل؛ كزَلْزالٍ، بمعنى مُزَلْزِل، ويكون «فَعْلال» أيضاً مصدراً، ويجوز كسره أيضاً، وفي هذا النَّوع، أي: ما تكررت فاؤه، وعينه خلافٌ.

فقيل: وزنه: فَعْفَع؛ كُرِّرتِ الفاء والعين، ولا لام للكلمة؛ قاله الفراء، وغيره. وهو غلطٌ؛ لأنَّ أقلَّ الأصول ثلاثة: فاءٌ، وعينٌ، ولامٌ.

والثاني: أنَّ وزنه «فَعْفَل:؛ وهو قول الفرَّاء.

الثالث: أنه» فَعَّل «بتشديد العين، وأسله» صَلَّل «فلما اجتمع ثلاثة أميالٍ، أبدل الثاني من مجنس فاء الكلمة، وهومذهب كوفيٌّ، خصَّ بعضهم هذا لخلاف بما إذا لم يختل المعنى، بسقوطِ الثالث، نحو» لَمْلَمَ «و» كَبْكَبَ «فإنَّك تقول فيهما:» لَمَّ «، و» كَبَّ «، فول لم يصحَّ المعنى بسقوطه؛ نحو: سَمْسَمَ» ، قال: فلا خلافَ في أصالة الجميع.

قوله تعالى: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} فيه وجهان:

أحدهما أنه في محلِّ جر صفة ل «صَلْصَالِ» ؛ فيتعلق بمحذوف.

والثاني: أ، هـ بدل من «صَلْصالٍ» بإعادة الجارِّ. والحَمَأ: الطِّينُ الأسودُ المنتنُ.

ص: 452

قال الليث رحمه الله: واحده «حَمَأة» بتحريك العين جمعله اسم جنسٍ؛ وقد غلط في ذلك؛ فإن أهل اللغة قالوا: لا يقال إلَاّ «حَمْأة» [بالإسكان] ، ولا يعرف التحريك؛ نصَّ عليه أبو عبيدة، وجماعة؛ وأنشدوا لأبي الأسودِ:[الوافر]

3276 -

تَجِيءُ بمِلْئِهَا طُوْراً وطَوْراً

تَجِيءُ بِحَمْأةٍ وقَلِيلِ مَاءِ

فلا يكون «الحَمَأة» واحدة «الحَمْأ» ؛ لاختلاف الوزنين.

والمَسْنُون: المَصْبُوب؛ من قولهم: سَنَنتُ الشَّرابَ، كأنَّه لِرُطُبتهِ جعل مَصْبُوباً، كغيره من المائعات، فكأن المعنى: أفرغ صورة إنسانٍ، كما تفرغ الجواهر المذابة.

قال الزمخشريُّ: وحقُّ «مَسْنُونٍ» بمعنى مصور: أن يكون صفة ل «صَلْصالٍ» ؛ كأنه أفرغ الحمَأ، فصوَّر منه تمثال شخصٍ. يعني أنه يصيرُ التقدير: من صلصالٍ مصوَّرٍ، ولكن يلزم تقديم الوصف المؤول على الصَّريح؛ إذا جعلنا:«مِنْ حَمَأ» صفة ل «صَلْصَالٍ» ، أمَّا إذا جعلناه بدلاً منه؛ فلا.

وقيل: مسنونٌ: مصوَّرٌ من سنَّة الوجه، وهي صورته؛ قال الشاعر:[البسيط]

3277 -

تُرِيكَ سُنَّة وجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ.....

...

...

...

... .

وقال الزمخشريُّ: والمَسْنُونُ: المَحْكُوكُ، مأخوذٌ من سننت الحجر، إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سَنَنٌ ولا يكون إلَاّ مُنْتِناً.

ومنه يسمَّى المسَن مسَنًّا؛ لأنَّ الحديد يحكُّ عليه.

وقيل: المسنونُ: المنسوب إليه، والمعنى ينسب إليه ذريته، وكأن هذا القائد أخذه من الواقع، وقيل: هو من أسنَّ الماء إذا تغيَّر، وهذا غلط؛ لاختلافِ المادتين.

رُوِيَ أنَّ الله تعالى خمَّر طينة آدم، وتركه حتى صار متغيِّراً أسود، ثم خلق منه آدم صلوات الله وسلامه عليه.

قوله: {والجآن خَلَقْنَاهُ} منصوب على الاشتغال، ورجَّح نصبه؛ لعطف جملة على جملة فعليةٍ.

ص: 453

والجَّانُّ: أبُو الجنّ، هو إبليس؛ كآدم أبي الإنسِ، وقيل: هو اسمٌ لجنسِ الجن.

وقرأ الحسن: «والجَأن» بالهمز، وقد تقدّم الكلام في ذلك في أواخر الفاتحة.

فصل

قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: الجان ِأبو الجن؛ كما أن آدم أبو البشر، وهو قول الأكثرين.

وروي أيضاً عن ابن عباسٍ، والحسن، ومقاتل، وقتادة رضي الله عنهم: هو إبليس، خلق قبل آدم.

وقيل: الجانُّ أبو الجن: وإبليس أبو الشياطين، وفي الجنِّ: مسلمون، وكافرون، ويحيون ويموتون، وأما الشيَّاطين؛ فليس سفهم مسلمون، ويموتون إذا مات إبليس.

وذكر وهبٌ: أنَّ من الجن من يولد له، ويأكلُونَ، ويشربون بمنزلة الآدميِّين، ومن الجن من هم بمنزلةِ الرِّيح: لاتوالدون، ولا يأكلون، ولا يشربون.

قال ابن الخطيب: «والأصحُّ أن الشياطين قسمٌ من الجن، فمن كان منهم مؤمنٌ فإنه لا يسمَّى بالشيطان، ومن كان منهم كافرٌ، سمِّي بهذا الاسم. وسمُّوا جنًّا؛ لاستتارهم عن الأعين، ومنه يسمَّى الجنينُ؛ لاستتاره عن الإعين، في بطن أمِّه، والجنَّةُ: ما تَقِي صابحها، وتستره، ومنه سمِّيت الجنة؛ لا ستتارها بالأشجار» .

قوله تعالى: {مِن قَبْلِكَ} ، و «مِن نَارٍ» متعلقان ب: خَلَقْنَاهُ «؛ لأنَّ الأولى لابتداءِ الغاية، والثانية للتعبيض، وفيه دليلٌ على أنَّ» مِنْ «لابتداءِ الغاية في الزمان، وتأويل البصريين له، ولنظائره بعيد.

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهما:» يريد قبل خلق آدم صلوات الله وسلامه عليه «ز والسَّمومُ: ما يقتل من إفراطِ الحرّ من شمس، أو ريح، أو نار؛ لأنها تدخل المسامَّ فتَقْتلُ.

قيل: سُمِّيت سمُوماً؛ لأنها بلطفها تدخل في مسامِّ البدن، وهي الخروقُ الخفيَّة التي تكون في جلد الإنسان، يبرز منها عرقه وبخار بطنه.

ص: 454

وقيل: السَّمومُ ما كان ليلاً، والحرورُ ما كان نهاراً. وعن ابن عباس: نارٌ لا خانلها.

قال أبو صالح: والصَّواعِقُ تكون منها، وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمراً، خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به، فالهَدَّةُ التي تسمعون؛ خرق ذلك الحجاب.

وقيل: نار السموم: لهب النَّار. وقيل: نارُ جهنَّم.

وروى الضحاك، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: كان إبليس من جنسِ من الملائكة، يقال لهم الجن، خلقوا من نارِ السَّمومِ، وخلقت الجنُّ الذين ذكروا من مارج من نارِ، والملائكة خلقوا من نورٍ.

وقيل: {مِن نَّارِ السموم} من إضافةِ الموصوف لصفته.

قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ} الآية، لما استدلَّ بحدوثِ الإنسان؛ على وجود الإله القادر المختار؛ ذلك بعده واقعته، وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له، والمراد بكونه بشراً، أي: جسماً يباشر ويلاقى، والملائكة، والجن لا يبشارون؛ للطف أجسامهم، والبشرة: ظاهر الجِلدِ مِنْ كُلِّ حيوانٍ، وتقدَّم ذكر الصلصالِ، والحَمأ المَسْنُونِ.

{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي: شكلته بالصورة الإنسانية، والخلقة البشرية.

وقيل: سوَّيتُ أجزاء بدنه: باعتدالِ الطَّبائعِ، وتناسب الأمشاجِ، نَفخْتُ فيه من روحي؛ فصار بشراً حيًّا.

والرُّوحُ: جسمٌ لطيفٌ، يحيا به الإنسان، وقيل: الرُّوحُ: هي الرِّيح؛ لأنَّ النَّفخ أخذ الريح في تجاويف جسم آخر؛ فظاهر قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} يشعر بأنَّ الروح هي الريح، وإلا لما صحَّ وصفها بالنَّفخ، وسيأتي بقيةُ الكلام على الروح عند قوله:{قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، وأضاف روح آدم صلوات الله وسلامه عليه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً.

قوله تعالى: {فَقَعُواْ لَهُ} ، يجوز أن تتعلق اللام بالفعل قبلها، وأن تتعلق ب» سَاجِدينَ «.

فصل

ظاهر قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} يدل على وجوب

ص: 455

السجود على الملائكة؛ لأنه مذكمور بفاء التَّعقيب؛ وذلك يمنُ التَّراخي.

قوله «أجْمَعُونَ» تأكيد ثانٍ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت؛ خلافاً لبعضهم.

وقال سيبويه: قوله: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} «توكيدٌ بعد توكيدٍ» . وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال: فَسجَدَ الملائِكَةُ «احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال: كُلُّهم زال هذا الاحتمال، فظهر أنهم بأسرهم سجدوا، ثم بعد هذا بقي احتمال وهو أنَّهم: هل سجدوا دفعة واحدة؟ أو سجد كل واحدٍ في وقت؟ . فلما قال: أجْمَعُون ظهر أن الكلَّ سجدوا دفعةً واحدةً. ولما حكى الزجاج هل القول، عن المبرد، قاتل:» وقول الخليل، وسيبويه أجودُ؛ لأن «أجْمَعِينَ» معرفةٌ؛ فلا يكون حالاً «.

قال أبو البقاء:» لكان حالاً لا توكيداً «. يعنى أنَّه يفيد إفادة الحال مع أنه توكيدٌ؛ وفيه نظر؛ إذ لا منافاة بينهما بالنسبة إلى المعنى، ألا ترى أنه يجوز:» جاؤوني جَمِيعاً «مع إفادته، وقد تقدم تحريرُ هذا [البقرة: 38] ، وحكاية ثعلب مع ابن قادم.

قوله: {إِلَاّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} تقدَّم الكلام على هذا الاستثناء في البقرة.

قال القرطبيُّ رحمه الله:» الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي رضي الله عنه، حتَّى ولو قال له: عليَّ دينارٌ إلا ثوباً، أو عَشْرة أثْوابٍ، إلَاّ قفيز حِنظَةٍ، وما جانس ذلك يكون مقبُولاً، ويسقط عنه من المبلغ قيمة الثوبِ، والحِنْطةِ ويستوي في ذلك: المكِيلات، والمَوزونَات، والمُقدَّرات «.

وقال مالكٌ، وأبو حنيفة رضي الهل عنهما: استثناء المكيل من الموزون، والموزون من المكيل جائزٌ؛ حتى لو ساتثنى الدَّراهم من الحنطةِ، والحنطة من الدراهم، قُبِلَ، أمَّا إذا استثنى المقوَّماتِ من المكيلاتِ، أو الموزوناتِ، والمكيلاتِ من المقوماتِ؛ فلا يصحُّ؛ مثمل أن يقول: له عشرة دنانير إلَاّ ثوباً، أو عشرة أثواب إلَاّ ديناراً، فيلزم المقرُّ جميع المبلغ.

قوله تعالى: {أبى أَن يَكُونَ} ، استئنافٌ؛ وتقديره: أنَّ قائلاً قال: هلَاّ سجد؟ فقيل: أبي ذلك، واستكبر عنه.

قوله تعالى: {قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلَاّ تَكُونَ مَعَ الساجدين قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} قال بعض المتكلمين: إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس، على لسان بعض رسله؛ وهذا ضعيف؛ لأنَّ إبليس قال في الجواب:{لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ} ، فقوله:» خَلَقْتهُ «خطاب الحضورِ، لا خطاب الغيبة؛ فظاهره يقتضي أنَّ الله تعالى تكلم مع إبليس بعغير واسطة.

ص: 456

فإن قيل: كيف يعقل هذا؛ مع أنَّ مكالمة الله تعالى من غير واسطةٍ من أعظم الناصب، وأعلى المراتب، فكيف يعقل حصوله لرأسِ الكفرِةِ؟ .

فالجواب: أنَّ مكالمة الله إنما تكون منصباً عالياً، إذا كان على سبيل الإكرامِ والإعظام، فأما إذا كان على سبيل الإهانة، والإذلال، فلا.

وقوله: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ} لتأكيد النَّفي، معناه: لا يصحُّ منَّي أن أسجد لبشر.

وحاصل كلامه: أن كون بشراً يشعر بكمونه جسماً كثيفاً، وهو كان روحانيًّا لطيفاً، فكأنه يقول: البشر جسماني كثيف، وأنا روحاني لطيف، والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف، فيكف يكون للأدنى سجود للأعلى؟ .

وأيضاً: فآدم مخلوقٌ من صلصالٍ، تولَّد من حمأ مسنون، وهذا الأصل في غاية الدناءة، وأصل «إبْليسَ» : هو النار، والنار هي أشرف العناصر فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم؛ فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدنى؛ فهذا مجموع [شبهة] إبليس.

{قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} ، وهذا ليس جواباً عن الشُّبهة على سبيل التصريح، بل جواب على سبيل التنبيه.

وتقديره: أن الذي قاله الله تعالى نصٌّ، والذي قاله إبليس قياس، ومن عارض النصَّ بالقياس، كان رجيماً ملعوناً، وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة الأعراف.

والضمير في: «مِنْهَا» : قيل: من جنَّة عدنٍ، وقيل: من السمواتِ، وقيل: من زمرة الملائكةِ.

{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} قال ابن عباسٍ رضي الله عنه: يريد يوم الجزاء حيث يجازى العبادُ بأعمالهم.

و {إلى يَوْمِ} يجوز أن يتعلق بالاستقرار في: «عَليْكَ» ، ويجوز أن يتعلق بنفس اللعنة.

فإن قيل: كلمة «إلى» تفيد انتهاء الغايةِ؛ فهذا يشعر بأنَّ اللعن لا يحصل إلَاّ يوم الدِّين، وعند القيامة يزول اللَّعن.

فالجواب من وجوه:

الأول: أن المراد التأبيد، وذكر القيامة أبعد غاية تذكرها الناس في كلامهم؛ كقولهم:{مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 108] في التَّأيد.

والثاني: أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين،

ص: 457

من غير أن يعذب، فإذا جاء ذلك اليوم، عذِّب عذاباً [ينسى] اللعن معه، فيصير اللَّعن حنيئذٍ كالزائلِ؛ بسبب أنَّ شدّضة العذاب تذهل عنه.

قوله: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وهذا متعلق بما تقدم، والتدقير: إذا جعلتني رجيماً إلى يوم القيامة؛ فأنظريني، أراد ألَاّ يموت، والمراد من قوله:{إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، يوم البعثِ، والنُّشورِ، وهو يوم القيامة؛ فقال تعالى:{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} قيل: وقت النفخةِ الأولى حين يموت الخلائق؛ لأن من المعلوم أن تموت الخلائق فيه.

وقيل: سمِّي معلوماً؛ لأنه لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] .

وقيل: يوم الوقت المعلوم: يوم القيامة.

فإن قيل: لمَّا أجابه الله إلى مطلوبه لزم ألَاّ يموت إلى وقت قيام القيامة، [و] وقت قيام القيامة لا موت، فلزم ألا يموت بالكلية فالجواب: يحمل قوله {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} : إلى ما يكون قريباً منه، و [الوقت] الذي يموت فيه كلُّ المكلفين قريبٌ من يوم البعث.

وقيل: {يَوْمِ الوقت المعلوم} لا يعلمه إلا الله.

قيل: لم تكن إجابة الله تعالى له في الإمهالِِ إكرماً له، بل كان زيادة في بلائه وشقائه.

قوله: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} الباء للقسم، و «مَا» مصدرية، وجواب القسم {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} والمعنى: أقسم بإغوائك إيايّ، لأزينن؛ كقوله:{فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] إلَاّ أنه في هذا الموضع أقسم بعزة الله تعالى وهي من صفاتِ الذات، وفي قوله:{بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} ، أقسم بإغواء الله، وهو من صفات الأفعال، والفقهاء قالوا: القسم بصفاتِ الذَّات صحيحٌ، واختلفوا في القسم بصفاتِ الأفعال.

ونقل الواحديُّ هنا عن بعضهم: أنَّ الباء هاهنا سببية، أي: بسبب كوني غاوياً، لأزيننَّ؛ كقول القائل:«أقْسمَ فُلانٌ بِمعْصِيتهِ، ليَدْخُلنَّ النَّار، وبِطاعَتهِ ليَدْخُلنَّ الجَنَّة» .

ومعنى: {أَغْوَيْتَنِي} : أضْللْتَنِي، وقيل: خَيَّبْتَنِي من رحمتك، {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} حبَّ الدنيا، ومعاصيك.

والضمير في: «لَهُمْ» لذرية آدم عليه السلام وإن لم يجر لهم ذكر؛ للعلم بهم.

و «لإْغْوِيَنَّهُمْ» : لأضلَّنَّهُم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين قرأ ابن كثير،

ص: 458

وابن عامر، وأبو عمرو:«المُخْلصِينَ» بكسر اللام، والباقون: بفتح اللَاّم.

ومعنى القراءة الأولى: أنهم أخلصوا دينهم عن الشَّوائب؛ ومن فتح اللَاّم، فمعناه: الذين أخلصهم الله بالهداية.

فصل

قال ابن الخطيب: «واعلم أنَّ الذي حمل» إبليس «على ذكر هذا الاستثناء ألَاّ يصير كاذباً في دعواه، فلما احترز» إبليس «عن الكذب، علمنا أنَّ الكذب في غاية الخساسةِ» .

فصل

قال رويمٌ: «الإخلاص في العمل: وهو الأَّ يريد صاحبه عليه عوضاً في الدَّارين، ولا عوضاَ من المكلفين» .

وقال الجندي رضي الله عنه: الإخلاص: سرُّ بين العبد، وبين الله تعالى لا يعلمه ملكٌ فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوًى فيمليه.

وذكر القشيريُّ، وغيره عن النبي صلى الله علي هوسلم أنه قال:«سَألتُ جِبْريلَ عليه السلام عن الإخْلاًِ ما هُو؟ فقالَ: سَألتُ ربَّ العِزَّةِ عَنِ الإخْلاصِ ما هُو؟ فقال: سِرِّي اسْتودَعْتهُ قلبَ مَنْ أحْبَبْتهُ مِنْ عِبَادي» .

قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ} «هَذَا» إشارة إلى الإخلاص المفهوم من المخلصين.

وقيل: إلى انتفاء تزْيينه، وأغوائهه على من مرَّ عليه، أي: على رضواني، وكرامتي.

وقيل: «عَلى» بمعنى: «إلَى» ، نقل عن الحسنِ.

وقال مجاهدٌ: الحقُّ يرجع إلى الله تعالى وعليه طريقة، لا تعرج على شيءٍ.

وقال الأخفش: يعني عليَّ الدَّلالةُ على الصراطِ المستقيم.

وقال الكسائي: هذا على التّهديد والتوعيد؛ كما يقول الرجل لمن يخاصمه: طريقتك علي أن لا تفلت منِّي، قال تعالى:{لبالمرصاد} [الفجر: 14] .

وقرأ الضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وأبن سيرين، ويعقوب في آخرين:«عليُّ» ، أي: عالٍ مرتفعٌ.

وعبَّر بعضهم عنه: رفيع أن ينال «مُسْتقِيمٌ» أن يمال.

ص: 459

قوله تعالى: {عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أعلم أن إبليس لما قال {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} أوهم أنَّ له سلطاناً على غير المخلصين، فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطانٌ على أحد م نعبيد الله سواء كان مخلصاً أو غير مخلص، لكن من اتبع منهم إبليس باختياره؛ ونظيره قوله حكاية عن إبليس:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22]، وقوله تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100] فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً.

قال الجبائيُّ: «هذه الآية تدلُّ على بطلان قول من زعم أنَّ الشيطان، والجنَّ يمكنهم صرع الناس، وإزالة عقولهم» .

وقيل: الاستثناء متصلٌ؛ لأنَّ المراد ب «عِبَادي» العموم، طائعهم، وعاصيهم وحينئذ يلزم استثناء الأكثر من الأقلِّ.

وأراد بالعباد الخلَّص؛ لأنه أضافهم إليه إضافة تشريفٍ، فلم يندرج فيه الغوون؛ للضمير في موعدهم.

قال القرطبي: «قال العلماء في معنى قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} : يعني على قلوبهم» .

وقال ابن عيينة: «يلقيهم في ذنب ثم أمنعهم بعفوي: أو: هم الذين هداهم الله، واجتباهم، وأختارهم، واصطفاهم» .

فإن قيل: قد أخبر الله تعالى، عن آدم، وحواء صلوات الله وسلامه عليهما بقوله:{فَأَزَلَّهُمَا الشيطان} [البقرة: 36] وعن جلمة من أصحاب نبيَّه {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [آل عمران: 155] .

فالجواب: أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهمخ في ذنب يؤول إلى عدم العفو، بل يزيله بالتوبة، ولم يكن خروج آدم عقوبة على ما تقدم بيانه في البقرة.

وأما أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ فقد مضى القول عليه في «آل عمران» ، ثم إنَّ قوله تعالى:{لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} يحتمل أن يكون حاصلاً فيمن حفظ الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات، وقد يكون ي تسليطه تفريج كربه، وإزالة عمه؛ كما فعل ببلالٍ، إذْ أتاه يهديه، كما يهدَّى الصبيُّ حتى نام، ونام النبي صلى الله عليه وسلم َ، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا، وقالوا: ما كفَّارةُ ما صَنعنَا في تَفْريطِنَا في صَلاتِنَا؟ فقال لهُم النبيُّ صلى الله عليه سلم «ليْسَ في النَّوْمِ تَفْرِيطٌ» ؛ ففرَّج عَنْهُم.

ص: 460

وقال ابن عطيَّة: تأكيد فيه معنى الحال من الضمير في «مَوْعِدهُم» ، والعامل فيه معنى الإضافة، قاله أبو البقاء «.

وفي مجىء الحال من المضاف إليه، خلافٌ، ولا يعمل فيها الموعد، إن أريد به الكان، فإن أريد به المصدر، جاز أن يعمل؛ لأنه مصدرٌ، ولكن لا بدَّ من حذف مضاف، عي: مكان موعدهم.

قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وهو الظاهر، ويجوز أن تكمون خبراً ثانياً، ولا يجوز أن تكون حالاً من» جَهنَّم «؛ لأن» إنَّ:«لا تعمل في الحال، قال ابو البقاء. وقياس ما ذكروه في» لَيْتَ، وكأنَّ، ولعلَّ «من أخواتها من أعمالها في لحال؛ لأنَّها بمعنى: تمنيَّتُ وشبهت، وترجيت أ، تعمل فيها» إنَّ «أيضاً؛ لأنَّها بمعنى أكدتُ، ولذلك عملت عمل الفعل، وهي أصل الباب.

فصل

قال عليٌّ كرم الله وجهه: هل تدرون كيف أبوا النًَّار؟ ووضع أحدى يديه على الأخرى، أي: سبعةٌ أبوابٍ، بضعها فوق بعض، وأنَّ الله تعالى وضع الجنان على العرض، ووضع النِّيران بعضها على بعض.

قال ابن جريج: النار سبع دركاتٍ: أولها جهنَّم، ثمَّ لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم الجحيم، ثم الهاوية.

قال الضحاك: الطبقة الأولى: فيها أهل التوحيد، يعذَّبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها، والثانية: لليهود والثالثة: للنَّصار، والرابعة: للصابئين، وروي أن الثانية: للنصارى، والثالثة: لليهودِ، والرابعة للصابئين، والخامسة: للمجوسِِ، والسادسة: للمشركين، والسابعة: للمنافقين؛ قال تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] .

قوله:» مِنهُمْ «يجوز أن يكون حالاً من» جُزءٌ «؛ لأنَّه في الأصل صفة له، فلما قدمت، انتصبت حالاً، ويجوز أن يكون حالاص من الضمير المستتر في الجارِّ، وهو:» لكُلِّ بابٍ «، والعامل في هذه الحال، ما عمل في هذا الجارِّ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في:» مَقسُومٌ «؛ لأنَّ الصفة لا تعمل فيها قبل الموصوف، ولا يجوز أن تكون صفة ل» بابٍ «؛ لأنَّ الباب ليس من النَّاس.

وقرأ أبو جعفر:» جُزٌّ «بتشديد الزَّاي من غير همزٍ، فكأنه ألقى حركة الهمزة على الزَّاي، ووقف عليها فشدَّدها؛ كقولك:» خَبّ «في» خبءُ خالد «ثم أجري الوصل مجرى الوقف.

ص: 461

الجُزِْءُ: بعض الشيء، والجمع: أجزاء، وجَزَّأتهُ: جعلته أجزاء. والمعنى: أنه تعالى يُجزِّىء أبتاع إبليس أجزاءَ، أي: يجعلهم أقساماً، ويدخل في كل باب من أبواب جهنَّم طائفة؛ والسبب في ذلك: أنَّ مراتبَ الكفر مختلفةٌ بالغلظةِ والخفة.

ص: 462

قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الآياتِ، لمَّا شرح أحوال أهل العقاب، أتبعه بصفة أهل الثَّواب.

وروي أنَّ سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه لما سمع قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] مَرَّ ثلاثةُ أيَّام من الخوفِ لا يعقلُ، فَجيء به إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم فسأله، فقال: يا رسول الله، نزلت هذه الآية:{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] : فوالذي بعثك بالحق نبيًّا، لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: [أراد] بالمتقين: الذين اتقوا الشِّرك بالله تعالى، والكفر به، وبه قال جمهور الصحابة، والتَّابعين.

وهو الصحيح؛ لأنَّ المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة، كما أن الضَّارب هو الآتي بالضرب، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة، فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً، وقاتلاً، أن يكون آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل، ليس من شرط صدق الوصف بكونه متَّقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى؛ لأنَّ الآتي بفردِ واحدٍ من أفراد التقوى، يكون آتياً بالتقوى؛ لأنَّ كل فردٍ من أفراد الماهية، يجب كونه مشتملاً على تلك الماهيَّة، وبهذا التحقيق استدلُّوا على أنَّ الأمرَ لا يفيد التَّكرار.

وإذا ثبت هذا فنقول: أجمعت الأمة على أنَّ التقوى عن الكفر شرط في حصول المحكم بدخول الجنة.

وقال الجبائي، وجمهور المعتزلةِ: المتقين: هم الَّذين اتَّقوا جميع المعاصي، قالوا: لأنه اسم مدحٍ، فلا يتناولُ إلَاّ من [كان] كذلك.

واعلم أنَّ الجنات أربعةٌ؛ لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] فيكمن [المجموع] أربعة.

قوله: «وعُيُونٍ» : قرأ ابن كثيرٍ، والأخوان، وأبو بكر، وابن ذكوان: بكسر عين «

ص: 462

عِيُونٍ» منكراً، والعينُّ معرف حيث وقع؛ والباقون: بالضمِّ، وهو الأصل.

فصل

الجنَّاتُ: البَساتِينُ، والعُيونُ: يحتمل أن يكون المراد بها الأنهار المذكمورة في قوله تعالى: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] ، ويحتمل أن يكمون امراد من هذه العيون منافع مغايرة لتلك الأنهار.

قوله: {ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} العامة على وصل الهمزة من: دَخَلَ يَدخُل، وقد تقدم خلاف القراء في حركة هذا التنوين، لالتقاءِ السَّاكنين في البقرة:[173] .

وقرأ يعقوب رحمه الله بفتح التنوين وكسر الخاء، وتوجيهها: أنَّه أمرٌ من: أدْخَلَ يَدْخلُ فلما وقع بعد «عُيونِ» ألقى حركة الهمزة على التنوين؛ لأنها همزة قطع ثمَّ حذفها، والأمر من الله تعالى، للملائكةِ، أي: أدخلوها أيَّاهم.

وقرأ الحسن، ويعقوب أيضاً:«أُدخِلُوها» ماضياً مبنياً للمفعول، إلا أنَّ يعقوب ضمَّ التنوين ووجهه: أنه أخذه من أدخل رباعياً، فألقى حركة همزة القطع على التنوين كما ألقى حركة المفتوحةِ في قراءته الأولى، والحسن كسرهُ على أصل التقاءِ الساكنين، ووجهه: أن يكون أجرى همزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط.

وقراءة الأمر على إضمار القول، أي: يقال لأهل الجنَّة: أدخلوها، أو يقال للملائكة: أدخلوها إياهم، وعلى قراءة الإخبار يكون مستأنفاً من غير إضمارٍ، وقوله «بِسَلامٍ» حالٌ: أي: ملتبسين بالسلامة أو مسلماً عليكم.

و «آمنِينَ» حال أخرى، وهي بدلٌ مما قبلها، إما بدل كلُ من كلِّ وإما بدل اشتمالِ؛ لأن الأمن مشتملٌ على التحية أو بالعكسٍ، والمعنى: أمنين من الموت، والخورج، والآفات.

فإن قيل: إن الله تعالى [حكم] قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون، وإذا كانوا فيها فكيف يقال لهم:«ادْخُلُوها» ؟ .

فالجواب: أنَّهم لما ملكوا جنات كثيرة، فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم:{ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} .

قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} الغِلُّ: الشَّحناءُ، والعداوة الحقد الكامن

ص: 463

في القلب، مأخوذ من قولهم: أغلَّ في جوفه، وتغلغل.

قوله: «إخْوَاناً» يجوز أن يكون حالاً من «هُمْ» في «صُدُورهِمْ» ، وجاز ذلك‘ لأنَّ المضاف جزءُ المضاف إليه.

وقال أبو البقاءِ: والعامل فيها معنى الإلصاق، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «ادْخُلوهَا» على أنها حال مقدرة، قاله أبو البقاء. ولا حاجة إليه بل هو حال مقارنة.

ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في قوله: «جَنَّاتٍ» .

قوله «على سُررٍ» ، يجوز أن يتعلق بنفس «إخواناً» ، لانه بمعنى متصافين، أي: متصافين على سُررٍ، قاله أبو البقاء؛ وفيه نظر؛ حيث تأويل جامدٍ بمشتقٍّ، بعيد منه.

و «مُتَقابِلينَ» على هذا حالٌ من الضمير في «إخْواناً» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «إخْواناً» ، وعلى هذا ف «مُتقَابِلينَ» حالٌ من الضمير المستطنِّ في الجارِّ، ويجوز أن يتعلق ب «مُتَقَابلينَ» ، أي: متقابلين على سررٍ، وعلى هذا ف «مُتَقَابلينَ» من الضمير في «إخْواناً» أو صفة ل «إخْوَاناً» .

ويجوزم نصبه على المدحِ، يعني: أنه لا يمكن أن يكون نعتاً للضمير فلذلك قطعَ.

والسُّررُ: جمع سَريرٍ، وهو معروفٌ، ويجوز في «سُررٍ» ، ونحوه مما جمع على هذه الصيغةِ من مضاعف «فَعِيل» فتح العين؛ تخفيفاً؛ وهي لغة بني كلبٍ وتميم، فيقولون: سُرَرٌ وجُدَدٌ، وذلك في جمع سرير وجديد.

قال المفضل: لأنَّهم يستثقلون الضمتين المتوالتين في حرفين من جنس واحد.

فصل

قال بعض أهل المعاني: السَّريرُ: مجلسٌ رفيعٌ مهيَّأ للسُّرورِ، وهو مأخوذ منه؛ لأنه مجلس سرورٍ. متقابلينَ: يقالب بعضهم بعضاً، ولا ينظر أحد منهم إلى قفا صاحبه، والتَّقابلُ: التواجه، وهو نقيضُ التَّدابر.

قوله: {يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} يجوز أن تكون هذه مستأنفة، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير في «مُتَقَابلينَ» .

والنَّصَبُ: التَّعَبُ، يقال منه: نَصِبض يَنْصَبُ فهو نَصِبٌ ونَاصِبٌ، أنصبني كذا، قال:[الطويل]

3278 -

تَأوَّبَنِي هَمٌّ مَعَ اللَّيْلِ مُنصِبُ.....

...

...

...

وهمَّ ناصبٌ، أي: ذُو نصبٍ، كلابن وتامر؛ قال النابغة:[الطويل]

ص: 464

3279 -

كِلينِي لِهَمِّ يَا أمَيْمة نَاصبٍ

ولْلٍ أقَاسيهِ بَطيءٍ الكَواكِبِ

و «مِنْهَا» متعلقه «بمُخْرجين» .

وهذه الآية أنصُّ آيةٍ في القرآن على الخلود.

ص: 465

قوله تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} أثبت الهمزة الساكنة في «نَبِّىء» صورة، وما أثبت في قوله:«دِفْءٌ» ؛ لأنَّ ما قبلها ساكنٌ، فهي تحذف كثيراً، وتلقى حركتها على الساكن قبلها ف «نَبِّىءْ» في الخط على تحقيق الهمزة، وليس قبل همزة «نَبِّىْ» ساكن؛ فأخَّروها على قياس الأصل.

وقوله: أنَا الغَفورُ «يجوز في» أنَا «أن يكون تأكيداً، أن يكون فصلاً» .

وقوله: {هُوَ العذاب} يجوزم في «هُوَ» الابتداء، والفصل، ولا يجوز التوكيد؛ إذ المظهر لا يؤكَّد بالمضمر.

فصل

ثبت في أصول الفقه أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناصب يشعر بغلبةِ ذلك الوصف، فهاهنا وصفهم بكونهم عباده، ثم ذكر عقب هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً، وهذا يدلُّ على أنَّ كلَّ من اعترف بالعبودية، وكان في حقِّه غفوراً رحيماً، ومن أنكر ذلك، كان مستوجباً للعذاب الأليم.

وفي الآية لطائف: أولها: أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: «عِبَادي» وهذا تشريفٌ عظيمٌ، ويدل عليه قوله:{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] .

وثانيها: أنه لما ذكر المغفرة، والرحمة بالغ في التَّأكيدات بألفاظٍ ثلاثة:

أولها: قوله: «أنِّي» .

وثانيها: «أنَا» .

وثالثها: إدخال الألف واللام على قوله: «الغَفُور الرَّحيمُ» ، ولما ذكر العذاب، لم يقول: إني إنا ولَمْ يَصفْ نفسهُ بِذلكَ، بل قال عز وجل:{عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} .

وثالثها: أنه تعالى أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يبلغ إليهم هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه بالتزام المغفرة، والرحمة.

ورابعها: أنه تعالى لمَّا قال: {نَبِّىءْ عِبَادِي} كان معناه: كلّ من اعترف

ص: 465

بعبوديَّتي، وهنذا يشمل المؤمن، والعاصي، وكذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى.

قال قتادة: بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «لَو يَعْلمشُ العَبدُ قَدْرِ عَفْوِ الله لمَا تورَّع عن حرامٍ، ولوْ عَلِمَ قدر عِقابِهِ لبَخَعَ نَفْسَهُ» أي: قتلها.

وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ أنَّه مرَّ بِنفَرٍ من أصحابه، وهم يضحكُون، فقال: أتَْضحَكُون وبيْنَ أيديكمُ النَّارُ «فنزَل جِبريلُ صلوات الله وسلامه عليه بِهذِهِ الآية، وقال:» يقول لك يا محمَّد: لِمَ تقنط عِبادِي «.

وقال بان عبَّاسِ رضي الله عنهما: معنى: {أَنَا الغفور الرحيم} لمن تاب منهم.

ص: 466

قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} القصَّة: لما قرَّر أمر النبوة، أردفه بدلائل

ص: 466

التوحيد، ثمَّ عقبه بذكر أحوال القيامةِ، وصفة الأشقياء، والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ليكن سماعها مرغِّباً للعبادة الموجبة للفوز بدرجاتِ الأولياءِ، ومحذراً عن المعصية الموجبةِ لاستحقاقِ دركاتِ الأشقياءِ.

فقوله: «ونَبِّئْهُم» ، هذا الضمير راجعٌ إلى قوله عز وجل: عِبَادِي «، أي: ونبِّىء عبادي، يقال: أنْبأتُ القوم إنباءً ونَبَّأتهُم تَنْبئةً إذا أخبرتهم.

قوله:» عَن ضَيْفِ «، أي [أضياف إبراهيم]، والضَّيْفُ في الأص مصدر ضَافَ يضيفُ: إذا أتى إنساناً يطلب القوى، وهو اسمٌ يقع على الواحدِ، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنَّث.

فِإن قيل: كيف سمَّاهم ضيفاً، مع امتناعهم من الأكلِ؟ .

فالجواب: لمن ظنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنَّهم إنَّما دخلوا عليه لطلب الضِّيافة، جاز تسميتهم ذلك.

وقيل: من دخل [دار] إنسان، والتجأ إليه سمِّي ضيفاً، ون لم يأكل، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه علثيه يكنَّىأبا الضيفان، كان لقصره أربعة أبوابٍ، لكي لا فوته أحدٌ.

وسمِّي الضيف ضيفاً؛ لإضافته إليك، ونزوله عليك.

قال القرطبي رحمه الله:» ضَافهُ مَالَ إليه، وأضَافهُ:[أماله]، ومنه الحديث: حِينَ تضيفلإ الشَّمسُ للغُروبِ. وضَيفُوفَةُ السَّهم، والإضافةُ النَّحوية «.

قوله: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} في» إذْ «وجهان:

أحدهما: أنه مفعول لفعل مقدر، أي: اذكر إذ دخلوا.

والثاني: أنه ظرف على بابه، وفي العامل فيه وجهان:

أحدهما: أنه محذوف، تقديره: خبر ضيف.

والثاني: أنه نفس» ضَيْفِ «، وفي توجيه ذلك وجهان:

أحدهما: أنه لما كان في الأصل مصدراً اعتبر ذلك فيه، ويدلُّ على اعتبار مصدريته بعد الوصف به: عدم مطابقته لما قبله تثنية، وجمعاً وتأنيثاً في الأغلب، ولأنه قائم مقام وصفه، والوصف يعمل.

والثاني: أنه على حذف مضاف، أي: أصحاب ضيف إبراهيم، أي: ضيافته، فالمصدر باقٍ على حاله، فلذلك عمل.

ص: 467

قال أبو البقاء بعد أن قدر أصحاب ضياتفه: والمصدر على هذا مضاف إلى المفعول.

قال شهابُ الدِّين: وفيه نظر، إذ الظَّاهر إضافته لفاعله؛ لأنه النبي صلى الله عليه وسلم َ.

قوله تعالى: {فَقَالُواْ سَلاماً} ، أي نُسلِّم لك سلاماً أو سلَّمتُ سلاماً، أو سلمُوا سَلاماً، قاله القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.

قال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: خائفون؛ لأنهم لم يأكلوا طعامه، وقيل: لأنهم دخلوا بغير إذن، وبغير وقت.

قوله:» لا تَوجَلْ «العامة على فتح التاء من» وجِلَ «ك:» شَرِبَ «يَشربُ، والفتح قياس» فَعِلَ «إلا أن العرب آثرت [يفعل بالكسر] في بعض الألفاظ إذا كانت واواً، نحو:» نَبِقَ «وقرأ الحسن:» لا تُوجَل «مبنياً للمفعول من الإيجال.

وقرىء: «لا تَأجَلْ» ، والأصل:«تَوْجل» كقراءة العامة، إلَاّ أبدل من الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها، وإن لم تتحرَّك كقولهم:«تَابةٌ» ، و «صَامةٌ» في «تَوْبة» ، و «صَوْمة» وسمع: اللَّهُم تقبَّل تَابتِي، وصَامتِي. وقرىء أيضاً:«لا تُواجِل» من المواجلة.

ومعنى الكلام: لاتخف؛ «إنَّا نَبشِّرُكَ» ، قرأ حمزة:«إنَّا نَبْشُركَ» بفتح النون وتخفيف الباء، والباقون بضم النون، وفتح الباء، و «إنَّا نُبشِّركَ» استئناف بمعنى التعليل للنهي عن الوجل، والمعنى إنَّك بمثابة الآمن المبشر فلا توةجل.

واعلم أنَّهم بشروهن بأمرين:

أحدهما: أنَّ الولد ذكرٌ، والثاني: أنه عليمٌ.

فقيل: بشَّروه بنبوته بعده، وقيل: عليم بالدِّين، فعجب إبراهيم أمره و {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} قرأ الأعرج:«بشَّرتُمونِي» بإسقاط أداة الاستفهام، فيحتمل الأخبار، ويحتمل الاستفهام، وإنما حذفت أدلته للعلم به.

وِ «على أنْ مسَّنيَ» في محل نصبٍ على الحال.

وقرأ ابن محيصن: «الكُبْر» بزنة «فُعْقولهخ:» فبمَ تبشّرون «» بِمَ «متعلقٌ ب» تُبشِّرُون «، وقدم وجوباً؛ [لأنه] استفهام وله صدر الكلام.

ص: 468

وقرأ العامة: بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع؟ ولم يذكر مفعنول التبشير، وقرأ نافع بكسرها، والأصل: تبشروني فحذف الياء مجتزئاً عنها بالكسرة.

وقد غلطه أبو حاتم، وقال: هذا يكون في الشعر اضطراراً.

وقال مكي:» وقد طعن في هذه القراءة قومٌ لبُعدِ مخرجِها في العربيَّة؛ لأنَّ حذف النون التي تصحبُ الياء لا يحسنُ إلَاّ في الشِّعر، وإن قُدِّر حذف النون الأولى حذفت [علم] الرفع من غير ناصب، ولا جازم؛ ولأنَّ نون الرفع كسرها قبيحٌ، إنَّما حقُّها الفتح «.

وهذا الطعن لا يتلفت إليه، لأنَّ ياء المتكلم قد كثر حذفها مجتزءاً عنها بالكسرة، وقد قرىء بذلك في قوله تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا} [الزمر: 64] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ووجهه: أنَّه لما اجتمع نونان أحدهما نون الرفع، والأخرى نون الوقاية استثقل اللفظ، فمنهم من أدغم، ومنهم من حذف، ثم اختلف في المحذوفة، هل هي الأولى، أو الثانية، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام [الأنعام: 80] .

وقرأ ابن كثير بتشديدها مكسورة، أدغم الأولى في الثانية، وحذف ياء الإضافة، والحسن: أثبت الياء مع تشديد النون، ورجح قراءة من أثبت مفعول:» يُبشِّرُون «وهو الياء.

قوله: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} » بَشَّرناكَ «، و» بالحقِّ «متعلق بالفعل قبله، وضعف أن يكون حالاً، أي: قالوا بَشَّرنَاكَ.

ومعنى:» بالحَقِّ «هنا استفهام بمعنى التعجُّب، كأنه قيل: بأيَّ أعجوبةٍ تبشروني؟ .

فِإن قيل: كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلقِ الولدِ منه في زمانِ الكبرِ؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشَّروا به؟ .

فِأجاب القاضي: بأنه أراد أن يعرف أنه تعالى هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على سفة الشيخوخة، أو يقلبه شابًّا، ثم يعطيه الولد؟ .

وسبب هذا الاستفهام: أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامَّة، وإنما يحصل في حال الشَّبابِ.

فإن قيل: فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم، فلم قالوا:{بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلَا تَكُن مِّنَ القانطين} ؟ .

ص: 469

قلنا: إنهم بيَّنوا أنه تعالى بشَّرهُ بالولد مع إبقائه على صفة الشَّيخوخَةِ، وقولهم {بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلَا تَكُن مِّنَ القانطين} لايدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرَّح في جوابهم بما يدلُّ على أنَّه ليس كذلك فقال:{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضآلون} .

وأجاب غيره: بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيءٍ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنِّه حصول المراد فيه، فإذا بشِّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه، وسروره، ويصير ذلك الفرحُ القويُّ كالمدهش له، والمزيل لقوَّة فهمه، وذكائه، فربَّما تكلم بكلماتٍ مضطربة في ذلك الوقت.

وقيل أيضاً: إنه يستطيب تلك البشارة، فربَّما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرَّة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة، أو طلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق، كقوله:{وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وقيل أيضاً: استفهم: أبأمرِ الله تبشروني، أم من عند أنفسكم، واجتهادكم.

قوله: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما يريد بما قضى الله تعالى.

وقوله: {فَلَا تَكُن مِّنَ القانطين} نهي لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن القنوطِ، وقد تقدَّم أنَّ النهي لإنسان عن الشَّيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهيّ عنه، كقوله جلَّ وعزَّ {وَلَا تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 48] {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [القصص: 78] .

قوله: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ} هذا استفهام معناه النفي، ولذلك وقع بعد الإيجاب ب «إلَا» .

وقرأ أبو عمرو، والكسائي:«يَقْنِطُ» بكسر عين هذا المضارع حيث وقع، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها، وفي الماضي لغتان «قنط» بكسر النون، «يَقنَطُ» بفتحها، وقنط «يقْنطُ» بكسرها، ولولا أن القراءة سنة متبعة، لكان قياس من قرأ {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} [الشورى: 28] وافلتح في الماضي هو الأكثر، ولذلك أجمع عليه.

قال الفارسي: فتح النون في الماضي، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات، ويرجحُ قراءة «يَقْنَطُ» بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات «فلا تكن من القنطين» كفَرِحشَ يفرح فهو فَرِحٌ.

ص: 470

والقُنُوط: شدَّة اليأسِ من الخَيرٍ، وحكى أبو عبيدة:«قَنُطَ» يَقْنُطُ بضمِّ النون.

قال ابن الخطيب: «وهذا يدلُّ على أنَّ» قَنَطَ «بفتح النون أكثر؛ لأن المضارع من» فَعَل «يجيء على» يَفْعِلُ ويَفْعُل «مثل: فَسقَ: ويَفْسُقُ، لا يجيء مضارع فَعَلَ على يَفْعَلُ» .

فصل

جواب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حق؛ لأنَّ الفنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلَاّ عند الجهل بأمور:

أحدها: أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه.

وثانيها: أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياج ذلك العبد إليه.

وثالثها: أ، يحجهل كونه تعالى، منزّهاً عن البخل، والحاجة.

والجهل بكلِّ هذه الأمور سبب للضَّلالِ، القُنوط من رحمة الله كبيرة، كالأمن من مكرهِ.

قوله تعالى: {فَمَا خَطْبُكُمْ} الخطب: الشأن، والأمر، سألهم عمَّا لأجله أرسلهم الله تعالى.

فِإن قيل: إنَّ الملائكة لما بشَّروه بالولد الذَّكر العليمِ، كيف قال لهم بعد ذلك «فَمَا خَطْبُكمُ» ؟ .

فالجواب: قال الأصم: معناه: ما الذي وجتهم له سوى البُشْرَى؟ .

وقال القاضي: إنه علم أنه لو كان المقصود أيضاً البشارة، لكان الواحد من الملائكة كافياً، فلمَّا رأى جمعاً من الملائكة؛ علم أنَّ لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة، فلا جرم قال:«فَما خَطْبكُمْ» ؟ .

قيل: إنَّهم قالوا: إنَّا نُبشِّركَ بغُلامٍ عَليم لإزالة الخوف، والوجل، ألا ترى أنّه لما قال:{إنا منكم وجلون} قالوا له: {لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم} ، فلو كان المقصود من المجيء هو البشارة؛ كانوا ذكروا البشارة في أوَّل دخولهم، فلمَّا لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم صلوات الله وسلام عليه أنَّ مجيئهم ما كان لمجرَّد البشارة، بل لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض، قال:{فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} مشركين، وإنَّما اقتصوار على هذا القدر، لعلم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بأنَّ الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين، كان ذلك لأهلاكهم.

ويدل ع لى ذلك قوله: {إِلَاّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} قوله «إلا آل لُوطٍ» فيه وجهان:

ص: 471

أحدهما: أنه استثناء متصل علىأنه مسثنى من الضمير المستكن في: «مُجرمِينَ» بمعنى أجرموا كلهم إلَاّ آل لوطٍ؛ فإنَّهم لم يجرموا، ويكون قولهم «إنَّا لمنجوهم» استئناف إخبار بنجاتهم، لكنهم لم يجرموا ولكن الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وأنجاء هؤلاء.

والثاني: أنه اسثناء منقطع؛ لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين آلبتَّة.

قال أبو حيان: وإذا كان استثناء منقطعاً، فهو مما يجبُ فيه النصب؛ لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن توجيه العامل إلى المستثنى منه؛ لأنهم لم يرسوال إليهم، إنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصَّة، ويكون قوله:«إنَّ لمُنجَّوهُمْ» جَرَى مَجْرى خبر لكن في اتِّصاله ب «آل لوطٍ» ؛ لأن المعنى: لكنَّ آل لوط منجوهم، وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدَّر بلكن، إذ لم يكن بعده ما يصحُّ أن يكون خبراً: أنَّ الخبر محذوف، وأنه في موضع رفع لجريان:«إلَاّ» ، وتقديرها ب «لَكِن» .

قال شهابُ الدِّين: «وفيه نظرٌ؛ لأن قوله لا يتوجه إليه العامل أيك لا يمكن، نحو: ضحك القوم إلا حمارهم، وصهلت الخيلُ إلا الإبل. أمَّا هذا، فيمكن الإرسال إليهم من غير منع، وأمَّا قوله: لأنهم لم يرسلوا إليهم فصحيح؛ لأنَّ حكم الاستثناء كلَّه هكذا، وهو أن يكون خارجاً عمَّا حكم به على الأوَّل، لكنَّه لو سلط عليه لصحَّ ذلك بخلاف ما تقدَّم من أمثلتهم» .

قوله: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} قرأ الأخوان: «لمُنْجُوهمْ» مخففاً؛ وكذلك خففا أيضاً فعل هذه الصيغة في قوله تعالى في العنكبوت {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] ؛ وكذلك خففا أيضاً قوله فيها: {إِنَّا مُنَجُّوكَ} [العنكبوت: 33] فهما جاريتان على سننٍ واحدٍ.

وقد وافقهما ابن كثير، وأبو بكر على تخفيف:«مُنجوكَ» كأنهما جمعا بَيْنَ اللغتين، وباقي السبعة بتشديد الكل. والتخفيف والتشديد لغتان مشهورتان من: نَجَّى وأنْجى، وأنزلَ، ونزَّل، وقد نطق بفعلهما، قال:{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} [العنكبوت: 65] وفي موضع {أَنجَاهُمْ} [يونس: 23] .

قوله: {امرأته} فيه وجهان:

أحدهما: أنه استثناء من «آل لُوطٍ» . قال أبو البقاء رحمه الله: «والاستنثاء إذا جاء عبد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافاً إلى المبتدا كقولك:» لهُ عِندِي عشرةٌ إلا

ص: 472

أربعة إلا درهماً «فإن الدرهم يستثنى من الأربعة، فهو مضاف إلى العشرة، فكأنك قلت: أحد عشرة إلَاّ أربعة، أوعشرة إلَاّ ثلاثة» .

والثاني: أنها مستثناةٌ من الضمير المجرور في قوله «لمُنَجوهمْ» .

وقد منع الزمخشري رحمهن الله الوجه الأول، وعيَّن الثاني فقال:«فإن قلت: قوله:» إلا امرأتهُ «مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناء نم استثناء؟ .

قلت: مستثنى من الضمير المجرور في قوله:» لمُنَجُّوهم «، وليس من الاستثناء في شيء؛ لأن الاستثناء م الاستثناء إنَّما يكون فيما اتَّحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأتهُ، كما اتَّحد في قول المطلِّق: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنين إلا واحدة، وقول المقرّ: لفلان علي عشرة درارهم إلا ثلاثة إلا درهماً، اما الآية فقد اختلف الحكمان؛ لأنّ:» آل لوطٍ «متعلق ب» أرْسَلْنَا «أوة ب» مُجرمِينَ «، و» إلَاّ امْرأتهُ «قد تعلَّق بقوله:» لمُنجوهم «فأنَّى يكون استثناء من استثناء» .

قال أبو حيَّان: ولما استسلف الزمخشري أنَّ «امرأتهُ» استثناء من الضمير في لمُنجُّوهم «أبى أن يكون استثناء من استثناء، ومن قال: إنه استثناء من استثناء، فيمكن [تصحيح قوله] بأحد وجهين:

أحدهما: أنه لما كان امرأته مستثنى من الضمير في» لمُنَجوهُم «، وهو عائدٌ على» آل لوطٍ «صار كأنَّه مستثنى من:» آل لوطٍ «؛ لأنَّ المضمر هو الظاهر.

والوجه الآخر: أن قوله «إلَاّ آل لوطٍ» لمَّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله:{إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} تأكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى: إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب، وجاتهم مرتبة على [عدم] الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير ذلك: قام القومُ إلَاّ زيداً لم يقم أو إلَاّ زيداً فإنه لم يقم، فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمَّنهُ الاستثناء من الحكم على ما بعد إلَاّ بضدِّ الحكم السَّابق على المستثنى منه، ف:«إلَاّ امْرَأتهُ» على هذا التدقير الذي قرَّرناه مستثنى من: «آلَ لُوطٍ» ؛ لأنَّ الاستثناء ممَّا جيء به للتَّأسيس أولى من الاستثناء ممَّا جيء به للتأكيد.

قوله «قدَّرْنَا» قرأ أبو بكر ههنا، وفي سورة النمل بتخفيف الدَّال، والباقون بتشديدها، وهما لغتان: قَدَّر، وقَدَر.

قوله: «إنَّها» كسرت من أجل اللاّم في خبرها، ولولا [لَفُتِحَتْ] ، وهي معلقة

ص: 473

لما قبلها؛ لأنَّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمَّا لكونه بمعناه، وإمَّا لأنه مترتب عليه.

قال الزمخشري: «فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله: {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} ، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمن فعل التقدير معنى العلم» .

قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى «وكسرت» إِنَّها «إجراء لفعل التقدير مجرى العلم» .

وهذا لا يصحُّ علة لكسرها، إنَّما يصحُّ علةً لتعليقها الفعل قبلها.

فصل

معنى التقدير في اللغة: جعل الشيء على مقدار غيره، يقال: قدر هذا الشيثء بهذا، أي: اجعله على مقداره، وقدَّر الله سبحانه الأقوات، أي: جعلها على مقدار الكفاية، ثمَّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال: قضى الله عليه، وقَدرَ عليه، أي: جعله على مقدار ما يكفي في الخير، والشر. وقيل: معنى: «قَدَّرْنَا» كتبنا. وقال الزجاج: دبرنا. فإن [قيل] لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عز وجل؟

فالجواب: إنَّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله، كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا [وأمرنا بكذا] ، والمدبر، والآمر هو الملك لا هم، وإنَّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك، فكذا هنا.

قوله تعالى: {إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} في موضع مفعول، التقدير: قضينا أنها تتخلف، وتبقى مع من يبقى حتَّى يهلك، فتلحق بالهالكين.

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون} القصة لما بشروا إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بالولد، وأخبروه بأنهم مرسلون بالعذاب إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط عليه السلام، وإلى آله، وإنَّ لوطاً، وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة لله.

فقالوا: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ؛ لأنهم لما هجموا عليه؛ استنكرهم، وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه.

وقيل: خاف؛ لأنهم كانوا شبايا مرداً حسان الوجوه، فخاف أن يهجم قومه عليهم لطلبهم، فقال هذه الكلمة.

وقيل: إنَّ النكرة ضدّ المعرفة، فقوله:{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ، أي: لا أعرفكم، وأعرف أنكم من أي الأقوام، ولأي غرض دخلتم عليّ، فقال:{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} .

ص: 474

قوله: {بَلْ جِئْنَاكَ} إضراب عن الكلام المحذوف، تقديره: ما جئناك بما ينكر، {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا [كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} ] .

وقد تقدَّم الخلاف في قوله: «فأسْرِ» قعاً ووصلاً في هود: [81] .

وقرأ اليماني فيما نقل ابن عطية، وصاحب اللوامح:«فَسِرْ» من السير. وقرأت فرقة بفتح الطاء، وقد تقدَّم في يونس أنَّ الكسائي، وابن كثير قرآه بالسكون في قوله «قِطْعاً» والباقون بالفتح.

قوله: قالت الملاكئة {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} يشكون أنه نازلٌ بهم، وهو العذاب؛ لأنه كان يوعدهم بالعذاب، فلا يصدقونه، ثمَّ أكدوا ذلك بقولهم:{وَآتَيْنَاكَ بالحق} قال الكلبيُّ: بالعذاب، [وقيل] باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو العذاب] ثم أكدوا هذه التَّأكيد بقولهم {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} .

{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} والقِطْعُ والقَطع: آخر الليل؛ قال: [الخفيف]

3280 -

افْتَحِي البَابَ وانظُرِي في النُّجُومِ

كَم عليْنَا مِن قِطْعِ ليْلٍ بَهِيمِ

{واتبع أَدْبَارَهُمْ} ، أي سر خلفهم {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} لئلا ترتاعوا من أمر عظيم فأنزل بهم من العذاب.

وقيل: معناه الإسراع، وترك الاهتمام لما خلف وراءه، كما يقول: امض لشأنك، ولا تعرج على شيءٍ.

وقيل: المعنى لو بقي [منه] متاعٌ في ذلك الموضع، فلا يرجعن بسببه ألبتَّة.

وقيل: جعل الكله ذلك علامة لمن ينجو من آل لوطٍ.

{وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني «الشَّام» .

وقال المفضل: حيث يقول لكم جبريل. وقال مقاتل: يعني زغر. وقيل: «الأرْدن» .

قوله: {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} «حَيْثُ» على بابها من كونها ظرف مكان مبهمٍ، ولإبهامها

ص: 475

تعدي إليها الفعل من غير واسطةٍ، على أنه قد جاء في الشِّعر تعديته إليها ب «في» كقوله:[الطويل]

3281 -

فَأصْبحَ في حَيْثُ التَقيْنَا شَردُهمْ

طَليقٌ ومكْتوفُ اليَديْنِ ومُزْعِفُ

وزعم بعضهم أنها هنا ظرف زمانٍ، مستدلاً بقوله:{بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} ثم قال {وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي: في ذلك الزَّمان.

وهو ضعيف، ولو كان كما قال، لكان التركيب وأمضوا حيث أمرتهم على أنه لو جاء التَّركيب كذا لم يكن فيه دلالة.

قوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} ضمَّن القضاء معنى الإيجاء؛ فلذلك تعدَّى تعيدته «إلى» ، ومثله {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] .

و «ذَلكَ الأمْرَ» «ذَلِكَ» مفعول القضاءِ، والإشارة به إلى ما وعد من إهلاكِ قومه، و «الأمْرَ» إمَّا بدلٌ منه، أو عطف بيانٍ له.

قوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ} العامة على فتح «أنَّ» وفيها أوجه:

أحدها: أنها بدل من «ذَلِكَ» إذا قلنا: «الأمْرَ» عطف بيان.

الثاني: أنَّها بدلٌ من «الأمْرَ» سواء قلنا: إنه بيان أو بدل مما قبله.

الثالث: أنه على حذف الجار، أي: بأنَّ دابر، ففيه الخلاف المشهور.

وقرأ زيد بن علي، والأعمش بكسرها؛ لأنه بمعنى القول.

وعلَّله أبو حيان: بأنه لمَّا علق ما هو بمعنى العلم؛ كسر.

وفيه النظر المتقدم.

ويؤيِّد إضمار القول قراءة ابن مسعودٍ: وقلنا إنَّ دابر هؤلاء.

ودابرهم: آخرهم «مَقطوعٌ» مستأصل، يعني مستأصلون عن آخرهم؛ حتى لا يبقى منهم أحد «مُصْبحينَ» ، أي في حال ظهور الصبح، فهو حال من الضمير المستتر في:«مَقطُوعٌ» ، وإنَّما جمع حملاً على المعنى، وجعله الفرَّاء، وأبو عبيدة خبراً لكان المضمرة، قالا: تقديره: إذا كانوا مصبحين، نحو «أنْتَ مَاشِياً أحسنُ مِنْكَ رَاكِباً» .

وهو تكلفٌ، و «مُصْبحِينَ» داخلين في الصَّباحِ.

قوله: {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة} ، أي: مدينة لوط، يعني:«سدُوم» «يَسْتبشِرُونَ» حالٌ، أي: يستبشرون بأضياف لوطٍ، يبشر بعضهم بعضاً في ركوب الفاحشة منهم.

ص: 476

قيل: إنَّ الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم.

وقيل: أخبرتهم امرأة لوطٍ بذلك؛ فذهبوا إلى دارِ لوطٍ؛ طلباً منهم لأولئك المردِ.

فقال لهم لوط صلوات الله وسلامه عليه: «هَؤلاءِ ضَيْفِي» وحق على الرجل إكرام ضيفه، «فلا تَفْضحُونِ» فيهم.

يقال: فَضحَهُ يَفضحُه فَضْحاص، وفَضِيحَةً، إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار، والفَضِيحُ والفَضِيحةُ: البيان، والظُّهورُ، ومنه: فَضِيحَةُ الصُّبْحِ؛ قال الشاعر: [البسيط]

3282 -

وَلاحَ ضَوءُ هِلالِ اللَّيْلِ يَفْضحُنَا

مِثْلَ القُلامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفُرِ

إلا أنَّ الفضحية اختصت بما هو عارٌ على الإنسان عند ظهوره.

ومعنى الآية: أن الضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموه بالسُّوءِ كان ذلك إهانة بي، ثمَّ أكد ذلك بقوله:{واتقوا الله وَلَا تُخْزُونِ} ولا تخجلون، فأجابوه بقولهم:{أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} ، أي: عن أن تضيِّف أحداً من العالمين.

وقيل: ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة؛ فإنا نركبُ منه الفاحشة.

قوله: {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} يجوز فيه أوجه:

أحدها: أ، يكون {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} مفعولاً بفعل مقدرٍ، أي: تزوَّجُوا هؤلاء، و «بَناتِي» بدلٌ، أو بيانٌ.

الثاني: أن يكون {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} مبتدأ وخبراً، ولا بدَّ من شيء محذوف تتمُّ به الفائدة، أي: فتزوَّجُوهنَّ.

الثالث: أن يكون «هَولاءِ» مبتدأ، و «بَناتِي» بدلٌ، أو بيان والخبر محذوف، أي: هُنَّ أطهر لكم كما جاء في نظيرتها.

وتقدَّم الكلام على هذه المعاني في هود.

قوله {لَعَمْرُكَ} مبتدأ محذوف الخبر وجوباً، ومثله: لايْمُن الله، و «إنَّهُمْ» ، وما في حيزه جواب القسم، تقديره: لعمرك قسمي، أو يميني إنهم، والعُمُرُ والعَمْر بالفتح والضم هو البقاء، إلا أنَّهم التزموا الفتح في القسم.

قال الزجاج: لأنه اخفُّ عليهم، وهم يكثرون القسم ب «لعَمْرِي ولعَمْرُكَ» .

وله أحكام كثيرة:

منها: أنه متى اقترن بلام الابتداء؛ ألزم فيه الرفع بالابتداء، وحذف خبره لسد جواب القسم مسدَّه.

ص: 477

ومنها: أنه يصير صريحاً في القسم، أي: يتعيَّن فيه، بخلاف غيره نحو: عَهْدُ اللهِ ومِثَاقُه.

ومنها: أنه يلزم فتح عينه.

فإن لم يقترن به لام الابتداء، جاز نصبه بفعلٍ مقدرٍ، نحو: عَمْرُ اللهِ لأفعلنَّ، ويجوز حينئذٍ في الجلالة وجهان:

النَّصبُ والرفع فالنصب على أنه مصدرٌ مضاف لفاعله، وفي ذلك معنيان:

أحدهما: أن الأصل: أسألك بعمرك الله، أي: بوصفك الله تعالى بالبقاء، ثم حذف زوائد المصدر.

والثاني: أن المعنى: بعبادتك الله، والعَمْرُ: العِبادةُ.

حكى ابن الأعرابي: إنِّي عمرتُ ربِّي، أي: عبدته، وفلان عامر لربِّه، أي: عابده.

وأمَّا الرفع: فعلى أنه مضاف لمفعوله.

قال الفارسي رحمه الله: معناه [عَمَّرك] الله تعميراً، وقال الأخفش: أصله: أسْألك بِيُعمرك الله، فحذف زوائد المصدر، والفعل، والياء، فانتصب، وجاز أيضاً ذكر خبره، فتقول: عمرك قسمي لأقومن، وجاز أيضاً ضمُّ عينه، وينشد بالوجهين قوله:[الخفيف]

3283 -

أيُّهَا المُنْكِحُ الثُريَّا سُهَيلاً

عَمركَ الله كيْفَ يَلتقِيَانِ

هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا ما استقلَّتْ

وسُهَيْلٌ إذا اسْتقل يَمانِي

ويجوز دخول باء الجر عليه؛ نحو: بعمرك لأفعلنَّ؛ قال: [الوافر]

3284 -

رُقيَّ بِعمْرِكُم لا تَهْجُرينَا

ومَنِّينَا المُنَى ثُمَّ امْطُلينا

وهو من الأسماء اللازمة للإضافة، فلا يقطع عنها، ويضاف لكل شيء، وزعم بعضهم: أنه لا يضاف إلى الله تعالى.

قيل: كان هذا يوهم أنه لا يستعمل إلا شفي الانقطاع، وقد سمع إضافته للباري تعالى. قال الشاعر:[الوافر]

3285 -

إذَا رَضِيَتْ عليَّ بَنُو قُشيْرٍ

لعَمْرُ الله أعْجَبنِي رِضَاهَا

ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلِّم، قال لأنه حلف بحياة المقسم، وقد ورد ذلك، قال النابغة:[الطويل]

ص: 478

3286 -

لعَمْرِي وما عمْرِي عليَّ بِهيِّنٍ

لقد نَطقَتْ بُطلاً عليَّ الأقَارعُ

وقد قلبته العرب لتقديم رائه على لامه، فقالوا: وعملي، وهي رديئة.

«إنَّهُمْ» العامة على كسر «إنَّ» لوقوع اللام في خبرها، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي له «أنَّ» فتحها، وتخريجها على زيادة اللام، وهي كقراءة ابن جبيرٍ (ألا أنهم ليأكلون الطعام] بالفتح.

وقرأ الأعمش: «سَكْرهُمْ» بغير تاء، وابن أبي عبلة «سَكرَاتهِمِ» جمعاً، والأشهب:«سُكْرتِهِم» بضم السين.

و «يَعْمَهُونَ» حال إمَّا من الضمير المستكن في الجار، وإمَّا من الضمير المجرور بالإضافة، والعامل إمَّا نفس سكرة، لأنَّها مصدر، وإمَّا معنى الإضافة.

فصل

قيل: إن الملائكة عليهم السلام قالت للوطٍ صلوات الله وسلامه عليه «لعَمُركَ إنَّهم لَفِي سَكرتِهمْ يَعْمَهُونَ» : يتحيَّرون.

وقال قتادة: يلعبون فكيف يعقلون قولك ويتلفتون إلى نصيحتك؟ .

وقيل: إنَّ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ وإنَّه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحدٍ.

روى أبو الجوزاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال ما خلقَ الله نفساً أكرم على الله من محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ، وما أقْسمَ بحياةِ أحدٍ إلَاّ بحياتهِ.

قال ابن العربي: قال المفسرون بإجماعهم: أقسم الله تعالى ها هنا بحياةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ

ص: 479

تشريفاً له، أنَّ قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حريتهم يترددون، وقال القاضي عياضٌ: اتفق أهل التفسير في هذا: أنَّه قسم من الله تعالى بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم َ وأصله ضمُّ العين من العمر، ولكنها فتحت بكثرة.

قال ابن العربي: ما الذي يمنعُ أن يقسم الله تعالى بحياة لوطٍ، ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكلُّ ما يعيطه الله للوطٍ من فضل، يعطي ضعفه لمحمد صلى الله عليه وسلم َ؛ لأنَّه أكرم على الله منه؛ أو لات تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلَّة، وموسى التكليم، وأعطلى ذلك لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم َ، فإذا أقسم بحياة لوطٍ، فحياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ أرفعُ، ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكرٌ لغير ضرورةٍ.

قال القرطبيُّ: ما قاله حسنٌ، فإنَّه كان يكون قسمة سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم َ، كلاماً معترضاً في قصَّة لوط.

قال القشيريُّ: يحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوطٍ؛ أي كانوا في سكرتهم يعمهون، أي لمَّا وعظ لوطٌ قومه وقال: هؤلاء بناتي، قالت الملائكة: يا لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون، ولا يدرون ما يحلُّ بهم صباحاً.

فإن قيل: فقد أقسم الله تعالى بالتِّين، والزَّيتونِ، وطور سنين، وما في هذا من الفضل؟ قيل له: ما من شيء أقسم الله به، إلاّ وفي ذلك دلالة على فضل على ما يدخل في عداده، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم َ.

ثم قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} ، ولم يذكر في الآية صيحة من هي فإن ثبت بدليل قوي أن تلك صيحة جبريل قيل به وإلا فليس في الآية دليلٌ على أنه جاءتهم صيحة مهلكة.

قوله «مُشْرقينَ» «حال من مفعول» أخَذتْهُمْ «، أي داخلين في الشروق، أي: بزوغِ الشَّمسِ.

يقال: شَرَق الشارق يَشْرُق شُرُوقاً لكل ما طلع من جانب الشرع، ومنه قوله: ما ذرَّ شَارِقٌ، أي طلع طَالعٌ فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين أشرقوا.

والضمير في:» عَاليهَا وسَافِلهَا «للمدينة. وقال الزمخشريُّ:» لقرى لقوم لوط «.

ورجح الأول بأنه تقدَّم ذكر المدينة في قوله {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة} فعاد الضمير إليها بخلاف الثاني، فإنه لم يتقدَّم لفظ القرى.

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} تقدم الكلام على ذلك كله في هود: [82] .

قوله {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} متعلق بمحذوف على أنه صفة ل» آيَاتٌ «وأجود أن يتعلق بنفس» آيَاتٌ «؛ لأنَّها بمعنى العلامات.

ص: 480

والتوسُّم: تفعل من الوسم، والوسمُ أصله: التَّثبت، والتَّفكر مأخوذ من الوسمِ، وهو التَّأثير بحديد في جلد البعير، أو غيره.

وقال ثعلب: الوَاسِمُ النَّاظر إليك من [قرنك] إلى قدمك، وفيه معنى التَّثبيت.

وقال الزجاج: حقيقة المتوسِّمين في اللغة: المثبتون في نظرهم حتَّى يعرفوا سمة الشيء، وصفته وعلامته وهو استقصاءُ وجوه التَّعرف قال:[الكامل]

3287 -

أوَ كُلما وردَتْ عُكاظَ قَبيلَةٌ

بَعَثَتْ إليَّ عَريفَهَا يَتوسَّم

وقيل: هو تفعُّل من الوسمِ، وهو العلامة، توسَّمتُ فيك خيراً، أي: ظهر لي مِيسَمُهُ عليك.

قال ابن رواحة يمدحُ النبي صلى الله عليه وسلم َ: [البسيط]

3288 -

إنِّي تَوسَّمْتُ فِيكَ الخَيرَ أعْرفهُ

واللهُ يَعْلمُ أنِّي ثَابتُ البَصرِ

وقال آخر: [الطويل]

3289 -

تَوسَّمْتهُ لمَّا رَأيْتُ مَهَابَةٌ

عَليْهِ، وقُلْتُ المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشمِ

ويقال: اتَّسمَ الرَّجلُ، إذا اتَّخذَ لِنفْسِه عَلامةً يُعرف بِهَا، وتوسَّم: إذا طلبَ كلأ الوسمي، أي: العُشْبَ النَّابت في أوَّل المطر.

واختلف المفسِّرون: فقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما للنَّاظرين.

وقال مجاهدٌ للمتفرِّسين، وقال قتادة للمعتبرين، وقال مقاتلٌ للمتفكرين.

ص: 481

قوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} الظاهر عود الضمير على المدينة، أو القرى وقيل على الحجارة وقيل: على الآيات، والمعنى: بطريقٍ قال مجاهد هذا طريق معلم، وليس بخفيّ، ولا زائلٍ.

ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} ، إي: كل من آمن بالله، ويصدق بالأنبياء، والرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم؛ عرف أنَّما كان انتقامُ الله من الجُهَّال لأجل مخالفتهم، وأمَّا الذين لا يؤمنون؛ فيحملونه على حوادث [العالم] ، وحصول القرانات الكوكبية، والاتصالات الفلكية.

ص: 482

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ} «إنْ» هي المخففة، واللم فارقة وهي للتأكيد، وقد تقدَّم حكم ذلك [البقرة: 143] .

و «الأيْكَة» : الشَّجرة الملتفَّّة، واحدة الإيْكِ. قال:[الكامل]

3290 -

تَجْلُو بِقَادمتَي حَمامَةِ أيْكَةٍ

بَرَاداً أسِفَّ لِثاتهُ بالإثْمِدِ

ويقال: لَيْكَة، وسيأتي بيانه عند اختلاف القرَّاء فيه الشعراء:[176] إن شاء الله تعالى.

وأصحاب الأيكة: قوم شعيب كانوا أصحاب غياضٍ، وشجرٍ متلفٍّ.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان عامة شجرهم الدوم، وهو المقل.

{فانتقمنا مِنْهُمْ} بالعذاب.

روي أنَّ الله تعالى سلَّط عليهم الحر سبعة أيَّام، مفبعث الله سبحانه سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الرَّوْحَ؛ فبعث الله عليهم ناراً، فأحرقتهم، فهو عذابُ يوم الظُّلة.

قوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} في ضمير التثنية أقوال:

أرجحها: عوده على [قريتي] قوم لوطٍ، وأصحاب الأيكةِ، وهم: قوم شعيبٍ؛ لتقدُّمها ذكراً.

ص: 482

وقيل: يعود على لوطٍ وشعيبٍ، [وشعيبٌ] لم يجر له ذكر، ولكن دلَّ عليه ذكر قومه.

وقيل: يعود على الخبرين: خبر هلاك قوم لوطٍ، وخبر إهلاك قوم شعيبٍ.

وقيل: يعود على أصحاب الأيكةِ، وأصحاب مدين؛ لأنه مرسلٌ إليهما، فذكر أحدهما يشعر بالأخرى.

وقوله جل ذكره {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} أي: بطريق واضح، والإمام [اسم لما] يؤتمُّ به.

قال الفراء، والزجاج:«إنَّما جعل الطَّريقُ إماماً؛ لأنه يؤمُّ، ويتبع» .

قال ابن قتيبة: لأنََّ المسافر يأتمُّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده.

وقوله: «مُبينٍ» يحتمل أنه مبين في سنفسه، ويحتمل أنه مبين لغيره، لأن الطريق تهدي إلى المقصد.

ص: 483

قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين} . قال صاحبُ «ديوان الأدبِ» الحِجْر: بكسر الحاء المهملة، وتسكين الجيم له ستَّة معانٍ:

فالحِجْر: منازل ثمود، وهو المذكور هاهنا، والحِجْرُ: الأنثى من الخيل. والحِجْرُ: الكعهبة. والحِجْرُ: لغة في الحجرِ، هو واحد الحجور في قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] والحِجْرِ: العَقْلُ، قال تعالى:{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} [الفجر: 5]، والحِجْرُ: الحرامُ في قوله تعالى: {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 53] أي: حراماً محرماً.

فصل

قال «المُرْسلينَ» ، وإنَّما كذبوا صالحاً وحده؛ لأنَّ من كذَّب نبيًّا؛ فقد كذَّب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ملأنهم على دين واحد ولا يجوز التَّفرييقُ بينهم.

وقيل: كذَّبُوا صالحاً، وقيل: كذَّبوا صالحاً ومن تقدمه من النَّبيين أيضاً، والله تعالى أعلم.

قال المفسرون: والحِجْرُ: اسم وادٍ كان يسكنه ثمود قوم صالحٍ، وهو بين المدينة، والشام، والمراد ب «المُرْسلينَ» صالحٌ وحده.

ص: 483

قال ابن الخطيب: «ولعلَّ القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل» .

{وَآتَيْنَاهُمْ} يعني النَّاقة، وولدها، والبئر، والآيات في النَّاقة: خروجها من الصَّخرة، وعظم خلقها، وظهور نتاجها عند خروجها، وقُرب ولادتها، وغزارة لبنها، وأضاف الإيتاء إليهم، وإن كانت النَّاقة آية صالحٍ؛ لأنَّها آيات رسولهم، فكانوا عنها معضرين؛ فذلك يدلُّ على أنَّ النَّظر، والاستدلال واجب، وأنَّ التقليد مذموم.

{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} تقدَّم كيفيَّة النَّحت في الأعراف: [74] ، وقرأ الحسن، وأبو حيوة: بفتح الحاءِ.

«ءَامِنينَ» من عذاب الله.

وقيل: آمنين من الخرابِ، ووقوع السَّقف عليهم.

{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} ، أي: صيحة العذاب «مُصْبِحينَ» ، أي وقت الصُّبح.

قوله: «فَمَا أغْنَى» يجوز أني تكون نافية، أو استفهامية فيها [معنى] التعجب، وقوله:«مَا كَانُوا» يجوز أن تكون «مَا» مصدرية، أي: كسبهم، أو موصوفة، أو بمعنى «الَّذي» ، وةالعائد محذوف، أي: شيء يكسبونه، أو الذي يكسبونه.

فصل

وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لمَّا نزل الحجر في غزوة تبوك، أمرهم ألَاّ يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقال واحدٌ: عَجَنَّا، وأسْتقَيْنَا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم َ أن يهريقوا ذلك الماء، وا، يطرحوا ذلك العجين» ، وفي رواية:«وأ، ْ يَعْلِفُوا الإبل العجِين» .

وفي هذا دليل على كراهة دخول تلك المواضع، وعلى كراهةِ دخول مقابر الكفار، وعلى تحريم الانتفاع بالماء المسخوط عليه؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ أمرهم بإهراقه وطرح العجين، وهكذا حكم الماء النَّجسِ، ويدلُّ على أنَّ ما لا يجوز استعماله من الطعام، والشراب، يجز أن يعلفه البهائم.

قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلَاّ بالحق} الآية. لما ذكر أهلاك الكفَّار، فكأنه قيل: كيف يليق الإهلاك بالرحيم؟ .

فأجاب: بأني ما خلقت الخلق إلا ليشتغلوا بعبادي، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فإذا تركوها، وأعرضوا عنها؛ وجب في الحكمة إهلاكهم، وتظهير وجه الأرض منهم.

ص: 484

وهذا النَّظم حسنٌ، إلا أنَّه إنما يستقيمُ على قوله المعتزلة، وفي النظم وجه آخر: وهو أنه تعالى إنَّما هذه القصَّة تسلية لنبيِّه صلى الله عليه وسلم َ وأن يصبره على سفاهة قومه، فإنه إذا سمع [أنَّ] الأمم السَّالفة كانوا يعاملون بمثل هذه المعاملات؛ سهُل تحمُّل تلك السَّفاهات على محمد صلى الله عليه وسلم َ ثم: إنَّه تعالى لما بيَّن أنه أنزل العذاب على الأمم السَّالفة، قال لمحمد صلى الله عليه وسلم َ:«إنَّ السَّاعةَ لآتيِةٌ» ، وإنَّ الله لينتقم لك من أعدائك، ويجازيهم، وإيَّاك، فإنه ما خلق السماوات، والأرض، وما بينهما إلا بالحق، والعدل والإنصاف، فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك؟ .

ثم إنَّه تعالى لما صبَّره على أذى قومه، رغَّبة بعد ذلك في الصَّفح عنهم، فقال:{فاصفح الصفح الجميل} .

قوله:: إلَاّ بالحقِّ «نعت لمصدر محذوف، أي: ملتسبة بالحقِّ.

قال المفسِّرون: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وهو بعيد؛ لأنَّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن، والعفوا، والصفح، فكيف يصير منسوخاً؟ .

ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم} ، أي خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم، وتفاوت أحوالهم، مع علمه بكونهم كذلك وإذا كان كذلك، فإنَّما خلقهم مع هذا التَّفاوت، ومع العلم بذلك التَّفاوت، أمَّا على قول أهل السنة فلمخض مشيئته، وإرادته، وعلى قول المعتزلة: لأجل المصلحة، والحكمة.

وقرأ زيد بن علي، والجحدري:» إنَّ ربَّك هُو الخَالِقُ «، وكذا هي في مصحف أبيّ وعثمان.

ص: 485

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني} يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات، وأن يكون سبعاً من السُّورِ، وأن يكون سبعاً من الفوائد، وليس في اللفظ ما يدلُّ على التَّعيين.

ص: 485

والثاني: صيغة جمع، واحدة مثناةُ، والمثناةُ: كل شيءٍ يُثَنَّى، وأي: يجعل اثنين من قولك: ثَنَيْت الشَّيء ثَنْياً، أي: عَطفْتهُ، أو ضممت إليه آخر، ومنه يقال لرُكْبتَي الدَّابة ومِرْفقَيْهَا مثانِي؛ لأنها تثنى بالفخذ، والعضد؛ ومثاني الوادي معاطفه.

وإذا عرف هذا، فقوله:{سَبْعاً مِّنَ المثاني} مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى، وهذا القدر مجملٌ، ولا سبيل إلى تعيينه، إلا بدليلٍ منفصلٍ، وللنَّاس فيه أقوال:

أحدها: قال عمرُ، وعليٌّ، وابن مسعودٍ، وأبو هريرة، والحسن، وأبو العالية، ومجاهدٌ والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة رضي الله عنهم: إنه فاتحة الكتاب.

روى أبو هريرة رضي الله عنهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قرأ فاتحة الكتاب، وقال:» هِيَ السَّبْعُ المَثانِي «.

وإنَّما سمِّيت بالسَّبع؛ لأنها سبعُ آياتٍ، وفي تمسيتها بالمثاني وجوه:

أولها: قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما والحسن، وقتادة لا، ها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كلِّ ركعةٍ.

ثانيها: قال الزجاج: لأنَّها تثنى مع ما يقرأ معها.

وثالثها: لأنها قسمت قسمين: نصفها ثناءُ، ونصفها دعاءٌ، كما ورد في الحديث المشهور.

ورابعها: قال الحسين بن الفضل: لأنَّها نزلت مرَّتين، مرة بمكَّة، ومرة بالمدينة.

وخامسها: لأنَّ كلماتها مثناة، مثل:{الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضآلين} [الفاتحة: 37] .

وفي قراءة عمر: (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) .

نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنَّه قال: كان ابن مسعودٍ رضي الله عنه لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب؛ رأى أنَّها ليست من القرآن.

قال ابن الخطيب:» لعلَّ حجَّته أنه عطف السَّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم «، ويشكل هذا بقوله:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7]، وكذلك قوله تعالى:{وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] .

ص: 486

وللخَصْم أن يجيب بأنه يجوز أن يذكر الكلَّ، ثمَّ يعطف عليه ذكر بعض أقسامه لكونه أشرف الأقسام، وأمَّا إذا ذكر شيءٌ ِآخر كان المذكور أولاً مغايراً للمذكور ثانياً، وها هنا ذكر سبع المثاني. ثم عطف عليه القرآن فوجب التغاير.

ويجاب عليه: بأنَّ بعض الشَّيء مغاير لمجموعه، فلم لا يكفكي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف؟ .

واعلم أنَّه لمَّا كان المراد بالسَّبع المثاني هو الفاتحة؛ دلَّ على أنَّها أفضل سور القرآن، لأن إفرادها بالذِّكر مع كونها جزءاً من القرآن؛ يدلُّ على مزيد اختاصها بالفضلية، وأيضاً: لما أنزلها مرَّتين دلَّ ذلك على أفضليتها، وشرفها، ولما واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ على قرءاتها في جميع الصلوات طول عمره، وما أقام [سورة أخرى] مقامها في شيءٍ من الصلوات، دل على على وجوب قراءتها، وألَاّ يقوم شيء من القرآن مقامها.

القول الثاني: السَّبع المثاني: هي السبع الطوال، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبيرٍ في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأنَّ الفرائض، والحدود، والأمثال والخبر، والعبر ثنيت فيها.

وأنكر الربيع هذا القول، وقال: الآيةُ مكية، وأكثر هذه السورة مدنيَّة، وما نزل منها من شيءٌ في مكَّة، فكيف تحمل هذه الآية عليها؟ .

وأجاب قومٌ عن هذا بأنه تعالى جلَّ ذكره أنزل القرآن كلَّه إلى سماءِ الدنيا، ثم أنزل على نبيه منه نجوماً، فلمَّا أنزله إلى سماءِ الدُّنيا، وحكم بإنزاله عليه فهو جملة من آتاه، وإن لم ينزل عليه بعدُ.

وفي هذا الجواب نظرٌ، فإن قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني} ذكره في [معرض] الامتنان، وهذا الكلامُ إنَّما يصدق، إذا وصل ذلك إلى محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه فأمَّا ما لم يصله بعد، فلا يصدق ذلك عليه.

وأما قوله: إنه لما حكم بإنزاله على محمد، كان ذلك جارياً مجرى ما نزل عليه، فضعيف؛ لأنَّ إقامة مالم ينزل عليه مقام النَّازل عليه مخالف للظَّاهرِ.

القول الثالث: أنَّ السَّبع المثاني: هون القرآن، وهو منقولٌ عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ

ص: 487

عَنْه في بعض الروايات، وهوق ول طاوس رضي الكله عنه لقوله تعالى:{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ} [الزمر: 23] فوصف كلَّ القرآن بكونه مثاني؛ لأنه كرَّر فيه دلائل التَّوحيدِ، والنبوَّة، والتَّكاليف.

قالوا: وهو ضعيف؛ لأنه لو كان المراد بالسَّبع المثاني القرآن لكان قوله: {والقرآن العظيم} ، عطفاً على نفسه، وذلك غير جائزٍ.

وأجيب عنه: بأنه إنَّما حسن العطف فيه لاختلاف اللفظين؛ كقول الشاعر:

3291 -

إلى المْلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ

وليْثِ الكَتِيبَةِ في المُزدحَم

واعلم أن هذا، وإن كان جائزاً إلا أنَّهم أجمعوا على أن الأصل خلافه.

القول الرابع: أنه يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة، وبالمثاني كل القرآن، ويكون التقدير: ولقد آتيناك سبع آياتٍ هي الفاتحة، وفي من جملة المثاني الذي هو القرآن، وهذا عين الأول.

و «مِن» في قوله: «مِنَ المثَانِي» .

قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: فيها وجهان:

أحدهما: أن تكون للتبعيض من القرآن، أي: ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يثنى بها على الله، وآتيناك القرآن العظيم.

ويجوز أن تكون «مِن» صفة، والمعنى: أتيناك سبعاً هي المثاني، كقوله تعالى:

{فاجتنبوا

الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، أي اجتنبوا الأوثان؛ لان بعضها رجس.

قوله: «والقرآن» فيه أوجه:

أحدها: أنه من عطف بعض الصفات على بعض، أي: الجامع بين هذه النعتين.

الثاني: أنه من عطف العام على الخاص، إذ المراد بالسَّبع: إمَّا الفاتحة، أو الطوال، فكأنه ذكر مرتين بجهة الخصوص، ثم باندراجه في العموم.

الثالث: أنَّ الواو مقحمة، وقرىء «وَالقُرآنِ» بالجر عطفاً على:«المَثَانِي» .

قوله تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا} الآية لما عرف رسوله عظيم نعمه عليه فما يتعلق بالدِّين، وهو أنه تعالى آتاه سبعاً من المثاني، والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال:{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ، أي لا تشتغل سرك، وخاطرك بالالتفات إلى الدينا، وقد أوتيت القرآن العظيم.

قال أبو بكر رضي الله عنه «مَنْ أوتِي القرآن فرَأى أنَّ أحَداً أوتِي مِنَ الدنيَا أفضل

ص: 488

ممَّا أوتِي، فقَد صَغَّرَ عَظِيماً وعَظَّمَ صَغِيراً» . وتأوَّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي صلى الله عليه وسلم َ:«ليْسَ مِنَّا من لمْ يتغنَّ بالقُرآنِ» أي لم يستغن.

وقال ابن [عبَّاسٍ] رضي الله عنهما: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» ، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدُّنيا.

وقرَّر الواحديُّ هذا المعنى فقال: «إنَّما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء، إذا أدام النَّظر نحوه، وإدامةٌ النَّظر إلى الشَّيء تدلُّ على استحسانه، وتمنِّيه، وكان النبي صلى لله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا» .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم َ «نظر إلى نَعَم بَنِي المُصطلقِ، وقد [عَبِسَتْ] في أبْوالِهَا، وأبْعارِهَا؛ فَتٌنَّعَ في ثَوْبهِ؛ وقَرأ هذِه الآية» .

قوله: «عَبِستْ في أبْوالِهَا وأبْعَارِهَا» هون أن تجف أبعارها، وأبوالها على أفخاذها، إذا تركت من العمل أيَّام الربيع؛ فيكثر شحومها، ولحومها، وهي أحسن ما تكون.

قوله: {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} .

قال ابن قتيبة: أي أصنافاً من الكُفَّار، والزَّوْجُ في اللغة: الصِّنف {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ؛ لأنهم لم يؤمنوا لم يؤمنوا، فيتقوى بإسلامهم، ثم قال عز وجل {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} .

الخفض: معناه في اللغة: نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [الواقعة: 3] ، أي: أنَّها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطَّاعة، وجناح الإنسان: يدهُ.

قال الليثُ رضي الله عنه يد الإنسان: جناحه، قال تعالى:{واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} [القصص: 32] ، وخفض الجناح كناية عن اللِّين، والرّفقِ، والتَّواضع، والمقصود: أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، وأمره بالتَّواضع لفقراءِ المؤمنين [ونظيره] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] ، وقوله:{أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .

قوله: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم َ بالزُّهدِ في الدنيا، وخفض الجناح للمؤمنين، أمره أن يقول للقوم:{أَنَا النذير المبين} ، وهذا يدخل تحته كونه مبلغاً لجميع التَّكاليف، وكونه [شارحاً لمراتب] الثَّواب والعقاب، والجنَّة والنَّار،

ص: 489

ومعنى «المَبِين» الآتي بجميع البيِّنات الوافية.

قوله

: {الذين

جَعَلُواْ

القرآن

عِضِينَ

} فيه أقوال:

أحدها: أنََّ الكاف [تتعلق] ب «آتَيْنَاكَ» ، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال:«أنزلنا عليك» ، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون:{كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} .

الثاني: أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب «آتَيْنَاكَ» تقديره: آتيناك إتياناً كما أنزلنا.

الثالث: أنه منصوب نعت لمصدر محذوف، ولكنَّه ملاق ل «آتيْنَاكَ» ومن حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديره: أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا؛ لأنَّ «آتَيْنَاكَ» بمعنى أنزلنا إليك.

الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، والعامل فيه مقدَّر أيضاً، وتقديره: ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا، والمعنى: نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم. الخامس: أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير، والتقدير: أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا، أي: مثل ما أنزلنا.

السادس: أنه نعتٌ لمفعول محذوف، النَّاصب له:«النَّذيرُ» ، تقديره: النَّذيرُ عذاباً {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} وهم قوم صالح؛ لأنهم قالوا: «لنُبَيتنَّه» وأقسموا على ذلك، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ، وشعرٍ، وافتراءٍ.

وقد ردَّ بعضهم هذا: بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين، فلو عمل ثمًَّ وصف جاز عند الجمعي.

السابع: أنَّه مفعول به ناصبه: «النَّذيرُ» أيضاً.

قال الزمخشريُّ: «والثاني: أن يتعلق بقوله: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} ، أي: وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين، يعني اليهود، وما جرى على بني قريظة، والنضيرِ» .

وهذا مدرودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً.

قال ابن الخطيب: وهذا الوجه لا يتمُّ إلَاّ بأحد أمرين: إمَّا التزامُ إضمارٍ، ِأو التزام حذفٍ.

أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير: إني أنا النذير [المبين] عذاباً، كما أنزلنا على المقتسمين، وعلى هذا الوجه: المفعول محذوف، وهو المشبه، ودلَّ عليه المشبه به، كما

ص: 490

تقول: رأيت كالقمر في الحسن، أي: رأيت إنساناً كالقمرِ في الحسن، وأمَّا الحذف، فهو أن يقال: الكاف زائدة محذوفة، والتقدير: إني أنا النذير [المبين ما] أنزلناه على المقتسمين، وزيادة الكاف له نظير، وهو قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .

الثامن: أنه منصوب نعتاً لمفعولٍ به مقدرب، والناصب لذلك المحذوف مقدرٌ أيضاً لدلالة لفظ «النَّذِير» عليه، أي: أنذركم عذاباً مثل العذاب المنزَّل على المقتسمين، وهنم قوم صالحٍ، أو قريش، قاله أبو البقاء رحمه الله وكأنه فرَّ من كونه منصوباً بلفظ «النَّذير» كما تقدَّم من الاعتراض البصريّ.

وقد ردَّ ابن عطية على القول السادس بقوله: والكاف في قوله: «كَمَا» متعلقة بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا، فالكاف: اسم في موضعِ نصبٍ، هذا قول المفسِّرين.

وهو غير صحيح؛ لأنَّ: «كما أنزلنا» ليس ممَّا يقوله محمد صلوات الله وسلامه عليه بل هو من كلام الله تعالى فيفصل الكلام، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله تعالى قال له: أنذر عذاباً كما.

والذي أقول في هذا المعنى: «وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قلبك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك» .

ويحتمل أن يكون المعنى: وقل: إنِّي أنا النذيرُ المبينُ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين، هم أهل الكتاب، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال: الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى، تقديره: أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا، وإن كان المنزل الله، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ: أ/رنا بكذا، وإن كان الملك هو الآمرُ.

وأما قول أبي محمدٍ: «وأنزلنا عليهم، كما أنزلنا عليك» ؛ كلامٌ غير منتظم، ولعلَّ أصله: وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم:، كذا أصلحه أبو حيان. وفيه نظر، كيف يقدر ذلك، والقرآن ناطق بخلافه، وهو قوله:{عَلَى المقتسمين} .

التاسع: أنه متعلق بقوله: «لنَسَألنَّهُمْ» تقديره: لنسألنَّهم أجمعين، مثل ما أنزلنا.

العاشر: أنَّ الكاف مزيدة، تقديره: أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين.

ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ «ما» معفولٌ ب «النذير» عند الكوفيين، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف، أو على إضمار فعل لائقٍ أي: أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين.

ص: 491

الحادي عشر: أنه متعلق ب «قل» ، التقدير: وقيل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة، تنذر المؤمن، كما تنذر الكافر، كأنه قال: أنا النذيرُ لكم، ولغيركم.

فصل

قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما: المقتسمون: هم الَّذين اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم َ ويقرب عددهم من أربعين.

وقال مقاتل بن سليمان رحمه الله: كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم، فاقتسموا شعاب مكَّة، وطرقها يقولون لمن سلكها: لا تغتروا بالخارج منَّا، والمدعي للنبوَّة، فإنه مجنونٌ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ، أو كاهنٌ، أو شاعرٌ، فطائفة منهم تقول: ساحرٌ،، وطائفة تقول: إنه كاهنٌ، وطائفة تقول: إنه شاعرٌ، فأنزل الله عز وجل بهم خزياً؛ فماتوا أشدَّ ميتة.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنهم اليهود، والنصارى {جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} جزءوه أجزاء، فآمنوا بما وافق التَّوراة، وكفروا بالباقي.

وقال مجاهد: قسموا كتاب الله تعالى ففرقوه، وبدلوه.

وقيل: قسَّموا القرآن، وقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: كذبٌ، وقال بعضهم: ِأساطير الأولين.

وقيل: الاقتسام هو أنهم فرَّقوا القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فقال بعضهم: شاعرٌ، وقال بعضهم: كاهنٌ.

قوله: {الذين جَعَلُواْ} فيه أوجه:

أظهرها: أنه نعت ل «المٌقْتَسمِينَ» .

الثاني: أنه بدلٌ منه.

الثالث: أنه بيانٌ.

ص: 492

الرابع: أنه منصوبٌ على الذَّمِّ.

الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمرٍ.

السادس: أنه منصوب ب «النَّذيرُ المبِينُ» كما قاله الزمخشريُّ.

وهو مردود بإعمال الوصف بالموصوف عند البصريين كما تقدَّم.

و «عِضِينَ» جمع عِضَة، وهي الفرقة، والعِضِين: الفِرَق، وتقدم معنى جعله القرآن كذلك، ومعنى العِضَة: السِّحر بلغة قريش، يقولون: هو عَاضهُ، وهي عَاضِهَة، قال:[المتقارب]

3292 -

أعُودذُ بِربِّي مِنَ النِّافِثَاتِ

في عٌقَدِ العَاضِهِ المُعْضهِ

وفي الحديث: «لَعنَ اللهُ العَاضِهةً والمُسْتعضِهَة» ، أي السَّاحربة، والمسُتسْحِرَة وقيل: هو من العضه، وهو: الكذب، والبهتان، يقال: عَضَهُ عَضْهَاً، وعضيهةً، أي: رماه بالهتان، وهذا قول الكسائي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.

وقيل: هو من العِضَاه، وهو شجر له شوكٌ مؤذٍ، قاله الفرَّاء.

وفي لام «عِضَة» قولان يشهد لكلِّ منهنما التصريف:

الاول: الواو، لقولهم: عِضَوات، وعَاضَة، وعَاضِهَة، وعِضَة، وفي الحديث «لا تَعْضِية في مِيراثٍ» ، وفسِّر: بأ، لا تفريق فيما يضر بالورثة تفريقه كسيفٍ يكسر نصفين فينقص ثمنه.

وقال الزمخشريُّ: «عِضِينَ» : أجزاء، جمع عِضَة، وأصلها عِضْوَة، فعلة من عضَّى الشاة، إذا جعلها أعضاءِ؛ قال:[الزاجر]

3293 -

وليْسَ دِينُ اللهِ بالمُعَضَّى

وجمع «عِضَة» على «عِضِين» ، كما جمع سنة، وثبة، وظبة وبعضهم يجري النون بالحركات مع التاء، وقد تقدم تقرير ذلك، وحينئذ تثبت نوه في الإضافة، فيقال: هذه عضينك.

وقيل: واحد العِضِين: عِضَةٌ، وأصلها: عِضْهَةٌ، فاستثقلوا الجمع بين هاتين،

ص: 493

فقالوا: عِضَةٌ، كما قالوا: شَفَةٌ، والأصل: شَفْهَةٌ، بدليل قولهم: شافهنا.

قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يحتمل أن يعود الضمير إلى المقتسمين؛ لأن الأقرب، ويحتمل أن يعود إلى جميع المكلفين، لأنَّ ذكرهم تقدَّم في قوله تعالى:{وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} أي: لجميع [الخلائق] .

{عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال القرطبي: في البخاري: قال عدَّة من أهل العلم في وقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} عن لا إله إلا الله.

فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وبين قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ}

[الرحمن: 39] .

فأجابوا بوجوه:

أولها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسألون سؤال استفهامٍ؛ لأنه تعالى عالم بكلِّ أعمالهم، بل سؤال تقريع، فيقال لهم: لم فعلتم كذا؟ .

وهذا ضعيد؛ لأنه لو كان المراد من قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ} [الرحمن: 39] سؤال استفهام، لما كان في تخصيص هذا النفي بقولهم «يَومئِذٍ» فائدة؛ لأنَّ مثل هذا السؤال على الله محالٌ في كلِّ الأوقات.

وثانيها: أنه يصرف للنفي إلى بعض الأوقات، والإثبات إلى وقت آخر؛ لأنَّ يوم القيامة، يوم طويل، وفيه مواقف يسألون في بعضها، ولا يسألون في بعضها، قاله عكرمة عن ابن عباس ونظيره قوله تعالى:{هذا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35]، وقال في آية أخرى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] .

ولقائلٍ ِأن يقوله: قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ} [الرحمن: 39] الآية: تصريحٌ بأنه لايحصل السؤال في ذلك اليوم، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء اليوم، لحصل التَّناقض.

وثالثها: أن قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ} [الرحمن: 39] تفيد الآية النَّفي، وفي قوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} يعود إلى المقتسمين، وهذا خاص فيقدم على العام.

قوله: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} أصل الصَّدع: الشَّقُّ، صدعته فانصدع، أي: شَقَقتهُ، فانْشَقّ.

قال ابن السكِّيت: الصَّدعُ في اللغة: الشَّقٌّ، والفصل؛ وانشد لجرير:[البسيط]

3294 -

هذَا الخَليفَةُ فارضَوْا ما قَضَى لَكُمُ

بالحَقِّ يَصْدعُ ما فِي قَولهِ جَنَفُ

ص: 494

ومنه التفرقة أيضاً؛ كقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] وقال: [الوافر]

3295 -

...

...

...

... كَأنَّ بَياضَ غُرَّتهِ صَدِيعُ

والصَّديعُ: ضوءُ الفجر لانشقاقِ الظُّلمةِ عنه، يقال: انْصدعَ، وانْفلقَ، وانْفجرَ، وانْفطرَ الصُّبحُ، ومعنى «فَاصدَعْ» فرق بني الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما.

وقال الراغب: الصَّدعُ: الشقُّ في الأجسام الصَّلبةِ كالزجاج، والحديد، وصدّعته بالتشديد، فتصدع وصَدعتهُ بالتخفيف، فانْصَدعَ، وصَدْعُ الرأس لتوهُّم الانشقاق فيه، وصدع الفلاة، أي: قطعها، من ذلك، كأنَّه تونهم تفريقها.

ومعنى «فاصْدَعُ» اقل ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه: أظهر.

وقال الضحاك: أعلم. وقال الأخفش: فرِّق بين الحقِّ والباطل، وقال سيبويه: اقْضِ.

و «مَا» في قوله «بِمَا تُؤمَرُ» مصدرية، أو بمعنى الذي، والأصل تؤمر به، وهذا الفعل يطرد حذف الجار معه، فحذف العائد فيصح، وليس هو كقولك: جَاءَ الذي مررتُ، ونحوه:[البسيط]

3296 -

أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ.....

...

...

...

...

.

والأصل: بالخَيْرِ.

وقال الزمخشريُّ: «ويجوز أن تكون» مَا «مصدرية، أي: بأمرك مصدر مبنيّ للمعفول» انتهى.

وهو كلامٌ صحيحٌ، والمعنى: فاصدع بأمرك، وشأنك.

قالوا: وما زال النبي صلى الله عليه وسلم َ مستخفياً حتى نزلت هذه الآية.

ونقل أبو حيَّان عنه أنه قال: ويجوز أن يكون المصدر يراد به «أنْ» ، والفعل المبني للمفعول.

ثم قال أبو حيان: «والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز» . قال شهابُ الدين: الخلاف إنَّما هو في المصدر، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز.

خلاف المشهور، أمَّا أنَّ الحرف المصدري هل يجوز فيه أن يوصل بعفلٍ مبني للمفعولٍ، نحو: يعجبني أن يكرم عمرو أم لا يجوز؟ فليس محل النِّزاع.

ص: 495

ثم قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} ، أي لا تبال عنهم، ولا تلتفت إلى لومهم إيَّاك على إظهار الدَّعوة.

قال بعضهم: هذا منسوخٌ بآية القتال، وهو ضعيف؛ لأنَّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة، فلا يكون منسوخاً.

قوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم َ {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} ، ولا تخف أحداً غير الله، فإن الله كافيك ِأعداءك كما كفاك المستهزيئن، وهم خمسة نفرٍ من رؤساء قريش: الوليد بن المغيرة المخزوميُّ، وكان رأسهم، والعاص بن وائلٍ [السهمي] ، والأسود بن عبد المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى أبو زمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قد دعا عليه، فقال:«اللَّهُمَّ أعْمِ بصَرهُ، وأثْكلهُ بِولَدهِ» ، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد منافٍ بن زهرة، والحررث بن قيس بن الطلالة؛ فأتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم َ والمستهزءون يطوفون بالبيت، فقام جبريل صلوات الله وسلامه عليه وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى جنبه، فمرّ به الوليد بن المغعيرة، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد: كيف تجدُ هذا؟ قال: «بئس عبد الله» قال: قد كَفَيْتُكَه، وأؤْمَأ إلى ساق الوليد، فمرَّ برجلِ من خزاعة نبَّال يَرِيشُ نَبْلاً، وعليه برد يمان، وهو يهز إزاره، فتعلَّقت شظية نبلٍ بإزاره، فمنعه الكبرُ أن يتطامن، فينزعها، وجعلت تضربُ ساقه؛ فخدشته فمرض منها حتَّى مات. ومرَّ به العاس بن وائلٍ، فقال جبريلُ: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: بِئْسَ عبد الله، فأشار جبريل عليه السلام إلى أخْمَصِ رجليه، وقال: قد كفيتكه، فخرج على راحلته، ومعه ابنان له يتنزَّه؛ فنزل شِعْباً من تلك الشِّعاب، فوطىء على شبرقة، فدخلت شوكة في أخمص رجله، فقال: لُدِغْتُ لُدِغْتُ؛ فطلبوا، فلم يجدوا شيئاً، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه.

ومرّ به مربد بن الأسود بن المطلب، فقال جبريل: كيف تجدُ هذا يا محمَّد؟ قال: «عَبْدُ سوءٍ» ، فأشار بيده إلى عينيه، وقال: قد كَفَيْتُكَهُ، فعمي.

قال ابن عباس رضي الله عنه: رماه جبريل بورقةٍ خضراء؛ فذهب بصره، ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك، ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث، فقال جبريل عليه السلام: كَيْفَ تَجِدُ هذا يا محمد؟ قال: بئس عبد الله على أنه [ابن] خالي، فقال جبريل عليه الصلاة والسلام ُ: قد كفيتكه فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات، ومرَّ به الحارث بن قيسٍ، فقال جبريل عليه السلام كيف تجد هذا يا محمَّد؟ صلوات الله وسلامه عليك، قال: عَبدُ سُوءٍ فأومأ، فامتخط قيحاً؛ فمات.

قيل: استهزاؤهم، وااقتسامهم أنَّ الله تعالى لمّا أنزل في القرآنِ سورة البقرةِ،

ص: 496

وسورة النحل، وسورة العنكبوت، كانوا يجتمعون، ويقولون استهزاء، يقول هذا إلى سورة البقرة، ويقول هذا إلى سورة النحل، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت فأنزل الله تعالى:{نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: فصلّ بأمر ربك: «وكُنْ مِنَ السَّاجدِينَ» المصلين [المتواضعين] .

قال بان العربي «ظنَّ بعضه الناس أنَّش المراد هنا بالسجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس ظهره الله تعالى يسجدُ في هذا الموضع، وسجدت معه فيها، ولم يره [جماهير] العلماء» .

قال [القرطبي] ، وقد ذكر أبو بكر النقاش أنَّ ههنا سجدة عند أبي حذيفة رضي الله عنه ويمان بن رئاب، ورأى أنها واجبة، قال العلماء: إذا أنزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى [الطاعات] وروي أن رسول الله صلى لله عليه وسلم «كَانَ إذا حَزبه أمْرٌ فَزع إلى الصَّلاةِ» .

{واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: يريد الموت؛ لأنه أمر متيقن.

فإن قيل: فأيُّ فائدة لهذا التَّوقيت مع أنَّ كلَّ واجد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ .

فالجواب: المراد: «واعبد ربَّك» في جميع زمان حياتك، ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة.

روى أبيُّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة الحِجْرِ كان لَهُ مِنَ الأجْرِ عَشْرُ حَسناتٍ بِعدَدِ المُهَاجرِينَ والأنصَارِ والمُسْتَهزِئينَ بمُحمَّدٍ» صلى الله عليه وسلم وشرَّف، وبجَّل، ومجَّد، وعظَّم.

ص: 497