الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المؤمنون
مكية وهي مائة وثمان عشرة آية، وألف مائتان وأربعون كلمة، وعدد حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ
المؤمنون}
الآيات العشر، روى ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - الوحي يسمع عند وجهه كَدَوِيّ النحل فَمَكَثْنَا ساعة، وفي رواية: فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة، فَاسْتَقْبَلَ القبلة فرفع يديه، وقال:» اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقِصْنَا، وأكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وأعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضَ عَنَّا «ثم قال:» لَقَدْ أُنْزِلَ علينا عشر آيات مَنْ أَقَامَهُنَّ دخل الجنة «ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} عشر آيات» ورواه الإمام أحمد، وعلي بن المديني، وجماعة عن عبد
الرزاق وقالوا: «وَأعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وارْضَ عَنَّا» .
قوله: «قَدْ» هنا للتوقع، قال الزمخشري:«قد» نقيضة «لَمَّا» قد تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لهذه البشارة، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دلّ على ثبات ما توقعوه. وقال البغوي: قد حرف تأكيد. وقال المحققون: قد يقرب الماضي من الحال يدل على أن الفلاح قد
حصل لهم وأنهم عليه في الحال. وهو أبلغ من تجريد ذلك الفعل.
والعامة على «أَفْلَحَ» مفتوح الهمزة والحاء فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل، وورش على قاعدته من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها. وعن حمزة في الوقف خلاف، فروي عنه كورش وكالجماعة. وقال أبو البقاء: من أَلْقَى حركة الهمزة على الدال وحذفها فعلّته أنَّ الهمزة بعد حذف حركتها صُيِّرت ألفاً، ثم حذفت لسكونها (وسكون الدال قبلها في الأصل ولا يُعْتَدُّ بحركة الدال لأنها عارضة. وفي كلامه نظر من وجهين:
أحدهما: أنَّ اللغة الفصيحة في النقل حذف الهمزة من الأصل فيقولون: المَرَة والكَمَة في المَرْأة والكَمْأَة، واللغة الضعيفة فيه إبقاؤها وتدبيرها بحركة ما قبلها، فيقولون: المَرَاة والكَمَاة بمدة بدل الهمزة ك (رَاس وفَاس) فيمن خففها، فقوله: صُيّرت ألفاً. ارتكاب لأضعف اللغتين.
الثاني: أنه وإن سُلم أنها صُيّرت ألفاً فلا نُسلّم أنَّ حذفها) لسكونها وسكون الدال في الأصل بعد حذفها لساكن محقق في اللفظ، وهو الفاء من «أَفْلَحَ» ، ومتى وجد سبب ظاهر أُحيل الحكم عليه دون السبب المقدر. وقرأ طلحة بن مُصرّف وعمرو بن عبيد «أُفلح» مبنياً للمفعول، أي: دخلوا في الفلاح فيحتمل أن يكون من أَفْلَح متعدياً، يقال: أفلحه،
أي: أصاره إلى الفلاح، فيكون «أَفْلَحَ» مستعملاً لازماً ومتعدياً.
وقرأ طلحة أيضاً: «أَفْلَحُ» بفتح الهمزة واللام وضم الحاء، وتخريجها على أنّ الأصل أفلحوا المؤمنون، بإلحاق علامة جمع قبل الفاعل كلغة: أكلوني البراغيثُ، فيجيء فيها ما تقدم في قوله:
{ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71]{وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] .
قال عيسى: سمعتُ طلحة يقرؤها فقلتُ له: أتلحن؟ قال: نعم كما لحن أصحابي، يعني أني اتّبعتهم فيما قَرَأْتُ به، فإن لَحِنُوا على سبيل فَرْض المحالِ، فأنا لَاحِنٌ تبعاً لهم. وهذا يدل على شدة اعتناء القدماء بالنقل وضبطه خلافاً لمن يُغلّط الرواة.
وقال ابن عطية: وهي قراءة مردودة. قال شهاب الدين: ولا أدري كيف يُردُّونها مع ثبوت مثلها في القرآن بإجماع، وهما الآيتان المتقدمتان. وقال الزمخشري: وعنه أي: عن طلحة - «أَفْلَحُ» بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله:
3780 -
فَلَوْ أَنَّ الأَطِّبَّا كَانُ حَوْلِي
…
وفيه نظر من حيث إن الواو لا تثبت في مثل هذا درجاً، لئلا يلتقي ساكنان فالحذف هنا لا بدّ منه، فكيف يقول اجتزأ بها عنها. وأما تنظيره بالبيت فليس بمطابق، لأنّ حذفها من الآية ضروري ومن البيت ضرورة، وهذه الواو لا يظهر لفظها في الدرج بل يظهر في الوقف وفي الخط.
وقد اختلف النقلة لقراءة طلحة هل يثبت للواو صورة؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء، وفي اللوامح: وحذفت الواو بعد الحاء لالتقائهما في الدرج، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] . قال شهاب الدين: ومثله «
سَندْعُ الزَّبَانِيَةَ» «لَصَالُ الجَحِيم» . قال المفسرون: والفلاح: النجاة والبقاء. قال ابن عباس: قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة. وتقدم الكلام في الإيمان في البقرة. قوله: {الذين هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} الجار متعلق بما بعده، وقُدّم للاهتمام به، وحسنه كون متعلقه فاصلة، وكذا فيما بعده من أخواته، وأضيف الصلاة إليهم، لأنهم هم المنتفعون بها، والمُصلى له غَنِيٌّ عنها، فلذلك أضيفت إليهم دونه.
فصل
اختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين، وهو الأولى.
قال ابن عباس: مخبتون أذلاء. وقال الحسن وقتادة: خائفون. وقال مقاتل: متواضعون. وقال مجاهد: هو غض البصر وخفض الصوت، والخشوع قريب من الخضوع إلا أنّ الخضوع في البدن، والخشوع في القلب والبصر والصوت قال تعالى:{وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} [طه: 108] . وعن عليّ: هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً. وقال سعيد بن جبير: هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره. وقال عطاء: هو أن تعبث بشيء من جسدك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم َ - أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال:«لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» وقال ابن الخطيب: وهو عندنا واجب، ويدل عليه أمور:
أحدها: قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] . والتدبير لا يتصور بدون الوقوف على المعنى، وقوله تعالى:{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] أي: قفوا على عجائبه ومعانيه.
وثانيها: قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لذكريا} [طه: 14] وظاهر الأمر للوجوب، والغفلة تضاد الذكر، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره.
وثالثها: قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ مِّنَ الغافلين} [الأعراف: 205] وظاهره للتحريم، وقوله:{حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] تعليل لنهي السكران، وهو مطرد في الغافل المستغرق في الدنيا.
ورابعها: قوله - عليه الصلاة - «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً» وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء، قال عليه السلام:«كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنصب» وما أراد به ألا الغافل، وقال أيضاً:«ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل» ، وقالت عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - عن الالتفات في الصلاة، فقال:«هو اختلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صلاة العبد» وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم َ - قال: «لا يزال الله عز وجل مُقْبِلاً على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه» وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأنّ اشتراط الخضوع والخشوع خلاف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه.
وأُجيب بأن هذا الإجماع ممنوع، لأن المتكلمين اتفقوا على أنه لا بُدّ من الخضوع والخشوع، واحتجوا بأن السجود لله تعالى طاعة، وللصنم كفر، وكل واحد منهما
يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بُدّ من أمر لأجله يصير السجود في إحدى الصورتين طاعة، وفي الأخرى معصية، قالوا: وما ذاك إلا القصد والإرادة، والمراد من القصد: إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور.
قوله: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} قال عطاء عن ابن عباس: عن الشرك.
وقال الحسن: عن المعاصي. وقال الزجاج: كل باطل، ولهو وما لا يجمل من القول والفعل. وقيل: هو معارضة الكفار بالشتم والسب، قال الله تعالى:{وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.
واعلم أن اللغو قد يكون كفراً كقوله تعالى: {لَا تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26]، وقد يكون كذباً لقوله تعالى:{لَاّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية: 11]، وقوله:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً} [الواقعة: 25] . ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بوصفهم بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك.
قوله: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} اللام في قوله: «لِلزَّكَاةِ» مزيدة في المفعول لتقدمه على عامله، ولكونه فرعاً. والزكاة في الأصل مصدر، ويطلق على القدر المُخْرَج من الأعيان، وقال الزمخشري: اسم مشترك بين عين ومعنًى، فالعين القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب، والمعنى فعل المزكي، وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له، ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عنه بالفعل، ويقال لمحدثه فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكي: فاعل التزكية، وعلى هذا الكلام كله، والتحقيق في هذا أنك تقول في جميع الحوادث:(من فعل هذا) فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق، ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها (فاعلون) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها، وقد أنشدوا لأمية بن أبي الصلت:
3781 -
المطعمُون الطَّعام في السنة ال
…
أَزْمة والفاعلون للزكوات
ويجوز أن يراد بالزكاة العين، ويقدر مضاف محذوف، وهو الأداء، وحمل البيت على هذا أصح، لأنها فيه مجموعة. قال شهاب الدين: إنما أحوج أبا القاسم إلى هذا أن بعضهم زعم أنه يتعين أنْ يكون الزكاة هنا المصدر؛ لأنه لو أراد العين لقال: مؤدون ولم يقل: فاعلون، فقال الزمخشري: لم يمتنع ذلك لعدم صحة تناول فاعلون لها بل لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها، وإنما جعل الزكوات في بيت أمية أعياناً لجمعها، لأنّ المصدر لا يجمع، وناقشه أبو حيان وقال: يجوز أن يكون مصدراً وإنما جمع لاختلاف أنواعه. وقال أبو مسلم: إنّ فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي، كقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14]، وقوله:{فَلَا تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] ومن جملتهم ما يخرج من حق المال، وإنما سمي بذلك؛ لأنها تطهر من الذنوب، لقوله تعالى:{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . وقال الأكثرون: المراد بها هنا: الحق الواجب في الأموال خاصة؛ لأنّ هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى. فإنْ قيل: إن الله تعالى لم يفصل بين الصلاة والزكاة فَلِمَ فصل هنا بينهما بقوله: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} ؟ فالجواب: لأنّ ترك اللغو من متمات الصلاة. قوله: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الفرج اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة، وحفظ الفرج التعفف عن الحرام. قوله:{إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ} فيه أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «حَافِظُونَ» على التضمين معنى ممسكين أو قاصرين وكلاهما يتعدى بعلى قال تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] .
الثاني: أنّ «عَلَى» بمعنى «مِنْ» أي: إلا من أزواجهم كما جاءت «مِنْ» بمعنى «
عَلَى» في قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] وإليه ذهب الفراء.
الثالث: أنْ يكون في موضع نصب على الحال، قال الزمخشري: إلَاّ وَالِينَ على أزواجهم أو قوّامين عليهنّ من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان، ونظيره: كان زياد على البصرة أي: والياً عليها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان، ومن ثمّ سميت المرأة فراشاً.
الرابع: أنْ يتعلق بمحذوف يدل عليه «غَيْرُ مَلُومِينَ» قال الزمخشري: كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم، أي: يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه. قال شهاب الدين: وإنما لم يجعله متعلقاً ب «مَلُومِينَ» لوجهين:
أحدهما: أن ما بعد «إِنَّ» لا يعمل فيما قبلها.
الثاني: أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف.
الخامس: أن يجعل صلة لحافظين، قال الزمخشري: من قولك: احفظ عليّ عنان فرسي، على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم: نشدتك بالله إلا فعلت معنى: ما طلبت منك إلا فعلك يعني أنّ صورته إثبات ومعناه نفي. قال أبو حيان بعدما ذكر ذلك عن الزمخشري: وهذه وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة. قال شهاب الدين: وأي عجمةٍ في ذلك على أنّ الشيخ جعلها متعلقة ب «حَافِظُونَ» على ما ذكره من التضمين، وهذا لا يصح له إلا بأن يرتكب وجهاً منها وهو التأويل بالنفي
كنشدتك الله، لأنه استثناء مفرغ ولا يكون إلا بعد نفي أو ما في معناه.
السادس: قال أبو البقاء: في موضع نصب ب «حَافِظُونَ» على المعنى؛ لأنّ المعنى صانوها عن كل فرج إلا عن فروج أزواجهم. قال شهاب الدين: وفيه سببان:
أحدهما تضمين «حَافِظُونَ» معنى صانوا، وتضمين «على» معنى «عَنْ» .
قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ} «مَا» بمعنى: اللاتي، و «مَا» في محل الخفض يعني: أو على ما ملكت أيمانهم. وفي وقوعها على العقلاء وجهان:
أحدهما: أنها واقعة على الأنواع كقوله: {فانكحوا مَا طَابَ} [النساء: 3] أي: أنواع.
والثاني: قال الزمخشري: أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث.
قال أبو حيان: وقوله: وهم. ليس بجيد، لأنّ لفظ هُمْ مختص بالذكور فكان ينبغي أن يقول:«وَهُوَ» على لفظ «مَا» أو «هُنَّ» على معنى (ما) .
وأجيب بأن الضمير عائد على العقلاء فقوله: «وَهُمْ» أي: العقلاء الإناث. وقال ابن الخطيب هلا قيل: مَنْ ملكت؟ فالجواب: لأنه اجتمع في السُّرِّيَّةِ وصفان:
أحدهما: الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل.
والآخر: كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع.
فلهذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء.
فصل
هذه الآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها.
فإن قيل: أليست الزوجة والمملوكة لا تحل له الاستمتاع بها في أحوال كحال الحيض، وحال العدة، والصيام، والإحرام، وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها، وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنّ مذهب أبي حنيفة أنّ الاستثناء من النفي لا يكون إثباتاً، لقوله عليه السلام:
«لا صلاة إلا بطهور، ولا نِكَاحَ إِلَاّ بِوَليّ» فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور، وحصول النكاح بمجرد حصول الولي. وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله:{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ} معناه أنه يجب حفظ الفرج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات.
الثاني: (أَنَّا إنْ) سلمنا أنّ الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص بالدليل فيبقى حجة فيما عداه.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} يعني: يحفظ فرجه إلا من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك إذا كان على وجه أذن الشرع فيه دون الإتيان في غير المأتى، وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور ويلام على فعله.
قوله: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك} أي: التمس وطلب سوى الأزواج والمملوكات {فأولئك هُمُ العادون} الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام، وفيه دليل أنَّ الاستمناء باليد حرام قال ابن جريج: سألت عطاء عنه فقال: مكروه، سمعت أنّ قوماً يحشرون وأيديهم حُبالى فأظن أنهم هؤلاء. وعن سعيد بن جبير قال: عَذَّب الله أمة كانوا يعبثون
بمذاكيرهم. قوله: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ} قرأ ابن كثير هنا وفي سأل «لأَمَانَتِهِم» بالتوحيد، والباقون بالجمع. وهما في المعنى واحد إذ المراد العموم والجمع أوفق.
والأمانة في الأصل مصدر، ويطلق على الشيء المؤتمن عليه لقوله:{أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
«وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ» ، وإنما يُؤدَّى ويُخان الأعيان لا المعاني، كذا قال الزمخشري.
أما ما ذكره من الآيتين فمسلم، وأما هذه الآية فيحتمل المصدر ويحتمل العين، والعهد ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى الله، ويقع أيضاً على ما أمر الله به كقوله:{الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران: 183] ، والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. فالأمانات تكون بين الله وبين العبد كالصلاة، والصيام، والعبادات الواجبة وتكون بين العبيد كالودائع والبضائع، فعلى العبد الوفاء بجميعها.
وقوله: «رَاعُونَ» الراعي القائم على الشيء يحفظه ويصلحه كراعي الغنم، ومنه يقال: مَنْ راعي هذا الشيء؟ أي متوليه.
وقوله: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قرأ الأخوان «عَلَى صَلَاتِهِمْ» بالتوحيد، والباقون «صَلَوَاتِهِمْ» بالجمع، وليس في المعارج خلاف.
والإفراد والجمع كما تقدم في «أَمَانَتِهم) و (أَمَانَاتِهِمْ) . قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ: كيف كرر ذكر الصلاة أولاً وآخراً؟ قلت: هما ذكران مختلفان وليس بتكرير، وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم، وآخراً بالمحافظة عليها. ثم قال: وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة، أي صلاة كانت، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن الراتبة، وهذا إنما يتجه في قراءة غير الأخوين وأما الأخوان فإنهما أفردا أولاً وآخراً على أنَّ الزمخشري قد حكى الخلاف في جمع الصلاة الثانية وإفرادها بالنسبة إلى القراءة.
وقيل: كرر ذكر الصلاة ليبين أنّ المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب.
ثم قال: {أولئك هُمُ الوارثون} «أُولَئِكَ» أي: أهل هذه الصفة «هُمُ الوارِثُونَ» فإن قيل: كيف سمى ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث؟ مع أنه سبحانه حكم بأنَّ الجنة حقهم في قوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] . فالجواب من وجوه:
الأول: روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - «ما منكم من أحد إلَاّ وله منزلان منزل في الجنّة ومنزلٌ في النار، فإنْ مات ودخل النار وَرِثَ أهلُ الجنة مَنْزله» ، وذلك قوله:{أولئك هُمُ الوارثون} . وأيضاً: فقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه، كذلك قالوا في الدية التي إنما تجب بالقتل إنها تورث مع أنه مالكها على التحقيق وهذا يؤيد ما ذكر فإن قيل: إنه تعالى وصف كل الذي يستحقونه إرثاً، وعلى ما قلتم فإنه يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم لو أطاع.
فالجواب: لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو (منزلة) لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك كان يزيد في المنازل فإذا أمن هذا عدل بذلك إليه.
الثاني: أنَّ انتقال الجنة إليهم من دون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث.
الثالث: أنَّ الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده كان ذلك شبيهاً بالميراث. فإن قيل: كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبعة بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج؟
فالجواب: أنَّ قوله: {لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما تقدم والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات لكونها من شرائطها. واعلم أنَّ قوله: «هُمُ الوَارِثُونَ» يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به، لأنه ثبت أنَّ الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو لقوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48]، وتقدم الكلام في الفردوس في سورة الكهف. قوله:{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً مقدرة إما من الفاعل ب «يَرِثُونَ» وإما من مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون، وقد جاء في الحديث:«أن الله خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» .
الآيات المتقدمة بطريق الحث عليها والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله، لا جرم عقّبها بذكر ما يدل على وجوده، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية، فذكر أنواعاً من الدلائل: منها تقلب الإنسان في أدوار خلقته وهي تسعة:
أولها: قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام سُلَّ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ، وخُلقتْ ذريته من ماء مهين.
وقيل: الإنسان اسم جنس يقع على الواحد والجميع، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منياً، وهذا مطابق لقوله تعالى:{وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 7 - 8] .
قال ابن الخطيب: وفيه وجه آخر: وهو أنّ الإنسان إنما يتولد من النطفة، وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية، وهي إما حيوانية أو نباتية، والحيوانية تنتهي إلى النباتية، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء، فالإنسان في الحقيقة يكون متولداً من سلالة من طين، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت عليها أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منياً.
(قوله) : «مِنْ سُلَالَةٍ» فيه وجهان:
أظهرهما: أن يتعلق ب «خَلَقْنَا» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الإنسان» .
والسُّلالة (فُعَالَة) ، وهو بناء يدل على القلة كالقُلَامة، وهي من سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استخرجْتهُ منه، ومنه قولهم: هو سُلَالَةُ أَبيهِ كأنه انسلّ من ظهره، وأنشد:
3782 -
فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الأَدِيمِ غَضَنْفَراً
…
سُلَالَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينٍ
وقال أمية بن أبي الصلت:
- 3783 خلق البرية من سلالة منتن
…
وإلى السلالة كلها ستعود
وقال عكرمة: هو الماء يسيل من الظهر. والعرب يسمون النطفة سُلَالَة، والولد سَلِيلاً وسُلَالة، لأنهما مَسْلُولَانِ منه. وقال الزمخشري: السلالة الخُلاصة، لأنها تسل من بين الكَدَر. وهذه الجملة جواب قسم محذوف، أي: والله لقد خلقنا، وعطفت على الجملة قبلها لما بينهما من المناسبة، وهو أنه لما ذكر أنّ المتصفين بتلك الأوصاف يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على المعاد، فإنّ الابتداء في العادة أصعب من الإعادة، لقوله:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] .
وهذا أحسن من قول ابن عطية: هذا ابتداء كلام، والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة كلام، وإن تباينتا في المعنى. وقد تقدم بيان وجه المناسبة.
قوله: «مِنْ طِين» في «مِنْ» وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية.
والثاني: أنها لبيان الجنس.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين «مِنْ» و «مِنْ» ؟ قلت: الأولى للابتداء، والثانية للبيان كقوله:«مِنَ الأَوْثَانِ» . قال أبو حيان: ولا تكون للبيان إلا إذا قلنا: إن السلالة هي الطين أما إذا قلنا: إنه من انسل من الطين ف «مِنْ» لابتداء الغاية وفيما تتعلق به «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها تتعلق بمحذوف إذ هي صفة ل «سُلَالَة» .
الثاني: أنها تتعلق بنفس «سُلَالَة» لأنها بمعنى مسلولة.
الثالث: أنها تتعلق ب «خَلَقْنَا» ، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا: إنّ السلالة هي نفس الطين. قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه يعود للإنسان، فإن أريد غير آدم فواضح، ويكون خلقه من سلالة الطين خلق أصله، وهو آدم (فيكون على حذف مضاف وإن كان المراد به آدم، فيكون الضمير عائداً على نسله، أي: جعلنا نسله) ، فهو على حذف مضاف أيضاً، ويؤيده قوله:{وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 7 - 8] .
أو عاد الضمير على الإنسان اللائق به ذلك، وهو نسل آدم، فلفظ الإنسان من حيث هو صالح للأصل والفرع، ويعود كل شيء لما يليق به وإليه نحا الزمخشري.
قوله: «فِي قَرَارٍ» يجوز أنْ يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «نُطْفَة» .
والقرار: المستقر، وهو موضع الاستقرار، والمراد بها الرحم، وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها لأحد معنيين: إمَّا على المجاز كطريق سائر، وإنما السائر من فيه، وإِمّا لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت بحيث هي وأحرزت. ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة، فصار الرحم قراراً مكيناً لهذه النطفة تتخلق فيه إلى أن تصير إنساناً. قوله:{ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} وما بعدها ضمن «خَلَق» معنى «جَعَل» التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن «جَعَل» معنى «خَلَق» فيتعدى لواحد نحو {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] . والمعنى: حولنا النطفة عن صفاتها
إلى صفات العلقة، وهي الدم الجامد {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} أي: جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة، أي: قطعة لحم، كأنها مقدار ما يمضع كالغرفة، وهو ما يغترف.
وسمى التحويل خلقاً، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها، ويخلق أعراضاً غيرها، فسمى خلق الأعراض خلقاً لها، كأنه سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة.
قوله: {فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً} أي: صيرناها كذلك. وقرأ العامة: «عِظاماً» و «العِظَام» بالجمع فيهما، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:«عَظْماً» و «العَظمَ» بالإفراد فيهما، والسلمي والأعرج، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني، وأبو رجاء، ومجاهد، وإبراهيم بن أبي بكر بجمع الأول وإفراد الثاني عكس ما قبله.
فالجمع على الأصل، لأنه مطابق لما يراد به، والإفراد للجنس كقوله:«وَالمَلَكُ صَفًّا» ، وكقوله:{وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] .
وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس، لأنَّ الإنسان ذو عظام كثيرة. قال أبو حيان: وهذا عند سيبويه وأصحابه لا يجوز إلا (لضرورة) وأنشدوا:
3784 -
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُم تَعِفُّوا
…
وإن كان معلوماً أن كل واحد له بطن. قال شهاب الدين: ومثله:
3785 -
لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقَدْ سَبَيْنَا
…
فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجَيْنَا
يريد في حلوقكم ومثله قوله الآخر:
3786 -
بِهَا جِيَفُ الحسْرَى فأَمَّا عِظَامُهَا
…
فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
يريد جلودها، ومنه «وعَلَى سَمْعِهِمْ» .
قوله: {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} أي: ألبسنا، لأنّ اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة (لها) قيل: بين كل خلقين أربعون يوماً. {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أي: خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل جزء من أجزائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية: المراد بالخلق الآخر هو نفخ الروح فيه. وقال قتادة: نبات الأسنان والشعر، وروى ابن جريج عن مجاهد: أنه استواء الشباب. وعن الحسن قال: ذكر أو أنثى.
وروى العوفي عن ابن عباس: أنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتفاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم، وخلق الفهم والعقل ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها إلى أنْ يموت.
قالوا: وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول النظام أن الإنسان هو الروح لا البدن، فإنه سبحانه بَيَّن أنَّ الإنسان هو المركب من هذه الأشياء. وفيها دلالة أيضاً
على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون: الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم.
وقال: «فَتَبَارَك اللَّهُ» أي: فتعالى الله، لأنَّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله.
وقيل: أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال: البقاء والدوام والبركات كلها منه، فهو المستحق للتعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال «أَحسَنُ الخَالِقِينَ» المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة: التقدير، قال زهير:
3787 -
ولأَنْتَ تَفْري مَا خَلقْتَ وَبَعْ
…
ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
قوله: «أَحْسَنُ الخَالِقِينَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من الجلالة.
الثاني: أنه نعت للجلالة، وهو أولى مما قبله، لأنّ البدل بالمشتق يقل.
الثالث: أنْ يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هو أحسن، والأصل عدم الإضمار.
وقد منع أبو البقاء أن يكون وصفاً، قال: لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن «من» ، وهكذا جميع أفعل منك.
قال شهاب الدين: وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا، والصحيح الأول. والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه
عليه، أي: أحسن الخالقين خلقاً المقدرين تقديراً كقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] أي: في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه.
فصل
قالت المعتزلة: لولا أن يكون غير الله قد يكون خالقاً لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه:«أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ» و «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» . والخلق في اللغة: هو كل فعل وُجد من فاعله مقدّراً لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه. قال الكعبي: هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد، كما أنه يجوز أن يقال: رَبُّ الدار، ولا يجوز أن يقول: رب، ولا يقول العبد لسيده: هذا ربّي، ولا يقال: إنما قال الله سبحانه ذلك لأنه وَصفَ عيسى عليه السلام بأنه يَخْلُق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. لأنا نجيب من وجهين:
أحدهما: أن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه «أَحسَنُ الخَالِقِينَ» الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح.
الثاني: أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه يخلق وصحّ أيضاً وصف غيره من المصورين بأنه يخلق.
وأجيب بأن هذه الآية معارضة بقوله: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] فوجب حمل
هذه الآية على أنه «أَحسَنُ الخَالِقينَ» في اعتقادكم وظنكم كقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] .
وجواب ثان، وهو أنّ الخالق هو المقدر، لأن الخلق هو التقدير، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال، فتكون الآية من المتشابه.
وجواب ثالث: أنّ الآية تقتضي كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه موحداً.
فصل
قالت المعتزلة: الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقاً للكفر والمعصية، فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما.
وأجيب بأنّ من الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في التركيب والتأليف، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله كل الأشياء، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء.
فصل
روى الكلبي عن ابن عباس أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ فلما انتهى إلى قوله: «خَلْقاً آخَرَ» عجب من ذلك فقال: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحَسَنُ الخَالِقِينَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«اكتبْ فَهكَذَا نزلت» فشك عبد الله وقال: إن كان محمد صادقاً فيما يقول، فإنه يُوحَى إليّ كما يُوحَى إليه، وإن كان كاذباً فلا خير في دينه، فهرب إلى مكة، فقيل: إنه مات على الكفر، وقيل: إنه أسلم يوم الفتح وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب: فتبارك اللَّهُ أحسن الخالقين. فقال رسول الله: «هكذا أُنزلَ يا عمر» .
وكان عمر يقول: وافقني ربي في أربع: الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهنّ: أو ليُبْدِلَهُ اللَّهُ خيراً مِنْكُنّ، فنزل قوله:{عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5]، والرابع قوله:{فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} قال العارفون: هذه الواقعة
كانت من أسباب السعادة لعمر، وسبب الشقاوة لعبد الله، كما قال تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26] .
فإن قيل: فعلى كل الروايات فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن، وذلك يقدح في كونه معجزاً كما ظنّه عبد الله.
فالجواب: هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز، فسقطت شبهة عبد الله.
قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} أي: بعدما ذكر، ولذلك أفرد اسم الإشارة، وقرأ العامة «لَمَيِّتُونَ» ، وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن «لَمَائِتُونَ» والفرق بينهما: أن الميّت يدل على الثبوت والاستقرار، والمائت على الحدوث كضيق وضائق وفرح وفارح، فيقال لمن سيموت: ميّت ومائت، ولمن مات: ميّت فقط دون مائت، لاستقرار الصفة وثبوتها، وسيأتي مثله في الزمر إن شاء الله تعالى. فإن قيل: الموت لم يختلف فيه اثنان وكم من مخالف في البعث، فَلِم أَكّد المجمع عليه أبلغ تأكيد وترك المختلف فيه من تلك المبالغة في التأكيد؟ فالجواب: أنّ البعث لما تظاهرت أدلته وتظافرت، أبرز في صورة المجمع عليه المستغني عن ذلك، وأنّهم لَمَّا لم يعملُوا للموت، ولم يهتموا بأموره، نُزِّلوا منزلة من يُنكره، فأبرز لهم في صورة المنكر الذي استبعدوه كل استبعاد. وكان أبو حيان سئل عن ذلك، فأجاب أنّ اللام غالباً تخلص المضارع للحال، ولا يمكن دخولها في «تُبْعَثُونَ» ، لأنه مخلص للاستقبال لعمله في الظرف المستقبل، واعترضَ على نفسه بقوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [النحل: 124] فإن اللام دخلت على المضارع العامل في ظرف مستقبل وهو «يَوْمِ القِيَامَة» فأجاب بأنه خرج هذا بقوله: غالباً، وبأن العامل في «يوم القيامة» مقدر، وفيه نظر إذ فيه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه.
و «بَعْدَ ذَلِك» متعلق ب «مَيِّتُونَ» ، ولا تمنع لام الابتداء من ذلك.
قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع.
فإن قيل: ما الحكمة في الموت، وهلا وَصَل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الإنعام أبلغ؟
فالجواب هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله بدليل أنه لو قيل لمن يصوم: إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة، فلا جرم أخره وبعده بالإماتة، وهو الإعادة، ليكون العبد عابداً لطاعته لا لطلب الانتفاع.
فإن قيل: هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر، لأنه قال:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة.
فالجواب من وجهين:
الأول: أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة.
والثاني: أنّ الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإحياء والإماتة والإعادة والذي تُرك ذكره فهو من جنس الإعادة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} الآية، أي: سبع سموات سُميت طرائق لتطارقها، وهو أن بعضها فوق بعض، يقال: طارقتُ النعلَ: إذا أطبق نعلاً على نعل، وطارق بين الثوبين: إذا لَبس ثوباً على ثوب قاله الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج: هو كقوله: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} [الملك: 3] وقال عليّ بن عيسى: سميت بذلك، لأنها طرائق الملائكة في العروج والهبوط، وقيل: لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.
والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه جعلها موضعاً لأرزاقِنَا بإنزال الماء منها، وجعلها مقراً للملائكة، ولأنها موضع الثواب، ومكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي.
قوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} أي: بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم، وهذا قول سفيان بن عيينة، وهو كقوله تعالى:{إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولَا} [فاطر: 41]، وقوله:{وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} [الحج: 65]، وقال الحسن: إنا خلقناهم فوقهم ليدل عليهم بالأَرزاق والبركات منها.
وقيل: خلقنا هذه الأشياء دلالة على كمال قدرتنا، ثم بَيَّن كمال العلم بقوله:{وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} يعني: عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر.
وقيل: وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظين لئلا تخرج عن التقدير الذي أردناها عليه كقوله تعالى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ} [الملك: 3] .
واعلم أن هذه الآيات دالة على مسائل:
منها: أنها تدل على وجود الصانع، فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على الصفة الأولى يدل على أنه لا بد من مغير.
ومنها: أنها تدل على فساد القول بالطبيعة، فإن شيئاً من تلك الصفات لو حصلت بالطبيعة لوجب بقاؤها، وعدم تغيرها، ولو قيل: إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد.
ومنها: أنها تدل على أنّ المدبر قادر عالم، لأنَّ الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.
ومنها: أنها تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات.
ومنها: أنها تدل على جواز الحشر والنشر بصريح الآية، ولأنّ الفاعل لما كان قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت.
ومنها: أنّ معرفة الله يجب أنْ تكون استدلالية لا تقليدية، وإلَاّ لكان ذكر هذه الدلائل عبثاً.
قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} الآية، لما استدل أولاً على كمال القدرة بخلق الإنسان، ثم استدل ثانياً بخلق السموات، استدّل ثالثاً بنزول الأمطار، وكيفية تأثيرها في النبات. واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة، وهو مع ذلك سبب لحصول النعم، فلا جَرم ذكره الله أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً.
قال أكثر المفسرين: إنه تعالى يُنزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية، ولقوله:{وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] . وقال بعضهم: المراد بالسماء السحاب، وسماه سماء لعلوه، والمعنى: أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض، ولا بماء البحر لملوحته، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض، لأنّ البحار هي الغاية في العمق، وهذه الوجوه التي يتحملها من ينكر الفاعل المختار، فأمّا من أَقرَّ به فلا حاجة به إلى شيء منها.
وقوله: «بِقَدَرٍ» قال مقاتل: بقدر ما يكفيهم للمعيشة من الزرع والغرس والشرب، ويَسْلَمُون معه من المضرة.
وقوله: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} قيل: جعلناه ثابتاً في الأرض، قال ابن عباس: أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سَيْحُونَ وجَيْحُونَ ودجلة والفرات والنيل أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل -
عليه السلام -، ثم استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس، فذلك قوله:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} ، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج، ويرفع أيضاً القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله:{وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فَقَدَ أَهْلُها خير الدنيا والدين. وقيل: معنى: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} : ما تبقّى في الغدران والمستنقعات ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر.
وقيل: فأسكناهُ في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع، فماء الأرض كله من السماء.
قوله: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} «عَلَى ذَهَابٍ» متعلق ب «لقَادِرُونَ» واللام كما تقدم غير مانعة من ذلك، و «بِهِ» متعلق ب «ذَهَابٍ» ، وهي مرادفة للهمزة كهي في «لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ» أي: على إذهابه والمعنى: كما قَدَرْنا على إنزاله كذلك نَقْدِر على رفعه وإزالته فتهلكوا عطشاً، وتهلك مواشيكم وتخرب أرضكم.
قال الزمخشري: قوله: {على ذَهَابٍ بِهِ} من أوقع النكرات وأحزها للمفصل، والمعنى: على وجه من وجوه الذهاب به، وطريق من طرقه، وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30] واعلم أنه تعالى لمّا نبّه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} ، أي: بالماء {جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ، وإنما ذكر النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفاكهة رطباً ويابساً، وقوله:
{لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} أي: في الجنات فكما أن فيها النخيل والأعناب فيها الفواكه الكثيرة، «وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ» شتاءً وصيفاً.
قال الزمخشري: يجوز أن يكون هذا من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يعملها، يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم.
قوله: «وشَجَرَةً» عطف على «جَنَّات» ، أي: ومما أنشأنا لكم شجرة، وقرئت مرفوعة على الابتداء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سِينَاء» بكسر السين، والباقون بفتحها والأعمش كذلك إلا أنه قصرها. فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس في الكلام (فِعْلَاء) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق بِسرْدَاح وقرطاس، فهي كعِلْبَاء، فتكون الهمزة منقلبة عن ياء أو واو، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة متطرفاً بعد ألف زائدة قُلب همزة كَرِدَاء وكِسَاء قال الفارسي: وهي الياء التي ظهرت في درْحَاية، والدرحاية الرجل القصير السمين. وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلاً مثل: حِمْلَاق، إذ
ليس في الكلام مثل: سيناء. يعني: مادة (سين ونون وهمزة) . وهذا مخالف لما تقدم من كونها بدلاً من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم، وعلى هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنها اسم بقعة بعينها، وقيل: للتعريف والعجمة. قال بعضهم: والصحيح أن سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت فيه لغاتها، فقالوا:(سَيْنَاء) كحمراء وصفراء، و (سِينَاء) كعِلْبَاء وحِرْبَاء وسينين كخِنْذِيدِ، وزحْلِيل، والخِنْذِيد الفحل والخصي أيضاً، فهو من الأضداد، وهو أيضاً رأس الجبل المرتفع. والزحْلِيل: المتنحي من زحل إذ انتحى وقال الزمخشري: «طُورِ سَيْنَاء» وطُورِ سِينِينٍ لا يخلو إمّا أَنْ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس وكبعلبك، فيمن أضاف، فَمَن كَسَر سِين «سيْنَاء» فقد منع الصرف للتعريف والعُجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفِعْلاء لا يكون ألفه للتأنيث كَعِلْبَاء وحِرْبَاء.
قال شهاب الدين: وكون ألف (فِعْلاء) بالكسر ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة، وأَمَّا الكوفيون فعندهم أَنّ ألفها يكون للتأنيث، فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحَمْراء وبابها.
وكسر السين من (سَيْنَاء) لغة كنانة وأمَّا القراءة الثانية: فألفها للتأنيث، فمنع الصرف واضح. قال أبو البقاء: وهمزته للتأنيث، إذ ليس في الكلام (فَعْلَال) بالفتح، وما حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خَزْعَالٌ لا يثبت، وإن ثبت فهو
شاذ لا يحمل عليه. وقد وهم بعضهم فجعل (سَيْنَاء) مشتقة من (السنا) وهو الضوْء، ولا يصح ذلك لوجهين:
أحدهما: أنه ليس عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم.
الثاني: أَنّا وإنْ سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين (السنَا) نون وعين (سَيْناء) ياء. كذا قال بعضهم. وفيه نظر؛ إذْ لقائل أن يقول: لا نُسلّم أن عين (سيناء)(ياء) بل عينها (نون) ، وياؤها مزيدة، وهمزتها منقلبة عن واو، كما قلبت (السنا) ، ووزنها حينئذ (فِيعَال) و (فِيعَال) موجود في كلامهم، كِميلَاع وقيتَال مصدر قاتل.
قوله: «تَنْبُتُ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تُنْبِت» بضم التاء وكسر الباء والباقون بفتح التاء وضم الباء. فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أنبت بمعنى (نَبَت) فهو مما اتفق فيه (فَعَل) و (أَفْعَل) وأنشدوا لزهير:
3788 -
رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِم
…
قَطِيناً بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ
وأنكره الأصمعي، أي: نَبَت.
الثاني: أنّ الهمزة للتعدية، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي: تنبت ثمرها، أو جناها، و «بالدُّهْنِ» حال، أي: ملتبساً بالدهن.
الثالث: أن الباء مزيدة في المفعول به كهي في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195]، وقول الآخر:
3789 -
سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
…
وقول الآخر:
3790 -
نَضْرِبُ بالسَّيْفِ ونَرْجُوا بِالفَرَج
…
وأمّا القراءة الأخرى فواضحة، والباء للحال من الفاعل، أي ملتبسة بالدهْنِ يعني وفيها الدهن، كما يقال: ركب الأمير بجنده. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تنبت» مبنيًّا للمفعول من أنبتها الله و «بالدُّهْنِ» حال من المفعول القائم مقام الفاعل أي: ملتبسة بالدُّهن. وقرأ زِرّ بن حبيش «تُنْبِتُ الدُّهْنَ» من أنبت، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من أثبتها. والأشهب وسليمان بن عبد الملك «بالدِّهَان» وهو جمع دُهْن كرُمْح ورماح وأمّا قراءة أُبّي:«تُتْمِر» ، وعبد الله:«تُخْرِج» فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد، والدّهن: عصارة ما فيه دسم، والدَّهن - بالفتح - المسح بالدُّهن مصدر دَهَن يَدْهُنُ، والمُدَاهَنَة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه ليقر خاطره.
فصل
اختلفوا في «طُورِ سَيْنَاء» وفي «طُورِ سِينِينَ» . فقال مجاهد: معناه البركة
أي: من جبل مبارك. وقال قتادة: معناه الحسن أي: الجبل الحسن. وقال الضحاك: معناه بالنبطية: الحسن.
وقال عكرمة: بالحبشية. وقال الكلبي: معناه: المشجر أي: جبل وشجر. وقيل: هو بالسريانية: الملتف بالأشجار. وقال مقاتل: كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سَيْناء، وسِينِين بلغة النبط.
وقال ابن زيد: هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة.
وقال مجاهد: سَيْناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. والمراد بالشجرة التي تُنْبَتُ بالدُّهْنِ أي: تثمر الدهن وهو الزيتون. قال المفسرون: وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل، لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت، ولأن معظمها هناك. قوله:«وَصِبْغٍ» العامة على الجر عطفاً على الدُّهنِ.
والأعمش: «وَصِبْغاً» بالنصب نسقاً على موضع «بالدُّهنِ» ، كقراءة «وأَرْجُلَكُمْ» في أحد محتملاته. وعامر بن عبد الله:«وصِباغ» بالألف، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ «بالدِّهَان» . والصِبْغ والصِبَاغ كالدِبْغ والدِبَاغ، وهو اسم ما يفعل به. قال الزمخشري: هو ما يصطبغ به أي: ما يصبغ به الخبز.
و «للآكِلِينَ» صفة، والمعنى: إدام للآكلين. فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة، لأنها تخرج الثمرة التي يكثر الانتفاع بها، وهي طرية ومدخرة، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها، ويعظم وجوه الانتفاع به.
قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} الآية، لما ذكر النعم الحاصلة من الماء والنبات، ذكر بعده النعم الحاصلة من الحيوان، فذكر أنَّ فيها عبرة مجملاً ثم فصله من أربعة أوجه:
أحدها: قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} المراد منه جميع وجوه الانتفاع، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع، وتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله - تعالى - فتستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة، وتصير غذاء، فَمَن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته، فهو من النعم الدينية، ومن انتفع به فهو من النعم الدنيوية. وأيضاً: فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إذا ذبحت لم تجد لها أثراً، وذلك دليل على عظم قدرة الله. وتقدم الكلام في «نُسْقِيكُمْ» في النحل وقُرئ «تَسْقيكُم» بالتاء من فوق مفتوحة، أي: تَسقِيكُم الأنعام.
وثانيها: قوله: {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ} أي: بالبيع، والانتفاع بأثمانها.
وثالثها: قوله - تعالى -: «ومِنْهَا تَأْكُلُونَ» أي: كما تنتفعون بها وهي حيّة تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.
ورابعها: قوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي: على الإبل في البر وعلى الفلك في البحر، ولمّا بيَّن دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} . قيل: كان نوح اسمه يشكر
ثم سمي نوحاً لكثرة ما نَاحَ على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم الله بالطوفان فَندم على ذلك.
وقيل: لمراجعة ربه في شأن ابنه. وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح، فعوتب على ذلك، وقال الله تعالى: أعِبْتني إذ خلقته، أم عِبْتَ الكلب، وهذه وجوه متكلفة، لأن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى.
قوله: {ياقوم اعبدوا الله} : وَحِّدُوه {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي: أنَّ عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. وقُرئ «غَيْرُهُ» بالرفع على المحل، وبالجر على اللفظ.
ثم إنه لمّا لَمْ ينفع فيهم الدعاء واستمروا على عبادة غير الله حذرهم بقوله: «أَفَلَا تَتَّقُونَ» زجرهم وتوعدهم باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه ثم إنه تعالى حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح عليه السلام: وهي قولهم: {مَا هذا إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} وهذه الشبهة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقال: إنه لمّا كان سائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض سواء امتنع كونه رسولاً لله، لأنّ الرسول لا بُدّ وأن يكون معظماً عند الله وحبيباً له، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والعزة، فلما انْتَفَتْ هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.
والثاني: أن يقال: إن هذه الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلاً إلا بادعاء النبوة، فصار ذلك شُبهة لهم في القدح في نبوته، ويؤكد هذا الاحتمال قولهم:{يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي: يطلب الفضل عليكم ويرأسكم.
الشبهة الثانية: قولهم: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلَائِكَةً} أي: ولو شاء الله أن لا يتعبد سواه لأنزل ملائكة بإبلاغ الوحي، لأنّ بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى المقصود من بعثة البشر، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم، وكثرة علومهم ينقاد الخلق إليهم، ولا يشكون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك عَلِمنا أنه ما أرسل رسولاً.
الشبهة الثالثة: قولهم: {مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} فقولهم: «بِهَذا» إشارة إلى نوح عليه السلام أي: بإرسال بشر رسولاً، أو بهذا الذي يدعو إليه نوح وهو عبادة الله وحده، لأنّ آباءهم كانوا يعبدون الأوثان، وذلك أنهم كانوا لا يُعوّلون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء، فلمّا لم يجدوا في نبوة نوح عليه السلام هذه الطريقة حكموا بفسادها.
الشبهة الرابعة: قولهم: {إِنْ هُوَ إِلَاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي: جنون، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام، لأنه عليه السلام كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم، فكان الرؤساء يقولون للعوام إنه مجنون، فكيف يجوز أن يكون رسولاً؟
الشبهة الخامسة: قولهم: {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} ، وهذا يحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله، أي: أنه مجنون فاصبروا إلى زمان يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا فاقتلوه.
ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً، وهو أن يقولوا لقومهم: اصبروا فإنه إنه كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوي أمره فنتبعه حينئذ، وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أنه تعالى لم يذكر الجواب على هذه الشبه لركاكتها ووضح فسادها لأنَّ كل عاقل يعلم أنَّ الرسول لا يصير رسولاً لكونه من جنس الملك وإنما يصير رسولاً بتميزه عن غيره بالمعجزات، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً، بل جعل الرسول من البشر أولى لما تقدم من أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم:{يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} فإن ارادوا إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب في الرسول، وإن أرادوا أنه يترفع عليهم على سبيل التكبر فالأنبياء منزهون عن ذلك. وأما قولهم:{مَّا سَمِعْنَا بهذا} فهو استدلال بعدم التقليد (على عدم وجود الشيء، وهو في غاية السقوط، لأنّ وجود التقليد) لا يدل على وجود الشيء، فعدمه من أين يدل على عدمه. وأما قولهم:«بِهِ جِنَّة» فكذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم: «فَتَرَبَّصُوا» فضعيف، لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته، وهي المعجزة،
وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته، لأنَّ الدولة لا تدل على الحقيقة، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} أي: أعِنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي (كأنه قال: أهلكهم بسبب تكذيبهم) . وقيل: انصرني بدل ما كذبون كما تقول: هذا بذاك، أي بدل ذاك ومكانه. وقيل: انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم:{إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] .
ولمَّا أجاب الله دعاءه قال: {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} أي: بحفظنا وكلائنا، كان معه من الله حُفّاظاً يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله.
قيل: كان نوح نجاراً، وكان عالماً بكيفية اتخاذ الفلك.
وقيل: إن جبريل عليه السلام علّمه السفينة. وهذا هو الأقرب لقوله: «بأَعْيُنِنَا وَوَحْينَا» . {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} . واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم، لأن قولك: هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما. وقيل: إنما سماه أمراً تعظيماً وتفخيماً كقوله: {قَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} [فصلت: 11] .
قوله: «وَفَارَ التَّنُّور» تقدم الكلام في التنور في سورة هود. «فَاسْلُكْ فِيهَا» أي: ادخل فيها. يقال: سَلَك فيه دَخَلَهُ، وسَلَكَ غيره وأَسْلَكَهُ {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} أي: من كل زوجين من الحيوان (الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان) وكل واحد منهما زَوْج، لا كما تقوله العامة: إنَّ الزوجَ هو الاثنان. روي أنه لم يحمل إلاّ ما يَلِدُ ويَبيضُ. وقرئ: «مِنْ كُلٍّ» بالتنوين و «اثْنَيْن» تأكيد وزيادة بيان «وَأهْلَكَ» أي: وأدْخل أَهْلَك {إِلَاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} ولفظ (على) إنما يستعمل في المضارّ قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] . وهذه الآية تدل على أمرين:
أحدهما: أنه تعالى أمره بإدخال سائر مَنْ آمَنَ به، وإن لم يكن من أهله. وقيل: المراد بأهله من آمَنَ دون من يتعمل به نسباً أو حسباً. وهذا ضعيف، وإلاّ لما جاز الاستثناء بقوله:{إِلَاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} .
والثاني: قال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا} يعني: كنعان، فإنه - سبحانه - لَمَّا أخبر بإهلاكهم، وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم. لأنه إن أجابه إليه، فقد صيّر خبره الصادق كذباً، وإن لم يجبه إليه، كان ذلك تحقيراً لشأن نوح عليه السلام، فلذلك قال:«إِنَّهُم مُغْرَقُونَ» أي: الغرق نازل بهم لا محالة. قوله: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك} اعتدلت أنت ومن معك على الفلك، قال ابن عباس: كان في السفينة ثمانون إنساناً، نوح وامرأته سِوَى التي غرقت، وثلاثة بنين، سام، وحام، ويافث، وثلاثة نسوة لهم، واثنان وسبعون إنساناً، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - قال: «وُلِد لنوح ثلاثة أولاد سَام، وحَام، ويَافِث، فأمّا سام فأبو العرب وفارس والروم، وأما يافث فأبو يأجوج ومأجوج والبربر، وأما حام فأبو هذه الجلدة السوداء ويأجوج ومأجوج بنو عم الترك» .
قال ابن الجوزي: وُلِد لحام كوش، ونبرش، وموغع، وبوان، ووُلِد لكوش نمرود، وهو أول النماردة، مَلِك بعد الطوفان ثلاثمائة سنة، وعلى عهده قسّمت الأرض، وتفرَّق الناس واختلفت الألسن، ونمرود إبراهيم الخليل، ومن وَلد نبرش الحرير، ومن وَلد مُوغع يأجوج ومأجوج، ومن وَلد بوان الصقالبة، والنوبة، والحبشة، والهند، والسند.
ولما اقتسم أولاد نوح الأرض، نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور، فجعل الله فيهم الأدمة، وبياضاً قليلاً، ولهم أكثر الأرض، وروي أن فالغ أبو غابر قسم الأرض بين أولاد نوح بعد موت نوح، فنزل سام سرة الأرض فكانت فيهم الأدمة والبياض، ونزل بنو يافث مجرى الشمال والصبا فكانت فيهم الحمرة والشقرة، ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور فتغيرت ألوانهم.
روى ابن شهاب قال: قيل لعيسى ابن مريم عليه السلام أَحْيِ حام بن نوح - فقال: أروني قبره. فأروه، فقام، فقال: يا حام بن نوح احْيَ بإذن الله عز وجل فَلَمْ يَخْرُج، ثم قالها الثانية، فخرج، وإذا شِقّ رأسه ولحيته أبيض، فقال: ما هذا، قال: سمعتُ الدعاء الأول فظننتُ أنه من الله - تعالى - فشاب له شقي، ثم سمعت الدعاء الثاني فعلمت أنه من الدنيا فخرجتُ، قال: مذ كم مِتَّ؟ قال: منذ أربعة آلاف سنة، ما ذهبت عنّي سكرة الموت حتى الآن. وروي أن الذي أحياه عيسى ابن مريم سام بن نوح، والله أعلم. وروي عن النمر بن هلال قال: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ فاثنا عشر ألف للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للفرس وألف للعرب قال مجاهد: ربع من لا يلبس الثياب من السودان مثل جميع الناس.
قوله: {فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} الكافرين، وإنما قال:«فَقُل» ولم يقل: فقولوا، لأنّ نوحاً كان نبياً لهم وإمامهم، فكان قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة ذلك المخاطب لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي.
قال قتادة: علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، وعند ركوب الدابة:{سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} [الزخرف: 13]، وعند النزول:{وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} . قال الأنصاري: وقال لنبينا: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}
[الإسراء: 80]، وقال:{فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] فكأنه - تعالى - أمرهم أن لا يغفلوا عن ذكره في جميع أحوالهم.
قوله: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} قرأ أبو بكر بفتح ميم (مَنْزِلاً) وكسر الزاي، والباقون بضم الميم وفتح الزاي و (المَنْزل) و (المُنْزَل) كل منهما يحتمل أن
يكون اسم مصدر، وهو الإنزال أو النزول، وأن يكون اسم مكان النزول أو الإنزال، إلا أنّ القياس «مُنْزَلاً» بالضم والفتح لقوله:«أَنْزِلْنِي» . وأما الفتح والكسر فعلى نيابة مصدر الثلاثي مناب مصدر الرباعي كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، وتقدم نظيره في «مُدْخَل» و «مَدْخَل» في سورة النساء واختلفوا في المنزل، فقيل: نفس السفينة، وقيل: بعد خروجه من السفينة منزلاً من الأرض مباركاً. والأول أقرب، لأنه أُمِرَ بهذا الدعاء حال استقراره، فيكون هو المنزل دون غيره.
ثم قال: {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} ، وذلك أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله، لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله. ثم بين تعالى أنّ فيما ذُكِر من قصة نوح وقومه «آيات» دلالات وعبر في الدعاء إلى الإيمان، والزجر عن الكفر، فإنّ إظهار تلك المياه العظيمة، ثم إذهابها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه السلام يدل على المعجز العظيم، وإفناء الكفار، وبقاء الأرض لأهل الطاعة من أعظم أنواع العبر. قوله:{وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} «إِنْ» مخففة، و «اللام» فارقة. وقيل:«إِنْ» نافية و «اللام» بمعنى «إِلَاّ» وتقدم ذلك مراراً فعلى الأول معناه: وقد كنا، وعلى الثاني: ما كنا إلا مبتلين، فيجب على كل مكلَّف أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه. وقيل: المراد لمعاقبين من كذب الأنبياء، وسلك مثل طريقة قوم نوح. وقيل: المراد كما عاقب بالغرق من كذب فقد نمتحن من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب، لكيلا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} الآيات. قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هذه قصة هود لقوله تعالى حكاية عن هود {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] ، ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف، وهود، والشعراء.
وقال بعضهم: هي قصة صالح لأنَّ قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة وتقدم كيفية الدعوى في قصة نوح.
قوله: «فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ» قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ: حق «أَرْسَلَ» أن يتعدى ب «إلى» كأخواته التي هي: وَجَّهَ، وأَنْفَذَ وبَعَثَ، فما له عدي في القرآن ب (إلى) تارة وب (في) أخرى كقوله:{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ} [الرعد: 30]{ (وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ) } [سبأ: 34] . قُلْتُ: لم يعد ب (في) كما عُدّي ب (إلى) ، ولم يجعل صلة مثله، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال، كقول رؤبة:
3891 -
أرسلت فيها مصعباً ذا أقحام
…
وقد جاء (بَعَثَ) على ذلك، كقوله تعالى {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} [الفرقان: 51] .
قوله: {أَنِ اعبدوا الله} يجوز أن تكون المصدرية أي: أرسلناه بأن اعبدوا الله. أي: بقوله اعبدوا، وأن تكون مفسرة. «أَفَلَا تَتَّقُونَ» قال بعضهم: هذا الكلام غير موصول بالأول، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه، وردّوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك خوفهم بقوله:«أَفَلَا تَتَّقُون» هذه الطريقة مخالفة العذاب الذي أنذركم به. ويجوز أن يكون موصولاً بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان، فدعاهم إلى عبادة الله، وحذّرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان.
قوله: «وقَالَ الملأُ» قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ: ذكر مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف، وسورة هود بغير واو، {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] {قَالُواْ (ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) } [هود: 53] . وههنا مع الواو، فأيّ فرق بينهما؟ قُلْتُ: الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال: فماذا قيل له؟ فقيل له: قالوا: كيت وكيت، وأمّا الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله، ومعناه أنه اجتمع في الحصول، (أي في هذه الواقعة في) هذا الكلام الحق وهذا (الكلام) الباطل وشتان ما بينهما قال شهاب الدين: ولقائل أن يقول: هذا جواب بنفس الواقع، والسؤال باق، إذ يحسن أن يقال: لِمَ لا جعل هنا قولهم أيضاً جواباً لسؤال سائل كما في نظيرتها أو عكس الأمر.
قوله {وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة} أي: بالمصير إلى الآخرة «وأَتْرَفْنَاهُم» نعمناهم ووسعنا عليهم {فِي الحياة الدنيا مَا هذا إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} وقد تقدم شرح هذه الشبهة في القصة الأولى {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} أي: منه، فحذف العائد لاستكمال شروطه، وهو اتحاد الحرف، والمتعلق، وعدم قيامه مقام مرفوع، وعدم ضمير
آخر، هذا إذا جعلناها بمعنى الّذي، فإن جعلتها مصدراً لم يحتج إلى عائد، فيكون المصدر واقعاً موقع المفعول.
أي: من مشروبكم.
وقال في التحرير: وزعم الفراء أن معنى «مِمَّا تَشْرَبُونَ» على حذف أي: تشربون منه. وهذا لا يجوز عند البصريين، ولا يحتاج إلى حذف ألبتة، لأن (ما) إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت العائد، ولم تحتج إلى إضمار (من) يعني: أنه يقدر تشربونه من غير حرف جر، وحينئذ تكون شروط الحذف أيضاً موجودة ولكن تفوت المقابلة إذ قوله:«تَأْكُلُونَ مِنْهُ» فيه تبعيض، فلو قدرت هنا تشربونه من غير (من) فاتت المقابلة. ثم إن قوله: وهو لا يجوز عند البصريين ممنوع، بل هو جائز لوجود شرط الحذف.
قوله: {لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} لمغبونون، جعلوا اتباع الرسول خسراناً ولم يجعلوا عبادة الصنم خسراناً، قال الزمخشري و «إذا» وقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قولهم قال أبو حيان: وليس واقعاً في جزاء الشرط، بل واقعاً بين «إنكم» و (الخبر) ، و «إنكم» و (الخبر) ليس جزاء للشرط بل ذلك جواب للقسم المحذوف قبل «إن» الشرطية (ولو كانت «إنكم» والخبر جواباً للشرط) لزمت (الفاء) في (إنكم) بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلا عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ قال شهاب الدين: يعني أنه إذ توالى شرط وقسم أجيب سابقهما، والقسم هنا متقدم فينبغي أن يجاب ولا يجاب الشرط، ولو أجيب الشرط لاختلت القاعدة إلا عند بعض
الكوفيين، فإنه يجيب الشرط وإن تأخر، وهو موجود في الشعر.
قوله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ «الآية. في إعرابها ستة أوجه:
أحدها: أنّ اسم أنّ الأولى مضاف لضمير الخطاب، حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، والخبر قوله:» إِذَا متُّم «، و» أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «تكرير، لأنَّ الأولى للتأكيد، والدلالة على المحذوف والمعنى: أنَّ إخراجكم إذا متم وكنتم.
الثاني: أنَّ خبر (أنَّ) الأولى هو» مُخْرَجُونَ «، وهو العامل في» إِذَا «وكررت الثانية توكيداً لمَّا طال الفصل وإليه ذهب الجرمي والمبرد والفراء، ويدل على كون الثانية توكيداً قراءة عبد الله:{أَيَعِدُكُمْ إِذَا متُّمْ وكُنْتُمْ تُراباً وعِظَاماً أَنَّكُم مُخْرَجُونَ} .
الثالث: أنّ» أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «مؤول بمصدر مرفوع بفعل محذوف ذلك الفعل المحذوف جواب (إذا) الشرطية، و (إذا) الشرطية وجوابها المقدر خبر ل (أنَّكُم) الأولى تقديره: يحدث أنكم مخرجون.
الرابع: كالثالث في كونه مرفوعاً بفعل مقدر إلا أنَّ هذا الفعل المقدر خبر ل (أَنَّ) الأولى وهو العامل في (إذا) .
الخامس: أنّ خبر الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه، فتقديره: أنكم تبعثون، وهو العامل في الظرف، و (أنَّ) الثانية وما في حيزها بدل من الأولى، وهذا مذهب سيبويه.
السادس: أن يكون «أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» مبتدأ وخبره الظرف مقدماً عليه، والجملة خبر عن (أَنَّكُمْ) الأولى، والتقدير: أيعدكم أنكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم. ولا يجوز أن يكون العامل في «إذَا» «مُخْرَجُونَ» على كل قول لأن ما في حيز (أنَّ) لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها «متم» ، لأنه مضاف إليه، و «أَنَّكُمْ» وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف الحرف إذ الأصل: أيعدكم بأنكم ويجوز أن لا يقدر حرف جر، فيكون في محل نصب فقط نحو: وعدت زيداً خيراً.
قوله: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ» . «هَيْهَاتَ» اسم فعل معناه: بَعُدَ، وكُرر للتوكيد وليست المسألة من التنازع، قال جرير:
3792 -
فَهَيْهَات هَيْهَاتَ العقيقُ وأهلهُ
…
وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُوَاصِلُه
وفسره الزجاج في عبارته بالمصدر، فقال: البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُون فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه، ويمكن أن يكون فسّر المعنى فقط.
و «هَيْهَات» اسم لفعل قاصر برفع الفاعل، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجروراً باللام فمنهم من جعله على ظاهره وقال «مَا تُوعدُون» فاعل به، وزيدت فيه اللام التقدير: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوعدُون،، وهو ضعيف: إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل. ومنهم من جعل الفاعل مضمراً لدلالة الكلام عليه، فقدره أبو البقاء: هيهات التصديق، أو: الصحة لما توعدون. وقدّره غيره: بَعُدَ إخْرَاجُكُم. و (لِمَا تُوعَدُونَ) للبيان، قال الزمخشري: لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في «هَيْتَ لَكَ» لبيان المهيت به. وقال الزجاج: «البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ» فجعله مبتدأ والجار بعد الخبر. قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: (مَا تُوعَدُونَ) هو المستبعد، فمن حقه أن يرتفع ب «هَيْهَاتَ» كما ارتفع بقوله:
3793 -
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ العَقِيقُ وأَهْلُه
…
فما هذه اللام؟ قُلتُ: قال الزجاج في تفسيره: البعْدُ لِمَا تُوعدُونَ أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُونَ فيمن نَوّن، فنزّله منزلة المصدر. قال أبو حيان: وقول الزمخشري (فمن نَوّنه نزّله منزلة المصدر) ليس بواضح، لأنهم قد نَوّنُوا أسماء الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوّنت تنزلت منزلة المصادر. قال شهاب الدين: الزمخشري لم يقل كذا، إنما
قال: فيمن نَوَّن نزله منزلة المصدر لأجل قوله: أو بُعْد، فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزلاً منزلة المصدر، فإنّ أسماء الأفعال ما نُوّن منها نكرة، وما لم يُنوّن معرفة نحو: صَهْ وصَهٍ يقدر الأول بالسكوت، والثاني بسكوت ما.
وقال ابن عطية: طوراً تلي الفاعل دون لام، تقول: هيهات مجيء زيد أي: بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً عند اللام، كهذه الآية، والتقدير: بَعُدَ الوجودُ لمَا تُوعَدُونَ. ولم يستجيده أبو حيان من حيث قوله: حذف الفاعل، والفاعل لا يحذف، ومن حيث إنّ فيه حذف المصدر، وهو الموجود، وإبقاء معموله وهو «لِمَا تُوعَدُون» و «هَيْهَاتَ» الثاني تأكيد للأول تأكيداً لفظياً، وقد جاء غير مؤكد كقوله:
3794 -
هَيْهَاتَ مَنْزِلُنَا بِنَعْفِ سُوَيْقَةٍ
…
كانت مُبَارَكَةً على الأَيَّامِ
وقال آخر:
3795 -
هَيْهَاتَ نَاسٌ مِنْ أُنَاس دِيَارُهُمْ
…
دُقَاق ودَارُ الآخِرِينَ الأَوَائِنُ
وقال رؤبة:
3796 -
هَيْهَاتَ مِن مُنْخَرِقٍ هَيْهَاؤُه
…
قال القيسي شارح أبيات الإيضاح: وهذا مثل قولك: «بَعُدَ بُعْدَهُ» وذلك أَنَّه بَنَى من هذه اللفظة (فَعْلَالاً) فجاء به مجيء القَلْقَال والزلزَال. والألف في «هَيْهَاتَ» غير الألف في (هَيْهَاؤُه) ، وهي في «هَيْهَاتَ» لام الفعل الثانية كقاف الحَقْحَقَة الثانية، وهي في (هَيْهَاؤُه) ألف الفعلال الزائدة. وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين،
ذكر منها الصَّاغَانِي ستة وثلاثين لغة، وهي:(هَيْهَاتَ) ، وأَيْهَاتَ، وهَيْهَانَ، وأَيْهَانَ وهَيْهَاه، وأَيْهَاه كل واحد من هذه الستة مضمومة الآخرة ومفتوحته، ومكسورته، وكل واحدةٍ منها منوّنة وغير منوّنة، فتكون ستًّا وثلاثين. وحكى غيره: هَيْهَاك، وأَيْهَاكَ - بكاف الخطاب -، وأَيْهاء، وأَيْهَا، وهَيْهَاء، فأمّا المشهور ما قرئ به. فالمشهور «هَيْهَات» بفتح التاء من غير تنوين بُني لوقوعه موقع المبني، أو لشبهه بالحرف، وتقدم تحقيق ذلك وبها قرأ العامة وهي لغة أهل الحجاز. و «هَيْهَاتاً» بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس.
و «هَيْهَاتٌ» بالضم والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين،
ويروى عن أبي حيوة أيضاً، فعنه فيها وجهان وافقه أبو السمال في الأولى دون الثانية.
و «هَيْهَاتٍ» بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس. وبالكسر من غير تنوين، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة، وتُروى عن عيسى أيضاً وهي لغة تميم وأسد.
و «هَيْهَاتْ» بإسكان التاء، وبها قرأ عيسى بن عمر الهمداني أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج و «هَيْهَاه» بالهاء آخراً وصلاً ووقفاً. و «أيْهَاتَ» بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعض القراء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسع لغات قد قرئ بهنّ لم يتواتر منها غير الأولى. ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة. و «أَيْهَان» بالنون آخراً. و «أَيْهَا» بألف آخراً.
فمن فتح التاء قالوا: فهي عنده اسم مفرد، ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزَيْنَبَات وهِنْدَات.
ويُعْزَى هذا لسيبويه، لأنه قال: هي مثل بَيْضَات، فنسب إليه أنه جمع من ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردها (هَيْهَة) مثل بَيْضَة.
وليس بشيء بل مفردها (هَيْهَاتَ) .
قالوا: وكان يبغي على أصله أن يقال فيها: (هَيْهَيَات) بقلب ألف (هَيْهَاتَ) ياء، لزيادتها على الأربعة نحو: مَلْهَيَات، ومَغْزَيات، ومَرْمَيات، لأنها من بنات الأربعة المضعّفة من الياء من باب حَاحَيْتَ وصِيْصِية، وأصلها بوزن القَلْقلة والحَقْحَقَة فانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت: هَيْهَاة كالسلْقَاة والجَعْبَاة. وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف سلْقَاة وجَعْبَاة زائدة، وياء هَيْهية أصلاً، فلما جمعت كان قياسها على قولهم: أَرْطَيَاتٍ وعَلْقَيَاتٍ أن يقولوا فيها: (هَيْهَياتٍ) ، إلاّ أنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين لمّا كانت في آخر اسم مبني كما حذفُوها في (ذان)، و (اللَّتان) و (تان) : ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية، والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أولات وذَوَات، لتخالف ياء حَصَيات ونَوَيات. وقالوا: من فتح تاء (هَيْهَاتَ) فحقه أن يكتبها هاء، لأنها في مفرد كتَمْرة ونَواة، ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء، لأنها في جمع كهِنْدَات، وكذلك حكم الوقف سواء، ولا التفات إلى لغة: كيف الإخوهْ والأخواهْ، ولا هذه ثمرت، لقلتها، وقد رسمت في المصحف بالهاء.
واختلف القراء في الوقف عليها، فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزيّ عن ابن كثير. ومنهم من وقف بالتاء وهم الباقون. وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين:
أحدهما: موافقة الرسم.
والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسم مفرد أصله هَيْهَيَة كَوَلولة وقَلْقَلة في مضاعف الرباعي، وقد تقدم أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء. وأمّا التنوين فهو
على قاعدة تنوين أسماء الأفعال دخوله دال على التنكير، وخروجه دال على التعريف.
قال القيسي: من نَوّن اعتقد تنكيرها، وتصوَّرَ معنى المصدر النكرة، كأنه قال: بُعْداً بُعْداً. ومن لم يُنوّن اعتقد تعريفها، وتصوَّر معنى المصدر المعرفة، كأنه قال: البُعْدُ البُعْدُ فجعل التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف انتهى.
ولا يوجد تنوين التنكير إلا في نوعين: أسماء الأفعال وأسماء الأصوات (نحو صَهْ وصَهٍ، وبَخْ وبَخٍ، والعلم المختوم ب (ويه)) نحو سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياس بمعنى: أنه ليس لك أن تنوّن منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره. والذي يقال في القراءات المتقدمة: إنّ من نوّن جعله للتنكير كما تقدم. ومن لم ينوّن جعل عدم التنوين للتعريف. ومن فتح فللخفةِ وللاتباع. ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضم فتشبيهاً بقَبْل وبَعْد. ومن سَكّن فلأنّ أصل البناء السكون. ومن وقف بالهاء فاتباعاً للرسم، ومن وقف بالتاء فعلى الأصل سواء كُسرت التاء أو فتحت، لأنّ الظاهر أنهما سواء، وإنما ذلك من تغيير اللغات وإن كان المنقول عن مذهب سيبويه ما تقدم.
هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة. وقال ابن عطية فيمن ضم ونوّن: إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء، وخبره «لِمَا تُوعدُونَ» أي: البُعْد لوعدكم، كما تقول: النجح لسعيك.
وقال الرازي في اللوامح: فأمَّا مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرفوعين، خبرهما من حروف الجر بمعنى: البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ، والتكرار للتأكيد، ويجوز أن يكونا اسماً للفعل، والضم للبناء مثل: حُوبُ في زجر الإبل لكنه نَوّنه (لكونه) نكرة.
قال شهاب الدين: وكان ينبغي لابن عطية وأبي الفضل أن يجعلاه اسماً أيضاً في حالة النصب مع التنوين على أنه مصدر واقع موقع الفعل وقرأ ابن أبي عبلة: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا تُوعَدُونَ} من غير لام جر. وهي واضحة، مؤيدة لمدعي زيادتها
في قراءة العامة. و «ما» في «لِمَا تُوعَدُونَ» تحتمل المصدرية، أي: لوعدكم، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: توعدونه.
قوله: «إنْ هِيَ» «هي» ضمير يفسره سياق الكلام، أي: إن الحياة إلا حياتنا.
وقال الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يُراد به إلَاّ بما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة {إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا} ، فوضع «هي» موضع «الحياة» لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه: هي النَّفْس تتحمل مَا حُمِّلَتْ، وهي العَرَبُ تقول ما شَاءَتْ. وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظاً ورتبةً، ونسبه إلى الزمخشري متعلقاً بما نقلناه عنه. قال شهاب الدين: ولا تعلق له في ذلك.
قوله: «نَمُوتُ ونَحْيَا» جملة مفسرة لما ادّعوه من أنَّ حياتهم ما هي إلا كذا. وزعم بعضهم أنَّ فيها دليلاً على عدم الترتيب في الواو، إذ المعنى: نحيا ونموت إذ هو الواقع.
ولا دليل فيها لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرًّا يسير إلى انقراض العصر ويخلف غيره مكانه. وقل: نموت نحن ويحيا أبناؤنا.
وقيل: القوم كانوا يعتقدون الرجعة أي: نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت.
فصل
اعلم أنَّ القوم طعنوا في نبوّته بكونه بشراً يأكل ويشرب، ثم جعلوا طاعته خسراناً: أي: إنكم إن أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع، فذلك هو الخسران، ثم طعنوا في صحة الحشر والنشر، فقالوا:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} معادون أحياء للمجازاة، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى
قرنوا به الاستبعاد العظيم، فقالوا:{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} ثم أكدوا ذلك بقولهم: {إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ولم يريدوا بقولهم: «نَمُوتُ ونَحْيَا» الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا:{وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد {افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} .
واعلم أنَّ الله - تعالى - ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى: فتقدم الجواب عنها. وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه، أنّه لمّا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر، وأيضاً: فلولا الإعادة لكان تسليط القويِّ على الضعيف في الدنيا ظلماً، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى:{إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 15] .
واعلم أنَّ الرسول لمّا يئس من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال: {رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} وقد تقدّم تفسيره. فأجاب الله سؤاله وقال: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} .
قوله: «عَمَّا قَلِيلٍ» في (ما) هذه وجهان:
أحدهما: أنّها مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد كما زيدت الباء نحو: «فَبِمَا رَحْمَةٍ» ، وفي من نحو «مِمَّا خَطَايَاهُمْ» .
و «قَلِيلٍ» صفة لزمن محذوف، أي: عن زمن قليل.
والثاني: أنّها غير زائدة، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن، و «قَلِيلٍ» صفتها، أو بدل منها، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّه متعلق بقوله: «لَيُصْبِحُنَّ» ، أي: ليصبحن عن زمن قليل نادمين.
الثاني: أنه متعلق ب «نَادِمِين» ، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم، وذلك أنّ فيها ثلاثة أقوال:
جواز تقديم معمول ما بعدها عليها مطلقاً، وهو قول الفراء وأبي عبيدة.
والثاني: المنع مطلقاً، وهو قول جمهور البصريين.
والثالث: التفصيل بين الظرف وعديله وبين غيرهما، فيجوز للاتساع ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في: والله لأضربن زيداً، زيداً لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله.
والثالث من الأوجه المتقدمة: أنّه متعلق بمحذوف تقديره: عَمّا قَلِيلٍ تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله:«رَبّ انْصُرْنِي» . وقرئ: «لَتُصْبِحُنَّ» بتاء الخطاب على الالتفات، أو على أنَّ القول صدر من الرسول لقومه بذلك.
قوله: «عَمَّا قَلِيلٍ» الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلال فعند ذلك يحصل لهم الحسرة والندامة على ترك القبول. ثم بيّن تعالى الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق} قيل: إن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحةً عظيمةً فهلكوا. وقال ابن عباس: الصيحة الرجفة. وعن الحسن: الصيحة نفس العذاب والموت. كما يقال فيمن يموت: دعي فأجاب.
وقيل: هي العذاب المصطلم، قال الشاعر:
3797 -
صاح الزمان بآل برمك صيحة
…
خروا لشدتها على الأذقان
والأول أولى لأنه الحقيقة.
قوله: «بالحقِّ» أي: دمرناهم بالعدل، من قولك: فلانٌ يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضائه.
وقال المُفضل: «بالحقِّ» بما لا مدفع له كقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19] .
قوله: «فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً» الجعل بمعنى: التصيير، و «غُثَاءً» مفعول ثان، والغُثَاء: قيل: هو الجفاء، وتقدم في الرعد، قاله الأخفش وقال الزجاج: هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل خالط زبده واسود، ومنه قوله:«غُثَاءً أَحْوَى» وقيل: كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به، وبه يُضْربُ المثل في ذلك ولامه واو، لأنه من غَثَا الوادي يَغْثُوا غَثْواً، وكذلك غَثَتِ القِدر، وأمّا غَثِيَتْ نَفْسُهُ تَغْثِي غَثَيَاناً، أي: خَبُثَتْ. فهو قريب من معناه، ولكنه من مادة الياء.
وتشدد (ثاء) الغُثَاء، وتُخفَّف، وقد جمع على أَغْثَاء، وهو شاذ، بل كان قياسه أن يجمع على أغْثِية، كَأغْرِيَة، وعلى غِيثَان، كغِرْبَان، وغِلْمَان وأنشدوا لامرئ القيس:
3798 -
مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءُ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
…
بتشديد الثاء، وتخفيفها، والجمع، أي: والأَغْثَاء.
قوله: {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} «بُعْداً» مصدر يذكر بدلاً من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم، والأصل: بَعُدَ بُعْداً وبَعَداً نحو رَشُدَ رُشْداً ورَشَداً وفي هذه اللام قولان:
أظهرهما: أنها متعلقة بمحذوف للبيان، كهي في سَقْياً له، وجَدْعاً له. قاله الزمخشري.
والثاني: أنَّها متعلقة ب «بُعْداً» قاله الحوفي. وهذا مردود، لأنه لا يُحفظ حذف هذه اللام، ووصول المصدر إلى مجرورها ألبتة، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله:{والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} [محمد: 8] لأن اللام لا تتعلق ب «تَعْساً» بل بمحذوف، وإن كان الزمخشري جَوَّز ذلك، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل
«فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً» صيرناهم هلكى فَيَبِسُوا يَبْسَ الغثاء من نبات الأرض، «فَبُعْداً» بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير «لِلقَوْمِ الظَالِمِينَ» الكافرين، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} أي: أقواماً آخرين. قيل: المراد قصة لُوط، وشعيب، وأيوب، ويوسف - صلوات الله عليهم أجمعين -، والمعنى: أنه ما أخلى الديار من المكلفين. {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} (مِنْ) صلة كأيّ: ما تَسْبِقُ أمة أجلها وقت هلاكها. وقيل: آجال حياتها وتكليفها. قال أهل السنة: هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} في «تَتْرَى» وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب على الحال من «رُسُلنَا» ، يعني: متواترين أي: واحداً بعد واحد، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه. وحقيقته: أنه مصدر واقع موقع الحال.
والثاني: أنه نعت مصدر محذوف، تقديره: إرسالاً تَتْرَى، أي: متتابعاً أو إرسالاً إثر إرسال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر، وهي قراءة الشافعي «تَتْرًى» بالتنوين، ويقفون بالألف، وباقي السبعة «تَتْرَى» بألف صريحة دون تنوين، والوقف عندهم يكون بالياء، ويميله حمزة والكسائي، وهو مثل غَضْبَى وسَكْرَى، ولا يميله أبو عمرو في الوقف، وهذه هي اللغة المشهورة. فمن نَوّن فله وجهان:
أحدهما: أنَّ وزن الكلمة فَعْلٌ كفَلْس فقوله: «تَتْرًى» كقولك: نصرته نَصْراً؛ ووزنه في قراءتهم «فَعْلاً» . وقد رُدَّ هذا الوجه، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه، فيقال: هذا تَتْرٌ، ورأيتُ تَتْراً، ومررت بتترٍ، نحو: هذا نصرٌ، ورأيت نصراً، ومررت بنصرٍ، فلمّا لم يحفظ ذلك بَطَلَ أن يكون وزنه (فَعْلاً) .
الثاني: أنّ ألفه للإلحاق بِجَعْفَر، كهي في أَرْطَى وَعَلْقَى، فلما نُوّن ذهبت لالتقاء الساكنين وهذا أقرب مما قبله، ولكنه يلزم منه وجود ألف الإلحاق في المصادر، وهو نادر (ومن لم يُنوّن، فله فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف.
والثاني: أنها للإلحاق كأَرْطَى وعَلْقَى) .
الثالث: أنها للتأنيث كدَعْوَى، وهي واضحة.
فتحصّل في ألفه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من التنوين في الوقف.
الثاني: أنها للإلحاق.
الثالث: أنها للتأنيث.
واختلفوا فيها هل هي مصدر كَدَعْوَى و «ذِكْرَى» ، أو اسم جمع ك «أَسْرَى» و «شَتَّى» ؟ كذا قاله أبو حيان. وفيه نظر: إذ المشهور أن «أَسْرَى» و «شَتَّى» جمعا تكسير لا اسما جمع. وتاؤها في الأصل واو لأنها من المواترة، والوتر، فقلبت تاء كما قلبت تاء في «تَوْرِيَة» ، وتَوْلَج، وتَيْقُور، وتخمة وتراث، وتجاه فإنه من الوَرْي والولُوج، والوَقَار، والوَخَامَة، والورَاثة، والوَجه. واختلفوا في مدلولها، فعن الأصمعي: واحداً بعد واحد وبينهما هُنَيْهَة وقال غيره: هو من المُوَاتَرَة، وهي التتابع بغير مُهْلَة.
وقال الراغب: والتوَاتُر تَتَابُع
الشيء وِتْراً وفُرَادَى، قال تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} . والوَتِيرة: السَّجية والطريقة، يقال: هم على وَتِيرةٍ واحدةٍ. والتِّرَةُ: الذَّحْلَ والوَتِيرة: الحاجز بن المنخرين.
قوله: {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} أي: أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدّم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة، ولذلك قال:{فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} بالإهلاك.
قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} قيل: هو جمع حديث، ولكنه شاذ. والمعنى: سَمَراً وقصصاً يحدث من بعدهم بأمرهم، ولم يبق منهم عين ولا أثر إلا الحديث الذي يعتبر به.
وقيل: بل هو جمع أُحْدُوثة، كأُضْحُوكة وأُعْجُوبَة، وهو ما يحدث به الناس تَلهياً وتَعَجُّباً.
وقال الأخفش: لا يقال ذلك إلا في الشر ولا يقال في الخير وقد شذت العرب في ألفاظ، فجمعوها على صيغة (أفَاعيل) كأباطيل وأقاطيع. وقال الزمخشري: الأحاديث يكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.
وقال أبو حيان: و (أفاعيل) ليس من أبنية اسم الجمع، فإنما ذكره النحاة فيما شذ من الجموع كقَطِيع وأقَاطِيع، وإذا كان عَبَادِيد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد، فأحرى أحاديث وقد لفظ له بواحد وهو حديث فاتضح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا. ثم قال تعالى:{فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} وهذا دعاء، وذم، وتوبيخ، وذلك وعيد شديد.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ} الآية. يجوز أن يكون «هَارُونَ» بدلاً، وأن يكون بياناً، وأن يكون منصوباً بإضمار أعني. واختلفوا في الآيات، فقال ابن عباس: هي الآيات التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والسنين، ونقص الثمرات. وقال الحسن:«بآيَاتِنَا» أي: بديننا. واحتج بأن المراد لو كان الآيات وهي المعجزات، والسلطان المبين: هو أيضاً المعجز، لزم منه عطف الشيء على نفسه.
والأول أقرب، لأنّ لفظ الآيات إذا ذكر مع الرسول فالمراد به المعجزات.
وأما احتجاجه فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أنّ المراد بالسلطان المبين: يجوز أن يكون أشرف معجزاته، وهي العصا، لأن فيها معجزات شتّى من انقلابها حيّة وتلقّفها ما صنع السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وكونها حارساً، وشمعةً، وشجرة مثمرة، ودَلْواً، ورشَاءً، فلاجتماع هذه الفضائل فيها أفردت بالذكر كقوله:«وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ» .
والثاني: يجوز أن يكون المراد بالآيات نفس تلك المعجزات، وبالسلطان المبين كيفيّة دلالتها على الصدق، فلأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات فقد فارقتها في قوة دلالتها على قبول قول موسى عليه السلام.
الثالث: أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى عليه السلام عليهم في الاستدلال على وجود الصانع، وإثبات النبوّة، وأنه ما كان يقيم لهم قدراً ولا وزناً.
واعلم أنَّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضاً وأنّ النبوة مشتركة بينهما، فكذلك المعجزات. ثم قال:{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فاستكبروا} وتعظموا عن الإيمان {وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم.
قوله: «لِبَشَرَيْنِ» شر يقع على الواحد والمثنى والمجموع، والمذكر والمؤنث
قال تعالى: {مَآ أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ} [يس: 15] ، وقد يطابق، ومنه هذه الآية وأما إفراد «مِثْلِنَا» ، فلأنه يجري مجرى المصادر في الإفراد والتذكير، ولا يؤنث أصلاً، وقد يطابق ما هو له تثنية لقوله:{مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} [آل عمران: 13] وجمعاً كقوله: {ثُمَّ لَا يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] .
وقيل: أريد المماثلة في البشريّة لا الكمية. وقيل: اكتفى بالواحد عن الاثنين. {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} جملة حالية.
فصل
«فَقَالُوا» يعني لفرعون وقومه {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} يعنون موسى وهارون {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} مطيعون متذللون. قال أبو عبيدة: والعرب تسمي كل من دان لِملك عابداً له ويحتمل أن يقال: إنه كان يدعي الإلهية، وإن طاعة الناس له عبادة، ولمّا خطر ببالهم هذه الشبهة صرحوا بالتكذيب، ولمّا كان التكذيب كالعلّة لهلاكهم لا جَرَم رتّبه عليه بفاء التعقيب، فقال:{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} أي: بالغرق (أي: فيمن حكم عليهم بالغرق) فإن الغرق لم يحصل عقيب التكذيب، (إنما حصل عقيب التكذيب) حكم الله - تعالى - عليهم بالغرق في الوقت اللائق به.
قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب} قيل: أراد قوم موسى، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولذلك أعاد الضمير من قوله:«لَعَلَّهُم» عليهم.
وفيه نَظَر، إذ يجوز عود الضمير على القوم من غير تقدير إضافتهم إلى موسى، ويكون هدايتهم مترتبة على إيتاء التوراة لموسى. قال الزمخشري: لا يجوز أن يرجع الضمير في «لَعَلَّهُم» إلى فرعون وملئه لأن التوراة إنما أوتيت بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون، بدليل قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} [القصص: 43] .
بل المعنى الصحيح ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يعملون بشرائعها، ومواعظها، فذكر موسى والمراد آل موسى كما يقال: هاشم وثقيف. والمراد قومهم.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} والمراد عيسى عليه السلام وأمه «آيَةً» دلالة على قدرتنا. ولم يقل آيتين قيل: معناه جعلنا شأنهما آية. وقيل المعنى كل واحدٍ آية كقوله: {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] . قال المفسرون: معنى كون عيسى وأمه آية أنه خُلِقَ من غير ذكر، وأنطقه في المهد في الصغر، وأجرى على يده إبراء الأَكْمَه والأبرص، وإحياء الموتَى وأمّا مريم فلأنها حملت من غير ذَكَر. وقال الحسن: تكلّمت مريم في صغرها كما تكلّم عيسى وهو قولها: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]، ولم تلقم ثدياً قط. قال ابن الخطيب: والأقرب أن جعلهما آيةً هو نفس الولادة، لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعاً في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة، ويدل على هذا وجهان:
الأول: قوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} لأن نفس المعجز ظهر منهما، لا أنَّه ظهر على يديهما، لأنَّ الولادة فيه وفيها بخلاف الآيات التي ظهرت على يده.
الثاني: قوله: {آيَةً} ولم يقل آيتين، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتمّ إلا بمجموعهما أولى، وذلك هو الولادة لا المعجزات التي كانت لعيسى.
قوله: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ} «الرُّبْوَة» و «الرُّبَاوة» في رَائهما الحركات الثلاثة، وهي الأرض المرتفعة.
قال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وأبي العالية وكعب قال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً.
وقال أبو هريرة: إنها الرَّمْلَة. وقال السدي: أرض فلسطين. وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل والضحاك. وقال الكلبي وابن زيد: هي مصر. والقَرار: المستقر من أرض مستوية منبسطة. وقال قتادة: ذات ثمارٍ وماء، أي: لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها. قوله: «وَمَعِينٍ» صفة لموصوف محذوف، أي: وماء معين. وفيه قولان:
أحدهما: أن ميمه زائدة، وأصله مَعْيُون. أي: مبصر بالعين فَأُعلّ إعلال مَبِيع وبابه وهو مثل قولهم: كَبْدتُه، أي ضربت كَبده، ورأسته أي: أصبت رأسه، وعنْتُه أي: أدركته بعيني ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن.
والثاني: أن الميم أصلية، ووزنه (فَعِيل) مشتق من المَعْن.
واختلف في المعين، فقيل: هو الشيء القليل، ومنه: المَاعُون. وقيل: هو من مَعنَ الشيء معانة أي: كثر، قال جرير:
3799 -
إنَّ الَّذِينَ غَدَوْا بِلُبِّكَ غَادَرُوا
…
وَشَلاً بِعَيْنِكَ لا يزالُ مَعِينَا
وقال الراغب: هو من مَعَن الماء جرى، وسُمي مَجَارِي الماء مُعْنان، وأمْعَن الفرس تباعد في عَدْوه، وأمْعَن بِحَقِّي: ذهب به، وفلانٌ معن في حاجته يعني: سريعاً فكلّه راجع إلى معنى الجري والسرعة.
وفي المعين قولان:
أحدهما: أنّه مفعول، لأنه لظهوره مدرك بالعين من عانه: إذا أدركه بعينه.
وقال الفراء والزجاج: إن شِئْتَ جعلته (فَعِيلاً) من المَاعون، ويكون أصله من المَعْن والمَاعون فاعُول منه. قال أبو علي: والمعين: السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى، والماعون ما سهل على معطيه. قالوا: وسبب الإيواء أنها فرّت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم.
قوله
تعالى
: {يا
أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} الآية.
اعلم أنَّ هذا خطاب مع كل الرسل، وذلك غير ممكن، لأنّ الرّسل إنّما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، فلهذا تأوّلوه على وجوه:
فقيل: معناه الإعلام بأن كلّ رسول نُودي في زمانه بهذا المعنى، ووصي به، ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل، ووصوا به، حقيق أن يؤخذ ويعمل عليه.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة: أراد به محمداً عليه السلام وحّده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة كقولك للواحد: أيُّها القوم كُفُّوا عنّا أذاكم ولأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل. وقال ابن جرير: المراد عيسى عليه السلام لأنه إنما ذكر بعد ذكره مكانه الجامع للطعام والشراب، ولأنه روي «أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام ُ كان يأكل من غزل أمه» .
والأول أقرب، لأنه أوفق للفظ، ولأنه «روي عن أم عبد الله أخت شدّاد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بقدح لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم فردّه الرسول إليها وقال:» من أين لَكِ هذا؟ «، فقالت: من شاةٍ لي، فقال:» من أين هذه الشاة؟ «، فقالت: اشتريتُها بِمَالي، فأخذه، ثم إنها جاءته فقالت: يا رسول الله لِمَ رَدَدته؟ فقال عليه السلام:» بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلاّ طيباً ولا تعمل إلاّ صالحاً «.
واختلفوا في الطيّب، فقيل: هو الحلال. وقيل: هو المستطاب المستلذ من المأكل.
قوله: {واعملوا صَالِحاً} يجوز أن يكون» صالحاً «نعتاً لمصدر محذوف أي: واعملوا عملاً صالحاً من غير نظر إلى ما يعملونه، كقولهم: يُعطي ويمنع. ويجوز أن يكون مفعولاً به، وهو واقع على نفس المعمول. {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وهذا تحذير من مخالفة ما أمرهم به، وإذا كان تحذيراً للرسل مع علو شأنهم، فبأن يكون تحذيراً لغيرهم أولى.
قوله: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قرأ ابن عامر وحده» وأن هذه «بفتح الهمزة وتخفيف النون. والكوفيون بكسرها والتثقيل. والباقون بفتحها والتثقيل. فأمّا قراءة ابن عامر فهي المخففة من الثقيلة، وسيأتي توجيه الفتح في الثقيلة، فيتضح معنى قراءته.
وأمّا قراءة الكوفيين فعلى الاستئناف.
وأمّا قراءة الباقين ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّها على حذف اللام أي: ولأنّ هذه، فلمّا حذف حرف الجَرّ جَرَى الخلاف المشهور، وهذه اللام تتعلق ب» اتّقون «. والكلام في الفاء كالكلام في قوله:» وَإِيَّايَ فَارْهَبُون «.
الثاني: أنها منسوقة على» بِمَا تَعْمَلُون «أي: إنِّي عليم بما تعملون وبأنّ هذه، فهذه داخلة في حيز المعلوم.
الثالث: أنّ في الكلام حذفاً تقديره: واعلموا أن هذه أمتكم.
وتقدّم {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} وما قيل فيها.
فصل
المعنى: وأن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أمةً واحدةً، أي: ملة واحدة وهي الإسلام. فإن قيل: لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحداً؟
فالجواب: أنّ المراد من الدين ما لا يختلفون من أصول الدين من معرفة ذات الله وصفاته، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يُسمّى اختلافاً في الدين، فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء: إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا هنا.
وقيل: المعنى: أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم، وأمركم واحد.
{وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} فاحذرون، {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: تفرقوا فصاروا فرقاً يهوداً، ونصارى، ومجوساً. «زُبُراً» أي: فرقاً وقطعاً مختلفة، واحدها (زَبُور) ، وهو الفرقة والطائفة، ومثلها «الزُّبْرَة» وجمعها «زُبَر» ومنه «زُبَرَ الحَدِيدِ» .
وقرأ بعض أهل الشام: «زُبَراً» بفتح الباء. وقال مجاهد وقتادة «زُبراً» أي: كتباً، أي: دان كلّ فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر.
وقيل: جعلوا كتبهم قطعاً آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض وحرّفوا البعض {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} بما عندهم من الدين معجبون مسرورون.
ولما ذكر تفرقهم في دينهم أتبعه بالوعيد وقال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} وهذا خطاب
لنبينا عليه السلام، أي: دع هؤلاء الكفار في جهلهم.
قوله: «في غَمْرتِهِمْ» مفعول ثان ل «ذَرْهُمْ» أي: اتركهم مستقرين «في غَمْرَتِهِمْ» ويجوز أن يكون ظرفاً للترك، والمفعول الثاني محذوف. والغمرة في الأصل الماء الذي يغمر القامة، والمغمر الماء الذي يَغْمُر الأرض ثم استعير ذلك للجهالة، فقيل: فلانٌ في غمرة والمادة تدل على الغطاء والاستتار ومنه الغُمر - بالضم - لمن لم يجرب الأمور، وغُمَار الناس وخمارهم زحامهم، والغِمْر - بالكسر - الحقد، لأنه يغطي القلب، فالغمرات الشدائد، والغامر: الذي يلقي نفسه في المهالك. وقال الزمخشري: الغمرة الماء الذي يغمر القامة، فضربت لهم مثلاً لما هم فيه من جهلهم وعَمَايَتِهم، او شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لِمَا هُمْ عليه من الباطل كقوله:
3800 -
كَأَنَّنِي ضَارِبٌ في غَمْرَةٍ لَعِب
…
وقرأ أمير المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن «غمراتهم بالجمع، لأنَّ لكل منهم غمرة تخصه. وقراءة العامة لا تأبى هذا المعنى، فإنه اسم جنس مضاف.
قوله:» حَتَّى حِين «أي إلى أن يموتوا. وقيل: إلى حين المعاينة. وقيل: إلى حين العذاب. ولمّا كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أنّ تلك النعم كالثواب المعجل لهم إلى أديانهم، فبيّن سبحانه أنّ الأمر بخلاف ذلك فقال:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} أي: أن ما نعطيهم ونجعله مدداً لهم من المال والبنين في الدنيا ل {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} أي: نعجل لهم في الخيرات، ونقدّمها ثواباً بأعمالهم لمرضاتنا عنهم {بَل لَاّ يَشْعُرُونَ} أنّ ذلك استدراج لهم.
قوله: «أَنَّما نُمِدُّهُمْ» في «مَا» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بمعنى الذي، وهي اسم (أنَّ) و (نُمِدُّهُمْ بِهِ) صلتها وعائدها محذوف،
و (مِنْ مَالٍ) حال من الموصول أو بيان له، فيتعلق بمحذوف، و (نُسَارعُ) خبر (أنَّ) والعائد من هذه الجملة إلى اسم (أنَّ) محذوف تقديره: نسارع لهم به أو فيه إلا أنّ حذف مثله قليل. وقيل: الرابط بين هذه الجملة باسم «أنَّ» هو الظاهر الذي قام مقام المضمر من قوله: «في الخَيْرَاتِ» ، إذ الأصل نُسَارع لهم فيه، فأوقع الخيرات موقعه تعظيماً وتنبيهاً على كونه من الخيرات، وهذا يتمشّى على مذهب الأخفش، إذ يرى الربط بالأسماء الظاهرة وإن لم يكن بلفظ الأوَّل، فيجيز زيد الذي قام أبو عبد الله، إذا كان أبو عبد الله كنية زيد، وتقدّمت منه أمثلة. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون الخبر (مِنْ مَالٍ) ، لأنه (إذا) كان من مال فلا (يعاب عليهم ذلك، وإنّما) يُعاب عليهم اعتقادهم أن تلك الأموال خيرٌ لهم.
الثاني: أن تكون (ما) مصدرية فَيَنْسَبِك منها ومما بعدها مصدر، هو اسم (أنّ) ، و «نُسَارع» هو الخبر، وعلى هذا فلا بدّ من حذف (أنْ) المصدرية قبل «نُسَارعُ» ، ليصح الإخبار، تقديره: أن نُسَارعَ. فلمّا حذفت (أنْ) ارتفع المضارع بعدها، والتقدير: أيحسبون أن إمدادنا لهم من كذا مسارعةً مِنَّا لهم في الخيرات.
الثالث: أنها مهيئة كافة، وبه قال الكسائي في هذه الآية، وحينئذ يوقف على (وَبَنِينَ)، لأنّه قد حصل بعد فعل الحسبان نسبة من مسند ومسند إليه نحو: حسبتُ إنّما ينطلق عمرو وإنّما تقوم أنت. وقرأ يحيى بن وثاب: «إِنَّمَا» بكسر الهمزة على الاستئناف، ويكون حذف مفعول الحسبان اقتصاراً واختصاراً. وابن كثير في رواية «يَمدُّهُمْ» بالياء، وهو الله تعالى، وقياسه أن يقرأ «يُسَارع» أيضاً. وقرأ السلمي وابن أبي بكرة «يُسَارع» بالياء وكسر الراء، وفي فاعله وجهان:
أحدهما: الباري تعالى.
والثاني: ضمير (ما) الموصولة إن جعلناها بمعنى (الذي) ، أو على المصدر إن جعلناها مصدرية، وحينئذ يكون «يُسَارعُ لَهُمْ» الخبر. فعلى الأوّل يحتاج إلى تقدير عائد أي: يُسَارعُ الله لهم به أو فيه وعلى الثاني لا يحتاج إذ الفاعل ضمير (ما) الموصولة.
وعن (ابن) أبي بكرة المتقدم أيضاً «يُسَارع» بالياء مبنياً للمفعول و «في الخَيْرَاتِ» هو القائم مقام الفاعل، والجملة خبر (أنّ) والعائد محذوف على ما تقدّم.
وقرأ الحسن: «نُسْرِعُ» بالنون من أسْرَعَ، وهي ك «نُسَارع» فيما تقدم. و {بَل لَاّ يَشْعُرُونَ} إضراب عن الحسبان المستفهم عنه استفهام تقريع، وهو إضراب انتقال، والمعنى: أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكروا في ذلك الإمداد، أهو استدراج أم مسارعة في الخير روى يزيد بن ميسرة قال: أوحى الله - تعالى - إلى نبيّ من الأنبياء: «أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا وهو أبعد له منّي، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهي أقرب له منّي» ثم تلا {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} .
قوله: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} الآيات لمَّا ذمَّ من تقدّم بقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} [المؤمنون: 55] ثم قال: {بَل لَاّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56] ، بيّن بعده صفات من يُسارع في الخيرات، فقال:{إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} ، والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف. وقيل: جمع بينهما للتأكيد. ومنهم من حمل الخشية على العذاب،
والمعنى: إن الذي هم من عذاب ربهم مشفقون أي: خائفون من عقابه.
قوله: «مِنْ خَشْيَةِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها لبيان الجنس. قال ابن عطية: هي لبيان جنس الإشفاق.
قال شهاب الدين: وهي عبارة قَلِقَة.
والثاني: أنها متعلقة ب «مُشْفِقُونَ» . قاله الحوفي، وهو واضح.
قوله: {والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} يصدّقون، وآيات الله هي المخلوقات الدالة على وجوده. {والذين هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله - تعالى -، لأن ذلك داخل في قوله:{والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} بل المراد منه نفي الشرك الخفيّ، وهو أن يكون مخلصاً في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه.
قوله: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} العامة على أنه من الإيتاء، أي: يعطون ما أعطوا.
وقرأت عائشة وابن عباس والحسن والأعمش: «يَأَتُونَ مَا أَتَوْا» من الإتيان، أي: يفعلون ما فعلوا من الطاعات. واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على «أَتَوْا» فقط، وليس بجيّد، لأنّه يوهم أن من قرأ «أَتَوْا» بالقصر قرأ «يُؤْتُونَ» من الرباعي وليس كذلك.
قوله: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هذه الجملة حال من فاعل «يُؤْتُونَ» ، فالواو للحال، والمعنى: يعطون ما أعطوه، ويدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان من حقوق الله كالزكوات، والكفارات وغيرها. أو من حقوق الآدميين، كالودائع، والديون وأصناف الإنصاف والعدل. وبيّن أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه «وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» ، أي: إنهم يقدمون على العبادة على وجل من تقصير وإخلال بنقصان.
«روي أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقالت: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}
أهو الذي يزني، ويشرب الخمر، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله؟ فقال عليه السلام:» لا يا بنت الصديق، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، وهو على ذلك يخاف الله «قوله:» أنَّهُمْ «يجوز أن يكون التقدير: وجلة مِنْ أنَّهُمْ أي: خائفة من رجوعهم إلى ربّهم. ويجوز أن يكون: لأنهم أي: سبب الوجل الرجوع إلى ربهم.
قوله: {أولئك يُسَارِعُونَ} هذه الجملة خبر» إنَّ الَّذِينَ «، وقرأ الأعمش:» إنَّهُمْ «بالكسر، على الاستئناف، فالوقف على» وَجِلَةٌ «تام أو كاف.
وقرأ الحسن: «يُسْرعُونَ» من أسْرَعَ. قال الزجاج: يُسَارِعُونَ أبلغ. يعني: من حيث إن المفاعلة تدل على قوة الفعل لأجل المبالغة.
قوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} في الضمير في «لَهَا» أوجه:
أظهرها: أنه يعود على الخيرات لتقدمها في اللفظ.
وقيل: يعود على الجنة. وقال ابن عباس: إلى السعادة. وقال الكلبي: سبقوا الأمم إلى الخيرات. والظاهر أن «سَابِقُونَ» هو الخبر، و «لَهَا» متعلق به
قُدّم للفاصلة وللاختصاص. واللام، قيل: بمعنى (إلى)، يقال: سبقت له، وإليه، بمعنى ومفعول «سَابِقُون» محذوف، تقديره: سابقون الناس إليها. وقيل: اللام للتعليل، أي: سابقون الناس لأجلها. وتكون هذه الجملة مؤكدة للجملة قبلها، وهي {يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} ، ولأنها تفيد معنى آخر وهو الثبوت والاستقرار بعدما دلَّت الأولى على التجدد.
وقال الزمخشري: أي: فاعلون السَّبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها قال أبو حيان وهذان القولان عندي واحد. قال شهاب الدين: ليسا بواحد إذ مراده بالتقدير الأول: أن لا يقدر السبق مفعول ألبتة، وإنّما الغرض الإعلام بوقوع السبق منهم من غير نظرٍ إلى مَنْ سبقوه كقوله:«يُحْيِي وَيُمِيتُ» ، و «كُلُوا واشْرَبُوا» ، و «يعطي ويمنع» وغرضه في الثاني تقدير مفعول حذف لدلالة، واللام للعلة في التقديرين وقال الزمخشري أيضاً: أو: إيّاها سابقون. أي: ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا. قال شهاب الدين: يعني أن «لَهَا» هو المفعول ب «سَابِقُونَ» ، وتكون اللام قد زيدت في المفعول، وحسن زيادتها شيئان كل منهما لو انفرد لاقتضى الجواز، كَوْن العامل فرعاً، وكونه مقدّماً عليه معموله. قال أبو حيان: ولا يدل لفظ «لَهَا سَابِقُون» على هذا التفسير، لأنّ سبق الشيء الشيء يدل على تقديم السابق على المسبوق، فكيف يقول: وهم يسبقون الخيرات، هذا لا يصح. قال شهاب الدين: ولا أدري عدم الصحة من أي جهةٍ، وكأنّه تخيّل أنّ السابق يتقدم على المسبوق فكيف يتلاقيان؟ لكنّه كان ينبغي أن يقول: فكيف يقول: وهم ينالون الخيرات، وهم لا يجامعونها، لتقدمهم عليها إلاّ أن يكون قد سبقه القلم فكتب بدل (وهم ينالون)(وهم يسبقون) وعلى كل
تقدير فأين عدم الصحة؟ وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يكون {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} خبراً بعد خبرٍ ومعنى «وَهُمْ لَهَا» كمعنى قوله:
3801 -
أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنَ بَيْنِ البَشَر
…
يعني: أن هذا الوصف الذي وصف به الصالحين غير خارج من حد الوسع والطاقة.
فتحصل في اللام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها بمعنى (إلى) .
الثاني: أنها للتعليل على بابها.
والثالث: أنها مزيدة. وفي خبر المبتدأ قولان:
أحدهما: أنه «سَابِقُونَ» وهو الظاهر.
والثاني: أنه الجار كقوله.
3802 -
أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنْ بَيْنِ البَشَر
…
وهذا قد رجّحه الطبري، وهو مروي عن ابن عباس.
قوله: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} الآية، لمّا ذكر كيفيّة أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العبادة:
الأوّل: قوله: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} قال المفضّل: الوسع الطاقة.
وقال مقاتل، والضحّاك، والكلبي، والمعتزلة: هو دون الطاقة، لأن الوسع إنما
سُمي وُسعاً، لأنه يتسع عليه فعله، ولا يصعب ولا يضيق، فبيّن أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا. قال مقاتل: من لم يستطع القيام فليصلّ قاعداً، ومن لم يستطع الجلوس فَلْيومئ إيماء، ومن لم يستطع الصوم فليفطر.
قوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} «يَنْطِقُ» صفة ل «كِتَابٌ» و «بِالحَقِّ» يجوز أن يتعلق ب «يَنْطِق» ، وأن يتعلق بمحذوف حالاً من فاعله. أي: ينطق ملتبساً بالحق، ونطيره {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] . فشبّه الكتاب بمن يصدر عنه البيان، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان مُحِقًّا. فإن قيل: هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب، إما ان يكونوا محيلين الكذب على الله، أو مجوزين ذلك عليه، فإن أحالوه عليه، فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، وإن جوزوه عليه لم يحصل لهم بذلك الكتاب يقين، لتجويزهم أنه - سبحانه - كتب فيه خلاف ما حصل، وعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب. فالجواب: يفعل الله ما يشاء، وعلى أنه لا يَبْعُد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة.
قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لا ينقص من حسناتهم، ولا يُزاد على سيئاتهم ونظيره:{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] .
قالت المعتزلة: الظلم إمّا أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب، أو بأن يعذب على ما لم يعمل أو بأن يكلفهم (ما لَا يَطِيقُونَ) فتكون الآية دالة على كون العبد مُوجداً لفعله، وإلا لكان تعذيبه عليه ظلماً، ويدلُّ على أنه - سبحانه - لا يكلف ما لا يطاق.
وأجيب بأنه لمّا كلف أبا لهب أن يؤمن (والإيمان يقتضي تصديق الله في كل ما أخبر به، ومما أخبر أنّ أبا لهب لا يؤمن) فقد كلّفه (بأن يؤمن) بأن لا يؤمن فيلزمكم (كل ما ذكرتموه) .
قوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} أي: في غفلة وجهالةٍ، يعني الكفار في غفلة. «مِنْ هَذَا» أي: القرآن، أي من هذا الذي بيّناه في القرآن، أو من الكتاب الذي ينطق بالحق
أو من هذا الذي هو وصف المشفقين. «وَلَهُمْ» أي: ولهؤلاء الكفار {أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك} أي: أعمال خبيثة من المعاصي «دُون ذَلِك» أي: سوى جهلهم وكفرهم.
وقيل: «دُون ذَلِك» يعني: من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله عز وجل قال بعضهم: أراد أعمالهم في الحال. وقيل: بل أراد المستقبل لقوله: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
وإنما قال: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، لأنها مثبتة في علم الله - تعالى - وفي اللوح المحفوظ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة. وقال أبو مسلم: هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه قال بعد وصفهم: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون «وَلَدَيْنَا كِتَابٌ» يحفظ أعمالهم «يَنْطِقُ بالحَقِّ» «فَلَا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا» هو أيضاً وصفٌ لهم بالحيرة كأنه قال: وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أن أعمالهم مقبولة أو مردودة {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك} أي: لهم أيضاً من النوافل ووجوه البرِّ سِوَى ما هم عليه إمَّا أعمالاً قد عملوها في الماضي، أو سيعملوها في المستقبل، ثم إنه تعالى رجع بقوله:{حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} إلى وصف الكفار وهذا قول قتادة.
قال ابن الخطيب: وقول أبي مسلم أولى، لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به كان أولى من ردّه إلى ما بعد خصوصاً، وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أنّ أعمالهم محفوظة، كما يحذر بذلك من الشر، وقد يُوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة، ويراد أنّه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو ردِّه، وفي أنه هل أدَّى عمله كما يجب أو قصّر؟
فإن قيل: فما المراد بقوله: «مِنْ هَذَا» وهو إشارة إلى ماذا؟
قلنا: إشارة إلى إشفاقهم ووجهلم بيَّن أنهما مستوليان على قلوبهم.
قوله: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} كقوله: {هُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] .
قوله: {حتى إِذَآ} «حَتَّى» هذه إمّا حرف ابتداء والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها، وإذا الثانية فجائية، وهي جواب الشرط، وإمّا حرف جر عند بعضهم، وتقدّم تحقيقه. وقال الحوفي:«حَتَّى» غاية، وهي عاطفة، و «إذَا» ظرف مضاف لما بعده فيه معنى الشرط، و «إذَا» الثانية في موضع جواب الأولى، ومعنى الكلام عامل في «
إذَا» ، والمعنى: جأروا، والعامل في الثانية «أَخَذْنَا» . وهو كلام لا يظهر.
وقال ابن عطية: و «حَتَّى» حرف ابتداء لا غير، و «إذا» الثانية - (التي هي جواب) - تمنعان من أن تكون «حَتَّى» غاية ل «عَامِلُونَ» . قال شهاب الدين: يعني أنّ الجملة الشرطية وجوابها لا يظهر ان تكون غاية ل «عَامِلُونَ» .
وظاهر كلام مكّي أنها غاية ل «عَامِلُونَ» ، فإنه قال: أي: لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البرّ {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم إذا هم يضجون والجُؤار: الصراخ مطلقاً، وأنشد الجوهري:
3803 -
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِي
…
ك طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤَارَا
وتقدّم مستوفى في النحل.
فصل
قال المزمخشري: «حَتَّى» هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية.
واعلم أن الضمير في «مُتْرفِيهِم» راجع إلى من تقدّم ذكره من الكفار، لأنّ العذاب لا يليق إلا بهم. والمراد بالمُترفين: رؤساؤهم. قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر.
وقال الضحاك: يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال: «اللهُّم اشْدُدْ وَطْأَتَك على مُضَر واجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِني يُوسُف» فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجِيفَ. وقيل: أراد عذاب الآخرة. ثم بيّن تعالى أنّهم إذا نزل
بهم هذا «يَجْأَرُونَ» أي: ترتفع أصواتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة مَا نَالَهُم.
ويقال لهم على وجه التبكيت: {لَا تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ} .
لا تُمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم.
قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} وهذا مثل يُضرب لمن يتباعد عن الحق كل التباعد فهو قوله: {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} أي: ترجعون قهقرى وتتأخرون عن الإيمان، وينفرون عن تلك الآيات، وعن من يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه.
قوله: «عَلَى أَعْقَابِكُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «تَنْكِصُونَ» كقولك نكص على عقبيه.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف، لأنه حال من فاعل (تنْكِصُونَ) قاله أبو البقاء وقرأ أمير المؤمنين «تَنْكُصُونَ» بضم العين، وهي لغة.
قوله: «مُسْتَكْبِرِينَ» حال من فاعل «تَنْكِصُونَ» ، و «بِهِ» فيه قولان:
أحدهما: أنه متعلق ب «مُسْتَكْبِرِينَ» .
والثاني: أنه متعلق ب «سَامِراً» .
وعلى الأوَّل فالضمير للقرآن، لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت باللّيل
يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن، وتسميته سحراً وشعراً. أو للبيت شرّفه الله - تعالى - كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، كانوا يفتخرون به، لأنهم ولاته، والقائمون به. قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل الضمير في «بِهِ» للرسول عليه السلام. أو للنكوص المدلول عليه ب «تَنْكِصُونَ» كقوله:{اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . والباء في هذا كله للسببية، لأنهم استكبروا بسبب القرآن لما تلي عليهم وبسبب البيت لأنهم كانوا يقولون نحن ولاته، وبالرسول لأنهم كانوا يقولون هو منا دون غيرنا وبالنكوص لأنه سبب الاستكبار. وقيل: ضُمّن الاستكبار معنى التكذيب فلذلك عدي بالباء، وهذا يتأتى على أن يكون الضمير للقرآن وللرسول.
وأمّا على الثاني وهو تعلقه ب «سَامِراً» فيجوز أن يكون الضمير عائداً على ما عاد عليه فيما تقدّم إلا النكوص، لأنهم كانوا يسمرون بالقرآن وبالرسول يجعلونهما حديثاً لهم يخوضون في ذلك كما يسمر بالأحاديث وكانوا يسمرون في البيت فالباء ظرفية على هذا و «سَامِراً» نصب على الحال إمّا من فاعل «تَنْكِصُونَ» وإمّا من الضمير في (مُسْتَكْبِرِينَ) .
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة ويروى عن أبي عمرو: «سُمّراً» كذلك إلا أنه بزيادة ألف بين الميم والراء، وكِلَاهُمَا جمع لِسَامِر، وهما جمعان مقيسان لفاعل الصفة نحو ضُرَّب وضُرَّاب في ضَارِب، والأفصح الإفراد، لأنه يقع على ما فوق الواحد بلفظ الإفراد يقال: قَوْمٌ سَامِر ونظيره: «نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً» .
والسامِر مأخوذ من السَّمر، وهو سَهَر الليل أو مأخوذ من السَّمَر: وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر، فيجلسون إليه يتحدثون مستأنسين به قال:
3804 -
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إلَى الصَّفَا
…
أَنِيسٌ ولَمْ يَسْمُرْ بِمَكةَ سَامِرُ
وقال الراغب: السَّامِر: الليل المظلم يقال: وَلَا آتِيكَ ما سَمَرَ ابْنَا سَمِيرٍ يعنون الليل والنهار. وقال الراغب: ويقال: سَامِرٌ، وسُمَّارٌ، وسَمَرَةٌ، وسَامِرُونَ. وسَمَرْتُ الشيءَ، وإبل مُسْمَرَةٌ، أي: مُهْمَلَةٌ، والسَّامِريُ: منسوب إلى رجل انتهى.
والسُّمْرَةُ أحج الألوان، والسَّمْرَاء يكنى بها عن الحِنْطَة.
قوله: «تَهْجُرُونَ» قرأ العامة بفتح التاء وضم الجيم، وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها من الهَجْر بسكون الجيم، وهو القطع والصدّ. أي تهجرون آيات الله ورسوله، وتزهدون فيهما فلا تصلونهما.
والثاني: أنها من الهَجَر - بفتحها - وهو الهذيان، يقال: هَجَر المريض هَجَراً أي: هذى فلا مفعول له. ونافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أَهْجَر إهْجاراً، أي: أفحش في منطقه قال ابن عباس: يعني كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم َ
وأصحابه وقرأ زيد بن علي، وابن محيصن، وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة مضارع هَجّر بالتشديد، وهو محتمل لأن يكون تضعيفاً للهَجَر أو للهَجْر (أو للهُجْر) وقرأ ابن أبي عاصم كالعامة إلا أنه بالياء من تحت، وهو التفات.
قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} أي: يتدبروا القول، يعني ما جاءهم من القول وهو القرآن من حيث إنه كان مبايناً لكلام العرب في الفصاحة، ومبرأ من التناقض مع طوله، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم َ، ومعرفة الصانع، والوحدانية، فيتركوا الباطل، ويرجعوا إلى الحق {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين} واعلم أنّ إقدامهم على كفرهم وجهلهم لا بُدّ وأن يكون لأحد أمور أربعة:
الأول: أن لا يتأملوا دليل ثبوته، وهو المراد من قوله:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} وهو القرآن يعني: أنه كان معروفاً لهم.
والثاني: أن يعتقدوا أن مجيء الرسول على خلاف العادة، وهو المراد من قوله:{أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ} وذلك أنهم عرفوا بالتواتر مجيء الرسول إلى الأمم السالفة، وكانت الأمم بين مُصدّقٍ ناجٍ وبين مكذّبٍ هالك، أفَمَا دعاهم ذلك إلى تصديق الرسل.
وقال بعضهم: «أَمْ» هاهنا بمعنى «بَلْ» والمعنى بل جاءهم ما لم يأت آباءهم.
والثالث: أن لا يكونوا عالمين بديانته، وحسن خصاله قبله ادعائه النبوة، وهو المراد من قوله:{أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} والمعنى: أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يدعي الرسالة، وكونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار عن الكذب والأخلاق الذميمة، وكانوا يسمونه الأمين، فكيف كذبوه بعد أن اتفقتْ كلمتهم على تسميته بالأمين.
والرابع: أن يعتقدوا فيه الجنون، فيقولوا إنّما حمله على ادعاء الرسالة جنونه، وهو المراد بقوله {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} . وهذا أيضاً ظاهر الفساد، لأنّهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعقل الناس، فالمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة، والشرائع الكاملة.
وفي كونهم سمّوه بذلك وجهان:
أحدهما: أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له، وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم، فنسبوه إلى الجنون لذلك.
والثاني: أنهم قالوا ذلك إيهاماً لعوامهم لئلاّ ينقادوا له، فذكروا ذلك استحقاراً له.
ثم إنه - تعالى - بعد أن عدّ هذه الوجوه، ونبّه على فسادها قال:{بَلْ جَآءَهُمْ بالحق} أي: بالصدق والقول الذي لا يخفى صحته على عاقل {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} لأنهم تمسكوا بالتقليد، وعلموا أنّهم لو أقرُّوا بمحمدٍ لزالت رياستهم ومناصبهم، فلذلك كرهوه.
فإن قيل قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} يدلُّ على أنّ أقلّهم لا يكرهون الحق.
فالجواب: أنه كان منهم من ترك الإيمان أنفَةً من توبيخ قومه، وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق.
قوله: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ} الجمهور على كسر الواو لالتقاء الساكنين وابن وثّاب بضمها تشبيهاً بواو الضمير كما كُسرتْ واو الضمير تشبيهاً بها.
فصل
قال ابن جريج ومقاتل والسّدّيّ وجماعة: الحق هو الله. أي: لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل وقيل: لو اتبع مرادهم، فيسمّي لنفسه شريكاً وولداً كما يقولون {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} .
وقال الفراء والزجاج: المراد بالحق: القرآن. أي: نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدون {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} وهو كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .
قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} العامة على إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه، والمراد أتتهم رسلنا. وقرأ أبو عمرو في رواية «آتَيْنَاهُمْ» بالمد أي أعطيناهم، فيحتمل أن يكون المفعول الثاني غير مذكور، ويحتمل أن يكون «بِذِكْرِهِمْ» والباء مزيدة فيه وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمرو أيضاً «أَتَيْتهمْ» بتاء المتكلم وحده. وأبو البرهثم وأبو حيوة والجحدري وأبو رجاء «أَتَيْتَهُمْ» بتاء الخطاب، وهو الرسول عليه السلام.
وعيسى: «بِذِكْرَاهُم» بألف التأنيث. وقتادة «نُذَكِّرهُمْ» بنون المتكلم المعظم نفسه مكان باء الجر مضارع (ذَكَّر) المشدد، ويكون (نُذكرُهُمْ) جملة حالية.
وتقدم الكلام في «خَرْجاً» و «خَرَاجاً» في: الكهف.
فصل
قال ابن عباس: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} بما فيه فخرهم وشرفهم. يعني: القرآن، فهو كقوله:{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أي: شرفكم، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أي: شرف لك ولقومك {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ} شرفهم «معرِضون» .
وقيل: الذكر هو الوعظ والتذكير التحذير. «أَمْ تَسْأَلُهُمْ» على ما جئتم به «خَرْجاً» أجراً وجعلاً {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} وتقدم الكلام على نظيره.
قوله: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام. {وَإِنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ
بالآخرة عَنِ الصراط} عن دين الحق «لَنَاكِبُونَ» لعادون عن هذا الطريق، لأنَّ طريق الاستقامة واحد وما يخالفه فكثير.
قوله: «عَنِ الصِّرَاطِ» متعلق ب «نَاكِبُونَ» ولا تمنع لام الابتداء من ذلك على رأي تقدّم تحقيقه. والنُّكُوب والنَّكْبُ: العدول والميل، ومنه: النَّكْبَاء للريح بين ريحين، سُميت بذلك لعدولها عن المهاب، وَنَكَبَتْ حوادثُ الدهرِ، أي: هَبّت هبوب النَّكْبَاء.
والمَنْكِبُ: مجتمع ما بين العَضُدِ والكتف، والأَنْكَبُ: المائل المَنْكِب، ولفلان نِكَابَة في قومه أي: نقابة فتشبه أن تكون الكاف بدلاً من القاف، ويقال: نَكَبَ ونَكَّبَ مخففاً ومثقلاً.
قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ} قحط وجدب وقيل: ضرر القتال والسبي. وقيل: مضار الآخرة وعذابها.
قوله: «للجُّوا» جواب «لَوْ» ، وقد توالى فيه لَامَان، وفيه تضعيف لقول من قال: جوابها إذا نفي ب (لم) ونحوها مما صدر فيه حرف النفي بلام أنه لا يجوز دخول اللام ولو قلت: لو قام لَلَمْ يقم عمرو، لَمْ يجز، قال: لئّلا يتوالى لامان، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية، ولم يمتنع، وإلا فما الفَرْق بين النفي والإثبات في ذلك واللّجَاجُ: التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، ومنه اللَّجَّة: بالفتح: لتردد الصوت، كقوله:
3805 -
في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلَاناً عن فُلِ
…
ولجَّة البحر لتردد أمواجه، ولَجَّةُ الليل لتردّد ظلامه. واللَّجْلَجَةُ تردّد الكلام، وهو تكرير لَجَّ، ويقال: لَجَّ والتَجَّ. ومعنى الآية: لتمادوا في طغيانهم وضلالهم وهم متحيرون لم ينزعوا عنه.
قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب} قال المفسرون: لما أسلم ثُمامة بن أثال الحنفي، ولحق باليمامة، ومنع المِيرَة عن أهل مكة، ودَعَا النبي صلى الله عليه وسلم َ على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط حتى أكلوا العِلْهِز، جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ وقال: أنشدك الله والرحم، ألَسْتَ تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال:«بَلَى» . فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فادعُ الله يكشف عنا هذا القحط، فدعا فكشف عنهم، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا. وقال الأصم: العذاب هو ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر يعني أن ذلك مع شدة ما دعاهم إلى الإيمان.
وقيل: المراد من عُذِّبَ من الأمم الخالية. «فَمَا اسْتَكَانُوا» أي: مشركو العرب.
قوله: «فَمَا اسْتَكَانُوا» تقدم وزن (استكان) في آل عمران.
وجاء الأول ماضياً والثاني مضارعاً، ولم يجيئا ماضيين، ولا مضارعين ولا جاء الأول مضارعاً والثاني ماضياً، لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه، وهو بالاستكانة أليق، بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال وأما الاستكانة فقد توجد منهم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: هَلَاّ قيل: وما تَضرّعوا (أو) فما يستكينون.
قلت: لأنّ المعنى محنّاهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة، وما مِنْ عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد.
فظاهر هذا أنَّ (حَتَّى) غاية لنفي الاستكانة والتضرّع. ومعنى الاستكانة طلب السكون، أي: ما خضعوا وما ذلوا إلى ربهم، وما تضرعوا بل مضوا على تمرّدهم.
قوله: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} . قرئ «فَتَّحنَا» بالتشديد.
قال ابن عباس ومجاهد: يعني القتل يوم بدر. وقيل: الموت وقيل: قيام الساعة. وقيل: الجوع. {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير. وقرأ السلمي: «مُبْلَسُون» - بفتح اللام - من أبلسه، أي: أدخله في الإبلاس.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار} الآية.
العطف لا يحسن إلاّ مع المجانسة، فأي مناسبة بين قوله:{وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار} وبين ما قبله؟
والجواب: كأنّه تعالى لمّا بيّن مبالغة الكفار في الإعراض عن سماع الأدلة والاعتبار، وتأمّل الحقائق قال للمؤمنين: هو الذي أعطاكم هذه الأشياء ووفّقكم لها تنبيهاً على أنَّ من لم يُعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، لقوله:{فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ} [الأحقاف: 26] وأفرد السمع والمراد الأسماع ثم قال: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} .
قال أبو مسلم: وليس المراد أنَّ لهم شكراً وإن قَلّ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة: ما أقلّ شكر فلان.
ثم قال: {وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض} أي: خلقكم، قال أبو مسلم: ويحتمل بسطكم فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] أي: هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين، ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشراً إليه لا بمعنى المكان. ثم قال:{وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة
وأنّه سبحانه - وإن أنعم بها، فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب. ثم قال:{وَلَهُ اختلاف الليل والنهار} أي: تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان، ووجه النعمة بذلك معلوم. قال الفراء: جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض. ثم قال: «أَفَلَا تَعْقِلُونَ» قرأ أبو عمرو في رواية يعقوب: بياء الغيبة على الالتفات والمعنى: أفلا تعقلون ما ترون صُنْعَهُ فَتعْتبرونَ.
قوله تعالى: {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون} أي: كذبوا كما كذب الأولون {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لمحشورون، قالوا ذلك منكرين متعجبين.
واعلم أنه - سبحانه - لما أوضح دلائل التوحيد عقّبه بذكر المعاد، فذكر إنكارهم البعث مع وضوح أدلته، وذكر أن إنكارهم ذلك تقليد للأولين، وذلك يدل على فساد القول بالتقليد ثم حكى قولهم:{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ} كأنهم قالوا إنّ هذا الوعد كما وقع منه عليه السلام فقد وقع قديماً من سائر الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد، وظنُّوا أنّ الإعادة تكون في الدنيا، ثم قالوا: لمّا لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين. والأساطير جمع أسْطار، وهي جمع سَطْر، أي: ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له، أو جمع أُسْطُورَة.
من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة، وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان، لأنّ القوم كانوا مُقرين بالله، وقالوا: نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى، فقال تعالى: قل يا محمد مُجيباً لَهُم يعني يا أهل مكة {لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ} من الخلق {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها ومالكها «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» فَلا بُدّ لهم من ذلك، لأنهم يقرون أنها مخلوقة، فقل لهم إذا أقَرُّوا بذلك:«أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» فتعلمون أنّ من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت. وفي قوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} سؤال يأتي في قوله: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ووجه الاستدلال به على نفي عبادة الأوثان من حيث أن عبادة من خلقهم، وخلق الأرض وكل من فيها هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع.
وقوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} معناه الترغيب في التدبّر ليعلموا بطلان ما هم عليه.
قوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ووجه الاستدلال بها على الأمرين كما تقدّم. وإنما قال: «أَفَلَا تَتَقُّونَ» أي: تحذرون، تنبيهاً على أنَّ اتقاء عذاب الله لا يحصل إلَاّ بترك عبادة الأوثان، والاعتراف بجواز الإعادة.
قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} قرأ أبو عمرو «سَيُقُولونَ اللَّهُ» في الأخيرتين من غير لام جر، ورفع الجلالة جواباً على اللفظ لقوله «مَنْ» قوله:{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} ، لأنّ المسؤول به مرفوع المحل وهو «مَنْ» فجاء جوابه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِم الموضعان في مصاحف البصرة بالألف.
والباقون: «لِلَّهِ» في الموضعين باللام وهو جواب على المعنى؛ لأنه لا فرق بين قوله: {مَن رَّبُّ السماوات} وبين قوله: لِمَن السَّمَوات، ولا بين قوله:«مَنْ بِيَدِهِ» ولا لمن له الإحسان، وهذا كقولك: مَنْ رَبّ هذه الدار؟ فيقال: زيدٌ، وإن شئت
لزيدٍ، لأنّ قولك: من ربُّه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد، لأنّ السؤال لا فرق فيه بين أن يقال: لمن هذه الدار؟ ومن ربُّها؟ واللام مرسومة في مصاحفهم فوافق كل مصحفه.
ولم يختلف في الأول أنه «لِلَّهِ» ، لأنه مرسوم باللام وجاء الجواب باللام كما في السؤال ولو حذفت من الجواب لجاز، لأنه لا فرق بين:«لِمَنِ الأَرْضُ» ومَنْ رَبّ الأرض، إلا أنه لم يقرأ به أحد.
قوله: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (لمّا ذكر الأرض أولاً والسماء ثانياً، عمَّم الحكم هاهنا بقوله: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ) ويدخل في الملكوت المِلْك والمُلْك والتاء فيه على سبيل المبالغة.
«وَهُوَ يُجِيرُ» أي: يؤمن من يشاء، {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي: لا يؤمن من أخافه الله، يقال: أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه.
قوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه سؤال: وهو كيف قال: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم حكى عنهم «سَيَقُولُونَ اللَّهُ» وفيه تناقض؟ والجواب: لا تناقض، لأنّ قوله:{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} لا ينفي علمهم بذلك وقد يُقال مثل ذلك في الحِجَاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم بما يورد من ذلك.
وقوله: {فأنى تُسْحَرُونَ} أي: تصرفون عن توحيده وطاعته، والمعنى كيف يحتمل لكم الحق باطلاً. {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق} بالصدق، «وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» فيما يدعون من الشرك والولد، وقرئ هنا ببعض ما قرئ به في نظيره. فقرأ ابن إسحاق:«أَتَيْتُهُمْ» بتاء الخطاب، وغيره بتاء المتكلم.
قوله تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} الآية. وهذه الآية كالتنبيه على الردّ على الكفار الذين يقولون: الملائكة بنات الله. وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} ردّ
على اتخاذهم الأصنام آلهة، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية.
ثم إنه تعالى ذكر الدليل بقوله: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} أي: لانفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه، ولم يرض أن يضاف خلقه إلى غيره، ومنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} أي: طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم، وحين لم تروا ذلك فاعلموا أنه إله واحد.
قوله: «إذاً» جواب وجزاء، قال الزمخشري: فإن قلت: «إذاً» لا تدخل إلَاّ على كلام هو جواب وجزاء، فكيف وقع قوله:«لَذَهَبَ» جواباً وجزاءً ولم يتقدّم شرط ولا سؤال سائل قُلْتُ: الشرط محذوف تقديره: لَوَ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ، حذف لدلالة {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} .
وهذا رأي الفراء، وقد تقدّم في الإسراء في قوله:{وَإِذاً لَاّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] ثم إنه تعالى نَزّه نفسه فقال: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} من إثبات الولد والشريك.
قرئ: «تَصِفُونَ» بتاء الخطاب وهو التفات.
قوله: «عَالِمُ الغَيْبِ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: بالجر على البدل من الجلالة. وقال الزمخشري: صفة لله. كأنه محض الإضافة فتعرف المضاف.
والباقون: بالرفع على القطع خبر مبتدأ محذوف.
ومعنى الآية: أنه مختص بعلم الغيب والشهادة، فغيره وإن علم الشهادة لكن لم
يعلم الغيب، لأن الشهادة لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال:( «فَتَعَالَى اللَّهُ) عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
قوله: «فَتَعَالَى» عطف على معنى ما تقدم، كأنّه قال علم الغيب فتَعَالَى كقولك: زيد شجاع فعظمت منزلته أي: شجع فعظمت. أو يكون على إضمار القول، أي: أقول فتعالى الله. قوله: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي: ما أوعدتهم من العذاب قرأ العامة «تُرِيَنِّي» بصريح الياء. والضحاك: «تُرِئَنِّي» بالهمز عوض الياء، وهذا كقراءة:«فَإِمَّا تَرِئَنَّ» «لتَرؤُنَّ» بالهمز، وهو بدل شاذ.
قوله: {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي} جواب الشرط، و «رَبِّ» نداء معترض بين الشرط وجزائه، وذكر الربّ مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.
فإن قيل: كيف يجوز أن يجعل الله نبيه مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟
فالجواب: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه.
قوله: {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ} هذا الجار متعلق ب «لَقَادِرُونَ» أو بمحذوف على خلاف سبق في أن هذه اللام تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها. والمعنى: أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد في الدنيا. وقيل: المراد عذاب الآخرة.
قوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} وهو الصفح والإعراض والصبر على أذاهم.
قال الزمخشري: قوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} أبلغ من أن يقال: بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل، (كأنه قال ادفع بالحُسنى السيئة) والمعنى الصفح عن إساءتهم، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة
…
قيلك هذه الآية نُسخت بآية السيف، وقيل: محكمة، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دينٍ أو مروءة. ثم قال:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي: يقولون من الشرك.
قوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} الآية لما أدَّب رسوله بقوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] أتبعه بما يقوي على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين:
أحدهما: من همزات الشياطين. والهَمَزَاتُ جمع همزَة، وهي النخسة والدفع بيدٍ وغيرها، وهي كالهزِّ والأزّ، ومنه مِهْمَازُ الرائض، والمِهْمَاز مفْعَالٌ من ذلك كالمِحْرَاث من الحَرْث والهَمَّازُ الذي يصيب الناس، كأنه يدفع بلسانه وينخس به.
فصل
معنى «أعُوذُ بِكَ» أمتنع وأعتصم بك {مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} نزعاتهم وقال الحسن:
وساوسهم. وقال مجاهد: نفخهم ونفثهم. وقال أهل المعاني: دفعهم بالإغواء إلى المعاصي. قال الحسن: كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة: «لا إله إلاّ الله ثلاثاً، الله أكبر ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من هَمَزَاتِ الشياطين هَمْزِهِ ونَفْثِه ونَفْخِه» .
فقيل: يا رسول الله ما همزه؟ قال: «الموتة التي تأخذ ابن آدم» أي: الجنون. قيل: فَمَا نَفْثه؟ قال: «الشعْر» قيل: فما نفخُه؟ قيل: «الكِبْر» .
والثاني: قوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} أي: في شيء من أموري، وإنما ذكر الحضور، لأن الشيطان إذا حَضَر وسوس.
قوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت} الآية في (حَتَّى) هذه أوجه:
أحدها: أنها غاية لقوله: «بِمَا يَصِفُونَ» .
والثاني: أنها غاية «لِكَاذِبُونَ» .
ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري: «حَتَّى» يتعلق ب «يَصِفُونَ» أي: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد. ثم قال: أو على قوله: «وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» . قال شهاب الدين: قوله: (أو على قوله كذا) كلام محمول على المعنى، إذ التقدير:«حَتَّى» معلقة على «يَصِفُونَ» أو على قوله: «لَكَاذِبُونَ» وفي الجملة فعبارته مشكلة.
الثالث: قال ابن عطية: «حَتَّى» في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف، والأوَّل أبْيَن، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود (ذكره) .
قال أبو حيان: فتوهم ابن عطية أن «حَتَّى» إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر.
وقال أبو البقاء: (حَتَّى) غاية في معنى العطف. قال أبو حيّان: والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون «حَتَّى» غاية لها يدل عليها ما قبلها، التقدير: فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جَاءَ، ونظير حذفها قول الشاعر:
3806 -
فَيَا عَجَبا حَتَّى كُليْبٌ تسُبُّني
…
أي: يسبني الناس كُلهم حتى كليب إلَاّ أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة.
قوله
: {رَبِّ
ارجعون
} . في قوله: «ارْجِعُونِ» بخطاب الجمع ثلاثة أوجه:
أجودها: أنه على سبيل التعظيم كقوله:
3807 -
فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ
…
وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلَا بَرْدَا
وقال الآخر:
3808 -
أَلَا فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ
…
وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال: إنه لم نعلم أحداً أجاز للداعي أن يقول: يَا رَحْيَمُون قال: لئّلا يُوهم خلاف التوحيد، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
الثاني: أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله: «ارْجِعُونِ» . ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف، أي: ملائكة ربي، فحذف المضاف ثم التف إليه في عود الضمير كقوله:{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] . ثم قال: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] التفاتاً ل «أهل» المحذوف.
الثالث: أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال: ارْجعنِي ارجعنِي نقله أبو
البقاء وهو يشبه ما قالوه في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثنّى الفعل للدلالة على ذلك، وأنشدوا:
3809 -
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِل
…
أي: قف قف.
فصل
اعلم أنّه تعالى أخبر أنَّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت (قَالَ رَبِّ ارجعون} ) ولم يقل: ارجعني، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب. وقال الضحّاك: كنت جالساً عند ابن عباس فقال: مَنْ لَمْ يُزَكِّ ولم يَحُج سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: إنما يسأل ذلك الكفار. فقال ابن عباس: أنا أقرأ عليك به قرآناً {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 10] .
وقال عليه السلام: «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول: {رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} » .
واختلفوا في وقت مسألة الرجعة، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل: بل عند معاينة النار في الآخرة، وهذا القائل إنَّما ترك ظاهر هذه الآية لمَّا أخبر الله - تعالى - عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة.
قوله: {لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} أي: ضيّعتُ. أي: أقول لا إله إلَاّ الله.
وقيل: أعمل بطاعة الله تعالى. وقيل: أعمل صالحاً فيما قصّرتُ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية، وهذا أقرب، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه. فإن قيل: قوله تعالى: {لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً} كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك.
فالجواب: ليس المراد ب «لَعَّلَ» الشك فإِنَّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما سأل، فهو مِثْل من قَصّر في حق نفسه، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير، فيقول: مكنُونِي من التدارك لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك.
ويحتمل أيضاً أنَّ الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردُوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] .
قوله: «كَلَاّ» كلمة ردع وزجر أي: لا ترجع. معناه المنع طلبوا، كما يقال لطالب الأمر المُسْتبعد: هَيْهَات. ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً بأنهم يقولون ذلك، وأنّ هذا الخبر حق، فكأنّه تعالى قال: حقاً إنّها كلمة هو قائلها. والأول أقرب.
قوله: «إِنَّهَا كَلِمةٌ» من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد» يعني قوله:
3810 -
أَلَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِل
…
وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران. و «هُوَ قَائِلُهَا» صفة ل «كَلِمَة» .
والمراد بالكلمة: سؤاله الرجعة: كلمة هو قائلها ولا ينالها، وقيل: معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه.
قوله: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ» أي: أمامهم وبين أيديهم. «بَرْزَخٌ» البرزخ: الحاجز بين المسافتين وقيل: الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر، وهو بمعنى الأوّل.
وقال الراغب: أصلة برْزَة بالهاء فعُرّب، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.
قال مجاهد: حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. (وقال قتادة: بقيّة الدنيا) .
قال الضحاك: البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل: القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون.
قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور} الآية لمَّا قال: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] ذكر أحوال ذلك اليوم فقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور} وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو، وهو آلة إذا نُفِخ فيها ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات، قال عليه السلام:«إِنَّه قَرْنٌ يُنفخُ فِيه» وقرأ ابن عباس والحسن: بفتح الواو جمع صُورة. والمعنى: فإذا نُفخ في الصور أَرْوَاحها وقرأ أبو رزين: بكسر الصاد وفتح الواو، وهو شاذ. هذا عكس (لُحَى) بضم اللام جمع (لِحْية) بكسرها. وقيل: إنّ النفخ في الصور استعارة، والمراد منه البعث والحشر.
قوله: «فَلا أَنْسَابَ» الأنساب جمع نَسَب، وهو القرابة من جهة الولادة، ويُعبّر به عن التواصل، وهو في الأصل مصدر قال:
3811 -
لَا نَسَبَ اليَوْمَ وَلَا خُلَّةً
…
اتسعَ الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ
قوله: «بَيْنَهُم» يجوز تعلقه بنفس «أَنْسَابَ» ، وكذلك «يَوْمَئِذٍ» ، أي: فلا قربة بينهم في ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة ل «أَنْسَابَ» ، والتنوين في «يَوْمَئِذٍ» عوض عن جملة تقديره: يومئذ نفخ في الصور.
فصل
من المعلوم أنَّه تعالى إذا أَعادهم فالأنساب ثابتة، لأنّ المعاد هو الولد والوالد، فلا يجوز أن يكونَ المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه:
أحدها: أنّ من حق النسب أنْ يقع به التعاطف والتراحم كما يُقال في الدنيا: أسألك باللَّه والرحم أن تفعل كذا، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنَّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنَّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام عظيمة ينسى ولده ووالده.
وثانيها: أنَّ من حق النسب أنْ يحصل به التفاخر في الدنيا، وأنْ يسأل البعض عن أحوال البعض، وفي الآخرة لا يَتَفَرغونَ لذلك.
وثالثها: أنّ ذلك عبارة عن الخوف الشديد، فكل امرئٍ مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه. قال ابن مسعود: يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي منادٍ ألا إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه، فيفرح المرء يومئذ
أن يثبت له الحق على أمه أو أخيه أو أبيه ثم قرأ ابن مسعود {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ} وروى عطاء عن ابن عباس: أنّها النفخة الثانية.
{فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} أي: لا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا مَنْ أنت؟ ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أنّ الأنساب تنقطع.
فإن قيل: أليس قد جاء في الحديث:
«كل سَبَبٍ ونسب ينقطع إلا سَبَبِي ونَسَبِي» قيل معناه: لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلاّ سببه ونسبه، وهو الإيمان والقرآن.
فإن قيل: قد قال ههنا «وَلَا يَتَسَاءَلُونَ» وقال: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10] . وقال {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 27] .
فالجواب: رُوي عن ابن عباس أنّ للقيامة أحوالاً ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عِظَم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون. وقيل: إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شُغلوا بأنفسهم عن التساؤل، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا:{ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] . وقيل: المراد لا يتساءلون بحقوق النسب. وقيل: «لَا يَتَسَاءَلُونَ» صفة للكفار لشدة خوفهم، وأمّا قوله:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 27] فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها. وعن الشعبي قالت عائشة: «يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ} فقال عليه السلام» ثلاثة مواطن تذهل فيها كُلُّ مرضعةٍ عما أرضعت عند رؤية القيامة وعند الموازين وعلى جسر جهنم «.
قوله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون} لمَّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء. قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أُتِيَ بِمَا لَهُ قدر وخطر فهو الفائز
المفلح، ومن أتي بِمَا لَا وزن له ولا قدر فهو الخاسر. وقال ابن عباس: الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 105] أي: قدراً وقيل: ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة، والسيّئات في أقبح صورة. وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء.
قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} قال ابن عباس: غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وقيل: امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب.
قوله: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} يجوز أن يكون» خَالِدُونَ «خبراً ثانياً ل (أُولَئِكَ) ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم خالدون. وقال الزمخشري: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} بدل من» خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ «، ولا محل للبدل والمبدل منه، لأنّ الصلة لا محل لها.
قال أبو حيان: جعل» فِي جَهَنَّمَ «بدلاً من (خَسِرُوا) ، وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به» فِي جَهَنَّمَ «أي: استقروا في جهنم وهو بدل شيء من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم. قال شهاب الدين: فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل دون» خالدون «، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلاً، بدليل قوله بعد ذلك: أو خبراً بعد خبر، ل» أُولَئِكَ «أو خبر مبتدأ محذوف. وهذان إنّما يليقان ب» خَالِدُونَ «، وأما» فِي جهنَّم «فمتعلق به، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب، وأيضاً فيصير» خَالِدُونَ «معلقاً.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتاً لاسم الإشارة، وفيه نظر، إذ الظاهر كونه خبراً له.
قوله: «تَلْفَحُ» يجوز استئنافه، ويجوز حَالِيته، ويجوز كونه خبراً ل «أُولَئِك» .
واللَّفْحُ إصابة النار الشيء بِوَهجها وإحراقها له، وهو أشدُّ من النفح، وقد تقدّم النفح في الأنبياء. قوله:{وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} الكُلُوح تشمير الشفة العليا، واسترخاء السفلى.
قال عليه السلام في قوله: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال: «تَشْويه النَّارُ فَتَقْلِصُ شَفَتُه العُلْيَا حَتّى تَبْلغ وَسَطَ رَأْسِه، وتَسْترخِي شَفَتُهُ السُفْلَى حَتّى تَبْلغَ سُرَّتَهُ» وقال أبو هريرة: يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ضرسه مثل أحد، وشفاههم عند سررهم سود زرق خنق مقبوحون. ومنه كُلُوح الأسد أي: تكشيره عن أنيابه، ودهرٌ كالح (وبرد كالح) أي: شديد وقيل الكُلُوح: تقطيب الوجه وتسوره، وكَلَحَ الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً (وكُلَاحاً) .
قوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن تخوفون بها {فكنتم بها تكذبون} قالت المعتزلة دلّت الآية على أنهم إنّما عُذِّبُوا بسوء أفعالهم، ولو كان فعل العبد بخلق الله لما صحّ ذلك.
والجواب: أن القادر على الطاعة والمعصية إنْ صدرت المعصية عنه لا لِمُرجح ألبتّة كان صدورها عنه اتفاقيّاً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب، وإن كان لمرجح فذلك المرجح ليس من فعله وإلاّ لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب.
قوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} الآية. لمّا قال سبحانه {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 105] ذكر ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قرأ الأخوان: «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف. والباقون بكسر الشين وسكون القاف. وهما مصدران بمعنى واحد فالشقاوة كالقساوة، وهي لغة فاشية، والشقوة كالفطنة والنعمة، وأنشد الفراء:
3812 -
كُلِّفَ مِنْ عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ
…
بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغة الحجاز.
قال أبو مسلم: «الشقْوَة من الشقَاء كجِرْيَة الماء، والمصدر الجَرْي، وقد يجيء لفظ فِعْلَة، والمراد به الهيئة والحال فيقول: جِلْسَة حَسنة ورِكْبَة وقِعْدَة، وذلك من الهيئة، وتقول: عاش فلان عِيشَةً طيبة، ومات مِيتَةً كريمة، وهذا هو الحال والهيئة، فَعَلَى هذا المراد من الشقْوَة حال الشقاء. وقرأ قتادة والحسن في رواية كالأخوين إلاّ أنهما كسرا الشين، وشبل في اختياره كالباقين إلاّ أنّه فتح الشين.
قال الزمخشري:» غَلَبَتْ عَلَيْنَا «ملكتنا من قولك غَلَبَنِي فلان على كذا إذا أخذه منك (وامتلكه) والشَّقاوة سوء العاقبة.
فصل
قال الجبائي: المراد أن طلبنا اللذّات المحرّمة، وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المُسبب على السبب، وليس هذا باعتذار فيه، لأن علمهم بأن لا عُذر لهم فيه ثابت عندهم، ولكنه اعتراف بقيام الحجة عليهم في سوء صنيعهم.
وأجيب: بأنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذّات المحرّمة، وطلب تلك اللذّات حاصل باختيارهم أو لا باختيارهم، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر، فَلِم لا يجوز في كل الحوادث ذلك؟ وحينئذ يَنْسد عليك باب إثبات الصانع، وإن افتقر إلى مُحدث فمحدثه إمَّا العبد أو الله، فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه:
أحدها: أنَّ قدرة العبد صالحة للفعل والترك، فإن توقَّف صدور تلك الإرادة عنه إلى مرجح آخر، عاد الكلام فيه، ولزم التسلسل، وإن لم يتوقف على المرجّح، فقد جوزتَ رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح، وذلك يسد باب إثبات الصانع.
وثانيها: أنَّ العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال، ولا كيفيّتها، والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له، وإلاّ لبطلت دلالة الأحكام، ولا يقال علم العلم.
وثالثها: أَنَّ أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل، بل لا يقصد إلا (ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلاّ) تحصيل العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للداعي والبواعث هو الله، ثم إنَّ الداعية إِذا كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة، وإن كانت سائقة إلى الشرّ كانت شقاوة.
وقال القاضي، قولهم {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} دليل على أنه لا عذر لهم لاعترافهم، فلو كان كفرهم من خلقه وإرادته، وعَلِمُوا ذلك، لكان ذكرهم ذلك أولى وأقرب إلى العذر.
والجواب: قد بيّنا أنّ الذي ذكروه ليس إلاّ ذلك، ولكنهم مُقرّون أن لا عذر لهم فلا جرم قيل:«اخْسَئُوا فِيهَا» .
والوجه الثاني لهم في الجواب: قولهم: {وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} أي: عن الهدى،
وهذا الضلال الذي جعلوه كالعِلّة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، وهو باطل، فلم يبق إلاّ أن يكون ذلك الضلال (عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم، وما ذلك إلاّ خلق الداعي إلى الضلال) . ثم إنّ القوم لما اعتذرُوا بهذين العُذرين، قالوا:{رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي: من النار «فَإِنْ عُدْنَا» لما أنكرنا «فَإِنَّا ظَالِمُونَ» فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال: {اخسئوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
فإن قيل: كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أنَّ عقابهم دائم؟ قلنا: يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح.
قوله: «اخْسَئُوا فِيهَا» أقيموا فيها، كما يقال للكلب إذا طُرد اخسأ؛ أي: انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زُجرت، يقال: خسأ الكلب وخَسَأَ بِنَفْسِه. «وَلَا تُكَلمون» في رفع العذاب فإِنّي لا أرفعه عنكم، وليس هذا نهياً، لأنّه لا تكليف في الآخرة.
قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلّمون بعده إلا الشهيق والزفير. ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يَفْهَمُون ولا يُفْهمُون.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} الآية. العامة على كسر همزة (إِنَّهُ) استئنافاً. وأُبّي والعتكي: بفتحها أي: لأنه والهاء ضمير الشأن. قال البغوي: الهاء في إنه عماد، وتسمى المجهولة أيضاً.
قوله: «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرياً» قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص بكسر السين. والباقون: بضمها في المَوْضعين.
و (سِخْريًّا) مفعول ثان للاتخاذ. واختلف في معناها فقال الخليل
وسيبويه والكسائي وأبو زيد: هما بمعنى واحد نحو دُريّ ودِريّ، وبَحْر لُجِّي ولِجِّي بضم اللام وكسرها. وقال يونس: إن أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير، وإن أريد الهزء فالضم والكسر ورَجّح أبو عليّ وتَبعه مكي قراءة الكسر، قالا: لأنّ ما بعدها أَلْيَق لها لقوله: {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} . ولا حجة فيه، لأنّهم جمعوا بين الأمرين سَخروهم في العمل، وسَخِرُوا منهم استهزاءً. والسُّخْرَة بالتاء الاستخدام وسُخْرِيًّا بالضم منها، والسُّخْر بدونها الهُزء والمكسور منه، قال الأعشى:
3813 -
إِنِّي أَتَانِي حَدِيثٌ لَا أُسَرُّ بِهِ
…
مِنْ علْو لَا كذبٌ فِيهِ ولَا سَخَرُ
ولم يختلف السبعة في ضم ما في الزخرف، لأنّ المراد الاستخدام، وهو يُقوِّي قول من فرّق بينهما، إلَاّ أنَّ ابن محيصن وابن مسلم وأصحاب عبد الله كَسَرُوه أيضاً، وهي مُقَوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سُخْريًّا وسِخْريًّا للنسب زيدت
للدلالة على قوة الفعل، فالسُّخْريّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص خُصُوصيّة دلالة على قوة ذلك.
قال معناه الزمخشري.
فصل
اعلم أنّه تعالى قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل: إن رؤوس قريش مثل أبي جهل، وعقبة وأبيّ بن خلف، كانوا يستهزؤون بأصحاب محمدٍ، ويضحكون بالفقراء منهم، كبلال، وخباب، وعمّار، وصهيب، والمَعْنى: اتخذتموهم هزواً «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ» بتشاغلكم بهم على تلك الصفة {ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} ونظيره: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] ثم إنّه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأَنْ وصف ما جازى به أولئك فقال: {جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} أي: جزيتهم اليوم الجزاء الوافر.
قوله: {أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون} قرأ الأخوان بكسر الهمزة، استئنافاً.
والباقون بالفتح، وفيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه تعليل فيكون نصباً بإضمار الخافض أي: لأنهم هم الفائزون، وهي موافقة للأُولى فإنّ الاستئناف يعلل به أيضاً.
والثاني: قاله الزمخشري، ولم يذكر غيره، أنه مفعول ثان ل «جَزَيْتُهُمْ» أي: بأنهم أي: فوزهم وعلى الأَوّل يكون المفعول الثاني محذوفاً.
قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} قرأ الأخوان: {قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ} {قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ} بالأمر في الموضعين وابن كثير كالأخوين في الأوَّل فقط. والباقون: «قَالَ» في الموضعَين على الإخبار عن الله أو الملك. والفعلان مرسومان بغير ألف في مصاحف الكوفة، وبألف في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة. فحمزة والكسائي وَافَقَا مصاحف الكوفة، وخالفها عاصم أو وافقها على تقدير حذف الألف من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحف مكة، وفي الأَوّل غيرها، أو إيّاها على تقدير حذف الألف وإرادتها. وأمّا الباقون فوافقُوا مصاحفهم في الأوّل والثاني. فَعَلَى الأمر معنى الآية: قُولُوا أَيُّها الكَافِرُونَ، فأخرج الكلام مخرج الواحد، والمراد منه الجماعة إذ كان معناه مفهوماً. ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم، أي: قل أيها الكافرون. وأمّا على الخبر أي قال الله عز وجل للكفار يوم البعث {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض} أي: في الدنيا أو في القبور. و (كَمْ) في موضع نصب على ظرف الزمان، أي: كم سنة، و «عَدَد» بدل من «كَمْ» قاله أبو البقاء، وقال غيره:«عَدَدَ سَنِينَ» تمييز ل «كَمْ» وهذا هو الصحيح. وقرأ الأعمش والمفضّل عن عاصم: «عَدَداً» منوناً، وفيه أوجه:
أحدها: أن يكون عدداً مصدراً أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدّم على المنعوت قاله صاحب اللوامح. يعني: أنَّ الأصل سنين عدداً. أي: معدودة، لكنّه يلزم تقديم
النعت على المنعوت، فصوابُه أن يقول فانتُصب حالاً هذا مذهب البصريين.
والثاني: أن «لَبِثْتُم» بمعنى: عددتم، فيكون نصب «عَدَداً» على المصدر و «سَنِينَ» بدل منه. قاله صاحب اللوامح أيضاً. وفيه بُعْد لعدم دلالة اللبث على العدد.
والثالث: أنَّ «عَدَداً» تمييز ل «كَمْ» و «سِنِينَ» بدل منه.
فصل
الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ، لأنّهم كانُوا ينكرون لبثاً في الآخرة أصلاً، ولا يُعدون اللبث إلاّ في دار الدنيا، ويظنون أنَّ بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة. فلمّا حصلوا في النار، وأيقنوا دوامها، وخلودهم فيها سألهم {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض} مُنبِّهاً لهم على ما ظَنُّوه دائماً طويلاً، وهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه، فحينئذٍ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا، حيث تيقّنوا خلافه، وهذا هو الغرض من السؤال فإنْ قيل: فكيف يصح أن يقولوا في جوابهم: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ولا يقع الكذب من أهل النار؟ فالجواب: لعلّهم نسوا لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بهذا النسيان وقالوا:«فَاسْأَلِ العَادِّينَ» . قال ابن عباس: أنساهم ما كانُوا فيه من العذاب بين النفختين.
وقيل: مرادهم بقولهم: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من العذاب. وقيل: أرادوا أن لبثهم في الدنيا يوماً أو بعض يوم من أيام الآخرة، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة.
فصل
اختلفوا في أنّ السؤال عن أيّ لبث؟ فقيل عن لبثهم أحياء في الدنيا، فأجابوا بأَنّ قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أنّ الله أعلمهم أنَّ الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار.
وقيل: المراد اللبث في حال الموت، لأنَّ قوله:«فِي الأَرْضِ» يفيد الكَوْن في الأَرض أي: في القبر، والحيّ إِنّما يقال فيه أنّه على الأرض. وهذا ضعيف لقوله:{وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأرض} [الأعراف: 56]، واستدلوا أيضاً بقوله:{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] ثم قالوا: «فَاسْأَلِ العَادِّينَ» أي: الملائكة الذين يحفظون أعمال
بني آدم ويُحْصُونها عليهم، وهذا قول عكرمة. وقيل الملائكة الذين يعدّون أيام الدنيا. وقيل: المعنى سَلْ من يعرف عدد ذلك فإنّا نسيناه. وقُرئ «العَادِينَ» بالتخفيف، وهي قراءة الحسن والكسائي في رواية جمع (عَادِي) اسم فاعل من (عَدَا) أي: الظلمة فإنّهم يقولون مثل ما قلنا.
وقيل: العَادين: القدماء المعمرين، فإنّهم سيقصرونها. قال أبو البقاء: كقولك: هذا بئر عَاديَة، أي؛ سل من تقدّمنا، وحذف إحدى ياءي النسب كما قَالُوا: الأشعرون، وحُذفت الأخرى لالتقاء الساكنين. قال شهاب الدين: المحذوف أَوّلاً الياء الثانية؛ لأنّها المتحركة وبحذفها يلتقي ساكنان. ويؤيد ما ذكره أبو البقاء ما نقله الزمخشري قال: وقُرئ (العَادِيين أي: القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرُونَها، فكيف بِمَن دُونهم؟ قال ابن خالويه: ولغة أخرى العَادِيّين يعني: بياء مشددة جمع عَادِيّة بمعنى القدماء) .
فصل
احتجّ من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال: قوله: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض} يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض، وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض، فلو كانُوا معذبين في القبر لعلموا أنَّ مدة مكثهم في الأرض طويلة، فلم يقولوا:{لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} .
والجواب من وجهين:
الأول: أنّ الجواب لا بُدّ وأن يكون بحسب السؤال، وإنّما سألوا عن موتٍ لا حياةَ بعده إلاّ في الآخرة، وذلك لا يكون إلاّ بعد عذاب القبر.
والثاني: يحتمل أن يكونُوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه، فلا مدخل في تقدّم موت بعضهم على بعض فيصح أن يكون جوابهم {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} عند أنفسنا.
قوله: «إِنْ لَبِثْتُم» أي: ما لبثتم «إِلَاّ قَلِيلاً» ، وكأنه قيل لهم: صدقتم ما لبثتم فيها إِلاّ قليلاً، لأنها في مقابلة أيام الآخرة.
قوله: «لَوْ أَنَّكُمْ» جوابها محذوف تقديره: لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لمَا أجبتم بهذه المدة.
وانتصب «قليلاً» (على النعت) لزمن محذوف (أو لمصدر محذوف) أي: إلاّ زمناً قليلاً، أو إِلاّ لُبْثاً قليلاً.
قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} الآية في نصب (عَبَثاً) وجهان:
أحدهما: أنّه مصدر واقع موقع الحال أي: عابثين.
والثاني: أنه مفعول من أجله أي: لأجل العبث. والعَبَث: اللعب، وما لا فائدة فيه، أي: لتعبثوا وتلعبوا، كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وكل ما ليس له غرض صحيح. يقال: عَبَثَ يَعْبِثُ عَبثاً إذا خلط عليه بلعب، وأصله من قولهم عبثت الأَقِط، أي: خلطته، والعَبِيث: طعام مخلوط بشيء، ومنه العَوْبَثَانِي لتمر وسُوَيْق وسمن مختلط. قوله:«وَأَنَّكُمْ» يجوز أن يكون معطوفاً على (أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ) لكون الحسبان منسحباً عليه وأن يكون معطوفاً على (عَبَثاً) إذا كان مفعولاً من أجله.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون معطوفاً على (عَبَثاً) أي: للعبث ولترككم غير مرجوعين وقُدّم «إِلَيْنَا» على (تُرْجَعُونَ) لأجل الفواصل.
قوله: «لَا تُرْجَعُونَ» هو خبر «أَنَّكُمْ» ، وقرأ الأخوان «تَرْجِعُونَ» مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول. وقد تقدّم أن (رجع) يكون لازماً ومتعدياً. وقيل: لا يكون إلا متعدّياً، والمفعول محذوف.
فصل
لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنّه لولا القيامة لما تميّز المُطيع عن العاصي، والصديق عن الزنديق، وحينئذ يكون هذا العالم عَبَثاً، وهو كقوله:{أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] . والمعنى: أَنَّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل.
«رُوي أن رجلاً مُصاباً مُرَّ به على ابن مسعود فَرَقَاهُ في أذنيه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} حتى ختمها، فَبَرأ، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بماذا رقيته في أذنه فأخبره) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً موقناً قرأها على جبل لَزَال «ثم نَزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال: {فَتَعَالَى الله الملك الحق} ، والمَلِكُ: هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه وقدرته، والحَقّ: هو الذي يحق له الملك، لأنّ كل شيء منه وإليه، والثابت الذي لا يزول ملكه.
{لَا إله إِلَاّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} قرأ العامة» الكريم «مجروراً نعتاً للعرش، وُصف بذلك لتنزُّل الخيرات منه والبركات والرحمة. أو لِنسْبته إلى أكرم الأكرمين، كما يُقال: بَيْتٌ كَريم إذا كان ساكنوه كراماً. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنّه نعت للعرش أيضاً، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيّد لتوافق القراءتين في المعنى.
والثاني: أنه نعت ل (رَبّ) .
فصل
قال المفسرون: العرش السرير الحسن. وقيل: المرتفع. وقال أبو مسلم: العرش هنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة، ويجوز أن يُراد به
الملك العظيم.
والأكثرون: على أنّه العرش حقيقة.
قوله: «وَمَنْ يَدْعُ» شرط، وفي جوابه وجهان:
أحدهما: أنه قوله: «فَإِنَّما حِسَابُهُ» وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وجهان:
أحدهما: أنها صفة، ل «إِلهاً» وهي صفة لازمة، أي: لا يكون الإله المَدْعو من دون الله إلاّ كذا، فليس لها مفهوم لفساد المعنى. ومثله {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] لا يفهم أنّ ثمَّ إِلهاً آخر مَدْعُوًّا من دون الله له برهان، وأن ثمَّ طَائِراً يطيرُ بغير جناحيه.
والثاني: أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله:«يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ» جِيءَ بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان، ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقولك: مَنْ أَحْسَن إلى زيدٍ لا أحد أَحقُّ بالإحسان منه فاللَّهُ مثيبه.
والثاني من الوجهين الأَولين: أن جواب الشرط قوله: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} كأنه فرَّ من مفهوم الصفة لِمَا يلزم من فساده، فوقع في شيء لا يجوز إِلاّ في ضرورة شعر، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية كقوله:
3814 -
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرهَا
…
والشَّرُّ بِالشَّر عِنْدَ اللَّهِ سِيَّانِ
وقد تقدّم تخريج كون {لَا بُرْهَانَ لَهُ} على الصفة، ولا إشكال، لأنها صفة لازمة، أو على أنها جملة اعتراض.
فصل
لمّا بيَّن أنَّه {الملك الحق لَا إله إِلَاّ هُوَ رَبُّ} أتبعهُ بأن من ادّعى إلهاً آخر فقد ادّعى
باطلاً، لأنه {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} لا حجّة ولا بيّنة، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك، وهذا يدل على صحة النظر وفساد التقليد. ثم قال:«فَإِنَّما حِسَابُهُ» أي: جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] كأنّه قال: إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلاّ الله.
قوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكافرون} فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها. قرأ الجمهور بكسر همزة (إنّه) على الاستئناف المفيد للعلة. وقرأ الحسن وقتادة «أَنَّه» بالفتح، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر «حِسَابُه» قال: ومعناه حسابه عدم الفلاح، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو، فوضع الكافرون في موضع الضمير، لأن «مَنْ يَدْعُ» في موضع الجمع، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون. انتهى.
ويجوز أن يكون ذلك على حذف حرف العلة أي: لأنّه لا يفلح. وقرأ الحسن: «لَا يَفْلحُ» مضارع (فَلح) بمعنى (أَفْلَح)(فَعَل) و (أَفْعَل) فيه بمعنى، والله أعلم.
فصل
المعنى لا يسعد من جحَد وكذّب، وأمر الرسول بأن يقول:{رَّبِّ اغفر وارحم} ويثني عليه بأن «خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» ، وقد تقدّم بيان كون «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
فإن قيل: كيف اتصال هذه الخاتمة بما قبلها؟
فالجواب: أنّه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات.
رُوي أنَّ أَوَّل سورة (قد أفلح) وآخرها من كنوز العرش من عَمِل بثلاثِ آياتٍ من أولها، واتعظ بأربع من آخرها فقد نَجَا وأفلح. وروَى الثعلبي في تفسيره عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالرَّوْحِ والرَّيْحَانِ، وما تقرّ بِهِ عَيْنُه عند نزول ملك الموت» .
سورة النور
مدنية وهي أربع وستون آية، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وخمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم (قوله تعالى) :{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} الآية.
قرأ العامة «سُورَةٌ» بالرفع، وفيه وجهان:
أحدهما: أن تكون مبتدأ، والجملة بعدها صفة لها، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداء بالنكرة، وفي الخبر وجهان:
أحدهما: أنه الجملة من قوله: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» .
(وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال: ويجوز أن تكون مبتدأ، والخبر «الزَّانِيَةُ والزّانِي» ) وما بعد ذلك. والمعنى: السورةُ المُنَزَّلةُ والمفروضة كذا وكذا، إذ السورة عبارة عن آيات مَسْرُودَة لها بدْءٌ وخَتْمٌ.
والثاني: أن الخبر محذوف، أي: فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ، أو فيما أنزلنا سورة.
والوجه الثاني من الوجهين الأولين: أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر، أي: هذه (سورة) .
وقال أبو البقاء: (سورة) بالرفع على تقدير: هذه سورةٌ، أو فيما يتلى عليك سورة، فلا تكون (سورة) مبتدأ، لأنها نكرة.
وهذه عبارة مشكلةٌ على ظاهرها، كيف يقول:«لا تكون مبتدأ» مع تقديره: فيما يُتلى عليك سورةُ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرة مع تقديره لخبرها جاراً مقدماً عليها، وهو مسوغ للابتداء بالنكرة؟ وقرأ عمر بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة وطلحة بن مصرف «سُورَةً» بالنصب، وفيها أوجه:
أحدها: أنها منصوبة بفعل مُقَدَّر غير مُفَسَّرٍ بما بعده، تقديره:«اتْلُ سُورَةً» أو «اقرأ سورة» .
والثاني: أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده، والمسألة من الاشتغال، تقديره:«أنزلنا سورةً (أنزلناها» ) .
والفرق بين الوجهين: أنَّ الجملة بعد «سُورَةً» في محل نصب على الأول، ولا محل لها على الثاني.
الثالث: أنها منصوبة على الإغراء، أي: دونك سورةً، قاله الزمخشري. ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء. واستشكل أبو حيان أيضاً على وجه الاشتغال جواز الابتداء بالنكرة من غير مسوغ، ومعنى ذلك أنه ما مِنْ موضع يجوز (فيه) النصب على الاشتغال إلَاّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداء، وهنا لو رفعت «سُورَةً» بالابتداء لم يَجُزْ، إذ لا مسوغ، فلا يقال:«رجلاً ضربتُه» لامتناع «رجل ضربتُه» ، ثم أجاب بأنه إن اعْتُقِدَ حذف وصفٍ جاز، أي:«سُورة مُعَظَّمةً أو مُوَضّحَةً أنزلناها» فيجوز ذلك.
الرابع: أنها منصوبة على الحال من «ها» في «أَنْزَلْنَاهَا» ، والحال من المكنيّ يجوز أن يتقدم عليه، قاله الفراء.
وعلى هذا فالضمير في «أَنْزَلْنَاهَا» ليس عائداً على «سُورَةً» بل على الأحكام، كأنه قيل: أنزلنا الأحكام سورةً من سُوَر القرآن، فهذه الأحكام ثابتةٌ بالقرآن بخلاف غيرها فإنه قد ثبت بالسُّنّة، وتقدم معنى الإنزال.
قوله: «وفرضناها» قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد. والباقون بالتخفيف.
فالتشديد إمَّا للمبالغة في الإيجاب وتوكيد، وإمَّا المَفْرُوض عليهم، وإمَّا لتكثير الشيء المفروض. والتخفيف بمعنى: أَوْجَبْنَاهَا وجعلناها مقطوعاً بها. وقيل: ألزمناكم العمل بها وقيل: قدرنا ما فيها من الحدود.
والفرض: التقدير، قال الله (تعالى) :{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي: قدرتم، {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} [القصص: 85] . ثم إنَّ السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود، وتحصيل الحاصل محال، فوجب أن يكون المراد: فرضنا ما بيِّن فيها من الأحكام، ثم قال:{وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات. «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» تتعظون، وأراد ب «الآيَات» ما ذكر في السورة من الأحكام والحدود ودلائل التوحيد.
وقرئ «تَذَكَّرُونَ» بتشديد الذال وتخفيفها. وتقدم معنى «لَعَلَّ» في سورة البقرة.
قال القاضي: «لَعَلّ» بمعنى «كَيْ» .
فإن قيل: الإنزال يكون من صعود إلى نزول، وهذا يدل على أنه تعالى في جهة؟
فالجواب: أن جبريل كان يحفظها من اللوح ثم ينزلها على النبي صلى الله عليه وسلم َ - فقيل: «أنْزَلْنَاهَا» توسعاً.
وقيل: إن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب إلى السماء الدنيا دفعة واحدة، ثم أنزلها بعد ذلك على لسان جبريل عليه السلام.
وقيل: معنى «أنزلناها» : أعطيناها الرسول، كما يقول العبد إذا كلم سيّده: رفعت إليه حاجتي، كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال، قال الله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] .
قوله تعالى: {الزانية والزاني} في رفعهما وجهان:
مذهب سيبويه: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي: فيما يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْم الزَّانِيَةِ، ثم بَيَّنَ ذلك بقوله:«فَاجْلِدُوا»
…
إلى آخره.
والثاني وهو مذهب الأخفش وغيره: أنه مبتدأ، والخبر جملة الأمر، ودَخَلَتِ الفاءُ لشبه المبتدأ بالشرط، ولكون الألف واللام بمعنى الذي، تقديره: مَنْ زنا فاجلده، أو التي زنت والذي زنا فاجلدوهما، وتقدم الكلام على هذه المسألة في قوله:{واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وعند قوله: «والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ» فأغْنَى عن إعادته.
وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وأبو شيبة ورُوَيْس
بالنصب على الاشتغال.
قال الزمخشري: «وهو أحسن من (سورةً أنزلناها) لأجل الأمر» .
وقرئ: «والزَّان» بلا ياء.
ومعنى «فاجلدوا» : فاضربوا {كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ، يقال: جَلَدَه: إذا ضرب جِلْدَهُ، كما يقال: رأسَه وبطنه: إذا ضرب رأسه وبطْنه، وذكر بلفظ الجلد لئلا يبرح، ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم.
قوله (تعالى) : {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} : رحمة ورقة.
قرأ العامة هنا وفي الحديد بسكون همزة «رَأْفَة» . وابن كثير بفتحها.
وقرأ ابن جريج وتروى أيضاً عن ابن كثير وعاصم «رَآفَة» بألف بعد الهمزة بِزِنَةِ «سَحَابَةٍ» .
وكلها مصادر ل «رَأَفَ بِهِ يَرْؤُف» ، وتقدم معناه، وأشهر المصادر الأول، ونقل أبو البقاء فيها لغة رابعة، وهي إبدال الهمزة ألفاً، وهذا ظاهر.
وقرأ العام «تَأْخُذْكُمْ» بتاء التأنيث مُرَاعاةً للفظ.
وعليُّ بن أبي طالب والسُّلميُّ ومجاهد بالياء من تحت، لأنَّ التأنيث مجازيّ، وللفصل بالمفعول والجار.
و «بِهِمَا» يتعلق ب «تَأْخُذْكُمْ» ، أو بمحذوف على سبيل البيان، ولا يتعلق ب «رَأْفَة» لأن المصدر لا يتقدم عليه معمولاً، و «دِينِ اللَّهِ» مُتعلِّقٌ بالفعل قبله أيضاً.
وهذه الجملة دالة على جواب الشرط بعدها، أو هي الجواب عند بعضهم.
فصل
الزنا حرام، وهو من الكبائر، لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله:«وَلَا يَزْنُونَ» ، وقال {وَلَا تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] ، وقال عليه السلام:«يَا مَعْشَرَ الناس اتقوا الزِّنَا فإنَّ فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا: فيُذْهِبُ البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما اللاتي في الآخرة: فسُخْطُ الله، وسوء الحساب، وعذاب (النار) » .
قال بعض العلماء في حدّ الزنا: إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم قطعاً.
واختلف العلماء في اللواط، هل يسمى زنا أم لا؟
فقيل: نعم لقوله عليه السلام: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان» ، ولدخوله في حدّ الزنا المتقدم. وقيل: لا يسمى زنا، لأنه في العرف لا يسمى زانياً، ولو حلف لا يزني فلاط لم يحنث، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة.
وأما الحديث فمحمول على الإثم (بدليل قوله عليه السلام) : «إذَا أَتَتِ
المَرْأةُ المرأةَ فَهُمَا زَانِيتَان» ، وقوله عليه السلام:«اليَدَان تَزْنِيَان، والعَيْنَان تَزْنِيَان» وأما دخوله في مسمى الفرج لما فيه من الانفراج فبعيد، لأن العين والفم منفرجان ولا يسميان فرجاً، وسمي النجم نجماً لظهوره، وما سموا كل ظاهر نجماً، وسموا الجنين جنيناً لاستتاره، وما سمّوا كل مستتر جنيناً.
واختلفوا في حدّ اللوطي:
فقيل: حدّ الزنا، إن كان محصناً رجم، وإن كان غير محصن جلد وغرب.
وقيل: يقتل الفاعل والمفعول مطلقاً.
واختلفوا في كيفية قتله:
فقيل: تضرب رقبتُه كالمرتد لقوله عليه السلام: «مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوه» .
وقيل: يرجم بالحجارة.
وقيل: يهدم عليه جدار.
وقيل: يرمي من شاهق، لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك.
وقيل: يعزّر الفاعل، وأما المفعول فعليه القتل إن قلنا يقتل الفاعل، وإن قلنا على الفاعل حدّ الزنا فعلى المفعول جلد مائة وتغريب عام محصناً كان أو غير محصن.
وقيل: إن كانت امرة محصنة فعليها الرجم.
فصل
وأجمعت الأمة على حرمة إتيان البهيمة، واختلفوا في حدّه:
فقيل: حدّ الزنا.
وقيل: يقتل مطلقاً لقوله عليه السلام: «مَنْ أَتَى بَهِيمةً فَاقْتُلوهُ واقْتُلُوهَا مَعَهُ» .
وقيل: التعزير، وهو الصحيح.
وأما السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه إلا التعزير.
فصل
تقدم الكلام في حدّ الزنا في سورة النساء، وأما إثباته فلا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة. أما الإقرار، فقال الشافعي: يثبت بالإقرار مرة واحدة لقصة العسيف.
وقال أبو حنيفة وأحمد: لا بد من الإقرار أربع مرات لقصة ماعز، ولقوله عليه السلام:«إنَّكَ شَهدتَ على نفسِكَ أربعَ مرات» ولو كانت المرة الواحدة مثل الأربع في إيجاب الحدّ لكان هذا الكلام لغواً، ولقول أبي بكر رضي الله عنه لماعز بعد إقراره الثالثة: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -.
وقال بريدة الأسلمي: كنا معشر أصحاب محمد نقول: لو لم يقر ماعز (أربع مرات) ما رجمه رسول الله.
وأيضاً فكما لا يقبل في الشهادة على الزنا إلاّ أربع شهادات، فكذا في الإقرار. وكما أن الزنا لا ينتفي إلاّ بأربع شهادات في اللعان، فلا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات.
وأما البينة فأجمعوا على أنه لا بُدّ من أربع شهادات لقوله تعالى: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} [النساء: 15] .
فصل
قال بعض العلماء: لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه، كما إذا ادعى رجل على آخر حقاً وأقام عليه بينة، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حيًّا بعد ذلك، أو ادعى نكاح امرأة وقد سمعه القاضي طلقها، لا يجوز أن يقضي به ولو أقام عليه شهوداً وهل يجوز له أن يقضي بعلم نفسه مثل إن ادعى عليه ألفاً وقد رآه القاضي أقرضه، أو سمع المدعى عليه يقرّ به؟
فقال أبو يوسف ومحمد والمزني: يجوز له أن يقضي بعلمه، لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود، وهي إنما تفيد الظن، فلأن يجوز (له) بما هو منه على علم أولى.
قال الشافعي: أقْضِي بعلمي، وهو أقوى من شاهدين، أو شاهد وامرأتين، وهو أقوى من شاهد ويمين، (وبشاهد ويمين) وهو أقوى من (النكول) وردّ اليمين «وقيل: لا يحكم بعلمه لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء، ولم يوجد هذا في الأموال فأما العقوبات، فإن كانت العقوبة من حقوق العباد كالقصاص وحدّ القذف فهو مثل المال، إن قلنا لا يقضي فهاهنا أولى، وإلا فقولان.
والفرق بينهما أن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة، ولا فرق
على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته (وزمان ولايته) أو في غيره. وقال أبو حنيفة: إن حصل له العلم في بلد ولايته (وفي زمان ولايته) له أن يقضي بعلمه وإلا فلا.
فصل
لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه لقوله عليه السلام: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدكم فَلْيَجلِدْها» وقيل: بل يرفعه إلى الإمام.
ويُجلد المحصن مع ثيابه ولا يجرد، ولكن ينبغي أن تكون بحيث يصل ألم الضرب إليه، وأما المرأة فلا يجوز تجريدها، بل تربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف، ويلي ذلك منها امرأة. ويضرب بسوط لا جديد يجرح ولا خلق لا يؤلم، ولا يمد، ولا يربط، بل يترك حتى يتقي بيديه ويضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة، وتفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد ويتقى المهالك كالوجه والبطن والفرج.
قال الشافعي: يضرب على الرأس.
وقال أبو حنيفة: لا يضرب على الرأس.
فصل
ولا يقام الحدّ على الحامل حتى تضع ولدها، ويستغنى عنها لحديث الجهنية، وأما المريض فإن كان يرجى زوال مرضه أخّر حتى يبرأ (إن كان الحد جلداً، وإن كان رجماً أقيم عليه الحدُّ، لأن المقصود قتله) ، وإن كان مرضه لا يرجى زواله لم يضرب بالسياط، بل يضرب بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه لقصة أيوب (- عليه
السلام -) وأدلة جميع ما تقدم مذكورة في كتب الفقه.
فصل
لو فرق السياط تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن ضرب كل يوم سوطاً أو سوطين لم يحسب، وإن ضرب كل يوم عشرين وأكثر حسب.
فصل
ويقام الحد في وقت اعتدال الهواء، فإن كان في وقت شدة حرّ أو برد نظرنا: إن كان الحدّ رجماً أقيم عليه كما يقام في المرض، لأن المقصود قتله.
وقيل: إن كان الرجم ثبت بإقراره أخّر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض (إنْ كان يرجى زوال، لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم) وقد أثر الرجم في جسمه فيعين شدة الحر والبرد والمرض على إهلاكه.
وإن ثبت بالبينة لا يؤخر، لأنه لا يسقط.
وإن كان الحد جلداً لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض.
فصل
معنى قوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} .
قال مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي: لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها.
وقيل: ولا تأخذكم رأفة فتخففوا، ولكن أوجعوهما ضرباً. وهو قول سعيد بن المسيب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حدّ الزنا والغربة، ويخفف في حدّ الشرب.
وقال قتادة: يخفف في الشرب والغربة، ويجتهد في الزنا.
ومعنى {فِي دِينِ الله} : أي: في حكم الله، روي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد:«اضْرُبْ ظَهْرَهَا ورِجْلَيْهَا» فقال له ابنه: «ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةً في دِينِ اللَّهِ» فقال: «يا بنيّ إن الله لم يأمرني بقتلها، وقد ضربت فأوجعت» .
فصل
إذا ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك، وقع به بعض الحد أو لم يقع (به) ، لأنّ ماعزاً لما مسته الحجارة هرب، فقال عليه السلام:«هَلَاّ تركتموه» .
وقيل: لا يقبل رجوعه.
ويحفر للمرأة إلى صدرها، ولا يحفر للرجل، وإذا مات في الحدّ غُسِّل وكُفِّن وصُلِّيَ عليه ودفِن في مقابر المسلمين.
قوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} معناه: أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله.
قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} أي: وليحضر «عَذَابَهُمَا» : حدهما إذا أقيم عليهما «طَائِفَةٌ» نفر من المؤمنين. قال النخعي ومجاهد: أقله رجل واحد، لقوله تعالى:{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] . وقال عطاء وعكرمة: اثنان، لقوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} [التوبة: 122] وكل ثلاثة فرقة، والخارج عن الثلاثة واحد أو اثنان، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر. وقال الزهري وقتادة: ثلاثة فصاعداً، لأن الطائفة هي الفرقة التي تكون حافة حول الشيء، وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها الثلاثة.
وقال ابن عباس: «إنَّها أربعة، عدد شهود الزنا» ، وهو قول مالك وابن زيد.
وقال الحسن البصري: عشرة، لأنها العدد الكامل.
واعلم أن قوله: «وَلْيَشْهَد» أمر، وظاهره للوجوب، لكن الفقهاء قالوا: يستحب حضور الجمع، والمقصود منه: إعلان إقامة الحد لما فيه من الردع ودفع التهمة.
وقال الشافعي ومالك: يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور. وقال أبو حنيفة:«إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدؤوا بالرمي، ثم الإمام، ثم الناس، وإن ثبت بالإقرار بدأ الإمام ثم الناس» .
واحتج الشافعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم َ - رجم ماعزاً والغامدية ولم يحضر رجمهما وأما تسميته عذاباً فإنه يدل على أنه عقوبة، ويجوز أن يسمى عذاباً لأنه يمنع المعاودة، كما يسمى نكالاً لذلك.
قرأ أبو البرهسيم «وَحَرَّم» مبنياً للفاعل مشدداً. وزيد بن علي «حَرُم» بزنة كَرم. واختلفوا في معنى الآية وحكمها:
فقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي، ورواية العوفي عن ابن عباس:«قَدِمَ المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن، وهُنَّ يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فنزلت هذه الآية» وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا، لأنهنَّ كنَّ مشركات.
وقال عكرمة: نزلت في نساء بمكة والمدينة، منهن تسع لهن رايات البيطار يعرفن بها منزلهن: أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، فاستأذن رجل من المسلمين نبي الله صلى الله عليه وسلم َ - في نكاح «أمِّ مهزول» واشترطت له أن تنفق عليه، فأنزل الله هذه الآية.
فإن قيل: قوله تعالى: {الزاني لَا يَنكِحُ إِلَاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لَا يَنكِحُهَآ إِلَاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} ظاهره خبر وليس الأمر كذلك، لأن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة، والزانية
قد ينكحها المؤمن العفيف، وأيضاً فقوله:{وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} ليس كذلك، فإن المؤمن يحل له التزويج بالمرأة الزانية.
فالجواب من وجوه:
أحدها - وهو أحسنها -: ما قاله القفال: إن اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد منه الأعم الأغلب، لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة، وإنما يرغب في فاسقة مثله أو في مشركة، والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح، بل تنفر عنه، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين، فهذا على الأعم الأغلب، كما يقال «لا يفعَل الخيرَ إلاّ الرجلُ التقيُّ» وقد يفعل الخيرَ من ليس بتقي، فكذا هاهنا.
وأما قوله: {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} فالجواب من وجهين:
الأول: أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها فحرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء المقالة فيه، والغيبة، ومجالسة الخطائين فيها التعرض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار.
وثانيها: أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين، لأن قوله:{الزاني لَا يَنكِحُ إِلَاّ زَانِيَةً} معناه: أنَّ الزاني لا يرغب إلا في زانية، فهذا محرم على المؤمنين، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزويج بالزانية، فهذا هو المعتمد في تفسير الآية.
الوجه الثاني: أن الألف واللام في قوله: «الزَّاني» وفي قوله: «المُؤْمِنينَ» وإن كان للعموم ظاهراً لكنه مخصوص بالأقوام الذين نزلت فيهم كما قدمناه آنفاً.
الوجه الثالث: أن قوله: {الزاني لَا يَنكِحُ إِلَاّ زَانِيَةً} وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد منه النهي، والمعنى: كل من كان زانياً فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية، {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام.
وعلى هذا الوجه ذكروا قولين:
أحدهما: أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس، وهذا مذهب أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود.
ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول: كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها.
ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة.
والقول الثاني: أن هذا الحكم صار منسوخاً. واختلفوا في ناسخه: فقال الجبائي: إن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3]، {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] .
قال المحققون: هذان الوجهان ضعيفان، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وأيضاً فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي، فكيف يصح؟
وأما قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] فلا يصلح أن يكون ناسخاً، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما.
ولقائل أن يقول: لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ، وأن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه؟ ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد، ولأن الزنا يورث العار، ويؤثر في الفراش، ففارق غيره.
واحتج من ادعى النسخ بأن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم َ - فقال: «يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس» ، قال:«طَلِّقْهَا» . قال: «إني أحبها، وهي جميلة» ، قال:«استمتع بها» وفي رواية: «فأمسكها إذن» .
وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلاً وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما، فأبى الغلام. وبأن ابن عباس سُئِل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس، وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم َ - أنه سُئِل عن ذلك فقال: «أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وآخِرُهُ نِكاح، والحرامُ لا يُحَرِّمُ الحلال» .
الوجه الرابع: أن يحمل النكاح على الوطء، والمعنى: أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة، وكذا الزانية {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} أي: وحرم الزنا على المؤمنين، وهذا تأويل أبي مسلم، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم، ورواية الوالبي عن ابن عباس.
قال الزجاج: «وهذا التأويل فاسد من وجهين:
الأول: أنه ما ورد النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزوج، ولم يرد البتة بمعنى الوطء.
الثاني: أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة، لأنا لو قلنا: المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد، لأنا نرى الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها، ولو قلنا: المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا، فهذا كلام لا فائدة فيه» .
فإن قيل: أي فرق بين قوله: {الزاني لَا يَنكِحُ إِلَاّ زَانِيَةً} وبين قوله: {الزانية لَا يَنكِحُهَآ إِلَاّ زَانٍ} ؟
فالجواب أن الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية، بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني، فلا جرم بيَّن ذلك بالكلام الثاني.
فإن قيل: لم قدم الزانية على الزاني في أول السورة وهاهنا بالعكس؟
فالجواب: سبقت تلك الآية على عقوبتها لخيانتها، فالمرأة هي المادة في الزنا، وأما هاهنا فمسوقة لذكر النكاح، والرجال أصل فيه، لأنه هو الراغب الطالب.
قوله
تعالى
: {والذين يَرْمُونَ المحصنات. .} الآية هي كقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] فيعود فيه ما تقدم بحاله، وقوله:«المُحْصَنَات» فيه وجهان:
أحدهما: أن المراد به النساء فقط، وإنما خَصَّهُنَّ بالذكر لأن قَذْفَهُنَّ أشْنَعُ.
والثاني: أن المراد بهن النساء والرجال، وعلى هذا فيقال: كيف غلَّب المؤنث على المذكر؟
والجواب أنه صفةٌ لشيء محذوف يَعمُّ الرجال والنساء، أي: الأنْفُسَ المحصنات، وهو بعيد أو تقول: ثمَّ معطوف محذوف لفهم المعنى، وللإجماع على أن حُكْمَهُمْ حُكْمهُنَّ أي: والمُحْصَنين.
قوله: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} العامة على إضافة اسم العدد للمعدود، وقرأ أبو زرعة
وعبد الله بن مسلم بالتنوين في العدد، واستَفْصَحَ الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن جني ففضّلها على قراءة العامة، قال: لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجود الإتباع دون الإضافة، تقول:«عندي ثلاثةٌ ضاربون» ، ويَضعف «ثلاثةُ ضاربين» وهذا غلط، لأن الصفة التي جَرَتْ مُجْرَى الأسماء تُعْطَى حُكْمَهَا، فَيُضَافُ إليها العددُ، و «شُهَدَاء» من ذلك، فإنه كَثُرَ حذف موصوفه، قال تعالى:{مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] . و «اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ» ، وتقول: عندي ثلاثةُ أعبد، وكل ذلك صفةٌ في الأصل.
ونقل ابن عطية عن سيبويه أنه لا يُجيزُ تنوين العدد إلاّ في شعر.
وليس كما نقله عنه، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو «ثلاثةُ رجالٍ» وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم.
وفي «شُهَدَاءَ» على هذه القراءة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه تمييزٌ، وهذا فاسد، لأنَّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمُمَيِّزه ليس إلا، وغير ذلك ضرورة.
الثاني: أنه حالٌ، وهو ضعيف أيضاً لمجيئها من النكرة من غير مخصِّصٍ.
الثالث: أنها مجرورة نعتاً ل «أربعة» ، ولم تنصرف لألف التأنيث.
فصل
ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات، وذكر الرمي لا يدل على الزنا، إذ قد يرميها بسرقة أو شرب خمر، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين.
واتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا، وفي دلالة الآية عليه وجوه:
الأول: تقدم ذكر الزنا.
الثاني: أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم العفاف.
الثالث: قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} يعني: على صحة ما رموا به، وكون الشهود أربعة من شروط الزنا.
الرابع: الإجماع على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا.
فصل
شروط الإحصان خمسة:
الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعفة من الزنا، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته منذ عمره، فقذفه قاذف لا حدّ عليه، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف، لأن الحد وجب للفرية، وقد ثبت صدقه.
فصل
وألفاظ القذف: صريح، وكناية، وتعريض.
فالصريح: أن يقول: يا زانية، أو زنيت، أو زنا قُبُلُكِ أو دُبُرُكِ، فإن قال: زنا
يدك، فقيل: كناية، لأن حقيقة الزنا من الفرج، والصحيح أنه صريح، لأن الفعل يصدر بكل البدن، والفرج آلة.
والكناية: أن يقول: يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة، يا مؤاجرة، يا ابنة الحرام، أو لا ترد يد لامس، فلا يكون قذفاً إلا بالنية، وكذا لو قال لعربي: يا نبطي، أو بالعكس، فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له، وإلا فلا.
فإن قال: عنيت نبطي الدار أو اللسان، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه. والتعريض ليس بقذف وإن نواه، كقوله: يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت وليست أمي بزانية، لأن الأصل براءة الذمة، فلا يجب بالشك، والحد يُدْرَأ بالشبهات.
وقال مالك: يجب فيه الحد.
وقال أحمد وإسحاق: هو قذف في حال الغضب دون الرضا.
فصل
إذا قذف شخصاً واحداً مراراً، فإن أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد، (فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني.
وإن قذفه بزناءين مختلفين كقوله: زنيت بزيد، ثم قال: زنيتِ بعمرو، فقيل: يتعدد اعتباراً باللفظ، ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون.
والصحيح أنه يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد، فتداخل كحدود الزنا.
ولو قذف زوجته مراراً فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا.
وإن قذف جماعة بكلمة واحدة، فقيل: حدّ واحد) ، لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال عليه السلام:«البينةُ أو حَدٌّ في ظهرك» ، فلم
يوجب على هلال إلا حداً واحداً مع أنه قذف زوجته بشريك.
وقيل: لكل واحد حدٌّ.
وإن كان بكلمات فلكل واحد حدّ.
فصل
إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان، لا في الحال ولا بعد البلوغ، لقول عليه السلام:«رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاث» ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز.
والأخرس إن فهمت إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد، ولذلك يصح لعانه بالإشارة والكتابة.
وأما العبد إذا قذف الحر، فقيل: يلزمه نصفُ الحد. وقيل: الحد كله.
وأما الكافر إذا قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية.
وإن كان المقذوف غير محصَن لم يجب الحد، بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير.
قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} أي: يشهدون على زناهن {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون} قوله: {وأولئك هُمُ الفاسقون} يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهو الأظهر، وجوَّز أبو البقاء فيها أن تكون حالاً.
وقوله {إِلَاّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} اعلم أن في هذا الاستثناء خلافاً، هل يعود لما تقدَّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟
وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمَهَابَاذِيُّ، فاختار ابن مالكٍ عوده إلى الجمل المتقدمة والمَهَابَاذِي إلى الأخيرة.
وقال الزمخشري: رد شَهَادَةِ القاذفِ معَلَّقٌ عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاء الحدِّ، فإذا شهد قبل الحدِّ أو قبل تمام استيفائِهِ قُبِلَتْ شهادته، فإذا استوفي لم تُقْبَلْ شهادته أبداً وإن تابَ وكان من الأبرار الأتقياء.
وعند الشافعي رحمه الله يتعلَّقُ ردُّ شهادِتِه بنفس القَذْفِ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه عاد مقبول الشهادة، وكلاهما مُتَمَسِّكٌ بالآية، فأبو حنيفة رحمه الله جعل جزاء الشرط الذي هو الرميُ: الجلدَ وردَّ الشهادة عُقَيْبَ الجلد على التأبيد، وكانوا مَرْدُودِي الشهادة عنده في أبدهم، وهو مدَّة حياتهم، وجعل قوله:{وأولئك هُمُ الفاسقون} كلاماً مستأنفاً غير داخلٍ في حيز جزاء الشرط، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية، و {إِلَاّ الذين تَابُواْ} استثناء من «الفَاسِقِينَ» ، ويدلُّ عليه قوله:{فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . والشافعيُّ رحمه الله جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً
غير أنه صَرَفَ الأبد إلى مدة كونه قاذفاً، وهي تنتهي بالتوبة (والرجوع) عن القذف، وجعل الاستثناء متعلِّقاً بالجملة الثانية. انتهى.
واعلم أن الإعراب متوقفٌ على ذكر الحكم، ومحلُّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على أصل الاستثناء.
والثاني: أنه مجرور بدلاً من الضمير في «لَهُمْ» .
وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله: وحق المستثنى عنده - أي: الشافعي - أن يكون مجروراً بَدَلاً من «هُمْ» في «لَهُمْ» ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً، لأنه عن موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط، كأنه قيل: وَمَنْ قَذَفَ المُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ، وَرُدّوا شَهَادَتَهُمْ، وفسِّقوهم، أي: فاجمعوا لهم الجلد والردَّ والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين.
قال أبو حيان: وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها.
والوجه الثالث: أنه مرفوع بالابتداء، وخبره الجملة من قوله:{فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
واعترض بخلوّها من رابطٍ.
وأُجيبَ بأنه محذوف، أي: غفور لهم.
واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناء، هل هو مُتَّصِلٌ أم مُنْقَطِعٌ؟ والثاني ضَعيفٌ جداً.
فصل
الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل: لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا.
فصل
إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني والمزني به، لأنه قد يراه على جارية ابنه فيظن أنه زنا.
ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المُكْحُلة، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يثبت، بخلاف ما لو قذف إنساناً وقال:«زنيتَ» يجب الحد ولا يستفسر، ولو أقر على نفسه بالزنا، فقيل: يجب أن يستفسر كالشهود، وقيل: لا يجب كما في القذف.
فصل
لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين.
وقال أبو حنيفة: إذا شهدوا متفرقين لا يثبت، وعليهم حد القذف.
وحجة الأول: أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين ومتفرقين. وأيضاً فكل حكم ثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين ثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام، بل هذا أولى، لأن مجيئهم متفرقين أبعد من التهمة وعن تلقن بعضهم من بعض، ولذلك إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم، وأيضاً فإنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة، بل إذا اجتمعوا عند القاضي قدَّم واحداً بعد واحد ويشهد، وكذا إذا اجتمعوا على بابه يدخل واحد بعد واحد.
واحتج أبو حنيفة بأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فيجب عليه الحد للآية، أقصى ما في الباب أنهم عبروا عن القذف بلفظ الشهادة، وذلك لا عبرة به، لأنه يؤدي إلى إسقاط حدّ القذف رأساً، لأن كل قاذف يمكن أن يقذف بلفظ الشهادة ويتوسل بذلك إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده.
وأيضاً فإن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر بن الخطاب: أبو
بكرة، وشبل بن معبد، ونافع، ونفيع، قال زياد: وقال رابعهم: رأيت استاً تنبو، ونفساً يعلو، ورجلاها على عاتقه كأذني حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فجلد عمر الثلاثة، ولم يسأل: هل معهم شاهد آخر؟ فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه.
فصل
لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ فقيل: يجب عليهم حد القذف لما تقدم آنفاً.
وقيل: لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود، ولأنا لو حَدَدْنَا لانسد باب الشهادة على الزنا، لأن كل واحد لا يأمن أن يوافقه صاحبه فيلزمه الحد.
فصل
لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا:
قال أبو حنيفة: يسقط الحد عن القاذف، ويجب الحد على الشهود.
وقال الشافعي في أحد قوليه: يُحَدُّون.
واحتج أبو حنيفة بأنه أتى بأربعة شهداء، فلا يلزمه الحد، والفاسق من أهل الشهادة، فقد وجدت شرائط الشهادة إلا أنه لم يقبل شهادتهم للتهمة.
واحتج الشافعي بأنهم ليسوا من أهل الشهادة.
قوله: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وهذا خطاب للإمام، أو للمالك، أو لرجل
صالح إذا فُقِد الإمام. ويخص من هذا العموم صور:
الأولى: الوالد إذا قذف ولده (أو ولد ولده) وإن سفل لا يجب عليه الحد، كما لا يجب عليه القصاص بقتله.
الثانية: القاذف إذا كان عبداً فالواجب جلده أربعين، وكذا المكاتب، وأم الولد، ومن بعضه حر، فقيل: كالرقيق. وقيل: بالحساب.
الثالثة: من قذف رقيقه، أو من زنت قديماً ثم تابت فهي محصنة ولا يجب الحد بقذفها.
فصل
قالوا: أشد الضرب في الحدود ضرب حد الزنا، ثم ضرب حدّ الخمر، ثم ضرب القاذف، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض.
فصل
قال مالك والشافعي: حدّ القذف يورث، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه.
وقيل: لا يورث إلا أن يطالب المقذوف قبل موته، فإن قذف بعد موته ثبت لوارثه طلب الحد. وعند أبي حنيفة: الحد لا يورث، ويسقط بالموت.
حجة الشافعي: أنه حق آدمي يسقط بعفوه، ولا يستوفى إلا بطلبه، ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر، وإذا كان حق آدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام:«مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلورثَتِهِ» .
وحجة أبي حنيفة: لو كان موروثاً لورثة الزوج والزوجة: ولأنه حق ليس فيه معنى المال فلا يورث كالوكالة والمضاربة.
وأجيب بأنا لا نسلم أن الزوج والزوجة لا يرثان، وإن سلم فالفرق بينهما أن الزوجية تنقطع بالموت، ولأن المقصود من الحدّ دفع العار عن النسب، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة.
فصل
إذا قذف إنساناً بين يدي الحاكم، أو قذف امرأته برجل بعينه، والرجل غائب
فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قذفك، وثبت لك حدّ القذف عليه، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلم، يجب عليه إعلامه، ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم َ - أنيساً ليخبرها أن فلاناً قذفها بابنه، ولم يبعثه ليتفحص عن زناها وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه يسأله عن ذلك.
قوله: {ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً} .
قال أكثر الصحابة والتابعين: إذا تاب قُبِلَتْ شهادته وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح: لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب. وأدلة المذهبين مذكورة في كتب الفقه، وهاهنا مبنية على أن الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل المتقدمة؟ فلذلك اختلف العلماء في قبول شهادته بنفس القذف، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته، سواء تاب بعد إقامة الحد أو قبله لقوله تعالى:{إِلَاّ الذين تَابُواْ} .
وقالوا: الاستثناء راجع إلى الشهادة وإلى الفسق، فبعد التوبة تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق، يروى ذلك عن عمر وابن عباس، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والشافعي.
وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب، وقالوا: الاستثناء يرجع إلى قوله: {وأولئك هُمُ الفاسقون} وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي.
وقالوا: بنفس القذف ترد شهادته ما لم يحد.
قال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات، فكيف تردون شهادته في أحسن حالته وتقبلونها في شر حالته.
وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة.
وقالوا: الاستثناء يرجع إلى الكل.
وعامة العلماء على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة.
فإن قيل: إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله: «أبَداً» ؟
قيل: معناه: لا تقبل شهادته أبداً ما دام مصرًّا على قذفه، لأن أبد كل إنسان على ما يليق بحاله، كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبداً، يراد: ما دام كافراً.
فصل
اختلفوا في كيفية التوبة بعد القذف.
فقيل: التوبة منه إكذابه نفسه بأن يقول: كذبت فلا أعود إلى مثله.
وقيل: لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقاً، فيكون قوله:«كذبت» كذباً، والكذب معصية، وإتيان المعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه. ولا بد من مضي مدة عليه بعد التوبة يحسن حاله فيها حتى تقبل شهادته، وقدر تلك المدة سنة حتى يمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأحوال والطباع كأجل العنِّين، وقد علق الشرع أحكاماً بالنسبة من الزكاة والجزية وغيرهما، وهذا معنى قوله:«وَأَصْلَحُوا» ، ثم قال:{فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي يقبل التوبة.
لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات.
قال ابن عباس: لما نزل قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَآءَ} [النور: 4] قال عاصم بن عدي الأنصاري: «إنْ دخل رجلٌ منا بيته فرأى رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال: وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت عن غيظ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له: عُوَيْمِر، وله امرأة يقال لها: خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصماً فقال: لقد رأيت شريك بن سَحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فقال: يا رسول الله، ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:» وما ذاك «؟ فقال: أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خوله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - لهم جميعاً، فقال لعويمر:» اتقِ اللَّهَ في زوجتكِ وابنة عمك، ولا تقذفها «فقال: يا رسول الله، تالله لقد رأيت شريكاً على بطنها، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، وإنها حبلى من غَيري. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -» اتّقي اللَّهَ ولا تخبرِي إلا بما صنعتِ «فقالت: يا رسول الله، إن عويمر رجلٌ غيور، وإنه رأى شريكاً يطيل النظر ويتحدث، فحملته الغيرة على ما قال، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ) بأن يؤذَّن: الصلاة جامعة، فصلى العصر ثم قال لعُوَيْمِر: قم وقل: أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثانية: أشهد أني رأيت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثالثة: أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمنَ الصادقين، ثم قال في الرابعة قل أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين، ثم قال في الخامسة: لعنة الله على عُوَيْمِر (يعني: نفسه) إن كان من الكاذبين. ثم قال: اقعد، وقال لخولة: قومي، فقامت وقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة: أشهد بالله ما أنا حُبْلى منه وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الرابعة: اشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه من الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عُوَيْمر من الصادقين في قوله، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم َ - بينهما» .
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم َ -
بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ -:» البينة وإلا حدٌّ في ظهرك «. فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم َ - يقول:» البينَةُ وإلَاّ حَدٌّ في ظهْرِك «. فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزيل جبريل عليه السلام وأنزل عليه: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ {إِن كَانَ مِنَ الصادقين} فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم َ - يقول:» إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ «؟ . ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة.
قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم َ -: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، حدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء. فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ -:» لَوْلَا مَا مَضَى من كتابِ الله عز وجل لكانَ لِي ولَهَا شَأْن «.
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال:» لما نزلت {والذين يَرْمُونَ المحصنات
…
} [النور: 4] الآية قال سعد بن عبادة: لو أتيت لَكَاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:«يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ» .
قالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها. قال سعد: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق، ولكن عجبت من ذلك، فقال عليه السلام:«فَإِنَّ اللَّهَ يَأْبَى إِلَاّ ذلك» . فقال: صدق الله ورسوله، قال: فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له: هلال بن أمية (من حديقة له) ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، فرأى
رجلاً مع امرأته يزني بها، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وهو جالس مع أصحابه، فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاءً فوجدتُ رجلاً مع امرأتي، رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - ما جاء به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم إني لصادق، وما قلت إلا حقاً، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - بضربه، قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، يُجْلَد هلال وتبطل شهادته، فإنهم لكذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ - يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل عليه الوحي، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ، فأنزل الله: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
…
إلى آخر الآيات} . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «أبشر يا هلال، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ فَرجاً» . فقال: كنت أرجو ذلك من الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «أرسلوا إلَيْها» فجاءت فكذبت هلال. فقال عليه السلام: «اللَّه يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُما كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ؟ وأمر بالملاعنة، وشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فقال عليه السلام له عند الخامسة:«اتَّقِ اللَّهَ يَا هلالُ، فإنَّ عذابَ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة» . فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله، وشهد الخامسة: أنَّ لعنةَ الله إِنْ كَانَ مِنَ الكاذِبين، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتشهدين "؟ فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، ثم قال لها عند الخامسة ووقفها:«اتقي الله فإنها الخامسة الموجبة، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس» . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كانَ من الصَّادقين. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - بينهما، وقضى أن الولد لها، ولا يدعى لأب، ولا يرمى ولدها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:«إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ فِيهِ» . فجاءت به غلاماً كأنه جمل أورق، على التشبيه المكروه، وكان بعد أميراً بمصر ولا يدرى من أبوه «.
فصل
إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن لم تكن محصنة، كما في رمي الأجنبي، إلا أن قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف، أو ببينة أربعة شهداء على الزنا.
وفي قذف الزوجة يسقط الحد عنه بأحد هذين الأمرين وباللعان.
وإنما اعتبر الشارع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات، لأنه لا معيرة عليه في زنا الأجنبية، والأولى له سترة.
وأما في الزوجة فيلحقه العار والنسب الفاسد، فلا يمكنه الصبر عليه.
فصل
إذا قذف زوجته ونكل عن اللعان لزمه حد القذف، فإذا لَاعَن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا. وقال أبو حنيفة: يجلس الناكل منهما حتى يلاعن.
حجة القول الأول: قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَاّ أَنفُسُهُمْ
…
} الآية؛ فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد.
وأيضاً قوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} والألف واللام في «العَذَاب» للمعهود السابق وهو الحدّ، وليس للعموم، لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب. ومما يدل على بطلان الحبس في حق المرأة أن تقول: إن كان الرجل صادقاً فحدُّوني، وإن كان كاذباً فخلوني. وليس حبس في كتاب الله وسنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس. واحتج أبو حنيفة بأن المرأة ما فعلت سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس بينة على الزنا ولا إقراراً منها به، فوجب ألا يجوز رجمها لقوله عليه السلام:«لا يَحلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ» الحديث. وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن، لأن لا قائل بالفرق. وأيضاً فالنكول بصريح الإقرار، فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره.
فصل
من صح يمينه صح لعانه، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين، وكذا إذا كان أحدهما رقيقاً، أو كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية.
فإن قيل: اللعان شهادة، فوجب ألا يصح إلا من أهل الشهادة. وإنما قلنا: اللعان شهادة، لقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} فسمى اللعان شهادة كقوله: «واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ» ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم َ - أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين، وإذا ثبت أن اللعان شهادة وجب ألا تقبل من المحدودين في القذف لقوله:{وَلَا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور: 4] ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر، إما للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة، أو لأنه لا قائل بالفرق.
فالجواب: أن اللعان ليس شهادة في الحقيقة، بل هو يمين مخصوصة، لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه ولأنه لو كان شهادة لكانت المرأة تأتي بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل، ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا تجوز شهادتهما فإن قيل: الفاسق والفاسقة قد يتوبان. قلنا: وكذلك العبد قد يعتق فتجوز شهادته.
فصل
قال عثمان البتي: إذا تَلَاعَنَ الزوجان لم تقع الفرقة، لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة، فلا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة، ولأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قوله، وهذا لا يوجب تحريماً، (ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريماً) ، فإذا كان كاذباً والمرأة صادقة فأولى ألا يوجب تحريماً.
وأيضاً لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة، فكذا عند الحاكم. وأيضاً فاللعان إسقاط الحد (فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد) .
وأيضاً فلو أكذب الزوج نفسه في قذفة إياها ثم حُدَّ لم يوجب ذلك الفرقة، فكذا إذا لَاعَن، لأن اللعان قائم مقام درء الحد.
وأما تفريق النبي صلى الله عليه وسلم َ - في قصة العجلاني، وكان قد طلقها ثلاثاً بعد اللعان فلذلك فرق بينهما.
وقال أصحاب الرأي: لا تقع الفرقة بفراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما، لما روى سهل بن سعد في قصة العجلاني مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ولأن في قصة عويمر أنهما لما فرغا قال: كذبتُ عليْهَا يا رسول الله إن أمسكتها، هي طالق ثلاثاً، (فطلقها ثلاثاً) قبل أن يأمرهما، ولو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله: كذبت عليها إن أمسكتُها، لأن إمساكها غير ممكن، ولأن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم، فوجب ألا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم، كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم وقال مالك والليث وزفر:(إذا فرغا) من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم بينهما، لأنه لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا، بل فرق بينهما، فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة.
وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة فقد زال فراش امرأته، ولا يحل له أبداً لقوله تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب
…
الآية} ، فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج، ولأن لعان الزوج مستقلّ بنفي الولد، فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها.
فصل
في كيفية اللعان
وهو مذكور في الآية صريحاً. قال العلماء: يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة،
وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب ويقول له: إني أخاف إن لم تكن صادقاً. ويكون اللعان عند الحاكم، فإن كان بمكة كان بين المقام والركن، وإن كان بالمدينة عند المنبر، وبيت المقدس في مسجده، وفي المواضع المعظمة. ولعان المشرك في الكنيسة وأما في الزمان فيوم الجمعة بعد العصر، ولا بد من حضور جماعة، وأقلهم أربعة. وهذا التغليظ قيل: واجب. وقيل: مستحب.
فصل
معنى الآية: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أي: يقذفون نساءهم {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ} يشهدون على صحة ما قالوا «إلَاّ أَنْفُسُهُمْ» أي: غير أنفسهم {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} .
قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَاّ أَنفُسُهُمْ} . في رفع «أنفسهم» وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «شُهَدَاءُ» ، ولم يذكر الزمخشري في غضون كلامه (غيره) .
والثاني: أنه نعت له على أن «إلا» بمعنى: غير.
قال أبو البقاء: ولو قرئ بالنصب لجاز على أن يكون خبر «كانَ» ، أو منصوباً على الاستثناء، وإنما كان الرفع هنا أقوى لأن «إلا» هنا صفة للنكرة كما ذكرنا في سورة الأنبياء.
قال شهاب الدين: وعلى قراءة الرفع يحتمل أن تكون «كان» ناقصة، وخبرها الجار، وأن تكون تامة، أي: ولم يوجد لهم شهداء.
وقرأ العامة «يَكُنْ» بالياء من تحت، وهو الفصيح، لأنه إذا أسند الفعل لما بعد «إلا» على سبيل التفريغ وجب عند بعضهم التذكير في الفعل نحو «ما قام إلا هند» ولا يجوز «ما قامت» إلا في ضرورة كقوله:
3815 -
وَمَا بَقِيَتْ إِلَاّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ
…
أو في شذوذ، كقراءة الحسن:{لَا تُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ} .
وقرئ: «وَلَمْ تَكُنْ» بالتاء من فوق، وقد عرف ما فيه.
قوله: «فَشَهَادةُ أَحَدِهِمْ» في رفعها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ، وخبره مقدر التقديم، أي: فعليهم شَهَادة، أو مؤخر أي: فشهادة أحدهم كافية أو واجبة.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: فالواجب شهادة أحدهم.
الثالث: أن يكون فاعلاً بفعل مقدر، أي: فيكفي، والمصدر هنا مضاف للفاعل.
وقرأ العامة: «أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ» بالنصب على المصدر، والعامل فيه «شَهَادة» . فالناصب للمصدر مصدر مثله كما تقدم في قوله:{فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] . وقرأ الأخوان وحفص برفع «أَرْبَعُ» على أنها خبر المبتدأ، وهو قوله:«فَشَهادةُ» . ويتخرج على القراءتين تعلق الجار في قوله: «بِاللَّهِ» .
فعلى قراءة النصب يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «شَهَادَاتٍ» لأنه أقرب إليه.
والثاني: أنه متعلق بقوله: «فَشَهَادَةُ» أي: فشهادة أحدهم بالله، ولا يضر الفصل ب «أَرْبَعُ» لأنها معمولة للمصدر فليست أجنبية.
الثالث: أن المسألة من باب التنازع، فإن كلاًّ من «شَهَادَةُ» أو «شَهَادَاتٍ» يطلبه من حيث المعنى، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول، وهو مختار البصريين وعلى قراءة الرفع يتعين تعلقه ب «شَهَادَاتٍ» إذ لو علقت ب «شَهَادةُ» لزم الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، ولا يجوز أنه أجنبي.
ولم يختلف في «أَرْبَعَ» الثانية، وهي قوله:{أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} أنها منصوبة، للتصريح بالعامل فيها وهو الفعل.
قوله: «والخَامِسَةُ» اتفق السبعة على رفع «الخَامِسَةُ» الأولى، واختلفوا في الثانية: فنصبها حفص. ونصبهما معاً الحسن والسلمي وطلحة والأعمش.
فالرفع على الابتداء، وما بعده من «أَنَّ» وما في حيزها الخبر.
وأما نصب الأولى فعلى قراءة من نصب «أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ» يكون النصب للعطف على المنصوب قبلها. وعلى قراءة من رفع يكون النصب بفعل مقدر، أي: وتشهد الخامسة.
وأما نصب الثانية فعطف على ما قبلها من المنصوب وهو «أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ» ، والنصب هنا أقوى منه في الأولى لقوة النصب فيما قبلها كما تقدم تقريره، ولذلك لم يختلف فيه.
وأما «أَنَّ» وما في حيزها فعلى قراءة الرفع يكون في محل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم، وعلى قراءة النصب يكون على إسقاط الخافض ويتعلق الخافض بذلك الناصب
ل «الخامسة» أي: ويشهد الخامسة بأنَّ لعنة الله، وبأن غضب الله وجوَّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من «الخَامِسَة» .
قوله: {أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ} .
قرأ العامة بتشديد «أنَّ» في الموضعين.
وقرأ نافع بتخفيفها في الموضعين، إلا أنه يقرأ «غَضِبَ اللَّهُ» يجعل «غَضِبَ» فعلاً ماضياً، والجلالة فاعله، كذا نقل أبو حيان عنه التخفيف في الأولى أيضاً، ولم ينقله غيره. فعلى قراءته يكون اسم «أَن» ضمير الشأن في الموضعين، و «لَعنةُ اللَّهِ» مبتدأ و «عَلَيْهِ» خبرها، والجملة خبر «أَنْ» ، وفي الثانية يكون «غَضِبَ اللَّهُ» جملة فعلية في محل خبر «أَنْ» أيضاً. ولكنه يقال: يلزمكم أحد أمرين: وهو إمَّا عدم الفصل بين المخففة والفعل الواقع خبراً، وإما وقوع الطلب خبراً في هذا الباب، وهو ممتنع.
تقرير ذلك: أن خبر (أنْ) المخففة متى كان فِعْلاً متصرفاً غير مقرون ب «قَدْ» وجب الفصل بينهما بما تقدم في سورة المائدة.
فإن أجيب بأنه دعاء، اعترض بأن الدعاء طلب، وقد نصوا على أن الجمل الطلبية لا تقع خبراً ل «أَنَّ» ، حتى تأولوا قوله:
3816 -
إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ
…
وقوله:
3817 -
إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ
…
لَا تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
على إضمار القول.
ومثله: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسُّلَمي وعيسى بتخفيف «أن» و «غَضَبُ الله» بالرفع على الابتداء، والجار بعده خبره، والجملة خبر «أَنْ» .
وقال ابن عطية: و (أَنْ) الخفيفة على قراءة (نافع) في قوله: (أَنْ غَضِب) قد وليها الفعل. قال أبو علي: وأهل العربية يستقبحون أن يَلِيهَا الفعل، إِلَاّ أن يُفْصل بينها وبينه بشيء، نحو قوله:
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ} [المزمل: 20]، {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ} [طه: 89] ، فأما قوله:{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ} [النجم: 39] فذلك لقلة تمكن (ليس) في الأفعال، وأما قوله:{أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] و (بُورِكَ) في معنى الدعاء، فلم يجئ دخول الفاعل لئلا يفسد المعنى، فظاهر هذا أن (غَضِب) ليس دعاء، بل هو خبر عن {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْها} . والظاهر أنه دعاء كما أن (بُورِكَ) كذلك، وليس المعنى على الإخبار فيهما فاعتراض أبي علي وأبي محمد ليس بمرضي.
قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ الله} .
جواب: «لَوْلَا» محذوف أي: لهلكتم أو لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان، {وَأَنَّ الله تَوَّابٌ} يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة «حَكِيمٌ» فيما فرض من الحدود.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} الآية.
في خبر «إِنَّ» وجهان:
أحدهما: أنه عصبةٌ و «مِنْكُمْ» صفته. قال أبو البقاء: «وبه أفاد الخبر» .
والثاني: أن الخبر الجملة من قوله: «لَا تَحْسَبُوهُ» ، ويكون «عُصْبَةٌ» ، بدلاً من فاعل «جَاءوا» . قال ابن عطية: التقدير: إنَّ فعل الذين، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون «عُصْبَةٌ» خبر (إِنَّ) . كذا أورده عنه أبو حيان غير معترض عليه؛
والاعتراض عليه واضح من حيث أنه أوقع خبر «إِنَّ» جملة طلبية، وقد تقدم أنه لا يجوز وإن ورد منه شيء في الشعر أُوِّلَ كالبيتين المتقدمين. وتقدير ابن عطية ذلك المضاف قبل الموصول ليصحّ به التركيب الكلامي، إذ لو لم يقدر لكان التركيب «لَا تَحْسَبُوهُمْ» .
ولا يعود الضمير في «لا تَحْسَبُوهُ» على قول ابن عطية على الإفك لئلا تخلو الجملة من رابط يربطها بالمبتدأ.
وفي قول غيره يجوز أن يعود على الإفك، أو على القذف، أو على المصدر المفهوم من «جَاءُوا» ، أو على ما نال المسلمين من الغم.
فصل
سبب نزول هذه الآية ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم رووا عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، قالت: فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل بني المصطلق فخرج بها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج فسِرْنَا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين نزل منزلاً ثم آذَنَ بالرحيل، فقمت حين آذنوا ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني
أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظَفَار وقد انقطع، فرجعت والتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يُهْبَّلْنَ ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العُلْقَة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن فظنوا أني في الهودج، وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّت الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب شيء، فلما رآني عرفني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحتله فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها، وانطلق يقود بي حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، وافتقدني
الناس حين نزلوا، وماج الناس في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم، فتكلم القوم وخاضوا في حديثي.
قالت: فَهَلَك مَنْ هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أُبيّ ابن سَلولٍ. قال عروة: لم يسلم من الإفك إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أُثاثة، وحمنة بنت جحش. في أناس آخرين لا علم بهم غير أنهم عصبة كما قال عز وجل. قال عروة: وكانت عائشة تكره أن يُسَب عندها حسان وتقول: إنه هو الذي قال:
3818 -
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قالت عائشة: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ) المدينة، ولم أر فيه عليه السلام ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، فاشتكيت حتى قدمت شهراً، وهو يريبني في وجعي أنَّي لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فيسلم ثم يقول:«كيف تيكُمْ» ؟ ثم ينصرف، فذلك يَريبُني، ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مِسْطَح قِبَلَ المناصع وكان
متبرَّزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى الليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا قالت: فانطلقت أنا وأم مِسْطَح، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف. وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابنُها مِسْطَح بن أُثَاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مِسْطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مِسْطَح في مرطها، فقالت: تعس مِسْطَح. فقلت لها: بئس ما قلت، أَتَسُبِّين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، وقالت: أشهد بالله إنك من المؤمنات الغافلات. فازددتُ مرضاً على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - ثم قال:«كيف تِيكُمْ» ؟ فقلت له أتأذن لي أن آتي أَبَوَيّ؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فقلت لأمي: يا أماه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هَوِّني عليك، فوالله لقلَّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراء إلا كَثَّرنَ عليها.
فقلت: سبحان الله، أو لقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأُ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فدخل عليَّ أبي وأنا أبكي، فقال لأمي: ما يبكيها؟ قالت: لم تكن علمت ما قيل فيها، فأقبل يبكي. قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق
أهله، فقال أسامة: يا رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيراً. وأما عليّ فقال: لم يضيِّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تَصْدُقكَ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بَرِيرَة، فقال:«هَلْ رأيتِ من شيء يُريبُك» ؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق نبياً ما رأيت عليها أمراً قط أغضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام نبي الله خطيباً على المنبر فقال: يا معشر المسلمين من يعذرُني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي - يعني: عبد الله بن أُبيّ - فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أخو بني الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعْذِرُك فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً، ولكن أخذته الحمية، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله لا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حُضَير، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتله، وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ - على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا. قالت: فبكيتُ يَوْمِي ذلك كله وليلتي لا يَرْقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أني لأظنّ أن البكاء فالق كبدي، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن على ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - علينا فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل فِيَّ ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - حين جلس ثم قال: أمَّا بعد يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن
كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه قالت: فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - مقالته قلص دمعي حتى ما أحسُّ منه قطرة، (فقلت) لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فيما قال.
فقال: والله ما أردي ما أقول لرسول الله. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فقالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فقلت وأنا جارية حديثة السِّن لا أقرأ من القرآن كثيراً: إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقونني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم وأنا أعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى، ولَشَأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأَمْرٍ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر فيه العرق مثل الجمان في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه. قالت: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وهو يضحك، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال:«يا عائشة، أما الله قد برأك» قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: فوالله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله. قالت: وأنزل الله {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ. .} العشر آيات. فقال أبو بكر: والله لا أنفق على مِسْطَح بعدها، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره، فأنزل الله:{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة. .} [النور: 22] إلى قوله: «غَفُورٌ رَحِيمٌ» . فلما سمع أبو بكر قوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22] قال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى النفقة على مِسْطح وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
قال: فلما نزل عُذْري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فذكر
ذلك وتلا القرآن، فلما نزل ضرب عبد الله بن أُبيِّ ومِسْطَح وحسَّان وحَمنَة الحد.
فصل
الإفك: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وهو أسوأ الكذب. وسمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق من قولهم: أفك الشيء: إذا قلبه عن وجهه. قيل: هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد: ما أفك به على عائشة.
وإنما وصف الله ذلك الكذب بكونه إفكاً لكون المعروف من حال عائشة خلافه، وذلك من وجوه:
الأول: أن كونها زوجة المعصوم يمنع من ذلك، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعونهم ويستعطفونهم، فيجب ألا يكون معهم ما ينفر عنهم، وكون زوجة الإنسان مسافحة من أعظم المنفرات.
فإن قيل: كيف جاز أن تكون امرأة الرسول كافرة كامرأة نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ وأيضاً فلو لم يجز لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما خاف ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة؟
فالجواب عن الأول: أن الكفر ليس من المنفرات بخلاف الفجوز فإنه من المنفرات.
والجواب عن الثاني: أنه عليه السلام كثيراً ما يكون يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد ذلك، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] فهذا من ذاك الباب.
الثاني: أن المعروف من عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به.
الثالث: أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم، وكلام المفتري ضرب من الهذيان. فلمجموع هذه كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي.
فصل
العُصْبَةُ: قيل: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وكذلك العِصَابَة، وهم عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم.
قوله: «كِبْرَهُ» العامة على كسر الكاف.
وضمّها في قراءته الحسن والزهري وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعَمْرة بنت عبد الرحمن. ورويت أيضاً عن أبي عمرو والكسائي.
فقيل: هما لغتان في مصدر: كبر الشيء، أي: عظم، لكن غلب في الاستعمال أن المضموم في السن والمكانة، يقال: هو كُبر القوم بالضم، أي: أكبرهم سناً أو مكانة، وفي الحديث قصة مُحَيْصَة وحويصة:«الكُبْرَ الكُبْرَ» .
وقيل: بالضم: معظم الإفك. وبالكسر: البداءة. وقيل: بالكسر: الإثم.
قوله: «مِنْكُم» معناه: إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون، لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهراً.
قوله: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} هذا شرح حال المقذوف وليس خطاب مع القاذفين.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين:
أحدهما: أنه لم يتقدم ذكرهم.
والثاني: أن المقذوفين هم عائشة وصفوان، فكيف يحمل عليهما صيغة الجمع في قوله:{لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} ؟
فالجواب عن الأول: أنه تقدم ذكرهم في قوله: «مِنْكُمْ» .
وعن الثاني: أن المراد من لفظ الجمع: كل من تأذّى بذلك الكذب، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم َ - تأذّى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به.
فإن قيل: فمن أي جهة يصير خيراً لهم مع أنه مَضَرّة؟
فالجواب: لوجوه:
أحدها: أنهم صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين.
وثانيها: لولا إظهار الإفك كان يجوز أن يبقى الهَمُّ كامِنٌ في صدور البعض، وعند الإظهار انكشف كذب القوم.
وثالثها: صار خيراً لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية، كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة، وشهد الله بكذب القاذفين، ونسبهم إلى الإفك، وأوجب عليهم اللعن والذم، وهذا غاية الشرف والفضل.
ورابعها: صيرورتها بحال تعلق الكفر بقذفها، فإن الله لما نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه، فكل من شك فيه كان كافراً قطعاً، وهذه درجة عالية.
وقال بعضهم: قوله تعالى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} خطاب مع القاذفين وجعل الله خيراً لهم من حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة، ومن حيث تاب بعضهم عنده. وهذا القول ضعيف، لأنه تعالى خاطبهم بالكاف، ولما وصف أهل الإفك خاطبهم بالهاء بقوله:{لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم} ، ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة، فالمراد: لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا، والمعنى: أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض.
قوله: {والذي تولى كِبْرَهُ} . أي: الذي قام بإشاعة هذا الحديث وهو عبد الله بن (أبيّ ابن) سلول. والعذاب العظيم هو النار في الآخرة.
روي عن عائشة في حديث الإفك قالت: ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين، وكان عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس، فقال عبد الله بن أبي رئيسهم: من هذه؟ قالوا: عائشة. قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقودها. وشرع في ذلك أيضاً حسان بن ثابت، ومِسْطَح، وحمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله، فهم الذين تولوا كِبْرَه. والأقرب أنه عبد الله بن أُبيّ، فإنه كان منافقاً يطلب ما يقدح في (الرسول) .
قال مسروق: دخلتُ على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعراً يشبب بأبيات له وقال:
3819 -
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
…
وَتُصْبحُ غَرْثَى مِنْ لحُومِ (الغَوَافِلِ)
فقالت له عائشة: «لكنك لست كذلك» .
قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله: « {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ؟ قالت:» وأيُّ عذابٍ أشد من العمى «.
وروي أن عائشة ذكرت حسان وقالت: «أَرْجُو لَهُ الجنةَ» . فقيل: أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت: «إذا سَمِعْتُ شِعْرَهُ في مدحِ الرسولِ رَجَوْتُ لَهُ الجَنَّةَ» وقال عليه السلام: «إِنَّ الله يؤيد حسان بروح القدس في شعره» .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم َ أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعاً.
فصل
المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئاَ بذلك القول، فلا جرم حصل له من العقاب ما حصل لكل من قال ذلك، لقوله عليه السلام:«من سنَّ سُنّة سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
وقال أبو مسلم: «سبب تلك الإضافة شدة الرغبة في إشاعة تلك الفاحشة» .
قوله تعالى: {لولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} «لَوْلَا» هذه تحضيضية، أي: هَلَاّ، وذلك كثير في اللغة إذا كانت تلي الفعل كقوله:«لَوْلَا أَخَّرْتَنِي» وقوله: «فَلَوْلَا كَانَتْ» .
فأما إذا ولي الاسم فليس كذلك كقوله: {لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31]، {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النور: 21] . و «إذْ» منصوب ب «ظَنَّ» والتقدير: لولا ظَنَّ المؤمنون بأنفسهم إذ سَمِعْتُمُوه. وفي هذا الكلام التفات. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: لولا إذ سمعتموه، ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم، ولِمَ عَدَل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت: ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق (أحد قالةً في أخيه، وألا يظن بالمسلمين إلا خيراً) .
وقوله: «وَلِمَ عدل عن الخطاب» ؟ يعني في قوله: «وَقَالُوا» فإنه كان الأصل: «وقلتم» ، فعدل عن هذا الخطاب إلى الغيبة في «وَقَالُوا» .
وقوله: «وعن الضمير» يعني أن الأصل كان «ظَنَنْتُمْ» فعدل عن ضمير الخطاب إلى لفظ المؤمنين.
فصل
المعنى: هلَاّ {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ} بإخوانهم «خَيْراً» .
وقال الحسن: بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة، كقوله:{وَلَا تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]{فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61] المعنى: بأمثالكم من المؤمنين.
وقيل: جعل المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى
على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم، كما قال عليه السلام «مَثَلُ المُسْلِمينَ في تَوَاصُلِهِمْ وتراحُمِهِمْ كمثل الجَسَد إذا وجع بعضه وجع كله بالسَّهر والحُمَّى» ، وقال عليه السلام:«المؤمنُون كالبُنْيَانِ يشدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» .
وقوله: {هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي: كذب بين.
قوله: «لَوْلَا جَاءُوا» : هَلَاّ جاءوا {عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} أي: على ما زعموا يشهدون على معاينتهم ما رَمَوْها به {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ} ولم يقيموا بينةً على ما قالوه {فأولئك عِندَ الله} أي: في حكمه «هُمُ الكَاذِبُون» .
فإن قيل: كيف يصيرون عند الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت؟
فالجواب: معناه: كذبوهم بأمر الله.
وقيل: هذا في حق عائشة خاصة، فإنهم كانوا عند الله كاذبين.
وقيل: المعنى: في حكم الكاذبين، فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب، والقاذف إذا لم يأت بالشهود فإنه يجب زجره، فلما (كان) شأنه (شأن) الكاذب في الزجر أطلق عليه أنه كاذب مجازاً.
قوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ} . «إذْ» منصوب ب «الكَاذِبُونَ» في قوله: {فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} ، وهذا كلام في قوة شرط وجزاء.
الإفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} . (وهذا زجر) و «لَوْلَا» هاهنا لامتناع الشيء لوجود غيره ويقال: أفاض في الحديث: اندفع وخاض. والمعنى: ولو أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال، وأتَرَحَّم عليكم في الآخرة بالعفو، لعاجلتُكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك.
وقيل: المعنى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لمَسَّكُم العَذَابُ في الدُّنْيَا والآخرة معاً، فيكون فيه تقديم وتأخير. وهذا الفضل هو حكم الله لمن تاب.
وقال ابن عباس: المراد بالعذاب العظيم أي: عذاب لا انقطاع له. أي: في الآخرة لأنه ذكر عذاب الدنيا من قبل فقال: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] وقد أصابه، فإنه جلد وحدّ.
قوله: «إذْ تَلَقَّوْنَهُ» . «إذْ» منصوب ب «مَسَّكُمْ» أو ب «أَفَضْتُمْ» .
وقرأ العامة: «تَلَقَّوْنَهُ» والأصل: تَتَلَقَّوْنَهُ، فحُذِفَ إحدى التاءين ك «تَنَزَّل» ونحوه، ومعناه: يَتَلَقَّاهُ بعضكُمْ من بعضٍ.
قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا وكذا، يتلقونه تلقياً.
قال الزجاج: يلقيه بعضهم إلى بعض.
والبَزِّي على أصله في أنه يُشَدِّدُ التَّاءَ وَصْلاً، وتقدم تحقيقه في البقرة نحو «ولا تَيَمَّمُوا» وهو هناك سهل، لأن ما قبله حرف لين بخلافه هنا.
وأبو عمرو والكسائي وحمزة على أصولهم في إدغام الذال في التاء.
وقرأ أُبيّ: «تَتَلَقَّوْنَهُ» بتاءين، وتقدم أنها الأصل. وقرأ ابن السميفع في رواية عنه:«تُلْقُونه» بضم التاء وسكون اللام وضم القاف مضارع: ألقى إلقاء.
وقرأ هو في رواية أخرى: «تَلْقَونه» بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف مضارع: لقي. وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الرجل: إذا كذب. قال ابن سيدة: جاءوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي، وعندي أنه أراد: تلقون فيه، فحذف الحرف، ووصل الفعل للضمير، يعني: أنهم جاءوا ب «تَلَقَّوْنَهُ» وهو متعد مفسراً ب «تكذبون» وهو غير متعد، ثم حمله على ما ذكر. وقال الطبري وغيره: إن هذه اللفظة مأخوذة من الوَلَق وهو الإسراع بالشيء بعد الشيء، كعَدْوٍ في إثْر عدو، وكلامٍ في إثر كلامٍ، يقال: ولق في سيره أي: أسرع، وأنشد:
3820 -
جَاءَتْ بِهِ عِيسٌ مِنَ الشَّامِ تَلِقْ
…
وقال أبو البقاء: أي: يُسْرِعُون فيه، وأصله من «الولق» وهو الجنون.
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر: «تَأْلِقُونَهُ» بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة من «الأَلَق» وهو الكَذِبُ. وقرأ يعقوب: «تِيلَقُونه» بكسر التاء من فوق،