الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعدها ياء ساكنة ولام مفتوحة وقاف مضمومة، وهو مضارع «وَلِق» بكسر اللام، كما قالوا:«تيجل» مضارع «وَجِل» . وقوله: «بِأَفْوَاهِكمْ» كقوله: «يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ» وقد تقدم.
فصل
اعلم أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام، وعلق مس العذاب العظيم بها.
أحدها: تلقي الإفك بألسنتهم، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل يقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع واشتهر، ولم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. فكأنهم سعوا في إشاعة الفاحشة، وذلك من العظائم.
وثانيها: أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم، ونظيره:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .
وثالثها: أنهم كانوا يستصغرون ذلك، وهو عظيمة من العظائم.
وتدل الآية على أن القذف من الكبائر لقوله: {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} ، وتدل على أن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه.
ونبه بقوله: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً» على أن عمل المعصية لا يختلف بظن فاعله وحسبانه، بل ربما كان ذلك مؤكداً لعظمه.
فإن قيل: ما معنى قوله: «بِأَفوَاهِكُمْ» والقول لا يكون إلاّ بالفم؟
فالجواب: معناه: أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه باللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به كقوله:{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:
16
7] .
قوله
: {ولولاا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} كقوله: {لولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ} [النور: 12] ولكن الالتفات فيه قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين (لولا) و (قلتم) بالظرف؟ قلت:
للظروف شأن ليس لغيرها، لأنها لا ينفك عنها ما يقع فيها، فلذلك اتسع فيها.
قال أبو حيان: «وهذا يوهم اختصاص ذلك بالظروف، وهو جائز في المفعول به، تقول: لولا زيداً ضربتُ، ولولا عَمْراً قتلتُ» .
وقال الزمخشري أيضاً: فإن قلت: أي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقِعَ فاصلاً؟ قلت: الفائدة فيه: بيان أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب تقديمه. فإن قلت: ما معنى «يكون» والكلام بدون مُتْلَئِب لو قيل: ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت: معناه: ينبغي ويصح، أي: ما ينبغي وما يصح كقوله: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ} [المائدة: 116] .
فصل
قوله: {ولولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ} هذا اللفظ هنا معناه التعجب {هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي: كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته.
روي أن أم أيوب قالت لأبي أيوب الأنصاري: أما بلغك ما يقول الناس في عائشة؟ فقال أبو أيوب: «سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ» فنزلت الآية على وفق قوله.
قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ
…
} الآية وهذا من باب الزواجر،
أي: يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب، ولأن فيه الحد والنكال في الدنيا والعذاب في الآخرة، لكي لا تعودوا إلى مثل هذا الفعل أبداً.
قوله: «أَنْ تَعُودُوا» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله، أي: يعظكم كراهة أن تعودوا.
الثاني: أنه على حذف «في» أي: في أن تعودوا، نحو: وعطف فلاناً في كذا، فتركه.
الثالث: أنه ضمن معنى فعل يتعدى ب «عَنْ» ثم حذفت، أي: يَزْجُرُكُمْ بالوعظ عن العود.
وعلى هذين القولين يجيء القولان في محل «أنْ» بعد نزع الخافض.
قال ابن عباس: «يحرم الله عليكم» .
وقال مجاهد: «يَنْهَاكم اللَّهَ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أبداً إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم الآيَات» في الأمر والنهي «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بأمر عائشة وصفوان «حَكِيمٌ» ببراءتهما.
واعلم أن العليم الحكيم هو الذي لا يأمر إلا بما ينبغي، ولا يهمل جزاء المستحقين فلهذا ذكر هاتين الصفتين وخصهما بالذكر.
فصل
استدلت المعتزلة بقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} على أن ترك القذف من الإيمان، لأن المعلق على الشرط يعدم عند عدم الشرط.
وأجيبوا بأن هذا معارض بقوله: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} [النور: 11] أي: منكم أيها المؤمنون، فدل ذلك على أن القذف لا يوجب الخروج عن الإيمان، وإذا ثبت التعارض حملنا هذه الآية على التهيج في الاتعاظ والانزجار.
فصل
قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد مَنْ جميع من وعظه مجانبة ذلك في المستقبل وإن كان فيهم من لا يطيع، فمن هذا الوجه يدل على أنه يريد منهم كلهم
الطاعة وإن عصوا، ولأن قوله:{يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ} ، أي: لكي لا تعودوا لمثله، وذلك يدل على الإرادة، وتقدم الجواب عنه مراراً.
فإن قيل: هل يجوز أن يسمى الله واعظاً لقوله: «يَعِظُكُم اللَّهُ» ؟ فالأظهر أنه لا يجوز، كما لا يجوز أن يسمى الله معلماً لقوله:{الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1 - 2] .
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} الآية.
لمَّا بين ما على الإفك وعلى مَنْ سُمِع مِنْهُ وما ينبغي أن يتمسكوا به من آداب الدين أتبعه بقوله: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا كما شارك فيه من فعله.
والإشاعة: الانتشار، يقال: في هذا العقار سهم شائع: إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلاً. وشاع الحديث: إذا ظهر في الجميع ولم يكن منفصلاً. وشاع الحديث: إذا ظهر في العامة. والمعنى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ} أن يظهر ويذيع الزنا {فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة} يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين والعذاب في الدنيا: الحد. وفي الآخرة: النار.
وظاهر الآية يتناول كل من كان بهذه الصفة.
والآية إنما نزلت في قَذَفَةِ عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وهذا حسن الموقع في هذا الموضع، لأن محبة القلب كافية ونحن لا نعلمها إلا بالإبانة، وأما الله - سبحانه - فإنه لا يخفى عليه، وهذا نهاية في الزجر، لأن من أحبّ إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله يعلم ذلك منه، ويعلم قدر الجزاء عليه.
وهذه الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم ذنب، وأن إرادة الفسق فسق، لأنه تعالى علق الوعيد بمحبّة إشاعة الفاحشة.
فصل
قالت المعتزلة: إن الله بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة، فلو كان تعالى هو
الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو، فكان يجب ألا يستحق الذم على إشاعة الفاحشة إلا هو، لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة، وغيره لم يفعل شيئاً، وتقدم الكلام على (نظيره) .
قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} جواب «لولا» محذوف، أي: لعاجلكم بالعقوبة.
قال ابن عباس: يريد مسطحاً وحسان وحَمْنة. ويجوز أن يكون الخطاب عاماً.
وقيل: جوابه في قوله: {مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} .
وقيل: جوابه: لكانت الفاحشة تشيع فتعظم المضرة، وهو قول أبي مسلم. والأقرب أن جوابه محذوف، لأن قوله من بعد:{وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ} كالمنفصل من الأول، فلا يكون جواباً للأول خصوصاً (وقد) وقع بين الكلامين كلام آخر.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} الآية قرئ «خُطُوَاتِ» بضم الطاء وسكونها. والخُطُوات: جمع خُطْوة وهو من خَطَا الرجلُ يَخْطُوا خَطْواً فإذا أردت الواحدة قلت: خَطْوَة مفتوحة الأول، والمراد بذلك: السيرة.
والمعنى: لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة، والله
تعالى وإن خص بذلك المؤمنين، فهو نهي لكل المكلفين، لأن قوله:{وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء} منع لكل المكلفين من ذلك والفحشاء: ما أفْرَط قُبْحُهُ. والمُنْكَر: ما تنكره النفوس، فتنفر عنه ولا ترتضيه.
قوله: «فإنه يأمر» في هذه الهاء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها ضمير الشأن، وبه بدأ أبو البقاء.
والثاني: أنها ضمير الشيطان.
وهذان الوجهان إنما يجوزان على رأي من لا يشترط عود الضمير على اسم الشرط من جملة الجزاء.
والثالث: أنه عائد على «مَنْ» الشرطية.
قوله: «مَا زَكَى» . العامة على تخفيف الكاف، يقال: زَكَا يَزْكُو، وفي ألفه الإمالة وعدمها. وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بتشديدها. وكتبت ألفه ياء، وهو شاذ، لأنه من ذوات الواو كغزا، وإنما حمل على لغة من أمال، أو على كتابة المشدد.
فعلى قراءة التخفيف يكون «مِنْ أحَدٍ» فاعلاً. وعلى قراءة التشديد يكون مفعولاً، و «مِنْ» مزيدة على كلا التقديرين، والفاعل هو الله تعالى.
فصل
قال مقاتل: ما زَكَا: ما صلح.
وقال ابن قتيبة: ما (ظهر) .
وقيل: من بلغ في الطاعة لله مبلغ الرضا، (يقال: زكا الزرع) ، فإذا بلغ المؤمن
في الصلاح في الدين ما يرضاه (تعالى) سمي زكياً، فلا يقال: زكى إلا إذا وجد زاكياً، كما لا يقال لمن ترك الهدى: هداه الله مطلقاً، بل يقال: هداه الله فلم يهتد. ودلت الآية على أن الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد، لأن التزكية كالتسويد والتحمير، فكما أن التسويد يحصل السواد، فكذا التزكية تحصل الزكاء في المحل.
والمعتزلة حملوها هنا على فعل الإلطاف، أو على الحكم بكون العبد زكياً، وهو خلاف الظاهر، ولأن الله تعالى قال:{ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} علق التزكية على الفضل والرحمة، وخلق الإلطاف واجباً فلا يكون معلقاً بالفضل والرحمة، وأما الحكم بكونه زكياً فذلك واجب، لأنه لولا الحكم له لكان كذباً (و) الكذب على الله محال، فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة؟ .
فصل
قال ابن عباس في رواية عطاء: هذا خطاب للذين خاضوا في الإفك، ومعناه: ما ظهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل، أي: ما قبل منكم توبة أحد أبداً، {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} يطهر «مَنْ يَشَاءُ» من الذنب بالرحمة والمغفرة {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: يسمع أقوالكم في القذف، وأقوالكم في البراءة و «عَلِيمٌ» بما في قلوبهم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهتها، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته.
قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} الآية.
يجوز أن يكون «يَأْتَلِ» : «يفتعل» ، من الألية، وهي الحلف، كقوله:
3821 -
وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلَّلِ
…
ونصر الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يَتَأَلَّ» من الأليَّة، كقوله:«مَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكَذبْهُ» .
ويجوز أن يكون «يفتعل» من أَلَوْت، أي: قَصَّرْتُ، كقوله تعالى:{لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] قال:
3822 -
وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَة نَفْسِهِ
…
بمُدْرِكِ أَطْرَافِ الخُطُوبِ وَلَا آلِ
وقال أبو البقاء: وقرئ: «وَلَا يَتَأَلَّ» على «يَتفعل» وهو من الألية أيضاً، ومنه:
3823 -
تَألَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لَيَرُدُّنِي
…
إلى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَائِدُ
قوله: «أَنْ يُؤْتُوا» هو على إسقاط الجار، وتقديره على القول الأول: ولا يأتل أولو الفضل على أن لا يحسنوا. وعلى الثاني: ولا يقصر أولو الفضل في أن يحسنوا.
وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسيم وابن قطيب: «تؤتوا» بتاء الخطاب، وهو التفات موافق لقوله:«أَلَا تُحِبُّون» . وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين «ولتعفوا ولتصفحوا» بالخطاب وهو موافق لما بعده.
فصل
المشهور أن معنى الآية: لا يحلف أولو الفضل، فيكون «افتعال» من الألية.
قال أبو مسلم: وهذا ضعيف لوجهين:
أحدهما: أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع عن الحلف على الإعطاء، وهم أرادوا المنع على ترك الإعطاء، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب، وجعل المنهي عنه مأموراً به.
الثاني: أنه قلما يوجد في الكلام «أَفتعَلت» مكان «أفعلت» (وإنما وجد مكان «فعلت» ) وهنا آليْتُ من الأليّة: «افْتَعَلْتُ» فلا يقال: أفعلت، كما لا يقال من ألزمت التزمت، ومن أعطيت اعتطيت. ثم قال في «يأتل» : إن أصله «يأتلي» ذهبت الباء للجزم لأنه نهي، وهو من قولك: مَا ألوتُ فلاناً نصحاً، ولم آل في أمري جُهْداً، أي: ما قصرت. ولا يأل ولا يأتل ولم يأل والمراد: لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم، ويوجد كثيراً «افْتَعَلْتُ» مكان «فَعَلْت» ، تقول: كسبتُ واكتسبت، وصنعتُ واصطنعتُ، وهذا التأويل مروي عن أبي عبيدة. قال ابن الخطيب:«وهذا هو الصحيح دون الأول» .
وأجاب الزجاج عن الأول بأن «لا» تحذف في اليمين كثيراً، قال الله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ} [البقرة: 224] يعني: أن لا تبروا، وقال امرؤ القيس:
3824 -
فَقُلْتُ يَمِين اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً
…
أي: لا أبرح.
وأجابوا عن السؤال الثاني أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظ باليمين، وقول واحد منهم حجة في اللغة، فكيف الكل؟ ويعضده قراءة الحسن:«ولا يَتَأَلَّ» .
فصل
قال المفسرون معناه: ولا يحلف {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} أي: أولوا الغنى،
يعني: أبا بكر الصديق {أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} يعني: مِسْطَحاً، وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً ابن خالة أبي بكر حلف أبو بكر لا ينفق عليه «وَلْيَعْفُوا وليصْفَحُوا» عنهم خوضهم في أمر عائشة «أَلَا تُحِبُّونَ» يخاطب أبا بكر {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله (لَكُمْ) والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فلما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - على أبي بكر قال:«بلى إنما أحب أن يغفر الله لي» ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال:«والله لا أنزعها منه أبداً» .
وقال ابن عباس والصحابة أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية.
فصل
أجمع المفسرون على أن المراد من قوله: «أولُوا الفَضْل» أبو بكر، وهذا يدل على أنه كان أفضل الناس بعد الرسول، لأن الفضل المذكور في الآية إما في الدنيا وإما في الدين، والأول باطل، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله بالدنيا غير جائز، ولأنه لو جاز ذلك لكان قوله:«والسَّعَة» تكريراً، فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين، فلو كان غيره مساوياً له في الدرجة في الدين لم يكن هو صاحب الفضل، لأن المساوي لا يكون فاضلاً، فلما أثبت الله له الفضل غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق تُرك العمل به في حق الرسول عليه السلام فيبقى معمولاً به في حق الغير.
وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو عليّ، فإذا تبين أنه ليس المراد عليًّا تعينت الآية في أبي بكر.
وإنما قلنا: ليس المراد عليًّا، لأن ما قبل الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر، ولأنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة، وأن عليًّا رضي الله عنه لم يكن من أولي السَّعة في الدنيا في ذلك الوقت، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعاً.
فصل
أجمعوا على أن مِسْطَحاً كان من البدريين، وصح عنه عليه السلام أنه قال: «
لَعَلَّ الله نظرَ إلى أهل بدر فقال: اعمَلُوا ما شِئْتُم، فقد غفرت لكم» فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدريًّا؟
والجواب: أنه لا يجوز أن يكون المراد منه: افعلوا ما شئتم من المعاصي، فيأمر بها، لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم، ولو حملناه على ذلك لأفضى إلى زوال التكليف عنهم، ولو كان كذلك لما جاز أن يحدّ مِسْطح على ما فعل، فوجب حمله على أحد أمرين:
الأول: أنه تعالى علم توبة أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير، فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة.
والثاني: أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة، فكأنه تعالى قال: قد غفرتُ لكم لعلمي بأنَّكم تموتون على التوبة والإنابة، فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة.
فصل
دلت الآية على أن (الأيمان على) الامتناع من الخير غير جائز، وإنما يجوز إذا حصلت داعية صارفة عنه.
فصل
مذهب الجمهور أنَّ من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه.
وقال بعضهم: إنه يأتي بالذي هو خير، وذلك هو كفارته، لأن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة. ولقوله عليه السلام:«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فرأى غيرها خيراً مِنْهَا فليأتِ الذي هو خير، وذلك كفارته» .
واحتج الجمهور بقوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89]، وقوله:{ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وقوله لأيوب عليه السلام:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها، بل كان يحنث بلا كفارة، وقال عليه السلام: «
مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينٍ فرَأَى غيرَها خيراً منْهَا فليأتِ الَّذِي هو خيرٌ وليكفِّرْ عن يمينه» .
وأما قولهم: إنَّ الله تعالى لم يذكر الكفارة في قصة أبي بكر، فإن حكمها كان معلوماً عندهم. وأما قوله عليه السلام:«وليأت الذي هو خير، وذلك كفارته» فمعناه: تكفير الذنب لا أنه الكفارة المذكورة في الكتاب.
فصل
روي عن عائشة أنها قالت: «فَضِلْتُ على أزواج النبي بعشر خصال:
تزوج رسول الله بي بكراً دون غيري، وأبواي مهاجران، وجاء جبريل بصورتي وأمره أن يتزوج بي، وكنت أغتسل معه في إنائه، وجبريل ينزل عليه وأنا معه في لحاف، وتزوج في شوال، وبنى بي في ذلك الشهر وقبض بين سحري ونحري، وأنزل الله عذري من السماء، ودفن في بيتي، وكل ذلك لم يساوني فيه غيري» .
قوله: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} العفائف «الغَافِلَات» عن الفواحش «المُؤْمِنَاتِ» والغافلة عن الفاحشة أي: لا تقع في مثلها، وكانت عائشة كذلك، فقال
بعضهم: الصيغة عامة، فيدخل فيه قَذَفَةُ عائشة وغيرها.
وقيل: المراد قذفة عائشة.
قالت عائشة: رميت وأنا غافلة، وإنما بلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله عندي إذ أوحى إليه، قال:«أبشري» وقرأ: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} .
وقيل: المراد جُملة أزواج رسول الله، وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحقٌ به. واحتج هؤلاء بأمور:
الأول: أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله في أول السورة: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] إلى قوله: {إِلَاّ الذين تَابُواْ
…
} [النور: 5] .
وأما القاذف في هذه الآية فإنه لا تقبل توبته لقوله تعالى: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة} ولم يذكر استثناء.
وأيضاً فهذه صفة المنافقين في قوله: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا} [الأحزاب: 61] .
الثاني: أن قاذف سائر المحصنات لا يكفر، والقاذف في هذه الآية كافر، لقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
…
} وذلك صفة الكفار والمنافقين لقوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار
…
} [فصلت: 19] الآيات.
الثالث: أنه قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} والعذاب العظيم هو عذاب الكفر، (فدلّ على أن عذاب هذا القاذف عقاب الكفر) . وعقاب قذف سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر.
وروي أن ابن عياش كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير هذه الآية، فقال:«من أذنب ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة» .
وأجاب الأولون بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون مشروطاً بعدم التوبة، لأن الذنب سواء كان كفراً أو فسقاً، فإذا تاب عنه صار مغفوراً.
وقيل: هذه الآية نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد، فكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا:«إنها خرجت لتفجر» فنزلت فيهم.
قوله: «يَوْمَ تَشْهَدُ» ، ناصبه الاستقرار الذي تعلق به «لَهُمْ» .
وقيل: بل ناصبه «عَذَابٌ» . ورد بأنه مصدر موصوف.
وأجيب بأن الظرف يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَع في غيره.
وقرأ الأخوان: «يَشْهَدُ» بالياء من تحت، لأن التأنيث مجازي، وقد وقع الفصل والباقون: بالتاء مراعاة للفظ.
قوله: «يَوْمَئِذٍ» : التنوين في «إذْ» عِوَضٌ من الجملة تقديره: يَوْمئذ تَشْهَدُ، وقد تقدم خلاف الأخفش فيه.
وقرأ زيد بن علي «يُوفِيهِمْ» مخففاً من «أَوْفَى» .
وقرأ العامة بنصب «الحَقِّ» نعتاً ل «دِينَهُمْ» .
وأبو حَيْوَة وأبو رَوْق ومجاهد - وهي قراءة ابن مسعود - برفعه نعتاً لله تعالى.
فصل
قوله {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} .
قال المفسرون: هذا قبل أن يختم على أفواههم وأيديهم وأرجلهم.
يروى أنه يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا.
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} جزاءهم الواجب. وقيل: حسابهم العدل،
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا.
وإنما سُمِّيَ الله ب «الحق» لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره.
وقيل: سُمِّيَ ب «الحق» ومعناه: الموجود، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم، ومعنى «المُبين» : المظهر.
قوله تعالى: «الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ» الآية.
قال أكثر المفسرين: «الخَبِيثَاتُ» من القول والكلام «لِلْخَبِيثِينَ» من الناس، «والخَبِيثُونَ» من الناس «لِلْخَبِيثَات» من القول، «والطيبات» من القول «للطَّيِّبِينَ» من الناس، «والطَّيِّبُونَ» من الناس «لِلطَّيِّبَاتِ» من القول.
والمعنى: أنَّ الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس، والطيِّب لا يليق إلا بالطيِّب فعائشة رضي الله عنها لا يليق بها الخبيثات من القول، لأنها طيبة، فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها.
وقال الزجاج: معناه: لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة، ومدح للذين برّأوها بالطهار.
قال ابن زيد: معناه: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، أمثال عبد الله بن أبيّ والشاكين في الدين، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، يريد: عائشة طيبها الله لرسوله الطيب صلى الله عليه وسلم َ - «مُبَرءُونَ» يعني: عائشة وصفوان، ذكرهما بلفظ الجمع كقوله:{فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] أي: أخوان.
وقيل: «أولئك مُبَرَّؤُونَ» يعني: الطيبين والطيبات منزهون مما يقولون.
وقيل: الرَّمْيُ تعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام ُ - وبعائشة وصفوان، فبرأ الله كل واحد منهم.
وقيل: المراد كل أزواج الرسول برأهن الله تعالى من هذا الإفك، ثم قال:«لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» يعني: براءة من الله. وقيل: العفو عن الذنوب. والرزق الكريم: الجنة.
قوله: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» يجوز أن تكون جملة مستأنفة، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً.
ويجوز أن يكون «لَهُمْ» خبر «أولئك» (و)«مَغْفِرَةٌ» فاعله.
قوله
تعالى
: {يا
أيها الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآية.
لما ذكر حكم الرمي والقذف ذكر ما يليق به، لأن أهل الإفك (إنما توصلوا) إلى بهتانهم لوجود الخلوة، فصارت كأنها طريق التهمة، فأوجب الله تعالى ألا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، لأن الدخول على غير هذا الوجه يوقع التهمة، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به.
قوله: «تَسْتَأنِسُوا» يجوز أن يكون من الاستئناس، لأنَّ الطارق يستوحش من أنه هل يؤذن له أو لا؟ فزال استيحاشه، وهو رديف الاستئذان فوضع موضعه.
وقيل: من الإيناس، وهو الإبصار، أي: حتى تستكشفوا الحال.
وفسره ابنُ عباس: «حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا» وليست قراءة، وما ينقل عنه أنه قال:«تَسْتَأنِسُوا» خطأ من الكاتب، إنما هو (تَسْتَأْذِنُوا) فشيء مفترى عليه.
وضعفه بعضهم بأن هذا يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر، ويقتضي
صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر، وفتح هذين البابين يطرق الشك إلى كل القرآن وإنه باطل.
وروي عن الحسن البصري أنه قال: «إن في الكلام تقديماً وتاخيراً، فالمعنى: حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا» . وهذا أيضاً خلاف الظاهر.
وفي قراءة عبد الله: {حَتَّى تُسَلِّمُوا وَتَسْتَأْذِنُوا} وهو أيضاً خلاف الظاهر.
واعلم أن هذا نظير ما تقدم في الرعد: (في){أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} [الرعد: 31] وتقدم القول فيه. والاستئناس: الاستعلام (والاستكشاف، من أنس الشيء: إذا أبصره، كقوله: {إني آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10] ، والمعنى: حتى تستعلموا الحال، هل يراد دخولكم؟) قال:
3825 -
كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا
…
يَوْمَ الجَلِيلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ
وقيل: هو من «الإنْس» بكسر الهمزة، أي: يَتَعرَّف هل فيها إنْسٌ أم لا؟
وحكى الطبري أنه بمعنى: «وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ» .
قال ابن عطية: وتصريف الفعل يَأْبَى أن يكونَ مِنْ «أَنَس» .
فصل
قال الخليل: الاستئناس: الاستبصار من (أنس الشيء إذا أبصره) كقوله: «آنسْتُ نَاراً» أي: أبصرت.
وقيل: هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو بتنحنح يؤذن أهل البيت. وجملة حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان.
واختلفوا: هل يقدم الاستئذان أو السلام؟
فقيل: يقدم الاستئذان، فيقول: أأدخل؟ سلام عليكم، لقوله:«حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا» أي: تستأذنوا {وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} . والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول: سلام عليكم، أأدخل؟ ( «لما روي أن رجلاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم َ - ولم يسلم ولم يستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ -:» ارجع فقُل: السلام عليكم، أأدخل «) وروى ابن عمر أن رجلاً استأذن عليه فقال: أأدخل؟ فقال ابن عمر: لا، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم، فسلَّم، فأذِنَ له.
وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام، وإلاّ قدم الاستئذان ثم يسلم. والحكمة في إيجاب تقديم الاستئذان ألَاّ يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه من الأحوال.
فصل
عدد الاستئذان ثلاثاً لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - «الاستئذان ثلاثٌ، الأولى يستضيئون، والثانية يستصلحون، والثالثة يأذنون أو يردون» وعن أبي سعيد الخدري قال: «كُنت جالساً في مجلس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعاً، فقلنا له: ما أفزعك؟ فقال: أخبرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثاً، فلم يؤذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت: قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، وقد قال عليه السلام:» إذا استأذنَ أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع «. فقال: لتأتيني (على هذا) بالبينة، أو لأعاقبنك، فقال أبو سعيد: لا يقوم معك إلا
صغير القوم، قال: فقام أبو سعيد، فشهد له» .
وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى: لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله.
وعن قتادة: «الاستئذانُ ثلاثةٌ: الأول ليسمع الحي، والثاني ليتهيأ، والثالث إن شاء أذن وإن شاء ردّ» .
وهذا من محاسن الآداب، لأنه في أول كرَّة ربما منعهم بعض الأشغال من الإذن، وفي الثانية ربما كان هناك ما يمنع، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع. ويجب أن يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما.
فأما قرع الباب بعنف، والصياح بصاحب الدار فذاك حرام، لأنه إيذاء، وكذا قصة بني أسد وما نزل فيها من قوله:{إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] .
فصل
في كيفية الوقوف على الباب
روى أبو سعيد قال: استأذن رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وهو مستقبل الباب، فقال عليه السلام:«لا تستأذِنْ وأنت مستقبلُ البابِ» .
«وروي أنه عليه السلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، فيقول:» السلامُ عليكُمْ «وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
فصل
كلمة» حَتَّى «للغاية، والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها، فقوله:{لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن.
والجواب أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس، ولا يحصل إلا بعد الإذن.
وأيضاً فإنّا علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان ألا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه، فإنّ ذلك مما يسوؤه، وهذا المقصود لا يحصل إلا بعد الإذن.
وأيضاً قوله: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا (حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} ) فمنع الدخول إلا مع الإذن، فدل على أن الإذن شرط في إباحة الدخول في الآية الأولى.
وإذا ثبت هذا فنقول: لا بد من الإذن أو ما يقوم مقامه، لقوله عليه السلام «إذا دُعِيَ أحدُكُم فجاء مع الرسول فإنَّ ذلك له إذن» .
وقال بعضهم: إن من جرت العادة بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان. واعلم أن ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقاً سواء كان الآذن صبياً أو امرأة أو عبداً أو ذمياً، فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة، وكذلك قبول إحضار هؤلاء في الهدايا ونحوها.
فصل
ويستأذن على المحارم، «لما روي أن رجلاً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم َ - فقال:» أأستأذن على أختي؟ «فقال عليه السلام:» نَعَمْ، أتحب أن تراها عريانة؟ «وسأل رجل حذيفة:» أأستأذن على أختي؟ «فقال:» إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك «. ولعموم قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} [النور: 59] إلا أنَّ ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوه.
فصل
إذا اطلع إنسان في دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر، لقوله عليه السلام:» مَن اطَّلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه «.
وقال أبو بكر الرازي: هذا الخبر ورد على خلاف قياس الأصول، فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً، وكان عليه القصاص إن كان عامداً، والأرش إن كان مخطئاً، والداخل قد اطَّلع وزاد على الاطلاع، فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق، فإن صحَّ فمعناه: من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم فمنع فلم يمتنع فذهب عينه في حال الممانعة فهي هدر، فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى:» العَيْن بِالعَيْنِ «إلى قوله:» والجُرُوحَ قِصَاصٌ «.
وأجيب بأن التمسك بقوله:» العَيْنُ بِالعَيْنِ «ضعيف، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة، فإنه لو كانت مستحقة القصاص، فلم قلت: إن من اطَّلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة؟
وأما قوله: إنه لو دخل لم يجز فقء عينه، فكذا إذا نظر.
والفرق بينهما أنه إذا دخل، علم القوم بدخوله عليهم، فاحترزوا عنه وتستروا، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه، فلا يبعد في حُكْم الشرع أن يبالغ هنا في الزجر حسماً لهذه المفسدة.
وأيضاً فردّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - بهذا القدر من الكلام ليس جائزاً.
فصل
إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق، أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟ فقيل: كل ذلك مستثنى بالدليل.
فأما السلام فهو من سنة المسلمين التي أمروا بها، وهو تحية أهل الجنة، ومجلبة للمودة، ونافٍ للحقد والضغائن.
قال عليه السلام: «لمَّا خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له الله: يرحمك ربك يا آدم، اذهب إلى هؤلاء الملائكة (
وهم) ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه فقال: هذه تحيتك وتحية ذريتك» وعن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - «حق المسلم على المسلم ست: يسلِّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، وينصح له بالغيب، ويشمِّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات» .
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - «إن سرَّكم أن يسل الغل من صدروكم فأفشوا السلام بينكم» .
قوله: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} .
أي: إن فعل ذلك خير لكم وأولى بكم من الهجوم بغير إذن «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» أي: لتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ} أي: فإن لم تجدوا في البيوت «أَحَداً» يأذن لكم في دخولها {فَلَا تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} لجواز أن يكون هناك أحوال مكتومة، {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} وذلك أنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار، فكذلك الوقوف على الباب قد يكرهه، فلا جرم كان الأولى له أن يرجع {هُوَ أزكى لَكُمْ} أي: الرجوع هو أطهر وأصلح لكم.
قال قتادة: إذا لم يؤذن له فلا يقعد على الباب، فإنَّ للناس حاجات، وإذا حضر فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز.
كان ابن عباس يأتي الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب (حتى يخرج) ولا يستأذن، فيخرج الرجل ويقول:«يا ابنَ عم رسول الله لو أخبرتني» فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم. وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً «لما روي أن رجلاً اطلع على النبي صلى الله عليه وسلم َ - من ستر الحجرة، وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم َ - مدراء، فقال:» لو علمتُ أن هذا ينظرني حتى آتيه لَطَعْنتُ بالمدراء في عينه، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر «
قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي: من الدخول بالإذن وغير الإذن.
ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير
مسكونة فقال: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} .
قال المفسرون: لما نزلت آية الاستئذان قالوا: كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله عز وجل {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} . أي: بغير استئذان {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} أي: منفعة لكم.
قال محمد ابن الحنفية: إنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين.
وقال ابن زيد: هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء، وهو المنفعة قال إبراهيم النخعي: ليس على حوانيت السوق إذن.
وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثم يلج.
وقال عطاء: هي البيوت الخربة، و «المَتَاعُ» هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط. وقيل: هي جميع البيوت التي لا ساكن لها.
وقيل: هي الحمامات.
وروي أن أبا بكر قال: يا رسولَ الله، إن الله قد أنزلَ عليكَ آيةً في الاستئذان، وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية.
والأصح أنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية، لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة، فإن لم يخف ذلك فله الدخول، لأنه مأذون فيها عرفاً.
{والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وهذا وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.
قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية. الغض: إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية. قال:
3826 -
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ
…
فَلَا كَعْباً بَلَغْتَ وَلَا كِلَابا
وفي «مِنْ» أربعة أوجه:
أحدها: أنها للتبعيض، لأنه يُعْفَى عن الناظر أول نظرة تقع من غير قصد.
والثاني: لبيان الجنس، قاله أبو البقاء. وفيه نظر من حيث إنَّه لم يَتَقَدَّم مُبهمٌ يكونُ مُفَسَّراً ب «مِنْ» .
الثالث: أنها لابتداء الغاية، قاله ابن عطية.
الرابع: قال الأخفش: إنها مزيدة.
فصل
قال الأكثرون: المراد غض البص عما يحرم والاقتصار به على ما يحل.
فإن قيل: كيف دخلت «مِنْ» في غض البصر دون حفظ الفرج؟
فالجواب: أن ذلك دليل على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن، وكذا الجواري المستعرضات، وأما أمر الفروج فمضيق.
وقيل: معنى {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي: ينقصوا من نظرهم بالبصر إذا لم يكن من عمله فهو مغضوض.
وعلى هذا «مِنْ» ليست زائدة، ولا هي للتبعيض، بل هي صلة للغض، يقال: غضضت من فلان: إذا نقصت منه.
فصل
العورات تنقسم أربعة أقسام:
عورة الرجل مع الرجل.
وعورة المرأة مع المرأة.
وعورة المرأة مع الرجل.
وعورة الرجل مع المرأة.
أما الرجل مع الرجل، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا العورة، وهي ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليسا بعورة.
وعند أبي حنيفة: الركبة عورة.
وقال مالك: «الفخذ ليس بعورة» .
وهو مردود بقوله عليه السلام: «غَطِّ فَخَذَكَ فإنَّهَا مِنَ العَوْرَةِ» .
وقوله لعلي: «لا تُبْرِزْ فَخذَكَ، وَلَا تَنْظُر إلى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» .
فإن كان أمر ولم يحل النظر إلى وجهه، ولا إلى شيء من سائر بدنه بشهوة، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لقوله عليه السلام:«لا يُفضي الرجل إلى الرجل في فراش واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» وتكره معانقة الرجل للرجل وتقبيله إلا لولده شفقة لما روي عن أنس قال: «قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أيلزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: أفيأخذ يده فيصافحه؟ قال: نعم» .
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - عن المكاعمة والمكامعة، وهي: معانقة الرجل للرجل وتقبيله.
وأما عورة المرأة مع المرأة، فهي كالرجل مع الرجل فيما ذكرنا سواء.
والذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة؟ فقيل: هي كالمسلمة مع المسلمين.
والصحيح أنه لا يجوز لها (النظر) لأنها أجنبية في الدين لقوله تعالى: «أَوْ نِسَائِهِنَّ» وليست الذمية من نسائنا.
وأما عورة المرأة مع الرجل، فإما أن تكون (أجنبية، أو ذات محرم، أو مستمتعة. فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة. فإن كانت) حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء، والمراد: الكف إلى الكوع. واعلم أن النظر إلى وجهها ينقسم ثلاثة أقسام:
إما ألاّ يكون فيه غرض ولا فتنة، وإما أن يكون فيه غرض ولا فتنة، وإما أن يكون لشهوة. فإن كان لغير غرض فلا يجوز النظر إلى وجهها، فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى:{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} . وقيل: يجوز مرة واحدة إذا لم تكن فتنة، وبه قال أبو حنيفة. ولا يجوز تكرار النظر لقوله عليه السلام:«لا تُتْبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» .
وقال جابر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - عن نظر الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري. فإن كان فيه غرض ولا فتنة، وهو أمور:
أحدها: أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيْها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - للرجل الذي سأله أنْ يتزوج امرأة من الأنصار: «انظُرْ إليْهَا، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً» وقال عليه السلام: «إذا خطب أحدُكُم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان ينظر إليها للخطبة» .
وقال المغيرة بن شعبة: «خطبت امرأة، فقال عليه السلام: نظرت إليها؟ فقلت:
لا. قال: فانظر فإنه أحْرى أن يؤدم (بينكما) » .
وذلك يدل على جواز النظر بشهوة إلى الوجه والكفين إذا أراد أن يتزوجها ولقوله تعالى: {لَاّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن.
وثانيها: أنه إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة.
وثالثها: عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة.
ورابعها: ينظر إليها عند تحمل الشهادة، ولا ينظر إلى غير الوجه. فإن كان النظر لشهوة فهو محرم لقوله عليه السلام:«العينان تزنيان» .
وأما النظر إلى بدن الأجنبية فلا يجوز إلا في صور:
أحدها: يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمعالجة والختان، ينظر إلى فرج المختون للضرورة.
وثانيها: أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين ليشهد على الزنا، وكذلك ينظر إلى فرجها ليشهد على الولادة، وإلى ثدي المرضعة ليشهد على الرضاع.
وقال بعض العلماء لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع، لأن الزنا مندوب إلى ستره، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء، فلا حاجة إلى نظر الرجال.
وثالثها: لو وقعت في غرق أو حرق له أن ينظر إلى بدنها لتخليصها. فإن كانت الأجنبية أمة قيل: عورتها ما بين السرة والركبة.
وقيل: عورتها ما لا يبين في المهنة، فخرج منه عنقها وساعدها ونحرها ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال إلا لحاجة، لأن اللمس أقوى من النظر، لأن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره.
فصل
فإن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل. وقيل: عورتها ما لا يبدو عند المهنة، وهو قول أبي حنيفة. وستأتي بقية التفاصيل - إن شاء الله تعالى - في تفسير الآية.
فصل
فإن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج، إلا أنه يكره النظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه، لأنه يروى أنه يورث الطمس.
وقيل: لا يجوز (النظر) إلى فرجها، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمة قِنّ أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة.
فإن كانت مجوسية، أو مرتدة، أو وثنية، أو مشتركة بينه وبين غيره، أو مزوجة، أو مكاتبة فهي كالأجنبية لقول النبي صلى الله عليه وسلم َ -:«إذا زوَّج أحدُكُم جاريتَه عبدَه أو أجيره فعورته معها ما بين السرة والركبة» .
فصل
فأما عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة، ولا تكرير النظر إلى وجهه «لما روت أم سلمة أنَّها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وميمونة، إذ أقبل ابن أم مكتوم، فقال:» احتجبَا عنه «فقالت: يا رسول الله، أليس هو
أعمى لا يبصرُنا؟ فقال عليه السلام:» أَفعمياوان أنْتُمَا؟ ألستما تبصرانه «؟ . وإن كان محرماً لها فعورته ما بين السرة والركبة.
وإن كان زوجها أو سيدها الذي له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه، غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها.
فصل
ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خالٍ وله ما يستر عورته، لأنه عليه السلام سئل عنه فقال:» الله أحق أن يُسْتَحيَى منه «وقال عليه السلام:» إيَّاكُمْ والتَّعَرِّي، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله «.
قوله:» وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ «أي: عما لا يحل.
وقال أبو العالية: كلُّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه.
وهذا ضعيف، لأنه تخصيص من غير دليل، والذي يقتضيه الظاهر حفظ الفروج عن سائر ما حرم عليهما من الزنا واللمس والنظر.
قوله
: {ذلك
أزكى
لَهُمْ
} .
أي: غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم، أي: خير لهم وأطهر {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} عليمٌ بما يفعلون.
قوله: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الكلام فيه كما تقدم وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا، والبلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراز منه.
قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} أي: لا يظهرن زينتهن لغير محرم، والمراد بالزينة: الخفية، وهما زينتان: خفية وظاهرة. فالخفية: مثل الخلخال والخضاب في الرِّجْل،
والسوار في المعصم، والقرط والقلائد، فلا يجوز لها إظهارها، ولا للأجنبي النظر إليها. والمراد بالزينة: موضع الزينة.
وقيل: المراد بالزينة: محاسن الخَلْق التي خلقها الله، وما تزين به الإنسان من فضل لباس، لأن كثيراً من النساء ينفردن بخَلْقِهِنَّ من سائر ما يُعَدُّ زينة، فإذا حملناه على الخِلْقَة وفينا العموم حقه، ولا يمنع دخول ما عدا الخِلْقة فيه، ولأنَّ قوله:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} يدل على أن المراد من الزينة ما يعم الخِلْقة وغيرها، فكأنها تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن، موجباً سترها بالخمار.
قوله: {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . أما الذين حملوا الزينة على الخلقة فقال القفال: معنى الآية: إلا ما يظهره الإنسان في العادة، وذلك من النساء: الوجه والكفان، ومن الرجال: الوجه واليدان والرجلان، فرخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه، وأدت الضرورة إلى إظهاره، وأمرهم بستر ما لا ضرورة في كشفه. ولما كان ظهور الوجه والكفين ضرورة لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة.
وأما القدم فليس ظهوره ضرورياً فلا جرم اختلفوا فيه هل هو من العورة أم لا؟ والصحيح أنه عورة. وفي صوتها وجهان:
أصحهما ليس بعورة، لأن نساء النبي عليه السلام كن يروين الأخبار للرجال.
وأما الذين حملوا الزينة على ما عد الخلقة، قالوا: إنه تعالى إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف في أنه يحل النظر إليها حال (انفصالها عن أعضاء المرأة، فلما حرم الله النظر إليها حال) اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة. وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوَشمَة والغُمْرَة، وزينة بدنها من
الخضاب والخواتيم والثياب، لأن سترها فيه حرج، لأن المرأة لا بد لها من مزاولة الأشياء بيديها، والحاجة إلى كشف وجهها للشهادة والمحاكمة والنكاح.
قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي: «الزينة الظاهرة التي استثنى الله الوجهُ والكفان» .
وقال ابن مسعود: هي الثياب، لقوله تعالى:{خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] .
وقال الحسن: الوجه والثياب.
وقال ابن عباس: الكحْل والخاتم والخضاب في الكف. فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها إذا لم يخف فتنة وشهوة، فإن خاف شيئاً منها غض البصر.
فصل
واتفقوا على تخصيص قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالحرائر دون الإماء والمعنى فيه ظاهر، لأن الأمة مالٌ، فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء.
قوله: «وَلْيَضْرِبْنَ» . ضمن «يضْرِبْنَ» معنى «يُلْقِينَ» فلذلك عداه ب «على» . وقرأ أبو عمرو في رواية بكسر لام الأمر.
وقرأ طلحة: «بِخُمْرهنَّ» بسكون الميم. وتسكين «فَعْل» في الجمع أولى من تسكين المفرد. وكسر الجيم من «جِيُوبِهِنَّ» ابن كثير والأخوان وابن ذكوان.
والخُمُر: جمع خمار، وفي القلة يجمع على أخْمِرة. قال امرؤ القيس:
3827 -
وَتَرَى الشَّجْراءَ فِي رِيِّقِهِ
…
كَرُؤُوسٍ قُطِعَتْ فِيهَا الخُمُرْ
والجيب: ما في طوق القميص يبدو منه بعض الجسد.
فصل
قال المفسرون: إنَّ نساء الجاهلية كنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرهن من خلفهن، وإن جيوبهن كانت من قدام، وكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتغطي بذلك أعناقهن ونحورهن.
قالت عائشة: رحم الله نساءَ المهاجرات الأُوَل، لما أنزل الله:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها.
قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يعني الزينة الخفية التي لم يبح لهنَّ كشفها في الصلاة ولا للأجانب، وهو ما عد الوجه والكفين «إِلَاّ لِبُعولَتهنَّ» قال ابن عباس ومقاتل: يعني لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن {أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة، ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة إلا الزوج فإنه يجوز له أن ينظر على ما تقدم، وهؤلاء محارم.
فإن قيل: أيحل لذي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل في المؤمنة؟
فالجواب: إذا ملك المرأة من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة فإن قيل: فما القول في العم والخال؟
فالجواب: أن الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر، وهو قول الحسن البصري قال: لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع، وهو كالنسب، وقال في سورة الأحزاب {لَاّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ} الآية [الأحزاب: 55] ولم يذكر فيها البعولة، وقد ذكره هنا.
وقال الشعبي: إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفها العم عند ابنه، والخال كذلك.
والمعنى: أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وابناهما، وإذا رآها الأب وصفها لابنه وليس بمحرم، وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب.
فصل
والسبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن واحتياج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار في النزول والركوب.
قوله: «أَوْ نِسَائِهِنَّ» .
قال أكثر المفسرين: المراد اللَاّئِي على دينهن.
قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة، ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها.
وكتب عُمَر إلى أبي عبيدة أن تمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقيل: المراد ب «نِسَائِهِنَّ» جميع النساء.
وهذا هو الأولى، وقول السلف محمول على الاستحباب.
قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . وهذا يشمل العبيد والإماء، واختلفوا في ذلك: فقال قوم: عبد المرأة مَحْرَم لها يجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم، وهو ظاهر القرآن، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة. «وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قَنعْت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - ما تلقى قال:» إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغُلامك «وعن مجاهد:» كنَّ أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم «. وكانت عائشة تمتشط والعبد ينظر إليها.
وقال ابن مسعود والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته. وهو قول أبي حنيفة.
وقال ابن جريج: المراد من الآية: الإماء دون العبيد، وأن قوله:{أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أنه لا يحل لامرأةٍ مسلمة أن تتجرد بين امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المشركة أمةً لها.
قوله: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} .
قرأ ابن عامر وأبو بكر:» غَيْرَ «نصباً، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه استثناء.
وقيل: على القطع، لأن» التَّابِعِينَ «معرفة و» غَيْر «نكرة.
والثاني: أنه حال. والباقون:» غيرِ «بالجر نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً.
والإِرْبَةُ: الحاجةُ. وتقدم اشتقاقها في» طه «.
(قوله:» مِنَ الرِّجَالِ «حال من» أُولِي «) .
فصل
المراد ب {التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة} .
قال مجاهد وعكرمة والشعبي: هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم، لا همة لهم إلا ذلك، ولا حاجة لهم في النساء.
وعن ابن عباس: أنه الأحمق العنين.
وقال الحسن:» هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن «.
وقال سعيد بن جبير: المعتوه. وقال عكرمة: المجبوب. وقيل: هو
المخنّث. وقال مقاتل: هو الشيخ الهم والعنِّين والخَصِيّ والمجبوب ونحوه.
واعلم أن الخَصِيّ والمجبوب ومن يشاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع، ويكون له إربة فيما عداه من التمتع، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد، فيجب أن يحمل المراد على من لا إربة له في سائر وجوه التمتع لما روت عائشة قالت:
«كانَ رجلٌ مخنَّثٌ يدخل على أزواج - النبي صلى الله عليه وسلم َ - فكانوا يَعدُّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم َ - يوماً وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة فقال: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمانٍ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ -:» أَلَا أرى هذا يعلم ما هَهُنا، لا يَدْخُلَنَّ هَذا «فحجبوه» .
وفي رواية عن زينب بنت أم سلمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - دخلَ عليها وعندها مخنَّث، فأقبل على أخي أم سلمة، فقال:» يا عبد الله، إن فتح الله غداً لكم الطائف دللتك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان «. فقال عليه السلام:» لا يدخُلَنَّ عليكم هذا «فأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - دخول المخنث عليهن، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهنَّ علم أنه من أولي الإربة، فحجبه.
وفي الخَصِيّ والمجبوب ثلاثة أوجه:
أحدها: استباحة الزينة الباطنة.
والثاني: تحريمها.
(والثالث: تحريمها) على المَخْصِيّ دون المجبوب.
قوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} .
تقدم في الحج أن الطفل يطلق على المثنى والمجموع، فلذلك وصف بالجمع.
وقيل: لما قصد به الجنس روعي فيه الجمع كقولهم:» أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَار الحمْر والدِّرْهَمُ البِيضُ «. و» عَورَاتِ «جمع عَوْرَةٍ، وهو ما يريد الإنسان ستره من بدنه، وغلب في السَّوأَتَيْن. والعامة على» عوْرات «بسكون الواو، وهي لغة عامة العرب،
سكنوها تخفيفاً لحرف العلة. وقرأ ابن عامر في رواية» عَوَرَاتِ «بفتح الواو.
ونقل ابن خالويه أنها قراءة ابن أبي إسحاق والأعمش، وهي لغة هذيل بن مدركة. قال الفراء: وأنشد في بعضهم:
3828 -
أَخُو بَيَضَاتٍ رائِحٌ مُتَأوِّبٌ
…
رَفِيقٌ بمَسْحِ المَنْكبَيْنِ سَبوح
وجعلها ابنُ مجاهد لحناً وخطأ، يعني: من طريق الرواة، وإلا فهي لغة ثانية.
(فصل)
الظهور على الشيء يكون بمعنى العلم به، كقوله تعالى:{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} [الكهف: 20] أي: يشعروا بكم. ويكون بمعنى الغلبة عليه، كقوله:» فَأَصْبَحُوا ظَاهِرينَ «.
فلهذا قال مجاهد وابن قتيبة: معناه: لم يطلعوا على عورات النساء، ولم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر.
وقال الفراء والزجاج: لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء.
وقيل: لم يبلغوا حدّ الشهوة.
فصل
فأما المراهق فيلزم المرأة أن تستُر منه ما بين سرتها وركبتها، وفي لزوم ستر ما عداه وجهان:
الأول: لا يلزم، لأن القلم غير جار عليه.
والثاني: يلزم كالرجل، لأنه مشتهى، والمرأة قد تشتهيه، واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم وأما الشيخ فإن بقيت له شهوة فهو كالشاب، وإن لم تبق له شهوة ففيه وجهان:
أحدهما: أن الزينة الباطنة معه مباحة، والعورة معه ما بين السرة والركبة.
والثاني: أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة.
وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى، (والرضاع كالنسب) .
قوله: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} .
قال ابن عباس وقتادة: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخالها، فنُهِينَ عن ذلك؛ لأن الذي تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة إلى مشاهدتهن، وعلل تعالى ذلك بقوله:{لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} وفي الآية فوائد:
الأولى: لما نهي عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة، فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى.
الثانية: أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب، إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة (من صوت خلخالها، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت، والمرأة منهية عنه.
الثالثة: تدل على تحريم النظر إلى وجهها بشهوة، لأن ذلك أقرب إلى الفتنة) .
قوله تعالى: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون} . قال ابن عابس: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. وقيل: تُوبُوا من
التقصير الواقع منكم في أمره ونهيه. وقيل: راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة.
قوله: «أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ» . العامة على فتح الهاء وإثبات ألف بعد الهاء، وهي «ها» التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف «يأَيُّهُ السَّاحِر» وفي الرحمن «أَيُّهُ الثقلان» بضم الهاء وصلاً، فإذا وقف سكن.
ووجهها: أنه لما حذفت الألف لالتقاء الساكنين استحقت الفتحة على حرف خفي، فضمت الهاء إتباعاً. وقد رُسِمَتْ هذه المواضع الثلاثة دون ألف، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف والباقون بدونها اتباعاً للرسمِ، ولموافقة الخط للفظ. وثبتت في غير هذه المواضع حَمْلاً لها على الأصل نحو:«يَأَيُّهَا النَّاسُ» ، «يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» وبالجملة فالرسم سنة متبعة.
قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} .
لما أمر تعالى بغض الأبصار وحفظ الفروج بيَّن بعده أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل، ثم ذكر بعد ذلك طريق الحِلّ فقال:{وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} . الأيامى: جمع أيِّم ب «زنة» : «فَيْعل» ، يقال منه: آم يَئيم كباع يبيع، قال الشاعر:
3829 -
كُلُّ امْرِئٍ سَتَئيم مِن
…
هُ العِرْسُ أَوْ مِنْهَا يَئِيمُ
وقياس جمعه: أَيائِم، كسيِّد وسَيَائِد. و «أَيامى» فيه وجهان:
أظهرهما من كلام سيبويه أنه جمع على «فَعَالَى» غير مقلوب، وكذلك «يَتَامَى» .
وقيل: إن الأصل «أَيَايم» و «يَتَايم» و «يَتِيم» (فقلبا) .
والأَيِّم: (من لا زوج له) ذكراً كان أو أنثى. قال النضر بن شميل: الأَيِّمُ في كلام العرب: كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها. وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك، يقول: زوجوا أياماكم بعضكم من بعض. وخصَّه أبو بكر الخفَّاف بمن فقدت زوجها، فإطلاقه على البِكْر مجاز. وقال الزمخشري:«تأيَّما إذا لم يتزوجا بِكرين كانا أو ثيّبين» ، وأنشد:
3830 -
فَإِنْ تَنْكِحي أَنْكِح وإِنْ تَتَأَيَّمِي
…
وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُم أَتَأَيَّمُ
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «اللَّهم إني أعوذ بك من العَيْمَة والغَيْمَة والأَيْمَة والكَرم والقَرَم» العَيْمة - بالمهملة: شدة شهوة اللبن. وبالمعجمة: شدة العطش. والأَيْمَة: طول العزبة. والكَرَم: شدة شهوة الأكل والقَرَم: شدة شهوة
اللحم و «منكم» حال. وكذا «مِنْ عِبادكُمْ» .
فصل
قوله: «وَأَنكحوا» أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فدلّ على أن الولي يجب عليه تزويج موليته، (وإذا ثبت هذا وجب ألا يكون النكاح إلا بولي، لأن كل ما وجب على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية) ، ولأن المولية لو فعلت ذلك لفوَّتتْ على الولي تمكنه من أداء هذا الواجب، وأنه غير جائز، ولم تطابق قوله عليه السلام:«إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزوِّجُوهُ، إلَاّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَة فِي الأَرْضِ» قال أبو بكر الرازي: هذه الآية وإن اقتضت الإيجاب، إلا أنه أجمع السلف على أنه لا يراد الإيجاب، ويدل عليه أمور:
أحدها: أنه لو كان ذلك واجباً لنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم َ - وعن السلف مستفيضاً، لعموم الحاجة إليه، فلما علمنا أن سائر الأعصار كانت فيهم أيامى من الرجال والنساء ولم ينكروا ذلك، ثبت أنه لم يرد الإيجاب.
وثانيها: أجمعنا على أن الأَيِّم الثيّب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه.
وثالثها: اتفاق الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده، وهو معطوف على الأيامى، فدل على أنه غير واجب في الجميع، بل ندب في الجميع.
ورابعها: أن اسم الأَيَامَى يشمل الرجال والنساء، وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم، كذلك في النساء.
والجواب: أن جميع ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية، والعام بعد التخصيص حجة، فوجب إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب، وحينئذ ينتظم الكلام.
فصل
قال الشافعي: الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها، لأن الآية والحديث يدلان على أمر الولي بتزويجها. ولولا قيام الدلالة على أنه تزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها أيضا لعموم الآية.
فصل
الناس في النكاح قسمان:
الأول: من تتوقُ نفسُه للنكاح، فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبته سواء كان مقبلاً على العبادة أو لم يكن، ولكن لا يجب، وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم لقوله عليه السلام:«يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ، مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُم البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأحْصَنُ للفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» .
الثاني: من لا تتوق نفسه للنكاح، فإن كان لعلة من كِبَر أو مرض أو عجز فيكره له، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام به، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة.
وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له النكاح، لكن الأفضل أن يتخلّى للعبادة، لأن الله تعالى مدح يَحْيَى بكونه «حَصُوراً» ، والحَصُور: الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهنّ، ولا يقال: هو الذي لا يأتي النساء مع العجز؛ لأن مدح الإنسان بما يكون عيباً غير جائز، وإذا كان مدحاً في حق يحيى وجب أن يشرع في حقنا، لقوله تعالى:«فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ» ، ولا يحمل الهدى على الأصول، لأن التقليد فيها غير جائز، فوجب حَمْلُه على الفروع. وقال عليه السلام:«اعْلمُوا أَن خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةَ» وقال عليه السلام: «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي قرَاءَةُ القُرْآنِ» وقال أبو حنيفة: النكاح أفضل لقوله عليه السلام: «أحبُّ المباحات إلى الله النكاح» لأن النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا، فيكون دفعاً للضرر عن النفس. والنافلة:
جلب نفع. ودفع الضرر أولى من جلب النفع. وأجيب بأن يحمل الأحب على الأصلح في الدنيا، لئلا يقع التناقض بين كونه أحبّ وبين كونه مباحاً. والمباح: ما يستوي طرفاه في الثواب والعقاب.
والمندوب: ما ترجّح وجوده على عدمه، فتكون العبادة أفضل. وبقية المباحث مذكورة في كتب الفقه.
قوله: «مِنْكُم» أي: زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم.
وقيل: أراد الحرية والإسلام.
وقوله: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} ظاهره يقتضي الأمر بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين. وخصَّ الصالحين بالذكر ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن الصالحين منهم هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في المودَّة، فكانوا مظنة للتوصية والاهتمام بهم. ومن ليس بصالح فحاله على العكس من ذلك.
وقيل: أراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج. وقيل: أراد بالصلاح ألا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح.
فصل
ظاهر الآية يدل على أنّ العبد لا يتزوج نفسه، وإنما يتولى تزويجه مولاه، لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه، فيكون توليه بإذنه بمنزلة تولي السيد. فأما الإماء فإنَّ المولى يتولى تزويجهنَّ خصوصاً على قول من لا يجوِّز النكاح إلا بوليّ.
فصل
الولي شرط في صحة النكاح لقوله عليه السلام: «لَا نِكَاحَ إلَاّ بِوَليّ» .
وقال عليه السلام: «أيُّمَا امرأةٌ نكحَتْ بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطلٌ» ، فإن
أصابها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ (من لا وليّ له) . قوله:{إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} الأصح أن هذا ليس وعداً بإغناء من يتزوج، بل المعنى: لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون تزويجها، ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غادٍ ورائح، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح، فهذا معنى صحيح، وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغنى حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف. وروي عن قدماء الصحابة ما يدلّ على أن ذلك وعد، فروي عن أبي بكر قال:«أطيعُوا اللَّهَ فيما أمركُم به من النكاح ينجز لكم ما وَعَدكُم من الغِنَى» . وعن عمر وابن عباس مثله. وشكى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - الحاجة، فقال:«عليك بالباءة» ، ويزيد الله في مروءتكم. فإن قيل: فنحن نرى من كان غنياً فتزوج فيصير فقيراً؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} [التوبة: 28] والمطلق يحمل على المقيد.
وثانيها: أن اللفظ وإن كان عامّاً إلا أنه يخصّ بعض المذكورين دون البعض، وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون.
وثالثها: المراد بالغنى: العفاف، فيكون الغنى هنا معناه: الاستغناء بالنكاح عن الوقوع في الزنا.
فصل
استدل بعضهم بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم، فاقتضى أن العبد قد يكون فقيراً وغنياً، وذلك دل على الملك، فثبت أنهما يملكان. والمفسرون تأولوه على الأحرار خاصة، فقالوا: هو راجع إلى الأيامى، وإن فسرنا الغنى بالعفاف سقط استدلالهم.
وقوله: {والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي يوسع عليهم من أفضاله، «عَلِيمٌ» بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق.
قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً} الآية.
لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال: «وَلْيَسْتَعْفِفِ» أي: وليجتهد في العفة، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف.
وقوله: {لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي: لا يتمكنون من الوصول إليه، يقال: لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه، قال تعالى:{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92] ويقال: هو غير واجد للماء، وإن كان موجوداً، إذا لم يمكنه أن يشتريه. ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به من المال، فبين تعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح. فإن قيل: أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح؟
قلنا: لكن من لم يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى.
قوله تعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ
…
} الآية لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم كالأحرار، فقال:{والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} . يجوز في الذين الرفع على الابتداء، والخبر الجملة المقترنة بالفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط.
ويجوز نصبه بفعل مقدر على الاشتغال، كقولك:«زيداً فاضربه» وهو أرجح لمكان الأمر. والكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه:
أحدها: أن أصل الكلمة من الكتب، وهو الضم والجمع، ومنه سميت الكتابة لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض، وتضم ماله إلى ماله.
وثانيها: مأخوذ من الكتاب، ومعناه: كتبت لك على نفسي (أن تعتق إذا وفيت بمالي وكتبت لي على نفسي) أن تفي لي بذلك، أو كتبت عليك الوفاء بالمال، وكتبت عليَّ العتق، قاله الأزهري.
وثالثها: سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالاً، بل يقع مؤجلاً، ليكون متمكناً من الاكتساب. ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب، فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتاباً لما فيه من الأجل، قال تعالى:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 28] .
فصل
قال بعض العلماء: الكتابة أن يقول لمملوكه: كاتبتك على كذا، ويسمي مالاً معلوماً، يؤديه في نجمين أو أكثر، ويبين عدد النجوم، وما يؤدي في كل نجم، ويقول: إذا أديت ذلك المال فأنت حر، أو ينوي ذلك بقلبه، ويقول العبد: قبلت.
فإذا لم يقل بلسانه، أو لم ينو بقلبه: إذا أديت ذلك فأنت حر، لم يعتق.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: لا حاجة إلى ذلك، لأن قوله تعالى:«فَكَاتِبُوهُمْ» ليس فيه شرط، فتصح الكتابة بدون هذا الشرط، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع. واحتج الأولون بأن الكتابة ليست عقد معاوضة
محضة، لأن ما في يد العبد ملك للسيّد، والإنسان لا يبيع ملكه بملكه، بل قوله:«كاتبتك» كناية في العتق، فلا بد من لفظ التعليق أو نيته.
فصل
لا تجوز الكتابة الحالّة، لأن العبد ليس له ملك يؤديه في الحال، وإذا عقدت حالّة توجهت المطالبة عليه في الحال، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل العقد، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح، بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز لأنه يتصور أن يكون له ملك في الباطن، فالعجز لا يتحقق. وقال أبو حنيفة: تجوز لقوله تعالى «فكاتبوهم» ، وهو مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة. وأيضاً فمال الكتابة بدل عن الرقبة، فهو بمنزلة أثمان السلع المبيعة، فتجوز حالة. وأيضاً فأجمعوا على جواز العتق مطلقاً على مال حال، فالكتابة مثله لأنه بدل عن العتق في الحالين، إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط العبادة وفي الآخر معجل، فوجب أن لا يختلف حكمهما.
فصل
لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين، لأنه يروى عن عليّ وعثمان وابن عمر، روي أن عثمان غضب على عبده فقال:«لأضيقن عليك، ولأكاتبنك على نجمين» ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل، لأن التضييق فيه أشد، وإنما شرطنا التنجيم، لأنه عقد إرفاق، ومن شرط الإرفاق: التنجيم ليتيسر عليهم الأداء.
وقال أبو حنيفة: تجوز الكتابة على نجم واحد، لأن ظاهر قوله:«كاتبوهم» ليس فيه تقييد.
فصل
يشترط أن يكون المكاتب بالغاً عاقلاً. فإن كان صبياً أو مجنوناً لم تصح كتابته لقوله تعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} والابتغاء لا يتصور من الصبي والمجنون.
وقال أبو حنيفة: تجوز كتابة الصبي، ويقبل عنه (المولى) .
فصل
ويشترط أن يكون السيد مكلفاً مطلقاً. فإن كان صبياً أو محجوراً عليه لسفه لم
تصح كتابته، كما لا يصح بيعه، لأن قوله:«فَكَاتِبُوهُمْ» خطاب، فلا يتناول غير المكلف.
وقال أبو حنيفة: تصحّ كتابة الصبيّ بإذن الوليّ.
فصل
اختلفوا في قوله تعالى: «فكاتبوهم» هل هو أمر إيجاب أو ندب؟ فقيل: أمر إيجاب، فيجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيراً، فإن سأله بدون قيمته لم يلزمه، وهذا قول ابن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن عليّ ومحمد بن جرير لظاهر الآية، وأيضاً فلأن سبب نزولها إنما نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له:«صبيح» سأل مولاه أن يكاتبه، فأبى عليه، فنزلت الآية، فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً وروي أن عمر أمر أنساً بأن يكاتب سيرين (أبا محمد بن سيرين) فأبى، فرفع عليه الدِّرَّة وضربه، وقال:«فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْراً» وحلف عليه ليكاتبنه، ولو لم يكن واجباً لكان ضربه بالدرة ظلماً، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فجرى ذلك مجرى الإجماع.
وقال أكثر الفقهاء: إنه أمر استحباب، وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد لقوله عليه السلام:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ولأنه لا فرق بين أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة فإن قيل: كيف يصح أن يبيع ماله بماله؟
فالجواب: إذا ورد الشرع به جاز، كما إذا علق عتقه على مال يكسبه فيؤديه أو يؤدى عنه صار سبباً لعتقه.
فإن قيل: هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه لولا الكتابة؟
فالجواب: نعم، لأنه لو دفع إليه الزكاة قبل الكتابة لم يحل له أخذها، وإذا صار
مكاتباً حل له أخذها سواء أدى فعتق، أو عجز فعاد إلى الرق. واستفاد أيضاً أن الكتابة تبعثه على الاجتهاد في الكسب، ولولاها لم يكن ليفعل ذلك. ويستفيد المولى الثواب، لأنه إذا باعه فلا ثواب، وإذا كاتبه فالولاء له، فورد الشرع بجواز الكتابة لهذه الفوائد.
قوله: {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال عليه السلام: «إن علمتم لهم حرفة، ولا تدعوهم كلاًّ على الناس» وقال ابن عمر: قوة على الكسب، وهو قول مالك والثوري.
قال عطاء والحسن ومجاهد والضحاك: الخير: المال، لقوله تعالى:{إِن تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] أي: مالاً. قال عطاء: بلغني ذلك عن ابن عباس. ويروى أن عبداً لسلمان الفارسي قال له: كاتبني. قال: لك مال؟ قال: لا. قال: تريد أن تطعمني أوساخ الناس ولم يكاتبه. قال الزجاج: لو أراد به المال لقال: إنْ عَلِمْتُم لهم خيراً.
وأيضاً فلأن العبد لا مال له، بل المال لسيده. وقال إبراهيم النخعي وبن زيد وعبيدة: صدقاً وأمانة. وقال طاوس وعمرو بن دينار: مالاً وأمانة.
وقال الحسن: صلاحاً في الدين. قال الشافعي: وأظهر معاني الخير في العبيد: الاكتساب مع الأمانة، وأجاب ألا يمتنع من الكتابة إذا كان هكذا، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما، فإنه ينبغي أن يكون كسوباً يحصل المال، ويكون أميناً يصرفه في نجومه ولا يضيعه.
قوله: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} . قيل: هذا خطاب للموالي، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئاً، وهو قول عثمان وعليّ والزبير وجماعة، وبه قال الشافعي وهؤلاء اختلفوا في قدره: فقيل: يحط عنه ربع مال الكتابة، وهو قول عليّ، ورواه بعضهم عن عليّ مرفوعاً.
وعن ابن عباس: يحط الثلث. وقيل: ليس له حد، بل يختلف بكثرة المال وقلته، وهو قول الشافعي، لأن ابن عمر
كاتب غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم.
وقيل: يحط عنه قدراً يحصل الاستغناء به. قال سعيد بن جبير: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه، مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته، ووضع من آخر كتابته ما أحب. وكاتب عمر عبداً، فجاءه بنجمه، فقال: اذهب فاستغن على أداء مال الكتابة، فقال المكاتب: لو تركته إلى آخر نجم فقال: إني أخاف ألا أدرك ذلك.
وقيل: هو أمر استحباب، لقوله عليه السلام:«المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» وقوله عليه السلام: «أيما عبد كاتب على مائة فأداها إلا عشرة فهو عبد» ولو كان الحط واجباً سقط عنه بقدره، وأيضاً فلو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه معلقاً بالعقد، فيكون العقد موجباً له ومسقطاً له، وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب.
وأيضاً فلو كان الحط واجباً لما احتاج أن يضع عنه، بل كان يسقط القدر المستحق، كمن له على إنسان دين، ثم لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قابضاً له. وأيضاً فلو كان واجباً لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً، فإن كان معلوماً وجب ألا تكون الكتابة بثلاثة أرباع المال على قول من يجعله الربع، فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف إذا كان العقد على أربعة آلاف، وذلك باطل، لأن أداء جميعها شرط، فلا يعتق بأداء البعض لقوله عليه السلام:«المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» وإن كان مجهولاً صارت الكتابة مجهولة، لأن الباقي بعد الحط مجهول، فلا يصح، كما لو كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء.
وقال قوم: المراد بقوله: «وآتُوهُم» أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله: «وَفِي الرّقَابِ» وهو قول الحسن وزيد بن أسلم، ورواية عطاء عن
ابن عباس. وعلى هذا الخطاب لغير السادة، لأنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع زكاته إلى مكاتبه. وقال الكلبي وعكرمة وإبراهيم: هو خطاب لجميع الناس، وحث على معونة المكاتب، لقوله عليه السلام:«من أعان مكاتباً في فك رقبته أطلقه الله في ظل عرشه» .
فصل
إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم. فقيل: يموت رقيقاً، وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع. وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت، وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد.
وقيل: إن ترك وفاء لما بقي عليه من الكتابة كان حراً، وإن كان فيه فضل فالزيادة لأولاده الأحرار، وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي.
فصل
ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال، لأن عتقه معلق بالأداء، وقد وجد، ويتبعه الأولاد والأكساب كما في الكتابة الصحيحة. ويفترقان في بعض الأحكام، وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم، ولا تبطل بموت المولى، ويعتق بالإبراء من النجوم. والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق، وتبطل بموت المولى، ولا يعتق بالإبراء من النجوم. وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ويثبت في الكتابة الفاسدة، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً.
قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء
…
} الآية لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور.
واعلم أن العرب تقول للمملوك: فتى، وللمملوكة: فتاة، قال تعالى:{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ} [الكهف: 62] وقال: «تُرَاوِدُ فَتَاهَا» وقال: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ} [النساء: 25] .
وقال عليه السلام: «ليقل أحدكم: فَتَاي وفَتَاتي، ولا يقل: عَبْدِي وأَمَتِي» .
والبِغَاء: الزنا، مصدر: بَغَتِ المَرْأَة تَبْغي بِغَاءً، أي: زَنَتْ، وهو مختص بزنا النساء.
فصل
قال المفسرون: نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق، كان له ست جوار مُعَاذة، ومُسَيْكة، وأُمَيْمة، وعَمْرَة، وأَرْوَى، وقتيلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب يأخذها، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين: فإن يكن خيراً فقد استكثرنا منه، وإن كان شراً فقد آن لنا أن ندعه فشكيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فنزلت الآية. وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد، وجاءت الأخرى بدينار، فقال لهما:«ارجعا فازنيا» فقالتا: «والله لا نفعل وقد جاء الإسلام وحرم الزنا» فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وشكيا إليه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وروي أن عبد الله بن أبيّ أسر رجلاً، فأراد الأسير جارية عبد الله، وكانت الجارية مسلمة، فامتنعت الجارية لإسلامها، فأكرهها سيدها على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده، فنزلت الآية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال:«جاء عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - ومعه جارية من أجمل النساء تسمى: معاذة، وقال: يا رسول الله، هذه لأيتام فلان، أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها. فقال عليه السلام: لا. فأعاد الكلام، فنزلت الآية» .
فصل
الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس.
ومعنى قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أي: إذا أرَدْنَ، وليس معناه الشرط، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردْن تحصناً، كقوله عز وجل:{وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي: إذ كنتم مؤمنين. وقيل: إنما شرط إرادة التحصن، لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن، فإن لم تُرِد التحصن بغت طوعاً، لأنه متى لم توجد إرادة التحصن لم تكن كارهة للزنا، وكونها غير كارهة للزنا يمنع إكراهها، فامتنع الإكراه لامتناعه في نفسه. وقيل: هذا الشرط لا مفهوم له، لأنه خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق، ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} [البقرة: 229](مفهوم) ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} [النساء: 101] والقصر لا يختص بحال الخوف، ولكنه أخرجه على الغالب، فكذا ههنا. وقال بعض العلماء: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُم على البِغَاءِ لتبتغوا عرض الحياةِ الدُّنيا، أي: لتطلبوا من أموال الدنيا، يريد: من كسبهن وبيع أولادهن. والتحصن: التعفف.
قوله: {وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . أي: غفور رحيم للمكرهات، والوزر على المُكْرِه، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال:(لهنَّ والله) .
وقال ابن الخطيب: فيه وجهان:
أحدهما: غَفُوراً لَهُنَّ، لأنّ الإكراه (يُزِيلُ الإثم) والعقوبة عن المكره فيما فعل.
والثاني: (فإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم) بالمكره بشرط التوبة. وهذا ضعيف لأنه يحتاج إلى الإضمار، والأول لا يحتاج إليه. وفي هذا نظر، لأنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط عند الجمهور كما تقدم تحقيقه (في البقرة) .
قوله: «فإن الله» جملة وقعت جواباً للشرط، والعائد على اسم الشرط محذوف، تقديره: غَفُور لهم. وقدره الزمخشري في أحد تقديراته وابن عطية وأبو البقاء: فإن الله غفور لَهُنَّ، أي: لِلْمُكرهات، فعرِيَتْ جملة الجزاء عن رابط يربطها باسم الشرط، ولا يقال: إن الرابط هو الضمير المقدر الذي هو فاعل المصدر؛ إذ التقدير: من بعد إكراههم لهُنّ، فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابط المقدر، لأنهم لم يعدوا ذلك من الروابط، تقول: هند عجبت من ضربها زيداً فهذا جائز، ولو قُلْتَ: هند عجبت من ضربِ زيدٍ: أي: من ضربها، لَمْ يَجُز، لخلوها من الرابط وإن كان مقدراً. ولما
قدر الزمخشري «لهن» أورد سؤالاً فقال: فإن قلت: لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن، لأن المُكرهة على الزنا بخلاف المُكره غير آثمة. قلت: لَعَلَّ الإكراه غير ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل، أو بما يُخَاف منه التلف، أو فوات عضو حتى يسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحد الذي تُعذَرُ فيه فتكون آثمة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} الآية.
لما ذكر الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث:
أحدها: قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} أي: مفصلات. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر: «مبيِّنات» بكسر الياء، أي: أنها تبين للناس الحلال والحرام، كقوله تعالى:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195] وتقدم الكلام في «مُبَيّنَاتٍ» كسراً وفتحاً.
وثانيها: قوله: {وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} . قال الضحاك: «يريد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود، فأنزل في القرآن مثله» وقال مقاتل: «قوله:» وَمَثَلاً «أي: شبهاً من حالهم بحالكم في تكذيب الرسل» يعني: بينا لكم ما أحللنا بهم من العقاب لتمردهم على الله، فجعلنا ذلك مثلاً لكم، وهذا تخويف لهم، فقوله:«ومثلاً» عطف على «آيات» أي: وأنزلنا مثلاً من أمثال الذين من قبلكم.
وثالثها: قوله: «وَمَوْعِظَة لِلْمُتقينَ» أي: الوعيد والتحذير، ولا شك أنه موعظة للكل، وخصَّ المتقين بالذكر لما تقدم في قوله:«هُدًى لِلْمتقينَ» .
قوله تعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض} الآية. هذه جملة من مبتدأ وخبر، إما على حذف مضاف، أي: ذو نور السموات والمراد بالنور: عَدْلُهُ، ويؤيد هذا قوله:«مَثَلُ نُورِهِ» وأضاف النور لهذين الظرفين إما دلالة على سَعَةِ إِشْرَاقِهِ، وَفشُوّ إضاءته حتى تضيء له السمواتُ والأرضُ، وإمَّا لإرادة أهل السموات والأرض، وأنهم يَسْتَضِيئُونَ به. ويجوز أن يُبَالَغَ في العبادة على سبيل المدح كقولهم: فلان شَمْسُ البلادِ وقمرُها قال النابغة:
3831 -
فإِنَّك شَمْسٌسٌ والمُلُوكُ كَوَاكِبٌ
…
إذَا ظَهَرتْ لم يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
وقال (آخر) :
3832 -
قَمَرُ القَبَائِلِ خَالِدُ بن يزيد
…
ويجوز أن يكون المصدر واقعاً اسم الفاعل، أي: مُنَوِّرُ السَّمواتِ. ويؤيد هذا الوجهَ قراءة أمير المؤمنين وزيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي: «نَوَّر» فعلاً ماضياً، وفاعله ضمير الباري تعالى، «السموات» مفعوله، وكَسْرُهُ نَصْبٌ، و «الأَرْضُ» بالنصب نَسَقٌ عليه. وفَسَّرَهُ الحسنُ فقال:«اللَّهُ مُنوِّرُ السَّمواتِ» .
فصل
قال ابن عباس: هادي أهل السموات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون. وقال الضحاك: منوِّر السموات والأرض، يقال: نوّر الله السماء بالملائكة ونوّر الأرض بالأنبياء. وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض.
وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزَيّن السموات والأرض، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقيل: بالنبات والأشجار. وقيل: معناه: الأنوار كلها منه، كما يقال: فلان رحمة، أي: منه الرحمة. وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح، كقول القائل:
3833 -
إذا سارَ عبدُ اللَّهِ من مَرْوَ لَيْلَةً
…
فقد سارَ منها نورُها وجمالُها
قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} مبتدأ وخبر، وهذه الجملة إيضاحٌ وتفسيرٌ لِمَا قبلها، فلا محلَّ لها، وثمَّ مُضَاف محذوف، أي: كَمَثَلِ مِشْكَاةٍ. قال الزمخشري: أي: صفةُ نُورِهِ العجيبةُ الشأنِ في الإضاءة «كَمِشْكَاةٍ» أي: كصفة (مشكاة) . واختلفوا في الضمير في «نُورِهِ» : فقيل: هو الله تعالى، أي: مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن، وهو النور الذي يهتدى به، كما قال:{فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22] . وكان ابن مسعود يقرأ «مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ المُؤْمِن» وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «مثل نوره الذي أعطى المؤمن» وعلى هذا المراد بالنور: الإيمان، والآيات البيّنات.
وقيل: يعود على المؤمنين أو المؤمن، أو من آمن به، أي مثل نور قلب المؤمن. وكان أبيّ يقرأ بهذه الألفاظ كلها، وأعاد الضمير على ما قرأ به. والمراد بالنور: الإيمان
والقرآن لقوله تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 15] يعني: القرآن.
وقال سعيد بن جبير والضحاك: الضمير يعود على محمد صلى الله عليه وسلم َ - ولم يتقدم لهذه الأشياء ذِكْر.
وأما عوده على المؤمنين في قراءة أبيّ، ففيه إشكال من حيث الإفراد. قال مكّيٌّ: يُوقَف على الأرض في هذه الأقوال الثلاثة.
وقيل: أراد ب «النور» الطاعة، سمى طاعة الله نوراً، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلاً.
فصل
واختلفوا في هذا التشبيه:
(هل هو) تشبيه مركب، أي: أنه قصد تشبيه جملة بجملة من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء، بل قصد تشبيه هُدَاهُ وإتْقَانهُ صُنْعَتَهُ في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي يتخذونه، وهو أبلغ صفات النور عندكم أو تشبيه غير مركب، أي: قصد مقابلة جزء بجزء. ويترتب الكلام فيه بحسب الأقوال في الضمير في «نورِهِ» . و «المِشْكَاةُ» : الكُوَّةُ غير النَّافِذة. وهل هي عربية أم حبشيّة مُعَرَّبَةٌ؟ خلاف.
قال مجاهد: «هي القنديل» . وقيل: هي الحديدةُ أو الرَّصاصةُ التي يُوضع فيها الذُّبالُ، وهو الفتيل، ويكون في جوف الزجاجة.
وقيل: هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح. وقيل: ما يعلق منه القنديل من الحديدة. وأمال «المِشْكَاة» الدُّوري عن الكسائي لِتقدُّم الكسر وإن
وُجِدَ فاصل ورُسِمَتْ بالواو ك «الزكوة» و «الصلواة» . والمصباح: السِّراج الضَّخم، وأصله من الضوء ومنه الصبح. والزّجاجة: واحدة الزّجاج، وهو جوهَر معروف، وفيه ثلاث لغات: فالضم: لغة الحجاز، وبها قرأ العامة. والكسر والفتح: لغة قيس. وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد. وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في رواية عنه، وأبو رجاء. وكذلك الخلاف في قوله:«الزُّجَاجَةُ» . والجملة من قوله: «فِيهَا مِصْبَاح» صفة ل «مشكاة» ، ويجوز أن يكون الجار وحده هو الوصف، و «مِصْبَاح» مرتفع به فاعلاً.
قوله: «دُرِّي» . قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال، وياء بعدها همزة. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياء بعدها همزة. والباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز. وهذه الثلاثة في السبع. وقرأ زيد بن عليّ والضحاك وقتادة بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهري بكسرها وتشديد الياء.
وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وقتادة أيضاً «دَرِّيءٌ» فتح الدال وياء بعدها همزة فأما الأولى فقراءة واضحة، لأنه بِنَاءً كثيرٌ، يوجد في الأسماء نحو:«سِكِّين» وفي الصفات نحو «سِكِّير» . وأما القراءة الثانية فهي من «الدرء» بمعنى: الدفع، أي: يدفع بعضها بعضاً، أو يدفع ضوؤها خفاءها.
قيل: ولم يوجد شيء وزنه «فُعِّيل» إلا «مُرِّيقاً» للعُصْفر، و «سُرِّيّة» على قولنا: إنها من السّرور، وأنه أبدل من إحدى المُضَعَّفَات ياء، وأُدْغِمت فيها ياء «فُعِّيل» ، و «مُرِّيخاً» للذي في داخل القرن اليابس، ويقال بكسر الميم أيضاً، و «عُلِّية» و «دُرِّيءٌ» في هذه القراءة، و «دُرِّيَّة» أيضاً في قولٍ، وقال بعضهم: وزن «دريء» في هذه القراءة «فُعُّول» كسُبُّوح قُدُّوس فاستثقل توالي الضم فنُقِل إلى الكسر، وهذا منقول أيضاً في «سُرِّيّة» و «دُرِّيّة» .
وأما القراءة الثالثة فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون أصلها الهمز كقراءة حمزة إلا أنه أُبدل من الهمز ياءً، وأُدغِم، فيتحد معنى القراءتين. ويحتمل أن تكون نسبة إلى الدُّرِّ لصفائها، وظهور (إشراقها) .
وأما قراءة تشديد الياء مع فتح الدال وكسرها، فالذي يظهر أنه منسوب إلى الدُّرّ. والفتح والكسر في الدال من باب تغييرات النسب. وأما فتح الدال مع المد والهمز ففيها إشكال.
قال أبو الفتح: وهو بناءٌ عزيز لم يُحْفَظ منه إلاّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين.
قال شهاب الدين: وقد حكى الأخفش فعلية السَّكِّينَة والوَقَار، وكَوْكَبٌ دَرِّيءٌ من (دَرَأْتُه) . قوله:«تُوقَدُ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تَوَقَّدَ» بزنة «تَفَعَّلَ» فعلاً ماضياً فيه ضمير فاعله يعود على «المِصْبَاح» ، ولا يعود على «كَوْكَبٍ» لفساد المعنى. والأخوان وأبو بكر:«تُوقَدُ» بضم التاء من فوق وفتح القاف مضارع «أَوقَدَ» ، وهو مبني للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير يعود على «زُجَاجَة» فاستتر في الفعل. وباقي السبعة كذلك إلا أنه بالياء من تحت، والضمير المستتر يعود «المِصْبَاح» . وقرأ الحسن والسُّلمي وابن مُحيصن ورُويَتْ عن عاصم من طريق المُفضَّل كذلك إلا أنه ضمَّ الدَّال، جعله مضارع «تَوَقَّدَ» ، والأصل «تَتَوَقَّد» بتاءين فحذف إحداهما ك «تَتَذَكّر» ، والضمير أيضاً للزجاجة.
وقرأ عبد الله «وُقِّدَ» فعلاً ماضياً بزنة «قُتِّلَ» مشدداً، أي:«المصْبَاحُ» وقرأ الحسن وسلام أيضاً «يَوَقَّدُ» بالياء من تحت وضم الدال مضارع «توقد» ، والأصل «يتوقد» بياء من تحت وتاء من فوق، فحذف التاء من فوق (و) هذا شاذٌ، إذ لم يَتَوال مِثلان، ولم يَبْقَ في اللفظ ما يدل على المحذوف، بخلاف «تَنَزَّلُ» و «تَذَكَّرُ» وبابه، فإن فيه تاءين، والباقي يدل على ما فُقِدَ. وقد يُتَمَحَّلُ لصحته وجه من القياس، وهو أنهم قد حملوا «أَعِدُ» و «تَعِدُ» و «نَعِدُ» على «يَعِدُ» في حذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، فكذلك حملوا «يَتَوَقّدُ» بالياء والتاء على «تَتَوَقَّدُ» بتاءين وإن لم يكن الاستثقال موجوداً في الياء والتاء.
قوله: «مِنْ شَجَرَةٍ» مِنْ لابتداء الغاية، وثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: من زيت (شَجَرَةٍ) . و «زَيْتُونَةٍ» فيها قولان: أشهرهما: أنها بدل من «شَجَرَةٍ» .
الثاني: أنها عطف بيانٍ، وهذا مذهب الكوفيين، وتبعهم أبو علي. وتقدم هذا في قوله:{مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] .
قوله: «لَا شَرْقِيَّةٍ» صفة ل «شجرةٍ» ودخلت «لَا» لتفيد النفي. وقرأ الضَّحَّاكُ بالرفع على إضمار مبتدأ، أي: لَا هِيَ شَرْقِيةٌ، والجملة أيضاً في محل جر نعتاً ل «شَجَرَةٍ» . (قوله:«يَكَادُ» هذه الجملة أيضاً نعت ل «شَجَرَةٍ» ) .
قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} جوابها محذوف، أي: لأضاءت، لدلالة ما تقدم عليه، والجملة حالية. وتقدم تحرير هذا في قولهم: أعطوا السائل وَلَوْ جاء على فَرَسٍ. وأنها لاستقصاء الأحوال حتى في هذه الحالة. وقرأ ابن عباس والحسن: «يَمْسَسْهُ» بالياء، لأن التأنيث مجازي، ولأنه قد فصل بالمفعول أيضاً.
فصل في كيفية هذا التمثيل
قال جمهور المتكلمين: معناه: أن هداية الله قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي يكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح (يتّقد بزيت) بلغ النهاية في الصفاء. فإن قيل: لم شبهه بذلك مع أن ضوء الشمس أعظم منه؟
فالجواب: أنه تعالى أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة، لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات (وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات) وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس، لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة، فلا جرم كان هذا المثل أليق وأوفق.
فصل
اعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء.
فأولها: أن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أشد إنارة، ويحقق ذلك أن المصباح ينعكس شعاعه من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض، لما في الزجاجة من الصفاء والشفافة، فيزداد بسبب ذلك الضوء والنور، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف النور الظاهر، حتى إنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء، فإذا انعكست تلك الأشعة من كل جانب من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية.
وثانيها: أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد فيه، فإذا كان الدهن صافياً خالصاً كانت حاله بخلاف حاله إذا كان كدراً، وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت، فربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه.
وثالثها: أن الزيت يختلف باختلاف شجرته، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس (في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجاً، فكان زيته أكثر صفاءً، لأن زيادة تأثير الشمس) تؤثر في ذلك، فإذا اجتمعت هذه الأمور وتعاونت صار ذلك الضوء خالصاً كاملاً، فيصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى.
فصل
فصل
قال مجاهد: «المِشْكَاة» : القنديل، والمعنى: كمصباح في مشكاة. المصباح في
زجاجة، يعني:«القنديل» قال الزجاج: إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين في كل شيء، وضوؤه يزيد في الزجاج. ثم وصف الزجاجة فقال:{كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} . والدَّرُّ: الدفع، لأن الكواكب تدفعُ الشياطينَ من السماء. وشبيه حالة الدفع، لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور. وقيل:«دري» أي: طالع، يقال: درى النجم: إذا طلع وارتفع، ويقال: هو من درأ الكوكب: إذا اندفع منْقضاً فيضاعف ضوؤه في ذلك الوقت) (ويقال: درأ علينا فلان، أي: طلع وظهر. وقيل: الدري أي ضخم مضى، ودراري النجوم: عظامها. وقيل: الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام، وهي: زحل، والمريخ والمشتري، والزهرة وعطارد. وقيل: الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي في المعظم الأول. فإن قيل: لم شبهه بالكوكب ولم يشبهه بالشمس والقمر؟ .
فالجواب لأن الشمس والقمر يلحقها الخسوف، والكواكب لا يلحقها الخسوف. «توقّد» يعني: المصباح، أي: اتَّقَدَ. ويقال: توقدت النار، أي: اتقدت، يعني: نار الزجاجة، لأن الزجاجة لا توقد. هذا على قراءة من ضم التاء وفتح القاف.
وأما على قراءة الآخرين ف «توقد» يعني المصباح {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي: من زيت شجرة مباركة، فحذف المضاف بدليل قوله:{يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء} . وأراد بالشجرة المباركة: الزيتون وهي كثيرة البركة والنفع: لأن الزيت يسرج به وهو أضوأ وأصفى الأدهان، وهو إدام وفاكهة، ولا يحتاج في استخراجه إلى عصار، بل كل أحد يستخرجه. وقيل: أول شجرة نبتت بعد الطوفان، وبارك فيها سبعون نبياً منهم الخليل. وجاء في الحديث أنه مصحة من الباسور، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها. وقال عليه السلام:«كُلُوا الزَّيْتَ وادهنُوا بِهِ فإِنَّهُ من شَجَرة مُبَارَكةٍ» .
وقيل: المراد زيتون الشام، لأنه في الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه الشجرة بأنها {لا شرقية ولا غربية} واستدلوا على ذلك بوجوه:
أحدها: أن الشام وسط الدنيا، فلا توصف شجرتها بأنها شرقية أو غربية.
وهذا ضعيف، لأن من قال:«الأرض كرة» لم يثبت للمشرق والمغرب موضعين معينين، بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة، لأن المثل مضروب لكل من (يعرف، الزيت) وقد) يوجد في غير الشام كوجوده فيه.
وثانيها: قال الحسن: «لأنها من شجر الجنة، إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية» . وهذا أيضاً ضعيف، لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه، وهم ما شاهدوا شجر الجنة.
وثالثها: أنها شجرة يلتف بها ورقها التفافاً شديداً، ولا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية أو غربية، وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان. وهذا أيضاً ضعيف، لأن الغرض صفاء الزيت، وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون، وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله.
ورابعها: قال ابن عباس: «المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال، أو صحراء واسعة، فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب» . وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة.
وهذا هو المختار، لأن الشجرة إذا كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء، وحينئذ يكون مقصود التمثيل أتم. وقيل: المراد ب «المِشْكَاة» صدر محمد، (و «الزجاجة» قلب محمد) و «المصباح» ما في قلب محمد من الدين، {يوقد من شجرة} يعني:
{واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النساء: 125] والشجرة: إبراهيم، ثم وصف إبراهيم بقوله:{لَاّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} أي: لا يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى، بل كان عليه السلام يصلي إلى الكعبة، ثم قال:{يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} لأن الزيت إذا كان خالصاً ثم رئي من بعيد يرى كأن له شعاعاً، فإذا مسته النار ازْدَاد ضَوءاً على ضوئه كذلك.
قال ابن عباس: «يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد نوراً على نور، وهدى على هدى» . وقال الضحاك: «يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي» . قال عبد الله بن رواحة:
3834 -
لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آياتٌ مبينةٌ
…
كانتْ بديهتُه تُنْبِيكَ بالخَبر
وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة: إبراهيم، والزجاجة: إسماعيل والمصباح محمد صلى الله عليه وسلم َ - سماه الله مصباحاً كما سماه سراجاً فقال «وسراجاً منيراً» {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهي إبراهيم عليه الصلاة والسلام ُ، وسماه مباركاً، لأن أكثر الأنبياء من صلبه {لَاّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} أي لم يكن إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً، لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم َ - تظهر للناس من قبل أن يوحى إليه، {نُّورٌ على نُورٍ} نبي من نسل نبي (نور محمد على نور إبراهيم) .
قوله: {نُّورٌ على نُورٍ} خبر مبتدأ مضمر أي: ذلك نور، و «عَلَى نُورٍ» صفة ل «نُورٌ» . والمعنى: أن القرآن نور من الله عز وجل لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نوراً على نور. {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} .
قال ابن عباس: «لدين الإسلام، وهو نور البصيرة» . وقيل: القرآن. (قال إن
المؤمن يتقلب في خمسة أنوار: قوله نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصير إلى نور) . واستدل أهل السنة بهذه الآية على صحة مذهبهم فقالوا:«إنه تعالى بعد أن بين أن هذه الدلائل التي بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه، قال:» يَهْدِي اللَّهُ «بإيضاح هذه الأدلة {لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} أي: وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان» .
قوله: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} يبين الله الأشباه للناس، أي: للمكلفين، تقريباً لأفهامهم، وتسهيلاً لنيل الإدراك.
{والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} وهذا كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله، ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات. قالت المعتزلة: قوله تعالى {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} ذكره في معرض النعمة، وإنما يكون نعمة عظيمة لو أمكنكم الانتفاع به وتقدم جوابه.
قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} الآية.
واعلم أن قوله: «فِي بُيُوتٍ» يقتضي محذوفاً يكون فيها، وذكروا فيه ستّة أوجه:
أحدها: أن قوله: «في بُيُوتٍ» صفة ل «مِشْكَاةٍ» أي كَمِشْكَاةَ في بُيُوتٍ، أي: في بيتٍ من بُيُوت الله.
(الثاني: أنه صفة ل «مصباح» ) وهذا اختيار أكثر المحققين.
واعترض عليه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني من وجهين:
الأول: أن المقصود من ذكر «المصباح» المثل، وكون المصباح في بيت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود، لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة.
والثاني: أن الذي تقدم ذكره في وجوه يقتضي كونه واحداً، كقوله:«كَمشْكَاةٍ» وقوله: «فيهَا مِصْبَاحٌ» وقوله: «فِي زُجَاجَةٍ» وقوله: {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] ، ولفظ «البُيُوت» جمع، ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت.
وأجيب عن الأول: أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم، فكان أضوأ، فكان التمثيل به أتم وأكمل.
وعن الثاني: أنه لما كان القصد بالمثل هذا الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل مشكاة فيها مصباح في زجاجة يتوقد من الزيت، فتكون الفائدة في ذلك أن ضوءه يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى، كقوله:«الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وقناعة يلزم بيته» لكان وإن ذكر بلفظ الواحد، فالمراد النوع، فكذا ههنا.
الثالث: أنه صفة ل «زجاجة» . .
الرابع: أنه يتعلق ب «يُوقَدُ» أي: يُوقَد في بيوت، والبيوت هي المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض. وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على «عَلِيمٌ» .
الوجه الخامس: أنه متعلق بمحذوف كقوله: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] أي: سبحوه في بيوت.
السادس: أنه متعلق ب «يُسَبِّحُ» أي: يسبح رجال في بيوت، و «فيهَا» تكرير للتوكيد كقوله:{فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] وعلى هذين القولين فيوقف على «عَلِيمٌ» .
قوله: «أَذِنَ اللَّهُ» في محل جر صفة ل «بُيُوت» ، و «أَنْ تُرْفَع» على حذف الجار، أي: في أن ترفع. ولا يجوز تعلق «فِي بُيُوتٍ» بقوله: «وَيُذْكرَ» لأنه عُطِفَ
على ما في حيز «أَنْ» وما بعد «أن» لا يتقدم عليها.
فصل
قال أكثر المفسرين: المراد ب «البيوت» ههنا: المساجد.
وقال عكرمة: هي البيوت كلها. والأول أولى، لأن في البيوت ما لا يوصف بأن الله أذن أن ترفع، وأيضاً فإن الله تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة، وذلك لا يليق إلا بالمساجد. ثم القائلون بأنها المساجد قال بعضهم: بأنها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة. وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام ومسجد المدينة بناه النبي عليه السلام ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - قاله ابن بريدة. وعن الحسن أن ذلك بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل. وهذا تخصيص بغير دليل.
وقال ابن عباس: المراد جميع المساجد كما تقدم.
قوله: «أَنْ تُرفَعَ» . قال مجاهد: تبنى كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127]، وهو مرويّ عن ابن عباس. وقال الحسن والزجاج: تُعَظَّم وتُطَهَّر عن الأنجاس ولغو الأفعال. وقيل: مجموع الأمرين {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} .
قال ابن عباس: يتلى فيها كتابه. وقيل: عام في كل ذكر {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} .
قرأ ابن عامر وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثَّلاث، والأَوْلَى منها بذلك الأَوَّل، لاحتياج العامل إلى مرفوعه، فالذي يليه أولى، و «رِجَالٌ» على هذه القراءة مرفوع على أحد وجهين: إمَّا بفعل مُقدَّر لتعذّر إسناد الفعل إليه، وكأنَّه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل:«مَنْ يُسَبِّحُهُ» ؟ فقيل: «يُسَبِّحُهُ رجالٌ» ، وعليه في أحد الوجهين قول الشاعر:
3835 -
ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لخُصُومةٍ
…
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوَائِح
كأنه قيل: من يَبْكيه؟ فقيل: يَبْكيه ضارعٌ، إلَاّ أَنَّ في اقتباس هذا خلافاً: منهم من (جَوَّزهُ وقاس) عليه: «ضُرِبَتْ هندٌ زيدٌ» أي: ضَرَبَهَا زيدٌ. ومنهم من مَنَعهُ.
والوجه الثاني في البيت أن «يَزِيدُ» منادى حذف منه حرفُ النِّداء، أي: ما يزيد وهو ضعيفٌ جداً.
الثاني: أن «رِجَالٌ» خبر مبتدأ محذوف، أي: المُسَبِّحةٌ رجالٌ.
وعلى هذه القراءة يوقف على «الآصالِ» . وباقي السبعة بكسر الباء مبنياً للفاعل، والفاعلُ «رِجَالٌ» فلا يوقف على «الآصَالِ» . وقرأ ابن وثَّاب وأبو حَيْوَة «تُسَبِّحُ» بالتاء من فوق، وكسر الباء، لأن جمع التكسير يُعَامَل معاملة المؤنث في بعض الأحكام، وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلَاّ أنه فتح (الباء) . وخرَّجَها الزمخشري على إسناد الفعل إلى «الغُدُوّ والآصَالِ» على زيادة الباء، كقولهم:«صيد عليه يومان» (والمراد: وحشهما) . وخرَّجها غيره على أن القائم مقام الفاعل ضمير
التَّسبيحة، أي: تُسَبِّح التَّسبيحَةُ على المجاز المُسَوّغ لإسناده إلى الوقتين، كما خرجوا قراءة أبي جعفر أيضاً:«لِيُجْزَى قَوْماً» أي: «لِيُجْزَى الجَزَاء قَوْماً» ، بل هذا أولى من آية الجاثية، إذ ليس هنا مفعول صريح.
فصل
اختلفوا في هذا التسبيح. فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة، وهؤلاء منهم من حمله على صلاة الصبح والعصر، فقال: كانتا واجبتين في بدء الحال ثم زيد فيهما، وقال عليه السلام:«من صلى صلاة البردين دخل الجنة» وقيل: أراد الصلوات المفروضة، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الفجر، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشائين لأن اسم الأصيل يجمعهما، و «الآصال» جمع أَصيل، وهو العشي.
وإنما وحد «الغدو» لأنه مصدر في الأصل لا يجمع، و «الأَصيل» اسم فجمع.
قال الزمخشري: «بالغدو، أي بأوقات الغد، أي بالغدوات» .
وقيل: صلاة الضحى، قال عليه السلام:«من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهِّر، فأجره كأجر الحاجِّ المُحْرم، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المُعْتَمِر، وصلاةٌ على إثر صلاة لا لَغْوَ بينهما كتاب في عِلِّيِّين» وقال ابن عباس: «إنّ صلاة الضحى لفي كتاب الله (مذكورة)(وتلا هذه) الآية. وقيل: المراد منه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله؛ لأنه قد عطف على ذلك الصلاة والزكاة فقال: {عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة} . وهذا الوجه أظهر.
وقرئ:» بالغدو والإيصَالِ «وهو الدخول في الأصل.
قوله:» لا تُلْهِيهِمْ «في محل رفع صفة ل» رِجَالٌ «. (و) خص الرجال
بالذكر في هذه المساجد، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد.» لَا تُلْهِيهِمْ «: تشغلهم،» تِجَارَةٌ «قيل: خص التجارة بالذكر، لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات.
قال الحسن: أما والله إنهم كانوا يتجرون، ولكن إذا جاءتهم فرائض الله لم يلههم عنها شيء، فقاموا بالصلاة والزكاة. فإن قيل: البيع داخل في التجارة، فلم أعاد البيع؟ فالجواب من وجوه:
الأول: أن التجارة جنس يدخل تحته أنواع الشراء والبيع، وإنما خص البيع بالذكر لأن الالتهاء به أعظم، لكون الربح الحاصل من البيع معين ناجز، والربح الحاصل من الشراء مشكوك مستقبل.
الثاني: أن البيع تبديل العرض بالنقدين، والشراء بالعكس، والرغبة في تبديل النقد أكثر من العكس.
الثالث: قال الفراء: التجارة لأهل الجَلْب، يقال: تجر فلان في كذا: إذا جلب من غير بلده، والبيع ما باعه على يديه.
الرابع: أراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً، لأنه ذكر البيع بعده كقوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة: 11] يعني: الشراء.
قوله: {عَن ذِكْرِ الله} عن حضور المساجد لإقامة الصلاة. فإن قيل: فما معنى قوله:» وَإقَامِ الصَّلَاةِ؟ «فالجواب قال ابن عباس: المراد بإقامة الصلاة: إقامتها لمواقيتها، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة.
ويجوز أن يكون قوله: «الصَّلَاة» تفسيراً لذكر الله، فهم يذكرون قبل الصلاة.
قال الزجاج: وإنما حذفت الهاء، لأنه يقال: أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل: إقواماً، ولكن قُلِبَت الواو ألفاً، فاجتمعت ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي: أقَمْتُ الصلاة إقاماً، فأدخلت الهاء عوضاً عن المحذوف، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة وهذا إجماع من النحويين.
فصل
المراد: الصلوات المفروضة لما روى سالم (عن) ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم، فدخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت هذه الآية: {رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة} .
وقوله: «وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ» يريد: المفروضة. قال ابن عباس: إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها. وروي عن ابن عباس أيضاً: المراد من الزكاة: طاعة الله والإخلاص. وهذا ضعيف لأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء، وهذا لا يحتمل إلا ما يعطى من حقوق المال. قوله:«يخَافُونَ يَوْماً» يجوز أن يكون نعتاً ثانياً ل «رِجَالٌ» ، وأن يكون حالاً من مفعول «تُلْهِيهِمْ» و «يَوْماً» مفعول به لا ظرف على الأظهر، و «تَتَقَلَّبُ» صفة ل «يَوْماً» .
قوله: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتنفتح الأبصار من الأغطية بعد أن كانت مطبوعة عليها لا تبصر، وكلهم انقلبوا من الشك إلى اليقين، كقوله:{وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وقوله: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22] . وقيل: تتقلب القلوب تطمع في النجاة وتخشى الهلاك، وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤخذ أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم، أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟
والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل، لأنهم قالوا: إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة، وأهل العقاب لا يرجون العفو. وقيل: إن القلوب تزول من أماكنها فتبلغ الحناجر، والأبصار تصير زرقاً. وقيل: تقلب البصر: شخوصه من هول الأمر وشدته.
(وقال الجبائي: تقلب القلوب والأبصار) : تغير هيئاتها بسبب ما ينالها من العذاب. قال: ويجوز أن يريد به تقليبها على جمر جهنم كقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] .
قوله: «لِيَجْزِيَهُمْ» . يجوز تعلقه ب «يُسَبِّحُ» أي: يُسَبِّحون لأجل الجزاء.
ويجوز تعلقه بمحذوف، أي: فعلوا ذلك ليجزيهم. وظاهر كلام الزمخشري أنه من باب الإعمال، فإنه قال: والمعنى: يُسبِّحونَ وَيَخَافُونَ (لِيَجْزيهمْ «) . ويكون على إعمال الثاني للحذف من الأول.
وقوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي: ثواب أحسن، أو أحسن جزاء ما عملوا، و «ما» مصدرية، أو بمعنى الذي، أو نكرة.
فصل
المراد بالأحسن: الحسنات أجمع، وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل: إنما ذكر الأحسن لأنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم، بل يغفرها لهم.
وقيل: يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشر إلى سبعمائة. ثم قال: {وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أي: ما لم يستحقوه بأعمالهم. فإن قيل: هذا يدل على أن لفعل الطاعة أثر في استحقاق الثواب، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل، وأنتم لا تقولون بذلك، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئاً؟ قلنا: نحن نثبت الاستحقاق بالوعد، فذلك القدر هو الذي يستحق، والزائد عليه هو الفضل. ثم قال:{والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وذلك تنبيه على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فكأنه تعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة، وهم مع ذلك في نهاية الخوف، فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.
قوله تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآية.
لما بيَّن حال المؤمن أنه في الدنيا يكون في النور، وبسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح ثم بين أنه يكون في الآخرة فائزاً بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبع ذلك ببيان أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات، وضرب لكل واحد منهما مثلاً، أما المثل الدال على حسرته في الآخرة فقوله:{والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} .
قال الأزهري: «السَّرَابُ: ما يتراءى للعين وقت الضحى في الفلوات شبيهاً بالماء الجاري وليس بماء، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جارياً، يقال: سَرَبَ الماءُ يَسْرُبُ سُرُوباً: إذَا جرى، فهو سَارِبٌ» . وقيل: السَّرَابُ: مَا يَتَرَاءَى للإنْسَانِ في القَفْرِ في شِدَّةِ الحَرِّ مِمَّا يُشْبهُ المَاءَ. وقيل: مَا يَتَكَاثَفُ مِنْ قُعُورِ القيعَانِ. قال الشاعر:
3836 -
فَلَمَّا كَفَفْت الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهم
…
كَلَمْع سَرَابٍ في الفَلَا مُتَألِّقِ
يضرب به المَثَلُ لمن يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيُخْلَفُ ظَنُّهُ. وقيل: هو الشُّعَاعُ الذي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ في شدة الحَرِّ في البراري، يُخَيَّلُ للناظر أنه الماء السَّارِبُ، أي: الجاري، فإذا قرب منه لم ير شيئاً. والآل: ما ارتفع من الأرض وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه المَلَاة يرفع الشخوص، يرى فيها الصغير كبيراً، والقصير طويلاً.
والرَّقْرَاقُ: يكون بالعشايا. وهو ما ترقرق من السراب، أي: جاء وذهب.
قوله: «بِقِيعَةٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه صفة ل «سَرَابٍ» .
والثاني: أنه ظرف، والعامل فيه الاستقرار العامل في كاف التشبيه.
والقيعة: بمعنى القاع، قاله الزمخشري، وهو المُنْبَسِطُ من الأرض، وتقدم في «طه» .
وقيل: بل هي جمعه ك «جَارٍ وَجيرَة» قاله الفراء. وقرأ مسلمة بن محارب بتاء (ممطوطة) ، وروي عنه بتاء شَكل الهاء، ويقف عليها بالهاء، وفيها أوجه:
أحدها: أن يكون بمعنى «قيعة» كالعامة، وإنَّما أشبع الفتحة فتولَّد منها ألف كقوله: مُخرنبقٌ لينباع. قاله صاحب اللوامح.
والثاني: أنه جمع: «قيعة» وإنَّما وقف عليها بالهاء ذهاباً به مذهب لغة طيئ في قولهم: «الإخْوَه والأخَوَاه» و «دَفْنُ البَنَاه من المَكْرُماه» أي: والأخوات، والبنات، والمكرمات. وهذه القراءة تؤيد أن «قيعة» جمع قاع.
قال الزمخشري: وقد جعل بعضهم «بِقِيعَاة» بتاء مدوَّرة ك «رجل عِزْهَاةٍ» .
فظاهر هذا أنه جعل هذا بناء مستقلاً ليس جمعاً ولا إشباعاً.
قوله: «يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ» جملة في محل الجر صفة ل «سَرَابٍ» أيضاً، وحَسُنَ ذلك لتقدم الجار على الجملة، هذا إن جعلنا الجارَّ صفةً والضمائر المرفوعة في «جَاءَهُ» ، وفي «لَمْ يَجِدْهُ» وفي «وَجَدَ» ، والضمائر في «عِنْدَهُ» وفي «وَفَّاهُ» وفي «حِسَابَهُ» كلها ترجع إلى «الظَّمْآن» لأن المراد به الكافر المذكور أولاً، وهذا قول الزمخشري وهو حسن.
وقيل: بل الضميران في «جَاءَهُ» و «وَجَدَ» عائدان على «الظَّمْآن» ، والباقية عائدة على الكافر. وإنما أفرد الضمير على هذا وإن تقدمه جمع، وهو قوله:«وَالَّذِينَ كَفَرُوا» حَمْلاً على المعنى؛ إذ المعنى: كلُّ واحدٍ من الكفار.
والأول أولى لاتِّساق الضمائر. وقرأ أبو جعفر، ورُويَتْ عن نافع:«الظَّمَانُ» بإلقاء حركة الهمزة على الميم.
فصل
قال الزجاج: « (الظَّمْآن) قد تخفف همزته، وهو الشديد العطش، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثواباً مع أنه يعتقد أن له ثواباً عليه، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أنه ثواباً، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثواباً عند الله تعالى، فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب، بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الشراب ويتعلق قلبه به، ويرجو به النجاة، فإذا جاءه وأيس مما
كان يرجوه عظم ذلك عليه» . قال مجاهد: «السراب: عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا» .
فإن قيل: قوله: {حتى إِذَا جَآءَهُ} يدل على كونه شيئاً، وقوله:{لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} مناقض له؟
فالجواب من وجوه:
الأول: معناه: لم يجد شيئاً نافعاً، كما يقال: فلان ما عمل شيئاً، وإن كان قد اجتهد.
الثاني: «إذا جَاءَهُ» أي: جاء موضع السراب لم يجد السراب، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء.
قوله: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} أي: وجد عقاب الله عنده الذي توعد به الكافر.
وقيل: وجد الله عنده، أي: عند عمله، أي وجد الله بالمرصاد.
وقيل: قدم على الله «فَوَفَّاهُ حِسَابه» أي: جزاء عمله. قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام.
قوله: {والله سَرِيعُ الحساب} لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فلا يشق عليه الحساب.
وقال بعض المتكلمين: «معناه: لا تشغله محاسبة أحد عن آخر كنحن، ولو كان يتكلم بآلة كما تقول مشبهة لما صح ذلك» .
قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} هذا مثل آخر ضربة الله تعالى لأعمال الكفار، وفي هذا العطف أوجه:
أحدها: أنه نسقٌ على «كَسَرَابٍ» على حذف مضاف واحد، تقديره: أو كَذِي ظُلُمَاتٍ، ودل على هذا المضاف قوله:{إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف.
وهو قول أبي علي.
الثاني: أنه على حذف مضافين، تقديره: أو كَأَعْمَالٍ ذِي ظُلُمَاتٍ فَيُقَدَّر «ذي» ليصح عود الضمير إليه في قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ} ويقدر «أَعْمَال» ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة.
الثالث: أنه لا حاجة إلى حذف البتَّة، والمعنى: أنه شَبَّهَ أعمالَ الكُفَّارِ في حَيْلُولَتِهَا بين القلب وما يهتدي به بالظلمة.
وأما الضميران في «أَخْرَجَ يَدَهُ» فيعودان على محذوف دلَّ عليه المعنى، أي: إذا أخرج يده من فيها و «أَوْ» هنا للتنويع لا للشك. وقيل: بل هي للتخيير، أي:«شَبهُوا أعمالهم بهذا أو بهذا. وقرأ سفيان بن حسين:» أوَ كَظُلُمَاتٍ «بفتح الواو، جعلها عاطفة دخلت عليها همزة الاستفهام التي معناها التقرير، وقد تقدم ذلك في قوله: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} [الأعراف: 98] . قوله: {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} :» في بَحْر «صفة ل» ظُلُمَاتٍ «فيتعلق بمحذوف. واللُّجِيُّ: منسوبٌ إلى» اللُّجِّ «وهو مُعْظَمُ البحر قاله الزمخشري.
وقال غيره: منسوب إلى اللُّجَّةِ بالتاء، وهي أيضاً معظمه. فاللُّجّيّ: هو العميق الكثير الماء، وفيه لغتان: كسر اللام، وضمها.
قوله:» يَغْشَاه موجٌ «صفة أخرى ل» بَحْرٍ «هذا إذا أعدنا الضمير في» يَغْشَاهُ «على» بَحْرٍ «وهو الظاهر. وإن قدَّرنا مضافاً محذوفاً، أي:» أَو كَذِي ظُلُمَاتٍ «كما فعل
بعضهم كان الضمير في» يَغْشَاهُ «عائداً عليه، وكانت الجملة حالاً منه لتخصيصه بالإضافة، أو صفة له. قوله: {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر صفة ل» مَوْجٍ «الأول ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط، و» مَوْجٌ «فاعل به، لاعتماده على الموصوف، قوله: {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} فيه الوجهان المذكوران قبله من كون الجملة صفة ل» مَوْجٍ «الثاني، أو الجار فقط.
قوله:» ظُلُمَاتٌ «. قرأ العامة بالرفع، وفيه وجهان:
أجودهما: أن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره: هذه أو تلك ظلمات.
الثاني: أن يكون» ظُلُمَاتٌ «مبتدأ، والجملة من قوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} خبره، ذكره الحوفي وفيه نظر، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة، اللهم إلا أن يقال: إنها موصوفة تقديراً، أي: ظلمات كثيرة متكاثفة، كقولهم:» السمن منوان بِدِرْهم «.
وقرأ ابن كثير:» ظُلُمَاتٍ «بالجر، إلا أنَّ البزِّي روى عنه حينئذ حذف التنوين من» سَحَابُ «فقرأ البَزِّيُّ عنه:» سَحَابُ ظُلُمَاتٍ «بإضافة» سَحَابُ «ل» ظُلُمَاتٍ «.
وقرأ قُنْبُل عه التنوين في «سَحَابٌ» كالجماعة مع جره ل «ظُلُمَاتٍ» . فأما رواية البزِّي فقال أبو البقاء: جَعَلَ المَوْجَ المُتَرَاكم بمنزلة السحاب. وأما رواية قنبل فإنه جعل «ظُلُمَاتٍ» بدلاً من «ظُلُمَاتٍ» الأولى.
قوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو جر على حسب القراءتين في «ظُلُمَاتٍ» قبلها لأنها صفة لها. وجوَّز الحوفي على قراءة رفع «ظُلُمَاتٍ»
في «بَعْضُها» أن تكون بدلاً من «ظُلُمَاتٌ» ورد عليه من حيث المعنى، (إذ المعنى) على الإخبار بأنها ظلمات، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض وصفاً لها بالتَّراكم، لا أنَّ المعنى أنَّ بعض تلك الظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلماتٌ متراكمة.
وفيه نظرٌ، إذ لا فرق بين قولك: بعض الظلمات فوق بعضٍ، وبين قولك: الظلماتُ بعضُهَا فوق بعض، وإن تُخُيِّل ذلك في بادئ الرأي.
قوله: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . تقدم الكلام في «كاد» وأنَّ بعضهم زعم أنَّ نَفْيَهَا إثباتٌ وإثباتها نفيٌ، وتقدمت أدلة ذلك في البقرة عند قوله:{وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] .
وقال الزمخشري هنا: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مبالغة في (لَمْ يَرَهَا) أي: لم يَقْرُب أن يَرَاهَا فَضلاً (عن) أن يراها، ومنه قوله ذي الرمة:
3837 -
إذَا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ
…
رَسِيسُ الهَوَى مِنَ حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ
أي: لم يَقْرُبْ مِنَ البِرَاحِ فَمَا بَالُهُ يَبْرحُ. وقال أبو البقاء: اختلف الناس في تأويل هذا الكلام، ومنشأ الاختلاف فيه أنَّ موضوع «كَادَ» إذا نفيت وقوع الفعل، وأكثر المفسرين على أن المعنى: أنه لا يرى يَدَهُ، فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه:
أحدها: أن التقدير: لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ، ذكره جماعةٌ من النحويين، وهذا خطأ لأن قوله:«لَمْ يَرَهَا» جَزْمٌ بنفي الرؤية، وقوله:«لَمْ يَكَدْ» إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير: وَلَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية، فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها وأنه يراها بعد جَهْدٍ، تناقض، لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها.
وإن كان معنى {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لم يَرَها البتَّة على خلاف الأكثر في هذا الباب فينبغي أن يحمل عليه من غير أن يقدِّر «لَمْ يَرَهَا» .
الوجه الثاني: قال الفراء: إن (كَادَ) زائدة. وهو بعيد.
الثالث: أن «كَادَ» خرِّجت هاهنا على معنى «قَارَبَ» والمعنى: لم يُقَارِب رؤيتها، وإذا لم يُقَارِبها بَاعَدَها، وعليه جاء قول ذي الرمة في البيت المتقدم، أي: لم يقارب البراح، ومن هنا حكي عن ذي الرُّمة أنه لما روجع في هذا البيت قال:(لم أجِد) بدل (لَمْ يَكَدْ) .
والمعنى الثاني: أنه رآها بعد جَهد، والتشبيه على هذا صحيح، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدَّ نظره إلى يده وقرَّبها من عينه رآها انتهى.
أما الوجه الأول وهو ما ذكره أن قول الأكثرين (إنه يكون نَفْيُها إثباتاً، فقد تقدم أنه غير صحيح، وليس هو قول الأكثر) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة، وما أنشد بعضهم:
3838 -
أَنَحْوِيَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ
…
البيتين.
وأما ما ذكره من زيادة «كاد» فهو قول أبي بكر وغيره، ولكنه مردود عندهم.
وأما ما ذكره من المعنى الثاني، وهو أنه رآها بعد جهد، فهو مذهب الفراء والمبرد. والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري، وهو المبالغة في نفي الرؤية.
وقال ابن عطية ما معناه: إذا كان الفعل بعد «كاد» منفيًّا دلَّ على ثبوته، نحو:«كاد زيد لا يقوم» ، أو مثبتاً دلَّ على نفيه، نحو:«كاد زيد يقوم» وتقول: «كَادَ النَّعام يَطِير» فهذا يقتضي نفي الطيران عنه، فإذا قلت:«كاد النعام ألا يطير» وجب الطيران له، وإذا تقدم النفي على «كاد» احتمل أن يكون موجباً وأن يكون منفياً، تقول:«المفْلُوجُ لا يكاد يَسْكُنُ» فهذا يتضمَّن نفي السكون، وتقول:«رجل مُنْصَرِفٌ لا يكاد يَسْكُنُ» فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جَهْدٍ.
فصل
اعلم أن الله تعالى بين أنَّ أعمال الكفار إن كانت حسنةً فمثلها السراب، وإن كانت قبيحةً فهي الظلمات، وفيه وجه آخر، وهو أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة، وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا. وقيل: إن الآية الأولى في ذكر أعمالهم، وأنهم لا يَحْصلون منها على شيء، والآية الثانية في ذكر عقائدهم، فإنها تشبه الظلمات، كما قال:( {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} )[البقرة: 257] أي: من الكفر إلى
الإيمان، يدل عليه قوله تعالى:{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .
فصل
وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غور الماء، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة، فإذا كانت فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى، فالواقع في قعر هذا البحر اللُّجِّيّ في نهاية شدة الظلمة. ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها، وأبعد ما يظن أنه لا يراها، فقال تعالى:{إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فبين سبحانه بهذا بلوغ تلك الظلمة التي هي أقصى النهايات، ثم شبه الكافر في اعتقاده، وهو ضد المؤمن في قوله تعالى:{نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] وفي قوله: {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}
[الحديد: 12] . ولهذا قال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلم: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات إلى النار.
وفي كيفية هذا التشبيه وجوه:
الأول: قال الحسن: «إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب، كذا الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل» .
الثاني: قال ابن عباس: «شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث» .
الثالث: أن الكافر لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، ويعتقد أنه يدري، فهذه المراتب الثلاثة تشبه تلك الظلمات الثلاث.
الرابع: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم.
الخامس: أن هذه الظلمات متراكمة، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه.
قوله: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} .
قال ابن عباس: من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له. وقيل: من لم يهده الله (فلا إيمان له) ولا يهديه أحد. قال أهل السنة: إنه تعالى لما وصف
هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 35]، ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبه بقوله:{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . والمراد من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان، وظلمة الطريق لا تمنع منه، فإن الكل مربوط بخلق الله وهدايته وتكوينه.
قال القاضي: قوله: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً} يعني في الدنيا بالإلطاف {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} أي: لا يهتدي فيتحير، وتقدم الكلام عليه.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض} الآية.
لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد.
والمعنى: ألم تعلم، لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب، وهذا استفهام والمراد به: التقرير والبيان. قال ابن الخطيب: «إما أن يكون المراد من هذا التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص، موصوفاً بنعوت الجلال، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان.
والأول أقرب، لأن القسم الثاني متعذر، لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى والمكلفون منهم فمن لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار.
وأما القسم الثاني وهو أن يقال: إن من في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً، وهو غير جائز، فلم يبق إلا
القسم الأول، وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلاهيته وتوحيده وعدله، فسمى ذلك تنزيهاً توسعاً. فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء؟ قلنا: لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر، وهي العقل والنطق والفهم» .
قوله: «والطَّيرُ» . قرأ العامة: «والطّيْر» رفعاً، «صَافَّاتٍ» نصباً. فالرفع عطف على «مَنْ» والنصب على الحال. وقرأ الأعرج:«والطَّيْرَ» نصباً على المفعول معه على الابتداء والخبر، ومفعول «صَافَّات» محذوف، أي: أجنحتها.
قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ} في هذه الضمائر أقوال:
أحدها: أنَّها كلَّها عائدةٌ على «كُلٌّ» ، أي: كلٌّ قد عَلِمَ هُوَ صَلَاةَ نَفْسِهِ وتَسْبِيحَهَا، وهذا أولى لتوافق الضمائر.
الثاني: أن الضمير في «عَلِمَ» عائد إلى الله تعالى، وفي «صَلَاتَهُ وتَسْبِيحَهُ» عائد على «كُلٌّ» ، ويدل عليه قوله تعالى:{والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
الثالث: بالعكس، أي: عَلِمَ كلٌّ صلاةَ اللَّه وتَسْبِيحَه، أي: اللذين أمَرَ بهما وبأن يُفْعَلَا، كإضافة الخلق إلى الخالق، وعلى هذا فقوله:«واللَّه علِيمٌ» استئناف.
ورَجَّحَ أبو البقاء ألَاّ يكون الفاعل ضمير «كُلٌّ» قال: «لأنَّ القراءة برفع» كُلٌّ «على الابتداء فيرجع ضمير الفاعل إليه، ولو كان فيه ضمير الله لكان الأولى نصب (كُلّ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك: (زَيْداً ضَرَبَ عَمْرٌو وغُلَامه) فتنصب (زيداً) بفعل دلَّ عليه ما بعده، وهو أقوى من الرفع، والآخر جائز» .
قال شهاب
الدين: وليس كما ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصُّورة ولا في هذه السورة، بل نصَّ النحويون على أنَّ مثل هذه الصورة يرجَّح رفعها بالابتداء على نصبها على الاشتغال، لأنه لم يكن ثمَّ قرينة من القرائن التي جعلوها مرجحةً للنصب، والنصب يحوجُ إلى إضمار، والرفع لا يحوج إليه، فكان أرجح. وقرأت فرقة:{عُلِمَ صَلَاتُهُ وتَسْبِيحُهُ} بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله. ذكرها أبو حاتم.
فصل
وجه اتصال هذا بما قبله أنه تعالى لما ذكر أن أهل السموات والأرض يسبحون، ذكر المستقرين في الهواء الذي هو بين السماء والأرض، وهم الطير يسبحون، وذلك أن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه، وجعل طيرانها سجوداً منها له سبحانه، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه (لا النطق) اللساني. وقال أبو ثابت:«كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ (قال: لا) قال: فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن» . واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا: الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا، لكنها ليست كذلك، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصاناً من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال كما تقدم. قال بعض العلماء: إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء، وإذا كان كذلك (فلِمَ لا) يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه:
أحدها: أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه، وربما عاود يشمه ويتحسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضاً بالواحد وصدمة بالأخرى، ثم ينفخ فيه فيدرأ قشره ويتغذى به، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة.
وثانيها: أمر النحل وما لها من الرياسة والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين.
وثالثها: انتقال الكَرَاكِيّ من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلباً لما يوافقها من الأهوية، ويقال: من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتاً ما، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق الفهد عمد إلى زبل الإنسان ليأكله، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال له: القطقاط وينظف ما بين أسنانها، وعلى رأس ذلك الطائر كالشوكة، فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من تلك الشوكة، فيفتح فاه، فيخرج ذلك الطائر، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعتراً جبلياً ثم تعود من ذلك.
وحكى بعض الثقاة المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود، ولا تزال كذلك، وكان ذلك الشخص قاعداً في كن، وكانت البقلة قريبة من مسكنه، فلما اشتغل الحبارى قلع البقلة، فعاد الحبارى إلى منبتها فلم يجدها، وأخذ يدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خَرَّ ميتاً، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة، وتلك البقلة هي الجرجير البري.
وابنُ عِرْس يستظهر في الحية أكل السّذَاب، فإن النكهة السذابية تنفر عنها الأفعى.
والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح. وإذا جرحت اللقالق بعضها
بعضاً داوت الجراحة بالصعتر الجبلي. والقنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها، وكان رجل بالقسطنطينية قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها، وينتفع الناس بإنذاره، وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الصنيع المذكور، فيستدل به.
والخُطَّاف صانع في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب لتحمل جناحاه قدراً من الطين، وإذا فرَّخ بالغ في تعهد الفراخ، وتأخذ ذرقها بمنقارها وترميها عن العش، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة ظهرت له القبحة وقربت مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب الفراخ. وناقر الخشب قلما يقع على الأرض، بل على الشجر ينقر الموضع يعلم أن فيه دوداً. والغرانيق تصعد في الجو عند الطيران، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب أو ضباب أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يتبع به بعضهم بعضاً، فإذا باتت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلاّ القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه، وإذا سمع جرساً صاح. وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضاً أمر عجيب، وإذا كشف عن بيوتهم الساتر الذي كان يستره وكان تحته بيض لهم، فإن كلّ نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت.
والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب «طبائع الحيوان» . والمقصود من
ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال: إنها تسبح الله وتثني عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس، ويؤيد هذا قوله تعالى:{ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . ثم قال: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
قرأ الجمهور بالياء من تحت على المبالغة في وصف قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه.
وقرأ عيسى والحسن بالتاء من فوق، ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى وفي مصحف أبيّ وابن مسعود:«والله بصير بما تفعلون» .
قوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} تنبيه على أن الكل منه، لأن كل ما سواه ممكن ومحدث، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب، ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم.
وقوله: {وإلى الله المصير} وهذا دليل على المعاد، وأنه لا بُدَّ من مصير الكل إليه.
وهذه الرؤية بصرية. والإزْجَاءُ: السوق قليلاً قليلاً، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد، وإزجاء السير في الإبل: الرفق بها حتى تسير شيئاً شيئاً.
قوله: «بَيْنَهُ» إنما دخلت «بَيْنَ» على مفرد، وهي إنَّما تدخل على مثنى فما فوقه، لأنَّه إما أن يُرَاد بالسحاب: الجنس، فعاد الضمير عليه على حكمه، وإما أن يراد حذف مضافه أي: بَيْنَ قطعِهِ، فإن كل قطعة سحابة. قال ابن عطية: بين مُفترق السحاب، لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً. وورش عن نافع لا يهمز «
يُؤَلِّفُ» . وقالون عن نافع والباقون يهمزون «يُؤَلِّفُ» .
قوله: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أي: متراكماً يركب بعضها على البعض ويتكاثف، والعرب تقول: إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج الودق منه، ومن ذلك قوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} [النبأ: 14]، ومن ذلك قول حسان بن ثابت:
3839 -
كِلْتَاهُمَا حَلَبُ العَصِيرِ فَعَاطِنِي
…
بِزُجَاجَة أرْ خَاهُمَا لِلمَفْصَلِ
وروي: «لِلْمِفْصَلِ» بكسر الميم وفتح الصاد. فالمَفْصَلُ: واحد المفاصل. والمِفْصَل: اللسان. وروي بالقاف. أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت، أي: من عصير العنب، وهذه من عصير السحاب، نقله ابن عطية. وقال أهل الطبائع: إن تكوين السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار، وفي الأقل من تكاثف الهواء.
أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلاً وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء، وإن كان البخار كثيراً ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ.
فإن بلغت فإما أن يكون البرد قوياً أو لا يكون. فإن لم يكن البرد هنا قوياً تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر، فالبخار المجتمع هو السحاب، والمتقاطر هو المطر، والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم. وإن كان البرد شديداً فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الإجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد صيرورتها كذلك. فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجاً. وإن كان على الوجه الثاني نزل برداً فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة.
فإن كانت كثيرة فقد تنعقد سحاباً ماطراً، وقد لا تنعقد. أما الأول فلأسباب خمسة:
أحدها: إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة.
وثانيها: أن تكون الرياح (ضاغطة) إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح.
وثالثها: أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتعود الأبخرة حينئذ.
ورابعها: أن يعرض للبخار المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته يلتص به سائر الأجزاء الكثيرة المدد.
وخامسها: لشدة برد الهواء القريب من الأرض، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعوداً يسيراً حتى كأنه مكبة موضوعة على وَهْدَة، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة، والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس.
فإن كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة، فإذا مر بها برد الليل وكثفها، فإنها تصير ماءً محبوساً ينزل أولاً متفرقاً لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به، فإن لم يجمد كان طلاًّ، وإن جمد كان صقيعاً، ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر.
والجواب (أنَّا دللنا على) حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادراً مختاراً يمكنه إيجاد الأجسام، فلا نقطع بما ذكرتموه (لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه) وأيضاً فهب أن الأمر كما ذكرتم، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر، ثم إنها متماثلة، فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص، فإذا كان هو سبحانه خالقاً لتلك الطبائع، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب، وخالق السبب خالق المسبب، فكان سبحانه هو الذي يُزْجي سحاباً، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء، ثم تلك الأبخرة
ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاماً، فعلى جميع التقديرات توجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة.
قوله: {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} . تقدم الخلاف في «خِلَالِ» هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجِبَال جمع «جبل» ؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك - وتُرْوَى عن أبي عمرو أيضاً - «مِنْ خَلَلِهِ» بالإفراد وقرأ عاصم والأعرج: «يُنَزِّل» على المبالغة.
والجمهور على التخفيف. والوَدْق: قيل: هو المطر ضعيفاً كان أو شديداً، قال:
3840 -
فَلَا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا
…
وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا
وقيل: هو البرق، وأنشد:
3841 -
أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا
…
خُرُوجَ الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ
والوَدْقُ في الأصل مصدر، يقال:«وَدَقَ السحاب يَدِقُ وَدْقاً» و «يخرُج» حال، لأن الرؤية بصرية.
قوله: {مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} . «مِنْ» الأولى لابتداء الغاية اتفاقاً، لأن ابتداء الإنزال من السماء. وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها لابتداء الغاية أيضاً فهي ومجرورها بدلٌ من الأولى بإعادة العامل، والتقدير: ويُنَزِّلُ من جبال السماء، أي: من جبال فيها، فهو بدل اشتمال.
الثاني: أنها للتبعيض، قاله الزمخشري وابن عطية، لأن جنس تلك الجبال
من جنس البرد، فعلى هذا هي ومجرورها في موضع مفعول الإنزال، كأنه قال: وينزل بعض جبال.
الثالث: أنها زائدة، أي: ينزل من السماء جبالاً.
وقال الحوفي: (من جبال) بدل من الأولى، ثم قال:«وهي للتبعيض» .
ورده أبو حيان بأنه لا تستقيم البدلية إلا بتوافقهما معنى، لو قلت: خرجت من بغداد من الكَرْخ، لم تكن الأولى والثانية إلا لابتداء الغاية.
وأما الثالثة ففيها أربعة أوجه:
الثلاثة المتقدمة، والرابع: أنها لبيان الجنس، قاله الحوفي والزمخشري. فيكون التقدير على قولهما ويُنَزِّل من السماء بعض جبال التي هي البَرَدُ، فالمُنَزَّلُ بَردٌ، لأنَّ بعض البَرَدِ بَرَدٌ، ومفعول «يُنَزِّلُ» : هو مِنْ جِبَالٍ كما تقدم تقريره.
وقال الزمخشري: «أَو الأولَيَان للابتداء، والثالثة للتبعيض» يعني: أنَّ الثانية بدلٌ من الأولى كما تقدم تقريره، وحينئذ يكون مفعول «يُنَزِّلُ» هو الثالثة مع مجرورها، التقدير: ويُنَزِّلُ بعض بردٍ من السماء من جِبَالِها. وإذا قيل بأن الثانية
والثالثة زائدتان، فهل مجرورهما في محل نصب والثاني بدلٌ من الأول، والتقدير: ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ جِبالاً برداً، فيكون بدل كل من كل أو بعض من كل، أو الثاني في محل نصب مفعولاً ل «يُنَزِّل» ، والثالث في محل رفع على الابتداء وخبره الجار قبله؟ خلافٌ، الأول قول الأخفش، والثاني قول الفراء، وتكون الجملة على قول الفراء صفة ل «جِبَال» ، فيحكم على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ، أو بالنصب اعتباراً بالمحل. ويجوز أن يكون «فِيهَا» وحده هو الوَصْفُ، ويكون «مِنْ بَرَدٍ» فاعلاً به لاعتماده، أي استقر فيها بردٌ. وقال الزجاج:«معناه: ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ بَرَدٍ فيها، كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، أي: خاتم حديد في يدي، وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب» مِنْ «لما فَرَّقْتَ، ولأنك إذا قلت: هذا خاتمٌ من حديدٍ، وخاتم حديدٍ، كان المعنى واحداً» انتهى.
فيكون «مِنْ بَرَدِ» في موضع جرٍّ صفة ل «جِبَالٍ» كما كان «مِنْ حَدِيدٍ» صفة ل «خَاتم» ، ويكون مفعول:«يُنَزِّلُ» : «مِنْ جِبَالٍ» ، ويلزم من كون الجبال بَرَداً أن يكون المُنَزَّلُ بَرَداً.
وقال أبو البقاء: والوجه الثاني: أن التقدير: شيئاً من جبال، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة. وهذا الوجه هو الصحيح، لأن قوله:{فِيهَا مِن بَرَدٍ} يُحوجك إلى مفعول يعود الضمير إليه، فيكون تقديره: ويُنَزِّلُ مِنْ جِبَال السماء جبالاً فيها بَرَدٌ، وفي ذلك زيادة حَذْفٍ وتقدير مستغنًى عنه. وفي كلامه نَظَرٌ، لأن الضمير له شيءٌ يعود عليه وهو «السَّمَاء» ، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر، لأنه مستغنى عنه، وليس ثَمَّ مانعٌ يمنع من عوده على «السَّمَاء» .
وقوله آخراً: وتقدير يستغنى عنه ينافي قوله: وهذا الوجه هو الصحيح.
والضمير في «به» يجوز أن يعود على البَرَدِ وهو الظاهر، ويجوز أن يعود على الوَدْق والبَرَد معاً جرياً بالضمير مُجْرَى اسم الإشارة، كأنه قيل: فيصيب بذلك، وقد تقدم نظيره.
فصل
قال ابن عباس: أخبر الله أن في السماء جبالاً من برد، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر المفسرين. وقيل: المراد بالسماء هو الغيم المرتفع، سمي بذلك لسموه وارتفاعه، وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد. وأراد بقوله:«مِنْ جِبَالٍ» : السحاب العظام، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال كما يقال: فلان يملك جبالاً من مال، ووصف بذلك توسعاً.
وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب، ثم أنزل إلى الأرض. وقال بعضهم: إنما سمي ذلك الغيم جبالاً لأنه سبحانه خلقها من البرد، وكل جسم متحجر فهو من الجبال، ومنه قوله تعالى:{خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} [الشعراء: 184] . قال المفسرون: والأول أولى، لأنَّ السماء اسم لهذا الجسم المخصوص، فتسمية السحاب سماء بالاشتقاق مجاز، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم ينزله برداً، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء، فلا وجه لترك الظاهر.
قوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} أي: بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} أي: يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه.
قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} . العامة على قصر «سَنَا» وهو الضوء، وهو من ذوات الواو، يقال: سَنَا يَسْنُو سَناً، أي أضاء يُضِيء، قال امرؤ القيس:
3842 -
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبِ
…
والسناءُ - بالمد -: الرفعة، قال:
3843 -
(وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَنَاءً وسُنَّما)
وقرأ ابن وثاب: «سَنَاءُ بُرَقِهِ» بالمد، وبضم الباء من «بَرْقِهِ» وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضاً. فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان. فأما «بُرَقِهِ» فجمع «بُرْقَةٍ» ، وهي المقدار من البرق، ك «غُرْفَة وغُرَف» ، و «لُقْمَة ولُقَم» . وأما ضم الراء فإتباع، ك «ظُلُمَات» بضم اللام إتباعاً لضم الظاء، وإن كان أصلها السكون. وقرأ العامة أيضاً «يَذْهَبُ» بفتح الياء والهاء.
وأبو جعفر بضم الياء وكسر الهاء من «أَذْهَبَ» .
وقد خَطَّأ هذه القراءة الأخفش وأبو حاتم، قالا:«لأنَّ الباءَ تُعَاقِبُ الهمزة» .
وليس ردُّهما بصوابٍ، لأنَّها تَتَخرّجُ على ما خُرِّجَ ما قُرِئَ به في المتواتر:«تُنْبِتُ بالدُّهْنِ» من أنَّ الباء مزيدةٌ، أو أنَّ المفعول محذوف والباء بمعنى «مِنْ» تقديره: يَذهب النور من الأبصار، كقوله:
3844 -
شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الحَشْرَجِ
…
فصل
المعنى: يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه. واعلم أنّ البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم، ثم قال:{يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} يصرفهما في اختلافهما، ويعاقبهما: يأتي بالليل ويذهب بالنهار، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل قال عليه السلام:«قال الله تعالى: يُؤْذيني ابن آدم، يَسُبُّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقَلِّبُ الليلَ والنهارَ» وقيل: المراد ولوج أحدهما في الآخر.
وقيل: المراد تغير أحوالهما في الحر والبرد وغيرهما. {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} أي: إن في الذي ذكرت من هذه الأشياء {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار}
البصائر، أي: دلالة لأهل العقول على قدرة الله وتوحيده.
قوله
تعالى
: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} الآية.
لما استدل أولاً بأحوال السماء والأرض، وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات. قال ابن عطية: قرأ حمزة والكسائي: {واللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ} على الإضافة، فإن قيل: لم قال: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} مع أن كثيراً من الحيوانات لم يُخْلَقْ من الماء، كالملائكة خلقوا من النور، وهم أعظم الحيوانات عدداً، وكذلك الجن وهم مخلوقون من النار، وخلق آدم من التراب لقوله:{خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] وخلق عيسى من الريح لقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] ونرى كثيراً من الحيوانات يتولد لا عن نطفة؟ فالجواب من وجوه:
أحسنها: ما قال القفال: إنَّ «مَاءٍ» صلة «كُلَّ دَابَّةٍ» وليس هو من صلة «خَلَق» والمعنى: أنَّ كلَّ دَابَّةٍ متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى.
وثانيها: أنَّ أصل جميع المخلوقات الماء على ما روي: «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور» . والمقصود من هذه الآية: بيان أصل الخلقة، وكان أصل الخلقة الماء، فلهذا ذكره الله تعالى.
وثالثها: المراد من «الدَّابَّة» : التي تدب على وجه الأرض، ومسكنهم هنالك، فيخرج الملائكة والجن، ولما كان الغالب من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء، إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء، لا جرم أطلق عليه لفظ الكل تنزيلاً للغالب منزلة الكل.
وقيل: الجار في قوله: «مِنْ مَاء» متعلق ب «خَلَقَ» أي: خَلَقَ مِنْ ماءٍ كُلَّ دَابَّةٍ، و «مِنْ» لابتداء الغاية. ويرد على هذا السؤال المتقدم.
فإن قيل: لم نكر الماء في قوله: «مِنْ مَاءٍ» وعرفه في قوله: {مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ؟
فالجواب: جاء هاهنا منكراً لأنّ المعنى: خلق كلّ دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة، وعرفه في قوله:{مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] لأنّ المقصود هناك: كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وهاهنا بيان أنّ ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة.
قوله: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي} . إنما أطلق «مَنْ» على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المُفَضَّل ب «مِن» وهو «كُلَّ دَابَّةٍ» . وكان التعبير ب «مَنْ» أولى ليوافق اللفظ.
وقيل: لَمَّا وَصَفَهُمْ بِما يُوصف به العقلاء وهو المشيُ أطلق عليها «منْ» وفيه نظرٌ، لأن هذه الصفة ليست خاصةً بالعقلاء، بخلاف قوله تعالى:{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} [النحل: 17]، وقوله:
3845 -
أَسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ.....
…
...
…
...
…
...
…
... .
البيت.
وقد تقدَّم خلاف القرَّاء في {خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} في سورة «إبراهيم» .
واستعير المشي للزَّحف على البطن، كما استعير المشفر للشفة وبالعكس، كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر، ويقال: فلان ما يمشي له أمر. فإن قيل: لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي، وقد تجد من يمشي على أكثر من
أربع كالعناكب والعقارب والرتيلات والحيوان الذي أربعة وأربعون رجلاً؟
فالجواب: هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر، فكان ملحقاً بالعدم. وأيضاً قال النقاش: إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر، لأنّ جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخِلْقَة، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها. قال ابن عطية: والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً، بل هي محتاج إليها في نقل الحيوان، وهي كلها تتحرك في تصرفه.
وجواب آخر وهو أن قوله تعالى: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} كالتنبيه على سائر الأقسام.
وفي مصحف أبيّ بن كعب: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَر» فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان، ولكنه قرآن لم يثبت بالإجماع.
قوله: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأنه هو القادر على الكل، والعالم بالكل، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات، فأي عقل يقف عليها؟ وأي خاطر يصل إلى ذَرَّة من أسرارها؟ بل هو الذي يخلق ما يشاء كما يشاء، ولا يمنعه منه مانع.
قوله: {لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} . الأولى حمله على كل الأدلة. وقيل: المراد القرآن، لأن كالمشتمل على كل الأدلة والعبر. {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وتقدم الكلام في نظائر هذه الآية بين أهل السنة والمعتزلة.
قوله تعالى: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} الآية.
لما ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالذنب بألسنتهم ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم َ - وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف، فإن محمداً يحيف علينا، فأنزل الله هذه الآية. وقد مضت قصتها في سورة «النساء» .
وقال الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل، كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض تقاسماها، فوقع إلى عليّ ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة، فقال المغيرة: بعني أرضك. فباعها إياه، وتقابضا. فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي: اقبض أرضك، فإنما اشتريتها إن رضيتها، ولم أرضها. فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها، لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فقال المغيرة: أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه، فإنه يبغضني، وأنا خاف أن يحيف علي، فنزلت الآية.
وقال الحسن: نزلت هذه في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر.
فصل
المعنى: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} يعني: المنافقين يقولونه، «ثُمَّ يَتَوَلَّى» يعرض عن طاعة الله ورسوله {فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك} أي من بعد قولهم: آمَنَّا، ويدعو إلى غير حكم الله، ثم قال:{وَمَآ أولئك بالمؤمنين} .
فإن قيل: إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون: «آمَنَّا» ثم حكى عن فريق منهم التولي، فكيف يصح أن يقول في جميعهم:{وَمَآ أولئك بالمؤمنين} مع أن المتولي فريق منهم؟
فالجواب: أن قوله: {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة
الأولى، وأيضاً فلو رجع إلى الأولى لصح، ويكون معنى قوله:{ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} أي: يرجع هذا الفريق إلى الباقين فيظهر بضهم لبعض الرجوع، كما أظهروه، ثم بين تعالى أنهم إذا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُم بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرضُونَ، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول لقوله تعالى:{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} منقادين لحكمه، أي: إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لتيقنهم أنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضاً بالحق، وهذا يدل على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا. فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا (ببذل الرضا) .
قوله: «ليَحْكُم» أفرد الضمير وقد تقدَّمه اسمان وهما: «اللَّهُ ورَسُولُهُ» فهو كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] لأنَّ حكم رَسُولِهِ هو حُكْمُهُ.
قال الزمخشري: كقولك: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، أي: كَرَمُ زَيْدٍ، ومنه:
3846 -
وَمَنْهَلٍ مِنَ الفَيَافِي أَوْسَطُهْ
…
غَلَّسْتُهُ قَبْلَ القَطَا وفَرَطُهْ
أي: قبل فَرطِ (القطا) يعني: قبل تقدَّم القطا. وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن إلياس والحسن: «ليُحْكَمَ بَيْنَهُمْ» هنا، والتي بعدها مبنياً للمفعول، والظرف قائم مقام الفاعل.
قوله: «إذا فَرِيقٌ» «إذَا» هي الفجائية، وهي جواب «إذَا» الشرطية أولاً وهذا أحد الأدلة على منع أن يعمل في «إذا» الشرطية جوابها، فإن ما بعد الفجائية لا يعمل فيما قبلها، كذا ذكره أبو حيان، وتقدم تحرير هذا وجواب الجمهور عنه.
قوله: «إلَيْهِ» يجوز تعلقه ب «يَأْتوا» ، لأنَّ «أَتَى» و «جَاءَ» قد جاءا مُعَدَّيَيْن ب «إلى» ، ويجوز أن يتعلق ب «مُذْعِنِينَ» لأنه بمعنى: مسرعين في الطاعة. وصححه الزمخشري، قال: لتقدُّم صلته، ولدلالته على الاختصاص، و «مُذْعِنِينَ» حال والإذعان: الانقياد، يقال: أَذْعَنَ فلانٌ لفلان، انقَادَ لَهُ. وقال الزجاج:«الإذْعَانُ: الإسراع مع الطاعة» .
قوله: {أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ} . «أَمْ» فيهما منقطعة، فتقدر عند الجمهور بحرف الإضراب وهمزة الاستفهام، تقديره: بل أَرْتَابُوا بل أَيَخَافُونَ، ومعنى الاستفهام هنا: التقرير والتوقيف، ويبالغ فيه تارة في الذم كقوله:
3847 -
أَلَسْتَ مِنَ القَوْم الَّذِينَ تَعَاهَدُوا
…
عَلَى اللُّؤمِ وَالفَحْشَاءِ في سَالِفِ الدَّهْرِ
وتارة في المدح كقوله جرير:
3848 -
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايا
…
وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و «أَنْ يَحِيفَ» مفعول الخوف والحوف: الميل والجور في القضاء، يقال: حاف في قضائه، أي:(مال) .
فصل
قوله {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} نفاق «أَم ارْتَابُوا» شكوا، وهو استفهام ذم وتوبيخ،
أي هم كذلك، {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي: يظلم {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} ، لأنفسهم بإعراضهم عن الحق.
قال الحسن بن أبي الحسن: من دعا خصمه إلى حكم من أحكام المسلمين فلم يجب، فهو ظالم فإن قيل: إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدين، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض، فالكل واحد، فأي فائدة في التعديد؟
فالجواب: قوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} إشارة إلى النفاق، وقوله:«أَم ارْتَابُوا» إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه. فإن قيل: هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة، فكيف أدخل عليها كلمة «أم» ؟
فالجواب الأقرب أنه تعالى أنبههم على كل واحدة من هذه الأوصاف، فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق، وكان فيها شك وارتياب، وكانوا يخافون الحيف من الرسول، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، ثم بين تعالى بقوله:{بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} بطلان ما هم عليه، لأن الظلم يتناول كل معصية، كما قال تعالى:{إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين} . العامة على نصب «قَوْلَ» خبراً ل «كَانَ» ، والاسم «أنْ» المصدرية وما بعدها. وقرأ أمير المؤمنين والحسن وابن أبي إسحاق برفعه على أنه الاسم، و «أَنْ» وما في حَيِّزها الخبر، وهي عندهم مرجُوحَةٌ، لأنه متى اجتمع مَعْرِفَتَان فالأولى جعل الأعرف الاسم، وإن كان سيبويه خيَّر في ذلك بين كل
معرفتين، ولم يفرِّق هذه التفرقة، وتقدم تحقيق هذا في «آل عمران» .
فصل
قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله} أي: إلى كتاب الله {وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وهذا ليس على طريق الخبر، ولكنه تعليم أدب الشرع، بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا، {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا الدعاء وأطعنا بالإجابة، {وأولئك هُمُ المفلحون وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} قال ابن عباس: فيما ساءه وسره «وَيخْشَى اللَّهَ» فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي «وَيَتَّقِه» فيما بقي من عمره {فأولئك هُمُ الفآئزون} الناجون.
قوله: «وَيَتَّقِهِ» . القراء فيه بالنسبة إلى القاف على مرتبتين:
الأولى: تسكينُ القاف، ولم يقرأ بها إلاّ حفص. والباقون بكسرها.
وأما بالنسبة إلى هاء الكناية فإنهم فيها على خمس مراتب:
الأولى: تحريكُهَا مَفْصُولةً قولاً واحداً، وبها قرأ ورشٌ وابن ذَكْوَانَ وخَلَفٌ وابن كثير والكسائيّ.
الثانية: تسكينها قولاً واحداً، وبها قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم.
الثالثة: إسكان الهاء أو وصلها بياء، وبها قرأ خلَاّد.
الرابعة: تحريكها من غير صلة، وبها قرأ قالون وحفص.
الخامسة: تحريكها موصولة أو مقصورة، وبها قرأ هشام.
فأمَّا إسكان الهاء وقصرها وإشباعها فقد مرَّ تحقيقه مستوفًى. وأما تسكين القاف فإنهم حملوا المنفصل على المتَّصل، وذلك أنهم يُسَكِّنُون عين «فَعل» فيقولون: كَبْد، وكتف، وصبر في كَبِد وكَتِف وصبِر، لأنها كلمة واحدة، ثم أجري ما أشبه ذلك من المنفصل مُجْرَى المتصل، فإن «يَتَّقِه» صار منه «تَقِه» بمنزلة «كَتِف» فسكن كما يسكن، ومنه:
3849 -
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا
…
بسكون الراء كما سكن الآخر:
3850 -
فَبَاتَ مُنْتَصباً وَمَا تَكَرْدَسَا
…
وقول الآخر:
3851 -
عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ
…
وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ
يريد: «مُنْتَصِباً» ، و «لَمْ يَلِدْهُ» .
وتقدم في أول البقرة تحرير هذا الضابط في قوله: «فهي كالحجارة» و «هي» و «هو» ونحوها:
وقال مكيٌّ: كان يجب على من سَكَّنَ القاف أن يضُمَّ الهاء، لأنَّ هاء الكناية إذا سُكِّن ما قبلها ولم يكن الساكن ياءً ضُمَّتْ نحو «مِنْهُ» و «عَنْهُ» ، ولكن لما كان سكون القاف عارضاً لم يعتدَّ به، وأبقى الهاء على كسرتها التي كانت عليها مع كسر القاف، ولم يصلها بياء، لأنَّ الياء المحذوفة قبل الهاء مُقَدَّرَةٌ مَنْويَّةٌ، (فبقي الحذف الذي في الياء قبل الهاء على أصله) .
وقال الفارسيُّ: الكسرة في الهاء لالتقاء الساكنين، وليست الكسرة التي قبل الصلة، وذلك أنَّ هاء الكناية ساكنةٌ في قراءته، ولما أَجْرَى «تَقِهِ» مجرى كَتِفٍ، وسكَّن القاف التقى ساكنان، ولمَّا التقيا اضطر إلى تحريك أحدهما، فإمَّا أن يحرِّك الأول أو الثاني، (و) لا سبيل إلى تحريك الأول، لأنه يعود إلى ما فرَّ منه، وهو ثقل «فَعِل» فحرَّك ثانيهما (على غير) أصل التقاء الساكنين، فلذلك كسر الهاء، ويؤيده قوله:
3852 -
…
...
…
...
…
...
…
... .....
…
...
…
...
…
. لَمْ يَلْدَه أبَوَانِ
وذلك أن أصله: لم «يَلِدْه» بكسر اللام وسكون الدال للجزم، ثم لما سكن اللام التقى ساكنان، فلو حرك الأول لعاد إلى ما فرَّ منه، فحرك ثانيهما وهو الدال، وحركها بالفتح وإن كان على خلاف أصل التقاء الساكنين مراعاة لفتحة الياء. وقد ردَّ أبو القاسم بن فيره قول الفارسي وقال: لا يصحُّ قوله: إنه كسر الهاء لالتقاء الساكنين، لأن حفصاً لم يسكِّن الهاء في قراءته قطُّ وقد رد أبو عبد الله شارح قصيدته هذا الردَّ، وقال: وعجبت من نفْيِهِ الإسكان عَنْهُ مع ثُبُوتِهِ عَنْهُ في «أَرْجِهْ» و «فَأَلْقِهْ» ، وإذا قَرَأَهُ في «أَرْجِهْ» و «فَأَلْقِهْ» احتمل أن يكون «يَتَّقِهْ» عنده قبل سكون
القاف كذلك، وربما يرجَّحَ ذلك بما ثبت عن عاصم من قراءته إيَّاه بسكون الهاء مع كسر القاف. قال شهاب الدين: لم يَعْنِ الشاطبيُّ بأنَّه لم يسكن الهاء قطّ، الهاء من حيث هي هي، وإنما (عَنَى هَاء)«يَتَّقِهْ» خاصة، وكان الشاطبيّ أيضاً يعترض التوجيه الذي تقدم عن مكيّ، ويقول: تعليله حذف الصلة بأن الياء المحذوفة قبل الهاء مقدَّرةٌ منويَّةٌ، فبقي في حذف الصلة بعد الهاء على أصله غير مستقيم من قبل أنَّه قرأ «يُؤَدِّهِي» وشبَّهه بالصلة، ولو كان يعتبر ما قاله من تقدير الياء قبل الهاء لم يصلها.
قال أبو عبد الله: هو وإن قرأ «يُؤَدِّ هِي» وشبَّهَهُ بالصلة فإنه قرأ: «يَرْضَهُ» بغير صلةٍ، فَألحق مكيّ «يَتَّقِه» ب «يَرْضَهْ» ، وجعله مما خرج فيه عن نظائره لاتّباع الأثر، والجمع بين اللغتين، ويرجح ذلك عنده لأنّ اللفظ عليه، ولما كانت القاف في حكم المكسورة بدليل كسر الهاء بعدها صار كأنه «يَتَّقِهِ» بكسر القاف والهاء من غير صلةٍ، كقراءة قالون وهشام في أحد وجهيه، فعلَّله بما يُعَلَّل به قراءتهما، والشاطبيُّ يرجح عنده حمله على الأكثر مما قرأ به، لا على ما قلَّ وندر، فاقتضى تعليله بما ذكر.
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} . في «جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ» وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على المصدر بدلاً من اللفظ بفعله، إذ أصل: أقسم بالله جهد اليمين: أقسم بجهد اليمين جهداً، فحذف الفعل وقدَّم المصدر موضوعاً موضعه، مضافاً إلى المفعول ك «ضَرْبَ الرِّقَابِ» ، قاله الزمخشري.
والثاني: أنه حال، تقديره: مُجتهدين في أيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك وطاقتك. وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعد ما تقدَّم عنه: وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قيل: جاهدين أيمانهم وتقدم الكلام على «جَهْد أيْمَانِهِم» في المائدة.
فصل
قال مقاتل: من حلف بالله فقد أجهد في اليمين، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:«أينما كنت نكن معك، لئن خرجت خرجنا، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا» فقال الله تعالى: «قُلْ» لهم «لَا تُقْسَمُوا» لا تحلفوا، وهاهنا تم الكلام.
ولو كان قسمهم لما يجب لم يجز النهي عنه، لأنّ من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه، فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح.
قوله: «طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ» . في رفعها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: «أَمْرُنَا طَاعَةٌ» ، أو «المطلوب طَاعَةٌ» .
والثاني: أنها مبتدأ والخبر محذوفٌ، أي:(أَمْثَل أَوْ أَوْلَى) .
وقد تقدَّم أَنَّ الخبر متى كان في الأصل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه، كقوله:«صَبْرٌ جَمِيلٌ» ، ولا يبرز إلاّ اضطراراً، كقوله:
3853 -
فَقَالَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَمرُكَ طَاعَةٌ
…
وإنْ كُنْتُ قَدْ كُلِّفْتُ مَا لَمْ أُعَوَّدِ
على خلاف في ذلك.
والثالث: أن يكون فاعله بفعل محذوف، أي: ولتكن طاعة، ولتوجد طاعة.
واستضعف ذلك بأنَّ الفعل لا يحذف إلَاّ (إذا) تقدَّم مشعر به، كقوله:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36] في قراءة من بناه للمفعول، أي: يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. أو يجاب به نفيٌ، كقولك: بلى زيدٌ لمن قال: «لم يقم أحدٌ» . أو استفهام كقوله:
3854 -
أَلَا هَلْ أَتَى أُمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَل
…
بَلَى خَالِدٌ إنْ لَمْ تَعُقْه العَوَائِق
وقرأ زيد بن علي واليزيديّ: «طاعةً» بنصبها بفعل مضمر، وهو الأصل. قال أبو البقاء:
ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً في العربية، وذلك على المصدر، أي: أطيعوا طاعةً وقولوا قولاً، وقد دلَّ عليه قوله بعدها:{قُلْ أَطِيعُواْ الله} قال شهاب الدين: (قوله: (ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً) قد تقدم النقل لقراءته) .
وأما قوله: (وقولوا قولاً) فكأنه سبق لسانه إلى آية القتال، وهي:{فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} [محمد: 20 - 21] ولكن النصب هناك ممتنع أو بعيد.
فصل
المعنى: هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد، وهي معروفة، أي: أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون، قاله مجاهد. وقيل: طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل. وقال مقاتل بن سليمان: لتكن
منكم طاعة معروفة. هذا على قراءة الرفع. وأما على قراءة النصب فالمعنى: أطيعوا الله طاعةً و {الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: لا يخفى عليه شيء من سرائركم، فإنه فاضحكم لا محالة، ومجازيكم على نفاقكم، ثم قال:{قُلْ أَطِيعُواْ الله (وَأَطِيعُواْ) الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: عن طاعة الله ورسوله «فَإِنَّمَا عَلَيْه» أي: على الرسول «مَا حُمِّلَ» كلِّف وأمر به من تبليغ الرسالة {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} من الإجابة والطاعة. وقرأ نافع في رواية: {فَإنَّمَا عَلَيْهِ مَا حَمل} بفتح الحاء والتخفيف أي: فعليه إثم ما حمل من المعصية.
{وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} أي: تصيبوا الحق، وإن عصيتموه، ف {مَا عَلَى الرسول إِلَاّ البلاغ المبين} ، و «البَلَاغُ» بمعنى: التبليغ. و «المُبِينُ» : الواضح.
قوله: «فَإِنْ تَوَلَّوا» يجوز أن يكون ماضياً، وتكون الواو ضمير الغائبين ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، وحسَّن الالتفات هنا كونه لم يواجههم بالتولِّي والإعراض، وأن يكون مضارعاً حذفت إحدى تاءيه، والأصل:«تَتَوَلَّوا» ، ويُرَجّح هذا قراءة البزِّيِّ: بتشديد (التاء «فَإنْ) تَّولَّوا» . وإن كان بعضهم يستضعفها للجمع بين ساكنين على غير حدِّهما.
ويرجّحه أيضاً الخطاب في قوله: {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} ، ودعوى الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ثانياً بعيد.
قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
تقدير النظم: بلِّغ أيها الرسول وأطيعوا أيها المؤمنون فقد {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} أي: الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين، كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود
وسليمان عليهما السلام وغيرهما، وأنه يمكن لهم دينهم، وتمكينه ذلك بأن يؤيدهم بالنصر والإعزاز، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمناً، بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم، ويأمنوا بذلك شرهم.
قال أبو العالية: مكث النبي صلى الله عليه وسلم َ - بعد الوحي بمكة عشر سنين مع أصحابه، وأمروا بالصبر على أذى الكفار، فكانوا يصبحون ويمسون خائفين، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة، وأمروا بالقتال، وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه، فقال رجل منهم: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية:{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة، يعني: والله ليستخلفنهم في الأرض ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وسكانها {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} .
(قال قتادة: داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء.
وقيل) : {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني: بني إسرائيل، حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام، وأورثهم أرضهم وديارهم. روى عدي بن حاتم قال:«أتينا عند النبي صلى الله عليه وسلم َ - إذ أتى إليه رجل فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع النسل، فقال:» يا عدي هل رأيت الحيرة؟ «قلت: لم أرها وقد أتيت فيها: قال:» فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله «قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين قد سعوا البلاد،» وإن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى «. قلت: كسرى بن هرمز،» ولئن طالت بك حياة لترين الرجل من مكة يخرج ملأ كفه من ذهب، أو ذهب يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، وليقولن:«ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأتفضل عليك» فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا الجنة، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم «قال عدي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول:» اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد تمراً فبكلمة طيبة «- قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله تعالى وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم َ -
قوله: «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: هو جواب قسم مضمر، أي: أقسم ليستخلفنهم، ويكون مفعول الوَعْدِ محذوفاً تقديره: وَعَدَهُم الاسْتِخْلَاف، لدلالة قوله:«لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» عليه.
والثاني: أن يُجْرَى «وَعَدَ» مجرى القسم لتحقُّقه، فلذلك أجيب بما يجاب به القسم.
قوله: «كَمَا اسْتَخْلَفَ» أي: اسْتِخْلَافاً كَاسْتِخْلَافِهِمْ. والعامة على بناء اسْتَخْلَفَ للفاعل.
وأبو بكر بناه للمفعول. فالموصول منصوب على الأول ومرفوع على الثاني.
قوله: «ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ» . قرأ ابن كثير وأبو بكر: «وَليُبْدلَنَّهُمْ» بسكون الباء وتخفيف الدال من أبدل وتقدم توجيهها في الكهف في قوله: {أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} [الكهف: 81] .
قوله: «يَعْبُدُونَنِي» فيه سبعة أوجه:
أحدها: أنه مستأنف، أي: جواب لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ما بالهم يُسْتَخْلَفُونَ ويؤمنون؟
فقيل: «يَعْبُدُونَنِي» .
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هم يَعْبُدُونَنِي، والجملة أيضاً استئنافية تقتضي المدح.
الثالث: أنه حال من مفعول «وَعَدَ اللَّهُ» .
الرابع: أنه حال من مفعول «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» .
الخامس: أن يكون حالاً من فاعله.
السادس: أن يكون حالاً من مفعول «لَيُبَدِّلَنَّهُمْ» .
السابع: أن يكون حالاً من فاعله.
قوله: «لَا يُشْرِكُونَ» . يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً من فاعل «يَعْبُدُونَنِي» أي: يعبدونني موحدين، وأن يكون بدلاً من الجملة التي قبله الواقعة حالاً، وتقدم ما فيها.
فصل
دلّ قوله: «وَعَدَ اللَّهُ» على أنه متكلم، لأن الوعد نوع من أنواع الكلام، والموصوف بالنوع موصوف بالجنس، ولأنه تعالى ملك مطاع، والملك المطاع لا بُدّ وأن يكون بحيث يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه، فثبت أنه سبحانه متكلم.
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً لهشام بن الحكم، فإنه قال: لا يعلمها قبل وقوعها. ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخباراً على التفصيل. وقد وقع المخبر مطابقاً للخبر، ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم.
فصل
ودلت الآية على أنه تعالى حي قادر على جميع الممكنات لقوله: «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» وقد فعل كل ذلك، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل الممكنات المقدورات.
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة، لأن قال:«يَعْبُدُونَنِي» .
وقالت المعتزلة: الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض، لأنَّ المعنى: لكي يعبدونني. وقالوا أيضاً: الآية تدل على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل، لأنّ من
فعل فعلاً لغرض، فلا بدَّ وأن يكون مريداً لذلك الغرض.
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه منزه عن الشريك، لقوله:{لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} وذلك يدل على نفي الإله الثاني، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله سبحانه.
فصل
ودلت الآية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم َ - لأنه أخبر عن الغيب بقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} وقد وجد هذا المخبر موافقاً للخبر، ومثل هذا الخبر معجز، والمعجز دليل الصدق، فدل على صدق محمد عليه السلام.
فصل
دلت الآية على أنّ العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان، خلافاً للمعتزلة، لأنه عطف العمل الصالح على الإيمان، والمعطوف خارج عن المعطوف عليه.
فصل
دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة، لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد عليه السلام بقوله:«مِنْكُمْ» بأنه يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يمكن لهم دينهم المرضي، وأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء، لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده، ومعلوم ألا نبيّ بعده، لأنه خاتم الأنبياء، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة، ومعلوم أن بعد الرسول لا يحصل هذا الاستخلاف إلاّ في أيام أبي بكر وعمر وعثمان، لأنّ في أيامهم كان الفتوح العظيم، وحصل التمكن، وظهر الدين والأمن، ولم يحصل ذلك في أيام عليّ - كرم الله وجهه - لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار، لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة، فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء. فإن قيل: الآية متروكة الظاهر، لأنها تقتضي حصول الخلافة
لكل من آمن وعمل صالحاً، ولم يكن الأمر كذلك، نزلنا عنه، ولكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله:«لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» هو أنه تعالى أسكنهم في الأرض، ومكنهم من التصرف، لأنّ المراد خلافة الله، ويدل عليه قوله:{كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الأمانة، فوجب أن يكون الأمن في حقهم أيضاً، كذلك نزلنا عنه، لكن هاهنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله على خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - لأن من مذهبكم أنه عليه السلام لم يستخلف أحداً، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال:«أنزلتكم كما نزلت نبي الله» فعبر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1]، وقال في حق علي رضي الله عنه:{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] ، نزلنا عنه، ولكن محمله على الأئمة الاثني عشر؟
والجواب عن الأول: أن كلمة «مِنْ» للتبعيض، فقوله:«مِنْكُمْ» يدل على أنَّ المراد من هذا الخطاب بعضهم.
وعن الثاني: أن الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق، والمذكور هاهنا في معرض البشارة، فلا بدَّ وأن يكون مغايراً له.
وأما قوله تعالى: {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} فالذين كانوا قبلهم قد كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة وتارة بسبب الملك، فالخلافة حاصلة في الصورتين.
وعن الثالث: أنه وإن كان مذهبنا أنه عليه السلام لم يستخلف أحداً بالتعيين، ولكن قد استخلف بذكر الوصف والأمر والإخبار، فلا يمتنع في هؤلاء أنه تعالى استخلفهم، وأن الرسول استخلفهم، وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله، والذي قيل: إنه عليه السلام لم يستخلف أريد به على وجه التعيين، وإذا قيل: استخلف فالمراد على طريق الوصف والأمر.
وعن الرابع: أن حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز، وهو خلاف الأصل.
وعن الخامس: أنه باطل لوجهين:
أحدهما: قوله تعالى: «مِنْكُمْ» يدل على أنّ الخطاب كان مع الحاضرين، وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين.
الثاني: أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والبقاء في العالم، ولم يوجد ذلك فيهم. فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة الأربعة، وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى بطلان قول الخوارج، الطاعنين على عثمان وعلي.
قوله: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك} أراد كفر النعمة، ولم يرد الكفر بالله تعالى، {فأولئك هُمُ الفاسقون} العاصون لله عز وجل. قال المفسرون: أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخواناً. روى حميد بن هلال قال: قال عبد الله بن سلام في عثمان: إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - حتى اليوم، فوالله لئن قتلتموه لتذهبون ثم لا تعودون أبداً، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له، وإن سيف الله لم يزل مغموداً عنكم، والله لئن قتلتموه ليسللنه الله عز وجل ثم لا يغمده عنكم إما قال أبداً، وإما قال إلى يوم القيامة، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً.
وروى علي بن الجعد قال: أخبرني حماد - وهو ابن سلمة - عن ابن دينار عن سعيد بن جهمان عن سَفِينَة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - يقول: «الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً، ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر
قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على {أَطِيعُواْ الله (وَأَطِيعُواْ) الرسول} [النور: 54] وليس ببعيدٍ أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل، وإن طال، لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، قاله الزمخشري. قال شهاب الدين: وقوله: (لأن حقَّ المعطوف
…
إلى آخره) لا يظهر عِلَّةً للحكم الذي ادَّعاه.
والثاني: أَنَّ قوله: «وَأَقِيمُوا» من باب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسنه الخطاب في قوله قبل ذلك:«مِنْكُمْ» ثم قال: {وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: افعلوها على رجاء الرحمة.
قوله: «لَا تَحْسَبَّن» . قرأ العامة: «لَا تَحْسَبَّنَ» بتاء الخطاب، والفاعل ضمير المخاطب، أي: لا تحسبن أَيُّها المخاطب، ويمتنع أو يبعد جعله للرسول عليه السلام لأنَّ مثل هذا الحُسبان لا يُتصوَّرُ منه حتى يُنْهى عنهُ. وقرأ حمزة وابن عامر:«لَا يَحْسَبَّن» بياء الغيبة، وهي قراءة حسنةٌ واضحةٌ، فإنَّ الفاعل فيها مضمرٌ، يعودُ على ما دلَّ السياق عليه، أي:«لَا يَحْسَبَّن حاسِبٌ واحدٌ» . وإما على الرسول لتقدُّمِ ذكره، ولكنه ضعيف للمعنى المتقدم، خلافاً لمن لَحَّنَ قارئ هذه القراءة كأبي حاتم
وأبي جعفر والفراء. قال النحاس: ما عَلِمْت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يُلَحِّنُ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحنٌ، لأنه لم يأت إلا مفعولُ واحدٌ ل «يَحْسَبن» . وقال الفراء: هو ضعيفٌ، وأجازه على حذف المفعول الثاني والتقدير:«لَا يَحْسَبن الذين كفروا أنفسهم معجزين» قال شهاب الدين: وسبب تلحينهم هذه القراءة: أنهم اعتقدوا أنَّ «الَّذِينَ» فاعل، ولم يكن في اللفظ إلا مفعولٌ واحدٌ، وهو «مُعْجِزِينَ» فلذلك قالوا ما قالوا.
والجواب عن ذلك من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ الفاعل مضمر يعود على ما تقدم، أو على ما يفهم من السياق، كما سبق تحريره.
الثاني: أنَّ المفعول الأول محذوف تقديره: ولَا يَحْسَبن الَّذِين كفروا أنفسهم معجزين، إلاّ أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين، ومنه قول عنترة:
3855 -
وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ
…
مِنِّي بِمَنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي: تظني غيره واقعاً. ولما نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال: وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين. ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوّغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث. فقدّر المفعول الأول ضميراً متصلاً. قال أبو حيان: وقد رَدَدْنَا هذا التخريج في أواخر «آل عمران» في قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} [آل عمران: 188] في قراءة من قرأ بالغيبة، وجعل الفاعل:«الَّذِين يَفْرَحُونَ» ، وملخصه: أنَّ هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدها، فلا يتقدَّر «لَا يَحْسَبَنَّهُمْ» إذ لا يجوز ظنَّهُ زيدٌ
قائماً، على رفع (زيدٌ) ب (ظنه) .
وقد تقدم هذا الرد في الموضع المذكور.
الثالث: أن المفعولين هما قوله: {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} قاله الكوفيون. ولما نحا إليه الزمخشري قال: والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ الله في الأرض يطمعوهم في مثل ذلك، وهذا معنى قويٌّ جَيِّدٌ. قال شهاب الدين: قيل: هو خطأ، لأنَّ الظاهر تعلق «فِي الأَرْض» ب «مُعْجِزينَ» فجعلهُ مفعولاً ثانياً كالتهيئة للعمل والقطع عنه، وهو نظير:«ظَنَنْتُ قَائِماً فِي الدَّارِ» .
قوله: «وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه الجملة عطفٌ على الجملة التي قبلها من غير تأويل ولا إضمار، وهو مذهب سيبويه، أعني: عطف الجمل بعضها على بعض وإن اختلفت أنواعها خبراً وطلباً وإنشاءً. وقد تقدم تحقيقه في أول الكتاب.
الثاني أنها معطوفة عليها، ولكن بتأويل جملة النهي بجملة خبرية، والتقدير: الذين كفروا لا يَفُوتُونَ اللَّهَ ومأواهم النارُ. قاله الزمخشري، كأنه يرى تناسب الجمل شرطاً في (صحة) العطف، هذا ظاهر حاله.
الثالث: أنها معطوفة على جملة مقدرة.
قال الجرحاني: لا يحتمل أن يكون «وَمَأْوَاهُم» متصلاً بقوله: «لَا يَحْسَبن» ذلك
نهيٌ وهذا إيجابٌ، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله، تقديره:«لَا يَحْسَبن الَّذين كفروا مُعْجزين في الأرض بل هم مَقْهُورُونَ ومَأْوَاهُمُ النَّارُ» .
قوله
تعالى
: {يا أيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} الآية.
قال ابن عباس: وجَّه رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َ - غلاماً من الأنصار يقال له: «مُدْلج بن عمرو» إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل، فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مَرْثَد، كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فقالت: إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله {يا أيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ} اللام للأمر «مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» يعني: العبيد والإماء.
قال القاضي: هذا الخطاب وإن كان ظاهره للرجال، فالمراد به الرجال
والنساء، لأنّ التذكير يغلب على التأنيث. قال ابن الخطيب: والأولى عندي أنّ الحكم ثابت في النساء بقياس جليّ، لأنّ النساء في باب (حفظ) العورة أشد حالاً من الرجال، فهو كتحريم الضرب بالقياس على حرمة التأفيف. وقال ابن عباس: هي في الرجال والنساء يستأذنون على كل حال في الليل والنهار. واختلف العلماء في هذا الندب: فقيل للأمر. وقيل: للوجوب، وهو الأظهر. قوله:{والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} أي: من الأحرار، وليس المراد: الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل الذين عرفوا أمر النساء، ولكن لم يبلغوا.
واتفق الفقهاء على أنّ الاحتلام بلوغ. واختلفوا في بلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يوجد احتلام: قال أبو حنيفة: لا يكون بالغاً حتى يبلغ ثماني عشرة سنة، ويستكملها الغلام والجارية تستكمل سبع عشرة. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: في الغلام والجارية خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم، لما روى ابن عمر أنه عرض على النبي يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة، فأجازه. قال أبو بكر الرازي: هذا الخبر مضطرب، لأنّ أُحُداً كان في سنة ثلاث، والخندق كان في سنة خمس، فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ، فقد لا يؤذن للبالغ لضعفه، ويؤذن لغير البالغ لقوته ولطاقته لحمل السلاح، ولذلك لم يسأله النبي عليه السلام عن الاحتلام والسن. واختلفوا في الإنبات: هل يكون بلوغاً؟ فأصحاب الرأي لم يجعلوه بلوغاً، لقوله عليه السلام:«وعن الصبي حتى يحتلم» وقال الشافعي: هو بلوغ، لأنّ النبي عليه السلام: أمر بقتل من أنبت من بني قريظة. قال الرازي: الإنبات يدل على القوة البدنية، فالأمر بالقتل لذلك لا للبلوغ.
فصل
قال أبو بكر الرازي: دلَّت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع، وينهى عن ارتكاب القبائح، فإن الله تعالى أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات.
وقال عليه السلام: «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر» .
وقال ابن عمر: يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وقال ابن مسعود: إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له حسناته، ولا تكتب عليه سيئاته حتى يحتلم. واعلم أنه إنما يؤمر بذلك تمريناً ليعتاده ويسهل عليه بعد البلوغ.
فصل
قال الأخفش: الحلم: من حلم الرجل بفتح اللام، ومن الحلم: حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام.
قوله: «ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه منصوب على الظرف الزماني، أي: ثلاثة أوقات، ثم فسَّر تلك الأوقات بقوله:{مِّن قَبْلِ صلاة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ (ثيابكم مِّنَ الظهيرة) وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء} .
والثاني: أنه منصوب على المصدرية، أي ثلاثة استئذانات.
ورجح أبو حيان هذا فقال: والظاهر من قوله: ثَلاثَ مرَّاتٍ: ثلاثة استئذاناتٍ، لأنك إذا قلت: ضربتُ ثَلاثَ مراتٍ، لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضرباتٍ، ويؤيده قوله عليه السلام:«الاستئذانُ ثَلَاثٌ» قال شهاب الدين: مسلَّم أنّ الظاهر كذا، ولكن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة، وهي التفسير بثلاثة الأوقات المذكورة.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية: «الحُلْم» بسكون العين، وهي تميمية.
قوله: {مِّن قَبْلِ صلاة الفجر} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدلٌ من قوله: «ثَلَاثَ» فيكون في محل نصب.
الثاني: أنه بدلٌ من «مَرَّاتٍ» فيكون في محل جرّ.
الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمر، أي: هي من قَبْلُ، أي: تلكَ المرات، فيكون في محل رفع.
وقوله: «وَحِينَ تَضَعُونَ» عطف على محل {مِّن قَبْلِ صلاة الفجر} .
قوله: «من الظَّهِيرةِ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ «مِنْ» لبيان الجنس، أي: حين ذلك الذي هو الظهيرة.
الثاني: أنها بمعنى «في» أي: تضعونها في الظهيرة.
الثالث: أنها بمعنى اللام، (أي) : من أجل حرّ الظهيرة.
وقوله: {وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء} : عطف على ما قبله. والظَّهيرةُ شِدّةُ الحرِّ، وهو انتصاف النهار.
قوله: «ثلاث عورات» . قرأ الأخوان وأبو بكر: «ثَلَاثَ» نصباً. والباقون رفعاً. فالأولى تحتمل ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها بدلٌ من قوله: «ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» .
قال ابن عطية: إنما يصح البدلُ بتقدير: أوقاتُ ثلاث عوراتٍ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وكذا قدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث المرات نفس ثلاث العورات مبالغة فلا يحتاج إلى حذف مضاف، وعلى هذا الوجه - أعني: وجه البدل - لا يجوز الوقف على ما قبل «ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ» لأنه بدل منه وتابع له، ولا يوقف على المتبوع دون تابعه.
الثاني: أنَّ «ثَلَاثَ عَوْراتٍ» بدل من الأوقات المذكورة، قاله أبو البقاء. يعني قوله:{مِّن قَبْلِ صلاة الفجر} وما عُطِفَ عليه، ويكون بدلاً على المحل، فلذلك نصب.
الثالث: أن ينْتصب بإضمار فعل.
فقدره أبو البقاء: «أعني» وأحسن من هذا التقدير: اتقوا، أو احذروا ثلاث.
فأمّا الثانية: ف «ثَلَاثُ» خبر مبتدأ محذوف تقديره: «هُنَّ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ» .
وقدره أبو البقاء مع حذف مضاف، فقال: أي: هي أوقات ثلاث عورات، فحذف المبتدأ والمضاف. قال شهاب الدين: وقد لا يحتاجُ إليه على جعلِ العَوْرات نَفْسَ الأوقاتِ مبالغةً، وهو المفهوم من كلام الزمخشري، وإن كان قد قدَّر مضافاً، كما تقدم عنه.
قال الزمخشري: ويسمى كل واحد من هذه الأحوال عَوْرةً، لأنَّ الناس يختل تسترهم وتحفظُهم فيها. والعَوْرةُ: الخللُ، ومنه أعور الفارسُ، وأعور المكانُ. والأعور: المختل العين. فهذا منه يؤذن بعدم تقدير «أوقاتٍ» مضاف ل «عوراتٍ» بخلاف كلامه أولاً فيؤخذ من مجموع كلاميه وجهان.
وعلى قراءة الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريج قراءة النصب يوقف على ما قبل «ثَلَاثَ عوراتٍ» لأنها ليست تابعة لما قبلها. وقرأ الأعمش: «عَورَاتٍ» بفتح الواو، وهي لغة هذيل وبني تميم، يفتحون عين «فَعْلاء» واواً أو ياءً، وأنشد:
3856 -
أَخُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأَوِّبٌ
…
رَفِيقٌ بِمَسْحِ المِنْكَبَيْنِ سَبُوحُ
فصل
المعنى: يستأذنوا في ثلاثة أوقات: من قبل صلاة الفجر، ووقت القيلولة، ومن بعد
صلاة العشاء. وخصَّ هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد من العبيد والصبيان، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات، فأما غيرهم فيستأذنون في جميع الأوقات. وسميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته.
فصل
قال بعضهم: إن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] يدل على أنّ الاستئذان واجب في كل حال، فنسخ بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة. قال ابن عباس: لم يكن للقوم ستور ولا حجاب، وكان الخدم والولائد يدخلون، فربما يرون منهم ما لا يحبون، فأمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق، واتخذ الناس الستور، فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان.
وقال آخرون: الآية الأولى أريد بها المكلف، لأنه خطاب لمن آمن، والمراد بهذه الآية غير المكلف، لا يدخل في بعض الأحوال إلاّ بإذن، وفي بعضها بغير إذن، ولا وجه للنسخ. فإن قيل: قوله: {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} يدخل فيه من بلغ، فالنسخ لازم؟
فالجواب أن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27] لا يدخل تحته العبيد والإماء، فلا يجب النسخ.
قال أبو عبيد: لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس لا أرى أحداً يعمل بهن، قال عطاء: حفظت آيتين ونسيت واحدة، وقرأ هذه الآية، وقوله {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13] ذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى
…
} [النساء: 8] الآية.
قوله: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ» هذه الجملة يجوز أن يكون لها محل من الإعراب، وهو الرفع نعتاً ل «ثَلَاثُ عَوْرَات» في قراءة من رفعها، كأنه قيل: هُنَّ ثَلَاثُ عَوْراتٍ مخصوصةٌ بالاستئذان، وأَلَاّ يكون لها محل، بل هي كلام مقرر للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة، وذلك في قراءة من نصب «ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ» .
قوله: «بعدهن» . قال أبو البقاء: التقدير: بعد استئذانهم فيهن، ثم حذف حرف الجر والفاعل فبقي «بعد استئذانهم» ثم حذف المصدر.
يعني بالفاعل: الضمير المضاف إليه الاستئذان، فإنه فاعل معنوي بالمصدر، وهذا غير ظاهر، بل الذي يظهر أن المعنى: ليس عليكم جناح ولا عليهم أي: العبيدُ والإماءُ والصبيانُ «جُنَاحٌ» في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة، ولا حاجة إلى التقدير الذي ذكره.
قوله: «طَوَّافُونَ» خبر مبتدأ مضمر تقديره: «هُمْ طَوَّافُونَ» ، و «عَلَيْكُم» متعلق به.
قوله: {بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ} . في «بَعْضُكُم» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، و «عَلَى بَعْضٍ» الخبر، فقدره أبو البقاء:«يَطُوفُ على بعض» وتكون هذه الجملة بدلاً مما قبلها، ويجوز أن تكون مؤكدة مبينة، يعني: أنها أفادت إفادة الجملة التي قبلها، فكانت بدلاً أو مؤكدة. وردّ أبو حيان هذا بأنه كونٌ مخصوص، فلا يجوز حذفه.
والجواب عنه: أن الممتنع الحذف إذا لم يدل عليه دليل، وقُصِدَ إقامةُ الجار والمجرور مقامه. وهنا عليه دليل ولم يُقْصَد إقامة الجار مقامه. ولذلك قال الزمخشري: خبره «عَلَى بَعْضٍ» على معنى: طائف على بعض، وحذف لدلالة «طوافون» عليه.
الثاني: أن يرتفع بدلاً من «طَوَّافُونَ» قاله ابن عطية قال أبو حيان: ولا يصحُّ إن قدَّر الضميرَ ضمير غيبةٍ لتقدير المبتدأ «هم» لأنه يصير التقدير: هُمْ يطوفُ بعضكُم على بعضٍ وهو لا يصح، فإن جعلت التقدير: أنتم يطوف بعضكم على بعض، فَيَدْفَعهُ أنَّ قوله:«عَليْكُم» يدل على أنهم هم المطوفُ عليهم، و «أنتُمْ طَوَّافُونَ» يدل على أنهم طائفون، فتعارضا. قال شهاب الدين: الذي نختار أن التقدير: أنتم، ولا يلزمُ
محذور، وقوله: فيدفعه إلى آخره، لا تعارض فيه، لأن المعنى: كل منكم ومن عبيدكم طائف على صاحبه، وإن كان طوافُ أحد النوعين غير طواف الآخر، لأنَّ المراد الظهور على أحوال الشخص، ويكون «بعضكم» بدلاً من «طَوَّافُونَ» و «على بعض» بدلاً من عليكم بإعادة العامل، فأبدلت مرفوعاً من مرفوع ومجروراً من مجرور، ونظيره قوله:
3857 -
فَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بَعْضَهُ
…
بِبَعْضٍ أَبَتْ عيدَانُه أَنْ تَكَسَّرَا
ف «بعضه» بدل من «النَّبع» المنصوب، و «ببعض» بدل من المجرور بالياء.
الثالث: أنه مرفوعٌ بفعل مقدر، أي: يطوفُ بعضُكُم على بعض، لدلالة «طَوَّافُونَ» عليه، قاله الزمخشري. وقرأ ابن أبي عبلة:«طَوَّافينَ» بالنصب على الحال من ضمير «عَلَيْهِمْ» .
فصل
المعنى «ليس عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهم» يعني: العبيد والإماء والصبيان «جُنَاحٌ» في الدخول عليكم بغير استئذان «بَعْدَهُنَّ» أي: بعد هذه الأوقات الثلاثة، «طَوَّافُونَ علَيْكُمْ» أي: العبيد والخدم يطوفون عليكم: يترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن {بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ} . فإن قيل: هل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة (لهم؟ فالجواب، لا، وإنما أباح تعالى ذلك من حيث كانت العادة لا تكشف العورة) في غير تلك الأوقات، فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم فذلك يحرم عليها. فإن كان الخادم مكلفاً حرم عليه الدخول إن ظن أن هناك كشف عورة.
فإن قيل: أليس في الناس من جوَّز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته؟
فالجواب: من جوَّز ذلك فالشعر عنده ليس بعورة في حق المماليك كما هو في
حق الرحم، إذ العورة تنقسم أقساماً وتختلف بالإضافات.
فصل
هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم.
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ} هذا الحكم مختص بالصغار دون البالغين، لقوله بعد ذلك:{وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} .
قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} أي: الاحتلام، يريد: الأحرار الذين بلغوا «فَلْيَسْتَأْذِنُوا» أي: يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأحرار (الكبار) . وقيل يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ} دلالاته. وقيل: أحكامه «واللَّهُ عَلِيمٌ» بأمور خلقه «حَكِيمٌ» بما دبر لهم. قال سعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه، فإنما أنزلت الآية في ذلك وسئل حذيفة: أيستأذن الرجل على والدته؟ قال: «نعم وإن لم تفعل رأيت منها ما تكره» .
قوله: {والقواعد مِنَ النسآء} . القواعدُ: من غير تاء تأنيث، ومعناه: القواعدُ عن النكاح، أو عن الحيض، أو عن الاستمتاع، أو عن الحبل، أو عن الجميع ولولا تخصيصهُنَّ بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من القعود المعروف.
وقوله: «مِنَ النِّسَاءِ» وما بعده بيان لهن. و «القَوَاعِدُ» مبتدأ، و «مِنَ النِّسَاءِ» حال، و «اللَاّتِي» صفة القواعد لا للنساء، وقوله:«فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ» ، الجملة خبر المبتدأ، وإنما دخلت الفاء لأن المبتدأ موصوف بموصول، لو كان ذلك الموصول مبتدأ لجاز دخولها في خبره، ولذلك منعت أن تكون «اللاتي» صفة للنساء، إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ.
وقال أبو البقاء: ودخلت الفاءُ لما في المبتدأ من معنى الشرط، لأن الألف واللام بمعنى الذي وهذا مذهب الأخفش، وتقدم تحقيقه في المائدة، ولكن هنا ما يُغني عن ذلك، وهو وصف المبتدأ بالموصول المذكور، و «غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ» حال من «عليهن» . (والتَّبرُّجُ الظهور من البُرْج) وهو البناء الظاهر، والتبرج: سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها كله، لا يغيب منه شيء والتبرج: إظهار ما يجب إخفاؤه بأن تكشف المرأة للرجال (بإبداء) زينتها وإظهار محاسنها. و «بزينة» متعلق به. قوله: «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ» مبتدأ بتأويل: «اسْتِعْفَافُهُنَّ» ، و «خَيْرٌ» خبره.
فصل
قال المفسرون: القواعد: هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر، ولا مطمع لهن في الأزواج.
والأولى ألا يعتبر قعودهن عن الحيض، لأن ذلك ينقطع، والرغبة فيهن باقية، والمراد: قعودهن عن الأزواج، ولا يكون ذلك إلا عند بلوغهن إلى حيث لا يرغب فيهن الرجال لكبرهن قال ابن قتيبة: سميت المرأة قاعداً إذا كبرت، لأنها تكثر القعود وقال ربيعة: هنَّ العجز اللواتي إذا رآهنَّ الرجل استقذرهن، فأما من كانت فيها بقية من جمال، وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية. {فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} عند الرجال، يعني: يضعن بعض ثيابهن، وهي الجلباب، والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار، فأما الخمار فلا يجوز وضعه لما فيه من كشف العورة.
وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: {أن يضعن من ثيابهن} . وروي عن ابن عباس أنه قرأ: {أن يضعن جلابيبهن} . وعن السدي عن شيوخه: أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن وإنما خصهن الله بذلك لأن التهم مرتفعة عنهن، وقد بلغن هذا المبلغ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهنّ وضع الثياب، ولذلك قال:{وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} وإنما جعل ذلك أفضل لأنه أبعد عن الظنة، فعند الظنة يلزمهن ألا يضعن ذلك كما يلزم الشابة، والله سميع عليم.
قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} الآية.
قال ابن عباس: لما أنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لَا تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [النساء: 29] تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعُمْي والعرج وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله عز وجل عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول، فلا يستوفي الطعام، فأنزل الله هذه الآية. وعلى هذا التأويل تكون «على» بمعنى «في» أي: ليس في الأعمى، أي: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج. وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما: «كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس
يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، ويقول الأعمى: ربما أكل أكثر، ويقول الأعرج: ربما أخذ مكان اثنين، فنزلت هذه الآية» .
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية (ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله بهذه الآية) لأن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب العلم، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم، أو بعض من سمى الله عز وجل في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون: ذهب بنا إلى بيت غيره، فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب: كان المسلمون إذا غزوا اختلفوا منازلهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غيب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم. وقال الحسن: نزلت الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد، وقال: تم الكلام عند قوله: {وَلَا عَلَى المريض حَرَجٌ} وقوله تعالى: «وَعَلى أَنْفسكُمْ» كلام منقطع عما قبله.
وقيل: لما نزل قوله: {وَلَا تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188] قالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله عز وجل:{وَلَا على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} ، أي: لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم، نسب بيوت الأولاد إلى الآباء كقوله عليه السلام:«أنت ومالك لأبيك» .
فصل
دلَّت هذه الآية بظاهرها على إباحة الأكل من هذه المواضع بغير استئذان، وهو
منقول عن قتادة، وأنكره الجمهور، ثم اختلفوا: فقيل: كان ذلك في صدر الإسلام، فنسخ بقوله عليه السلام:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ويدل على هذا النسخ قوله تعالى {يا أيها الذين آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلَاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}
[الأحزاب: 53] وكان في أزواج الرسول من لهنَّ الآباء والأخوات، فعم بالنهي عن دخول بيوتهن إلا بالإذن في الأكل. فإن قيل: إنما أذن الله تعالى في هذه الآية، لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا في بيوتهم، حضروا أو غابوا، فجاز أن يرخص في ذلك؟
فالجواب: لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص هؤلاء الأقارب بالذكر معنى، لأن غيرهم كهم في ذلك. وقال أبو مسلم: المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين، لأنه تعالى نهى من قبل عن مخالطتهم بقوله:{لَاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] ثم إنه تعالى أباح في هذه الآية ما حظره هناك، قال: ويدل عليه أن في هذه السورة (أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك، بل) أمر أن يسلموا على أنفسهم، فالمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات.
وقيل: لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم، والعادة كالإذن، فيجوز أن يقال: خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأصل توجد منهم، ولذلك ضم إليهم الصديق، ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت لأجل حصول الرضا فيها، فلا حاجة إلى النسخ.
قال ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخر، وملك المفتاح: كونه في يده وحفظه قال المفضل: «المفاتح» واحدها «مَفْتَح» بفتح الميم، وواحد
المفاتيح: مِفْتح (بكسر الميم) . وقال الضحاك: يعني: من بيوت عبيدكم ومماليككم، لأن السيد يملك منزل عبده والمفاتيح: الخزائن، لقوله:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} [الأنعام: 59]، ويجوز أن يكون الذي يفتح به. وقال عكرمة:«إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير» .
وقال السُّديّ: الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه، فلا بأس أن يأكل منه. وقيل:{أو ما ملكتم مفاتحه} : ما خزنتموه عندكم. قال مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم.
قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} العامة على فتح الميم واللام مخففة. وابن جُبير: «مُلِّكْتُم» ، بضم الميم وكسر اللام مشدّدة؛ أي:«مَلَّكَكُمْ غَيْرُكُمْ» . والعامة على «مَفَاتِحَه» دون ياء، جمع «مَفْتَح» . وابن جُبَير «مَفَاتِيحَهُ» بالياء بعد التاء، جمع «مِفْتَاح» .
وجوَّز أبو البقاء أن يكون جمع «مِفْتَح» بالكسر، وهو الآلة، وأن يكون جمع «مَفتح» بالفتح، وهو المصدر بمعنى الفتح. والأول أقيس. وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه:«مِفْتَاحَهُ» بالإفراد، وهي قراءة قتادة.
قوله: «أَوْ صَدِيقكُمْ» . العامة على فتح الصاد. وحُمَيد الجزَّارُ روى كسرها إتباعاً لكسرة الدّال والصديق: يقع للواحد والجمع كالخليط والفطين وشبههما.
فصل
الصديق: الذي صدقك في المودة. قال ابن عباس: نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده
مجهوداً، فسأله عن حاله فقال: تحرجت من أكل طعامك بغير إذنك، فأنزل الله هذه الآية وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية. والمعنى: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا. يحكى أن الحسن دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد أخرجوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة مكبون عليها يأكلون، فتهلل أسارير وجهه سروراً وضحك، وقال:«هكذا وجدناهم» يعني: كبراء الصحابة. وعن ابن عباس: الصديق أكبر من الوالدين، لأن أهل جهنم لمّا استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات، بل قالوا:{مَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] .
وحكي أن أخا الربيع بن خيثم دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل، فلما قدم أخبرته بذلك، فانسر لذلك وقال: إن صدقت فأنت حرة.
فصل
احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع، لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم، ودخولها بغير أذنهم، فلا يكون ماله محرزاً منهم. فإن قيل: فيلزم ألا يقطع إذا سرق من مال صديقه؟
فالجواب: من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له.
قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} قال الأكثرون: نزلت في بني ليث بن عمرو حي من كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده، ويمكث يومه حتى يجد ضيفاً يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا
يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل. هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج. وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه، فيقول: والله إني لأحتج، أي: أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير، فنزلت هذه الآية وقال عكرمة وأبو صالح:«نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا جميعاً مجتمعين، أو اشتاتاً متفرقين» .
وقال الكلبي: «كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة، وكذلك المزمن والمريض، فبيّن الله لهم أن ذلك غير واجب» . قوله: «جَمِيعاً» حال من فاعل «تَأْكُلُوا» ، و «أَشْتَاتاً» عطف عليه، وهو جمع «شَتّ» و «شَتَّى» جمع «شَتيت» . و «شَتَّانَ» تثنية «شت» . قال المفضل: وقيل: الشت: مصدر بمعنى: التفرق، ثم يوصف به ويجمع.
قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} . أي: ليسلم بعضكم على بعض، جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة، كقوله تعالى:{وَلَا تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . قال ابن عباس: «فإن لم يكن أحد فعلى نفسه يسلم، ليقل: السلام علينا من قبل ربنا» .
قال جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار: «إذا دخل الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته» . وقال قتادة: «إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، حدثنا أن الملائكة ترد عليه» وعن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} قال: «إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» . قال القفال: «وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل: السلام على من اتبع الهدى» .
قوله: «تَحيَّةً» منصوب على المصدر من معنى «فَسَلِّمُوا» فهو من باب: قَعَدْتُ
جُلُوساً، كأنه قال: فحيوا تحية، وتقدم وزن «التحية» . و {مِّنْ عِندِ الله} يجوز أن يتعلق بنفس «تَحية» أي: التحية صادرة من جهة الله، و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً إلا أنه يعكر على الوصف تأخر الصفة الصريحة عن المؤولة، وتقدم ما فيه.
فصل
{تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله} أي: مما أمركم الله به. قال ابن عباس: من قال: السلام عليكم، (معناه: اسم الله عليكم «مُبَارَكَةً طَيِّبَةً» . قال ابن عباس) : «حسنة جميلة» وقال الضحاك: «معنى البركة فيه تضعيف الثواب» {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي: يفصل الله شرائعه «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» عن الله أمره ونهيه. قال أنس: «وقفت على رأس النبي صلى الله عليه وسلم َ - أصب الماء على يديه، فرفع رأسه وقال:» ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها «؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بلى. قال:» من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك، وإذا دخلت بيتاً فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين «.
قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ} أي: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -
{على أَمْرٍ جَامِعٍ} يجمعهم من حرب حضرت، أو صلاة جمعة، أو عيد، أو جماعة، أو تشاور في أمر نزل. فقوله «أَمْرٍ جَامِع» من الإسناد المجازي (لأنه لما كان سبباً في جمعهم نسب الفعل) إليه مجازاً.
وقرأ اليماني: {عَلَى أَمْرٍ جَميعٍ} فيحتمل أن يكون صيغة مبالغة بمعنى «مُجمع» وألا يكون. والجملة الشرطية من قوله: «وَإِذَا كَانُوا» وجوابها عطف على الصلة من قوله: «آمَنُوا» .
والأمر الجامع: هو الذي يعم ضرره أو نفعه، والمراد به: الخطب الجليل الذي لا بُدَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ - من أرباب التجارب (والآراء) ليستعين بتجاربهم، فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يَشُق على قلبه.
فصل
قال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم َ - يُعَرِّضُ في خطبته بالمنافقين ويعيبهم، فينظر المنافقون يميناً وشمالاً، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً، فنزلت الآية، فكان المؤمن بعد نزول هذه الآية لا يخرج لحاجته حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.
فصل
قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلاّ بإذن، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام، (فإن حدث سبب يمنعه من المقام) بأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة، أو يجنب رجل، أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان.
فصل
قال الجبائي: دلَّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم، ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان.
والجواب: هذا بناء على أن كلمة «إنما» للحصر، وأيضاً فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافاً، وذلك كفر.
قوله: {إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} تعظيماً لك ورعاية للأدب {أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} أي: يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه. قال الضحاك ومقاتل: المراد: عمر بن الخطاب، وذلك أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له، وقال:«انطلق، فوالله ما أنت بمنافق» يريد أن يُسْمِع المنافقين ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم، وإذا استأذناه أبى، فوالله ما نراه يعدل.
قال ابن عباس: «إن عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - في العمرة، فأذن له، ثم قال:» يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك «.
قوله:» لِبَعْض شَأْنِهِمْ «تعليل، أي: لأجل بعض حاجتهم.
وأظهر العامةُ الضادَ عند الشين. وأدغمها أبو عمرو فيها، لما بينهما من التقارب، لأن الضاد من أقصَى حافة اللسان والشين من وسطه. وقد استضعف جماعة من النحويين هذه الرواية واستبعدوها عن أبي عمرو - رأس الصناعة - من حيث إن الضادَ أقوى من الشين، ولا يدغم الأقوى في الأضعف وأساء الزمخشري على راويها السوسيّ. وقد أجاب الناس عنه، فقيل: وجه الإدغام أن الشين أشد استطالة من الضاد، وفيها تَفَشِّي ليس في الضاد، فقد صارت الضاد أَنْقَصَ منها، وإدغام الأنقص في الأزْيَدِ جائز، قال:
ويُؤَيّد هذا أن سيبويه حكى عن بعض العرب «اطَّجَع» في «اضْطَجع» ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى.
والخصم لا يسلم جميع ما ذكر، ومستند المنع واضح.
فصل
{فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أمرهم {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} بالانصراف، أي: إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن، {واستغفر لَهُمُ الله} وهذا تنبيه على أن الأولى ألا يستأذنوا وإن أذن، لأن الاستغفار يكون عن ذنب. ويحتمل أن يكون أمره بالاستغفار لهم مقابلة على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان.
فصل
قال مجاهد: قوله: فأذن لمن شئت منهم نسخت هذه الآية. وقال قتادة: نسخت هذه الآية بقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] . والآية تدل على أنه تعالى فوض إلى رسول الله بعض أمر الدين ليجتهد فيه رأيه.
قوله: {لَاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} . قال سعيد بن جبير وجماعة كثيرة: لا تنادونه باسمه فتقولون: يا محمد، ولا بكنيته فتقولون: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير: يا رسول الله، يا نبي الله. وعلى هذا يكون المصدر مضافاً لمفعوله. وقال المبرد والقفال: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض فتتباطؤون كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر، بل يجب عليكم المبادرة لأمره، ويؤيده قوله:{فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} . وعلى هذا يكون المصدر مضافاً للفاعل.
وقال ابن عباس: «احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره» . وروي عنه أيضاً: «لا ترفعوا أصواتكم في دعائه» . وهو المراد من قوله: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} [الحجرات: 3] وقول المبرد أقرب إلى نظم الآية. وقرأ الحسن: «نبيكم» بتقديم النون على الباء المكسورة، بعدها ياء
مشددة مخفوضة مكان «بينكم» الظرف في قراءة العامة، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من الرسول.
الثاني: أنه عطف بيان له، لأَنَّ النبيَّ بإضافته إلى المخاطبين صار أشهر من الرسول.
الثالث: أنه نعتٌ.
لا يقال: إنه لا يجوز لأن هذا كما قَرَّرتم أعرف، والنعت لا يكون أعرف من المنعوت بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ، لأنَّ الرَّسول صار علماً بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم َ - فقد تساويا تعريفاً.
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله} . «قد» تدل على التقليل مع المضارع إلاّ في أفعال الله فتدل على التحقيق كهذه الآية. وقد ردَّها بعضهم إلى التقليل، لكن إلى متعلَّق العلم، يعني: أن الفاعلين لذلك قليل، فالتقليل ليس في العلم بل في متعلِّقه.
قوله: لِوَاذاً فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول، إذ التقدير: يتسلّلون منكم تَسَلُّلاً، أو يُلَاذُون لواذاً.
والثاني: أنه مصدر في موضع الحال، أي: مُلَاوِذين.
واللِّواذُ: مصدر لَاوذَ، وإنما صحَّت الواو وإن انكسر ما قبلها ولم تُقلب ياءً كما قُلبَتْ في «قِيَام» و «صِيَام» ، لأنه صحَّت في الفعل نحو «لَاوَذَ» ، فلو أُعِلَّتْ في الفعل أُعِلَّتْ في المصدر نحو «القيام» و «الصِّيَام» لقلبها ألفاً في «قام» و «صام» . وأما مصدر:«لَاذَ بكذا يَلُوذُ به» فمعتل نحو: «لَاذَ لِيَاذاً» مثل: «صَامَ صِياماً، وقام قِياماً» . واللِّوَاذُ والمُلَاوَذَةُ: التَّستُّر، يقال: لَاوَذَ فلانٌ بكذا: إذا استتر بِهِ. واللَّوذُ:
ما يُطيفُ بالجبل. وقيل: اللِّوَاذُ: الرَوَغَان من شيءٍ إلى شيءٍ في خفيةٍ، ووجه المفاعلة أَنَّ كُلاًّ منهم يلُوذُ بصاحبه، فالمشاركة موجودة.
وقرأ يزيد بن قطيب: «لَوَاذاً» بفتح اللام، وهي محتملة لوجهين:
أحدهما: أن يكون مصدر «لاذ» ثلاثياً، فيكون مثل «طاف طوافاً» .
والثاني: أن يكون مصدر «لَاوَذَ» إلاّ أنه فتحت الفاء إتباعاً لفتحة العين. وهو تعليل ضعيف يصلح لمثل هذه القراءة.
فصل
المعنى: قال المفسرون: إن المنافقين كانوا يخرجون مستترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا. قال ابن عباس: كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم َ - فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار وقال مجاهد: يتسللون من الصف في القتال. وقيل: كان هذا في حفر الخندق ينصرفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - مختفين. وقيل: يعرضون عن الله وعن كتابه وعن ذكره وعن نبيه.
قوله: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ» فيه وجهان:
أشهرهما، وهو الذي لا يعرف النحاة غيره: أن الموصول هو الفاعل و «أن تصيبهم» مفعوله، أي: فليحذر المخالفون عن أمره إصابتهم فتنة.
والثاني: أن فاعل «فَلْيَحْذَر» ضمير مستتر، والموصول مفعول به. وردَّ هذا بوجوهٍ:
منها: أن الإضمار خلاف الاصل. وفيه نظر، لأنَّ هذا الإضمار في قوة المنطوق به، فلا يقال: هو خلاف الأصل، ألا ترى أن نحو:«قُمْ» و «ليقُمْ» فاعله مضمر، ولا يقال في شيء منه هو خلاف الأصل، وإنما الإضمار خلاف الأصل فيما كان حذفاً نحو:«وَاسْأَلِ القَرْيَةَ» .
ومنها: أنَّ هذا الضمير لا مرجع له، أي: ليس له شيء يعود عليه، فبطل أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً. وأجيب بأن الذي يعود عليه الضمير هو الموصولُ الأول، أي: فَلْيَحْذَر المُتَسَلِّلُونَ المخالفين عن أمره، فيكونون قد أمروا بالحذر منهم، أي: أُمرُوا باجتنابهم، كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ. وردُّوا هذا بوجهين:
أحدهما: أنَّ الضمير مفرد، والذي يعود عليه جمع، ففاتت المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسير الضمائر.
الثاني: أن المُتَسلِّلينَ هم المُخالِفُون، فلو أمروا بالحذر عن الذين يخالفون لكانوا قد أُمِرُوا بالحذر عن أنفسهم، وهو لا يجوز، لأنه لا يمكن أن يُؤْمَرُوا بالحذر عن أنفسهم. ويمكن أن يُجاب عن الأول بأن الضمير وإن كان مفرداً فإنما عاد على جمع باعتبار أن المعنى: فليحذر هو، أي من ذكر قبل ذلك، وحكى سيبويه:«ضَرَبَني وضربت قومك» أي: ضَرَبَني من ثمَّ ومن ذكر، وهي مسألة معروفة في النحو. أو يكون التقدير: فَلْيَحْذَر كلُّ واحد من المتسللين.
وعن الثاني: بأنه يجوز أن يُؤْمَر الإنسانُ بالحذر عن نفسه مجازاً، يعني: أنه لا يطاوعها على شهواتها، وما تُسوِّلُه له من السوء، وكأنه قيل: فليحذر المخالفون أنفسهم فلا يطيعوها فيما تأمرهم به، ولهذا يقال: أمَرَ نفسهُ ونَهَاهَا، وأَمرتهُ نفسهُ باعتبار المجاز.
ومنها: أنه يصير قوله: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مفلَّتاً ضائعاً، لأنَّ «يحذر» يتعدى لواحد، وقد أخذه على زعمكم، وهو الذين يخالفون ولا يتعدى إلى اثنين حتى يقولوا: إن {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} في محل مفعوله الثاني، فيبقى ضائعاً. وفيه نظرٌ، لأنَّا لا نُسلِّم ضياعهُ، لأنه مفعول من أجله. واعترض على هذا بأنه لا يستكمل شروط النصب لاختلاف الفاعل، لأن فاعل الحذر غير فاعل الإصابة.
وهو ضعيف، لأن حذف حرف الجر يطرد مع «أَنَّ» و «أَنْ» منقول مسلمٌ: شروط النصب غير موجودةٍ، وهو مجرور باللام تقديراً، وإنما حُذفت مع أَنْ لطولها بالصلة. و «يُخَالِفُونَ» يتعدى بنفسه نحو: خَالَفْتُ أَمْر زيدٍ، وب «إِلَى» نحو: خالفتُ إلى كذا، فكيف تعدَّى هذا بحرفِ المجاورة؟ وفيه أوجه:
أحدها: أنه ضُمِّنَ معنى «صَدَّ» و «أَعْرَضَ» أي: صدَّ عن أمره، وأَعْرَضَ عنه مُخَالِفاً له.
الثاني: قال ابن عطية: معناه: يقعُ خلافُهُمْ بعدَ أَمْرِه، كما تقول: كان المطر عَنْ ريح كذا، و «عن» لِمَا عدا الشي.
الثالث: أنها مزيدة، أي: يخالفون أمره، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة. والزيادة خلافُ الأصل. وقُرِئ:«يُخَلِّفُونَ» بالتشديد، ومفعوله محذوف، أي: يُخَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ.
فصل
المعنى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ} أي: يعرضون «عَنْ أَمْرِهِ» ، أو يخالفون أمره وينصرفون عنه بغير إذنه {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: لئلا تصيبهم فتنة.
قال مجاهد: بلاء في الدنيا. {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع في الآخرة. والضمير في «أمره» يرجع إلى «الرسول» . وقال أبو بكر الرازي: الأظهر أنه لله تعالى لأنه يليه.
فصل
الآية تدل على أن الأمر للوجوب، لأن تارك المأمور مخالف للأمر، ومخالف الأمر يستحق العقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
قوله تعالى: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} أي: ملكاً وعبيداً، وهذا تنبيه على كمال قدرته تعالى عليهما، وعلى ما بينهما وفيهما.
قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} . قال الزمخشري: أدخل «قد» ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن «قد» إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «رُبَّما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
3858 -
فَإِنْ يُمْسي مَهْجُورَ الفَنَاءِ فَرُبَّمَا
…
أقام به بَعْدَ الوُفُودِ وُفُودُ
ونحو من ذلك قول زهير:
3859 -
أَخِي ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الخَمْرُ مَالَهُ
…
وَلكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُه
قال أبو حيان: وكونُ «قَدْ» إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قولٌ لبعض النحاة، وليس بصحيح، وإنما التكثير مفهوم من السياق. والصحيح أن رُبَّ لتقليل
الشيء أو لتقليل نظيره، وإن فُهِمَ تكثير فمن السياق لا منها.
قوله: «وَيَوْمَ يُرجَعُونَ» ، في «يَوْمَ» وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به لا ظرف، لعطفه على قوله:{مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} ، أي: يعلم الذي أنتم عليه من جميع أحوالكم، ويعلم يوم يرجعون، كقوله {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] .
وقوله: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَاّ هُوَ} [الأعراف: 187] .
والثاني: أنه ظرف لشيء محذوف. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون التقدير: والعلم الظاهر لكم أو نحو: هذا يومَ، فيكون النصب على الظرف. انتهى.
وقرأ العامة «يُرْجَعُونَ» مبنياً للمفعول، وأبو عمرو في آخرين مبنيًّا للفاعل، وعلى كلتا القراءتين فيجوز وجهان:
أحدهما: أن يكون في الكلام التفات من الخطاب في قوله: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} إلى الغيبة في قوله «يرجعون» .
والثاني: أنَّ {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} خطاب عام لكل أحد، والضمير في «يرجعون» للمنافقين خاصة، فلا التفات حينئذ.
فصل
المعنى: {يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} من الإيمان والنفاق و «قَدْ» صلة {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} يعني يوم البعث، {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} من الخير والشر، {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} .
روي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغَزْلَ وسورة النور» .
وروى الثعلبي عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن فيما مضى وفيما بقي» .