المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم سورة آل عمران حكى النقاش: أن هذه السورة - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٥

[ابن عادل]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم سورة آل عمران حكى النقاش: أن هذه السورة

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة آل عمران

حكى النقاش: أن هذه السورة اسمها في التوراة " طيبة " مدنية بالإتفاق، وهي مائتا آية، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان كلمات، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا.

ص: 3

قوله: {الم} قد تقدكم الكلامُ على هذا مُشْبَعًا، ونقل الجرجانيُّ - هنا - أن «الم» إشارة، إلى حروف المعجم، كأنه يقول: هذه الحروفُ كتابك - أو نحو هذا - ويدل {لاا إله إِلَاّ هُوَ الحي القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} على ما ترك ذكره من خبر هذه الحروف، وذلك في نظمه مثل قوله تعالى:{أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} ؟ [الزمر: 22] وترك الجواب لدلالة قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} [الزمر: 22] عليه؛ تقديره: كمن قسا قلبه.

ومنه قول الشاعر: [الطويل]

‌1

315 -

- فَلَا تَدفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ

عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أمَّ عَامِرِ

أي: ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر «انتهى» .

قال ابنُ عطيةَ: يحسن في هذا القول - يعني قول الجُرْجَانيِّ - أن يكون «نَزَّلَ» خبر، قوله:«اللهُ» حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى.

قال أبو حيَّان: وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظر؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبع بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتمل، ولكن الأبرع في [نظم] الآية أن يكون «الم» لا يُضَمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكون قوله {الله لا إله إِلَاّ

ص: 3

هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كلاماً مبتدأ جملة رادة على نصارى نجران.

قال شهاب الدينِ: وهذا الذي ردَّه الشيخُ على الجرجانيِّ هو الذي اختاره الجرجانيُّ وجعله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه «نَظْم الْقُرْآنِ» .

قوله: {لاا إله إِلَاّ هُوَ} يجور أن تكون هذه الجملة خَبَرَ الجَلَالَة، و «نَزَّلَ عَلَيْكَ» خَبْرٌ آخَرُ، ويجوز أن يَكُونَ {لاا إله إِلَاّ هُوَ} مُعْتَرِضَة بين المبتدأ والخَبَرِ، ويجوز أن يكون حَالاً، وفي صاحبه احتمالان:

أحدهما: أن يكون لَفْظَ الجلالة.

والثاني: أن يكون الضمير في «نَزَّلَ» تقديره: نَزَّل عليك الكتاب متوحِّداً بالربوبية. ذكره مَكِّيٌّ، والأَوَّلُ أولَى.

وةقرأ الجمهور {الم الله} بفتح الميم، وإسقاط همزة الجلالة، واختلفوا في فتحة هذه الميم على ستة أوْجُهٍ:

أحدها: أنها حركة التقاء الساكنين، وهو مذهب سيبويه، وجمهورِ الناس.

فإن قيل: أصل التقاء الساكنين الكَسْرُ، فلِمَ عُدِلَ عنهُ؟

فالجوابُ: أنهم لو كَسَروا لكان ذلك مُفْضِياً إلى ترقيق الميم لام الجلالة، والمقصود تفخيمها للتعظيم، فأوثر الفتح لذلك، وأيضاً: فقبل هذه ياء [وهي أخت الكسرة وأيضاً فصل هذه الياء كسرة] ، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات، فحركوها بالفتح كما حركوا في نحو: مِنَ اللهِ، وأما سقوط الهمزة فواضحٌ، وبسقوطها التقى الساكنان.

الثاني: أن الفتحة لالتقاء الساكنين [أيضاً ولكن الساكنين] هما الياء التي قبل الميم، والميم الأخيرة، فحُرِّكت بالفتح لئلا يلتقي ساكنان، ومثله: أيْنَ وكَيْف [وكيت، وذيت] ، وما أشبهها.

ص: 4

وهذا على قولنا: إنَّه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروف المقطَّعة، وهذا خلاف القول الأول: فإنه ينوى فيه الوقف على الحروف المقطعة، فسكنت أواخرها، وبعدها ساكن آخر، وهو لام الجلالة، وعلى هذا القول الثاني ليس لإسقاط الهمزة تأثير في التقاء الساكنين، بخلاف الأول، فإن التقاء الساكنين إنما نشأ من حذفها دَرْجاً.

الثالث: أن هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين، بل هي حركة نقل، أي: نُقِلَتْ حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو {قَدْ أَفْلَحَ} [طه: 64] وهي قراءة ورش وحمزة - في بعض طرقه - في الوقف، وهو مذهب الفراء، واحتج على ذلك بأن هذه الحروف النيِّةُ بها الوقف، وإذا كان النيةُ بها الوقْفَ، فسكن أواخرها، والنية بما بعدها الابتداء والاستئناف، فكأن همزة الوصل جرت مجرى همزة القطع؛ إذ النية بها الابتداء، وهي تثبت ابتداءً ليس إلَاّ، فلما كانت الهمزةُ في حُكْم الثَّبِتَةِ، وما قبلها ساكن صحيح قابل لحركتها خففوها بأن ألقَوْا حركتها على الساكن قبلها فقد وصلتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلها وإن كان ما قبلها موضوعاً على الوقف، فقولك: ألقيت حركته عليه بمنزلة قولك: وصلته، ألا ترى أنك إذا خففت: مَنْ أبوك؟ قلتَ: من أبُوكَ، فوصلت، ولو وقفت لم تلق الحركة عليها، وإذا وصلتها بما قبلها لزم إسقاطها، وكان إثباتها مخالفاً لأحكامها في سائر متصرفاتها.

قال شهاب الدينِ: «وهذا الرد مردود بأن ذلك مُعامل معاملةَ الموقوف عليه والابتداء بما بعده لا أنه موقوف عليه، ومبتدأ بما بعده حقيقة، حتى يردّ عليه بما ذكره» ، وقد قَوَّي جماعةٌ قولَ الفراء بما حكاه سيبويه من قولهم: ثَلاثَهَ رْبَعَة، والأصل: ثلاثةٌ أربعةٌ، فلما وقف على ثلاثة أبدل التاء هاء كما هو اللغة المشهورة، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فترك الهاء على حالها في الوصل، ثم نقل حركة الهمزة إلى الهاء فكذلك هذا.

ورد بعضهم هذا الدليل وقال: الهمزة في «أربعة» همزة قطع، فهي ثابتة ابتداءً ودَرْجًا فلذلك نُقِلت حركتها، بخلاف همزة الجلالة، فإنها واجبة السقوط، فلا تستحق نقل حركتها إلى ما قبلها، فليس وزان ما نحن فيه.

ص: 5

قال شهاب الدين: «وهذا من هذه الحيثية - صحيح، والفرق لائح، إلا أن لفظ الفرّاء فيه أنه أجرى فيه الوصل مُجْرى الوقف من حيث بقيت الهاء المنقلبة عن التاء وصلاً لا وقفاً واعتد بذلك، ونقل إليها حركة الهمزة، وإن كانت همزة قطع» .

وقد اختار الزمخشري مذهب الفراءِ، وسأل وأجاب فقال:«ميم» حقها أن يُوقَفَ عليها كما يوقف على الف ولام، وأن يُبْتَدَأ بما بعدها، كما تقول: واحد. اثنان، وهي قراءة عاصم، وأما فتحتها فهي حركة الهمزة أُلْقِيت عليها حين أسْقِطت للتخفيف.

فإن قلت: كيف جاز إلقاء حركتها عليها، وهي همزة وصل لا تثبت في درْج الكلامِ، فلا تثبت حركتها؛ لأن ثبات حركتها كثباتها؟

قلتُ: هذا ليس بدرْج، لأن «ميم» في حكم الوقف والسكون، والهمزة في حكم الثابت، وإنما حُذفت تخفيفاً وألقِيَت حركتها على الساكن قبلها؛ ليدل عليها، ونظيره: وَاحِدِ اثْنَانِ بإلقائهم حركة الهمزة على الدال.

قال أبو حيّان: «وجوابه ليس بشيء؛ لأنه ادَّعَى أن الميم - حين حُرِّكَتْ - موقوف عليها، وأن ذلك ليس بدرْج، بل هو وقف، وهذا خلاف ما أجمعت عليه العرب، والنحاة من أنه لا يُوقف على متحرك ألبتة سواء ك انت حركته إعرابية، أم بنائية، أن نقلية، أم لالتقاء الساكنين، أم للإتباع، أم للحكاية، فلا يجوز في {قَدْ أَفْلَحَ} إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال» قَدْ «أن تقف على دال» قد «بالفتحة، بل تسكنها - قولاً واحداً.

وأما قوله: ونظير ذلك وَاحِدِ اثْنَانِ - بإلقاء حركة الهمزة على الدال - فإن سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّون آخر» واحد «لتمكنه، ولم يَحْكِ الكسرَ لغةً، فإن صَحَّ الكسر فليس ولكنه موصول بقولهم: اثنان، فالتقى ساكنان دال» واحد «وثاء» اثنين «، فكسرت الدال؛ لالتقاء الساكنين، وحُذِفَتْ همزة الوصل؛ لأنها لا تثبت ي الوصل» .

قال شهاب الدينِ: «ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يوقف على» مِيمْ «من» الم «- وهي متحركة - حتى يُلْزِمَهُ بمخالفة إجماع العرب والنحاة؟ إنما ادعى أن هذا في نية الموقوف عليه قبل تحريكه بحركة النقل، لا أنه نُقِل إليه، ثم وقف عليه، هذا لم يقله ألبتة، ولم يَخْطُرْ له» .

ص: 6

ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: هَلَاّ زعمتَ أنها حركة التقاء الساكنين؟

قلت: لأن التقاء الساكنين لا يُبَالَى به في باب الوقف، وذلك قولك: هذا إبْراهيمْ، ودَاوُدْ، وإسْحَاقُ، ولو كان التقاء الساكنين - في حال الوقف - يوجب التحريك لحُرِّك الميمَان في ألف لام ميم؛ لالتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن أخر» .

قال أبو حيَّان: «وهو سؤال صحيح وجواب صحيح لكن الذي قال: إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من» الم «- في الوقف - وإنما عنى التقا ءالساكنين اللذين هما ميم» ميم «الأخري’، ولام التعريف كالتقاء نون» من «ولام» الرجل «إذا قلت مِنَ الرَّجُلِ» .

وهذا الوجه هو الذي تقدَّم عن مكي وغيره.

ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في» ميم «لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا.

قلت: الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن، أنه كان يمكنهم أن يقولوا: وَاحدْ. اثْنَانِ - بسكون الدال مع طرح الهمزة - فيجمعوا بين ساكنين؛ كما قالوا: اصَيْمٌّ ومُديْقٌّ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وأنها ليست لالتقاء الساكنين «.

[قال أبو حيّان:» وفي سؤاله تعمية في قوله: فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين]- ويعني بالساكنين الياء والميم في «ميم» - وحينئذٍ يجيء التعليل بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين - يعني الياء والميم - فحركوا - يعني الميم -؛ لالتقائها ساكنةٌ مع لام التعريف؛ إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن، وهو لا يمكن، هذا شرح السؤال، وأما جواب الزمخشري فلا يطابق؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم: وَاحِدْ، اثْنَانِ - بأن يُسكنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ، وتسقط الهمزة، فعدلوا عن هذا الإسكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال - وهذه مكابرة ف يالمحسوس؛ إذ لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكن الثاء وطرح الهمزة، وأما قوله فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع؛ لما قلناه، وأما قوله: كما قالوا: أُصَيْمٌّ وَمُدَيْقٌّ فهذا ممكن كما هو في رادّ وضالّ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط

ص: 7

في النحو، فأمكن ذلك، وليس مثل ذلك «واحد» «اثنان» ؛ لأن الساكن الأول ليس حرفَ مدٍّ، ولا الثاني مُدْغماً، فلا يمكن الجمع بينهما، وأما قوله: فلما حركوا الدال، علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وأنها ليست لالتقاء الساكنين [ويعني بالساكنين الياء والميم] ؛ لما بنى على أن الجمع بين الساكنين في «واحد» «اثنان» ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فميا لا يمكن أن يجتمعا في اللفظ ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة «.

قال شهاب الدينِ:» وهذا الذي رَدَّ به عليه صحيح، وهو معلوم بالضرورة؛ إذ لا يمكن النطق بما ذكر «.

ونصر بعضهم رأي الفرّاء واختيار الزمخشري بأن هذه الحروف جيء بها لمعنى في غيرها، فأواخرها موقوفة، والنية بما بعدها الاستئناف، فالهمزة في حكم الثابت كما في أنصاف الأبيات، كقول حسان:[البسيط]

1316 -

- لَتَسْمَعُنَّ وَشِيكاً فِي ديارِكُمُ

اللهُ أكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا

ورجحه بعضهم أيضاً بما حكي عن المبرد: أنه يجيز: اللهُ أكْبَرَ اللهُ أكْبَر - بفتح الراء الأولى - قال: لأه في نية الوقف على» أكبر «والابتداء مبا يعده، فلما وصلوا مع قصدهم التنبيه على الوقف على آخر كل كلمة من كلمات التكبير نقلوا حركة الهمزة الداخلة على لام التعريف إلى الساكن قبلها؛ التفاتاً ملا ذكر من قصدهم، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في حركات الإعراب وأتَوا بغيرها - مع احتياجهم إلى الحركة من حيث هي فلأنْ يفعلوا ذلك فيما كان موقوفَ [الأخير] من باب أولى.

الرابع: أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعراب على أنه مفعول بفعل مقدَّر، أي اقرءوا {الم} وإنما منعه من الصرف العلمية والتأنيث المعنويّ إذْ أريد به اسم السورة، نحو قرأت هودَ، وقد قالوا هذا الوجه بعينه في قراءة مَنْ قرأ {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] بفتح الدال من صاد، فهذا يجوز أن يكون مثله.

الخامس: أن الفتحة علامة الجر، والمراد بألف لام ميم أيضاً السورة، وأنها مُقْسَمٌ بها، فحُذِفَ حرفُ القسم، وبقي عمله، وامتنع من الصرف لما تقدم، وهذا الوجه - أيضاً - مقول في قراءة من قرأ صَادَ - بفتح الدال -، إلا أن القراءة هناك شاذَّةٌ، وهنا متواترةٌ.

والظاهر أنها حركة التقاء الساكنين - كما هو مذهب سيبويه وأتباعه -.

ص: 8

السادس: قال ابن كَيْسَانَ: «ألف» اله «وكل ألف مع لام التعريف [ألف] قطع بمنزلة» قَدْ «وحكمها حكم ألف القطع؛ [لأنهما حرفان جاء لمعنى] ، وإنما وُصِلَت لكثرة الاستعمال، فمن حرك الميم ألقى عليها حركة الهمزة التي بمنزلة القاف من» قَدْ «ففتحها بفتح الهمزة» ، نقله عنه مَكِّي.

فعلى هذا هذه حركة نقل من همزة قطع، وهذا المذهب مشهور عن الخليل بن أحمد، حيث يعتقد أن التعريف حصل بمجموع «أل» ، كالاستفهام يحصل بمجموع «هَلْ» ، وأن الهمزة ليست مزيدة، لكنه مع اعتقاده ذلك يوافق على سقوطها في الدَّرْج؛ إجراءً لها مُجْرَى همزة الوصل، لكثرة الاستعمال، لذلك قد تثبت ضرورةً؛ لأن الضرورة ترد الأشياء إلى أصولها.

ولما نقل أبو البقاء هذا القول ولم يَعْزُه، قال:«وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف» أل «- يعني الخليل؛ لأنه المشهور بهذه المقالة» .

وقد تقدم النقل عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على «ميم» ويبتدئ ب {الله لاا إله إِلَاّ هُوَ} كما هو ظاهر عبارة الزمخشري عنه، وغيره يحكي عنه أنه يسكن الميم ويقطع الهمزة - من غير وقف منه على الميم - كأنه يجري الوصل مجرى الوقف، وهذا هو الموافق لغالب نقل القرّاءِ عنه.

وقرأ عمرو بن عُبَيْدٍ - فيما نقل الزمخشري - وأبو حيوة والرُّواسي فيما نقل ابن عطية «المِ اللهُ» - بكسر الميم -.

قال الزمخشريُّ: «وما هي بمقبولة عنه» ، والعجب منه كيف تجرأ على عمرو بن عُبَيْدٍ وهو عنده معروف المنزلة، وكأنه يريد: وما هي بمقبولة عنه، أي: لم تصحَّ عنه.

وكأن الأخفش لم يطلع على أنها قراءة فقال: «لو كُسِرَتِ الميمُ؛ لالتقاء الساكنين - فقيل:» المِ اللهُ «- لجاز» .

قال الزّجّاج: وهذا غلط من أبي الحسن، لأن قبل الميم ياءٌ مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح، لالتقاء الساكنين، وذلك لثقل الكسر مع الياء. وهذا - وإن كان كما قال -

ص: 9

إلا أن الفارسيَّ انتصر لأبي الحَسَن، ورَدَّ على أبي إسحاق رَدَّة فقال:«كَسْر الميم لو ورد بذلك سماع لم يدفعه قياس، بل كان يُثْبِتُهُ ويُقَوِّيه -؛ لأن الأصل في التحريك - لالتقاء الساكنين - الكسر، وإنما يُبْدَل إلى غير ذلك لما يعرض من علَّة وكراهة، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وَجْهَ لردِّه، ولا مساغ لدَفْعِه، وقول أبي إسحاق؛ إن ما قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها، فحقها الفتح منقوض بقولهم: جَيْرِ، حيث حَرَّك الساكن - بعد الياء - بالكسر، كما حُرك بعدها بالفتح في أيْنَ، ويدل على جواز التحريك لالتقاء الساكنين بالكسر - فيما كان قبله ياء، - جواز تحريكه بالضم نحو قولهم: حَيْثُ، وإذا جاز الضم كان الكسر أجْوَزَ وأسْهَلَ» .

فصل في بيان سبب النزول

في سبب نزول هذه الآية قولان:

الأول: أنها نزلت في اليهود، وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى:{الم ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 1، 2] .

الثاني: أنها من أولها إلى آية المباهلة في نصارى نجران.

قال الكلبي، والربيعُ بنُ أنس - وهو قول محمد بن إسحاقَ -: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وفد نجران - ستون راكباً - فيهم أربة عشر رجلاً من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا

ص: 10

أكابر القوم، أحدهم أميرهم، وصاحب مشورتهم، يقال له: العاقب، واسمه عبد المسيح، والثاني مشيرهم ووزيرهم، وكانوا يقولون له: السيد، واسمه الأيهم، والثالث حبرهم وأسقفهم، وصاحب مِدْراسهم، يقال له: أبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل - وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرَّفوه، وموَّلوه؛ لِما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من «نجران» ركب أبو حارثةَ بغلتَه، وكان إلى جنبه أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ، فبينما بغلة ابي حارثةَ تسير إذ عَثَرَتْ، فقال كُرز: تَعْساً للأبعد - يريد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ - فقال أبو حارثة: بل تَعِسَتْ أمُّك، فقال: ولِمَ يا أخي؟ فقال: إنه - واللهِ - النبيُّ الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه كرز: فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟

قال: لأن هؤلاء الملوك أعطَوْنَا أموالاً كثيرةً، وأكرمونا، فلو آمنَّا بمحمد لأخذوا مِنَّ كُلَّ هذه الأشياءِ، فوقع ذلك في قَلْبِ أخيه كُرْز، وكان يُضْمِره إلى أن أسْلم؛ فكان يُحَدِّثُ بذلك، ثم دخلوا مسجدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حين صلى العصر - عليهم ثياب الحِبراتِ جبب وأرْدِيَةٌ -، وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة [العاقب والسيد والحبر] في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فقال رسول الله: دعوهم، فصلوا إلى المشرق، ثم

ص: 11

تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ على اختلاف من أديانهم - فتارة يقولون: عيسى هو الله، وتارةً يقولون: هو ابنُ الله، وتارة يقولون: ثالث ثلاثة، ويحتجون على قولهم: هو الله بأنه كان يُحْيي الموتَى، ويُبْرئ الأسقامَ ويُخْبِر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيطير، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله بأنه لم يكن له أبٌ يُعْلَم، ويحتجون على قولهم: ثالث ثلاثة بقوله تعالى: {فَعَلْنَا} ، قلنا، ولو كان واحداص لقال: فعلتُ، قلتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:

«أسلموا» ، قالوا: قد أسلمنا، قال عليه السلام:«كذبتم؛ يمنعكم من الإسلام دعاؤُكم لله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلُكُم الخنزيرَ» ، قالوا: إن لم يكن ولدَ الله فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأنزل اللهُ تعالى أولّ سورةِ آل عمرانَ إلى بضع وثمانين آية، منها أخذ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم َ بناظرهم، فقال:«ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّه لَا يَكُونُ وَلَدٌ إلا ويشبه أبَاهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لا يَمُوتُ، وأنَّ عِيسَى يأتي عليه الفناءُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ، يَحْفَظُهُ ويَرْزُقُهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ تَعَالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض، ولا في السَّماءِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسَى شيئاً من ذلك إلا ما عُلِّمَ؟ قالوا: لا، قال: فإن ربَّنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، قال: ألستم تعلمون أنَّ ربَّنا لا يأكل، ولا يشربُ ولا يُحْدِثُ؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمُّه كما تحمل المرأةُ، ووضعته كما تضع المرأةُ ولدَها، ثم غُذِّي كما يُغَذَّى الصبيُّ، ثم كان يَطْعَم الطعامَ، ويَشْرَب الشراب ويُحدِث الحدثَ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم» ؟ فسكتوا، وأبَوْا إلا جُحُوداً، ثم قالوا: يا محمد، ألستَ تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال:«بلَى» ، قالوا: فحسبنا، فأنزل الله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] ، ثم أمر الله محمداً بملاعنتهم _ إن ردوا عليه - فدعاهم إلى الملاعنة، فقالوا: يا أبا القاسم، دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن تفعل، فانصرفوا، ثم قال بعضُ أولئك الثلاثةِ لبعضهم: ما ترى؟ فقال: والله يا معشرَ النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبيٌّ مُرْسَل، ولقد جاءكم بفَضلٍ من خَبَرِ صاحبكم، ولقد علمتم مَا لَاعَنَ [قط] قومٌ نبيًّا إلا وفنِيَ كبيرُهم وصغيرُهم، وإنه الاستئصالُ منكم - إن فعلتم - وأنتم قد أبيتم إلا دينَكم، والإقامة على ما أنتم عليه فوادِعُوا الرجلَ، وانصرِفوا إلى بلادِكم، فأتَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم َ فقالوا [ابا القاسم] قد رأينا أن لا نُلاعنك، وأن نتركَك على دينك، وأن نرجعَ نحن على ديننا، فابعثْ رجلاً من أصحابك [معنا] يحكم بيننا في أشياءَ قد اختلَفْنا فيها من أموالِنا؛ فإنَّك عندنا رِضّى، فقال عليه السلام:[ائتوني] في العشيةِ أبعثْ معكم القويَّ لأمينَ، فكان عمرُ يقول: ما أحببت الإمارة قَطّ

ص: 12

إلا يومئذٍ؛ رجاءَ أن أكونَ صاحبَها، قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم َ ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، وجعلت أتَطَاولُ له؛ ليراني، فمل يزَلْ يُرَدِّدُ بصره، حتى رأى أبا عبيدةَ بنَ الجَرَّاحِ، فدعاه، فقال: اخرج معهم واقض بينهم بالحقِّ فيما اختلفُوا فيه، قال عُمرُ: فذهبَ بها أبو عبيدة.

وهذه الرواية تدل على أن المناظرة في تقرير الدين حرفة الأنبياء عليهم السلام وأن مذهب الحَشْوية - في إنكار البحث والنظر - باطل قطعاً.

فصل في بيان الرد على النصارى

«في وَجْه الرد على النصارى في هذه الآية» :

وهو أن الحيَّ القيومَ يمتنع أن يكون له ولد؛ لأنه واجب الوجود لذاته، وكلُّ ما سواه فإنه ممكن لذاته، مُحْدَث، حصل بتكوينه وإيجاده، وإذا كان الكُلُّ مُحْدَثًا مخلوقاً امتنع كونُ شيء منها ولداً له، ولما ثبت أن الإله يجب أن يكون حَيًّا قيوماً، وثبت أن عيسى ما كان حيًّا قيُّومًا، لأنه وُلِدَ، وكان يأكل، ويشرب، ويُحْدِث. والنصارى زعموا أنه قُتِل، ولم يقدر على دفع القتل عن نفسه، وهذا يقتضي القطع بأنه ليس بإله.

قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} العامة على التشديد في «نَزَّل» وَنَصْب «الْكِتَاب» ، وقرأ الأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، وابنُ أبي عبلة {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} بتخفيف الزاي ورفع الكتاب.

فأما القراءةُ الأولى فقد تقدم أن هذه الجملةَ تحتمل أن تكون خبراً، وأن تكون مستأنفةً.

وأما القراءةُ الثانيةُ، فالظاهر أن الجملةَ فيها مستأنفةٌ، ويجوز أن تكون خبراً، والعائد محذوف، وحينئذ تقديره: نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِهِ.

قوله: {بِالْحَقِّ} فيه وجهان:

أحدهما: أن تتعلق الباء بالفعل قبلها، والباء - حينئذ - للسببية، أي: نزله بسبب الحق.

ثانيهما: أن يتعلق بمحذوف؛ على أنه حال، إما من الفاعل - أي: نزَّله مُحِقًّا - أو من المفعول - أي: نزله ملتبساً بالحق - نحو: جاء بكر بثيابه، أي: ملتبساً بها.

ص: 13

وقال مَكيّ: «ولا تتعلق الباء ب» نَزَّل «؛ لأنه قد تعدى إلى مفعولين - أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث» .

وهذا - الذي ذكره مكيٌّ - غيرُ ظاهر؛ فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون، وقد تقدم أن معنى الباء السببية، فأيُّ مانع يمنع من ذلك؟

قوله: {مُصَدِّقًا} فيه أوجهٌ:

أحدها: أن ينتصبَ على الحال من «الْكِتَاب» . فإن قيل بأن قوله: «بِالْحَقِّ» حال، كانت هذه حالاً ثانيةً عند مَنْ يُجِيز تعدد الحال، وإن لم يُقَلْ بذلك كانت حالاً أولى.

الثاني: أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل «بِالْحَقِّ» ، وذلك عند مَنْ يمنع تعدد الحال في غير عَطْفٍ، ولا بدليَّةٍ.

الثالث: أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في «بِالْحَقِّ» - إذا جعلناه حالاً - لأنه حينئذٍ يتحمل ضميراً؛ لقيامه مقام الحال التي تتحمله، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حال مؤكِّدة؛ لأن الانتقالَ فيها غير مُتَصَوَّر، وذلك نظير قول الشاعر:[البسيط]

1317 -

أنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي

وَهَلْ بِدَارَةَ - يَا لَلنَّاسِ - مِنْ عَارِ

قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مفعول ل «مصَدِّقاً» وزِيدَت اللامُ في المفعول: [تقويةٌ] للعامل؛ لأنه فرع له؛ إذْ هو اسمُ فاعل، كقوله تعالى:{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، وإنما ادَّعَيْنَا ذلك؛ لأنَّ هذه المادةَ متعديةٌ بنفسها.

فصل في تفسير «الحي» و «القيوم»

الحيُّ: هو الفعَّال الدرَّاك، والقيُّومُ: هو القائمُ بذاته، والقائم بتدبير الخلق، وقرأ عمر رضي الله عنه الحي القيَّام، والمراد ب «الكتاب» - هنا - هو القرآن.

قال الزمخشري: «وخص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نَزَّل القرآن مُنَجَّماً، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه، وأنزل التوراةَ والإنجيل دفعَةً واحدةً، فلهذا خصَّهما بالإنزال» .

فإن قيل: يُشْكِل هذا بقوله: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1]، وبقوله:{وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] .

فالجواب: أن المرادَ به كُلُّ نَجْمٍ وَحْدَه.

[وسمي الكل باسم البعض مجازاً، أو نقول:«إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلاّ الإنزال مرة واحدةٌ»

ص: 14

قال أبو حيَّان: وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير، ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن أنزل، ونزَّل قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ويدل على أنهما بمعنًى واحدٍ قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّداً بالتخفيف إلَاّ ما استثني، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعةً واحدةً لتناقضت الأخبار، وهو محال، وقد سبق الزمخشريَّ في هذا القول بعينه الواحديُّ] .

قوله: {بِالْحَقِّ} قال أبو مسلم: يحتمل وجوهاً.

أحدها: أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة.

الثاني: أن ما فيه من الوعد والوعيد يحملُ المكلَّف على اتباع الحقِّ في الْعِلم والعملِ.

ثالثها: أنه حَقٌّ؛ بمعنى أنه قول فَصْل وليس بالهَزْل.

رابعها: قال الأصَمُّ: أنْزَلُه بالحق الذي يجبُ له على خلقه من العبوديةِ، وشُكْرِ النعمةِ وما يجب لبعضهم على بعض من العدلِ، والإنصافِ.

خامسها: أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضةِ الفاسدةِ، كما قال:{أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1]، وقال:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] .

وقوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} معناه: مصدقاً لكُتُبِ الأنبياء، ولِما أخبروا به عن اللهِ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين:

أحدهما: أنه موافق لسائر الكتب، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها، وهو عليه السلام لم يختلط بالعلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئاً [والمفتري]- إذا كان هكذا - يمتنع أن يَسْلم من الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصصَ من الله تعالى.

الثاني: قال أبو مسلم: إن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك.

فإن قيل: كيف سمَّي ما مَضَى بأنه بَيْنَ يديه؟

فالجوابُ: أن تلك الأخبارَ - لغاية ظهورها، وكونها موجودة - سماها بهذا الاسم.

فإن قيل: كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟

فالجوابُ: إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن

ص: 15

فإنها تصير منسوخةً بنزول القرآن، كان القرآن مصدقاً لها، وأيضاً فدلائل المباحث الإلهية، وأصول العقائد لا تختلف، فلهذا كان مصدِّقاً لها.

قوله: {وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} اختلف الناس في هذين اللفظين، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف، أم لا يدخلانهما؛ [لكونهما أعجميَّيْن؟] .

فذهب الزمخشريُّ وغيرهُ إلى الثاني، قالوا: لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين، قال الزمخشريُّ:«وتكلف اشتقاقهما من الوَرْي والنَّجْل، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [عربيين] » .

قال أبو حيّان: «وكلامه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً، وهو قوله» تَفْعِلَة «ولم يذكر مذهبَ البصريين وهو أن وزنها فَوْعَلَة، ولم ينبه على» تفعلة «هل هي بكسر العين أو فتحها» ؟

قال شهاب الدينِ: «لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما، وإنما ذكر المستغرب» ، ويؤيد ما قاله الزمخشريُّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديُّ، وهو أن التوراة، والإنجيل، والزبور سريانية فعرَّبوها، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا:

فقال بعضهم: التوراة مشتقة من قولهم: وَرِيَ الزَّنْدُ إذا قدح، فظهر منه نار، يقال: وَرِيَ الزند وأوريته أنا، قال تعالى:

{أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} [الواقعة: 71] ؟ ، فُثلاثيُّه قاصر، ورباعيه مُتَعَدٍّ، وقال تعالى:{فالموريات قَدْحاً} [العاديات: 2]، ويقال أيضاً: وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي، فاستعمل الثلاثي متعدياً، إلا أن المازني زعم أنه لا يُتَجَاوز به هذا الفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال: وريت النار مثلاً، إذا تقرر ذلك، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور، سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً} [الأنبياء: 48] وهذا قولُ الفراء و [مذهب] جمهور الناسِ.

وقال آخرون: بل هي مشتقة من ورَّيتُ في كلامي، من التورية، وهي التعريض، وفي الحديث:«كَانَ إذَا أرادَ سَفَراً وَرَّى بِغَيْرِهِ» ، وسميت التوراة بذلك: لأن أكثرها

ص: 16

تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهب المؤرج السَّدُّوسي وجماعة، وفي وزنها ثلاثةُ أقوال:

أحدها - وهو قول الخليل وسيبويه - أن وزنها فَوْعَلَة، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدَّوْخَلَة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعة، والأصل: وَوْرَيَة - بواوين؛ لأنها إما من وَرِيَ الزَّنْدُ، وإما من وَرَّيْتُ في كلامي، فأبدلت الواو الأولى تاءٌ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً فصار اللفظ «توراة» - كما ترى - وكُتِبَت بالياء، تنبيهاً على الأصل، كما أميلت لذلك، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تَوْلَج، وتَيْقُور، وتُخَمَة، وتُراث وتُكأة وتُجَاه وتُكْلَان، من الوُلُوج والوَقَار والوَخَامة والوِرَاثة والوكَاء والوَجْه والوكَالة، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضاً من قولهم - لما تراه المرأة في الطُّهْرِ بعد الحيض -: التَّرِيَّة، هي فعيلة من لفظ الوراء؛ لأنها تُرَى بعد الصُّفرة والكُدْرة.

الثاني: وهو قول الفراء: أن وزنها تَفْعِلَة - بكسر العين - فأبدلت الكسرة فتحة، وهي لغة طائية، يقولون في الناصية: نَاصَاة، وفي جارية: جَارَاة، وفي نَاجِيَة: نَاجَاة، قال الشاعِرُ:[الطويل]

1318 -

...

...

... .....

ص: 17

فَخَرَّتْ كَنَاصَاةِ الْحُصَانِ الْمُشَهَّرِ

وقال آخر: [المنسرح]

1319 -

...

...

... .

نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ

وأنشد الفرَّاءُ: [الوافر]

1320 -

فَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ

وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ

وقد رد البصريون ذلك بوجهَيْن:

أحدهما: أن هذا البناء قليل جدًّا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فَوْعَلَة، فإنه كثير، فالحمل على الأكثر أولى.

الثاني: أنه يلزم منه زيادة التاء أولاً، والتاء لم تُزَد - أوَّلاً - إلا في مواضع ليس هذا منها، بخلاف قلبها في أول الكلمة، فإنه ثابت، وذلك أن الواو إذا وقعت أولاً قُلبت إما همزة نحو أجُوه وأُقِّتَتْ وإشَاح - في: وجوه ووُقِّتَتْ ووِشَاح - وإما تاء نحو: تُجَاه وتُخْمَة، فاتباع ما عُهِد أولى من اتباع ما لم يُعْهَد.

الثالث: أن وزنها «تَفْعَلة» [بفتح العين]- وهو مذهب الكوفيين - كما يقولون في تَفْعُلَة - بالضم - تَفْعَلَة - بالفتح - وهذا لا حاجة إليه، وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها.

وأَمَالَ «التوراة» - حيث ورد في القرآن - إمالة محضة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [عن نافع] ، واختلف عن قالون، فروي عنه بين بين والفتح، وقرأها الباقون بالفتح فقط، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [منقلبة عن ياء ظاهر، وإن قلنا: إنها أعجمية لا اشتقاق لها، فوجه الإمالة شبه ألفها

ص: 18

لألف] التأنيث من حيث وقوعها رابعة، فسبب إمالتها، إما الانقلاب، وإما شبه ألف التأنيث.

والإنجيل؛ قيل: إفعيل كإجفيل، وفي وزنه أقوال:

أحدها: أنه مشتق من النَّجْل، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها، ومنه النجْل للولد، وسمي الإنجيل؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ.

وقيل: من النجل وهو الأصل، ومنه النجل للوالد، فهو من الأضداد؛ إذ يُطْلَق على الولد والوالد، قال الأعشى:[المنسرح]

1321 -

أنْجَبَ أيَّامَ وَالِدَاهُ بِهِ

إذْ نَجَلَاهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلَا

وقيل: من النجل - وهو التوسعة - ومنه العين النجلاء، لسعتها، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تكن في التوراة؛ إذْ حلل فيه أشياء كانت محرمة.

وقيل: هو مشتق من التناجل وهو: التنازع، يقال: تناجل الناسُ أي: تنازعوا وسُمِّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه، قاله أبو عمرو الشيباني.

والعامة على كسر الهمزة من «إنجيل» ، وقرأ الحسن بفتحها.

قال الزمخشري: وهذا يدل على أنه أعجمي؛ لأن أفعيلاً - بفتح الهمزة - قليل عديم في أوزان العرب. قلت: بخلاف إفعيل - بكسرها - فإنه موجود نحو: إجفيل وإخريط وإصليت.

ص: 19

قال ابن الخطيبِ: «وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل، وإما الدور، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل؟

وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً، والذهب أصل الخاتم، والغزل أصل الثوب، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع، ويقولوا: العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان، أحدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية [فقيل: التوراة بالعبرانية نور، ومعناه الشريفة، والإنجيل بالسريانية» إنكليون «، ومعناه الإكليل] [فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب؟ فظهر أنَّ الأوْلَى بالعاقل أن لا يلتفتَ إلى هذه المباحث» ] .

قوله: «مِن قَبْلُ» متعلق ب «أنْزَلَ» والمضاف إليه الظرف محذوف؛ لفَهْم المعنى، تقديره: من قبلك، أو من قبل الكتاب، و «الْكِتَاب» غلب على القرآن، وهو - في الأصل - مصدر واقع موقع المفعول به، [أي] المكتوب.

وذكر المنزل عليه في قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ} ، ولم يذكره في قوله:{وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} تشريفاً لنبينا صلى الله عليه وسلم َ. قوله: «هُدًى» فيه وجهان:

ص: 20

أحدهما: أنه منصوب على المفعول من أجله، والعامل فيه «أنْزَلَ» أي: أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته.

وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هُدًى، والوصفان متقاربان.

فإن قيل: لم وصف القرآن - في أول سورة البقرة - بأنه {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، ولم يصفه هنا بذلك؟ قيل: إنما وصفه - هناك - بذلك؛ [لأن] المتقين هم المنتفعون به، فهو هدى لهم لا لغيرهم وها هنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يَهْتَدُونَ بالقرآن، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدًى، بل قال: إنه حق في نفسه - سواء قبلوه أو ردوه - وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما، فلا جرم، وصفهما بكونهما هدى. ويجوز أن يكون متعلقاً - من حيث المعنى - ب «نَزَّلَ» و «أنْزَلَ» معاً، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول، تقديره: نزل عليك الكتاب له أي: للهدى، فحذفه.

ويجوز أن يتعلق بالفعلين - معاً - تعلقاً صناعياً، لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علة للفعلين معاً، كما تقول: أكرمت زيداً وضربت عمراً إكراماً لك، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب.

والثاني: أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل. ولم يُثَنَّ؛ لأنه مصدر، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف - أي ذَوَي هُدًى - أو على المبالغة - بأن جُعِلا نَفْسَ الهُدَى - أو على جعلهما بمعنى هاديَيْنِ.

وقيل: إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل.

وقيل: حال من الإنجيل فقط، وحذف مما قبله؛ لدلالة هذا عليه.

وقال بعضهم: تَمَّ الكلام عند قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} فيوقف عليه، ويُبْتَدَأ بقوله:{هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان} أي: وأنزل الفرقان هدًى للناس.

وهذا التقدير غير صحيح؛ لأنه يُؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق، وهو ممتنع؛ إذ لو قلت: قام زيدٌ مكتوفةٌ وضربتُ هِنْداً - تعني وضربت هنداً مكتوفةً - لم يصح، فكذلك هذا.

قوله: «لِلناسِ» يحتمل أن يتعلق بنفس «هُدًى» لأن هذه المادة تتعدى باللام، كقوله تعالى:{يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وأن يتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة ل «هُدًى» .

ص: 21

قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية، ولم يُجْمَع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران، وهو يحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الفاعل، أو المفعول، والأول أظهر.

قال الزمخشريُّ: «وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له. ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس؛ تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله» .

قال شهاب الدينِ: «قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا رَدًّا لقوله الأول؛ حيث قال: إن» نَزَّل «يقتضي التنجيم، و» أنْزَلَ «يقتضي الإنزال الدفعي؛ لأنه جوز أن يراد بالفرقان القرآن، وقد ذكره ب» أنْزَلَ «، ولكن لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ ذلك؛ لأنه لم يَقُل: إن أنزل للانزال الدفعيِّ فقط، بل يقول: إن» نَزَّل «- بالتشديد - يقتضي التفريق، و» أنْزِلَ «يحتمل التفريق، ويحتمل الإنزال الدفعي» .

فصل في المراد ب «الفرقان»

قيل: المراد بالفرقان هو الزبور؛ لقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [الإسراء: 55] .

وقيل القرآن، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه، ومدحاً له بكونه فارقاً بين الحق والباطل.

أو يقال: إنه تعالى أعاد ذكرَه ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل، ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير، فلا تكرار.

وقال الأكثرون: إن المراد أنه تعالى - كما جعل هذه الكتب الثلاثة هدًى ودلالة - قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع.

قال ابن الخطيبِ: «وهذه الأقوال - عندي - مُشْكِلةٌ.

فأما حمله على الزبور فبعيد؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل - مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام - بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك.

وأما حمله على [القرآن] فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله، والمعطوف يغاير المعطوف عليه، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايراً للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [الكتب] فارقةً بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب، وعطف الصفة على الموصوف - وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [إلا أنه] ضعيف، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللهِ تعالى.

والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان - هنا - المعجزات المقرونة بإنزال هذه

ص: 22

الكتب؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق، ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا ما عندي «.

ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا: المراد به جميع الكتب السماوية، فيزول الإشكال الذي ذكره، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى:{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: 27 - 31] .

قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ} يحتمل أن يرتفعَ» عَذَابٌ «بالفاعلية بالجار قبله، لوقوعه خبراً عن» إنَّ «ويحتمل أن يرتفعَ على الابتداء، والجملة خبر» إنَّ «والأول أولى؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و» انتقام «افتعال، من النقمة وهي السطوة والتسلط، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة، يقال: نَقَمَ - بالفتح - وهو الأفصح، ونَقِم - بالكسر - وقد قُرِئ بهما ويقال: انتقم من انتم، أي: عاقبه وقال الليث: ويقال لم أرض عنه، حتى نقمت، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع. وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى.

فصل

اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد؛ زَجْراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرةِ، فقال:{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} فخصَّ بعضُ المفسّرين ذلك بالنصارى؛ قَصْراً للفظ العام على سبب نزوله.

وقال المحقِّقون: الاعتبار بعموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله {والله عَزِيزٌ} ، أي: غالب لا يُغْلَب، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، و {ذُو انتقام} إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب، فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل.

ص: 23

هذا الكلام يحتمل وجهَيْنِ:

الأول: أن يُنَزَّلَ على سبب النزول؛ وذلك لأن النصارى ادَّعَوُا الإلهيةَ لعيسَى؛ لأمور:

ص: 23

أحدها: العلم، فإنه كان يُخْبِر ن الغيوب، ويقول لهذا: إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذلك: إنك صنعت في دارك كذا.

الثاني: القدرة، وهي أن عيسى كان يُحْيي الموتَى، ويُبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً.

الثالث: من جهة الإلزام المعنويّ، وهو أنه لم يكن له أبٌ من البشر.

الرابع: من جهة الإلزام اللفظي، وهو قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله، وكلمته.

فالله تعالى استدل على بطلان قولهم بإلهية عيس، والتثليث بقوله:{الحي القيوم} ، فالإله يجب أن يكون حيًّا قَيُّوماً، فلزم القطعُ بأنه لم يكن إلهاً، وأجاب عن شبهتهم بعلم الغيوب بقوله:{إِنَّ الله لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلَا فِي السمآء} ، وكون عيسى عالماً ببعض المغيِّبات، لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنه عَلِم ذلك بوحي من الله تعالى، فعدم إحاطته بكل المغيَّبات يدل قطعاً على أنه ليس بإله؛ لأن الإله هو الذي لا يَخْفَى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء؛ لأنه خالقهما، والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى ما كان عالماً بجميع المغيَّبات، وكيف والنصارى يقولون: إنه قُتِل، فلو كان يعلم الغيب، لعلمَ بأن القوم يريدون قتله، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه، وأما تعلقهم بقدرته على إحياء الموتى، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله:{هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} وتقديره: أن حصول الإحياء لعيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنَّ الله تعالى أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته، وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم إلهيته، لأن الإله هو القادر على أن يُصَوِّرَ في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب، فلو كان عيسى قادراً على الإحياء، والإماتة، لأمات أولئك الذين أخذوه وقتلوه - على زعمهم - فثبت أن الإحياء والإماتة في بعض الصور لا تدل على كونه إلهاً، وكذلك عدم حصول الإحياء والإماتة له في كل الصور دليل على أنه ما كان إلهاً.

وأما الشبهة الثالثة وهي الإلزام المعنويّ بأنه لم يكن له أب من البشر، فأجاب الله تعالى عنه بقوله:{هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} فإن شاء صوره من نطفة [الأب] ، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب، كما خلق آدم من غير ابٍ أيضاً ولا أمّ.

وأما قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله وكلمته، فهذا الإلزام لفظي، وهو محتمل للحقيقة والمجاز، فإذا ورد لفظ يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات، فوجب ردُّه إلى التأويل، وذلك هو المراد بقوله:

{هُوَ

الذي

أَنزَلَ

عَلَيْكَ الكتاب

ص: 24

مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، فظهر بما ذكرنا أن قوله:{الحي القيوم} يدل على أن المسيح ليس بإله، ولا ابن الإله.

وقوله: {إِنَّ الله لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلَا فِي السمآء} جواب عن تعلُّقهم بالعلم، وقوله:{هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} جواب عن تمسُّكهم بقدرته على الإحياء والإماته، وعن تمسُّكهم بأنه ما كان له أب من البشر، وقوله:{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} جوابٌ عن تمسُّكهم بما ورد في القرآنِ من أن عيسى روحُ الله وكلمته.

الحتمال الثاني: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح [الخلق]، وذلك لا يتم إلا بأمرين:

الأول: أن يكون عالماً بجميع حاجاتهم بالكمية والكيفية.

الثاني: أن يكون قادراً على دَفْع حاجاتهم، فالأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات، والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراُ على جميع الممكنات، ثم إنه استدل على كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله:{إِنَّ الله لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلَا فِي السمآء} وذلك يدل على كمال علمه، وإثبات كونه عالماً لا يجوز أن يكون بالسمع؛ لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً ما بجميع المعلومات، وإنما الطريق إليه بالدليل العقلي، وذلك بأن نقول: إن أفعال الله محكمة متقنة والفعل المُحْكَم المتقَن يدل على كون فاعله عالماً، وإذَا كان دليل كونه تعالى عالماً ما ذكرنا، فحين ادعى كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله:{إِنَّ الله لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلَا فِي السمآء} [أتبعه] بالدليل العقلي، وهو أنه يُصَوِّرُ في ظلمات الأرحام هذه البنيةَ العجيبةَ ويركبها تركيباً غريباً من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، فبعضها أعصاب، وبعضها أوردة، وبعضها شرايين، وبعضها عضلات، ثم إنه ضَمَّ بعضها إلى بعض على أحسن تركيب وأكمل تأليف، وذلك يدل على كمال قدرته، حيث قدر أن يخلق من قطرة من نطفةٍ هذه الاعضاءَ المختلفةَ في الطبع والشكل واللون، فدلَّ هذا الفعلُ المُحْكَم المتقَن على كمال علمه وقدرته.

قوله: {فِي الأرض} يجوز أن يتعلق ب «يخفى» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «شيء» .

فصل

المراد بقوله: {إِنَّ الله لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلَا فِي السمآء} أي: لا يخفى عليه شيء.

فإن قيل: ما فائدة قوله: «فِي الأرض وَلَا فِي السمآء» مع أنه لو أطلق لكان أبلغ؟

ص: 25

فالجواب: أن الغرض منه إفهام العباد كمال علمه، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى؛ لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض، فيُعين العقل على معرفة عظمة علم الله تعالى، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم، والإدراك أكمل، ولذلك فإن المعانيَ الدقيقةَ إذا أريد إيضاحُها ذُكِر لها مثال؛ فإن المثال يُعِين على الفهم.

قوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} تحتمل هذه الجملة أن تكون مستأنفةً سيقت لمجرد الإخبار بذلك، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً لإنَّ.

قوله: {فِي الأرحام} يجوز أن يتعلق ب «يُصَوِّرُكُمْ» وهو الظاهر، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «يُصَرِّرُكُمْ» أي: يصوركم وأنتم في الأرحام مُضَغٌ.

وقرأ طاوسُ: تَصَوَّرَكُمْ - فعلاً ماضياً - ومعناه: صوركم لنفسه، ولتعبدوه، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل، كقولهم: تأثلث مالاً، وأثَّلته، أي: جعلته أثلة أي: أصلاً، والتصوير: تفعيل من صاره، يصوره، أي: أماله وثناه، ومعنى صوره: جعل له صورة مائلة إلى شكل أبويه.

والصورة: الهيئة يكون عليها الشيء من تأليف خاص، وتركيب منضبط، قاله الواحدي وغيره.

والأرحام: جمع رحم، وأصلها الرحمة، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة، والعطف، فلهذا سُمِّيَ العُضْوُ رَحِماً.

قوله: {كَيْفَ يَشَآءُ} في أوجه:

أظهرُها: أنَّ «كَيْفَ» للجزاء، وقد جُوزِيَ بها في لسانهم في قولهم: كيف تَصْنَعُ أصنع، وكيف تكونُ أكونُ، إلا أنه لا يُجْزَمُ بهما، وجوابها محذوف؛ لدلالة ما قبلها عليه، وكذلك مفعول «يشاء» لما تقدم أنه لا يُذْكَر إلا لغرابة والتقدير: كيف يشاء تصويركم يصوركم، فحذف تصويركم؛ لأنه مفعول «يَشَاءُ» ويصوركم؛ لدلالة «يُصَوِّرُكُمْ» الأول عليه، ونظيره قولهم: أنت ظكالم إن فعلتَ، تقديره: أنت ظالم إن فعلتَ فأنتَ ظالمٌ.

وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يجعل «يُصَوِّرُكُمْ» المتقدم هو الجزاء، و «كَيْفَ» منصوب على الحال بالفعل بعده، والمعنى: على أي حالٍ شاء أن يصوركم صوركم، وتقدم الكلام على ذلك في قوله «كيف تكفرون» ولا جائز أن

ص: 26

يكون «كَيْفَ» معمولة «يُصَوِّرُكُمْ» ؛ لأن لها صدرَ الكلام، وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا أحدُ شيئين: إما حرف الجر نحو بمن تمر؟ وإما المضاف نحو غلامُ مَنْ عندَك؟

الثاني: أن يكون «كَيْفَ» ظرفاً ل «يَشَاءُ» والجملة في محل نصب على الحال من ضمير اسم الله تعالى، تقديره: يصوركم على مشيئته، أي: مُريداً.

الثالث: كذلك إلا أنه حال من مفعول «يُصَوِّرُكُمْ» تقديره: يصوركم متقلبين على مشيئته.

ذكر الوجهين أبو البقاء، ولما ذكر غيره كونها حالاً من ضمير اسم الله تعالى قدرها بقوله: يصوركم في الأرحام قادراً على تصويركم مالكاً ذلك.

الرابع: أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى: يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة كما يشاء قاله الحوفي، وفي قوله: الجملة في موضع المصدر تسامح؛ لأن الجمل لا تقوم مقام المصادر، ومراده أن «كَيْفَ» دالة على ذلك، ولكن لما كانت في ضِمْن الجملة نسب ذلك إلى الجملة.

فصل في معنى الآية

معنى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} ذكراً أو أنثى، أبيضَ أو أسودَ، حسناً أو قبيحاً، تاماً أو ناقصاً، وقد ذكرنا أن هذا رَدٌّ على وفد نجران؛ حيث قالوا: عيسى ولد الله وكان يقول: كيف يكون ولده وقد صوره في الرحم؟ ثم إنه لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد؛ زَجْراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال: {لَا إله إِلَاّ هُوَ العزيز الحكيم} و «الْعَزِيزُ» إشارة إلى كمال القدرةِ، يعني أن قدرته أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء، و «الْحَكِيمُ» إشارة إلى كمالِ العلم، يعني: أن علمه أكملُ من علم عيسى بالغيوبِ؛ فإن علمَ عيسى ببعض الصُّوَرِ، وقَدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً، وإنما الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكناتِ، عالماً بجميع الجزئيات والكليات.

قال عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وهو الصادقُ المصدوقُ - «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَ عُ خَلْقُهُ في بطن أمه أرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةٌ مثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةٌ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَل إلَيْهِ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيه الرُّوحَ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَعَمَلِهِ، وَأجَلِهِ، وَشَقِيّ أوْ سَعِيد، فَوَالَّذِي لَا إلَه غَيْرَهُ إنَّ أحدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَاّ ذِرَاعٌ فَيَسْبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ

ص: 27

فَيَدْخُلَهَا، وَإنَّ أحَدَكُمُ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَاّ ذِرَاعٌ، فَيَسبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا» .

وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ قال: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحم بِأرْبَعِينَ أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ يَوْماً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُول: أيْ رَبِّ أذَكَرٌ أوْ أنْثَى؟ فَيُكْتَبَان، وَيُكْتِبُ عَمَلُهُ، وَأثَرهُ، وَأجَلُهُ، ورِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ» .

ص: 28

وَجه النَّظْمِ على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة أن النصارى تمسكوا - في بعض شُبَهِهِمْ - بما جاء في القرآن من صفة عيسى عليه السلام أنه روحُ اللهِ وكلمتُه، فبَيَّن الله تعالى بهذه الآيةِ أن القرآن مشتمل على مُحْكَم ومتشابه، والتمسّك بالمتشابهاتِ غيرُ جائزٍ - هذا على الاحتمال الأول في الآيةِ المتقدمةِ، وعلى الثاني - أنه تعالى لما بين أنه قيوم، وهو القائم بمصالح الخلق، والمصالح قسمان: جسمانية، وروحانية، فالجسمانية أشرفها تعدليل البنية على أحسن شكل، وهو المراد بقوله:{هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} [آل عمران: 6] وأما الروحانية فِأشرفُها العِلْمُ، وهو المراد بقوله:{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ} يجوز أن تكون «آيَاتٌ» رَفْعاً بالابتداء، والجار خبره، وفي الجملة على هذا وجهانِ:

أحدهما: أنها مستأنفة.

والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «الْكِتَابِ» أي: هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال، أي: منقسماً إلى محكم ومتشابهٍ.

ويجوز أن يكون «منه» هو الحال - وحده - وآيات: رفع [به]- على الفاعلية.

ص: 28

و {هُنَّ أُمُّ الكتاب} يجوز أن تكون الجملةُ صفةٌ للنَّكِرَةِ قَبْلَهَا، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً.

وأخْبَرَ بلفظ الواحد «أمُّ» عن جمع «هُنَّ» إمَّا لأن المرادَ أن كل واحدةٍ منه أمٌّ، وإمَّا لأن المجموعَ بمنزلة آية واحدةٍ، كقوله:{وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع، كقوله:{وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] .

وقوله: [الوافر]

1322 -

كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا.....

...

...

...

...

. .

وقوله: [الطويل]

1323 -

بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأمَّا عِظَامُهَا

فَبِيضٌ وَأمّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ

وقال الأخفش: وَحَّد «أمُّ الْكِتَابِ» بالحكاية على تقدير الجواب، كأنه قيل: ما أمُّ الكتاب؟ فقال: هن أم الكتاب، كما يقال: مَن نظيرُ زَيْدٍ؟ فيقول قوم: نحن نظيره، كأنهم حكوا ذلك اللفظ، وهذا على قولهم: دعني من تمرتان، أي: مما يُقَال له: تمرتان.

قال ابنُ الأنباري: «وهذا بعيد من الصواب في الآية؛ لأن الإضمار لم يقم عليه دليل، ولم تدع إليه حاجةٌ» .

وقيل: لأنه بمعنى أصْل الكتاب، والأصْل يُوَحَّد.

قوله: «وأُخَر» نسق على «آيات» و «متشابهات» نعت ل «أخر» ، وفي الحقيقة «أخر» نعت لمحذوف تقديره: وآيات أخر متشابهات.

قال أبو البقاء: فإن قيل: واحدة [متشابهات: متشابهة، وواحدة أخر: أخرى، والواحد هنا - لا يصح أن يُوصَف بهذا الواحد -، فلا يقال: أخرى متشابهة] ، إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً، وليس المعنى على ذلك، إنما المعنى أن كل آية تشبه آيةٌ أخرى، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصْف مفردِه بمفردِه؟

قيل: التشابهُ لا يكون إلا بين اثنين فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلما لم يصح التشابه إلا في حالةِ الاجتماعِ وُصِفَ الجمعُ بالجمعِ؛ لأن كل واحد منها يشابه باقيها، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى، ونظيره قوله:

{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} [القصص: 15] فثنَّى الضمير، وإن كان الواحد لا

ص: 29

يقتتل، يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك كما أنه لا يُشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته، وقريب من ذلك قوله:{حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75]، وقيل: ليس لِ «حَافينَ» مفرد؛ لأنه ولو قيل: حافّ لم يَصِحّ؛ إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط، إنما يتحقق بجمع يُحيطون بذلك الشيءِ المحفوفِ [وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى] .

فصل

اعلم أن القرآن الكريمَ كلَّه مُحْكَمٌ من دجهة الإحكام والإتقان والفصاحة وصحة المعاني، وكونه كلاماً حقًّا؛ لقوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، وقوله:{تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [يونس: 1] فهو أفضل من كل كلام يُوجَد في هذه المعاني، ولا يمكن أحد أن يأتي بكلام يساويه فيها، والعرب تقول في البناء الوثيق، والعقد الوثيق الذي لا يمكن حَلُّه: مُحْكَم، وكلُّه متشابه من حيث إنه يشبه بعضهُ بعضاً في الحُسن، ويصدِّقُ بعضُهُ بعضاً؛ لقوله تعالى:{كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} [الزمر: 23] .

وذكر في هذه الآيةِ أن بعضه مُحْكَمٌ، وبعضه متشابه.

واختلف المفسّرون في المحكم - هنا - والمتشابه، فقال ابنُ عباس: المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الانعام، {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] الآيات، ونظيرها في بني إسرائيل {وقضى رَبُّكَ أَلَاّ تعبدوا إِلَاّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] .

وعنه أنه قال: المتشابهات: حروف التهجي في أوائل السور.

وقال مجاهد وعكرمة: المحكم: ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه، يشبه بعضه بعضاً في الحق، ويصدق بعضه بعضاً، كقوله:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الفاسقين} [البقرة: 26]، وقوله:{وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] .

وقال قتادة والضحاك والسُّديُّ: المحكم: الناسخ الذي يُعْمَل به، والمتشابه: المنسوخ الذي لا يُعْمَل به ويؤمن به، ورَوَى علي بن أبي طلحةَ عن ابن عباس قال:

ص: 30

محكمات القرآن: ناسخه، وحلالُه، وحرامُه، وحدودُه، وفرائضُه، وما يؤمن به ولا يُعْمَل به.

وقيل المحكمات: ما أوقف الله الخلقَ على معناها، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، ولا سبيل لأحد إلى علمه نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجالِ، ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة، وفناء الدنيا.

وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المُحْكَم ما لا يَحْتَمل من التأويل غير وجه، والمتشابه ما احتمل أوجهاً.

وقيل: المحكم: ما يعرف معناه، وتكون حُجَجُه واضحةً، ولا تشتبه دلائله، والمتشابه: هو الذي يُدرك علمه بالنظر، ولا يَعْرِفُ العوامُّ تفصيلَ الحق فيه من الباطل، وقيل المحكم: ما يستقل بنفسه في المعنى، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه بل يُرَدّ إلى غيره.

فصل

«في تفسير المحكم في أصل اللغةِ» :

العرب تقول: أحكمتُ وحكمتُ بمعنى رددتُ، ومنعت، والحاكم يمنع الظالمَ عن الظلم، وحَكَمَةُ اللجامِ هي التي تمنعُ الفرسَ عن الاضطرابِ، وفي حديث النَّخَعِيِّ: أحْكم اليتيم كما تُحْكِمُ وَلدَك، أي: امنعه من الفساد.

وقال جَرير: [الطويل]

1324 -

أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم.....

...

...

...

.

أي: امنعوهم.

وبناءٌ مُحْكَم: أي: وثيق، يمنع مَنْ تعرَّض له، وسُمِّيت الحكمةُ حكمةً؛ لأنها تمنعُ عما لا ينبغي.

والمتشابه: هو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز [

ص: 31

بينهما] ، قال تعالى:{إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70]، وقال في وصف ثمارِ الجنةِ:{وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها} [البقرة: 25] أي: مُتَّفِق المنظر، وقال تعالى:{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم} [البقرة: 118]، ويقال: أشبه عليَّ الأمر إذا لم يَظْهَر له الفرق ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال صلى الله عليه وسلم َ:«الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُتَشابِهَاتٌ» وفي رواية مشتبهات، ثم لما كان من شأن المتشابهَيْن عَجْزُ الإنسانِ عن التمييز بينهما، سمِّي كلُّ ما لا يَهْتَدِي إليه الإنسان بالمتشابه؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبَّب، ونظيره المشكل، سُمِّي بذلك؛ لأنه أشكل أي: دخل في شكل غيره، فأشبهه وشَاكَله، ثُمَّ يقال لكل ما غَمُضَ - وإن لم يكن غموضُه من هذه الجهةِ - مشكلاً، ولهذا يُحْتَمَل أن يقال للذي لا يُعْرَف ثبوتُه أو عدمُه، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً [له] ، ولم يتميز أحدُهما عن الآخر بمزيد رُجْحَان، فلا جرم يُسَمَّى غير المعلوم بأنه متشابه.

قال ابن الخطيبِ: «فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغةِ، والناس قد أكثروا في تفسير المحكَم والمتشابه، ونحن نذكر الوجهَ الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول: إذا وُضِعَ اللفظ لمعنى فإما أن يحتمل غيره أو لا، فإن كان لا يحتمل غيره فهو النص، وإن احتمل غيرَه فإما أن يكونَ احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر، فيكون بالنسبة إلى الراجح ظاهراً، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً، وإن كان احتماله لهما على السوية، فيكون اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً، فحصل من هذا التقسيم أن اللفظ، إما أن يكون نصاً، أو ظاهراً، أو مؤولاً، أو مشتركاً، والنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى بالمحكَم، أما المجمل والمؤول، فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة [وإن لم يكن راجحاً، أو غير مرجوح، والمؤوَّل - مع أنه غير راجح - فهو مرجوح، لا بحسب الدليل المنفرد] ، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى المتشابه؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً، وقد بينَّا أن ذلك يسمى متشابهاً، إما لأن الذي لا يُعْلَمُ يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي [يحصل] فيه التشابه يصير غير معلوم، فيطلق لفظ» المتشابه «على ما لا يُعْلَم؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصَّل في المحكَم والمتشابه.

ص: 32

فصل

روى البخاري عن سعيد بن جبيرٍ قال: قال رجلٌ لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: ما هي؟ قال: قوله: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 50]، وقوله:{وَلَا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] مع قولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية وفي «النازعات» قال: {أَمِ السمآء بَنَاهَا} [النازعات: 27] إلى قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27 - 30] فذكر خلق السماء قبل الأرض، وقال {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9 - 11] إلى: «طَآئِعِينَ» فذكر خلق الأرض قبل السماء وقال: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100]{وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 158]{وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 134] فكأنه كان ثم مضى.

فقال ابن عباس: معنى قوله: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُم} النفخة الأولى ثم يُنْفَخُ في الصور فيُصْعَق مَن في السموات ومن في الأرض إلا مَنْ شَاءَ الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، وفي النفخة الأخيرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

أما قولهم: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي: أن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشركون: تعالوا نقول: ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم، وتنطق جوارحُهم بأعمالهم، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً، وعنده {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] ، وخلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دَحا الأرض، بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الأشجار والجبال [والآكام] وما بينهما في يومين آخرين، وذلك قوله:{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فخلق الأرض وما فيها في أربعة ايام وخلق السماء في يومين.

وقوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} يعني نفسه، أي: لم يزل، ولا يزال كذلك، وأن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراده ويحك، فلا يختلف عليك القرآنُ، فإن كُلاًّ من عند الله.

فصل

في الفوائد التي لأجلها جُعِل بَعْضُ القرآن محْكَماً، وبعضهُ متشابهاً.

قال ابن الخطيبِ: «طعن بعضُ الملحدة في القرآن؛ لأجل اشتماله على المتشابهات، وقالوا: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم

ص: 33

القيامة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله:

{وَجَعَلْنَا

على

قُلُوبِهِمْ

أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرا} [الأنعام: 25]، والقدَريُّ يقول: بل هذا مذهب الكفار؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف} [البقرة: 88]، وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 232 - 23]، والنافي يتمسك بقوله:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103]، ومثبت الجهة يتمسك بقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِم} [النحل: 50] وقوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] والنافي يتمسك بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة، وإنما يُرْجَع في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً خالياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض؟ فذكر العلماء في فوائد المتشابهات وجوهاً:

الأول: أنه متى ك انت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.

الثاني: أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه افتقر الناظر إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال، ولو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية، وكان يبقى - حينئذٍ - في الجهل والتقليد.

الثالث: أن القرآن لما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علوم اللغة، والنحو، وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان يحتاج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد هذه المتشابهات هذه الفوائد.

الرابع: أن القرآن يشتمل على دعوة الخواص، والعوامّ بالكلية، وطباع العوام تنبو - في أكثر الأمر - عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام - في أول الأمر - إثبات موجود ليس بجسم ولا متحرك ولا يشار إليه ظَنَّ بأن هذا عَدَم ونَفْي، فوقع في العطيل، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه، وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالمخاطبة في أولِ الأمرِ تكون من أبواب المتشابهات، والثاني وهو الذي انكشف لهم في آخر الأمر هو المحكم.

ص: 34

الخامس: [لو ك ان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما يُنَفِّر أربابَ المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كلِّ مذهب أن يجدَ فيه ما يقوي له حكمه ويُؤثِرُ مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميعً أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كلُّ صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله، ويصل إلى الحق، والله أعلم] .

قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يجوز أن يرتفع «زيغ» بالفاعلية؛ لأن الجار قبله صلة لموصول، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله.

قوله «الزيغ» قيل: المَيْل [مطلقاً]، وقال بعضهم: هو أخَصُّ من مطلق الميل؛ فإن الزيع لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل.

قال الراغب: «الزيغُ: الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَمتقاربٌ، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل» انتهى. يقال: زاغ يَزيغُ زَيْغاً، وزَيْغُوغَةً وزَيغَاناً، وزُيوغاً.

قال الفراء: والعرب تقول في عامة ذواتِ الياء - فيما يُشْبه زِغْت - مثل: سِرْتُ، وصِرْتُ، وطِرْتُ: سَيْرورة، وصَيْرورة، وطَيْرُورة، وحِدت حَيْدودة، ومِلت ميلولة. . لا أحصي ذلك، فأما ذواتُ الواوِ مثل قُلْت، ورُضْت، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظٍ: الكَيْنُونة والدَّيْمومة - من دام والهَيْعُوعَة - من الهُوَاع، والسَّيْدودَة - من سُدت -، ثم ذكر كلاماً كثيراً غير متعلق بما نحن فيه. وقد تقدم الكلام على هذا المصدر، وأنه قد سمع في هذا المصدرِ الأصل - وهو كَينُونة - في قول الشاعر:[الرجز]

1325 -

يَا لَيْتَنَا قَدْ ضَمَّنَا سَفِينَهْ

حَتَّى يَعُودَ الوَصل كَيَّنُنَهْ

قوله: «ما تشابه» مفعول الاتباع، وهي موصولة، أو موصوفة، ولا تكون مصدريةً؛ لعَوْد الضمير من «تشابه» عليها، إلا على رأيٍ ضعيفٍ، و «مِنه» حال من فاعل «تَشَابه» أي تشابه حال كونه بعضه.

قوله: «ابْتِغَاءَ» منصوب على المفعول له، أي: لأجل الابتغاء، وهو مصدر مضاف لمفعوله. والتأويل: مصدر أوَّل يُؤوِّلُ، وفي اشتقاقه قولان:

ص: 35

أحدهما: أنه من آل يَئُولُ أوْلاً، ومآلاً، أي: عَادَ، ورجع، وآلُ الرجلِ من هذا - عند بعضهم إلا أنهم يرجعون إليه في مُهِمَّاتِهِم ويقولون: أولتُ الشيء: أَي: صرفته لوجهٍ لائقٍ به فانصرف، قال الشاعر:[السريع]

1326 -

أؤَوِّلُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ

لَيْسَ قَضَائِي بِالْهَوَى الْجَائِرِ

وقال بعضهم: أوَّلت الشيء، فتأول، فجعل مطاوعه تفعل، وعلى الأول مطاوعه فعل، وأنشد الأعشى:[الطويل]

1327 -

عَلَى أنَّهَا كَانَتْ تَأوَّلُ حُبَّهَا

تَأوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فأصْحَبَا

أي: يعني أن حبها كان صغيراً، قليلاً، فآل إلى العِظَم كما يَئُول السَّقْبُ إلى الكِبر، ثم قد يُطْلَق على العاقبة، والمردِّ؛ لأنَّ الأمر يصير إليهما.

الثاني: أنه مشتق من الإيَالَةِ، وهي السياسةُ، تقول العر: قَدْ ألْنَا وَإيلَ عَلَيْنَا، أي: سُسْنَا وساسَنا غيرُنا، وكأن المؤوِّلَ للكلام سايسهُ، والقادر عليه، وواضِعه موضعَه، نُقِل ذلك عن النضر بن شميل.

وفرق الناس بين التفسير والتأويل في الاصطلاح بأن التفسير مقتصر به على ما لا يُعْلَم إلَاّ بالتوقيف كأسباب النزول، ومدلولات الألفاظ، وليس للرأي فيه مَدْخَل، والتأويل يجوز لمن حصلت عنده صفة أهلِ العلمِ، وأدواتٌ يقدر أن يتكلم بها إذا رجع بها إلى أصولٍ وقواعدَ.

فصل

روى ابنُ عباسٍ: أن رَهْطاً من اليهود منهم حُيَيّ بنُ أخْطَبَ، وكعبُ بنُ الأشرف ونظراؤهما أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم َ فقال له حُيَيّ: بلغنا أنه نزلَ عليك الم، فننشدك الله، أنزل عليك؟ قال: نَعَمْ، قال: فإن كان ذلك حقاً فأنا أعلم مدّة مُلْك أمتك، هي إحْدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرُها؟ قال: نعم، المص، قال: هذه أكثر، هي مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهل أنزل غيرها؟ قال: نعم، المر، قال: هذه أكثر، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة، وقد خَلَّطتَ علينا، فلا ندري ابكثيره نأخذ، أم بقليله ونحن ممن لا يُؤمن

ص: 36

بهذا؟ فأنزلَ الله {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} .

وقال الربيع: هم وَفْدُ نجرانَ، خاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم َ في عيسى، وقالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: حَسْبُنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم أنزل:{إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] .

قال ابن جريج: هم المنافقون.

وقال الحسن: هم الخوارج، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري مَنْ هُمْ، وقال المحققون: إن هذا يَعُم جميعَ المبطلين، قالت عائشة: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ هذه الآيةَ منه آيات محكمة هي أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله: أولي الألباب {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} فقال رسول الله: «فَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأولَئِكَ الذين سمى الله فاحذرهم» وعن أبي غالب قال: «كنت أمشي مع أبي أمامة، وهو على حمار حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق، فإذا رؤوسٌ منصوبة، فقال: ما هذه الرؤوس؟ قيل: هذه رؤوس يُجاء بهم من العراق، فقال أبو أمامة: كلابُ النار، كلابُ النار، [كلابُ النار] أو قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قَتَلهم وقتلوه - يقولها ثلاثاً - ثم بكى، فقلت: ما يُبْكيك يا أبا أمامة؟ قال: رحمةً لهم؛ إنهم كانوا من أهل الإسلام، فخرجوا منه، ثم قرأ:{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} الآية، ثم قرأ:{وَلَا تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات} [آل عمران: 105]، فقلت: يا أبا أمامة، هم هؤلاء؟ قال: نعم، قلت: أشيء تقوله برأيك، أم شيء سمعته من رسول اله صلى الله عليه وسلم َ؟ فقال: إني إذَنْ لَجرِيء، إني إذاً لَجَريءٌ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه سولم غيرَ مرةٍ ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس، ولا ست، ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال: وإلا فَصُمَّتَا، قالها ثلاثاً - ثم قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ يقول

«تَفرَّقَتْ بَنو إسرائيلَ على أحْدَى وسبعينَ فرقةً،

ص: 37

واحدةٌ في الجَنَّةِ، وَسَائِرَهُم في النَّارِ، ولتزيدَنَّ عليهم هَذِهِ الأمةُ واحدةً، واحدةٌ في الجنَّة وسائرُهم في النّار» .

فصل

لما بيَّنَ الله تعالى أن الزائغِين يتَّبعون المتشابهِ بيَّن أنّ لهم فيه غرضَيْنِ:

الأول: ابتغاء الفتنة.

والثاني: ابتغاء التأويل.

أما الفتنة فقا لالربيع والسدي: الفتنة: طلب الشرك.

وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات واللَّبْس، ليضلوا بها جُهَّالهم.

وقال الأصم: متى وقعوا في المتشابهات، صَارَ بعضهم مخالفاً للبعض في الدين، وذلك يفضِي إلى التقاتل، والهَرْج والمَرْج.

وقيل: المتمسك بالمتشابه يُقَرِّر البِدَع والأباطيل في قلبه، فيصير مفتوناً بذلك الباطلِ، عاكفاً عليه، لا يقلع عنه بحيلة ألبتة لأن الفتنة في اللغة: التوغُّل في محبة الشيء، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي: مُوغِل في طلبها.

وقيل: الفتنة في الدين هي الضلال عنه، [ومعلوم أنه لا فتنة، ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه] .

وأما التأويل فقد ذكرنا تفسيره في اللغة، والفرق بينه وبين التفسيرز

قد يسمى التفسيرُ تأويلاً قال تعالى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78]، وقال:{ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35] ، وذلك لأنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، والمراد منه: أنهم يطلبون التأويل الذي ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا بيان، كطلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب للمطيع والعاصي كم تكون؟

ص: 38

وقيل: ابتغاء التأويل: طلب عاقبته، وطَلَبُ أجَل هذه الأمة من حساب الجُمل؛ لقوله تعالى:{ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35] أي: عاقبةً.

وقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ الله} اختلف الناسُ في هذا الموضع: فقال قوم: الواو في قوله: «وَالرَّاسِخُونَ» عاطفة على الجلالة، فيكونون داخلين في عِلْم التأويل وعلى هذا يجوز في الجملة القولية وجهان:

أحدهما: أنها حال: أي: يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك.

والثاني: أن تكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم يقولون - وهذا قول مجاهد والربيع وهذا لقوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} [الحشر: 7] ثم قال {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8] إلى أن قال: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] ثم قال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} ولهذا عطف على ما سبق ثم قال: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} [الحشر: 10] يعني هم مع استحقاقهم الفيء

ص: 39

يقولون: {رَبَّنَا اغفر لَنَ} أي: قائلين على حال. وروي عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم، وعن مجاهد: أنا ممن يعلم تأويله.

وذهب الأكثرون إلى أن الواو في وقله: «والرَّاسِخُونَ» واو الاستئناف، فيكون مستدأ، وتم الكلام عند قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ الله} والجملة من قوله: «يَقُولُونَ» خبر المبتدأ، وهذا قول أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وعائشةَ، وعروة بن الزبير، ورواية طاوس عن ابن عباس وبه قال الحسنُ، وأكثر التابعين، واختاره الكسائي، والفرّاء، والأخفش، وقالوا: لا يعلم تأويلَ المتشابه إلا اللهُ، ويجوز أن يكون للقرآن تأويلٌ استأثر الله بعلمه لم يُطْلِع عليه أحداً من خلقه، كما استأثر بعلم السَّاعة، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدَّجَّالِ ونزول عيسى عليه السلام ونحوها، والخلق متعبدون بالمتشابه، والإيمان به، وفي المحكم في الإيمان به والعمل، ومما يُصَدّق ذلك قراءةُ عبد الله:«إنْ تأويلُه إلا عندَ الله والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. .» ، وفي حرف أبي: ويقول الراسخون في العلم آمنا به. قال عمر بن عبد العزيز - في هذه الآية -: انتهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بتأويل القرآن إلى أن قالوا: آمنا به، كل من عند ربنا.

وهذا القول أقيسُ في العربية وأشبه بظاهر الآية، ويدل لهذا القول وجوه:

أحدها: أنه ذم طالب المتشابه بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} .

الثاني: أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، وقال [في أول البقرة] :{فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِم} [البقرة: 26] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل كان لهم في الإيمان به مدحٌ؛ لأن كل من عرف شَيئاً على سبيل التفصيلِ، فلا بد وأن يُؤمن به.

الثالث: لو كان قوله: «وَالرَّاسِخًونَ» معطوفاً لصار قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ابتداء، وهو بعيد عن الفصاحة، وكان الأولى أن يُقَالَ: وهم يقولون، أو يقال: ويقولون.

فإن قيل: في تصحيحه وجهان:

الأول: أن «يَقُولُونَ» خبر مبتدأ، والتقديرُ: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا.

الثاني: أن يكون «يَقُولُونَ» حالاً من الراسخين.

فالجواب: أن الأول مدفوع بأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى، والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره - وهو الراسخون - فوجب أن يكون قوله:«آمنا به» حالاً من الراسخينَ لا من «الله» وذلك ترك للظاهر.

ص: 40

رابعاً: قوله: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله، وبما لا يعرفون تفصيله، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل، لم يبق لهذا الكلامِ فائدة.

وخامسها: نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفسير القرآن على اربعة أوجه: «تفسير لا يسمع أحداً جهلُه، وتفسير تعرفه العربُ بألسنتها، وتفسيرٌ تعرفه العلماء، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا اللهُ تعالى» .

وسئل مالك بن أنس عن قوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] فقال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» .

والرسوخ: الثبوت والاستقرار ثبوتاً متمكّناً، فهو أخص من مطلق الثَّبَاتِ.

قال الشاعر: [الطويل]

1328 -

لَقَد ْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ

لِلَيْلَى أبَتْ آيَاتُهَا أن تُغَيَّرا

«آمَنَّا بِهِ» في محل نصب بالقول، و «كُلٌّ» مبتدأ، أي: كله، والجار بعده خبره، والجملة نصب بالقول أيضاً.

فإن قيل: ما الفائدة في لفظ «عِنْدِ» ولو قال: كل من ربنا لحصل المقصود؟

فالجوابُ: أن الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد من التأكيد.

فإن قيل: لِمَ حُذِفَ المضاف إليه من «كُلٌّ» ؟

فالجوابُ: لأن دلالته على المضاف قوية، فالأمْنُ من اللَّبْسِ بعدَ الحذفِ حاصلٌ.

قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُواْ الألباب} مَدْحٌ للذين قالوا: آمنا، قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ والسُّدِّيُّ: بقولهم آمنَّا سماهم الله راسخينَ في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم: آمنا به - أي المتشابه - كلٌّ من عند ربنا - المحكم والمتشابه، وما علمناه، وما لم نعلم -.

وقيل: الراسخونَ: علماء أهل الكتاب - كعبد الله بن سلام وأصحابه - لقوله تعالى: {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُم} [النساء: 162] يعني الدارسين علم التوراة، وسُئِل مالك بن أنس عن الراسخينَ في العلمِ فقال: العالمُ العاملُ بما عَلِم، المتَّبع له.

وقيل: الراسخ ي العلم من وُجِدَ في علمه أربعة أشياءٍ: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.

«وَمَا يذكَّرُ» يتَّعظ بما في القرآن {إِلَاّ أُوْلُواْ الألباب} ذوو العقول.

ص: 41

اعلم أنه تعالى لمَّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون: «آمنا به» ، حكى أنهم

ص: 41

يقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون؛ لدلالة الأول عليه، كما في قوله:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا} [آل عمران: 191] .

قال القرطبيُّ: ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمدُ.

قوله: «لا تُزغْ» العمة على ضَمِّ حَرْف المضارعةِ، من أزاغ يزيغ، و «قُلُوبَنَا» مفعول به، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح:«لا تَزغْ قُلُوبُنَا» - بفتح التاء، ورفع «قُلُوبُنَا» ، وقرأ بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القراءتين، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه، والتذكير وأتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمع وتذكيره، والنهي في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاء لله تعالى - أي: لا تزغ قلوبنا فتزيغ، فهو من باب «لا أرَينَّكَ ههُنَا» .

وقول النابغة: [البسيط]

1329 -

لا أعرِفَن رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا.....

...

...

...

...

قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، «بَعْدَ» منصوب ب «لا تُزِغْ» ، و «إذْ» هنا خرجت عن الظرفية؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل، وإذا خرجت عن الظرفيةِ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكمِ، ألا ترى إلى قوله {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] و {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ} [الانفطار: 19]- قراءة من رفع «يومُ» في الموضعين -.

وقول الآخر: [الطويل]

1330 -

...

...

...

...

..... عَلَى حِينِ الكِرَامُ قَلِيلُ

وقوله: [الطويل]

1331 -

عَلى حِينِ مَنْ تَلْبَثْ عَلَيْهِ ذُنُوبهُ.....

...

...

... .

ص: 42

وقوله: [الطويل]

1332 -

عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا.....

...

...

.

وقوله: [الطويل]

1333 -

أَلا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاء جَدِيدُ.....

...

...

...

كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب ب «لَيْت» ، ومع ذلك هي مضافةٌ للجمل التي بعدها.

فصل

هذه الآية تدل على أن الزيغَ والهداية خلق الله تعالى، قال أهل السنة: ذلك لأن القلب صالح لأن يميلَ إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى.

فإن كانت تلك الداعية [داعية] الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والرَّيْن، والقسوة والوقر والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.

وإن كانت تلك الداعيةُ داعيةَ الإيمان، فهي التوفيق، والإرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول:«قَلْبُ المؤمن بَيْنَ أصبعينِ مِنْ أصابعِ الرَّحْمَنِ، إنْ شَاءَ أقامه، وإن شاء أزاغَهُ» ، والمرادُ من هذين الأصبعين الداعيتان، وكان صلى الله عليه وسلم َ يقول:

«اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القلوب

ص: 43

والأبصار ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دينك» ومعناه ما ذكرنا، وقال صلى الله عليه وسلم َ:«مَثَلُ الْقلبِ كَرِيشَةٍ بأرْضٍ فَلَاةٍ تُقلبُهَا الرِّياحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ» .

وقالت المعتزلةُ: الزيغُ لا يجوز أن يكون بفعل الله؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] ، وهذا صريح في أن ابتداء الزيغ منهم.

والجوابُ: أن مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لُطْفاً، وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته، ولصار محتاجاً، والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجةٍ إلى طلبه بالدعاء؟

فإن قيل: فما الجواب عن قوله: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} ؟

قلنا: لا يبعد أن الله تعالى يُزيغهم ابتداء، فعند ذلك يزيغون، ثم يترتب على الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى، ولا منافاةَ فيه.

وقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، أي: جعلتنا مهتدين، وهذا صريحٌ أيضاً في أن حصولَ الاهتداءِ في القلب بتخليق اللهِ تعالى.

قوله: {وَهَبْ لَنَا} الهِبَة: العَطِيَّة، حذفت فاؤها، وكان حق عين المضارع منها كسر العين منه، إلا أن ذلك منعه كونُ العين حرفَ حَلْقٍ، فالكسرة مقدَّرة، فلذلك اعتبِرَت تلك الكسرةُ المقدرةُ فحذفت لها الواو وهذا نحو:«يضع» و «يسع» ، لكون اللام حرف حلقٍ، ويكون «هَبْ» فعل أمر بمعنى اعتقد، فيتعدى لمفعولين.

كقوله: [المتقارب]

1334 -

...

...

...

...

وَإلَاّ فَهَبْنِي أمْرَأ هالِكا

وحينئذ لا يتصرف.

ويقال أيضاً: وَهَبني الله فِداك، أي: جعلني، ولا يتصرف أيضاً عن الماضي بهذا المعنى.

ص: 44

قوله: «مِنْ لَدُنْكَ» متعلق ب «هَبْ» ، و «لَدُنْ» ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان، أو غيرها من الذوات نحو: من لدن زيد، فليست مرادفة لِ «عِنْد» ، بل قد تكون بمعناها، وبعضهم يقيدها بظرف المكانِ، وتضاف لصريح الزمانِ.

قال: [الراجز]

1335 -

تنتَهِضُ الرِّعْدَةُ فِي ظُهَيْرِي

مِن لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى الْعُصَيْرِ

ولا يُقْطع عن الإضافة بحال، وأكثر ما تضاف إلى المفردات، وقد تُضاف إلى «أنْ» وَصِلَتها؛ لأنهما بتأويل مفردٍ.

قال: [الطويل]

1336 -

وُلِيتَ فَلَمْ تَقْطَعْ لَدُنْ أنْ وَلِيتَنَا

قَرَابَةَ ذِي قُرْبَى وَلَا حَقَّ مُسْلِمِ

أي: لدن ولايتك إيانا، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية.

كقوله: [الطويل]

1337 -

وَتَذْكُرُ نُعْمَاهُ لَدُنْ أنْتَ يَافِعٌ

إلَى أنْتَ ذُو فَؤْديْنِ أبيضَ كَالنَّسْرِ

وقد تُضَافُ للفعلية.

كقوله: [الطويل]

1338 -

لزمْنَا لَدُنْ سَالَمْتُمُونَا وِفَاقَكُمْ

فَلَا يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلَافِ جُنُوحُ

وقال آخرُ: [الطويل]

1339 -

صَرِيعُ غَوانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ

لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ

وفيها لغتان: الإعراب، وهي لغة قَيْس، وبها قَرَأ أبو بكر عن عاصم {مِنْ لَدُنْهُ} [النساء: 40]- بجر النون -، وقوله:[الرجز]

1340 -

...

...

...

.....

ص: 45

مَنْ لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى العُصَيْرِ

ولا تخلو من «من» غالباً، قاله ابنُ جني، ومن غير الغالب ما تقدم من قوله:

1341 -

...

... . لَدُنْ أنت يافع.....

...

...

...

... .

وإن وقع بعدها لفظ «غدوة» خاصة - جاز نصبها، ورفعها، فالنصب على خبر «كان» أو التمييز والرفع على إضمار «كَانَ» التامة، ولولا هذا التقدير لزم إفراد «لَدُن» عن الإضافة، وقد تقدم أنه لا يجوز، فمن نَصْب «غدوة» قوله:[الطويل]

1342 -

فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ

لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ

واللغةُ المشهورةُ بناؤها؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمالٍ واحدٍ، وامتناع الإخبار بها، بخلاف «عند» ، و «لدن» فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً؛ إذ يكون فضلةً، وعُمدةً، وغايةً وغير غاية، بخلاف «لَدُن» .

وقال بعضهم: «علة بنائِها كونها دالة على الملاصقة، ومختصةً بها، بخلاف» عند «فإنها لا تدل على الملاصقة، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضَع لذلك، فلم يُوضَع، كما قالوا في اسم الإشارةِ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان ب» لَدُنْ «المفتوحة اللام، المضمومة الدال، الواقع آخرُها نونٌ، وأما بقية لغاتها فهي - فيها - مبنية عند جميع العرب، وفيها عشر لغاتٍ: أشهرها الأولى، ولدَن، ولدِن - بفتح الدال وكسرها - ولَدْنِ، ولُدنِ - بفتح اللام وضمها، مع سكون الدالِ وكسر النونِ - ولُدْنَ - بالضم والسكون وفتح النون -، ولَدْ، ولُدْ - بفتح اللام وضمها مع سكون الدالِ، ولَدُ - بفتح اللام وضم الدال ولت - بإبدال الدال تاءً ساكنةً، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رَدُّ النون.

قوله: {أَنْتَ الوهاب} » أنت «يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون ضميرَ الفصل، وأن يكون تأكيداً لاسم» إنَّ «.

فصل

اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يَجْعَل قلوبَهُم مائلةً إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم.

ص: 46