المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقال» رحمة «؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ، ولما ثبت بالبرهان - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٥

[ابن عادل]

الفصل: وقال» رحمة «؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ، ولما ثبت بالبرهان

وقال» رحمة «؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيمَ إلا هو أكد ذلك بقوله:{مِن لَّدُنْكَ} تنبيهاً للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه.

وقوله: {أَنْتَ الوهاب} كأن العبد يقول: إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ - حقير - بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودِك ورحمتك؛ فإنك أنت الوهاب.

ص: 47

قرأ أبو حاتم {جَامِعُ الناس} بالتنوين والنصب - و «لِيَوْمٍ» اللام للعلة، أي: لجزاءِ يوم، وقيل: هي بمعنى «في» ، ولم يذكر المجموع لأجله، و «لا رَيْبَ» صفة ل «يَوْم» ، أي: لا شك فيه، فالضمير في «فِيهِ» عائد عليه، وأبْعَد مَن جَعَلَه عائداً على الجمع المدلول عليه ب «جَامِعُ» ، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى، أو على العَرْض.

قوله: {إِنَّ الله لَا يُخْلِفُ الميعاد} يجوز أن يكون من تمام حكايةِ قولِ الراسخين، فيكون التفاتاً من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيَان بالاسم الظاهر؛ دلالةً على تعظيمه، ويجوز أن يكون مستأنفاً من كلام الله تعالى، فلا التفاتَ حينئذٍ.

و «الميعاد» مصدر، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها كميقات.

فإن قيل: لم قالوا - في هذه الآية -: إن اللهَ لا يخلف الميعادَ، وقالوا - في تلك الآية - إنك لا تخلف الميعاد؟

فالجوابُ: أن هذه الآيةَ في مقام الهيبةِ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر؛ ليُنْتَصَف للمظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أوْلَى في هذا المقامِ، وفي تلك الآية مقام طلب العبدِ من ربه أن ينعم عليه بفضله، ويتجاوز عن سيئاته، فليسَ مقام الهيبةِ، فلا جرم قال:{إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 1‌

‌9

4] .

فصل

اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالأخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.

فصل

اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.

فصل

احتج الجبائيُّ - بهذه الآية - على القطع بوعيد الفساق، قال: لأن الوعيدَ داخل

ص: 47

تحت لفظ الوعد؛ لقوله تعالى: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] ، والموعد والميعاد واحد، وقد أخبر - في هذه الآيةِ - أنه لا يُخْلف الميعاد.

والجواب: لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقاً، بل ذلك مشروط بعدم العفو، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاقِ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه توعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، ويكون قوله:{فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} كقوله:

{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ، فيكون من باب التهكمِ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى.

وذكر الواحديُّ في البسيط - أنه يجوز أن يُحْمَل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء؛ لأن خُلْفَ الوعيد كرم عند العرب؛ لأنهم يمدحون بذلك، قال:[الطويل]

1343 -

إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنَجْزَ وَعْدَهُ

وَإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُه

وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عُبَيْد: قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عُبَيْد فما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال: أقول: إنَّ الله تعالى وَعَدَ وعْداً وأوعد إيعاداً، فهو مُنجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء: إنك رجل أعْجَمُ، لا أقول: أعجم اللسان، ولكن أعجمُ القلب؛ إن العربَ تَعُدُّ الرجوعَ عن الوعد لُؤماً، وعن الإيعاد كَرَمًا، وأنشد:[الطويل]

1344 -

وَإنِّيَ إن أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ

لَمُكْذِبُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي

فقال له عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو، فهل يُسَمّى الله مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال له عمرو بن عبيد: فقد سقطت حجتك.

قال ابن الخطبيبِ: «وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: إنك قِسْت الوعيد على الوعد، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين؛ وذلك لأن الوعدَ حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره، فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق.

ص: 48

وأما قولك: لو لم يفعلْ لصار كاذباً، أو مكذب نفسه.

فالجوابُ: أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيدُ ثابتاً جزماً من غير شرط، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى» .

ص: 49

لما حكى دعاءَ المؤمنين وتضرُّعَهم حكى كيفيةَ حال الكافرين، وشدة عقابهم، وفيهم قولان:

أحدهما: أن المراد بهم وفد نجران؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسولُ اللهِ حقاً، ولكني إن أظهرتُ ذلك أخذ ملوكُ الرومِ مني ما أطَوْنِي من المال، فبيَّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذابَ الله.

الثاني: أن اللفظ عام، وخصوصُ السبب لا سمنع عمومَ اللفظ.

قوله: {لَن تُغْنِيَ} العامة على «تُغْنِي» بالتاء من فوق؛ مراعاةً لتأنيث الجميع، وقرأ الحسنُ وأبو عبد الرحمن بالياء من تحت - بالتذكير - على الأصل، وسكن الحسن ياءَ «تُغْنِي» ؛ استثقالاً للحركةِ على حرف العلة، وذهاباً به مَذْهَبَ الألف، وَبَعضهم يخص هذا بالضرورةِ.

قوله: {مِّنَ الله} في «مِن» هذه أربعة أوجه:

أحدها: أنها لابتداء الغايةِ - مجازاً - أي: من عذاب اله وجزائه.

الثاني: أنها بمعنى «عند» قاله أبو عبيدة، وجعله كقوله تعالى:{أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]، أي: عند جوع، وعند خوف، وهذا ضعيف عند النحويين.

الثالث: أنها بمعنى بدل.

قال الزمخشري: قوله: {مِّنَ الله} مثل قوله: {إَنَّ الظن لَا يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [يونس: 36]، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعته شيئاً، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق ومنه [قوله] :«ولا ينفع ذا الجد منك الجد» ، أي: لا

ص: 49

ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلاً، أي: بدل طاعتك وما عندك، وفي معناه قوله تعالى:{وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} [سبأ: 37] ، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يَأبَاه؛ فإن عامة ما أوْرَدَهُ يتأوَّله الجمهورُ.

ومنه قوله: [الرجز]

1345 -

جاريةٌ لَمْ تَأكُلِ الْمُرَقَّقَا

وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا

وقول الآخر: [الكامل]

1346 -

أخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفصيلِ غُلُبَّةً

ظُلْماً، وَيَكْتُبُ للأميرِ أفِيلا

وقوله تعالى: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً} [الزخرف: 60]، وقوله:{أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] ؟

الرابع: أنها تبعيضية، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنياً على إعراب «شَيْئاً» مفعولاً به، بمعنى: لا تدفع، ولا تمنع، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون «من» في موضع الحال من «شَيْئاً» ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعتِ له، فلما تقدم انتصب على الحال، وتكون «من» إذ ذاك - للتبعيض.

قال شهاب الدينِ: «وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة؛ لأن» منَ «التبعيضية تؤوَّلُ بلفظ بعض مضافةً لما جرَّتْه» مِنْ «ألا ترى أنك إذا قلتَ: رأيت رجلاً من بني تميم، معناه: بعض بني تميم، وأخذت من الدراهم: أي: بعضَ الدراهم، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصْلاً، وإنما يصح جعله صفة لِ» شَيْئاً «إذا جعلنا» مِنْ «لابتداء الغاية، كقولك: عندي درهم من زيد، أي: كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيض، والحال كالصفة في المعنى، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله» مِنَ اللهِ «حالاً من» شَيْئاً «، وأبو حيّان تبع أبا البقاءِ في ذلك، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك - قَدَّر مضافاً وضَّح به قوله، والتقدير: شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يتبعه - في هذا الوجهِ - مُصَرِّحاً بما يدفع هذا الذي ذكرته» .

و «شَيْئاً» إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية، أي: شَيْئاً من الإغناء.

قوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} هذه الجملة تحتمل وجهَيْن:

ص: 50

أحدهما: أن تكون مستأنفةً.

والثاني: أن تكون منسوقة على خبر «إنَّ» و «هم» تحتمل الابتداء والفصل.

وقرأ العامة «وَقُودُ» بفتح الواو، والحَسن بِضَمِّها وتقدم تحقيقُ ذلك في البقرة، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويله، فلا حاجة إلى إعادته.

فصل

اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما يُنْتَفَعُ به، ثم تجتمع عليه الأسبابُ المؤلمة.

الأول هو المراد بقوله: {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم} ؛ فإن المرء - عند الخطوب - يفزع إلى المال والولد؛ لأنهما أقربُ الأمور التي يُفْزَع إليها في دَفْع النوائب، فبيَّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالِفَةٌ لصفةِ الدنيا، وإذا تعذَّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمالِ والولدِ - وهما أقرب الطرق - فما عداه بالتعذُّر أوْلَى، ونظيره:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَاّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] .

وأما الثاني من أسباب كمال العذاب - وهو اجتماع الأسباب المُؤْلمةِ - فهو المراد بقوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} وهذا هو النهايةُ في العذابِ؛ فإنه لا عذابَ أعظم من أن تشتَعِل النارُ فيم كاشتعالها في الحطب اليابِسِ.

ص: 51

في كاف «كَدَأب» وجهانِ:

أحدهما: أنها في محل رَفْع؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر، تقديره: دأبهم - في ذلك «كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن» وبه بدأ الزمخشريُّ، وابنُ عطية.

الثاني: أنها في محل نَصْب، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ:

أحدها: أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف، والعامل فيه «كَفَرُوا» ، تقديره: إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون، أي: كعادتهم في الكفر، وهو رأي الفرَّاءِ.

وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ، وهو لا يجوز.

ص: 51

الثاني: أنه مصوب ب «كَفَرُوا» لكن مقدر؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه.

الثالث: أن الناصبَ مقدَّر، مدلول عليه بقوله:«لَنْ تُغْنِيَ» أي: بطل النتفاعهم بالأموالِ والأولادِ كعادة آل فرعونَ في ذلك. والمعنى: إنكم قد عرفتم ما حلَّ بآل فرعون ومَنْ قبلَهم من المكذبين بالرسل - من العذاب المعجل الذي عنده - لم ينفعهم مال ولا ولد.

الرابع: أنه منصوب بلفظ «وَقُودُ» ، أي: تُوقَد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون، كما تقول: إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك، تريد: كظلم أبيك، قاله الزمخشريُّ، وفيه نظر؛ لأن الوقود - على القراءة المشهورة - الأظهر فيه أنه اسم لِما يوقد به، وإذا كان اسماً فلا عَمَل له، فإن قيل: إنه مصدر على قراءة الحَسن صَحَّ، ويكون معنى الدأب: الدؤوب - وهو اللُّبْثُ والدوام، وطول البقاء في الشيء - وتقدير الآية:«وَأُولَئِكَ هُم وَقُودُ كَدَأْبِ آل فِرْعَونَ» .

[أي: دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون] .

الخامس: أنه منصوب بنفس «لَنْ تُغْنِي» أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تُغنِ عن أولئك، ذكره الزمخشري، وضعَّفه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة - التي هي قوله:{وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} قال: «على أي التقديرين اللَّذَيْنِ قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر» إنَّ «أو على الجملة المؤكَّدة ب» إنَّ «قال: فإن جعلتها اعتراضيةً - وهو بعيد - جازَ ما قال الزمخشريُّ» .

السادس: أن يكون العامل فيها فعلاً مقدَّراً، مدلولاً عليه بلفظ «الوَقُود» ، تقديره: توقَد بهم كعادة آل فرعون، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق، قاله ابنُ عطية.

السابع: أن العامل يُعَذَّبُونَ كعادةِ آل فرعونَ، يدل عليه سياق الكلام.

الثامن: أنه منصوب {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ، والضمير في «كَذَّبُوا» - على هذا - لكفار مكة وغيرهم من معاصِرِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم َ - أي: كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعونَ في ذلك التكذيب.

التاسع: أن العامل فيه قوله: {فَأَخَذَهُمُ الله} ، أي: فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل، وتارةً إلى المفعول، والمعنى: كَدَأبِ الله في آل فرعون، ونظيره قوله تعالى:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} [البقرة: 165] أي: كَحُبِّهم لله، وقال:{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} [الإسراء: 77] والمعنى: سنتي فيمن أرسلنا قبلك، وهذا مردود؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة.

ص: 52

وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف، فعلى هذا يجوز هذا القول، وفي كلام الزمخشريِّ سهو؛ فإنه قال: ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف ب «لَنْ تُغْنِيَ» أو ب «خَالِدُونَ» ، [أي: لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون] .

وليس في لفظ الآية الكريمة {خَالِدُونَ} ، إنما نظم الآية {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} ، ويبعد أن يقال: أراد «خَالِدُون» مُقَدَّراً، يدل عليه السياق، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء.

وقال القفَّالُ: «يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى، والعادة المضافة إلى الكفار، كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم َ كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ، كحعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي صلى الله عليه وسلم َ على إيذاء الكفار، وبشارته بأن الله سينتقم منهم» .

الدأب: العادة، يقال: دأب، يَدْأبُ، اي: واظب، ولازم، ومنه {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} [يوسف: 47] ، أي: مداومة.

وقال امرؤ القيس: [الطويل]

1347 -

- كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا

وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَاسَلِ

وقال زُهير: [الطويل]

1348 -

لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ

إلَى اللَّيْلِ إلَاّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ

وقال الواحديُّ: «الدأب: الاجتهاد والتعب، يقال: صار فلان يومه كله يَدْأب فيه، فهو دائب، أي: اجتهج في سَيْرِه، هذا أصله في اللغة، ثم [يصير] الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله» .

وكذا قال الزمخشريُّ، قال:«مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله» .

ص: 53

ويقال: دأَب، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص:{سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} بالفتح.

قال الفرَّاء: «والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل، والنَّهْر والنَّهَر، والشَّأْم والشَّأَم.

وأنشد: [البسيط]

1349 -

قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ

وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا

{والذين مِن قَبْلِهِمْ} يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على {آلِ فِرْعَوْنَ} ، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبر قوله - بعد ذلك - {كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} ، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع، فقال:» فعلى هذا - أي: على كونها مرفوعة المحل؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في {والذين مِن قَبْلِهِمْ} مبتدأ، و «كَذَّبُوا» خبره «.

قوله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} قد تقدم أنه يجوز أن يكون خَبراً عن «الَّذِينَ» إن قيل: إنه مبتدأ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضاً أنه يكون تفسيراً للدأب، كأنه قيل: ما فعلوا، وما فعل بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتِنا، فهو جوابُ سؤال مقدر، وأن يكون حالاً، وفي قوله:{بِآيَاتِنَا} التفات؛ لأن قبله {مِّنَ الله} وهو اسم ظاهر.

والمراد بالآيات: المعجزات، والباء في «بِذُنُوبِهِمْ» يَجوز أن تكون سببيةً، أي: أخذهم بسبب ما اجترحوا، وأن تكون للحالِ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب، غير تائبين منها والذنب في الأصل - التِّلْو والتابع، وسُمِّيَت الجريمةُ ذَنْباً؛ لأنها يتلو، أي: يتبع عقابُها فاعلمه والذَّنُوب: الدَّلْو؛ لأنها تتلو الحبلَ في الجذبِ، وأصل ذلك من ذَنَب الحيوان؛ لأن يذنبه أي: يتلوه، يقال: ذنبه يذنبه ذنباً، أي: تبعه، واستعمل في الأخذ؛ لأن مَنْ بينَ يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يَقْدر على التخلُّص. قوله {شَدِيدُ العقاب} كقوله:{سَرِيعُ الحساب} [البقرة: 202]، أي: شديدٌ عِقَابه وقد تقدم تحقيقه.

ص: 54

قرأ الأخوان: «سَيُغلبُونَ» و «يُحْشَرُونَ» - بالغيبة - والباقون بالخطاب، وهما واضحان كقولك: قل لزيد: قم؛ على الحكاية، وقل لزيد: يقوم وقد تقدم نحو من هذا في قوله: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الله} [البقرة: 83] .

وقال أبو حيّان: - في قراءة الغيبة -: «الظاهر أنَّ الضميرَ للذين كفروا، وتكون الجملة - إذ ذاك ليست محكية ب» قل «بل محكية بقول آخَرَ، التقدير: قل لهم قولي: سيغلبون وإخباري أنهم سيقع عليهم الغَلَبةُ، كما قال:» قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سلف «فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيُغْلَبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيُغْلَبُون» .

وهذا الذي قاله سبقه إليه الزمخشريُّ، فأخذه منه، ولكن عبارة الزمخشريِّ أوضحُ، قال رحمه الله: فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين القراءتين - من حيث المعنى؟

قلت معنى القراءة بالتاء - أي من فوق - الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحَشْر إلى جهنَّمَ، فهو إخبار بمعنى: ستُغْلَبُون وتُحْشَرون، فهو كائن من نفس المتوعَّد به، وهو الذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخْبِرَ به من وعيدهم بلفظه، كأنه قال: أدِّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك: «سيُغْلَبون ويُحْشَرون» .

وجوَّز الفرَّاءُ وثعلبُ أن يكون الضمير في «سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ» لكفار قريش، ويُرَاد بالذين كفروا اليهود، والمعنى: قل لليهود: ستُغْلَبُ قريش. وهذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط.

قال مَكيٌّ: «ويقوِّي القراءة بالياء - أي من تحت - إجماعهم على الياء في قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ، لإجماع الحَرَميَّينِ وعاصم وغيرهم على ذلك» .

قال شهابُ الدينِ: ومِثْل إجماعهم على قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ} [الأنفال: 38] إجماعُهم على قوله {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} [النور: 30]، وقوله:{قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ} [الجاثية: 14]، وقال الفرّاء: «مَن قرأ بالتاءِ جعل

ص: 55

اليهود والمشركين داخِلينَ في الخطاب، ثم يجوز - في هذا المعنى - التاء والياء، كما تقول في الكلام: قل لعبد الله: إنه قائم، وإنك قائم» .

وفي حرف عبد الله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} ، ومَن قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وأنَّ الغَلَبَةَ تقع على المشركين، كأنه قيل: قل يا محمد لليهود سيُغْلَب المشركون، ويُحْشَرُونَ، فليس يجوز في هذا المعنى إلَاّ الياءُ لأن المشركين غيب.

فصل في سبب النزول

في سبب نزول الآية أوجه:

الأول: قال ابن إسحاق - ورواه سعيدُ بنُ جُبَيْر، وعكرمةُ عن ابن عباس -: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قريشاً ببدر، ورجع إلى المدينة، جمع اليهودَ في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشرَ اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، فأسلموا قبل أن يَنْزِل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نَبِيٌّ مُرْسَل، تجدون ذلك في كتابكم، فقالوا: يا محمد، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت قوماً أغماراً - لا عِلْم لهم بالحرب - فأصَبْتَ منهم فُرْصَةٌ، وإنا - والله - لو قاتلناك لعرفْتَ أنَّا نحن الناس، فأنزل الله تعالى:{ {قُل لِلَّذِينَ كفروا} ، يعني اليهود «سَتُغْلَبُونَ» تُهْزَمُونَ، «وَتُحْشَرُونَ» فِي الآخرة «إلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَادُ» أي: الفراش.

الثاني: قال الكلبيُّ عن ابن عباس - أيضاً -: إن يهود أهل المدينة - لما شاهَدُوا هزيمة المشركين يومَ بدر - قالوا: والله إن هذا لهو النبيُّ الأميُّ الذي بَشَّرَنَا به موسى، وفي التوراة نعته، وأنه لا يُرَدُّ عليه رأيه، وأرادوا اتباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى، فلما كان يوم أحد، ونُكِبَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ شَكُّوا، وقالوا: ليس هو ذلك، فغَلَبَ عليهمُ الشقاءُ فلم يُسْلِموا، وقد كان بينهم وبين أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عهدٌ إلى مدة فنقضوا ذلك العهدَ، وانطلق كعبُ بن الأشرف في ستين راكباً - إلى مكة يستنفرهم، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأنزل الله هذه الآية.

الثالث: أن هذه الآية واردة في جميع الكفار.

فصل في تكليف ما لا يطاق

استدلوا على [جواز] تكليف ما لا يطاق بهذه الآية، قالوا: لأن الله تعالى أخبر

ص: 56