المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بالمضمرات صاحبة الصدُور، و «ذو» جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها، - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٥

[ابن عادل]

الفصل: بالمضمرات صاحبة الصدُور، و «ذو» جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها،

بالمضمرات صاحبة الصدُور، و «ذو» جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها، نحو أصحاب النار، وأصحاب الجنة.

والمراد بذات الصدور: الخواطر القائمة بالقلب من الدواعهي، والصوارف الموجودة فيه.

واختلفوا ف يالوقف على هذه اللفظة، هل يوقف عليها بالتاء، أو بالهاء؟ .

فقال الأخفش، والفَرَّاءُ، وابن كيسان: الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف.

وقال الكسائي، والجَرْمِيّ: يوقف عليها بالهاء، لأنها تاء تأنيث، كهي في صاحبة، وموافقة الرسم أوْلَى؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء، وافقنا تلك اللغة، والرسم، بخلاف عكسه.

ص: 500

قرأ العامة {تَسُؤْهُمْ} ، بالتأنيث؛ مراعاةً للفظ «حَسَنَةٌ» .

وقرأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بالياء من تحت؛ لأنّ تأنيثها مجازيّ، وقياسه أن يقرأ «وَإن يصبكم سَيئةٌ» بالتذكير - أيضاً - لكن لم يبلغنا عنه في ذلك شيء.

والمس: أصله باليد، ثم يُسَمَّى كل ما يصل غلى الشيء ماسًّا، على سبيل التشبيه، يقال: فلان مسَّه العصب والنصب، قال تعالى:{وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] .

وقال الزمخشري: المسّ مستعار هاهنا بمعنى: الإصابة، قال تعالى:{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ} [التوبة: 50] .

وقال: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] .

والمراد بالحسنة - هنا: منفعة الدنيا، من صحة البدن، وحصول الخِصْب والغنيمة، والاستيلاء على الأعداء، وحصول الألْفَة والمحبة بين المؤمنين.

والمراد بالسيِّئَة: اضدادها، والسيئة: من ساء الشيء يَسيءُ - فهو سيِّءٌ، والأنْثَى سيئة - أي: قبح، ومنه قوله تعالى {سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] ، والسوء ضد الحسن، وهذه الآية من تمام وَصْف المنافقين.

فصل

قال ابو العباس: وردت الحسنةُ على خمسةِ أوجُه:

الأول: بمعنى: النصر والظفَر، قال تعالى:{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران:‌

‌ 120]

أي: نَصْر وَظفَر.

ص: 500

الثاني: بمعنى: التوحيد، قال تعالى:{مَن جَآءَ بالحسنة} [الأنعام: 160] أي: بالتوحيد.

الثالث: الرَّخَاء: قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} [النساء: 78] أي: رخاء.

الرابع: بمعنى: العاقبة، قال تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] أي بالعذاب قبل العاقبةِ.

الخامس: القول بالمعروف، قال تعالى:{وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} [الرعد: 22] أي: بالقول المعروف.

فصل

والسيئة - أيضاً - على خمسة أوجه:

الأول: بمعنى: الهزيمة - كما تقدم - كقوله: {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} [آل عمران: 120] أي: هزيمة.

الثاني: الشرك، قال تعالى:{وَمَن جَآءَ بالسيئة} [الأنعام: 160] أي: بالشرك.

الثالث: القحط، قال تعالى:{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78] أي: قحط، ومثله قوله:{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] .

الرابع: العذاب، قال تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة} [الرعد: 6] .

الخامس: القول الرديء، قال تعالى:{وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} [الرعد: 22] .

قوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ} أي: على طاعة الله، وعلى ما ينالكم فيها من شدة، وغَمٍّ، {وَتَتَّقُواْ} كلَّ ما نهاكم عنه، {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} .

قرأ نافع وابنُ كثير وأبو عمرو: «يَضُرْكُمْ» بكسر الضاد، وجزم الراء في جواب الشرط، من ضاره يضيره ويقال - أيضاً -: ضاره يضوره، ففي العين لغتان، ويقال ضاره يضيره ضَيْراً، فهو ضائر، وهو مضير، نحو: قلته أقوله، فأنا قائل، وهو مقول.

وقرأ الباقون: {يَضُرُّكُمْ} بضم الضاد، وتشديد الراء مرفوعة، وفي هذه القراءة أوجه:

الأول: أن الفعل مرتفع، وليس بجواب للشرط، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط، وذلك أنه على نية التقديم؛ إذ التقدير: لا يضركم إن تصبروا وتتقوا، فلا

ص: 501

يضركم، فحذف فلا يضركم الذي هو الجواب، لدلالة ما تقدم عليه، ثم أخر ما هو دليل على الجواب، وهذا تخريج سيبويه وأتباعه، إنما احتاجوا إلى ارتكاب ذلك، لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجزم، ومثله قول الراجز:

1599 -

يا أقْرَعُ بْنَ حَابسٍ يَا أقْرَعُ

إنَّكَ إنْ يُصْرَع أخُوكَ تُصْرَعُ

برفع «تصرع» الأخير -.

وكذلك قوله: [البسيط]

1600 -

وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ

يَقُولُ: لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ

برفع «يقول» - إلَاّ أن هذا النوع مطّرد، بخلاف ما قبله - أعني: كون فعل الشرط والجزاء مضارعين - فإن المنقول عن سيبويه، وأتباعه وجوب الجزم، إلا في ضرورة.

كقوله: [الرجز]

1601 -

...

...

... .

إنَّك إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ

وتخريجه هذه الآية على ما تقدم عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورةز

الوجه الثاني: أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدَّرة، وهي وما بعدها الجواب في الحقيقة، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفِع ليس إلَاّ كقوله تعالى:{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] .

والتقدير: فلا يضركم، والفاء حذفت في غير محل النزاع.

كقوله: [البسيط]

1602 -

مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا

وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلانِ

أي: فالله يشكرها، وهذا الوجه نقله بعضهم عن المبرد، وفيه نظر؛ من حيث إنهم، لما أنشدوا البيت المذكور، نقلوا عن المبرد أنه لا يُجَوَّز حَذْفَ هذه الفاء - ألبتة - لا ضرورة، ولا غيرها - وينقلون عنه أنه يقول: إنما الرواية في هذا البيت: [البسيط]

1603 -

مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ

وردوا عليه بأنه إذا صحَّت روايةٌ، فلا يقدح فيها غيرُها، ونقله بعضُهم عن الفراء والكسائي، وهذا أقرب.

الوجه الثالث: أن الحركة حركة إتباع؛ وذلك أن الأصل: «لَا يَضْرُرْكُمْ» . بالفك وسكون الثاني جَزْماً، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخر فعل سكن ثانيهما - جَزْماً، أو وَقْفاً - فللعرب فيه مذهبان:

ص: 502

الجزم: وهو لغة تميم.

والفك: وهو لغة الحجاز.

لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك، فاضطررنا إلى تحريك المِثْل الثاني، فحَرَّكْناه بأقرب الحركات إليه، وهي الضمة التي على الحرف قبله، فحرَّكناه بها، وأدْغمنا ما قبله فيه، فهو مجزوم تقديراً، وهذه الحركة - في الحقيقة - حركة إتباع، لا حركة إعراب، بخلافها في الوجهين السابقين، فإنها حركة إعراب.

واعلم أنه متى أدغم هذا النوع، فإما أن تكون فاؤُه مضمومةً، أو مفتوحةً، أو مكسورةً، فإن كانت مضمومة - كالآية الكريمة.

وقولهم: مُدَّ - ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام:

الضم للإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين، فتقول: مُدَّ ومُدُّ ومُدِّ.

وينشدون على ذلك قول الشاعر: [الوافر]

1604 -

فغُضّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ

فَلَا كَعْباً بَلَغْتَ وَلَا كِلَابَا

بضم الضاد، وفتحها، وكسرها - على ما تقرر - وسيأتي أن الآية قُرِئَ فيها بالأوُجه الثلاثةِ.

وإن كانت فاؤه مفتوحةً، نحو عَضَّ، أو مكسورة، نحو فِرَّ، كان في اللام وجهان: الفتح، والكسر؛ إذ لا وَجْهَ للضمِّ، لكن لك في نحو فِرَّ أن تقول: الكسر من وجهين: إما الإتباع، وإما التقاء الساكنين، وكذلك لك في الفتح - نحو عَضَّ - وجهان - أيضاً -: إما الإتباع، وإمَّا التخفيف.

هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب، فأما إذا اتصل به ضمير الغائب - نحو رُدَّهُ - ففيه تفصيل ولغات ليس هذا موضعها.

وقرأ عاصم - فيما رواه المفضَّل -: بضم الضاد، وتشديد الراء مفتوحة - على ما تقدم من التخفيف - وهي عندهم أوجه من ضم الراء.

وقرأ الضحاك بن مزاحم: «لا يَضُرِّكُمْ» بضم الضاد، وتشديد الراء المكسورة - على ما تقدم من التقاء الساكنين.

ص: 503

وكأن ابْنُ عَطِيَّةَ لم يحفظها قراءةً؛ فإنه قال: فأما الكسر فلا أعرفه قراءةً.

وعبارة الزجَّاج في ذلك متجوَّز فيها؛ إذْ يظهر من روح كلامه أنها قراءة وقد بينا أنها قراءة.

وقرأ أبيّ: «لا يَضْرُرْكُمْ» بالفكّ، وهي لغة الحجاز.

والكيد: المكر والاحتيال.

وقال الراغب: هو نوع من الاحتيال، وقد يكون ممدوحاً، وقد يكون مذموماً، وإن كان استعماله في المذموم أكثر.

قال ابْنُ قُتَيْبَةَ: وأصله من المشقة، من قولهم: فلان يكيد بنفسه، أي: يجود بها في غمرات الموت، ومشقاته.

ويقال: كِدْتُ فلاناً، أكيده - كبعته أبيعُه.

قال الشاعر: [الخفيف]

1605 -

مَنْ يَكِدْنِي بسَيِّءٍ كُنْتُ مِنْهُ

كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ

و «شَيْئاً» منصوب نصب المصادر، أي: شيئاً من الضرر، وقد تقدم نظيره.

ومعنى الآية: أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى، واتقى عما نهى الله عنه، كان في حِفْظ الله، فلا يضره كيد الكائدين، ولا حِيَلُ المحتالين.

قوله: {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قراءة العامة {يَعْمَلُونَ} - بالغيبة، وهي واضحة.

وقرأ الحسن بالخطاب، إما على الالتفات، والتقدير: إنه عالم، محيط بما تعملونه من الصبر والتقوى، فيفعل بكم ما أنتم أهله، وإما على إضمار: قُل لهم يا محمد.

وإنما قال: {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ولم يقل: إنَّ اللهَ محيط بما يعملونَ؛ لأنهم يُقدِّمون الأهم، والذي هُمْ بشأنه أعْنَى، وليس المقصود - هنا - بيان كونه تعالى عالماً، بل بيان أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى، ومجازيهم عليها، فلا جرم قدّم ذكر العمل.

ص: 504

العامل في «إذْ» مضمَر، تقديره: واذكر إذْ غدوت، فينتصب المفعول به لا على الظرف، وجوَّز أبو مسلم أن يكون معطوفاً على {فِئَتَيْنِ} في قوله:{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمران: 13] أي: قد كان لكم آية في فئتين، وفي إذْ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يعرَّج عليه.

وقال بعضهم: العامل في «إذْ» «محيط» تقديره: بما يعملون محيط إذْ غَدَوْتَ.

قال بعضهم: وهذا لا يَصحّ؛ لأن الواو في (وَإِذْ) يمنع في عمل (مُحِيطٌ) فيها.

والغُدوّ: الخروج أول النهار، يقال: غدا يغدو، أي: خرج غدوة، وفي هذا دليل على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن المفسِّرين أجمعوا على أنه إنما خرج بعد أن صَلَّى الجمعة.

ويُسْتَعْمَل بمعنى: «صار» عند بعضهم، فيكون ناقصاً، يرفع الاسم، وينصب الخبر، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم َ:«لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً، وتَرُوحُ بِطَاناً» .

قوله: «من أهلك» متعلق ب «غَدَوْتَ» ، وفي «مِنْ» وجهان:

أحدهما: أنها لابتداء الغاية، أي: من بين أهلك.

قال أبو البقاء: «وموضعه نصب، تقديره فارقت أهلَك» .

قال شهابُ الدِّيْنِ: «وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب، ولا تفسير معنى؛ فإن المعنى على غير ما ذكر» .

الثاني: أنها بمعنى: «مع» أي: مع أهْلك، وهذا لا يساعده لفظ، ولا معنى.

قوله: «تبوئ» يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل: «غَدَوْتَ» ، وهي حال مقدرة، أي: قاصداً تَبْوئةَ المؤمنين؛ لأن وقت الغدو ليس وقتاً للتبوئة، ويُحْتَمَل أن تكون حالاً مقارنة؛ لأن الزمان متسع.

ص: 505

و «تبوئ» أي تُنزل، فهو يتعدى لمفعولين، إلى أحدهما بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، وقد يُحْذَف - كهذه الآية - ومن عدم الحذف قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] وأصله من المباءة - وهي المرجع -.

قال الشاعر: [الطويل]

1606 -

وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مُنْزِلاً

بِشَرْقيٍّ أجْيَادِ الصَّفَا وَالْمُحَرَّمِ

وقال آخر: [مجزوء الكامل]

1607 -

كَمْ صَاحِبٍ لِيَ صَالِحٍ

بَوَّأتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا

وقد تقدم اشتقاقه.

وقيل: اللام في قوله «لإبراهيم» مزيدة، فعلى هذا يكون متعدياً لاثنين بنفسه.

و «مقَاعِدَ» جمع مَقْعَد، والمراد به - هنا - مكان القعود، و «قعد» قد يكون بمعنى:«صار» في المثل خاصة.

قال الزمخشري: «وقد اتُّسِعَ في قَامَ، وقَعَدَ، حتى أجْرِيَا مُجْرَى صار» .

قال أبو حيان: أما إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار، فقال بعض أصحابنا: إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل قولهم: شَحَذَ شَفْرَتَه حتَّى قَعَدَتْ كأنَّهَا حَرْبَةٌ، ولذلك نُقِد على الزمخشري تخريجُه قوله تعالى:

{فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} [الإسراء: 22] بمعنى تصير؛ لأنه لا يَطَّرِد إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار.

قال شهابُ الدين: «وهذا - الذي ذكره الزمخشري - صحيح، من كون قَعَد بمعنى: صار في غير ما أشار إليه هذا القائل؛ حكى أبو عمر الزاهد - عن ابن الأعرابي - أن العرب تقول: قعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً، أي: صار» .

ثم قال أبو حيان: وأما إجراء قام مُجْرَى صار، فلا أعلم أحداً عدَّها في أخَوَاتِ «كان» ، ولا جعلها بمعنى «صار» إلا ابن هشام الخَضْراوي، فإنه ذكر - في قول الشاعر:[الوافر]

ص: 506

1608 -

عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ

كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ

أنها من أفعال المقاربة.

قال شهابُ الدين: «وغيرُه من النحويين من يجعلها زائدةً، وهو شاذٌّ، أيضاً» .

وقرأ العامة: «تبوّئ» بعدَّوْه بالتضعيف، وقرأ عبد الله:«تُبْوِئ» ، بسكون الباء فعدَّاه بالهمزة، فهو مضارع أبْوَأ - كأكرم.

وقرأ يحيى بن وثَّاب «تُبْوِي» كقراءة عبد الله، إلا أنه سَهَّل بإبدالها ياءً، فصار لفظه كلفظ: يُحيي.

وقرأ عبد الله: للمؤمنين - بلام الجر - كقوله: «وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت» وقد تقدم أن في هذه اللام قولين، والظاهر أنها معدية؛ لأنه قبل التضعيف، والهمزة غيرُ متعدٍّ بنفسه. ويحتمل أن يكون قد ضمَّنه - هنا - تهيِّئ، وترتِّب.

وقرأ الأشهب «مقاعد القتال» - بإضافتها للقتال - واللام في «لِلْقِتَالِ» - في قراءة الجمهور - فيها وجهان:

أوّلهما: - وهو أظهر -: أنها متعلقة ب «تبوئ» على أنها لام العلة.

والثاني: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لِ «مَقَاعِدَ» أي: مقاعد كائنة، ومُهَيَّأة للقتال، ولا يجوز تعلقها ب «مقاعد» ، وإن كانت مشتقة؛ لأنها مكان، والأمكنة لا تعمل.

فصل

كيفية النظم أنه - تعالى - لما قال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120] أتبعه ببيان أن الصبر يؤدي إلى النُّصْرة، والمعونة، ودَفْع ضرر العدو، وأن عدم الصبر يؤدي إلى خلاف ذلك، فقال:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} يعني: يوم أُحُد، كانوا كثيرين، مستعدِّين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم َ انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين، غير مستعدين للقتال، فلما أطاعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم َ غَلَبُوا.

وفيه وجه آخر، وهو أنه لما نهى عن اتخاذ المنافقين بطانة، بيَّن - هنا - العلة في ذلك، وهي أن انكسارَكم يوم أحُد، إنما حصل بسبب تخلُّف عبد الله بن أبَيِّ ابْن سَلُول، المنافق.

ص: 507

فصل

اختلفوا في هذا اليوم.

فقال ابن عباس، والسُّدِّيّ، وابنُ إسْحَاقَ، والرَّبِيعُ، والأصم، وأبو مسلم، وأكثر المفسرين: إنه يوم أُحُد.

وقال الحسنُ: هو يوم بدر.

وقال مجاهد ومقاتل: هو يوم الأحزاب، واحتج الأولون بوجوه:

الأول: أن أكثر العلماء بالمغازي ذكروا أن هذه الآية نزلت في واقعة أحُد.

والثاني: أنه - تعالى - قال بعد هذه الآية: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] ، والظاهر أنه معطوف على ما تقدم، وحقُّ المعطوف أن يغاير المعطوفَ عليه، وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم َ يوم أحُد، لا يوم الأحزاب، فكانت قصة أحُد ألْيَقَ بهذا الكلام، لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله:{وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ} [آل عمران: 120] .

الثالث: أن الانكسار كان في يوم أُحُد أكثر منه في يوم الأحزاب، لأن في يوم أُحُد قَتَلُا جَمْعاً كثيراً من أكابر الصحابة، ولم يتفق ذلك في يوم الأحزاب، فكان حمل الآية على يوم أحُد أوْلَى.

الرابع: أن ما بعده إلى قريب من آخر السورة متعلق بحرب أحد.

فصل

قال مُجَاهِدٌ، والكَلْبِيُّ، والوَاقِدِي: غَدَا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من منزل عائشة، فمشى على رجليه إلى أحد، يَصُفُّ أصحابَه للقتال، كما يقوم القداح، وروي أن المشركين نزلوا بأحُد يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بنزولهم، استشار أصحابه، ودعا عبدَ الله

ص: 508

ابْن أبيّ ابْنَ سلول - ولم يدعه قط قبلها -، فاستشاره، فقال عبد الله بن أبَيّ، وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا عنها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل عدو علينا إلا أصبْنَا منه، فدعهم، فإن أقاموا أقاموا بِشَرِّ موضع، وإن دخلوا قاتلهم الرجالُ في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين، فأعْجَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ هذا الرأيُ.

وقال آخرون: اخرج بنا إلى هؤلاء الأكْلُب؛ لئلا يظنّوا أنا قد خفناهم وضعفنا، فقال صلى الله عليه وسلم َ:«إنِّي رَأيْتُ فِي مَنَامِي بَقَرَةً تُذْبَحُ حَوْلِي، فأوَّلْتُها خَيْراً، وَرَأيْتُ فِي ذُبَابَةِ سَيْفِي ثَلْماً، فَأوَّلْتُه هَزِيمَةً ورايت كأنِّي أدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْع حَصِينَة، فأوَّلْتُها المَدِينَةَ، فَإنْ رَأيْتُمْ أن تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ، وتدعوهُمْ - وَكَانَ يُعْجِبُهُ أنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فِيُقَاتَلُوا في الأزقَّة - فَقَالَ رِجالٌ مِنَ المُسْلمين فَاتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وأكْرَمَهُمُ اللهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أحُدٍ: اخْرُجْ بِنَا إلَى أعْدائِنَا، فَلَمْ يَزَالُوا برسول اللهِ صلى الله عليه وسلم َ حَتَّى دَخَلَ، فَلَبَس لأمَتهُ، فَلَمَّا رَأوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلَاحَ نَدِمُوا، وَقَالُوا: بِئْسَ ما صنعنا، نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم َ والوَحْيُ يَأتِيهِ!!! فَقُامُوا، واعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وَقَالُوا: اصْنَعْ ما رأيت، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم َ لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أنْ يَلْبَسَ لأمَتَهُ، فَيَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ - وَكَانَ قَدْ أقَامَ المُشرِكُون بأحُدٍ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الخَمِيسِ - فَرَاحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم َ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَمَا صَلى بِأصْحَابِهِ الجمعة، وقد مَاتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم َ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ، فَأصْبَحَ بالشِّعْب من أحُد يوم السَّبْتِ للنصف من شَوَّال سنة ثلاثٍ من الهجرة، فَمَشَى عَلَى رجْلَيْهِ، وَجَعَلَ يصُفُّ أصحابَه لِلْقِتَالِ كَمَا تُقَوَّمُ القِدَاحُ، إنْ رَأى صدْراً بَارِزاً تأخَّر، وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرُّماة، وقال: ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا، وقال صلى الله عليه وسلم َ لأصحابه: اثْبُتُوا فِي هَذَا المَقَامِ، فَإذَا عاينوكم وَلَّوْكم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين، ولا تخرجوا من هذا المقام» .

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لما خالف رأي عبد الله بن أبي شق ذلك عليه، وقال: أطاع الولدان وعصاني، ثم قال لأصحابه: إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم، وقد واعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءه فانهزموا، فيتبعوكم، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم َ، فلما التقى الفريقان انهزم عدو الله بالمنافقين، وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً، فانهزم عبد الله بن أبي بثلاثمائة، وبقيت سبعمائة، فذلك قوله تعالى:«إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا» [آل عمران: 122] .

أي: أن تضعفا، وتجبُنا، وتتخلفا.

والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وكان عليه السلام قد خرج في ألف رجل، فانخزل عبد الله بن أبي بثلث الجيش، وقال: نقتل أنفسنا وأولادنا! فتبعهم أبو جابر السُّلمِي، وقال: أنشدكم الله في نبيكم، وفي

ص: 509

أنفسكم، فقال عبد الله بن أبَيّ:{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاّتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167] ، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبيّ، فعصمهم الله، فلم ينصرفوا، فذكرهم الله عظيم نعمته. فقال عز وجل {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا والله وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] ناصرهما، وحافظهما، ثم قواهم الله، حتى هزموا المشركين، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم، طلبوا المدبرين، فأراد الله أن يعظهم عن هذا الفعل؛ لئلا يقدموا على مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم َ، وليعلموا أن نصرهم غنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم، فنزع الله الرُّعب من قلوب المشركين، فكَرَّ عليهم المشركون، وتفرق العسكر ن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كما قال تعالى:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] ، وشُجَّ وَجْه الرسول صلى الله عليه وسلم َ، وكُس~رَت رَبَاعِيَتهُ، وشَلَّتْ يد طلحة دونه، ولم يَبْقَ معه إلا أبو بكر، وعليّ، والعباسُ، وطلحة وسعد، ووقعت الصيحة في العسكر بأن محمداً صلى الله عليه وسلم َ قد قُتِل، ثم نودي على الأنصار بأن هذا رسول الله، فرجع إليه المهاجرون والأنصار، وكان قد قُتِل منهم سبعون، وأكْثر فيهم الجراح، فقال صلى الله عليه وسلم َ:

«رحم الله رجلاً ذَبَّ عن إخوانه، وشدَّ على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى» ، وكان الكفار ثلاثة آلاف، والمسلمون ألفاً - أو أقل - رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، وبقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم َ سبعمائة، وأعانهم الله حتى هزموا الكفارَ، ثم لمَّا خالفوا أمرَ الرسول صلى الله عليه وسلم َ، واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم، وانهزموا.

قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: سميع لأقوالكم، «عليم» بضمائركم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم َ لما شاور أصحابه في تلك الحرب، فقال بعضهم: أقم بالمدينة، وقال آخرون: اخرج إليهم، فكان لكل أحد غرض في نفسه، فمن موافق ومن منافق، فقال تعالى:{أنا سميع لما تقولون عليم بما تسرون} .

ص: 510

قوله: {إِذْ هَمَّتْ} في هذا الظرف أوجه:

أحدها: أنه ظَرْف ل {غَدَوْتَ} .

الثاني: أنه بدل من {وَإِذْ غَدَوْتَ} ، فالعامل، فيه هو العامل في المُبْدَل منه.

الثالث: أنه ظرف ل {تُبَوِّىءُ} .

وهذه الأوجه تحتاج إلى نقل تاريخي في اتحاد الزمانين.

ص: 510

الرابع: أن الناصب له «عَليمٌ» وحده - ذكره أبو البقاء.

الخامس: أن العامل فيه إما «سَمِيعٌ» ، وإما «عَلِيمٌ» على سبيل التنازع، وتكون المسألة - حينئذ - من إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأضمر في الثاني.

قال الزمخشري: أو عمل فيه معنى: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

قال أبو حيان: «وهذا غير محرَّر؛ لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقال: عمل فيه معنى سميع، أو عليم، وتكون المسألة من التنازع» .

قال شهاب الدين: «لم يرد الزمخشري بذلك إلا ما ذكرناه من إرادة التنازع، ويصدق أن يقول: عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور؛ لا أنهما عملا فيه معاً، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدعاً قولاً؛ إذ الفراء يرى ذلك، ويقول - في نحو: ضربتُ وأكرمتُ زيداً: إن زيداً منصوب بهما، وإنهما سُلِّطَا عليه معاً» .

فإن قيل: إذا كان الهمُّ العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل، والترك - وذلك معصية - فكيف يليق أن يقال:{والله وَلِيُّهُمَا} ؟

فالجواب: أن الهَمَّ قد يُرادُ به الكفر، وقد يراد به: حديث النفس، وقد يراد به: ما يظهر من القول الدالِّ على قوة العدو وكثرة عدده، وأيُّ شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف صاحبه بأنه هَمَّ أن يفشل، من حيث ظهر منه ما يوجب ضَعْف القلب، وإذا كان كذلك، فلا يدل على أن المعصية وقعت منهما، وبتقدير أن يقال ذلك، فيكون من باب الصغائر؛ لقوله:{والله وَلِيُّهُمَا} .

وقيل: الهَمّ دون العزّم، وذلك أن أول ما يمر بقلب الإنسان يُسَمَّى: خاطراً، فإذا قويَ سُمِّيَ: حديث نفسٍ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ: هَمًّا، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ: عزماً، ثم بعده إما قول، أو فعل.

وبعضهم يُعَبِّر بالهَم عن الإرادة، تقول العرب: هممت بكذا، أهُمَ به - بضم الهاء - ويقال: همت - بميم واحدة - حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً، كما قالوا: مِسْت وظلت، وحست - في مَسِسْتُ وظَلِلْتُ وحَسِنْتُ - وهو غير مقيس.

والهم - أيضاً -: الحُزْن الذي يُذِيب صاحبه، وهو مأخوذ من قولهم: همت الشحم - أي: أذبته، والهم الذي في النفس قريب منه، لأنه قد يؤثر في نفس الإنسان، كما يؤثر الحُزْن.

ولذلك قال الشاعر: [الطويل]

1609 -

وَهَمُّكَ مَا لَمْ تُمْضِهِ لَكَ مُنْصِبٌ

ص: 511

أي: إنك إذا هممت بشيء، ولم تفعله، وجال في نفسك، فأنت في تعب منه حتى تقضيَه.

قوله: {أن تَفْشَلَا} متعلق ب «هَمَّتْ» ؛ لأنه يتعدى بالباء، والأصل: بأن تفشلا، فيجري في محل «أن» الوجهان المشهوران.

والفشل: الجبن والخَوَر.

وقال بعضهم: الفشل في الرأي: العجز، وفي البدن: الإعياء، وعدم النهوض، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر، والفعل منه فَشِل - بكسر العين - وتفاشل الماء - إذا سال -.

وقرأ عبد الله: والله وليهم، كقوله:{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] .

قوله: {وَعَلى الله} متعلق بقوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ} ، قدم للاختصاص، ولتناسب رؤوس الآي. وتقدم القول في نحو هذه الفاء.

قال أبو البقاء: «دخلت الفاء فمعنى الشرط، والمعنى: إن فشلوا فتوكلوا أنتم، أو إنْ صعب الأمر فتوكلوا» .

قال جابر: نزلت هذه الآية - {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا} - فينا - بني سلمة، وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول:{والله وَلِيُّهُمَا} .

قال ابنُ الخَطِيبِ: «ومعنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمَّة، ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى» .

والتوكُّل: تفعُّل، إمَّا من الوكالة - وهي: تفويض الأمر إلى من يوثق بحُسْن

ص: 512

تدبيره، ومعرفته في التصرُّف - وإمَّا من وكل أمره إلى فلان، إذا عجز عنه.

قال ابنُ فارس: «هو إظهار العَجْز، والاعتماد على غيرك» ، يقال: فلان وكله يَكِلُه، أي: عاجز يكلُ أمره إلى غيره، والتاء في تُكَلَة بدل من الواو، كتخمة وتجاه وتراث.

فصل

اختلف العلماء في حقيقة التوكل، فسئل عنه سَهْل بن عبد الله، فقال: قالت فرقة: هو الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين.

وقال قوم: التَّوكُّل: ترك الأسباب، والركون إلى مُسَبِّب الأسباب، فإذا شغله السبب عن المسبب، زال عنه اسم التوكُّل.

قال سهل: من قال: التوكل يكون بتَرك السبب، فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ؛ لأن الله يقول:{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبا} [الأنفال: 69] ، والغنيمة اكتساب، وقال صلى الله عليه وسلم َ:«إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ» .

ص: 513

في كيفية النظم وجهان:

أحدهما: أنه - تعالى - لمَّا ذكر قصةَ أحُد أتبعها بقصة بدر؛ لأن المشركين كانوا في غاية القوة، ثم سلط المسلمين عليهم، فصار ذلك دليلاً على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى غرضه إلا بالتوكل على الله، ويكون ذلك تأكيداً لقوله:{وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا} [

ص: 513

آل عمران: 120] ، وقوله:{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [آل عمران: 122] .

الثاني: أنه - تعالى - حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل، ثم قال:{والله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [آل عمران: 122] .

ثعني: من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به الفشل؟ ثم أكَّد ذلك بقصة بدر؛ فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف، ولكن لمَّا كان الله تعالى ناصراً لهم، فازوا بمطلوبهم، وقهروا خصومهم، فهذا وجه النظم. والنصر: العون، نصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم َ.

قوله: {بِبَدْرٍ} متعلق ب {نَصَرَكُمُ} ، وفي الباء - حينئذ - قولان:

أحدهما: - وهو الأظهر -: أنها ظرفية، أي: في بدر، كقولك: زيد بمكة، أي: في مكة.

الثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة، فمحلُّها النصب على الحال، أي: مصاحبين لبدر، و «بدر» : اسم لماء بين مكة والميدنة، سُمِّي بذلك لصفائه كالبدر.

وقيل: لاستدارته وقيل: اسم بئر لرجل يقال له: بدر، وهو بدر بن كلدة، قاله الشعبي، وأنكر عليه بذكر الله - تعالى - مِنَّتَه عليهم بالنُّصْرَةِ يوم بدر وقيل: إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه. قاله الواقدي وشيوخه.

وقيل: اسم وادٍن وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة، لثمانية وعشرين شهراً من الهجرة.

قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} في محل نصب على الحال من مفعول: {نَصَرَكُمُ} و {أَذِلَّةٌ} جمع ذليل وهو جمع قلة؛ إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة، و «فعيل» الوصف - قياس جمعه على فعلاء، كظريف وظرفاء، وشريف وشرفاء، غلا أنه تُرِك في المضعَّف؛ تخفيفاً ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذُللاء وخُللاء من الثقل؟

فإن قيل: قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين} [المنافقون: 8] فما معنى قوله: {وَأنْتُمْ أَذِلَّةٌ} ؟ فالجواب من وجوه:

الأول: أنه بمعنى: القلة وضعف الحال، وقلة السلاح والمال، وعدم القدرة على مقاومة العدو، وأن نقيضه العِز، وهو القوة والغلبة.

رُوِيَ أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن فيهم إلا فرس واحد، وأكثرهم رَجَّالة، وربما كان الجمع منهم يركبون جَمَلاً واحداً، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس، مع الأسلحة الكثيرة، والعُدَّة الكاملة.

قال القرطبيُّ: واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا

ص: 514

أعزَّة، لكن نسبتهم إلى عدوهم، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض، تقتضي عند التأمل ذِلّتَهُمْ، وأنهم يغلبون.

الثاني: لعل المراد: أنهم كانوا أذلة في زَعْم المشركين، واعتقادهم؛ لأجل قلة عددهم، وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله - تعالى - عن الكفار قولهم:{لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] .

الثالث: أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار بمكة في قوتهم، وثروتهم، وثروتهم، إلى ذلك الوقت، ولم يَبْقَ للصحابة عليهم استيلاء، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم، فلهذا السبب كانوا يهابونهم ويخافونهم.

ثم قال: {فاتقوا الله} أي: في الثَّباتِ مع رسوله.

{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} بتقواكم ما أنعم الله به عليكم ممن نصرته، أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام؛ لأنه سبب له.

قوله: {إذْ تَقُولُ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه منصوب بإضمار اذكر.

الثاني: إن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر، فالعامل في «إذْ» قوله:{نَصَرَكُمُ الله} والتقدير: إذ نصركم الله ببدر، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين.

وإن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد، فيكون بَدَلاً من قوله:{إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ} [آل عمران: 122] ، فهذه ثلاثة أوجه.

فصل

رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ: أنه يوم أُحُد، لوجوه:

أحدها: أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم َ بألف من الملائكة لقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة} [الأنفال: 9] ، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف؟

وثانيها: أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً، وما يقرب منه، والمسلمون كانوا على الثلث منهم؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين، فلا جرم، وقعة الهزيمة على الكفار، فكذلك يوم اُحُد، كان عدد المسلمين ألفاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة

ص: 515

آلاف من الملائكة؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ، مع زيادة عدد المسلمين، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم، كما هزموهم يوم بدر، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم.

وثالثها: أنه قال في هذه الآية: {وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] .

والمراد: ويأتيكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر، فإنهم لم يأتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء.

فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم َ وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن إنزال الآلاف الخمسة، كان مشروطاً بأن يصبروا، ويتَّقوا في المغانم، فَخَالَفُوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم َ فلما فات الشرط، فات المشروط، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال.

الثاني: أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت.

روى الواقدي عن مجاهد قال: حضرت الملائكة يومَ أُحُد، ولكنهم لم يقاتلوا، ورُوِيَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم َ أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر، فقُتِل مُصْعَبٌ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«تقدم يا مصعب» ، فقال الملك: لستُ بمُصعَب، فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم َ أنه مَلَك أمِدَّ به.

وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أرمي السهمَ يومئذٍ، فيرد علي رجل أبيض، حسن الوجه، وما كنت أعرفه، وظننت أنه مَلَك.

فعلى هذا القول يكون قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} مُعْتَرِضاً بين الكلامين.

وقال قتادة: أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة، على ما قال:{فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة} [الأنفال: 9] ، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسةَ آلاف، كما قال هاهنا:{بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف} [آل عمران: 125] ، فصبروا يوم بدر واتقوا، فأمدم الله بخمسة آلاف كما وعد، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب -

ص: 516

في ذلك اليوم - أكثرَ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً، غير مشورط بشرطٍ، فوجب أن يحصل، وإنَّما حصل يوم بدر، لا يوم أُحُد، وليس لأحد أن يقول: إنهم نزلوا، لكن ما قاتلوا؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد، بل لا بدّ من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر، لا يوم أُحُد.

وأما الجواب عن أدلة الأولين، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف، فالجواب من وجهين:

الأول: أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم َ بألف، ثم زاد فيهم ألفين، فصاروا ثلاثةَ آلاف، ثم زاد ألفين آخرين، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صلى الله عليه وسلم َ قال لهم:«ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا: بلى فقال لهم: إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ» .

الثاني: أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة اطلأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير، فخافوا، وشَقَّ عليهم ذلك، لقِلَّة عددهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ، فاصتغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف.

وأما قولهم: إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد، وأما التمسك بقوله:{وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ} فالجواب: أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام ُ وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم، واجتمعوا، وقصدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم َ، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة.

فصل

قال القرطبيُّ: «نزول الملائكة سبب من أسباب النصر، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق، فلْيَعْلَق القلبُ بالله، ولْيَثِقْ به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون} [يس: 82] ، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلا} [الأحزاب: 62] ، ولا يقدح ذلك في التوكُّل، وهو رَدٌّ على مَنْ قال: إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء، لا الأقوياء؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ وأصحابه كانوا أقوياءَ، وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح» .

ص: 517

فصل في اختلافهم في عدد الملائكة

اختلفوا في عدد الملائكة، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد؛ فقالوا: الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى، ومجيء الكفار من فورهم، فلا بد من التغاير، وهذا القول ضعيف، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط.

ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد.

فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر، كان عدد الملائكة تسعة آلاف؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف، وذكر خمسة آلاف، فالمجموع تسعة آلاف.

وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة، فيكون المجموع ثمانية آلاف.

وعلى القول الثاني: وهو إدخال الناقص في الزائد، فإن حملنا الآية على قصة بدر، فقالوا: عدد الملائكة: خمسة آلاف؛ لأنهم وُعِدوا بالألف، ثم ضُمَّ إليه الألفان، فصاروا ثلاثةً، ثم ضُمَّ إليه ألفان، فلا جرم، وعدوا بخمسة آلاف.

وقد رُوِيَ أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف، فقيل: إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد ان يُمِدَّ المشركين، فشَقَّ ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ لهم:

«ألَنْ يَكْفِيَكُمْ» يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ «.

وإن حملناها على قصة أُحُد، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف؛ لأن الخمسةَ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا، ويأتوهم من الفور.

فصل

أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفارَ.

قال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال، ولا يقاتلون، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين.

وقال الحسن: هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة.

وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار، واحْتَجَّ عليه بوجوه:

الأول: أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة، ثم رفعها إلى السماء، فجعل عاليها سافلَها، فإذا حضر هو يوم بدر، فأيُّ حاجة

ص: 518

إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟

الثاني: أن أكابر الكفار كانوا مشهورين، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.

الثالث: أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس، أوْ لا، فإن رآهم الناس، فإما أن يروهم في صورة الناس، أو في صورة غيرهم، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى:{وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِم} [الأنفال: 44] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق؛ لأن من شاهد الجن، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا، وحزوا الرؤوس، وشقُّوا البطون، وأسقطوا الكفار عن الأفراس، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين، وهذا يكون من أعظم المعجزات، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه.

الرابع: أن الملائكة الذين نزلوا، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم، ومعلوم أن الأمر ما ان كذلك، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول.

والجواب: أن نص القرآن ناطق بِها، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر لما رجعت قريش من أحد، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا، ويقولون: لم نَرَ الخيل البُلْق، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر.

وقال سعدُ بن أبي وقاص: رأيتُ عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بِيضٌ، ما رأيتهما قبل، ولا بعد.

قال سعدُ بن إبراهيمَ: يعني: جبريل وميكائيل.

وهذه الشبهة إنما تليق بمن يُنكر القرآن والنبوة، فأما من يُقِرُّ بهما، فلا يليق به شيءٌ من هذا، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله - تعالى - زالت؛ فإنه - تعالى - يفعل ما يشاء؛ لأنه قادر على جميع الممكنات.

فصل

اختلفوا في كيفية نُصْرة الملائكة.

ص: 519

فقال بعضهم: بالقتال مع المؤمنين.

وقال بعضهم: بل بتقوية نفوسهم، وإشعارهم بأن النُّصْرة لهم، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار.

وقال أكثر المفسرين: إنهم لم يقاتلوا في غير بدر.

قوله: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} معنى الكفاية: هو سَدُّ الخلة، والقيام بالأمر.

يقال: كَفَاهُ أمر كذا، أي: سَدَّ خلته.

والإمداد: إعانة الجيش بالجيش، وهو في الأصل إعطا ءالشيء حالاً بعد حال.

قال المفضَّل: ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمَدَّه يُمِدُّه، وما كان على جهة الزيادة، قيل فيه: مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر} [لقمان: 27] .

وقيل: المَدُّ في الشر، والإمداد في الخير؛ لقوله تعالى:{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} [مريم: 79] وقال في الخير: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف} [الأنفال: 9] وقال: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين} [الإسراء: 6] .

قوله: {أَن يُمِدَّكُمْ} فاعل، {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} أي: ألن يكفيكم إمدادُ ربكم، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار، وجيء ب «لن» دون «لا» ؛ لأنها أبلغ في النفي، وفي مصحف أبيّ «الا» بدون «لن» وكأنه قصد تفسير المعنى.

و «بثلاثة» متعلق ب {يُمِدَّكُمْ} .

وقرأ الحسن البصريّ «ثلاثة آلافٍ» - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك «بخمسة آلافٍ» كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف، وهي ضعيفة؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال.

قال ابن عطية: ووجْه هذه القراءة ضعيف؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول، والهاء إنما هي أمارة وقف، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم: أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ، حتى نشأت عنها ألِفٌ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت.

ومن ذلك في الشعر قوله: [الكامل]

1610 -

يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ

زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ

ص: 520

يريد: «ينبع» ، فمطل ومثله قول الآخر:[الرجز]

1611 -

أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ

يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ

يريد: «الكلكل» ، فمطل ومثله قول الشاعر:[الوافر]

1612 -

فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى

وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ

يريد: بمنتزح.

قال أبو الفتح: «فإذا جاز أن يعترض هذا [الفتور] والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما اثنان» .

قال أبو حيان - بعد نقل كلام ابن عطية -: «وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله: لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل، وإنما نظير هذا قولهم: ثلاثة اربعة، أبدل التاء هاء، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها، وحذف الهمزة، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل» .

وقرئ شاذًّا - أيضاً -: بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن، أهي تاء التأنيث التي كانت، فسكنت فقط، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ ولا طائل تحته.

قوله: {مِّنَ الملاائكة} يجوز أن تكون «مِنْ» للبيان، وأن تكون «مِنْ» ومجرورها في

ص: 521

موضع الجر صفة ل «لَثَلاثَةِ» أو لِ «آلافٍ» .

قوله: {مُنْزَلِينَ} صفة ل «ثلاثة آلاف» ، ويجوز أن يكون حالاً من «الْمَلَائِكَةِ» والأول أظهر. وقرأ ابن عامر «مُنزَّلين» - بالتضعيف - وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت:{إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء} [العنكبوت: 34] إلا أنه هنا - اسم مفعول، وهناك اسم فاعل.

والباقون خفَّفوها وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزَّلين - بالتشديد مكسور الزاي، مبنياً للفاعل.

وبعضهم قرأه كذلك، إلا أنه خفف الزاي، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية، ففعَّل وأفْعل بمعنًى، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتنين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً، أي: منزلين النصر على المؤمنين، والعذاب على الكافرين.

قوله: {بلى} حرف جواب، وهو إيجاب للنفي في قوله:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله: {يُمْدِدْكُمْ} .

والفوز: العجلة والسرعة، ومنه: فارت القِدْرُ، إذا اشتد غلبانها وسارع ما فيها إلى الخروج، والفوز مصدر، يقال: فَار يفُورُ فَوْراً، قال تعالى:

{حتى

إِذَا

جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [هود: 40] ، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال: جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه، فالفَوْز - في الأصل -: مصدر، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين: معنى «مِنْ فَورِهم هَذَا» : من وجههم هذا.

وقال مجاهد والضَّحَّاكُ: من غضبهم هذا؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر.

قوله: {مُسَوِّمِينَ} كقوله: {مُنزَلِينَ} ، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو، على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول، فأما القراءة الأولى، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى: أنهم سَوَّموا خَيْلَهم، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان، وتركوها كذلك، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى.

ص: 522

ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم، أو خيلهم.

روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ، قال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ، عليهم عمائمُ بِيضٌ، قد أرسلوها بين أكتافهم.

وقال هشام بن عروة: عمائم صفر.

وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ، إلا جبريل فبعمامة صفراء، على مثال الزبير بن العوام.

قال قتادةُ والضَّحَّاكُ: كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها.

ورُوِيَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم َ قال لأصحابه يوم بدر: «تسوموا، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم» وأما القراءة الثانية، فواضحة بالمعنيين المذكورين، فمعنى السوم فيها: أن الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين.

قال أبو زيد: سوم الرجل خَيْلَه، أي أرسلها.

وحكى بعضهم: سومت غلامي، أي: أرسلته، ولهذا قال الأخفش: معنى «مُسَوَّمِينَ» مُرْسَلِين.

ومعنى السومة فيها: أن الله - تعالى - سومهم، أي جعل عليهم علامة، وهي العمائم، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم.

فصل

قال القُرْطُبِيُّ: «وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة، والعلامة للقبائل، والكتائب، يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البُلْق؛ لنزول الملائكة عليها» .

ص: 523

قال القرطبي: «ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق، ولم يكن له فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق، إكراماً للمقداد، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير» .

قوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلَاّ بشرى} الكناية في «جَعَلَهُ» عائدة على المصدر، أي: ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه مفعول من أجله، وهو استثناء مفرغ؛ إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى، وشروط نصبه موجودة، وهي اتحاد الفاعل، والزمان، وكونه مصدراً سبق للعلة.

والثاني: أنه مفعول ثانٍ لِ «جَعَل» على أنها تصييرية.

والثالث: أنه بدل من الهاء في «جَعَلَهُ» قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد.

والبشرى: مصدر على «فُعْلَى» كالرُّجْعَى.

وقيل: اسم من الإبشار، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 25] .

قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ} فيه وجهان:

أحدهما: أنًّه معطوف على «بُشْرَى» هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّ باللام؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه، وقد تقدم، والتقدير: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة.

والثاني: أنها متعلقة بمحذوف، أي: ولتطمئن قلوبكم، فعلى ذلك، أو كان كيت وكيت.

وقال أبو حيان: و «تطمئن» منصوب بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر.

ثم نقل عن ابن عطية أنه قال: «اللام في {وَلِتَطْمَئِنَّ} متعلقة بفعل مضمر يدل عليه» جَعَلَهُ «ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، ولتطمئن به قلوبكم.

قال أبو حيان:» وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف {وَلِتَطْمَئِنَّ} على {بشرى} ، على الموضع؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع، ولا محرز هنا؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود، ومَنْ لم يشترط المحرز، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم «.

ص: 524

قال شهاب الدين:» وقد جعل بعضهم الواو في {وَلِتَطْمَئِنَّ} زائدة، وهو لائق بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى، أي: أن البشرى عِلَّة للجَعْل، والطمأنينة علة للبُشْرَى، فهي علة العلة «.

قال ابْنُ الخَطِيبِ: في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر:

فأحدهما: إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله: إلاًَّ بشرى} .

الثاني: حصول الطمأنينة بالنصر، فلا يجنبون، وهذا هو المقصود الأصلي، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية، فعطف الفعل على الاسم، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال:{وَلِتَطْمَئِنَّ} ونظيره قوله: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب، أدخَل عليه حرف التعليل، فكذا هاهنا.

قال أبو حيان:» ويناقش في قوله: عطف الفعل على الاسم؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله: أدخل حرف التعليل، وليس ذلك كما ذكره «.

انتهى.

قال شهَابُ الدِّينِ: «إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل» .

وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه: «هذا على تأويل: وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في {وَلِتَطْمَئِنَّ} فيكون التقدير: وما جعله الله إلا بشرى لكم؛ لتطمئنَّ قلوبكم به» .

والضميران في قوله {وَمَا جَعَلَهُ} ، و «بِهِ» يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم، وهو قوله:«يمددكم» .

وقيل: يعودان على النصر.

وقيل: على التسويم.

وقيل: على التنزيل.

وقيل: على المدد.

وقيل: على الوعد.

فصل

قال في هذه الآية: «لَكُمْ» وتركها في سورة الأنفال؛ لأن تيك مختصر هذه، فكان الإطناب - هنا - أوْلَى؛ لأن القصة مكملة هنا، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه، وأخر - هنا - «به» وقدمه في سورة الأنفال؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في «لَكُمْ» فأتبع الخطاب الخطاب، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله:{العزيز الحكيم} وجاء بهما في

ص: 525

جملة مستأنفة في سورة الأنفال، في قوله:{إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم، أي: لا يغالب، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب، فالنصر من عند÷ فاستعينوا به، وتوكلوا عليه؛ لأن العز والحُكْم له.

قوله: {لِيَقْطَعَ} في متعلق هذه اللام سبعة أوجه:

أحدها: أنها متعلقة بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله} قاله الحوفيّ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْل.

الثاني: أنها متعلقة بالنصر في قوله: {وَمَا النصر إِلَاّ مِنْ عِندِ الله} والمعنى: أن المقصود من نصركم، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا، أي: تملكوا طائفة منهم، وتقتلوا قطعة منهم، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ، وهو الخبر.

الثالث: أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر، وهو قوله:{مِنْ عِندِ الله} ، والتقدير: وما النصر إلا كائن، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع.

والرابع: أنها متعلقة بمحذوف، تقديره: أمَدَّكُم، أو نَصَرَكُم، ليقطَعَ.

الخامس: أنها معطوفة على قوله: «ولتطمئن» حذف حرف لعطف لفهم المعنى؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف، كقوله:{ثلاثة رابعهم كلبهم} وقول السيد لعبده: أكرمتك لتخدمني، لتعينني، لتقوم بخدمتي، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله:{وما النصر إلا من عند الله} اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ساقط الاعتبار.

السادس: أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية.

السابع: أنها متعلقة بقوله: {يُمْدِدْكُمْ} وفيه بُعْدٌ؛ للفواصل بينهما.

والطرف: المراد به: جماعة، وطائفة، وإنما حَسَُ ذِكْر الطرف - هنا - ولم يحسن ذكر الوسط؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف، وهذا يوافق قوله تعالى:{قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ} [التوبة: 123] وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] .

قوله: {مِّنَ الذين} يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع، فتكون «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «طَرَفاً» وتكون «مِنْ» للتبعيض.

قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} عطف على «لِيَقْطَعَ» .

و «أو» ؛ قيل: على بابها من التفصيل، أي: ليقطع طرفاً من البعض، ويكبت بعضاً آخرين.

ص: 526

وقيل: بل هي بمعنى الواو، أي: يجمع عليهم الشيئين.

والكبت: الإصابة بمكروه.

وقيل: هو الصَّرع للوجْه واليدين، وعلى هذين فالتاء أصلية، ليست بدلاً من شيء، بل هي مادة مستقلة.

وقيل: أصله من كبده، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً، كقولك: رأسته، أي: أصبت رأسه، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد: أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال، قالوا: هَرَتَ الثوبَ، وهردَه، وسَبَتَ رأسَه، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه -.

وقد قيل: إنّ قراءة لاحق أصلها التاء، وإنما أُبدِلت دالاً، كقولهم: سبد رأسه، وهرد الثوب، والأصل فيهما التاء.

فصل

معنى قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا} أي: ليُهْلِكَ طائفة.

وقال السُّدِّيُّ: لِيَهْدِمَ رُكْناً من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقُتِل من قادتهم وسادتهم يوم بدر - سبعون، وأُسِر سبعون، ومَنْ حَمَل الآيةَ على أحُد، فقد قُتِل منهم يومئذ ستة عشر، وكانت النُّصرة للمسلمين، حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فانقلبت عليهم.

{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} .

قال الكلبي: يهزمهم.

وقال السُّدي: يلعنهم.

وقال أبو عبيدة: يُهْلِكهم ويصرعهم على وجوههم.

وقيل: يُخْزِيهم والمكبوت الحزين.

وقيل: يَغِيظهم.

وقيل: يُذلهم.

قوله: {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم.

ص: 527

والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه، فنقيض اليأس الرجاء، ونقيض الخيبة: الظفر يقال: خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً.

و {خَآئِبِينَ} نُصِبَ على الحال.

ص: 528

اختلفوا في سبب النزول.

فقيل: نزلت في قصة أُحُد، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أقوالٍ:

أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم َ أراد أن يدعُوَ على الكفار، فنزلت هذه الآيةُ، وهؤلاء ذكروا أقوالاً:

أحدها: أن عُتْبَةَ بن أبي وقاص شجَّه، وكسر رَبَاعِيَتَهُ، فجعل يمسحُ الدمَ عن وجهه، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم، وهو يقول: كيف يُفْلِح قومٌ خضَّبوا وَجْه نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ ثم أراد أن يدعُوَ عليهم، فنزلت هذه الآية.

وروى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم َ لَعَنَ أقوماً، فقال:«اللهم العن أبا سفيان، الهم العن الحارثَ بن هشام، اللهم العن صفوانَ بن أمَيَّة» ، فنزلت هذه الآية.

{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فتابَ على هؤلاءِ، وحَسُنَ إسلامهم.

وقيل: نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ ما فعلوا به من المُثْلَة، قال: لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به. فنزلت هذه الآية.

{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فتابَ على هؤلاءِ، وحَسُنَ إسلامِهم.

وقيل: نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ ما فعلوا به من المُثْلَة، قال: لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به. فنزلت هذه الآية.

قال القفال: وكل هذه الأشياء حصلت يومُ أُحُد، فنزلت الآيةُ عند الكل، فلا يمنع حملها على الكل.

ص: 528

الثاني: أنها نزلت بسبب أنه صلى الله عليه وسلم َ أراد أن يلعنَ المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا، فمنعه الله من ذلك قاله ابنُ عباس.

الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم َ أراد أنْ يستغفرَ للمسلمين الذين انهزموا، وخالفوا أمره، ويدعوَ لهم، فنزلت الآية.

القول الثاني: أنها نزلت في واقعةٍ أخرى، وهي أنه صلى الله عليه وسلم َ بعث جَمْعاً من خيار أصْحَابه - وهم سبعون رجلاً من القُرَّاء إلى بِئْر معونة، في صفر سنة أربع من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد، ليُعَلِّموا الناسَ القرآن والعلم، أميرهم المنذر بن عمرو، فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره فقتلهم، فوَجِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ من ذلك وَجْداً شديداً، وقَنَتَ شهراً في الصلوات كلِّها يدعو على جماعة من تلك القبائلِ باللعن والسنين، فنزلت الآية، قاله مقاتل وأكثر العلماء متفقون على أنها في قصة أحد.

فإن قيل: ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت للمنع من أمرٍ كان صلى الله عليه وسلم َ يريد أن يفعلَه، وذلك الفعل إن كان بأمر الله، فكيف يمنعه منه؟ وإن كان بغير أمر الله، فكيف يصح هذا مع قوله تعالى:

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] ؟ وأيضاً فالآية دالة على عصمة الأنبياء، فالأمر الممنوع منه في هذه الآية، إن كان حَسَناً فلِمَ منعه اللهُ؟ وإن كان قبيحاً، فكيف يكون فاعله معصوماً؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن المنعَ من الفعل لا يدل على أن الممنوع كان مُشْتَغَلاً به؛ فإنه تعالى - قال للنبي صلى الله عليه وسلم َ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وإنه صلى الله عليه وسلم َ لم يُشْرِك قط، وقال:«يا أيها النبي اتق الله» وهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله، ثم قال:{وَلَا تُطِعِ الكافرين} [الأحزاب: 1] ، وهذا لا يدل على أنه أطاعهم، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغَمَّ الشديد، والغضب العظيم، وهو قَتْل عمه حمزةَ، وقتل المسلمين. والظاهر أن هذا الغضب يَحْمِل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل، فنصَّ الله على المنع؛ تقويةً لِعصْمَته، وتأكيداً لطهارته.

والثاني: لعله صلى الله عليه وسلم َ همَّ أن يفعلَ، لكنه كان ذلك من باب تَرْك الأفضل، والأوْلَى، فلا جرم، أرشده الله تعالى إلى اختيار الأوْلَى، ونظيره قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلَاّ بالله} [النحل: 126 - 127] فكأنه - تعالى - قال: إن كان لا بد أن تعاقب ذلك الظالمَ فاكتفِ بالمثل، ثم قال ثانياً: وإن تركته كان ذلك أوْلَى، ثم أمره أمراً جازِماً بتَرْكِه، فقال:{واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلَاّ بالله} [النحل: 127] .

ووجه ثالث: وهو أنه صلى الله عليه وسلم َ لما مال قلبه إلى اللعنة عليهم، استأذن ربه فيه، فنزلت الآية بالنص على المنع. وعلى هذا التقدير، فلا يدل هذا النهي على القدح في العِصْمة.

ص: 529

فصل

في معنى الآية قولان:

الأول: ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أُوحِي إليك.

وثانيها: ليس لك في أن يتوبَ الله عليهم، ولا في أن يعذبَهم شيء غلا إذا كان على وفق أمري، وهو كقوله:{أَلَا لَهُ الحكم} [الأنعام: 62] ، واختلفوا في هذا المنع من اللعن، لأي معنًى كان؟

فقيل: الحكمة فيه أنه - تعالى - ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب، وأنه سيولد له وَلَدٌ، يكون مسلماً، بَرًّا، تقيًّا، فإذا حصل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم َ عليهم بالهلاك، فإن قُبلت دعوتُه فات هذا المقصود، وإنْ لم تُقْبَلْ دعوتُه كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وسلم َ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى - من اللَّعْن، وأمره بأن يُفَوِّضَ الكل إلى علم الله سبحانه وتعالى.

وقيل المقصود منه إظهار عجز العبودية وألا يخوض العبد في أسرار الله تعالى.

قوله: {أَوْ يَتُوبَ} في نصبه أوجهٌ:

أحدها: أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبلَه، تقديره: لِيقطَعَ، أو يتوبَ عليهم، أو يكبتهم، أو يعذبهم.

وعلى هذا فيكون قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} جملة معترضة بين المتعاطِفَيْن، والمعنى: إن الله تعالى هو المالك لأمرهم، فإن شاء قطع طرفاً منهم، أو هزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا، أو يعذبهم إن تمادَوْا على كُفْرهم، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء، والزجاج.

الثاني: أن «أو» هنا بمعنى «إلا أن» كقولهم: لألزمنك أو تقضين حقي أي: إلا أن تقتضينه.

الثالث: «أوْ» بمعنى: «حتى» ، أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله: {ليس لك من الأمر شيء} ، والمعنى: ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه، أو يعذبهم بقتل، أو نار في الآخرة، فتشقى بهم، وممن ذهب إلى ذلك الفراء، وأبو بكر بن الأنباري، قال الفراء: ومثل هذا من الكلام: لألزمنك أو تعطيني، على معنى إلا أن تُعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرئ القيس:[الطويل]

1613 -

فَقُلْتُ لَهُ: لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا

تُحَاوِلُ مُلْكاً، أوْ تَمُوتَ، فَُعْذَرَا

أراد: حتى تموت، أو: إلا أن تموت.

ص: 530

قال شهاب الدين: «وفي تقدير بيت امرئ القيس ب» حتى «نظر؛ إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى: إلا أنْ» .

الثالث: منصوب بإضمار: «أنْ» عطفاً على قوله: «الأمر» ، كأنه قيل: ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم، أو تعذيبهم شيء، فلما كان في تأويل الاسم عُطِفَ على الاسم قبلَه، فهو من باب قوله:[الطويل]

1614 -

فَلَوْلَا رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أعِزَّةٌ

وَآلُ سُبَيْعٍ، أوْ أسُوءَكَ عَلْقَمَا

وقوله: [الوافر]

1615 -

لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ، وَتَقَرَّ عَيْنِي

أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

الرابع: أنه معطوف - بالتأويل المذكور - على «شَيءٌ» ، والتقدير: ليس لك من الأمر شيء، أو توبة الله عليهم، أو تعذيبهم، أي: ليس لك - أيضاً - توبتهم ولا تعذيبهم، إنما ذلك راجع إلى الله عز وجل.

وقرأ أبَيّ: أو يتوبُ، أو يعذبهم، برفعهما على الاستئناف في جملة اسمية، أضْمِر مبتدؤُها، أي: هو يتوبُ، ويعذبُهم.

فصل

يحتمل أن يكون المراد من هذا العذاب: هو عذاب الدنيا - بالقَتْل والأسْر - وأن يكون عذابَ الآخرة، وعلى التقديرين فعِلْمُ ذلك مُفَوَّضٌ إلى الله تعالى.

قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} جملة مستقلة، والمقصود من ذكرها: تعليل حسن والتعذيب، والمعنى: إن يعذبهم فبظلمهم.

واعلم أنه إذا كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفار صَحَّ ذلك، وسمَّاهم ظالمين؛ لأن الشرك ظلم، بل هو أعظم الظلم؛ لأن الله تعالى قال:{إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .

وإن كان الغرضُ منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره، صح الكلام - أيضاً -؛ لأن من عصى الله، فقد ظلم نفسه.

ص: 531

والمقصود منه: تأكيد ما ذكره أولاً من قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، والمعنى:

ص: 531

إنما يكون ذلك لمن له الملك، وليس هو لأحد إلا الله.

وقال: {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ولم يقل: مَنْ؛ لأن الإشارة إلى الحقائق والماهيات، فدخل الكُلُّ فيه.

قوله: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} احتجوا بذلك على أنه سبحانه - له أن يُدْخِلَ الجنة - بحُكْم إلهيته - جميعَ الكُفَّار، وله أن يُدْخِلَ النارَ - بحكم إلهيته - جميع المقربين، ولا اعتراض عليه؛ لأن فعلَ العبد متوقف على الإرادة، وتلك الإرادة مخلوقة لله - تعالى - فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى، فطاعة العبد من الله، ومعصيته - أيضاً - من الله - وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً - ألبتة -، فلا الطاعة توجب الثواب، ولا المعصية توجب العقاب، بل الكل من الله - بحكم إلهيته وقهره وقدرته - فصح ما ادعيناه.

فإن قيل: أليس ثبت أنه لا يُغْفَرُ لِلْكُفَّارِ، ولا يُعَذَّبُ المَلَائِكَةُ والأنْبِيَاءُ عليهم السلام.

قلنا: مدلول الآية أنه لو أراد فعل، ولا اعتراض عليه، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل، أو لا يفعل.

ثم قال: «والله غفور رحيم» والمقصود منه أنه وإن حَسُنَ كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب، لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الفضل والإحسان.

ص: 532

قال بعضهم: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين، فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد، اتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي، والترغيب والتحذير، وعلى هذا التقدير، فيكون ابتداء كلام، لا تعلُّق له بما قبله.

وقال القفال: يُحتمل أن يكون متصلاً بما قبله من أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالاً جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين على الإقدام على الربا، فيجمعوا المالَ، ويُنْفِقُوه على العساكر، فيتمكنون من الانتقام منهم، فنهاهم الله عن ذلك.

قوله: {أَضْعَافاً} جمع ضعف، ولما كان جمع قلة - والمقصود: الكثرة - أتبعه بما يدل على الكثرة وهو الوصف بقوله: {مُّضَاعَفَةً} .

وقال أبو البقاء: {أَضْعَافاً} مصدر في موضع الحال من «الرِّبا» ، تقديره: مضاعفاً، وتقدم الكلام على {أَضْعَافاً} ومفرده في البقرة.

ص: 532

وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامر: «مضعَّفة» - مشددة العين، دون ألف.

والباقون بالألف والتخفيف، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.

فصل

لما كان الرجل في الجاهلية، إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، ولم يكن المديون واجداً لذلك المال فقال: زدني في المال حَتَّى أزيدَك في الأجَلِ، فربما جعله مائتين، ثم إذا حَلَّ الأجَلُ الثاني، فعل مثل ذلك، ثم إلى آجالٍ كثيرةٍ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها، فهذا هو المراد بقوله:{أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} .

قوله: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإن اتقاء الله واجب، والفلاح يقف عليه، وهذا يدل على أن الربا من الكبائر، وقد تقدم الكلام على الربا في «البقرة» .

قوله تعالى: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} في هذه الآية سؤالان.

الأول: أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم؛ وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه، فكيف قال:{واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ؟

والجواب: أن التقدير: اتقوا أن تجحدوا تحريمَ الربا، فتصيروا كافرين.

السؤال الثاني: أن ظاهر قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} يقتضي أنها ما أعدت لغيرهم، وهذا يقتضي القطع بأن أحداً من المؤمنين لا يدخل النار، وهو خلاف سائر الآيات.

والجواب عليه من وجوه:

أحدها: أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات، أعِدَّ بعضُها للكفار، وبعضها للفُسَّاق، فتكون هذه الآية إشارة إلى الدركات المخصوصة بالكفار، وهذا لا يَمْنَعُ ثبوت دركات أخْرَى أعِدَّت لغير الكفار.

وثانيها: أن تكون النار مُعَدَّة للكافرين، ولا يمنع دخول المؤمنين فيها؛ لأن أكثر أهل النار الكفار، فذكر الأغلب، كما أن الرجل يقول: هذه الدابة أعددتَها لِلِقَاءِ المُشْرِكِينَ، ولا يمنع من ركوبها لحوائجه، ويكون صادقاً في ذلك.

وثالثها: أن القرآن كالسورة الواحِدَةِ، فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين، وباقي الآيات دلَّت أيضاً على أنها معدة لمن سرق، وقتل، وزنى، وقذف، ومثله قوله تعالى:

{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] ، وليس جميع الكفار قال ذلك، وقوله:{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون} [الشعراء: 94] إلى قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين} [الشعراء: 98] ، وليس هذا صفة جميعهم، لما كانت هذه الصفات مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة - هاهنا -.

ص: 533

الرابع: أن قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} إثبات كونها معدة لهم، ولا يدل على الحصر، كقوله - في الجنة:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، ولا يدل ذلك على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين، والحور العين.

وخامسها: أنَّ المقصود مِنْ وَصْفها - بكونها {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} : تعظيم الزَّجْرِ؛ لأن المؤمنين مخاطبين باتقاء المعاصي، إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى، دخلوا النار المعدة للكافرين، وقد تقرَّر في عقولهم عظم عقوبة الكافرين، انزجروا عن المعاصي أتَمَّ الانزجار، كما يُخوفُ الوالدُ ولدَه بأنك إن عصيتني أدخلتك دارَ السباع، ولا يدل ذلك على أن تلك الدارَ لا يدخلها غيرهم.

وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة في الأزل؛ لأن قوله: «أعِدَّتْ» إخبار عن الماضي، فلا بد وأن يكون ذلك الشيء دخل في الوجود.

قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لما ذكر الوعيد ذكر بعده الوعد - على عادته المستمرَّة في القرآن.

قال محمدُ بن إسحاق بن يسار: هذه الآية معاتبة للذين عَصَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ، حين أمرهم بما أمرهم يوم أُحُدٍ.

ص: 534

قرأ نافعُ، وابْنُ عَامِرٍ: سارعوا - بدون واو - وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام.

والباقون بواو العطف، وكذلك هي في مصاحف مكةَ والعراقِ ومصحف عثمانَ.

فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك، أو أراد العطف، لكنه حذف العاطفَ؛ لقُرْب كل واحد منهما من الآخر في المعنى - كقوله تعالى:{ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، فإن قوله:{وسارعوا} ، وقوله:{وأطيعوا} كالشيء الواحد، وقد تقدم ضعف هذا المذهب.

ومن أثبت الواو عطف جملة أمريةً على مثلها، وبعد إتباع الأثر في التلاوة، أتبع كل رسم مصحفه.

ص: 534

ورَوَى الكِسَائِيُّ: الإمالة في {وسارعوا} ، و {أولئك يُسَارِعُونَ} [المؤمنون: 61] ، و {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} [المؤمنون: 56] وذلك لمكان الراء المكسورة.

قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} صفة لِ «مَغْفِرَةٍ» ، و «مِنْ» للابتداء مجازاً.

فصل

قال بعضهم: في الكلام حذف، والتقدير: وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم.

وفيه نظر؛ لأن الموجب للمغفرة، ليس إلا افعال المأمورات، وترك المنهيات، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات، وترك المنهيات.

وتمسك كثيرٌ من الأصوليين بهذه الآية، في أن ظاهر الأمرِ يوجب الفور؛ لأنه

ص: 535

ذكر المغفرة على سبيل التنكير، والمراد منه: المغفرة العظيمة المتناهية في العِظَم، وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام.

فصل

قال ابْنُ عَبَّاسٍ: إلى الإسلام.

ورُوِيَ عنه إلى التوبة - وهو قول عكرمة - والمعنى: وبادروا، وسابقوا.

وقال عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِب: إلى أداء الفرائض؛ لأن الأمر مُطْلَق، فيعم كل المفروضات.

وقال عثمان بن عفان: إنه الإخلاص؛ لأنه المقصود من جميع العبادات؛ لقوله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] .

وقال أبو العالية: إلى الهجرة.

وقال الضحاك ومحمد بن إسحاق: إلى الجهاد؛ لأن من قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أُحُد، فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصَّة بما يتعلق بالجهاد.

وقال سعيد بن جبير: إلى التكبيرة الأولى، وهو مروي عن أنس. وقال يمان: إنه الصلوات.

وقال عِكْرمَةُ ومُقَاتِل: إنه جميع الطاعة؛ لأن اللفظ عام، فيتناول الكُلَّ.

وقال الأصَمُّ: {وسارعوا} بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب؛ لأنه - تعالى - نهى

ص: 536

أوَّلاً عن الربا، ثم قال:{وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وهذا يدل على أن المراد منه: المسارعة في تَرْك ما تقدم النَّهْيُ عنه.

قال ابنُ الخَطِيبِ: «والأوْلَى ما تقدم من وجوب حَمْله على أداء الواجبات، والتوبة عن جميع المحظورات، لأن اللفظ عامّ، فلا وَجْهَ لتخصيصه، ثم إنه - تعالى - بَيَّن أنه كما تجب المسارعةُ والمغفرة، فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة، وإنما فصل بينهما؛ لأن الغُفْران معناه إزالة العقاب، والجنة معناها حصول الثواب، فجمع بينهما؛ للإشعار بأنه، لا بُدَّ للمكلف من تحصيل الأمرين» .

قوله: {عَرْضُهَا السماوات والأرض} [لا بد فيه من حَذْف؛ لأن نفس السموات] لا تكون عرضاً للجنة، فالتقدير: عرضها مثل عرض السموات والأرض، يدل على ذلك قوله:«كعرض» ، والجملة في محل جر صفة لِ «جَنَّةٍ» .

فصل

في معنى قوله: {عَرْضُهَا السماوات والأرض} وجوه:

أحدها: أن المراد: لو جُعِلَت السمواتُ والأرضُ طبقاتٍ طبقاتٍ، بحيث تكون كل واحدةٍ من تلك الطبقات خَطاً مؤلفاً من أجزاء لا تُجَزَّأ، ثم وُصِل البعض بالبعض طبقاً واحداً، لكان مثل عرض الجنة.

وثانيها: أن الجنة التي يكون عرضُها كعرض السموات والأرض، إنَّما تكون للرجل الواحد؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملْكاً له.

وثالثها: قال أبو مسلم: إن الجنة لو عُرِضت بالسموات والأرض على سبيل البيع، لكانت ثمناً للجنة، يقول: إذا بعت الشيء بالشيء: عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر، وكذلك - أيضاً - في معنى: القيمة؛ لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء للشيء حتى يكون كلُّ واحدٍ منهما مِثْلاً للآخر.

ورابعها: أن المقصود المبالغة في وَصْف سعة الجنة؛ لأنه ليس شيء عنده أعرض منها، ونظيره قوله:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 107 - 108] فإن أطْول الأشياء بقاءً - عندنا - هو السموات والأرض فخوطبنا على قَدْر ما عرفناه.

فإن قيل: لِمَ خُصَّ العَرْضُ بالذكْر.

فالجواب من وجهين:

الأول: أنه لما كان الغرض تعظيم سعتها، فإذا كان عَرْضُها بهذا العِظَم، فالظاهر أن الطول يكون أعظم، ونظيره قوله:{بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] ، فذكر البطائن؛

ص: 537

لأن الظاهرَ أنَّها أقل من الظِّهارة، فإذا كانت البطائن هكذا، فكيف الظهارة.

الثاني: قال القفّال: ليس المراد بالعَرض - هاهنا - المخالف للطول، بل هو عبارة عن السعة، كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال: هذه دعوى عريضة، واسعة عظيمة.

قال الشاعر: [الطويل]

1616 -

كَأنَّ بِلَادَ اللهِ - وَهْيَ عَرِيضَةٌ -

عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ

والأصل فيه أن ما اتسع عَرْضُه لم يَضِقْ وما ضاق عرضه دَقَّ، فجعل العَرْضَ كنايةً عن السعة.

فصل

رُوِيَ أن يهوديًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم َ، وقال: إنك تدعو إلى جنة عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار.

فقال صلى الله عليه وسلم َ: «سبحان الله!! فأين الليلُ إذا جاءَ النهار» .

ورُوِيَ عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب - وعنده أصحابه - فقالوا: أرأيتم قولكم: وجنة عرضها السموات والأرض؟ فأين النار.

قال عُمَرُ: أرأيتم إذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل، أين يكون النهار.

قال عُمَرُ: أرأيتم إذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل، أين يكون النهار.

فقالوا له: إنه لمثلها في التوراة، ومعناه حيث شاء الله.

سُئِلَ أنس بن مالك عن الجنة، أفي السماء، أم في الأرض.

فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة.

قيل: فأين هي.

فقال: فوق السماوات السبع، تحت العرش.

وقال قتادة: كانوا يَرَوْنَ أن الجنة فوقَ السموات السبع، وأن جهنَّمَ تحت الأرضين السبع.

ص: 538

فإن قيل: قال الله تعالى: {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] ، وأراد بالذي وُعِدنا الجنة، وإذا كانت الجنة في السماء، فكيف يكون عَرْضُها السمواتُ والأرض.

فالجواب: أن باب الجنة في السماء، وعرضها كما أخبر.

وقيل: إن الجنة والنار تُخْلقان بعد قيام الساعة، فعلى هذا لا يبعد أن تُخْلَق الجنة في مكان السموات، والنار في مكان الأرض.

قوله: {أُعِدَّتْ} يجوز أن يكون محلها الجَرّ، صفة ثانية لِ «جَنَّةٍ» ، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من «جَنَّةٍ» ؛ لأنها لما وُصِفَتْ تخصَّصت، فقَرُبَت من المعارف.

قال أبو حيان: «ويجوز أن يكون مستأنفاً، ولا يجوز أن يكون حالاً من المضاف إليه؛ لثلاثة أشياء:

أحدها: أنه لا عامل، وما جاء من ذلك متأوَّل على ضَعْفه.

والثاني: أن العرض - هنا - لا يراد به: المصدر الحقيقي، بل يراد به: المسافة.

الثالث: أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال، وصاحبه بالخبر» .

يعني بالخبر: قوله: {السماوات} ، وهو رَدٌّ صحيح.

وظاهر الآية يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وهو نص حديث الإسراء في الصحيحين وغيرهما.

وقالت المعتزلة: إن الجنة والنار غير مخلوقتين في وقتنا هذا، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخُلِقتا في وقت الجزاء؛ لأنه لا يجتمع دار التكليف، ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الآخرة.

وقال ابن فورك: «الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة» .

قوله: {الذين يُنفِقُونَ} يجوز في محله الألقاب الثلاثة، فالجر على النعت، أو البدل، أو البيان، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات.

فاصفة الأولى: قوله: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء} .

فقيل: معناه: في العُسْر واليُسْر.

وقيل: سواء كانوا في سرور، أو حُزْن، أو في عُسْر، أو في يُسْر.

وقيل: سواء سرهم ذلك الإنفاق - بأن كان على وفق طبعهم - أو ساءهم - بأن كان على خلاف طبعهم - فإنهم لا يتركونه.

ص: 539

روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، ولجاهل سخِيٌّ أحبُّ إلَى اللهِ مِنَ عابد بخيل» .

ورُوي أنَّ عَائِشَةَ تصدَّقَتْ بحَبَّة عِنَبٍ.

الصفة الثانية: قوله: {والكاظمين الغيظ} يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله.

والكَظْم: الحبس، يقال: كظم غيظه، أي: حبسه، وكَظَم القربة والسقاء كذلك، والكظم - في الأصل - مخرج النفَس، يقال: أخذ بكظمه، أي: أخذ بمجرى نفسه.

والكُظوم: احتباس النفس، ويُعَبَّر به عن السكوت، قال المبرد: تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه، يقال: كَظَمْتُ السِّقَاءَ، إذا ملأته وسددت عليه، وكل ما سددت من مجرى ماء، أو باب، أو طريق، فهو كَظْم، والذي يُسَدّ به يقال له: الكظامة والسدادة، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض: كظامة، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة، والمَكْظُوم: الممتلئ غيظاً، وكأنه - لغيظه لا يستطيع أن يتكلم، ولا يُخرج نفسه، والكظيم: الممتلئ أسَفاً.

قال أبو طالب: [الكامل]

1617 -

فَحَضَضْتُ قَوْمِي، وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ

وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ المَنَايَا كُظَّزُ

وكظم البعيرُ جِرَّتَه، إذا رَدَّها في جَوْفه، وترك الاجترار.

ومنه قول الراعي: [الكامل]

ص: 540

1618 -

فَأفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةِ

مِنْ ذِي الأبَاطِحِ إذْ رَعَيْنَ حَقِيلا

الحقيل، قيل: نبت.

وقيل: موضع، فعلى الأول هو مفعول به، وعلى الثاني هو ظرف، ويكون قد شذ جره ب «في» ؛ لأنه ظرف مكان مختص، ويكون المفعول محذوفاً، أي: إذْ رعين الكلأ في حقيل، ولا تقطع الإبلُ جِرَّتَها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ.

ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلاً يكثر نحر الإبل: [البسيط]

1619 -

قَدْ تَكْظِمُ البُزْلُ مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ

حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجْوَافِهَا الْجِرَرُ

والجرر جمع جِرَّة. والكظامة: حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه، وهي - أيضاً - السير الذي يُوصَل بوتر القَوْس.

والكظائم: خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى، كل ذلك تشبيه بمجرى النفَس وتردّده فيه.

فصل

قال صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفاذِهِ - مَلأ اللهُ قَلْبَه أمناً وَإيمَاناً» ، وقال صلى الله عليه وسلم َ:«مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أن ينفذه - دَعَاهُ اللهُ عز وجل يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤوسِ الخَلائِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الحُورِ شَاءَ» .

{والكاظمين الغيظ} : الذين يَكُفُّونَ عيظهم عن الإمضاء، ونظيره قوله:{وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]، وقال صلى الله عليه وسلم َ:«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، لَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» .

ص: 541

الصفة الثالثة: قوله: {والعافين عَنِ الناس} .

قال القفال: يُحْتَمَلُ أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهي المؤمنين عن ذلك، ونُدبوا إلى العفو عن المُعْسرين، فإنه تعال قال - عقب قصة الربا والتداين -:{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وقال

{وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280] .

ويُحْتَمَلُ أنْ يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، حين مَثَّلُوا بعَمِّه حمزة، وقال: لأمَثلنَّ بِهِمْ فندب إلى كَظْم هذا الغيظ.

وقال الكلبي: العافين عن المملوكين سوءَ الأدب.

وقال زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ: عمن ظلمهم وأساء إليهم، قال صلى الله عليه وسلم َ:«لَا يَكُونُ العَبْدُ ذَا فضْل حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، ويَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويُعْطَِ مَنْ حَرَمَهُ» .

ورُوِي عن عيسى ابن مريم أنه قال: «لَيْسَ الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَنْ أحْسَنَ إلَيْكَ، ذَاكَ مُكَافَأةٌ، إنَّما الإحْسَانُ أنْ تُحسِنَ إلى مَنْ أسَاءَ إلَيْكَ» .

ثم قال: {والله يُحِبُّ المحسنين} هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس، فيدخل كل مُحْسن، وأن تكون للعهد، فتكون إشارة إلى هؤلاء.

وهذه الآية من أقْوَى الدلائل على أن الله - تعالى - يعفو عن العُصَاة، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال، وأحَبَّهم، وهو أكرم الأكرمين، والعفو والغفور الحليم، والآمر بالإحسان، فكيف يمدح بهذه الأفعال، ويندب إليها، ولا يفعلها؟ إن ذلك لممتنع في العقول.

ص: 542

يجوز أن يكون معطوفاً على الموصول قبله، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكون الجملةُ من قوله:{والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] جملة اعتراض بين المتعاطفين.

ويجوز أن يكون «والذين» مرفوعاً بالابتداء، و «أولَئِكَ» مبتدأ ثانٍ، و «جَزَاؤهُمْ» مبتدأ ثالث، و «مَغْفِرَةٌ» خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول.

وقوله: {إِذَا فَعَلُواْ} شرط، وجوابه:{ذَكَرُواْ} .

قوله: {فاستغفروا} عطف على الجواب، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول، والمفعول الأول ل «اسْتَغْفَرُوا» محذوف، أي: استغفروا الله لذنوبهم، وقد تقدم الكلام على «استغفر» ، وأنه تعدى لاثنين، ثانيهما بحرف الجر، وليس هو هذه اللام، بل «من» وقد يُحْذَف.

فصل في سبب النزول

قال ابن مسعود: قال المؤمنون: يا رسولَ الله، كانت بو إسرائيل اكرمَ على الله مِنَّا؛ كان أحدهم إذا أذنب اصبحت كفارةُ ذَنْبِه مكتوبةً على عتبة بابه، اجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل الله هذه الآية.

قال عطاء: نزلت في نبهان التمار - وكُنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء، تبتاعُ منه تَمْراً، فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيِّد، وإن في البيت أجودَ منه، فذهب بها إلى بيته، فضمها إلى نفسه، وقَبَّلها، فقالت له: أتَّقِ الله، فتركها، وندم على ذلك، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم َ وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية.

وقال مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ: آخى رسولُ الله بين رجلين، أحدهما من الأنصار، والآخر من ثقيفٍ، فخرج الثقفيُّ في غزاةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بالقُرْعة في السفر، وخلف الأنصاريّ على أهله، يَتَعَاهَدُهُم، واشترى لهم اللحمَ ذات يوم، فلما أرادت المرأةُ أن تأخذ منه، دخل على أثرها، وقَبَّل يَدَهَا، فوضعت كَفَّهَا على وَجْهها، ثم ندم الرجل وانصرف، ووضع الترابَ على رأسه، وهام على وجهه، ولما رجع الثقفيُّ لم يستقبله الأنصاريُّ، فسأل امرأته عن حاله، فقالت: لا أكثر اللهُ في الإخوان مثله، ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلب الأنصاريَّ الثقفيُّ حتى وجده، فأتى به

ص: 543

أبا بكر؛ رجاء أن يجد\َ عنده راحةً وفرجاً، وقال الأنصاريُّ: هلكت، وذكر القصة، فقال أبو بكر: ويحك! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم؟ ثم لقيا عُمَرَ، فقال له مثل ذلك، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم َ، فقال لهما مثل مقالتهما، فأنزل الله هذه الآية.

الفاحشة - هنا - نعت محذوف، تقديره: فعلوا فِعْلَةً فاحشةً.

وأصل الفُحْش: القُبْح الخارج عن الحد، فقوله:{فَاحِشَةً} يعني: قبيحة، خارجة عما أذن الله فيه.

قال جَابِر: الفاحشة: الزنا؛ لقوله تعالى: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ}

[النساء: 15]، وقوله:{وَلَا تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] .

قوله: {أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} .

قال الزمخشري: «الفاحشة: ما كان فعله كاملاً في القُبْح، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان، مما يؤاخذُ الإنسانُ به» .

وقيل: الفاحشة: هي الكبيرة، وظلم النفس هو الصغيرة.

وقيل: الفاحشة، هي الزنا، وظلم النفس: هو القُبْلة واللَّمْسَة والنظرة.

وقال مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ: الفاحشة ما دون الزنا من قُبْلَة أو لَمْسَةٍ، أو نظرة، فيما لا يحل.

وقيل: فعلوا فاحشة فِعْلاً، أو ظلموا أنفسهم قولاً.

قوله: رذَكَرُواْ الله} أي: ذكروا وعيدَ الله وعقابه، فيكون من باب حذف المضاف.

قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله.

وقال مُقاتِلٌ والوَاقِدِيُّ: تفكروا أن الله سائلهم.

وقيل: المراد بهذا الذكر: ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسالةً، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى، فهاهنا لما كان المراد منه: الاستغفار من الذنوب قدَّموا عليه الثناء، ثم اشتغلوا بالاستغفار، {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} أي: ندموا على فِعْل ما مضَى مع العزم على تَرْك مثله في

ص: 544

المستقبل، وهذا حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان، فلا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار، لإزالة التهمة.

وقوله: {لِذُنُوبِهِمْ} أي: لأجل ذنوبهم.

قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ} استفهام بمعنى: النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء.

قوله: {إلَاّ الله} بدل من الضمير المستكن في «يَغْفِرُ» ، والتقدير: لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى، والمختار - هنا - الرفع على البدل، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى:{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] .

وقال أبو البقاء «مَنْ» مبتدأ، «يَغْفِرُ» خبره، و {إلَاّ الله} فاعل «يَغْفِرُ» ، أو بدل من المضمر فيه، وهو الوجه؛ لأنك إذا جعلت «اللهُ» فاعلاً، احتجْتَ إلى تقدير ضمير، أي: ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله.

قال شهَابُ الدين: «وهذا الذي قاله - أعني: جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته، إنما يرادُ» النفي «، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر، والعائد على» من «الاستفهامية» ز

ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه.

قوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل {فاستغفروا} أي: ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى، والاستغفار لذنوبهم، وعدم إصرارهم عليها، وتكون الجملة من قوله:{وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلَاّ الله} - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول.

فصل

وأصْل الإصرار: الثبات على الشيء.

قال الحسن: إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار، حتى يتوب.

وقال السُّدِّي: الإصرار: السكوت وتَرْك الاستغفار.

وعن أبي نُصيرة قال: لقيت مولّى لأبي بكر، فقلتُ له: أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً؟

ص: 545

قال: نعم، سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً» . وقيل: الإصرار: المداومة على الشيء، وتَرْك الإقلاع عنه، وتأكيد العزم على ألا يتركه، من قولهم: صر الدنانير، إذا ربط عليها، ومنه: صُرَّة الدراهم - لما يربط منها -.

قال الحُطََيْئة: يصف خيلاً: [الطويل]

1620 -

عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا

عُلَالَتَها بِالْخُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ

أي: ثبتت، وأقامت، مداغومة على ما حملت عليه.

وقال الشاعر: [البسيط]

1621 -

يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ

يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ

و «ما» في قوله: {على مَا فَعَلُواْ} يجوز أن تكون اسمية بمعنى: الذي، ويجوز أن تكون مصدرية.

قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل {فاستغفروا} ، وأن يكون حالاً من فاعل {يُصِرُّوا} ، والتقدير: ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بالحرمة، فإنه لا يعذر.

ومفعول {يَعْلَمُونَ} محذوف للعلم به.

فقيل: تقديره: يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب، قاله مجاهد.

وقيل: يعلمون أن تَرْكه أوْلَى، قاله ابنُ عباس والحسن.

وقيل: يعلمون المؤاخذة بها، أو عفو الله عنها.

وقال ابْنُ عَبَّاسِ، ومُقَاتِلٍ، والحَسَنُ، والكَلْبِيُّ: وهم يعلمون أنها معصية.

ص: 546

وقيل: وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار.

وقال الضَّحَّاكُ: وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب، وقال الحسن بن الفضل: وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب.

وقيل: وهم يعلمون أن الله تعالى، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت -.

وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم.

قوله: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} ، والمعنى: أن المطلوب بالتوبة أمران:

الأول: الأمن من العقاب، وإليه الإشارة بقوله:{مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} .

والثاني: إيصال الثواب إليه، وهو المراد بقوله:{وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} .

قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} في محل رفع؛ نعتاً لِ «مَغْفِرَةٌ» ، و «مِنْ» للتبعيض، أي: من مغفرات ربهم.

قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من الضمير في {جَزَآؤُهُمْ} ؛ لأنه مفعول به في المعنى؛ لأن المعنى: يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً، ولا يجوز أن تكون حالاً من «جَنَّاتٌ» في اللفظ، وهي لأصحابها في المعنى؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له، والجملة من قوله:{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في محل رفع؛ نعتاً لِ «جَنَّاتٌ» . وتقدم إعراب نظير هذه الجمل.

قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: ونِعْمَ أجر العاملين الجنة.

فصل

دلَّتْ هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم، وجزاءً عليه.

قال القَاضِي: وهذا يُبْطِل قولَ مَنْ قال: إن الثواب تفضُّل من الله، وليس بجزاءٍ على عملهم.

قال ثابت البُنَانِي: بلغني أن إبليسَ بكَى حين نزلت هذه الآية {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله} الآية.

ص: 547

لما وعد على الطاعة والتوبة بالمغفرة والجنة، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل

ص: 547

الطاعةِ والتوبةِ، وهو تأمل أحوال القرونِ الخوالي، وهذا تَسْلِيَة من الله تعالى للمؤمنين.

قال الواحدي: أصل الخلُوّ - في اللغة - الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه، ويُستعمل - أيضاً - في الزمان بمعنى: المُضِيّ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود، وخلا عنه، وكذا الأمم الخالية.

قوله: {مِن قَبْلِكُمْ} يجوز أن يتعلق ب «خَلَتْ» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من {سُنَنٌ} ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون وَصْفاً، فلما قُدِّمَ نُصبَ حالاً.

والسُّنَن: جمع سُنَّة، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها، ومنه سُنَّة الأنبياء.

قال خالد الهُذَلِي لخاله أبي ذُؤيب: [الطويل]

1622 -

فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةِ أنْتَ سِرْتَهَا

فَأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا

وقال آخر: [الطويل]

1623 -

وَإنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ

تَأسَّوْا، فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيَا

وقال لبيد: [الكامل]

1624 -

مِنْ أمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ

وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإمامُهَا

وقال المفضَّل: السُّنَّة: الأمة، وأنشد:[البسيط]

1625 -

مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ

وَلَا رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ

ولا دليل فيه؛ لاحتمال أن يكون معناه: أهل السنن.

وقال الخليل: سَنَّ الشيء بمعنى: صوره، ومنه:{مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28] أي: مُصَوَّر وقيل: سن الماء والدرع إذا صبهما، وقوله:{مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} يجوز أن يكون منه، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة.

ص: 548

وقيل: مسنون، أي: متغير.

وقال بعض أهل اللغة: هي فُعْلة من سَنَّ الماء، يسنه، إذا والى صَبَّه، والسَّنُّ: صَبُّ الماء والعرق نحوهما.

وأنشد لزهير: [الوافر]

1626 -

نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ

تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ

أي: يُصب عليها من العرق، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد، فالسُّنَّة بمعنى: مفعول، كالغُرْفَةِ.

وقيل: اشتقاقها من سننت النَّصْل، أسنّه، سنًّا، إذا حددته [على المِسَن]، والمعنى: أن الطريقةَ الحسنةَ، يُعْتَنَى بها، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه.

وقيل: من سَنَّ الإبل، إذا أحسن رعايتها، والمعنى: أن صاحب السنة يقوم على أصحابه، كما يقوم الراعي على إبله، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم َ أحسن رعايته وإدامته. وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة.

فصل

قال [أكثر المفسرين] : المراد: سنن الهلاك؛ لقوله تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} [الزخرف: 25] ؛ لأنهم لما خالفوا الرُّسُلَ؛ لحرصهم على الدنيا، ثم انقرضوا، ولم يَبْقَ من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا، والعقاب في الآخرة عليهم، فرغَّب الله تعالى أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم َ في الإيمان بالتداخل في أحوال هؤلاء الماضين، ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورُسُله، والإعراض عن الرياسة في طلب الدنيا والحياة.

قال الزجاج: المعنى: أهل سنن، فحذف المضاف.

قال مجاهد: بل المراد، سنة الله تعالى في الكافرين والمؤمنين، فإن الدنيا لم تَبْقَ، لا مع المؤمن، ولا مع الكافر، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناءُ الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في العُقْبَى، والكافر يبقى اللعن عليه في الدنيا والعقاب في الآخرة.

قوله: {فَسِيرُواْ} جملة معطوفة على ما قبلها، والتسبُّب في هذه الفاء ظاهر، أي: سبب الأمر بالسير لتنظروا - نَظَرَ اعتبار - خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم.

وقال أبو البقاء: «ودخلت الفاء في» فَسِيرُوا «؛ لأن المعنى على الشرط، أي: إن شككتم فسيروا» .

ص: 549

وقوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} «كيف» خبر مقدم، واجب التقديم، لتضمُّنه معنى «الاستفهام» ، وهو معلق ل «انْظُرُوا» قبله، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض؛ إذ الأصل: انظروا في كذا.

فصل

والغرض من هذا الكلام: زَجْر الكفار عن الكفر بتأمل أحوال المكذبين، ونظيره قوله تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173]، وقوله:{والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وقوله:{أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] وليس المراد منه الأمر بالسير - لا محالة - بل المقصود: تعرف أحوالهم، فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود، ويحتمل أن يقال - أيضاً -: إنَّ مشاهدة آثار المتقدمين لها، أثر أقوى من أثر المساع.

قال الشاعر: [الخفيف]

1627 -

إنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا

فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إلَى الآثَارِ

فصل

قال المفسرون: وهذا في حرب أحد، يقول: فأنا أمهلهم، وأسْتدرجهم، حتى يبلغ أجلي الذي أجَلألْتُ في نُصْرَة النبي صلى الله عليه وسلم َ وأوليائه وهلاك أعدائه.

قوله تعالى: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} أي: القرآن.

وقيل: ما تقدم من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} .

وقيل: ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده.

والموعظة: الوعظ وقد تقدم.

قوله: «للناس» يجوز أن يتعلقَ بالمصدر قبلَه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وَصْف له.

قوله: {لِّلْمُتَّقِينَ} يجوز أن يكون وَصْفاً - أيضاً - ويجوز أن يتعلق بما قبله، وهو محتمل لأن يكونَ من التنازع، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول.

فصل

في الفرق بين الإبانة وبين الهُدَى، وبين الموعظة؛ لأن العطْفَ يقتضي المغايرة، وذكروا فيه وجهين:

الأول: أن البيان هو الدلالة التي تزيل الشبهة، والهُدَى بيان الطريق الرشيد؛ ليُسْلَك

ص: 550

دون طريق الغَيّ، والموعظة هي الكلام الذي يُفِيد الزَّجْر عما لا ينبغي في الدين.

الثاني: أن البيانَ هو الدلالة، وأما الهدى فهي الدلالة بشرط إفْضَائها إلى الاهتداء.

وخصَّ المتقين؛ لأنهم المنتفعون به، وتقدَّم الكلام في ذلك في قوله:«هدى للمتقين» .

وقيل: إن قوله {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} عَامّ، ثم قوله:{وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} مخصوص بالمتقين؛ لأن الهُدَى اسم للدلالة الموصِّلة إلى الاهتداء، وهذا لا يحصُل إلا في حقِّ المتقين.

ص: 551

الأصل: تُوْهِنوا، فحُذِفت الواو؛ لوقوعها بين تاء وكسرة في الأصل، ثم أجْريت حروف المضارعة مُجْراها في ذلك، ويقال: وَهَنَ - بالفتح في الماضي - يَهِنُ - بالكسر في المضارع.

ونُقِلَ أنه يُقال: وَهُن، ووَهِنَ - بضم الهاء وكسر في الماضي - و «وَهَنَ» يُستعمل لازماً ومتعدياً، تقول: وَهَنَ زيدٌ، أي: ضَعُفَ، قال تعالى:{وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] ، ووَهَنْتُه وأضعفته، ومنه الحديث:«وَهَنْتُهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ» ، والمصدر على الوهَن - بفتح الهاء وسكونها.

وقال زهير: [البسيط]

1628 -

...

...

.

فَأصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِناً خَلَقَا

أي: ضعيفاً.

قوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} جملة حالية من فاعل {تَهِنُوا} ، أو {تَحْزَنُوا} ، والاستئناف فيها غير ظاهر، و {الأَعْلَوْنَ} جمع أعْلَى، والأصل: أعْلَيَوْنَ، فتحرَّكت الياء، وانفتح ما قبلها، فقُلبَت ألفاً فحُذِفت لالتقاء الساكنين، وبقيَت الفتحةُ لتدلَّ عليها.

وإن شئت قُلْتَ: استثقلت الضمةُ على الياء، فحُذِفت، فالتقى ساكنان أيضاً - الياء والواو - فحُذِفتَ الياء؛ لالتقاء الساكنين، وإنَّما احتجنا إلى ذلك؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً، لفظاً، أو تقديراً. وهذا من مثال التقدير.

ص: 551

فصل

اعلم أن الآياتِ المتقدمة، كالمقدمة لهذه الآية، كأنه قال: إن بحثتم عن أحوال القرون الماضية، علمتم أن أهل الباطل، وإن اتفقت لهم [الصَّولة] ، فمآل أمْرهم إلى الضَّعْف، ومآل أهل الحق إلى العُلُو والقوة، فلا ينبغي أن تصير صَولَةُ الكفَّار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلوبكم، وهذا حَثٌّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ على الجهاد على ما أصابهم من القتل، والجراح يوم أُحُد، يقول:{وَلَا تَهِنُوا} أي: لا تضعُفوا ولا تجبنُوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح، {وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي: تكون لكم العاقبة بالنصر والظَّفَر، وهذا مناسب لما قبله، لأن القومَ انكسرت قلوبُهم بذلك الوَهْن، فكانوا محتاجين إلى ما يُقَوِّي قلوبهم.

وقيل: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي: أن حالكم أعلى من حالهم في القتل، لأنكم أصَبْتُم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أُحُد، وهو كقوله:{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] أو لأن قتالكم لله تعالى، وقتالهم للشيطان؛ أو لأن قتالكم للدين الحق، وقتالهم للدين الباطل، فكل ذلك يُوجِب أن تكونوا أعْلَى حالاً منهم.

وقيل: «وأنتم الأعلون بالحجة» .

قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابه محذوف.

فقيل: تقديره: فلا تَهِنُوا ولا تحزنوا.

وقيل: تقديره: إن كنتم مؤمنين علمتم أن هذه الموقعةَ لا تَبْقَى بحالها، وأن الدولة تصير للمسلمين.

فصل

معنى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: بقيتم على إيمانكم.

وقيل: وأنتم الأعلون فكونوا مصدِّقين بما يَعِدُكم الله، ويُبَشِّركم به من الغَلَبَة.

وقيل: إن كنتم مؤمنين، معناه: إذا كنتم مؤمنين، أي: لأنكم مؤمنون.

وقال ابنُ عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في الشعب، فأقبل خالدُ بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يَعْلُوَ عليهم الجبلَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ:«اللهم لا يَعْلُونَّ عَلَيْنَا، اللهُمَّ لا قُوَّةَ إلَاّ بِكَ» ، وثاب نَفَرٌ من المسلمين، رُماة، فصعدوا الجبل ورموا خَيْلَ المشركين، حتى هزموهم، فذلك قوله:{وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} .

وقال الكلبيُّ: نَزَلَتْ هذه الآية بعد يوم أُحُد، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم َ أصحابه بطلب

ص: 552

القوم - مع ما أصابهم من الجراح - فاشتدَّ ذلك على المسلمين، فأنزل الله هذه الآية؛ دليله قوله تعالى:{وَلَا تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} [النساء: 104] .

ص: 553

قرأ الأخوان، وأبو بكر: قُرْح - بضم القاف - وكذلك «القُرْحُ» معرَّفاً.

والباقون بالفتح فيهما.

فقيل: هما بمعنى واحد، ثم اختلف القائلون بهذا.

فقال بعضهم: المراد بهما: الجُرْح نفسه، وقال بعضهم - منهم الأخفش - المراد بهما المصدر، يقال: قَرِحَ الجُرح، يَقْرحُ، قَرْحاً، وقُرْحاً.

قال امرؤ القيس: [الطويل]

1629 -

وَبُدِّلْتُ قَرْحاً دَامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ

لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أبْؤُسَا

والفتح لغة الحجاز، والضم لغة تميم، فهما كالضَّعْف والضُّعْف، والكَرْه والكُرْه، والوَجْد والوُجْد.

وقال بعضهم: المفتوح: الجُرْح، والمضموم: ألَمُه، وهو قول الفراء.

وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء، كالطرْد والطرَد.

وقال أبو البقاءِ: «وهو مصدر قَرِحَ يَقْرح، إذا صار له قُرْحَة، وهو بمعنى: دَمِيَ» .

وقُرِئَ قُرُح - بضمهما -.

قيل: وذلك على الإتباع كاليُسْر واليُسُر، والطُّنْب والطُّنُب.

وقرأ الأعمش: «إن تمسسكم قروح» - بالتاء من فوق، [وصيغة الجمع في الفاعل]، وأصل المادة: الدلالة على الخُلُوص، ومنه الماء القَرَاح، الذي لا كُدُورةَ فيه.

ص: 553

قال الشاعر: [الوافر]

1630 -

فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ، وَكُنْتُ قَبْلاً

أكَادُ أغَصُّ بِالْمَاءِ الْقَرَاح

وأرض قرحة - اي: خالصة الطين - ومنه قريحة الرجل - اي: خالص طَبْعه -.

وقال الراغب: «القَرْح الأثر من الجراحة من شيء يُصيبه من خارج، والقُرْح - يعني: بالضم - أثرها من شيء داخل - كالبشرة ونحوها - يقال: قَرَحْته، نحو جَرَحْته.

قال الشاعر: [البسيط]

1631 -

لا يُسْلِمُونَ قَرِيحاً حَلَّ وَسَطَهُمُ

يَوْمَ اللِّقَاءِ، ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا

أي: جرحوا. وقرح: خرج به قرح.

ويقال: قَرَحَ قلبُه، وأقرحه الله - يعني: فَعَل وأفْعَل فيه بمعنًى - والاقتراح: الابتداع والابتكار ومنه: اقترح عليَّ فلانٌ كذا، واقترحْتُ بِئراً: استخرجت منها ماءً قَرَاحاً. والقريحة - في الأصل - المكان الذي يجمتع فيه الماء المستنبط - ومنه استُعِيرت قريحةُ الإنسان - وفرس قارح، إذا أصابه أثَرٌ من ظُهور نَابِهِ، والأنْثَى قارحة، وروضة قرحاء، إذا كان في وسطها نَوْر؛ وذلك لتشبيهها بالفرس القرحاء» .

قوله: {فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ} للنحويين - في مثل هذا - تأويل، وهو أن يُقَدِّرُوا شيئاً مستقبلاً؛ لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل - وقوله:{فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِثْلُهُ} ماضٍ مُحَقَّق - وذلك التأويل هو التبيين، أي: فقد تَبَيَّن مَسُّ القرح للقوم وسيأتي له نظائر، نحو:{إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26] و {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] .

وقال بعضهم: جواب الشرط محذوف، تقديره: فتأسَّوا، ونحو ذلك.

وقال أبو حيان: «ومَنْ زعم أن جواب الشرط هو» فَقَدْ مَسَّ «، فهو ذاهل» .

قال شهابُ الدين: «غالب النحويين جعلوه جواباً، متأولين له بما ذكرت» .

فصل

هذا خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحُد مع الكآبة، يقول:{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}

ص: 554

يوم أحد فقد مَسَّهُمْ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوْمَ بَدْرٍ، وهو كقوله تعالى:{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] .

وقيل: إن الكفار قد نالهم يوم أُحُد مثل ما نالكم من الجُرح، والقتل؛ لأنه قُتِل منهم نيفٌ وعشرون رجلاً، وقتل صاحبُ لوائهم، والجراحات كَثُرَتْ فيهم، وعُقِرَ عامةُ خَيْلهم بالنبل، وكانت الهزيمة عليهم في أول النهار.

فإن قيل: كيف قال: {قَرْحٌ مِّثْلُهُ} ، وما كان قَرءحُهم يومَ أُحُد مثل قَرْح المشركين.

فالجواب: أن تفسير القرح - في هذا التأويل - بمجرد الانهزام، لا بكَثْرة القَتْلَى.

قوله: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} يجوز في «الأيَّامُ» أن تكون خبراً لِ «تِلْكَ» و «نُدَاوِلُهَا» جملة حالية، العامل فيها معنى اسم الإشارة، أي: إشيرُ إليها حال كونها مداوَلةً، ويجوز أن تكون «الأيَّامُ» بدلاً، أو عَطْفَ بيان، أو نَعْتاً لاسم الإشارة، والخبر هو الجملة من قوله:{نُدَاوِلُهَا} وقد مر نحوه في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا} [أل عمران: 108] إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت؛ لما عرفت أنَّ اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل و «بَيْنَ» متعلق ب «نُدَاوِلُهَا» ، وجَوَّزَ أبُو البقاءِ أن يكون حالاً من مفعول «نُدَاوِلُهَا» ولَيْسَ بِشَيءٍ.

والمداوَلة: المناوَبة على الشيء، والمُعَاودة، وتعهَّده مرةَ بعد أخْرَى، يقال: دَاوَلْتُ بينهم الشيء فتداولوه، كأن «فَاعَل» بمعنى:«فَعَل» .

قال الشاعر: [الكامل]

1632 -

تَرِدُ الْمِيَاهَ، فَلَا تَزَالُ تَدَاوُلاً

في النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّل وَسَمَاعِ

وأدال فلانٌ فلاناً: جعل له دولة.

وقال الفقَّال: المداولة: نَقْل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي - إذا تناولته ومنه قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ} [الحشر: 7] أي: تتداولونها، ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً، ويقال: الدُّنيا دول، أي: تنتقل من قوم إلى آخرين.

ويقال

ص: 555

دال له الدهرُ بكذا - إذا انتقل إليه.

ويقال: دُولة، ودَوْلة - بفتح الفاء وضمها - وقد قُرِئَ بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

واختلفوا، هل اللفظتان بمعنًى، أو بينهما فَرْقٌ.

فقال الراغب: «إنهما سِيَّانِ، فيكون في المصدر لغتان» .

وفرَّق بعضُهم بينهما، واختلف هؤلاء في الفرق.

فقال بعضُهم: الدَّوْلَة - بالفتح - في الحرب والجاه، وبالضم: في المال، وهذا تردُّه القراءتان في سورة الحشر.

وقيل: بالضم اسم الشيء المتداوَل، وبالفتح نفس المصدر، وهذا قريب.

وقيل: بالضم هي المصدر، وبالفتح الفَعْلة الواحدة، فلذلك يقال: في دَوْلة فلان؛ لأنها مرة في الدهر.

والدَّوْر والدَّوْل متقاربان في المعنى، ولكن بينهما عموم وخصوص؛ فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيويّ.

والدَّؤلُولُ: الداهية، والجمع الدآليل والدُّؤلات.

وقرئ شاذًّا: «يُدَاوِلَهَا» - بياء الغيبة - وهو موافق لما قبله، ولما بعده.

وقرأ العامةُ على الالتفات المفيد للتعظيم.

فصل

ومعنى مداولة الأيام بين الناس أن مسارَّها لا تدوم، وكذلك مضارُّها، فيوم يكون السرور لإنسان والغمّ لعدوه، ويوم آخر بالعكس، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارةً ينصر المؤمنين، وأخْرَى ينصر الكافرين؛ لأن نَصْر الله مَنْصِب شريف عظيم، فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة: أنه تارة يُشَدَّد المحنة على الكفار، وتارة على المؤمنين، وتشديد المحنة على المؤمن أدَبٌ له في الدنيا، وتشديد المِحْنةِ على الكافر غضب من الله تعالى عليه.

ورُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجَبَل يوم أُحُد، قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هَذَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ وهذا أبو بكر، وهذا أنا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والأيام دُوَلٌ والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: إن كان كما تزعمون فقد خِبنا - إذَنْ وخَسِرْنا.

ص: 556

وروى البراء بن عازب قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم َ على الرُّماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبدَ الله بن جبير، فقال صلى الله عليه وسلم َ:«إن رأيتمونا تَخَطَّفُنَا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرْسِل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرْسِل إليكم، وكان على يمنة المشركين خالد ابن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربْنَ بالدفوف، ويقُلْنَ الأشعارَ، فقاتلوا حتى حميت الحربُ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ سيفاً، فقال: مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه، ويَضْرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دُجانة سماك بن خَرْشَة الأنصاري، فلما أخذه اعتَمَّ بعمامة حمراء، وجعل يتبختر، - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ: إنَّها لمِشْيَة يبغضُهَا اللهُ ورسولُه إلا فِي هَذَا المَوْضِعِ» فَفلَقَ به هَامَ المشركين، وحمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ وأصحابهُ على المشركين، فهزموهم، قال: فأنا - والله - رأيتُ النساء يشتدّون - قد بدت خلاخِلُهن وأسْوُقُهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله: الغنيمةَ، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جُبَيْر: أنسيتم ما قال لكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ؟ فقالوا: والله لنأتِيَنَّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتَوْهُم صُرِفَتْ وُجوهُهم، فأقْبَلُوا منهزمين، فذاك إذْ تدعوهم، والرسول في أخراهم، فلم يَبْقَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ غيرُ اثني عَشَرَ رَجُلاً، فأصابوا مِنَّا سَبْعِينَ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ وأصحابه أصابوا من المشركين يومَ بدر أربعين ومائة - سبعين أسيراً، وسبعين قتيلاً - فقال أبو سفيان ثلاثَ مرات: أفي القوم محمدٌ؟ فنهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ أن يُجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قُحَافَةَ ثلاث مرات؟ أفي القوم عُمَر ثلاث مرات؟ فرجع إلى أصْحَابه، فقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، فما مَلَكَ عمرُ نفسه؛ فقال: كذبتَ - والله - يا عدوّ الله؛ إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، قال: يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال، إنكم ستجدون في القوم مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بها ولم تَسُؤنِي، ثم جعل يزمجر: اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:

«أجِيبُوهُ، قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ أعْلَى وأجَلُّ» ، قال: إنَّ لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ، فقال صلى الله عليه وسلم َ:«أجِيبُوه، قالوا ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ» وروي هذا المعنى عن ابن عباس.

قوله: «وليعلم الله» ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين:

أحدهما: أن اللام صلة لفعل مُضْمَر، يدل عليه أول الكلم، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا نُدَاوِلها.

الثاني: أن العامل فيها (نُدَاوِلُهَا) المذكور، بتقدير: نداولها بين الناس ليظهر أمرهم، ولنبين أعمالهم، وليعلم الله الذين آمنوا، فلما ظهر معنى اللام المضمر في «

ص: 557

ليظهر» ، و «لتتبين» جرت مجرى الظاهرة، فجاز العطف عليها.

وَجَوَّز أبو البقاء أن تكون الواو زائدة، وعلى هذا، فاللام متعلقة ب (نُدَاوِلُهَا) من غير تقدير شيء، ولكن هذا لا حاجة إليه.

ولم يَجْنَحْ إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع - ليس هذا منها - ووافقه بعض الكوفيين على ذلك.

وقدَّرَه الزَّمَخْشَرِيُّ: «فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم» . فقدر عاملاً، وعلق به علة محذوفة، عطف عليها هذه العلة.

قال أبو حيان: «ولم يُعَيِّن فاعل العلة المحذوفة، إنما كَنَّى عنه ب» كيت وكيت «، ولا يُكَنَّى عن الشيء حتى يُعْرَف، ففي هذا الوجه حذف العلة، وحذف عاملها، وإبهام فاعلها، فالوجه الأول أظهر؛ إذْ ليس فيه غير حذف العامل» . ويعني بالوجه الأول أنه قَدَّره: وليعلم الله فعلنا ذلك - وهو المداولة، أو نَيْل الكفار منكم -.

وقال بعضهم: «اللام المتعلقة بفعل مُضْمَر، إما بعده، أو قبلَه، أما الإضمار بعده فبتقدير: وليعلمَ الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولةَ، وأما الإضمار قبلَه فعلى تقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور: منها: ليعلم الله الذين آمنوا، ومنها: ليتخذ منكم شهداء، ومنها: ليمحص الله الذي آمنوا، ومنها: ليمحق الكافرين. فكل ذلك كالسبب والعِلَّةِ في تلك المداولة» . والعلم هنا - يجوز أن يتعدَّى لواحد، قالوا: لأنه بمعنى: عَرَفَ - وهو مشكل؛ لأنه لا يجوز وَصْف الله تعالى بذلك لما تقدم أن المعرفة تستدعي جَهْلاً بالشيء - أو أنَّها متعلقة بالذات دون الأحوال.

ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين، فالثاني محذوف، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم.

والواو في قوله: {وَلِيَعْلَمَ الله} لها نظائر كثيرة في القرآن، كقوله:{وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] وقوله: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 113] .

فصل

تقدير الكلام: وتلك الأيام نداولها بين الناس، ليكون كيت وكيت، وليعلم الله، وإنما حُذِف المعطوف عليه، للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة؛ ليُسَلِّيَهم عما جرى، ليُعَرِّفَهم تلك الواقعة، وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرَّهم.

فإن قيل: ظاهر قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ} مُشْعِر بأنه - تعالى - إنما فعل تلك المداولة، ليكتسِبَ هذا العلم، وذلك في حقه تعالى محال، ونظير هذه الآية -

ص: 558

في الإشكال - قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142] وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3] . وقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} [الكهف: 12] وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31] وقوله: {إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول} [البقرة: 143] وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] . ولقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآياتِ على أن الله تعالى لا يعلم حدوثَ الحوادث إلا عند وقوعها، فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه - تعالى - إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.

وأجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقليةَ دلَّتْ على أنه - تعالى - يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العِلْم محال، إلا أن إطلاقَ لفظ العلم على المعلوم، والقُدْرة على المقدور مجاز مشهور، يقال: هذا عِلْم فلان - والمراد: معلومه - وهذه قدرة فلان - والمراد: مقدوره، فكل آية يُشْعر ظاهرها بتجدُّد العلم، فالمراد: تجدُّد المعلوم.

إذا عُرِفَ هذا فنقول: في هذه الآية وجوه:

أحدها: لِيَظْهَرَ الإخْلَاصُ من النفاق، والمؤمنُ من الكافر.

وثانيها: ليَعْلَم أولياء الله، فأضاف العلم إلى نفسه تفخيماً.

وثالثها: ليحكم بالامتياز فوُضِع العلم مكان الحكم بالامتياز؛ لأن الحُكْم لا يحصل إلا بعد العلم.

ورابعها: ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع؛ لأنَّ المجازاة تقع على الواقع، دُونَ المعلوم الذي لم يُوجَد.

قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} الظاهر ان «مِنْكُمْ» متعلِّق بالاتخاذ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من «شُهَدَاءَ» ؛ لأنه - في الأصل - صفة له.

فصل

والمرادُ بقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} أي: شهداء على النَّاس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عالٍ، ودرجة عالية.

وقيل: المراد منه: ويُكرِم قوماً بالشهادة؛ وذلك: لأن قوماً من المسلمين فاتهم يومُ بدر، وكانوا يتمنَّوْن لقاء العدو، وأن يكونن لهم يوم كيوم بدر؛ يقاتلون فيه العدو، ويلتمسون فيه الشهادة، والقرآن مملوءٌ من تعظيم حال الشهداء، فإنه قرتهم مع النبيين في قوله:{وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} [الزمر: 69] وقوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ

ص: 559

النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} [النساء: 69] وهذه الآيات تدلُّ على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى.

والشُّهداء: جمع شهيد كالكُرَماء، والظُّرَفَاء.

فصل

في تسميتهم «شهداء» وجوه:

أحدها: قال النَّضْر بن شميل: الشهداء أحياء، لقوله تعالى:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فأرواحهم حية، وقد حضرت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها.

الثاني: قال ابن الأنباريّ: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا لهم بالجنة، فالشهداء جمع شهيد، «فعيل» بمعنى:«مفعول» .

الثالث: لأنهم يشهدون يوم القيامة مع النبيِّين والصِّدِّيقين، فيكونون شهداءَ على الناسِ.

الرابع: سُمُّوا شهداء، لأنهم لما ماتوا أدْخِلوا الجنة، بدليل أنَّ الكُفَّار لما ماتوا أدخِلوا النار؛ قال تعالى:{أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] .

فأما: {والله لَا يُحِبُّ الظالمين} فهذا اعتراض بين بعض التعليل وبعض.

قال ابن عباس: أي: المشركين؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .

قوله: {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ} التمحيص: التخليص من الشيء.

وقيل: المَحْص كالفَحْص، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل، والمَحْص: يقال في إبرازه عما هو متصل به، يقال: مَحَصْتُ الذهب، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث، ومَحَص الثوب: إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره، ومحص الظَّبْيُ: عدا. ف «محص» - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش: مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان.

وقال الخليل: التمحيص: التخليصُ من الشيء المعيب.

وقيل: هو الابتلاء والاختبار.

قال الشاعر: [الطويل]

1633 -

رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً

فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا

ص: 560

وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل: مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ، قال: ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي: تُخَلَّص من الرَّهَل.

[وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك]- يصف فرساً -: [البسيط]

1634 -

صُمُّ النُّسُورِ، صِحَاحٌ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ

رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ

أي: في قوائم متجرِّدات من اللحم، ليس فيها إلا العظم والجلد.

قال المبرد: ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا: أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب.

قال الواحديُّ: «وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع، والمَحْص - بسكون الحاء -» مصنوع «- وقال الخليل: يقال: مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب» .

وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها، وهو قياس مصدر الثلاثي. ومَحَصْت السيف والسنان: جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما.

قال أسامة الهذليّ: [الطويل]

1635 -

وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ

لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد

أي: بمجلُوٍّ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق.

قال العجاج: [الرجز]

1636 -

شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى

كَالْكَرِّ، لا شَخْتٌ وَلَا فِيهِ لَوَى

والشوى: الظهر، قَصَره ضرورةً، سُمِع: فعلتُه حتى انقطع شَوَاي، أي: ظَهْري. والمحق - في اللغة - النقصان.

وقال المفضَّل: هو أن يذهب الشيءُ كلُّه، حتَّى لا يُرَى منه شيء، ومنه قوله تعالى:{يَمْحَقُ الله الربا} [البقرة: 276] أي: يستأصله، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.

ص: 561

قال الزجاج: معنى الآية: أن الله تعالى جعل الأيام مداولةً بين المسلمين والكافرين، فإن حصلت الغلبة للكافرين كان المراد: تمحيص ذنوب المؤمنين - أي: تطهيرها - وإن كانت الغلبة للمؤمنين كان المراد: مَحْق آثار الكافرين، ومَحْوَهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين؛ لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير مَحْق أولئك بإهلاك نفوسهم، وهذه مقابلة لطيفة، والأقرب أن المراد بالكافرين - هنا - طائفة مخصوصة منهم - وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يوم أُحُد، لأن الله تعالى لم يَمْحَق كل الكافرين، بل بَقِي كثير منهم على كُفره.

ص: 562

لما بيَّن في الآية الأولى الأسباب الموجبة في مداولة الأيام، ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصليّ لذلك، فقال:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} بدون تحمُّل المشاق؟

وفي «أم» - هذه - أوجه:

أظهرها: أنها منقطعة، مقدَّرة ب «بل» ، وهمزة الاستفهام ويكون معناه الإنكار عليهم.

وقيل: «أمْ» بمعنى الهمزة وحدها، ومعناه كما تقدم التوبيخ والإنكار.

وقيل: هذا الاستفهام معناه النهي.

قال أبو مسلم: «إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة، ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وافتتح الكلام بذكر» أم «التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما، لا يعينه، يقولون: أزيد ضربت أم عمراً؟ مع تيقُّن وقوع الضرب بأحدهما، قال: وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً، فلما قال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تُؤمَرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدةٍ وَصَبْر؟» .

وقيل: هي متصلة.

قال ابنُ بَحْر: «هي عديلة همزة تقدر من معنى ما تقدم، وذلك أن قوله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] و {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} [آل عمران: 140] إلى آخر القصة يقتضي أن نتبع ذلك أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمُّل مشقة، وأن تجاهدوا، فيعلم الله ذلك منكم واقعاً» .

و «أحسب» - هنا - على بابها من ترجيح أحد الطرفين، و {أَن تَدْخُلُواْ} ساد مسد المفعولين - على رأي سيبويه - ومسد الأول، والثاني: محذوف - على رأي الأخفش.

ص: 562

قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} جملة حالية.

قال الزَّمَخْشَرِي: «و» لما «بمعنى» لم «، إلا أنَّ فيه ضرباً من التوقُّع، فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقُّعه فيما يستقبل، وتقول: وعدتني أن تفعل كذا ولمَّا، تريد: ولم تفعل، وأنا أتوقَّع فِعْلَه» .

قال أبو حيان: «وهذا الذي قاله في» لما «- من أنها تدل على توقُّع الفعل المنفي بها فيما يستقبل - لا أعلم أحداً من النحويين ذكره، بل ذكروا أنك إذا قلت: لما يخرج زيد، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى، متصلاً نفيه إلى وقت الاخبار، أما أنها تدل على توقُّعه في المستقبل فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يُقارب ما قاله الزمخشري، قال:» لما «لتعريض الوجود بخلاف» لم «.

قال شِهَابُ الدين: والنحاة إنما فرَّقوا بينهما من جهة أن المنفي ب «لَمْ» هو فعل غير مقرون ب «قد» ، والمنفي ب «لما» فعل مقرون بها، و «قد» تدل على التوقُّع، فيكون كلام الزمخشري صحيحاً من هذه الجهة، ويدل على ما قلته - من كون «لم» لنفي فعل فلان، و «لما» لنفي قد فعل - نصُّ سيبويه فمن دونه.

قال الزجاج إذا قيل فعل فلان، فجوابه: لم يفعل، وإذا قيل: قد فعل فلان، فجوابه لما يفعل؛ لأنه لما أُكِّد في جانب الثبوت ب «قد» لا جرم أنه أكد في جانب النفي بكلمة «لما» ، وقد تقدم نظير هذه الآية في «البقرة» وظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم، والمراد: وقوعه على نفي المعلوم، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنةَ، ولمَّا يصدر الجهادُ عنكم؟

وتقريره: أن العلم متعلق بالمعلوم، كما هو عليه، فلما حَصَلَتْ هذه المطابقة - لا جرم - حَسُن إقامة كلِّ واحدٍ منهما مقامَ الآخر.

فصل

قال القرطبيّ: والمعنى: أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة، كما دخل الذين قُتِلوا، وصبروا على ألم الجراح والقتل، من غير أن تسلكوا طريقهم، وتصبروا صَبْرَهم؟ لا؛ حتَّى يعلم الله الذين جاهدوا منكم، أي: علم شهادة، حتى يقع عليه الجزاء، والمعنى: ولم تجاهدوا، فيعلم ذلك منكم، ف «لما» بمعنى:«لم» .

قوله: «مِنْكُمْ» حال من «الَّذِينَ» .

وقرأ العامة {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} بكسر الميم - على أصل التقاء الساكنين.

وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها، وفيها وجهان:

ص: 563

الأول: أن الفتحة فتحة إتباع الميم ل «اللام» قبلها.

الثاني: أنه على إرادة النون الخفيفة، والأًصل: ولما يعلمن، والمنفي ب «لما» قد جاء مؤكداً بها، كقول الشاعر:[الرجز]

1637 -

يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا

شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا

فلما حذفت النون بقي آخر الفعل مفتوحاً، كقول الشاعر:[الخفيف]

1638 -

لا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أن تَرْ

كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ

وعليه تُخَرَّج قراءةُ: {أَلَم نَشْرَحَ} [الشرح: 1]- بفتح الحاء -.

وقول الآخر: [الرجز]

1639 -

مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أفْر

مِنْ يَوْمِ لَمْ يُقْدَرَ أوْ يَوْم قُدِرْ

قوله: «ويَعْلَمَ» العامة على فتح الميم، وفيها تخريجان:

أحدهما: وهو الأشهر - أن الفعل منصوب، ثم هل نصبه ب «أن» مقدَّرة بعد الواو المقتضية للجمع كهي في قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أي: لا تجمع بينهما - وهو مذهب البصريين - أو بواو الصرف - وهو مذهب الكوفيين - يعنون أنه كان من حق الفعل أن يُعْرَب بإعراب ما قبله، فلما جاءت الواو صرفته إلى وجهٍ آخرَ من الإعراب.

الثاني: أن الفتحةَ فتحةُ التقاء الساكنين، والفعل مجزوم، فلما وقع بعده ساكنٌ آخر، احتيج إلى تحريك آخرهِ، فكانت الفتحة أوْلَى؛ لأنها أخف، وللإتباع لحركة اللام، كما قيل ذلك في أحد التخريجين في قراءة «وَلَمَّا يَعْلَمَ اللهُ» بفتح الميم - والأول هو الوجه.

وقرأ الحسنُ وأبو حيوةَ وابنُ يَعْمُرَ: بكسر الميم؛ عطفاً على «يَعْلَم» المجزوم ب «لَمَّا» .

وقرأ عَبْدُ الوَارِثِ - عن أبي عَمْرو بْنِ العَلَاءِ - «وَيعْلَمُ» بالرفع، وفيها وجهان:

أظهرهما: أنه مستأنف، أخبر - تعالى - بذلك.

وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «على أن الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون» .

ص: 564

قال أبُو حَيَّانَ: «ولا يصح ما قال؛ لأن واو الحال لا تدخل على المضارع، لا يجوز: جاء زيد ويضحك - تريد: جاء زيد يضحك، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل، فكما لا يجوز: جاء زيد وضاحكاً، كذلك لا يجوز: جاء زيد ويضحك فإن أولَ على أن المضارع خبر لمبتدأ محذوف، أمكن ذلك، التقدير: وهو يعلم الصابرين.

كما أولوا قول الشاعر: [المتقارب]

1640 -

...

...

.

نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكا

أي: وأنا أرهنهم» .

قال شهابُ الدين: «قوله: لا تدخل على المضارع، هذا ليس على إطلاقه، بل ينبغي أن يقول: على المضارع المثبت، أو المنفي ب» لا «؛ لأنها تدخل على المضارع المنفي ب» لم ولمَّا «. وقد عُرِف ذلك مراراً» .

ومعنى الآية: أن دخول الجنة، وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} قرأ البزي: بتشديد تاء «تَمَنَّوْنَ» ، ولا يمكن ذلك إلا في الوصل، وقاعدته: أنه يصل ميم الجمع بواو، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] .

قوله: «مِن قَبْلِ» الجمهور على كسر اللام؛ لأنها مُعْربة؛ لإضافتها إلى «أنْ» وصلتها.

وقرأ مجاهد وابنُ جبير: {مِنْ قَبْلُ} بضم اللام، وقطعها عن الإضافة، كقوله تعالى:{لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] وعلى هذا فَ «أنْ» وَصِلَتُها بدل اشتمال من «الْمَوْتَ» في محل نصب، أي: تَمَنَّوْنَ لقاء الموت، كقولك: رَهِبْتُ العَجُوَّ لقاءَه، والضمير في «تَلْقَوْهُ» فيه وجهان:

أظهرهما: عوده على «الْمَوْتَ» .

والثاني: عوده على العدو، وإن لم يجر له ذِكْر - لدلالة الحال عليه.

وقرأ الزُّهَرِيُّ، والنخعيّ «تُلَاقُوه» ، ومعناه معنى «تَلْقَوْه» ؛ لأن «لقي» يستدعي أن يكون بين اثنين - بمادته - وإن لم يكن على المفاعلة.

ص: 565

قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} الظاهر أن الرؤية بصرية، فيكتفى بمفعول واحد.

وجوَّزوا أن تكون علمية، فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ، هو محذوف، أي: فقد علمتموه حاضراً - أي: الموت -.

إلا أن حَذْف أحد المفعولين في باب «ظن» ليس بالسَّهْل، حتى إن بعضهم يَخُصُّه بالضرورة، كقول عنترة:[الكامل]

1641 -

وَلَقَدْ نَزَلْتِ، فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ

مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ

أي: فلا تظني غيره واقعاً مني.

قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} يجوز أن تكون جملة حالية - وهي حال مؤكِّدة - رفعت ما تحتمله الرؤية من المجاز، أو الاشتراك بينها وبين رؤية القلب، ويجوز أن تكون مستأنفة، بمعنى: وأنتم تنظرون في فعلكم - الآن - بعد انقضاء الحرب، هل وَفَّيْتُمْ، أو خالفتم؟

وقال ابنُ الأنْبَارِي: «رَأيْتُمُوهُ» ، أي: قابلتموه {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} بعيونكم، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حيث اختلف معناهما؛ لأن الأول بمعنى: المقابلة والمواجهة، والثاني بمعنى: رؤية العين.

وهذا - أعني: إطلاق الرؤية على المقابلة والمواجهة - غير معروف عند أهل اللسان، وعلى تقدير صحته، فتكون الجملة من قوله:{وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملة حالية مبيِّنة - لا مؤكِّدة - لأنها أفادت معنًى زائداً على معنى عاملها.

ويجوز أن يقدَّر لِ «تَنْظُرُونَ» مفعولاً، ويجوز أن لا يُقَدَّر؛ إذ المعنى: وأنتم من أهل النظر.

فصل

قال المفسرون: إنَّ قوماً من المسلمين تَمَنَّوا يوماً كيوم بدر؛ ليقاتلوا، وليستشهدوا، فأراهم الله يومَ أُحُد.

وقوله: {تَمَنَّوْنَ الموت} أي: سبب الموت - وهو الجهاد - {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يعني: أسبابه، وذكر النظر بعد الرؤية؛ تأكيداً - كما قدمناه -.

وقيل: لأن الرؤية قد تكون بمعنى: العلم، فقال:{وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} ليعلم أن المراد بالرؤية: هي البصرية.

وقيل: وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم َ.

ص: 566

«ما» نافية، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني: على لغة الحجازيين والتميميِّين؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط، منها: ألا يَنْتَقضَ النفي ب «إلا» إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها ب «ليس» في نفي الحال - فيكون «مُحَمَّدٌ» مبتدأ، و «رَسُولٌ» خبر.

ص: 567

هذا -[أعني: إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها]- مذهب الجمهور، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ ب «إلا» .

وأنشد: [الطويل]

1642 -

وَمَا الدَّهْرُ إلَاّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ

وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلَاّ مُعَذَّبا

فنصب «منجنوناً» ، و «مُعَذَّباً» على خبر «ما» - وهما بعد «إلا» -.

ص: 568

ومثله قول الآخر: [الوافر]

1643 -

وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً

وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلَاّ نَكَالا

ف «حق» اسم «ما» و «نكالا» خبرها.

وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ، والتقدير: وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ «دَوَرَانَ» ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب، وكذا:«إلا مُعَذَّباً» تقديره: يُعَذَّبُ تعذيباً، فحُذِف الفعلُ، وأقيم «معذَّباً» مقام «تَعْذِيب» ، كقوله تعالى:{وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] أي: كل تمزيق. وكذا: «إلا نَكَالاً» ، وفيه من التكلُّف ما ترى.

و «مُحَمَّدٌ» هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل، والتحميد فوق الحمد، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال. وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه جل جلاله وهما محمد وأحمد.

قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى «محمدا» .

قوله: {قَدْ خَلَتْ} في هذه الجملة وجهان:

أظهرهما: أنها في محل رفع؛ صفة لِ «رَسُولٌ» .

الثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمي رالمستكن في «رَسُولٌ» ، وفيه نظر؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد، فلا تتحمل ضميراً.

قوله: «من قبله» فيه وجهان - أيضاً -:

أظهرهما: أنه معلق ب «خلت» .

والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ؛ حال من «الرُّسُلُ» مقدَّماً عليها، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة.

ص: 569

وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ «رُسُلٌ» - بالتنكير -.

قال ابُو الفَتْحِ: ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم َ في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد، كقوله:

{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] .

وقوله: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلَاّ قَلِيلٌ} [هود: 40] .

وقال أبُو البَقَاءِ: «وهو قريب من معنى» المعرفة. كأنه يريد أن المراد بالرسل «الجنس» ، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية «.

وقراءة الجمهور أولى؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم.

قال أبو علي: والرسول جاء على ضربين:

أحدهما: أن يراد به المرسل.

والآخر: الرسالة، وهاهنا المراد منه» المُرْسَل «، كقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 3] وقوله: {ياأيها الرسول بَلِّغْ} [المائدة: 67] و» فعول «قد يراد به: المفعول، كالرَّكُوب والحَلُوب لما يُرْكَب ويُحْلَب، والرسول بمعنى الرسالة.

كقوله: [الطويل]

1644 -

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ ما بُحتُ عِنْدَهُم

بِسِرٍّ، ولا أرْسَلتُهُمْ بِرَسُولِ

فصل

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأصْحَابُ المَغَازِي: لما رأى خالد بن الوليد الرُّمَاةَ يوم أحد قد اشتغلوا بالغنيمة، ورأى ظهورَهم خاليةً، صاح في خَيْله من المُشْرِكِين، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ من خلفهم -، فهزموهم، وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بحَجَر، فكسر أنفه ورباعيته، وشُجَّ في وجهه، فأثقله، وتفرق عنه أصحابُه؛ ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى صَخْرَةٍ ليعلوها - وكان قد ظاهر بَيْن دِرْعَيْن - فلم يستطع، فجلس تحته طلحة، فنهض حتى استوى عليها فقال صلى الله عليه وسلم َ أوْجَبَ طَلْحَةُ، ووقعت هند والنسوةُ معها يُمَثِّلْنَ بالقَتْلَى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند قلائدَ من ذلك، وأعطتها وَحْشِيًّا، ونقرت عن كبد حمزة، فلاكتها، فلم تَستسغها، فلفظَتْها، وأقبل عبدُ الله بن قمئة يريد قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم َ فذَبَّ مصعب بن عمير وهو صاحب

ص: 570

راية النبي صلى الله عليه وسلم َ عنه، فقتله ابنُ قَمِئة، وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم َ فرجع، وقال: إني قتلتُ محمداً، وصاح صارخ: ألا إن محمداً قد قُتِل - قيل: إن ذلك الصارخ كان إبليس - وانكف الناسُ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يدعو الناسَ: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فحَمَوْه حتى كسفوا عنه المشركين، ورمى سعدُ بن أبي وقاص حتى اندقت سِيَةُ قوسه، ومثل له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ كنانته فقال: ارْمِ فداكَ أبي وأمي، وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً، شديد النزع، كسر يومَ أُحُد قوسين أو ثلاثة، فكان الرجل يمر معه بجَعْبَةٍ من النَّبْلِ، فيقول: انثرها لأبي طلحة، وكان إذ رمى يُشْرِفُ النبي صلى الله عليه وسلم َ فينظر إلى موضع نَبْلِهِ، وأَصيبت يَدُ طلحةَ بن عبيد الله فيبست، وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وأصِيبتْ عَيْنُ قتادةَ بن النعمان يومئذ، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مكانَها، فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ أدْرَكَهُ أبَيّ بن خلف الجُمَحِيّ، وهو يقول: لا نجوتُ إن نَجَا، فقال القوم: يا رسولَ الله، ألا يعطف عليه رجل منا؟ فقال: صلى الله عليه وسلم َ: دَعُوه، حتى إذا دنا منه - وكان أبَيّ كُلَّما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قَبْل ذلك، قال له: عندي دمكة أعلفها كل يوم فَرَق ذُرة؛ أقتلك عليها، فقال صلى الله عليه وسلم َ: بَلْ أنا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم َ الحَرْبَة من الحارث بن الصِّمَّة، ثم استقبله فطعنه في عنقه، وخدشه خدشة، فتدأدأ عن فرسه - وهو يخور كما يخور الثور - وهو يقول: قتلني محمد، وحمله أصحابه، وقالوا: ليس بك من بأس، فقال: أليس قال لي: أقتلك؟ فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له: سرف.

قال ابن عباس: اشتد غضب الله على مَنْ قتل نبيه، واشتد غضب الله على من رمى وَجْهَ رسول الله قال: وفشا في الناس أن محمداً قد قُتِل فقال بعضُ المسلمين: يا ليت لنا رسولاً غلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم.

وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمدٌ قد قُتِل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنَس بن النضر - عم أنس بن مالك: يا قوم، إن كان محمد قد قُتِل فإن ربَّ محمد لم يُقْتَل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله، قوموا، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعني: المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني: المنافقين - ثم شد بسيفه، فقاتل حتى قُتِلَ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، فأوَّل من عرف رسول الله كعب بن مالك، وقال: عرفت عينيه تحت المِغْفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا؛ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأشار إليَّ أن أسْكُتَ، فانْحَازَتْ إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النَّبيُّ على الفرار. فقالوا: يا رسولَ الله - فديناك بآبائِنَا وأمهاتنا - أتانا

ص: 571

الخبر بأنك قُتِلْتَ فَرَعَبتْ قلوبنا، فولَّينَا مُدْبِرِين، فأنزل الله قوله:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} .

قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ} الهمزة لاستفهام الإنكار، والفاء للعطف، ورتبتها التقديم؛ لأنها حرف عطف، وإنما قُدِّمت الهمزة؛ لأن لها صَدر الكلام، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلاً محذوفاً تعطف الفاء عليه ما بعدها.

قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ: «الأوجه: أن يقدر محذوف بعد الهمزة، وقبل الفاء، تكون الفاء عاطفة عليه، ولو صُرِّحَ به لقيل: أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم.

وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ، إلا أنَّ الزمخشريَّ - هنا - عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة؛ فإنه قال: الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى «التسبيب» ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه - بموتٍ أو قَتْل - مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله، وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسُّك بدين محمد صلى الله عليه وسلم َ لا للانقلاب عنه «.

فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله: {قَدْ خَلَتْ} من غير تقدير جملة أخرى.

وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال:» الهمزة عند سيبويه في موضعها، والفاء تدل على تعلُّق الشرطِ بما قبله «.

لا يقال: إنه جعل الهمزة في موضعها، فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها؛ لأنه جعل هذا مقابلاً لمذهب يونس؛ فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة - في مثل هذا التركيب - داخلة على جواب الشرط، فهي في مذهبه في غير موضعها وسيأتي تحريره.

و» إن «شرطية، و» مَاتَ «و» انْقَلَبْتُمْ «شرط وجزاء، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يُغَيِّر سبباً من حكمها.

وزعم يونس أن الفعل الثاني - الذي هو جزاء الشرط - ليس هو جزاء للشرط، وإنما هو المستفْهَم عنه، وأن الهمزة داخلة عليه تقديراً، فينوى به التقرير، وحينئذ لا يكون جواباً، بل الجواب محذوف، ولا بد - إذ ذاك - من أن يكون فعل الشرط ماضياً، إذْ لا يُحْذَف الجواب إلا والشرط ماضٍ، ولا اعتبار بالشعر؛ فإنه ضرورة، فلا يجوز عنده أن تقول: إن تكرمني أكرمك ولا يجزنهما، ولا بجزم الأول ورفع الثاني، لأن الشرط مضارع. ولا أإن أكرمتني أكرمك - بجزم أكرمك؛ لأنه ليس الجواب، بل دال عليه،

ص: 572

والنية به التقديم، فإن رفعت» أكرمك «وقلت: أإن أكرمتني أكرمك، صح عنده.

فالتقدير عند يونس: أانقلبتم على أعقابكم إن مات محمد صلى الله عليه وسلم َ؛ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته، وبقول يونس قال كثير من المفسِّرين؛ فإنهم يقولون: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون إن مات محمد؟

وقال أبو البقاء:» وقال يونس: الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط، تقديره: أتنقلبون إن مات؟ لأن الغرض التنبيه، أو التنبيخ على هذا الفعل المشروط «.

ومذهب سيبويه الحقُّ؛ لوجهَيْن:

أحدهما: أنك لو قدمتَ الدجواب، لم يكن للفاء وجه؛ إذ لا يصح أن تقول: أتزوروني فإن زرتك. ومنه قوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] .

والثاني: أنَّ الهمزة لها صدر الكلام، و «إنْ» لها صدر الكلام، وقد وقعا في موضعهما، والممعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ؛ لأنهما كالشيء الواحد.

وقد رد النحويون على يونس بقوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} ، فإنَّ الفاء في قوله:«فَهُمْ» تعين أن يكون جواباً للشرط، وأتى - هنا - ب «إن» التي تقتضي الشك، والموت أمر محقق، إلَاّ أنه أورده مورد المشكوك فيه؛ للتردد بين الموت والقتل.

فإن قيل: إنه - تعالى - بَيَّن في آيات كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم َ لا يُقْتَل، قال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] ، وإذا عُلِم أنه لا يقتل، فلِمَ قال:(أو قتل) ؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أن صدق القضية الشرطية لا تقتضي صدق جُزْأيها؛ فإنك تقول: إن كانت الخمسة زوجاص كانت مقسمة بمتساويين، فالشرطية صادقة، وجزآها كاذبان، وقال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فهذا حَقٌّ، مع أنه ليس فيهما آلهة، وليس فيهما فساد.

الثاني: أن هذا ورد على سبيل الإلزام؛ فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمتُه عن دينه، والنصارى زعموا أن عيسى قُتِل، ولم يرجعوا عن دينه، فكذا هنا.

وثالثها: أن الموت لا يُوجب رجوع الأمة عن دينه، فكذا القتل وجب ألا يوجب الرجوع عن دينه، لأنه لا فارق بين الأمرين، فلما رجع إلى هذا المعنى، كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين، وهَمُّوا بالارتداد.

فإن قيل: قوله: { {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} شكٌّ، وهو - على الله تعالى - محال.

ص: 573

فالجواب: أن المراد: أنه سَوَاءً وقع هذا أو ذاك، فلا تأثير له في ضَعْف الدين ووجوب الارتداد.

فصل

قوله: {انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} أي: صرتم كُفاراً بعد إيمانكم، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه: رجع وراءه، فانقلب على عقبه، ونكص على عقبيه، وذلك أن المنافقين قالوا لضَعَفَةِ المسلمين: إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل، فإن رَبَّ محمد لم يُقْتَل، فقاتِلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم َ.

فقد بيَّن - تعالى - أن قتله لا يوجب ضعفاً في دينه بدليلين:

أحدهما: القياس على موت سائر الأنبياء.

والثاني: أن الحَاجَةَ إلى الرسول إنما هي لتبليغ الدين، وبعد ذلك لا حَاجَة إليه، فلم يلزم من قَتْلِه فَسَادُ الدين.

قوله

: {على

أَعْقَابِكُمْ

} فيه وجهان:

أظهرهما: أنه متعلق ب «انْقَلَبْتُمْ» .

والثاني: أنه حال من فاعل «انْقَلَبْتُمْ» ، كأنه قيل: انقلبتم راجعين.

قوله: {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} .

قرأ ابنُ أبي إسحاق «على عقبه» - بالإفراد، و «شَيْئاً» نصب على المصدر أي: شيئاً من الضرر، لا قليلاً ولا كثيراً. والمراد منه: تأكيد الوعيد، وأن المنقلب بارتداده لا يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه.

ثم قال: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} والمعنى: أن تلك الهزيمة لما أوقعَتْ شُبْهَةً في قلوب بعضهم، ولم تقع في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به فمدحهم الله تعالى.

رَوَى ابنُ جرير الطَّبَرِيُّ عن علي رضي الله عنه أنه قال المراد بقوله تعالى: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} : أبو بكر وأصحابه. وروى عنه أيضاً أنه قال: أبو بكر أمين الشاكرين، وأمين الله تعالى.

ص: 574

{أَنْ تَمُوتَ} في محل رفع؛ اسماً ل «كان» ، و «لِنَفْسٍ» خبر مقدَّم فيتعلق

ص: 574

بمحذوف، و {إِلَاّ بِإِذْنِ الله} حال من الضمير في «تَمُوتَ» ، فيتعلق بمحذوف، وهو استثناء مفرَّغ، والتقدير: وما كان لها أن تموتَ إلا مأذوناً لها، والباء للمصاحبة.

وقال أبُو البَقَاءِ: {إِلَاّ بِإِذْنِ الله} الخبر، واللام للتبيين، متعلِّقة ب «كان» .

وقيل: هي متعلقة بمحذوف، تقديره: الموت لنفس، و «أنْ تَمُوتَ» تبيين للمحذوف، ولا يجوز أن تتعلق اللام ب «تَمُوتَ» لما فيه من تقديم الصلة على الموصول.

وقال بعضهم: إن «كَانَ» زائدة، فيكون «أن تموت» مبتدأ، و «لنفس» خبره.

وقال الزجاج: اللام منقولة، تقديره وما كانت نفس لتموتَ ثم قدمت اللام، فجعل ما كان اسماً ل «كان» - وهو (أن تَموتَ) - خبراً لها، وما كان خبراً - وهو «لِنَفْسٍ» - اسماً لها، فهذه خمسة أقوال، أظهرها: الأول.

أما قول أبي البقاء: واللام للتبيين، فتتعلق بمحذوف، ففيه نظر من وجهين:

أحدهما: أنَّ «كان» الناقصة لا تعمل في غير اسمها وخبرها، ولئن سُلِّم ذلك، فاللام التي للتبيين إنما تتعلق بمحذوف، وقد نَصُّوا على ذلك في نحو: سَقْياً لك.

وقيل: إن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز.

أما مَنْ جعل «لِنَفْسٍ» متعلقة بمحذوف - تقديره: الموت لنفس، ففاسدٌ، لأنه ادَّعَى حذف شيء لا يجوز؛ لأنه إن جعل «كَانَ» تامة، أو ناقصة، امتنع حذفُ مرفوعها، لأن الفاعل لا يُحْذَف. وكذلك قول مَنْ جعل «كان» زائدة.

أما على قول الزجاج فإنه تفسير معنًى، لا تفسير إعراب.

فصل

في تعلُّق هذه الآية بما قبلَها وجوه:

أحدها: أن المنافقين حين قالوا: إن محمداً قُتِل، فقال تعالى: لا تموت نفس إلا بإذن الله، فقتله - أيضاً - مثل موته لا يحصل إلا في الوقت المقدَّر له، فكما أن موته في داره لا يدل على فساد دينه، كذلك إذا قُتِل لا يؤثر ذلك في فساد دينه.

والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضَعَفَةِ المسلمين: إن كان محمدٌ قُتِل فارجعوا إلى دينكم الأول.

والثاني: أن المراد: تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذرَ لا يدفَع القدر، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل، وإذا جاء الأجل لا يندفع، فلا فائدة في الجُبْن والخوف.

والثالث: أن المراد حِفْظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم َ من تلك الواقعة المخوفة؛ فإنه لم يَبْقَ

ص: 575

سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل، ولكن لما كان الله حافِظَه وناصِرَه ما ضَرَّه شيءٌ من ذلك، وفيه تنبيه على أن الصحابة قصَّروا في الذَّبِّ عنه.

ورابعها: أن المقصود منه الجواب عن كلام المنافقين للصحابة، حين رجعوا وقد قتل منهم من قتل {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156] فأخبر - تعالى - أنَّ الموت والقتل لا يكونان إلا بإذن الله.

قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَاّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] ، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلم َ ما يحقق ذلك فيه، أو يعين في تقوية الكُفْر، بل يُبْقيه الله إلى أن يَظْهَرَ على الدِّين كله.

فصل

قال القُرْطُبِي: «هذا حضٌّ على الجهاد، وإعلام بأن الموت، لا بد منه لكل إنسان وأن كل إنسان - مقتولاً كان أو غيرَ مقتول - مَيِّت إذا بلغ أجله المتكوبَ له؛ لأن معنى {مُّؤَجَّلاً} إلى أجل، ومعنى {بِإِذْنِ الله} : بقضاء الله وقدره» . واختلفوا في الإذن.

قال أبو مسلم: هو الأمر، أي أن الله - تعالى - يأمر ملك الموت بقبض الأرواح.

وقيل: المراد منه: التكوين والإيجاد، لأنه لا يقدر على الإماتة والإحياء إلا الله تعالى.

وقيل: الإذن: هو التخلية والإطلاق، وتَرْك المنع بالقهر والإجبار، كقوله تعالى:{وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102] أي: بتخليته بينه وبين قاتله.

وقيل: الإذن بمعنى: العلم، والمعنى: أن نفساً لن تموتَ إلَاّ في الوقت الذي علم الله - تعالى - موتها فيه.

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: الإذن: هو قَضَاءُ الله وقدره؛ فإنه لا يحدث شيء إلَاّ بمشيئته وإرادته سبحانه وتعالى.

قوله: {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} في نصبه ثلاثة أوجه:

أظهرها: أنه مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله، فعامله مُضْمَر، تقديره: كتب الله ذلك كتاباً، نحو قوله تعالى:{صُنْعَ الله} [النمل: 88] وقوله: {وَعَدَ الله} [الروم: 6]، وقوله:{كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] .

الثاني: أنه منصوب على التمييز، ذكره ابنُ عطية، وهذا غير مستقيم؛ لأن التمييز منقول وغير منقول، وأقسامه محصورة، وليس هذا شيئاً منها، وأيضاً فأين الذات المُبْهَمة التي تحتاج إلى تفسير؟

ص: 576

والثالث: أنه منصوب على الإغراء، والتقدير: الزموا كتاباً مؤجَّلاً، وآمنوا بالقدر، وليس المعنى على ذلك.

وقرأ ورش: «مُوجَّلاً» بالواو بدل الهمزة، وهو قياس تخفيفها.

فصل

الكتاب المؤجَّل هو الكتاب المشتمل على الآجال، ويقال: إنه اللوح المحفوظ، أي: كتب لكل نفس أجلاً لا يقدر أحدٌ على تقديمه وتأخيره، جاء في الحديث أنه تعالى قال للقلم: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

فصل

قال القاضِي: أما الأجل والرزق، فهما مضافان إلى الله تعالى، وأمَّا الكُفْرُ والفِسْقُ والإيمان والطاعة، فكل ذلك مضاف إلى العبد، فإذا كتب الله ذلك، فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يُخْرج العبد عن الاختيار.

وجوابه: أنه إذا علم الله من العبد الكفر، وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر، فلو أتَى بالإيمان كان ذلك جمعاً بين المتنافيين؛ لأن العلم بالكفر، والخبر والصدق عن الكفر - مع عدم الكفر - جمع بين النقيضين، وهو محال، وهذا موضِعُ الإلزام.

فصل

قال المفسرون: أجل الموت هو الوقت الذي في معلوم الله - تعالى - أن روح الحيِّ تفارق جيده فيه، ومتى قُتِل العبدُ علمنا أن ذلك أجله، ولا يصح أن يقال: لو لم يُقْتَل لعاش، بدليل قوله تعالى:{كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145]، وقوله:{إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] وقوله: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]، وقوله:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] .

والمعتزليّ يقول: يتقدَّم الأجل ويتأخّر، وأن مَنْ قُتِل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله، لأنه يجب على القاتل الضمان والدِّيَة، وهذه الآية رَدٌّ عليهم.

قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا} مبتدأ، وهي شرطية. وفي خبر هذا المبتدأ الخلاف

ص: 577

المشهور. وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلاف عنه - دال «يُرِد» في الثاء.

والباقون بالإظهار.

وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء «نُؤتِهِ» في الموضعين وَصْلاً ووقفاً.

وهشام - بخلاف عنه - بالاختلاس وصلاً.

والباقون بالإشباع وَصْلاً.

فأما السكون فقالوا: إن الهاء لما حلت محلّ ذلك المحذوف أعطيت ما كان يستحقه من السكون، وأما الاختلاس، فلاستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حَذْف لام الكلمة؛ فإن الأصل: نؤتيه، فحُذِفَت الياء للجزم، ولم يُعْتَدّ بهذا العارض، فبقيت الهاء على ما كانت عليه.

وأما الإشباع فنظراً إلى اللفظ؛ لأن الهاء بعد متحرِّكٍ في اللفظ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن - وهو الياء التي حُذِفَت للجزم - والأوْلى أنْ يقال: إنَّ الاختلاس والإسكان بعد المتحرك لغة ثابتة عن بني عقيل وبني كلاب.

حكى الكسائي: لَهْ مالٌ، وبِهْ داء - بسكون الهاء، واختلاس حركتها - وبهذا يَتَبَيَّن أن مَنْ قال: إسكان الهاء واختلاسها - في هذا النحو - لا يجوز إلا ضرورةً، ليس بشيءٍ، أمَّا غير بني عقيل، وبني كلاب، فنعم لا يوجد ذلك عندهم، إلا في ضرورة.

كقوله: [الوافر]

1645 -

لَهُ زَجَلٌ كَأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ

باختلاس هاء (كأنه) .

ومثله قول الآخر: [البسيط]

1646 -

وَأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ

إلَاّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيل وَادِيهَا

بسكونها. وجعل ابن عصفور الضرورة في «البيت الثاني» أحسن منها في «البيت الأول» ، قال: لأنه إذهاب للحركة وصِلَتِها، فهي جَرْي على الضرورة [إجراءً] كاملاً، وإنما ذكرنا هذه التعليلات لكثرة ورود هذه المسالة، نحو:{يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، ونحو:{فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] .

ص: 578

وقُرِئ: يُؤتِه - بياء الغيبة - والضمير لله تعالى، وكذلك:«وسنجزي الشاكرين» بالنون والياء.

فصل

نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحُد؛ طلباً للغنيمة، {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} يعني: الغنيمة، قوله:{وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} قيل: أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جُبَير حتى قُتِلوا، وهذه الآية - وإن وردت في الجهاد خاصة - عامة في جميع الأعمال؛ لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب هو القصد والدواعي، لا ظواهر الأعمال.

ثم قال: «وسنجزي الشاكرين» أي: المؤمنين المطيعين.

عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:«مَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ، وَأتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ اللهُ الفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أمْرَهُ، وَلَا يَأتِيهِ مِنْهَا إلَاّ مَا كُتِبَ لَهُ» وروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «إنَّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنَّمَا لِكُلُ امرئٍ ما نَوَى، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِه فَهِجْرَتُه إلَى اللهِ وَرَسُولِه، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُه إلَى دُنْيَا يُصيبُها، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا، فهِجْرَتُه إلى مَا هَاجَرَ إلَيْه» .

ص: 579

هذه اللفظة، قيل: هي مركبة من كاف التشبيه، ومن «أيِّ» ، وقد حدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير، المفهوم من «كَمْ» الخبرية، ومثلُها في التركيب وإفهام التكثير:«كذا» في قولهم: له عندي كذا درهماً، والأصل: كاف التشبيه و «ذا» الذي هو اسم إشارة، فلما رُكَِّبَا حدَثَ فيهما معنى التكثير، ف «كم» الخبرية وكأيِّن وكذا كلها بمعنًى واحد، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر؛ ألا ترى أن «لولا» حدث لها معنًى جديدٌ، وكان من حقها - على هذا - أو يُوقَفَ عليها بغير نون؛ لأن التنوين يُحْذَف وقفاً، إلا أن الصحابة كتبتها «كَأيِّنْ» - بثبوت النون -، فمن ثم وقف عليها جمهور القراء بالنون؛ اتِّبَاعاً لرسم المصحف.

ص: 579

ووقف أبو عمرو وسورة بن المبارك عن الكسائي «كأي» - من غير نون - على القياس.

واعتل الفارسيُّ لوقف النون بأشياء، منها: أن الكلمة لما رُكِّبَتْ خرجت عن نظائرها، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة.

وفيها لغات خمس.

أحدها: «كَيِّنْ» - وهي الأصل - وبها قرأ الجماعة، إلَاّ ابن كثير.

وقال الشاعر: [الوافر]

1647 -

كَأيِّنْ فِي الْمَعَاشِرِ مِنْ أنَاسٍ

أخُوهُمْ فَوْقَهُمْ، وَهُمُ كِرَامُ

الثانية: «كائِنْ» - بزنة كاعِن - وبها قرأ ابن كثير وجماعة، وهي أكثر استعمالاً من «كأيِّنْ» وإن كانت تلك الأصل -.

قال الشاعر: [الوافر]

1648 -

وَكَائنْ بِالأبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ

يَرَانِي لَوْ أصِبْتُ هُوَ المُصَابَا

وقال الآخر: [الطويل]

1649 -

وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ.....

...

.

وقال آخر: [الطويل]

1650 -

- وَكَائِنْ تَرَى فِي الْحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ

...

...

...

ص: 580

أنشده المفضل ممدوداً، مهموزاً، مخففاً.

واختلفوا في توجيه هذه القراءة، فنُقِل عن المبرد أنها اسم فاعل من كان، يكون، فهو كائن، واستبعده مكِّيّ، قال: لإتيان «مِنْ» بعده، ولبنائه على السكون. وكذلك أبو البقاء، قال:«وهو بعيد الصحة؛ لأنه لو كان كذلك لكان معرباً، ولم يكن فيه معنى التكثير» .

لا يقال: هذا تحامُل على المبرد؛ فإن هذا لازم له - أيضاً - فإن البناء، ومعنى التكثير عارضان - أيضاً - لأن التركيب عُهِد فيه مثل ذلك - كما تقدم في «كذا» ، و «لولا» ، ونحوهما، وأما لفظٌ مفردٌ يُنقل غلى معنى، ويُبْنَى من غير سبب، فلم يُوجد له نظير.

وقيل: هذه القراءة أصلها «كَأيِّنْ» - كقراءة الجماعة - إلا أن الكلمة دخلها القلب، فصارت «كائن» مثل كاعن - واختلفوا في تصييرها بالقلب كذلك على أربعة أوجه:

أحدها: أنه قُدِّمت الياءُ المشددةُ على الهمزة، فصار وزنها كَعَلف، إلا أنك قدمتَ العينَ والسلام، وهما الياء المشددة - ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف، كما قالوا في:«أيُّها» ، ثم قلبت الياء الساكنة ألفاً، كما قلبوها في نحو آية - والأصل: أيَّة - وكما قالوا: طائِيّ - والأصل: طَيئ - فصار اللفظ «كَأيِنْ» ووزنه كَعْف، لأن الفاء أخرت إلى موضع اللام، واللام قد حُذفَتْ.

الوجه الثاني: أنه حذفت الياء الساكنة - التي هي عين - وقُدِّمَت المتحركة - التي هي لام - فتأخرت الهمزة - التي هي فاء - وقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار «كائن» ووزنه كلف.

الوجه الثالث: ويُعْزَى للخليل - أنه قُدِّمَت إحدى الياءين في موضع الهمزة، فتحركت بحركة الهمزة - وهي الفتحة - وصارت الهمزة ساكنة في موضع الياء، فتحركت الياءُ، وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى الساكنان - الألف المنقلبة عن الياء، والهمزة بعدها ساكنة - فكُسِرَت الهمزة على أصل التقاء الساكنين، وبقيت إحدى الياءين متطرفة، فأذهبها التنوين - بعد سلب حركتها - كياء قاضٍ وغازٍ.

الوجه الرابع: أنه قُدِّمَت الياء المتحركةُ، فانقلبت ألفاً، وبقيت الأخرى ساكنة، فحذفها التنوين - مثل قاضٍ - ووزنه على هذين الوجهين أيضاً كلف؛ لما تقدم من حذف العين، وتأخير الفاء، وإنما الأعمال تختلف.

اللغة الثالثة: «كَأْيِنْ» - بياء خفيفة بعد الهمزة - على مثال كَعْيِن، وبها قرأ ابنُ مُحَيْصِن، والأشهبُ العقيلي، ووجهها أن الأصل:«كَأيِّنْ» - كقراءة الجماعة - فحُذِفَت

ص: 581

الياءُ الثانية، استثقالاً، فالتقى ساكنان - الياء والتنوين - فكُسِر الياء؛ لالتقاء الساكنين، ثم سكنت الهمزة تخفيفاً لثقل الكلمة بالتركيب، فصارت كالكلمة الواحدة كما سكنوا «فهو» و «فهي» .

اللغة الرابعة: «كَيْإن» بياء ساكنة، بعدها همزة مكسورة، وهذه مقلوب القراءة التي قبلها، وقرأ بها بعضهم.

اللغة الخامسة: «كإنْ» - على مثال كَعٍ - ونقلها الداني قراءة عن ابن مُحَيْصِن أيضاً.

وقال الشاعر: [الطويل]

1651 -

كَئِنْ مِنْ صَدِيقٍ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخَا

ءِ أبَانَ اخْتِبَاري أنَّهُ لِي مُدَاهِنُ

وفيها وجهان:

أحدهما: أنه حذف الياءين دُفعَةً واحدةً لامتزاج الكلمتين بالتركيب.

والثاني: أنه حذف إحدى الياءين - على ما تقدم تقريره -، ثم حذف الأخرى لالتقائها ساكنةً مع التنوين ووزنه - على هذا - كَفٍ؛ لحذف العين واللام منه.

واختلفوا في «أي» هل هي مصدر في الأصل، أم لا؟

فذهب جماعة إلى أنها ليست مصدراً، وهو قول أبي البقاء؛ فإنه قال «كَأيِّنْ» الأصل فيه:«أيٌّ» ، التي هي بعض من كل، أدخلت عليها كافُ التشبيه.

وفي عبارته عن «أيّ» بأنها بعض من كل، نظر لأنها ليست بمعنى: بعض من كل، نعم إذا أضيفت إلى معرفة فحُكْمها حُكم «بعض» في مطابقة الجُزْء، وعود الضمير، نحو: أيُّ الرجلين قائم ولا نقول: قاما، فليست هي التي «بعض» اصلاً.

وذهب ابنُ جني إلى أنها - في الأصل - مصدر أوَى يأوِي - إذا انضم، واجتمع - والأصل: أوْيٌ، نحو طَوَى يَطْوي طيًّا - فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وكأن ابن جنِّي ينظر إلى أن معنى المادة من الاجتماع الذي يدل عليه «أي» فإنها للعموم، والعموم يستلزم الاجتماع.

وهل هذه الكاف الداخلة على «أي» تتعلق بغيرها من حروف الجر، أم لا؟

والصحيح أنها لا تتعلق بشيء؛ لأنها مع «أي» صارتا بمنزلة كلمة واحدة - وهي «كم» - فلم تتعلق بشيء، ولذلك هُجِر معناه الأصلي - وهو التشبيه -.

وزعم الحوفيّّ أنها تتعلق بعامل، فقال:«أما العامل في الكاف، فإن جعلناها على حكم الأصل، فمحمول على المعنى، والمعنى: إصابتكم كإصابة من تقدَّم من الأنبياء وأصحابهم، وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى» كم «، كان العامل بتقدير الابتداء،

ص: 582

وكانت في موضع رفع، و» قاتل «الخبر، و» مِنْ «متعلقة بمعنى» الاستقرار «، والتقدير الأول أوضح؛ لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى، بما يجب من الخفض في» أي «، وإذا كانت» أي «على بابها من معاملة اللفظ، ف» من «متعلقة بما تعلقت به الكاف من الممعنى المدلول عليه» اه. وهو كلام غريب.

واختار أبو حيان أن «كأين» كلمة بسيطة - غير مركبة - وأن آخرها نون - هي من نفس الكلمة - لا تنوين؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل، وهذه طريق سهلة، والنحويون ذكروا هذه الأشياء؛ محافظةً على أصولهم، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد، وتمرين الذهن. هذا ما يتعلق بها من حيث التركيب، فموضعها رفع بالابتداء، وفي خبرها أربعة أوجه:

أحدها: أنه «قاتل» فإن فيه ضميراً مرفوعاً به، يعود على المبتدأ، والتقدير: كثير من الأنبياء قاتل.

قال ابو البقاء: والجيد أن يعود الضمير على لفظ «كأين» ، كما تقول: مائة نبي قُتِل، فالضمير للمائة؛ إذ هي المبتدأ.

فإن قيل: لو كان كذلك لأنثت، فقلت: قُتِلَتْ؟

قيل: هذا محمول على المعنى؛ لأن التقدير: كثير من الرجال قُتِل.

كأنه يعني بغير الجيد عوده على لفظ «نَبِيّ» ، فعلى هذا جملة {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} جملة في محل نصب على الحال من الضمير في «قُتِل» .

ويجوز أن يرتفع «ربيون» على الفاعلية بالظرف، ويكون الظرف هو الواقع حالاً، التقدير: استقر معه ربيون.

وهو أولى؛ لأنه من قبيل المفردات، وأصل الحال والخبر والصفة أن تكون مفردة.

ويجوز أن يكون «مَعَهُ» - وحده - هو الحال، و «رِبِّيُّونَ» فاعل به، ولا يحتاج - هنا - إلى واو الحال؛ لأن الضمير هو الرابط - أعني: الضمير في «مَعَهُ» .

ويجوز أن يكون حالاً من «نَبِيّ» - وإن كان نكرة - لتخصيصه بالصفة حينئذ؛ ذكره مكي. وعمل الظرف - هنا - لاعتماده على ذي الحال.

قال أبو حيان: وهي حال محكية، فلذلك ارتفع «ربيون» بالظرف - وإن كان العامل ماضياً، لأنه حكى الحال الماضية، كقوله:{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] ، وذلك على مذهب البصريين، وأما الكسائي فيعمل اسم الفاعل العاري من «أل» مطلقاً.

وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الظرف يتعلق باسم فاعل، حتى يلزم عليه ما قال من تأويله اسم الفاعل بحال ماضية، بل يدعى تعلُّقه بفعل، تقديره: استقر معه ربيون.

ص: 583

الوجه الثاني: أن يكون «قَاتَلَ» جملة في محل جر؛ صفة لِ «نَبِيّ» ، و {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} هو الخبر، لكن الوجهان المتقدمان في جعله حالاً - أعني: إن شئت أن تجعل «مَعَهُ» خبراً مقدماً، و «ربِّيُّونَ» مبتدأ مرخراً، والجملة خبر «كَأيِّنْ» ، وأن تجعل «مَعَهُ» - وحده - هو الخبر، و «ربِّيُّونَ» فاعل به؛ لاعتماد الظرف على ذي خبر.

الوجه الثالث: أن يكون الخبر محذوفاً، تقديره: في الدنيا، أو مضى، أو: صابر، وعلى هذا، فقوله:«قَاتَلَ» في محل جر؛ صفة لِ «نَبِيٍّ» ، و «مَعَهُ ربِّيُّونَ» حال من الضمير في «قَاتَلَ» - على ما تقدم تقريره - ويجوز أن يكون «مَعَهُ ربِّيُّونَ» صفة ثانية ل «نَبِيٍّ» ، وُصِف بصفتين: بكونه قاتل، وبكونه معه ربيون.

الوجه الرابع: أن يكون «قَاتَلَ» فارغاً من الضمير، مسنداً إلى «رِبِّيُّونَ» وفي هذه الجملة - حينئذ - احتمالان:

أحدهما: أن تكون خبراً ل «كأيِّنْ» .

الثاني: ان تكون في محل جر ل «نَبِيٍّ» والخبر محذوف - على ما تقدم - وادِّعَاء حذف الخبر ضعيف لاستقلال الكلام بدونه.

وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون «قَاتَلَ» مسنداً لِ «رِبِّيُّونَ» ، فلا ضمير فيه على هذا، والجملة صفة «نَبِيٍّ» .

ويجوز أن يكون خبراً، فيصير في الخبر أربعة أوجه، ويجوز أن يكون صفةً لِ «نَبِيٍّ» والخبر محذوف على ما ذكرنا.

وقوله: صفة ل «رَبِّيُّونَ» يعني: أن القتل من صفتهم في المعنى، وقوله:«فيصير في الخبر أربعة أوجه» يعني: ما تقدم له من أوجه ذكرها، وقوله: فلا ضمير فيه - على هذا - والجملة صفة «نبي» غلط؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ.

فإن قلتَ: إنما يزعم هذا لأنه يقدر خبراً محذوفاً؟

قلت: قد ذكر أوجهاً أخَر؛ حيثُ قال: «ويجوز أن تكون صفة ل» نَبِيٍّ «والخبرُ محذوفٌ - على ما ذكرنا» .

ورجَّح كونَ قَاتَلَ مسنداً إلى ضمير النبي أن القصة بسبب غزوةِ أحُدٍ، وتخاذل المؤمنين حين قيل: إن محمداً قد ماتَ مقتولاً؛ ويؤيدُ هذا الترجيح قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] وإليه ذهب ابنُ عباسٍ والطبريُّ وجماعة. وعن ابن عباسٍ - في قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]- قال: النبي يُقتل فكيف لا يُخَان؟

ص: 584

وذهب الحسنُ وابن جُبَيرٍ وجماعة إلى أن القتلَ للرِّبِّيِّينَ، قالوا: لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حَرْب قط ونصر الزمخشري هذا بقراءة قُتِّل - بالتشديد - يعني أنّ التكثيرَ لا يتأتى في الواحد - وهو النبي - وهذا - الذي ذكره الزمخشريُّ - سبقه إليه ابنُ جني - وسيأتي تأويله -.

وقرأ ابن كثيرٍ، ونافع، وأبو عمرو: قُتِل - مبنياً للمفعول - وقتادة كذلك، إلا أنه شدد التاء، وباقي السبعة: قاتل، وكل من هذه الأفعال يصلح أن يرفع ضمير «نَبِيّ» وأن يرفع «رِبِّيُّونَ» - كما تقدم تفصيلُهُ -.

وقال ابنُ جني: إنَّ قراءة: قُتّل - بالتَّشْديد - يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر - أعني: «رِبِّيُّونَ» - قال: لأنَّ الواحدَ لا تكثير فيه.

قال أبو البقاء: «ولا يمتنع أنْ يكونَ فيه ضمير الأول؛ لأنه في معنى الجماعةِ» .

يعني أن «مِنْ نَبِيٍّ» المراد به الجنس، فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص؛ لا بالنسبة إلى كل فَرْد؛ إذ القتل لا يتكثر في كلِّ فردٍ.

وهذا الجوابُ - الذي أجابَ به أبو البقاءِ - استشعر به أبو الفتحِ، وأجاب عنه، قَالَ: فإن قيل: فهلَاّ جاز فُعِّل؛ حَمْلاً على معنى «كَمْ» ؟

فالجواب: أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله: «مِنْ نَبِيٍّ} ودلَّ الضمير المفرد» مَعَهُ «على أن المراد إنما هو التمثيلُ بواحدٍ واحدٍ، فخرج الكلامُ على معنى» كم «. قال: في هذه القراءةِ دلالةٌ على أنَّ من قرأ من السَّبْعَةِ» قُتِلَ «أو» قَاتَل مَعَهُ رِبِّيُّونَ «فإن» ربِّيُّونَ «مرفوعٌ في قراءته ب» قُتِل «أو» قَاتَل «وليس مرفوعاً بالابتداء، ولا بالظرف، الذي هو» مَعَه «.

قال أبو حيّان: «وليس بظاهر؛ لأن» كأين «مثل» كَمْ «وأنتَ خبيرٌ إذا قلتَ: كم من عانٍ فككته، فأفردت، راعيت لفظ» كم «ومعناها جمع، فإذا قلت: فككتهم، راعيت المعنى، وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير، والمراد به الجمع. فلا فرق من حيثُ المعنى - بين فككته وفككتهم، كذلك لا فرق بين قتل معه ربيون، وقتل معهم ربيون، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارةً، ومراعاة المعنى تارة؛ لأن مدلول» كم «و» كأين «كثير، والمعنى: جمع كثير، وإذا أخبرت عن جمع كثيرٍ فتارةً تفرد؛ مراعاةً للفظ، وتارة تجمع؛ مراعاة للمعنى، كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 44 و45] ، فقال:» مُنْتَصِر «وقال:» وَيُوَلُّونَ «فأفرد في» مُنْتَصِرٌ «وجمع في» يُوَلُّونَ «.

ورجح بعضهم قراءة» قَاتَلَ «لقوله - بعد ذلك -: {فَمَا وَهَنُواْ} قال: وإذا قتلوا، فكيف يوصفون بذلك؟ إنما يوصف بهذا الأحياء؟

ص: 585

والجوابُ: أن معناه: قتل بعضهم، كما تقول: قُتِلَ بنو فلانٍ في وقعة كذا، ثم انصرفوا.

وقال ابن عطية: قراءة من قَرَأ» قَاتَلَ «أعم في المدْحِ؛ لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي، ويحسن عندي - على هذه القراءة - إسنادُ الفعل إلى الربيين، وعلى قراءة: قتل - إسناده إلى» نبي «.

قال أبو حيّان:» قتل «يظهر أنها مدح، وهي أبلغ في مقصود الخطاب؛ لأنها نَصٌّ في وقوع القتل، ويستلزم المقاتلة. و» قَاتَل «لا تدلُّ على القتل؛ إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل؛ فقد تكون مقاتلة ولا يقع قتل.

قوله: {مِّن نَّبِيٍّ} تمييز ل» كَأيِّنْ «لأنها مثل» كم «الخبرية.

وزعم بعضهم أنه يلزم جره ب» من «ولهذا لم يجئ في التنزيل إلا كذلك، وهذا هو الأكثرُ الغالب. قال وقد جاء تمييزُها منصوباً، قال الشاعرُ:[الخفيف]

1652 -

أطْرُدِ الْيَأسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِن

آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ

وقال آخر: [الطويل]

1653 -

فَكَائِنْ لَنَا فَضْلاً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً

قَدِيماً، وَلَا تَدْرُونَ مَا مَنُّ مُنْعِمِ

وأما جره فممتنع؛ لأن آخرَها تنوين، وهو لا يثبت مع الإضافة.

و» ربيون «: جمع رِبِّيّ، وهو العالم، منسوب إلى الرَّبّ، وإنما كُسِرت راؤه؛ تغييراً في النسب، نحو: إمْسِيّ - في النسبة إلى أمس - وقيل: كُسِر للإتباع.

وقيل: لا تغيير فيه، وهو منسوب إلى الرُّبة - وهي الجماعة - وقرأ الجمهور بكسر الرَّاءِ، وقرأ عليّ، وابنُ مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، والحسنُ» رُبِّيُّونَ «- بضم الراء - وهو من تغيير النسبِ، إذا قلنا: هو منسوب إلى الربِّ، وقيل: لا تغيير، وهو منسوب إلى الربة، وهي الجماعة.

قال القرطبيُّ «واحدهم ربِّيّ - بكسر الراء وضمها» .

وقرأ ابنُ عباسٍ - في رواية قتادة - رَبِّيُّونَ، بفتحها على الأصل، إن قلنا:

ص: 586

منسوب إلى الرَّبِّ، وإلا فمن تغيير النسب، إن قلنا: إنه منسوب إلى الربة.

قال ابن جني: والفتح لغة تميم.

وقال النقاشُ: «هم المكثرون العلم» من قولهم: رَبَ الشيء يربو - إذا كَثر - وهذا سَهْوٌ منه؛ لاختلاف المادتين؛ لأن تلك من راء وياء وواو، وهذه من راء وباء مكررة. قال ابن عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادةُ: الجماعات الكثيرة وقال ابنُ مسعودٍ: والربيون: الألوف.

وقال الكلبيّ: الرِّبِّيَّة الواحدة: عشرة آلاف.

وقال الضَّحَّاك: الرَّبِّيَّة الواحدة ألف، وقال الحسنُ: رِبِّيُّون: فُقَهاء وعُلَماء.

وقيل: هم الأتباع، فالربانيون: الولاة، والربانيون: الرعية. وحكى الواحديُّ - عن الفرّاءِ - الربانيون: الألوف.

قوله: «كَثِيرٌ» صفة لِ «رِبِّيُّونَ وإن كان بلفظ الإفرادِ؛ لأن معناه الجمع.

فصل

معنى الآية - على القراءة الأولى - أن كثيراً من الأنبياء قُتِلوا، والذين بَقُوا بعدهم ما وَهَنوا في دينهم، بل استمرُّوا على نُصْرَة دِينهم [وقتال] عدوِّهم، فينبغي أن يكون حالُكُم - يا أمة محمدٍ - هكذا.

ص: 587

قال القفالُ: والوقف - في هذا التأويل - على قوله:» قُتِل «وقوله {مَعَهُ رِبيُّونَ كَثِيرٌ} حال، بمعى: قُتِل حال ما كان معه ربيون كثير. أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي: وكأين من نبي معه ربيون كثيرٌ، فما وهن الربيون على كثرتهم.

وقيل: المعنى: وكأين من نبي قُتِل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثيرٌ، فما ضَعُفَ الباقون، ولا استكانوا؛ لقَتْل من قُتِل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوهم، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك.

وحُجَّة هذه القراءة أنّ المقصودَ من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياءِ؛ لتقتدي هذه الأمة بهم. والمعنى على القراءة الثانية -: وكم من نبي قاتل معه العددُ الكثيرُ من أصحابه، فأصابهم من عدوهم قروح، فما وَهَنُوا؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل اللهِ وطاعته، وإقامة دينه، ونصرة رسوله، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمةَ مُحَمدٍ.

وحجة هذه القراءة: أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم َ في القتال، فوجب أن يكون المذكورُ هو القتال، وأيضاً رُوِي عن سعيد بن جبيرٍ أنه قال: ما سمعنا بنبي قُتِل في القتال. قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} الضمير في» وَهَنُوا «يعود على الربِّيِّين بجُمْلتهم، إن كان قُتِل مسنداً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم َ وكذا في قراءة» قَاتَلَ «سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي، أو إلى الربِّيين، فالضمير يعود على بعضهم وقد تقدم ذلك عند ترجيح قراءة» قاتل «.

والجمهورُ على «وَهَنُوا» - بفتح الهاء - والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرها، وهما لغتانِ: وَهَنَ يَهِنُ - كَوَعَدَ يَعِدُ - وَوَهَنَ يَوْهَنُ - كوَجَلَ يَوْجَلُ - وروي عن أبي السَّمَّال - أيضاً - وعِكْرمة: وهْنوا - بسكون الهاء - وهو من تخفيف فَعَل؛ لأنه حرف حلق، نحو نعم وشَهْد - في نَعِم وشَهِد -.

قال القرطبيُّ: - عن أبي زيد -: «وَهِنَ الشيء يَهِنُ وَهْناً، وأوْهنته أنا ووهَّنْتُه: ضعَّفته، والواهنة: أسفل الأضلاع وقصارَاها، والوَهْن من الإبل: الكثيف، والوَهْن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك المَوْهِن، وأوهَنَّا: صِرْنا في تلك الساعة» .

و {لِمَآ أَصَابَهُمْ} متعلق ب «وَهَنُوا» و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، أو مصدرية، أو نكرة موصوفة.

وقرأ الجمهور {وَمَا ضَعُفُواْ} - بضم العين - وقرئ: ضَعَفُوا - بفتحها - وحكاها الكسائي لغة.

ص: 588

قوله: {وَمَا اسْتَكَانُواْ} فيه ثلاثةُ أقوالٍ:

أحدها: أنه «استفعل» من الكَوْن - والكَوْن: الذُّلّ - وأصله: استكون، فنُقِلَتْ حركة الواو على الكافِ، ثم قُلِبَت الواو ألفاً.

وقال الأزهريُّ وأبو علي: هو من قول العربِ: بَاتَ فُلان بكَيْنَةِ سوء - على وزن جَفْنَة - أي: بحالة سوء، فألفه - على هذا من ياء، والأصل: استكْيَن، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها. [وهو القول الثاني] .

الثالث: قال الفرّاء: وزنة «افتعل» من السكون، وإنما أُشْبِعَت الفتحة، فتولَّد منها ألف.

كقول الشاعر: [الرجز]

1654 -

أعُوذُ باللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ

الشَّائِلَاتِ عُقَدِ الأذْنَابِ

يريد: العقرب الشائلة.

ورُدَّ على الفرّاء بأن هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمةِ، نحو: استكان، يستكين، فهو مستكينٌ ومُستكان إليه استكانةً. وبأنَّ الإشباعَ لا يكون إلا في ضرورةٍ.

وكلاهما لا يلزمه؛ أما الإشباع فواقع في القراءات - السبع - كما سيأتي -.

وأما ثبوت الألف في تصاريف الكلمةِ فلا يدلُّ - أيضاً - لأن الزائدَ قد يَلْزَم؛ ألا ترى أنَّ الميم - في تَمَنْدَل وتَمَدْرَع - زائدة، ومع ذلك ثابتة في جميع تصاريفِ الكلمة، قالوا: تَمَنْدَلَ، يَتَمَنْدَلُ، تَمَنْدُلاً، فهو مُتَمَنْدِل، ومُتَمَنْدَل به. وكذلك تَمَدْرَع، وهما من الندل والدرع.

وعبارة أبي البقاءِ أحسن في الرَّدِّ؛ فإنه قال: «لأن الكلمة ثبتت عينها في جميع تصاريفها تقول: استكان، يستكين، استكانة، فهو مستكين، ومُسْتكان له والإشباع لا يكون على هذا الحد» .

ولم يذكر متعلق الاستكانة والضعف - فلم يَقُلْ: فما ضَعُفُوا عن كذا، وما استكانوا لكذا - للعلم، أو للاقتصار على الفعلين - نحو {كُلُواْ واشربوا} [الحاقة: 24] ليعم كُلَّ ما يصلح لهما.

وقال الزمخشري: ما وَهَنُوا عند قَتْل النبيّ.

ص: 589

وقيل: ما وَهَنُوا لقتل من قتل منهم.

فصل

المعنى: ما جَبُنُوا لما أصابهم في سبيل اللهِ، وما ضَعُفُوا عن الجهادِ بما نالهم من الجراح، وما استكانوا للعدو.

وقال مقاتلٌ: وما استسْلَموا، وما خضعوا لعدوهم.

وقال السُّدِّيُّ: وما ذلوا. وهذا تعريض بما أصابهم من الْوَهَنِ، والانكسار عند الإرجاف بقَتْل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين، واستكانتهم للكافرين، حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافقِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبَيٍّ؛ ليطلب لهم الأمان من أبي سفيان.

ويحتمل - أيضاً - أن يُفَسَّر الوهن باستيلاء الخوفِ عليهم، ويُفَسَّر الضعف بأن يضعف إيمانُهم، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم، والاستكانة: هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم.

ثم قال: {والله يُحِبُّ الصابرين} أي: مَنْ صَبَر على تحمُّل الشدائدِ في طريق اللهِ ولم يُظْهِر الجزعَ والعجزَ والهلع؛ فإنَّ اللهَ يحبه. ومحبة الله - تعالى - للعبد عباة عن إرادة إكرامه وإعزازه وتعظيمه، والحكم له بالثواب والجنة.

ص: 590

الجمهور على نصب {قَوْلِهِمْ} خبراً مقدَّماً، والاسم «أنْ» وما في حيزها، تقديره: وما كان قولهم [إلا هذا الدعاء، أي: هو دأبهم وديدنهم] .

وقرأ ابن كثيرٍ وعاصم - في رواية عنهما - برفع «قولُهم» على أنه اسم «كان» والخبر «أن» وما في حيزها. وقراءة الجمهور أوْلَى؛ لأنه إذا اجتمع معرفتانِ فالأولى أن تَجْعَل الأعرف اسماً، و «أن» وما في حيزها أعْر أعْرَف؛ قالوا: لأنها تُشْبِه المُضْمَر من حيثُ إنها لا تُضْمَر، ولا تُوصَف، ولا يُوصَف بها، و «قولهم» مضافٌ لمُضْمَرٍ، فَهُوَ في رُتْبَةِ العَلَمِ، فهو أقلُّ تعريفاً.

ص: 590

ورَجَّحَ أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين:

أحدهما: هذا، والآخر: أن ما بعد «إلَاّ» مُثبَت، والمعنى: كان قولَهُمْ: ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأبَهم في الدعاء، وهو حَسَنٌ.

والمعنى: وما كان قولهم شيئاً من الأقوالِ إلا هذا القول الخاصّ.

فصل

معنى الآية: وما كان قولهم عند قَتْل نبيِّهم إلا أن قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذنوبنَا، والغرض مِنْهُ تحريضُ هذه الأمة بالاقتداء بهم.

قال القاضي: إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف؛ لأنه - تعالى - لما ضَمِن النُّصرةَ للمؤمنين، فإذا لم تحصل النصرة، وظهر أمارات استيلاء العدو، دلَّ ذلك ظاهراً - على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديمَ التوبةِ والاستغفارِ على طلب النُّصْرَة، فبيَّن - تعالى - أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي، فقالوا:{ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي: الصغائر {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} أي: الكبائر؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه؛ قال تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] وقال {فَلَا يُسْرِف فِّي القتل} [الإسراء: 33] وقال: {وَلَا تسرفوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المسرفين} [الأعراف: 31] ويقال: فلان مُسْرِف - إذا كان مكثراً في النفقة.

قوله: {في أَمْرِنَا} يَجُوز فيه وجهانِ:

الأول: أنه متعلق بالمصدر قبله، يقال: أسرفتُ في كذا.

الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حَالٌ منه، أي: حال كونه مستقراً في أمرنا. والأول أوجهُ. ثم سألوا - بعد ذلك - أن يثبت أقدامهم، وذلك بإزالة الخوفِ عن قلوبهم، وهذا يدلُّ على أن فعل العبد مخلوقٌ للهِ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف. ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائدٍ على ثبات أقدامهم.

قال القاضي: وهذا تأديبٌ من الله - تعالى - في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمِحَن، سواء كان في الجهادِ أو غيره.

قوله: «فآتاهم الله» يقتضي أن اللهَ - تَعَالَى - أعطاهم [الأمْرَين] أما ثوابُ الدُّنْيَا فَهُوَ: النصرة والغنيمة، وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدرِ بنور الإيمان، وأما ثوابُ الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة.

وقرأ الجَحْدَرِيُّ فأثابهم - من لفظ الثواب - وخَصَّ - تعالى - ثواب الآخرة

ص: 591

بالحُسْنِ؛ تنبيهاً على جلالةِ ثوابِهِم، وذلك لأنّ ثوابَ الآخرةِ كُلَّه في غاية الحُسْنِ.

ويجوز أن يُحْمَل قوله: «فآتاهم» على أنه سيؤتيهم، كقوله تعالى:{أتى أَمْرُ الله فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] أي: سيأتي أمرُ اللهِ.

قيل: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداءِ - وقد أخبرَ - تَعَالَى - عن بعضهم أنهم أحياءٌ، عند ربِّهِم يرزقونَ - فيكون حالُ هؤلاء - أيضاً - كذلك.

فصل

قال فيما تقدم: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] فأتى بلفظ «من» الدالة على التبعيض، وقال هنا:{فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} ولم يذكر كلمة «من» لأن الذين يُريدون ثوابَ الآخرةِ إنما اشتغلوا بالعبادة لطلب الثوابِ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلةً عن مرتبة هؤلاء؛ لأنهم لم يذكروا من أنفسهم إلا الذنبَ والتقصيرَ، ولم يذكروا التدبيرَ والنصرةَ والإعانة إلا من ربّهم، فكان مقامهم في العبودية في غاية الكمالِ؛ لأنَّهم أرادوا خدمة مولاهم، وأما أولئك فإنما أرادوا الثواب.

ص: 592

لما أمر اللهُ تَعَالَى بالاقتداء بأنصار الأنبياءِ حذَّر عن طاعة الكفار - يعني مشركي العرب - وذلك أنّ الكفار لما أرجفوا بقولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم َ قد قُتِل ودعا المنافقونَ بعضَ ضَعَفَةِ المُسْلِمِين، مَنَعَ المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين.

وقيل: المرادُ - بالذين كفروا - عبد الله بن أبي وأتباعه في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم، وقالوا: لو كان محمدٌ رسولَ اللهِ ما وقعت له هذه الواقعةُ، وإنما هو رجل كسائر الناسِ، يَوْمٌ لَهُ، وَيَومٌ عليه.

وقال آخرون: المراد - بالذين كفروا - اليهود الذين كانوا بالمدينة يُلْقُون الشُّبهَاتِ.

وقيل: المرادُ أبو سفيان؛ لأنه كان شجرة الفتن.

قال ابنُ الْخَطِيبِ: «والأقرب أنه يتناول كُلَّ الكفار؛ لأن اللفظ عامٌّ، وخصوص السببِ لا يمنع من عموم اللفظِ» .

قوله: {يَرُدُّوكُم} جواب {إِن تُطِيعُواْ} وقوله: {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} لا يُمْكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه، بل لا بُدَّ من التخصيصِ.

ص: 592

وقيل: إن تطيعوهم فيما يأمرونكم به يوم أحُدٍ من ترك الإسلامِ.

وقيل: إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم به من الضلال.

وقيل في المشورة. وقيل في تَرْك المحاربة، وهو قوله:{لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156] ثم قال: {يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ} يعني يردوكم إلى الكُفْر بعد الإيمان؛ لأن قبولَهُم في الدعوة إلى الكفر، ثم قال:{فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} فلما كان اللفظ عاماً دخل فيه خُسران الدنيا وخُسْران الآخرة.

أما خسران الدنيا فلان أشَقَّ الأشياء على العُقلاء في الدنيا الانقياد إلى العَدُوِّ، وإظهار الحاجة إليه. وأما خُسْران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبَّد، والوقوع في العقاب المخلَّد و «خَاسِرِينَ» حالٌ.

قوله: {بَلِ الله مَوْلَاكُمْ} مبتدأ وخبر، وقرأ الحسنُ بنصب الجلالةِ؛ على إضمار فِعْل يدل عليه الشرط الأول، والتقدير: لا تطيعوا الذين كفروا، بل أطيعوا الله، و «مَوْلَاكُمْ» صفة.

وقال مَكِّي: «وأجاز الفرَّاء: بل الله - بالنصب -» كأنه لم يطلع على أنها قراءة.

فصل

والمعنى: أنكم إن تطيعوا الكفار لينصروكم ويُعينوكم فهذا جَهْل، لأنهم عاجزون متحيرون، والعاقل يطلب النُّصْرَةَ من الله تعالى؛ لأنه هو الذي ينصركم على العَدُوِّ، ثم بيَّن أنه خير الناصرين، وذلك لوجوهٍ:

أولها: أنه - تعالى - هو القادرُ على نصرتك في كلِّ ما تريدُ والعالم الذي لا يَخْفَى عليه دعاؤك وتضرُّعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه.

ثانيها: أنه ينصرك في الدُّنْيَا والآخرة، وغيره ليس كذلك.

ثالثها: أنه ينصرك قبل سُؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال:

{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار} [الأنبياء: 42] وغيره ليس كذلك.

واعلم أن ظاهر قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصِرِينَ، وهو منزَّه، عن ذلك، وإنما ورد الكلامُ على حسب تعارفهم، كقوله:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}

ص: 593

قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ.

قوله: {سَنُلْقِي} الجمهور بنون العظمة، وهو التفات من الغيبة - في قوله:{وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه - تعالى -.

وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ «سَيُلْقِي» بالغيبة؛ جَرْياً على الأصل. وقدم المجرور على المفعول به؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال: والإلقاء - هنا - مجاز؛ لأن أصلَه في الأجرام، فاستُعِيرَ هنا، كقول الشَّاعر:[الطويل]

1655 -

هُمَا نَفَثَا فِي فِيء مِنْ فَمَويْهِمَا

عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ

وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ:«الرُّعْب» و «رُعْباً» - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل: هما لغتان.

وقيل: الأصل الضم، وخُفِّف، وهذا قياس مطردٌ.

وقيل: الأصلُ السكون، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ.

والرُّعْب: الخوف، يقال: رعيته، فهو مرعوب، وأصله من الامتلاء، يقال: رَعَبْتُ الحوض، أي: ملأته وسَيْل راعب، أي: ملأ الوادي.

فصل

قيل: هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة. والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين:

الأول: أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم، فتركوهم، وفرّوا منهم من غير سبب، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل، وقال: أين ابنُ أبي كبشةَ؟ أين ابن أبي قُحافةَ؟ أين ابن الخطابِ؟ فأجابه عمر، ودارت بينهم كلماتٌ، وما

ص: 594

تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل، والذهاب إليهم.

والثاني: أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا، وقالوا: ما صنعنا شيئاً، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم.

وقيل: إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد، بل هو عام.

قال القفالُ: كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في ويم أُحُدٍ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان، وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل. ونظير هذه الآية قوله:«نصرت بالرعب مسيرة شهر» .

فصل

قال بعض العلماءِ: إن هذا العموم على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار.

قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] متعلق بالإلقاء، وكذلك {بِمَآ أَشْرَكُواْ} ولا يضر تعلُّق الحرفين؛ لاختلاف معناهما، فإن «في» للظرفية؛ الباء للسببية. و «ما» مصدرية، و «ما» الثانية مفعول به لِ «أشْرَكُوا» وهي موصولة بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والراجع: الهاء في «به» ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي: الحجة - كأنه قيل: لا سُلطان على الإشراك فينزل.

كقول الشاعر: [السريع]

1656 -

...

...

.

وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ

أي لا ينجحر الضَّبُّ بها، فيُرَى.

ومثله قول الشاعر: [الطويل]

1657 -

عَلَى لَاحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ.....

...

... . .

أي: لا منار فيهتدى به، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً. و «سُلْطَاناً» مفعول به لِ «يُنَزِّلُ» .

ص: 595

قوله: {بِمَآ أَشْرَكُواْ} «ما» مصدرية، والمعنى: بسبب إشراكهم باللهِ، وتقريره: أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار، كقوله:{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار؛ لأنه يقول: إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني، فالآخر ينصرني، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ.

قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} السُّلْطَان - هنا -: الحجة والبرهان، وفي اشتقاقه وجوهٌ:

فقيل: من سليط السراج الذي يوقَد به، شُبِّه لإنارته ووضوحه. قاله الزجاجُ.

وقال ابن دُرَيْدٍ: من السلاطة، وهي الحِدَّة والقَهْر.

وقال الليثُ: السلطان: القدرة؛ لأن أصل بنائه من التسليط، فسلطان الملكِ: قوته وقدرته، ويسمى البرهان سُلْطَاناً، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ.

فإن قيل: إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله؟

فالجوابُ: أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه.

وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون: إن هذا لا دليلَ عليه، فلم يَجُزْ إثباتُه. وبالغ بعضهم، فقال: لا دليلَ عليه، فيجب نَفْيُه.

فصل

استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه.

وقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النار} بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم: مسكنهم النار.

قوله: {وَبِئْسَ مثوى الظالمين} المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: مثواهم، أو النار.

المثوى: مَفْعَل، من ثَوَيْتُ - أي: أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي، ثم يئوي، ولا يلزم المأوى الإقامة، بخلاف عكسه.

ص: 596

صَدَقَ يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، والآخر بالحرفِ، وقد يُحْذَف، كهذه الآية.

والتقدير: صدقكم في وعده، كقولهم: صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} معمول لِ «صَدَقَكُمْ» أي: صدقكم في ذلك الوقتِ، وهو وقتُ حَسِّهِم، أي: قَتْلهم.

وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله: «وَعْدَه» - وفيه نظرٌ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت.

يقال: حَسَسْتُه، أحَسُّه، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير: تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي: أذهبتم حِسَّهم بالقتل.

قال أبو عبيدةَ، والزَّجَّاجُ: الحَسُّ: الاستئصال بالقَتْل.

قال الشاعر: [الطويل]

1658 -

حَسَنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ

بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا

وقال جرير: [الوافر]

1659 -

تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى

حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ

ويقال: جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت: - أي: محرقة له، ذاهبته. وسنة حَسُوسٌ: أي: جدبة، تأكل كلَّ شيءٍ.

قال رؤية: [الرجز]

1660 -

إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا

تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا

وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة -.

قال أبو عبيدٍ: الحَسُّ: الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل، كما يقال: بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه، وَرَأسَهُ، إذا أصاب رأسه.

و «بإذْنِهِ» متعلق بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل «تَحُسُّونَهُمْ» ، أي: تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك.

قال القرطبيُّ: «ومعنى قوله:» بإذْنه «أي: بعلمه، أو بقضائه وأمره» .

ص: 597

فصل

وجه النظم: قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداءِ.

وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم َ رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء، فذلك قوله تعالى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} يريد: تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم َ.

وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى: {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ} [آل عمران: 125] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى.

وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [آل عمران: 151] .

وقيل: الوعد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم َ للرُّماة: لا تبرحوا عن هذا المكانَ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان.

قال أبو مسلم: لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ.

فصل

وقد تقدم في قصة أُحُد - أن النبي صلى الله عليه وسلم َ جعل أُحُداً خَلْفَ ظَهْره، واستقبل المدينة، وأقام الرماةَ عند الجبلِ، وأمرهم أن يثبتوا هناك، ولا يبرحوا - سواء كانت النُّصْرَة للمسلمين أو عليهم - فلما أقبل المشركونَ جعل الرُّمَاة يَرْشُقُون خيلها، والباقون يضربونهم بالسيوفِ، حتّى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يحسونهم، أي: يقتلونهم قتلاً كثيراً.

وقوله: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} في «حَتَّى» قولان:

أحدهما: أنها حرف جر بمعنى «إلى» وفي متعلقها - حينئذ - ثلاثةُ أوجهٍ:

أحدها: أنها متعلقة ب «تَحسُّونَهُمْ» اي: تقتلونهم إلى هذا الوقت.

الثاني: أنها متعلقة ب «صَدَقَكُمْ» وهو ظاهر قول الزمخشريّ، قال:«ويجوز أن يكونَ المعنى: صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم» .

ص: 598

الثالث: أنّها متعلقة بمحذوف، دَلَّ عليه السياقُ.

قال أبو البقاء: «تقديره: دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم» .

القول الثاني: أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية، و «إذَا» على بابها - من كونها شرطية - وفي جوابها - حينئذٍ - ثلاثةُ أوجهٍ:

أحدها: قال الفرّاء: جوابها «وَتَنَازَعْتُمْ» وتكون الواو زائدة، كقوله:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103 - 104] والمعنى ناديناه، كذا - هنا - الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان، فكأنَّ التقدير: حتى إذا فَشِلْتُم، وتنازعتم في الأمر عصيتم.

قال: ومذهب العرب إدخال الواو في جواب «حَتَّى» كقوله: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} {الزمر: 73] فإن قيل: قوله: {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ} معصية، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه، وذلك فاسدٌ.

فالجواب: أن المراد من العصيان - هنا - خروجهم عن ذلك المكانِ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه. ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة.

قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} و «ثم» زائدة.

قال أبو علي: ويجوز أن يكون الجواب {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} و «ثُمَّ» زائدة، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر: [الطويل]

161 -

أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى

فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا

وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118] وهذان القولان ضعيفانِ جداً.

والثالث - وهو الصحيحُ - أنه محذوف، واختلفت عبارتهم في تقديره، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ: انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ: منعكم نصرَه.

وقدَّره ابو البقاء: بأن أمركم. ودلّ على ذلك قوله تعالى: {مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} [آل عمران: 152] .

وقدره غيره: امتحنتم.

وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديره: حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم.

وقدَّره أبو حيان: انقسمتم إلى قسمَيْن، ويدلُّ عليه ما بعده، وهو نظيرُ قوله: {فَلَمَّا

ص: 599

نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 32] قال أبو حيان: لا يقال: كيف يقالُ: انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم، بل من بعضِهِمْ.

واختلفوا في «إذا» - هذه - هل هي على بابها أم بمعنى «إذْ» ؟ والصحيح الأول، سواء قلنا إنها شرطية أم لا.

فصل

الفشلُ: هو الضعف.

وقيل: الفشل: الجُبْن، وليس بصحيح؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} [الأنفال: 46] أي: فتضعفوا، ولا يليق أن يكونَ المعنى فتجبنوا.

والمراد من التنازُع اختلاف الرُّماةِ حين انهزم المشركون، فقال بعضُهم لبعض: انهزم القومُ، فما مقامنا؟ وأقبلوا على الغنيمة.

وقال بعضهم: لا نتجاوز أمر رسولِ اللهِ وثبت عبد الله بن جبير في نَفَرٍ يسير من أصحابه دون العَشَرة - فلما رآهم خالد بن الوليد وعكرمةُ بن أبي جهلٍ حملوا على الرُّمَاة فقتلوهم، وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريحُ، فصارت دبوراً بعد أن كانت صَباً، وانتقضت صفوف المسلمين، واختلطوا فجعلوا يقتتلون على غير شِعَارٍ، يَضْرِبُ بعضهم بعضاً ما يَشْعرون من الدهش، ونادى إبليسُ: إن محمداً قد قُتِل، فكان ذلك سبب هزيمة المسلمينَ.

قوله: {وَعَصَيْتُمْ} يعني: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم َ اي خالفتم أمره بملازمة ذلك المكان {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} من الظفر والغنيمة.

فإن قيل: لِمَ قدم ذِكْرَ الفشل على التنازع والمعصية؟

فالجوابُ: أن القوم لما رأوا هزيمة الكفارِ، وطمعوا في الغنيمة، فشلوا في أنفسهم عن الثبات، طمعاً من الغنيمةِ، ثم تنازعوا - بطريق القولِ في أنَّا هل نذهب لطلب الغنيمة، أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة.

فإن قيل: إنما عصى البعض بمفارقة ذلك المكانِ، فلِمَ جاء العقابُ عاماً؟

فالجوابُ: أنَّ اللفظَ - وإن كان عاماً - قد جاء المخصِّص بعده، وهو قوله:{مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} .

ص: 600

قوله: {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} المقصودُ منه التنبيهُ على عِظَمِ المعصية؛ لأنهم لمَّا شاهدوا أن الله - تعالى - أكرمهم بإنجاز الوَعْد كان من حَقِّهم أن يمتنعوا عن المعصية. فلما أقدموا عليها، سلبهم اللهُ ذلك الإكرام، وأذاقهم وبالَ أمْرِهم.

قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} يعني: الذين تركوا المركز، وأقبلوا على النهبِ {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} يعني: الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبَيْرٍ، حتى قُتِلوا. قال عبدُ الله بن مسعودٍ: وما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ يريد الدنيا، حتى كان يومُ أحدٍ، ونزلت هذه الآية.

قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} عطفٌ على ما قبله، والجملتان من قوله:{مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} اعتراض بين المتعاطفين، وقال أبو البقاء:{ثُمَّ صَرَفَكُمْ} معطوف على الفعل المحذوف.

يعني الذي قدره جواباً للشرط، ولا حاجة إليه، و «لِيَبْتَلِيَكُمْ» متعلق ب «صَرَفَكُمْ» و «أن» مضمرة بعد اللام.

فصل

اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ وذلك لأن صَرْفَهم عن الكفار معصية، فكيف أضافه إلى نفسه؟ فقال جمهورُ المفسّرينَ: الخيرُ والشر بإرادة اللهِ تَعَالَى وتخليقه، ومعنى هذا الصَّرْفِ أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ المسلمينَ عن الكفارِ وألقى الهزيمةَ عليهم، وسلَّط الكفارَ عليهم.

وقالت المعتزلةُ: هذا التأويل غير جائز؛ للقرآن والعقل، أم القرآنُ فقوله تعالى:{إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [آل عمران: 155] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يُضيفه بعد هذا إلى نفسه؟

وأما المعقولُ فإن اللهَ تعالى عاتَبَهم على ذلك الانصراف، ولو كان ذلك بفعل اللهِ لم تَجزْ مُعَاتَبَتَهُم عليه، كما لا يجوز معاتبتهم على طُولِهِمْ وقِسَرِهم، ثم ذكروا وجوهاً من التأويل:

أحدها: قال الجبائيُّ: إنَّ الرُّماةَ افترقوا فِرْقَتَيْن، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم، وبعضهم بقي هناك، فالذين بَقُوا أحاط بهم العَدُوُّ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدُوُّ من غير فائدةٍ أصْلاً، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم َ حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه - ولم يكونوا عُصَاةً بذلك، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه إلى نفسه، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه، ثم قال:{لِيَبْتَلِيَكُمْ} والمرادُ: أنه - تعالى - لما صرفهم إلى ذلك

ص: 601

المكانِ، وتحصَّنُوا به، أمرهم - هناك - بالجهادِ، والذَّبِّ عن بقية المسلمينَ، ولا شك أن الإقدامَ على الجهادِ بعد الانهزامِ، وبعد أن شاهدوا قَتْل أقاربهم وأحِبَّائهم من أعظم أنواع الابتلاء.

فإن قيل: فعلى هذا التأويل، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مُذْنِبِين، فلم قال:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} .

قلنا: الآية مشتملة على ذِكْر مَنْ كان معذوراً في الانصرافِ، ومَنْ لم يكن معذوراً، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة، فقوله:{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} راجعٌ إلى المعذورينَ؛ لأنَّ الآية لما اشتملتْ على قسمينِ، وعلى حُكمين، رَجَعَ كلُّ حكم إلى القسم الذي يليق به، ونظيره:{ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] والمرادُ الذي قال له: لا تحزن إن اللهَ مَعَنَا - وهو أبو بكر - لأنه كان خائفاً قبل هذا القولِ، فلما سَمِعَ هذا القولَ سَكَنَ، ثم قال:«وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا» وعنى بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم َ دون أبي بكرٍ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعاً، هذا قول الجبائي.

الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني: وهو أنَّ المرادَ من قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أنه - تعالى - أزال ما كان في قلوب الكفارِ من الرُّعْبِ من المسلمينَ؛ عقوبةً منه على عصيانهم وفَشَلِهم، ثم قال:{لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ليجعل ذلك الصَّرْف محنةً عليكم؛ لتتوبوا إلى اللهِ، وترجعوا إليه، وتستغفروه من مخالفة أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم َ ومَيْلكم إلى الغنيمةِ، ثم أعلمهم أنهُ - تعالى - قد عفا عَنْهُم.

الثالثُ: قال الكَعْبي: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} بأ، لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم {لِيَبْتَلِيَكُمْ} بكثرة الإنعام عليكم.

قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} ظاهره يقتضي تقدُّم ذَنْب منهم.

قال القاضي إنْ كان ذلك الذنبُ من الصغائر صحَّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة، فإن كان من الكبائرِ، فلا بد من إضمار توبتهم؛ [الإقامة] الدلالةِ على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرةِ.

وأجيب بأنَّ هذا الذنبَ لا شك أنه كان كبيرة، لأنهم خالفوا صريحَ نَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم َ وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمينَ، وقُتِلَ جَمْعٌ كبيرٌ من أكابرهم، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائرِ.

وأيضاً ظاهر قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] يدل على كونه كبيرة، ويضعف قول من قال: إنه خاص في بَدْر؛ لأن اللفظَ عامٌّ، ولا تفاوت في المقصودِ، فكان

ص: 602

التخصيصُ ممتنعاً، ثم إن ظاهرَ هذه الآية يدل على أنه - تعَالَى - عفا عنهم من غير توبةٍ؛ لأنه لم يذكر التوبة، فدلَّ على أنه - تعَالَى - قد يعفو عن أصحاب الكبائرِ، ثم قال:{والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} وهو راجعٌ إلى ما تَقَدَّمَ من ذكر النعم؛ فإنه نصرهم - أولاً - ثم عفا عنهم - ثانياً - وهذا يدل على أن صَاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ.

ص: 603

العامل في «إذْ» قيل: مُضْمَر، أي: اذكروا.

وقال الزمخشريُّ: «صَرَفَكُمْ» أوْ «لِيَبْتَلِيَكُمْ» .

وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون ظرفاً لِ «عَصَيْتُمْ» أوْ «تَنَازَعْتُمْ» أو فَشِلْتُمْ.

وقيل: هو ظرف لِ «عَفَا عَنْكُمْ» أي: عفا عنكم إذْ تُصْعِدُون هاربين.

وكل هذه الوجوهِ سائغةٌ، وكونه ظرفاً لِ «صَرَفَكُمْ» جيدٌ من جهةِ المعنى، ولِ «عَفَا» جيدٌ من جهة القُرْبِ، وعلى بعض هذه الأقوالِ تكون المسألةُ من باب التنازعِ، ويكون على إعمال الأخيرِ منها، لعدم الإضمارِ في الأول، ويكون التنازعُ في أكثرِ من عاملينِ.

والجمهور على {تُصْعِدُونَ} - بضم التاء وكسر العين - من: أصْعَدَ في الأرض، إذا ذهب فيها. والهمزةُ فيه للدخول، نحو أصبح زيدٌ، أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تدخلون في الصعود، ويُبيِّن ذلك قراءة أبيٍّ «تصعدون في الوادي» .

وقرأ الحسنُ، والسُّلمي، وقتادةُ:«تَصْعَدُونَ» بفتح التاء والعين - من: صعد في الجبل، أي: رقي، والجمع بين القراءتين أنهم - أولاً - أصعدوا في الوادي، ثم لما هزمهم العدو - صعدوا في الجبل، وهذا على رَأى مَنْ يُفَرِّق بين صعد وأصْعد، وقرأ أبو حَيْوَةَ:«تَصَعَّدُون» بالتشديد - وأصله: تَتَصَعَّدُونَ، حذفت إحدى التاءين، إما تاء المضارعة، أو تاء «تَفَعَّل» والجمع بين قراءتِهِ وقراءة غيره كما تقدم.

والجمهورُ {تُصْعِدُونَ} بتاء الخطاب، وابن مُحَيْصن - ويُرْوَى عن ابن كثيرٍ - بياء الغيبة، على الالتفاتِ، وهو حسنٌ.

ويجوز أن يعودَ الضمير على المؤمنين، أي:{والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين إِذْ تُصْعِدُونَ} فالعاملُ في «إذْ» «فَضْلٍ» ويقال: أصْعَدَ: أبعد في الذهاب، قال القُتَبِيُّ أصعد:

ص: 603

إذا أبْعَد في الذهاب، وأمعن فيه، فكأن الإصعادَ إبعادٌ في الأرض كإبعاد الارتفاعِ.

قال الشاعرُ: [الطويل]

1662 -

ألَا أيُّهَذَا السَّائِلِي، أيْنَ أصْعَدَتْ؟

فَإنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مِوْعِدا

وقال آخرُ: [الرجز]

1663 -

قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الإضعَادِ

فَالْيَوْمَ سُرِّحْتِ، وَصَاحَ الْحَادِي

وقال الفرَّاءُ وأبو حاتم: الإصعاد: في ابتداء السفر والمخارج، والصعود: مصدر صَعَدَ: رقي من سُفْلٍ إلى عُلُو، ففرَّق هؤلاء بين صَعَد وأصْعَد.

وقال المفضَّلُك صعد وأصعد بمعنًى واحدٍ، والصعيد: وجْهُ الأرضِ.

قال بعضُ المفسّرين: «وكلتا القراءتين صوابٌ، فقد كان يومئذ من المهزمين مُصْعِد وصاعد» .

قوله: {وَلَا تَلْوُونَ} الجمهور على {تَلْوُونَ} - بواوين - وقُرِئَ بإبدال الأولى همزة؛ كراهية اجتماع واوين، وليس بقياسٍ؛ لكون الضمة عارضة، والواو المضمومة تُبْدَل همزة بشروط تقدمت في «البقرة» .

منها: ألا تكون الضمة عارضة، كهذه، وأن لا تكون مزيدة، نحو ترهوك.

وألا يمكن تخفيفها، نحو سُور ونور - جمع سوار ونوار - لأنه يمكن تبكينُها فتقول: سور ونور، فيخف اللفظ بها.

وألا يُدْغم فيها، نحو تعوَّذ - مصدر تعوذ.

ومعنى {وَلَا تَلْوُونَ} ولا ترجعون، يقال: لَوَى به: ذهب به، ولَوَى عليه: عطف.

قَالَ الشاعرُ: [الطويل]

1664 -

...

...

... .

أخُو الْجَهْدِ لا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا

وأصله أن المعرِّجَ على الشيءِ يلوي عليه عنقه، أو عنان دابته، فإذا مضى - ولم

ص: 604

يعرِّج - قيل: لن يلوي، ثم استعمل في ترك التعريجِ على الشيء وترك الالتفاتِ إليه، يقال: فلانٌ لا يلوي على كذا أي: لا يلتف إليه، وأصل {تَلْوُونَ} تلويون، فَأعِلَّ بحذفِ اللام، وقد تقدم في قوله:{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} [آل عمران: 78] وقرأ الأعمشُ، وأبو بكر بنُ عَيَّاشٍ - ورويت عن عاصم «تُلوون» بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى.

وقرأ الحسن «تَلُون» بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى.

وقرأ الحسن «تَلُون» - بواو واحدة - وخرجوها على أنه أبدل الواو همزةً، ثم نقل حركة الهمزة على اللام، ثم حذف الهمزة، على القاعدة، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء - وهي اللام - وقال ابنُ عطيةَ:«وحذفت إحدى الواوين للساكنين، وكان قد تقدم أن هذه القراءة هي قراءة مركبةٌ على لغة من يهمز الواوَ، وينقل الحركة» .

وهذا عجيبٌ، بعد أن يجعلها من باب نقل حركةِ الهمزةِ، كيف يعودُ ويقول: حذفت إحدى الواوين للساكنين؟ ويُمكن تخريجُ هذه القراءة على وجعين آخرينِ:

أحدهما: أن يقالَ: استُثقلت الضمةُ على الواو؛ لأنها أختها، فكأنه اجتمع ثلاثُ واواتٍ، فنُقِلت الضمةُ إلى اللامِ، فالتقى ساكنانِ - الواو التي هي عينُ الكلمةِ، والواو التي هي ضميرٌ - فحُذفت الأولى؛ لالتقاء الساكنين، ولو قال ابن عطيةَ هكذا لكان أولى.

الثاني: أن يكون «تَلُونَ» مضارع وَلِي - من الولاية - وإنما عُدِّي ب «على» لأنه ضُمِّن معنى العطف. وقرأ حُميد بن قيس: «على أُحُدٍ» - بضمتين - يريد الجَبَل، والمعنى: ولا تلوون على مَنْ فِي جبل أُحُد، وهو النبي صلى الله عليه وسلم َ قال ابن عطية: والقراءة الشهيرة أقْوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم َ لم يكن على الجبل إلا بعدما فَرَّ الناسُ عنه، وهذه الحالُ - من إصعادهم - إنما كانت وهو يدعوهم.

ومعنى الآيةِ: تعرجون، ولا يلتفت بعضٌ إلى بعضٍ.

قوله: «والرسول يدعوكم» ، مبتدأ وخبر في محل نصب على الحالِ، العامل فيها «تلوون» .

أي: والرسول يدعوكم في أخراكم ومن ورائكم، يقول:«إليَّ عِبَاد َالله؛ فأنا رسولُ اللهِ، من يكر فله الجنَّةُ» .

ويحتمل أنه كان يدعوكم إلى نفسه، حتى تجتمعوا عنده، ولا تتفرقوا. و «أخراهم» آخر الناس كما يقال في أولهم، ويقال: جاء فلانٌ في أخريات الناس.

قوله: {فَأَثَابَكُمْ} فيه وجهان:

أحدهما: أنه معطوف على «تصعدون» و «تلوون» ، ولا يضر كونهما مضارعين؛

ص: 605

لأنهما ماضيان في المعنى؛ لأن «إذ» المضافة إليهما صيرتهما ماضيين، فكأن المعنى إذا صعدتم، وألويتم.

الثاني: أنه معطوفٌ على «صرفكم» .

قال الزمخشريُّ {فَأَثَابَكُمْ} عطف على صرفكم، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان:

أحدهما: أنه الباري تعالى.

والثاني: أنه معطوف على «صرفكم» .

قال الزمخشريُّ {فَأَثَابَكُمْ} عطف على صرفكم، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان:

أحدهما: أنه الباري تعالى.

والثاني: أنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ.

قال الزَّمَخْشَرِيُّ: ويجوز أن يكون الضمير في {فَأَثَابَكُمْ} للرسول أي: فآساكم من الاغتمام، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة.

و «غماً» مفعول ثانٍ.

وقوله: {فَأَثَابَكُمْ} هل هو حقيقة أو مجاز فقيل: مجاز كأنه جعل الغم قائماً مقام الثواب الَّذِي كان يحصل لولا الفرارُ فهو كقوله: [الطويل]

1665 -

أخَافُ زِيَاداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ

أدَاهِم سُوداً أوْ مُحَدْرَجَة سُمْرَا

وقول الآخر:

1666 -

تحية بينهم ضرب وجميع

جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء، والضرب بمنزلة التحية.

وقال الفرّاءُ: «الإثابة - هاهنا - بمعنى المعاقبة» وهو يرجع إلى المجاز؛ لأن الإثابة أصلها في الحسنات.

قوله: {بِغَمٍّ} يجوز في الباء أوجهٌ:

أحدها: أن تكون للسببيةِ، على معنى أن متعلِّق الغَمْ الأول الصحابة، ومتعلق الغَمِّ الثاني قيل المشركين يوم بدرٍ.

قال الحَسَنُ: يريد غَم يوم أحدٍ للمسلمين بغمّ يوم بدرٍ للمشركينَ، والمعنى: فأثابكم غماً بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدرٍ.

وقيل متعلَّق الغَمِّ الرسول، والمعنى: أذاقكم الله غمًّا بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ومخالفتكم أمره، أو فأثابكم الرسول غماً بسبب غفم اغتممتموه لأجله، والمعنى أن الصحابة لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم َ شُجَّ وكُسِرت رَبَاعِيَتُه، وقُتِل عَمه، اغتممتموه لأجله، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم َ لما رآهم قَد عَصَوْا رَبَّهُم لأجل الغنيمة - ثم

ص: 606

بَقَوْا محرومينَ من الغنيمةِ - وقتِلَ أقاربُهم، اغتم لأجلهم.

الثاني: أن تكون الباء للمصاحبة، أي: غماً مصاحِباً لغم، ويكون الغمَّان للصحابة، بمعنى غَمًّا مع غم أو غماً على غم، فالغم الأولُ: الهزيمة والقتل، والثاني إشراف خالد بخيل الكفار، أو بإرجافهم: قتل الرسول صلى الله عليه وسلم َ فعلى الأول تتعلق الباء ب {فَأَثَابَكُمْ} .

قال أبو البقاء وقيل: المعنى بسبب غم، فيكون مفعولاً به.

وعلى الثاني يتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة لِ «غَمّ» أي: غماً مصاحباً لغم، أو ملتبساً بغَمٍّ، وأجاز أبو البقاء أن تكون الباءُ بمعنى «بعد» أو بمعنى «بدل» وجعلها - في هذين الوجهين - صفة ل «غماً» .

وكونها بمعنى «بعد» و «بدل» بعيدٌ، وكأنه يريدُ تفسير المعنى، وكذا قَالَ الزمخشريُّ غماً بَعْدَ غَمٍّ. واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة:

أولاً: غَمُّهم بما نالهم من العدوِّ في الأنفس والأموال.

ثانياً: غمُّهم بما لَحِق المسلمين من ذلك.

ثالثاً: غمُّهم بما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم َ.

رابعاً: غمُّهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها.

خامساً: غمُّهم بسبب التوبة التي صارت واجبةً عليهم؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بتركِ الهزيمةِ والعَوْدِ إلى المحاربة بعد الانهزامِ، وذلك من أشق الأشياء؛ لأن الإنسانَ بعد انهزامه - يَضعُف قلبُه ويجبن، فإذا أمِرَ بالمعاودةِ، فإن فعل خاف القتلَ، وإنْ لم يفعلُ خافَ الكُفْرَ وعِقَابَ الآخِرَةِ - وهذا الغَمُّ أعظمها.

سادسها: غمُّهم حين سمعوا أن محمداً قُتِلَ.

سابعها: غمُّهم حين أشرف خالد بن الوليد عليهم بخَيْل المشركين.

ثامنها: غمُّهم حين أشرف أبو سفيان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ انطلق يومئذٍ

ص: 607

يدعو الناسَ حتى انتهى إلى أصحاب الصخرةِ، فلما رَأوْهُ وضع رجلٌ سَهْماً في قوسه، وأراد أن يَرْمِيَه، فقال: أنا رسولُ اللهِ، ففرحوا حين وجدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حين رأى مَنْ يمتنع به، فأقبلوا على المشركين، يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قُتِلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه، حتى وقفوا بباب الشِّعْب، فلما نظر المسلمون إليهم همَّهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم، فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليس لهم أن يَعْلونا، اللهم إن تُقْتَل هذه العصابةُ لا تُعْبَد في الأرض، ثم بدأ أصحابه، فرمَوْهم بالحجارة حتَّى أنزلوهم.

وإذا عرفت هذا فكلُّ واحدٍ من المفسّرين فسَّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال: وعندنا أن الله - تعالى - ما أراد بقوله: {غُمّاً بِغَمٍّ} اثنين، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها، أي: أن اللهَ عاقبكم بغموم كثيرة، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم، ونزول المشركين من فوق الجبلِ عليكم، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، ومثل إقدامكم على المعصيةِ، فكأنه - تعالى - قال: أثابكم هذه الغمومَ المتعاقبةَ؛ ليصير ذلك زاجراً لكم عن الإقدام على المعصية، والاشتغال بما يخالف أمرَ الله تعالى.

والغَمّ: التغطية، يقال: يوم غَمٌّ، وليلة غَمَّةٌ - إذا كانا مُظْلِمَيْن - ومنه: غُمَّ الهلال - إذا لَمْ يُرَ، وغَمَّ الأمرُ، يَغْمَى - إذا لم يُتَبَيَّنُ.

قوله: {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ} هذه لام «كي» وهي لام جرٍّ، والنصب - هنا - ب «كي» لئلَاّ يلزم دخول حرفِ جرٍّ على مثله، وفي متعلَّق هذه اللام قولانِ:

أحدهما: أنه {فَأَثَابَكُمْ} وفي «لا» على هذا وجهانِ:

الأول: أنها زائدةٌ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحُزْن، والمعنى: أنه غمهم ليُحْزِنهم؛ عقوبةً لهم على تركهم مواقفهم، قاله أبو البقاء.

الثاني: أنها ليست زائدة، فقال الزمخشريُّ: معنى {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ} لتتمرَّنوا على تجرُّع الغمومِ، وتتضرروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع، ولا على مُصِيبٍ من المضارّ.

وقال ابن عطية: «المعنى: لتعلَمُوا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم ورَّطتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه» .

ثانيهما: أن اللام تتعلق ب «عَفَا» لأن عَفْوه يُذْهِب كُلَّ حُزْن، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْلِ.

ثم قال: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم، قادرٌ على مجازاتها، وهذا زَجْرٌ للبُعْدِ عَنِ الإقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.

ص: 608

الأول: أنها مفعول «أنْزَلَ» .

الثاني: أها حال من «نُعَاساً» لأنها في الأصل - صفةٌ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبت حالاً.

الثالث: أنها مفعولٌ من أجْله، وهو فاسدٌ؛ لاختلال شَرْطِهِ - وهو اتحادُ الفاعلِ - فإنّ فاعل «أنْزَلَ» غير فاعلِ الأمَنَةِ.

الرابع: أنه حالٌ من المخاطبين في «عَلَيْكُمْ» وفيه حينئذٍ - تأويلانِ:

إما على حَذْف مضافٍ - اي ذور أمَنَةٍ - وإما أن يكون «أمَنَةً» جمع آمن، نحو بار وبَرَرَة، وكافر وكَفَرَة.

وألأما «نُعَاساً» فإن أعْرَبْنا «أمَنَةً» مفعولاً به كان بدلاً، وهو بدل اشتمالٍ؛ لأن كُلاًّ من الأمَنَةِ والنُّعَاسِ يشتملُ على الآخر، أو عطف بيان عند غير الجمهورِ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارِفِ، أو مفعولاً من أجلِهِ، وهو فاسدٌ؛ لما تقدم وإن أعربنا «أمَنَةً» حالاً، كان «نُعَاساً» مفعولاً ب «أنزَلَ» و «أنْزَلَ» عطف على «فأثَابَكُمْ» وفاعله ضمير اللهِ تَعَالى، و «أل» في «الْغَمِّ» للعهد؛ لتقدُّم ذِكْره ورد أبو حيان على الزمخشريِّ كون «أمَنَةً» مفعولاً به بما تقدم، وفيه نظرٌ، فإن الزمخشريَّ قال أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة. فقدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل «أمَنَةً» فكأنه استشعر السؤال، فلذلك قدرَ عاملاً على أنه قد يُقال: إن الأمَنَةَ من اللهِ تَعَالَى، بمعنى أنهُ أوقعها بهم، كأنه قيل: أنزلَ عليكم النعاس ليُؤمِّنَكُمْ به.

و «أمَنَةً» كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أُوقِع به.

وقرأ لجمهور: أمَنَةً - بفتح الميم - إما مصدراً بمعنى الأمن، أو جمع آمن، على ما تقدم تفصيله. والنَّخَعِيُّ وابن محيصن - بسكون الميم وهو مصدرٌ فقط، والأمْن والأمَنة بمعنًى واحدٍ، وقيل الأمْنُ يكون مع زوالِ سببِ الخَوفِ، والأمَنة مع بقاء سببِ الخوفِ.

ص: 609

فصل في بيان كيفية النظم

في كيفية النَّظْمِ وَجْهَانِ:

أحدهما: أنه لما وعد المؤمنين بالنصر، فالنصر لا بدّ وأن يُسبق بإزالة الخوف عنهم؛ ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى منجزٌ وَعْدَهُ في نَصْر المؤمنينَ.

الثاني: أنه - تعالى - بيَّن نَصْرَ المؤمنين - أولاً - فلما عصى بعضهم سلط عليهم الخوفَ.

ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلوب مَنْ كان صادقاً في إيمانه، مستقِرًّا على دينه بحيث غلب النعاس عنه.

واعلم أن الذين كانُوا مع رسولِ الله يوم أُحُدٍ فريقانِ:

أحدهما: الجازمونَ بنبوَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ فهؤلاء كانوا قاطعينَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُ هذا الدينَ، وأن هذه الواقعةَ لا تؤدي إلى الاستئصالِ، فلا جَرَمَ كانوا مؤمنين، وبلغ ذلك الأمن إلى حيثُ غشيَهم النُّعَاسُ فإن النوم لا يجيء مع الخوفِ، فقال - هاهنا - في قصة أُحُدٍ:{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} وقال في قصة بدرٍ:

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11] .

وأما الفريقُ الثاّنِي فهم المنافقونَ، فكانوا شاكِّين في نبوتِهِ صلى الله عليه وسلم َ وما حضروا إلا لطلب الغنيمةِ، فهؤلاء اشتد جزعُهُمْ، وعظم خوفُهُمْ.

فإن قيلك لم قدم ذكر الأمَنَة على النُّعَاسِ في قصة أُحُدٍ، وأخرها في قصة بدرٍ؟

فالجوابُ: أنه لما وعدهم بالنصر، فالأمن وزوال الخوف إشارةٌ ودليلٌ على إنجاز الوَعْدِ.

قوله: {يغشى} قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق، والباقون بالباء؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة ل «امَنَةً» ؛ مراعاة لها، ولا بُدّ من تفصيل، وهو إن أعربوا «نُعَاساً» بدلاً، أو عَطْفَ بيانٍ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن:

الأول: أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ، قدِّمت الصفة، وأخر غيرها، وهنا قد قدَّموا البدلَ، أو عطف البيانِ عليها.

الثاني: أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل، لا عن المبدَل منه، تقول: هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ، ولا يجوز فاتنة - إلا قليلاً - فَجَعْلُهم «نُعَاساً» بدلاً من «أمَنَةً» يضعف لهذا.

فإن قيل: قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر: [الكامل]

ص: 610

1667 -

وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرِاةِ كَأَنَّهُ

مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ

فقال: «مُعَيَّنٌ» ؛ مراعة للهاء في «كأنه» ولم يُرَاعِ البدل - حاجبيه - ومثله قول الآخر: [الكامل]

1668 -

إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا

تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ

فقال: تركت؛ مراعاة للسيوف، ولو راعَى البدل لقال: تركا.

فالجوابُ: أنَّ هذا - وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ؛ مستنداً إلى هذين البيتين - مُؤوَّلٌ بأن «معين» خبر لِ «حاجبيه» لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ، وأنَّ نصب «غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا» على الظرف، لا على البدل. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله:{عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] .

وإن اعربوا «نُعَاساً» مفعولاً به و «أمَنَةً» حالٌ يلزم الفصل - أيضاً - وفي جوازه نظر، والأحسنُ - حينئذٍ - أن تكون هذه جملة استئنافية جواباً لسؤال مقدَّر، كأنه قيل: ما حكم هذه الأمَنَة؟ فأخبر بقوله: «تغشى» .

ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على «نُعَاساً» وتكون الجملة صفة له، و «مِنْكُمْ» متعلق بمحذوف، صفة لِ «طَائِفَةً» .

فصل

قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أُحُدٍ، فكان السيفُ يسقط من أحَدِنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه، وقال ثابتٌ: عن أنسٍ عن أبي طلحةَ قال: رفعت رأسي يومَ أُحُدٍ، فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النُّعاس.

ص: 611

وقال الزبيرُ: كنت مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم َ حين اشتدَّ الخوفُ، فأنزلَ اللهُ علينا النومَ، واللهِ إنِّ لأسمع قول مُعَتِّب بن قُشَيْر - ما أسمعه إلاّ كالحلم - يقول:«لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا» .

فصل

قال ابنُ مسعودٍ: النُّعَاسُ في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشَّيْطَانِ، وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق باللهِ، والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصَّلاة إلا من غاية البعد عن اللهِ تعَالَى. واعلم أنّ ذلك النعاسَ فيه فوائدٌ:

الأولى: أنه وَقَعَ على كافة المؤمنين - لا على الحد المعتاد - فكان معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم َ ولا شكَّ أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزةَ الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد أحدهم في محاربة العدو.

الثانية: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال، والنوم يفيد عود القوةِ والنشاطِ، واشتدادَ القوةِ والقدرةِ.

الثالثة: أنَّ الكفارَ لما اشتغلوا بقَتْل المسلمين ألقى اللهُ النومَ على عين من بقي منهم؛ لئلاّ يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوفُ والجُبْنُ في قلوبِهمْ.

الرابعةُ: أن الأعداءَ كانوا في غاية الحرصِ على قتلهم، فبقاؤهم ف يالنوم مع السَّلامةِ في مثل تلك المعركةِ - من أدلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ حِفْظ اللهِ وعصمته معهم، وذلك مما يُزِيل الخوفَ عن قلوبهم، ويورثهم مزيدَ الوثوق بوعد الله تعالى.

قوله: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ:

الأول: أنها واو الحالِ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال، والعامل فيها «يَغْشَى» .

الثاني: أنها واو الاستئناف، وهي التي عبر عناه مَكيٌّ بواو الابتداء.

الثالث: أنها بمعنى «إذْ» ذكره مَكي، وأبو البقاءِ، وهو ضعيفٌ.

ص: 612

و «طائفة» مبتدأ، والخبر {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين: إما للاعتمادِ على واو الحالِ، وقد عده بعضهم مسوغاً - وإن كان الأكثرُ لم يذكره -.

وأنشدوا: [الطويل]

1669 -

سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا

مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ

وإما لأن الموضعَ تفسيلٌ؛ فإن المعنى: يغشى طائفةً، وطائفة لم يغشهم.

فهو كقوله:

1670 -

إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ

بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ

ولو قُرِئ بنصب «طَائِفَة» - على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ - لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقلِ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ:

أحدها: أنه {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} كما تقدم.

الثاني: أنه «يَظُنُّونَ» والجملة قبله صفة لِ «طَائِفَة» .

الثالث: أنه محذوفٌ، أي: ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل، والجملتان صفة لِ «طَائِفَةٌ» أو يكون «يَظُنُّونَ» حالاً من مفعول «أهَمَّتْهُمْ» أو من «طَائِفَةٌ» لتخصُّصه بالوَصْف، أو خبراً بعد خبر إن قلنا:{قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} خر أول. وفيه من الخلاف ما تقدم.

الرابع: أن الخبر {يَقُولُونَ} والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين، أو خبرين، أو إحداهما خبر، والأخْرَى حالٌ.

ويجوز أن يكون {يَقُولُونَ} صفة أو حالاً - أيضاً - إن قلنا: إن الخبرَ هو الجملة التي قبله، أو قلنا: إن الخبر مُضْمَرٌ.

قوله: {يَظُنُّونَ} له مفعولان، فقال أبو البقاءِ:{غَيْرَ الحق} المفعولُ الأولُ، أي أمراً غير الحق، و «باللهِ» هو المفعول الثاني.

وقال الزمخشريُّ: {غَيْرَ الحق} في حكم المصدر، ومعناه: يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به. و {ظَنَّ الجاهلية} بدل منه.

ويجوز أن يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية و {غَيْرَ الحق} تأكيداً لِ {يَظُنُّونَ} كقولك: هذا القول غير ما يقول.

فعلى ما قال لا يتعدى «ظن» إلى مفعولين، بل تكون الباء ظرفية، كقولك: ظننت

ص: 613

بزيد، أي: جعلته مكان ظني، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر:[الطويل]

1671 -

فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ

سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ

أي قلتُ لهم: اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ.

ويحصل في نصب {غَيْرَ الحق} وجهان:

أحدهما: أنه مفعول أول لِ «يَظُنُّونَ» .

والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ.

وفي نصب {ظَنَّ الجاهلية} وجهان - أيضاً -: البدل من {غَيْرَ الحق} أو أنه مصدر مؤكِّد لِ {يَظُنُّونَ} .

و «بالله» إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولاً ثانياً، وإما بفعل الظنِّ - على ما تقدم - وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية، قال الزمخشريُّ:«كقولك: حاتم الجود، ورجل صدقٍ، يريد: الظنَّ المختص بالملة الجاهلية، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية» .

وقال غيره: المعنى: المدة الجاهلية، أي: القديمة قبل الإسلامِ، نحو {حَمِيَّةَ الجاهلية} [الفتح: 26]

فصل

هؤلاء هم المنافقونَ - عبد الله بن أبيٍّ، ومُعَتب بن قُشَيْرٍ، وأصحابهما - كان همتهم خلاص أنفسهم، يقال: همني الشيء - إذا كان من همي وقصدي - وذلك أن الإنسان إذا اشتدَّ انشغاله بالشيء صار غافلاً عما سواه، فلما كان أحَبُّ الأشياء إلى الإنسان نفسَه، فعند الخوفِ على النفس يصير ذاهلاً عن كل ما سواها، فهذا هو المرادُ من قوله:{أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ، وفي هذا الظنِّ احتمالانِ:

أحدهما - وهو الأظهرُ -: أنهم كانوا يقولون في أنفسهم: لو كان محمدٌ مُحِقًّا في دعواه لما سُلِّطَ الكفار عليه - وهذا ظنٌّ فاسدٌ، أما على قول أهلِ السُّنَّةِ فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريدُ، لا اعتراض عليه.

وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللهِ وأحكامِهِ، فلا يبعد أن يكون للهِ حكمٌ خفيَّةٌ، وألطافٌ مَرْعِيَّةٌ في تخلية الكافر بحيثُ يقهر المسلم، فإنَّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاء، ووجوه المصالحِ مستورةٌ عن العقول.

قال القفال: لو كان كون المؤمنِ محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناسُ إلى معرفة كون المُحِقّ مُحِقًّا، وذلك ينافي التكليفَ، واستحقاق الثوابِ والعقابِ، والمُحِقُّ إنما يُعْرَف بما معه من الدَّلائل والبيِّنات، فأمّا القَهْرُ فقد يكونُ من المُبْطِل للمحقِّ ومن المحِقِّ للمُبْطِلِ.

ص: 614

الاحتمالُ الثاني: أن ذلكَ الظنَّ هو أنهم كانوا يُنكِرون إلَه الْعَالَمِ، وينكرون النبوةَ والبعثَ - فلا جَرَمَ - ما وثقوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسفم في أنَّ اللهَ تعَالى يُقَوِّيهم وَيَنْصُرُهُمْ.

وقيل: ظنوا أن محمداً قد قُتِل. و {ظَنَّ الجاهلية} بدل من قوله: {غَيْرَ الحق} وفائدة هذا الترتيب أنَّ غَيْرَ الحقِّ أديانٌ كثيرةٌ، وأقبحُهَا مقالة أهل الجاهلية، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيَّن أنهم اختاروا من أقسامِ الأديانِ التي هي غيرُ حَقَّةٍ أقبحها وأكثرها بطلاناً، وهو ظنُّ أهل الجاهلية.

قوله: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} «من» - في {مِن شَيْءٍ} - زائدة في المبتدأ، وفي الخبر وجهانِ:

أحدهما - وهو الأصحُّ -: أنه «لَنَا» فيكون {مِنَ الأمر} في محل نصبٍ على الحالِ من «شَيءٍ» لأنه نعتُ نكرة، قدم عليها، فنصب حالاً، وتعلق بمحذوفٍ.

الثاني: - أجازه أبو البقاء - أن يكون {مِنَ الأمر} هو الخبر، و «لنا» تبيين، وبه تتم الفائدةُ كقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .

وهذا ليس بشيء؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ، وإذا كان كذلك فيصير «لَنَا» من جملة أخرى، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ، وليس نظيراً لقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} فإن «لَهُ» فيها متعلق بنفس «كُفُواً» لا بمحذوفٍ، وهو نظيرُ قولكَ: لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ. ف «لبكر» متعلق بنفس الخبر. وهل هنا الاستفهام عن حقيقته، أم لا؟ فيه وجهانِ:

أظهرهما: نَعَمْ، ويعنون بالأمر: النصر والغلبة.

والثاني: أنه بمعنى النفي، كأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ.

ولكن يضعف هذا بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره؛ لأنه يُقِرُّ بذلك، اللهم إلَاّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة، فكأنَّهم قالوا: ليس لنا من الأمر شيءٌ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله:{قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} لقولهم هذا، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله:«وطائفة» فإن قوله: {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم} وكذا {يَقُولُونَ} - الثانية - إما خبر عن «طَائِفَةٌ» أو حال مما قبلها.

فصل

اعلم أنَّ قولَهُ: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} حكايةٌ للشبهة التي تمسَّك بها المنافقون، وهي تحتمل وجوهاً:

الأول: أنَّ عبد الله بن أبيٍّ لما شاوره النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ في هذه الواقعةِ أشار عليه بأن لا

ص: 615

يخرج من المدينةِ، ثُمَّ إنَّ الصحابةَ ألَحُّوا على النبي صلى الله عليه وسلم َ في أن يخرج إليهم، فغضب عبد اللهِ بنُ أبي من ذلك، فقال: عصاني وأطاع الوِلْدان، فلما كثر القتل في بني الخزرج، ورجع عبدُ الله بن أبي قيل له: قُتِل بنو الخَزرج!! فقال: «هل لنا من الأمر من شيء» ؟ يعني: أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرتُه بأن لا يخرج من «المدينة» .

والمعنى: هل لنا أمرٌ يُطاع؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار.

الثاني: ما تقدم في الإعرابِ أنَّ معناه النفي، أي: هل لنا من الشيء الذي كان يَعِدُنا به محمد صلى الله عليه وسلم َ وهو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار.

الثالث: أن التقدير: أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم َ ويحتمل أن يكونَ قائلُهُ من المؤمنين، ويكون المرادُ منه إظهار الشَّفَقَة، أنه متى يكون الفرجُ والنُّصرة؟ وهو المرادُ - أيضاً - بقوله: هو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار.

الثا {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ} .

وقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} قرأ أبو عمرو «كُلُّهُ» - رفعاً - وفيه وجهان:

الأول: - وهو الأظهر - أنه رفع بالابتداء، و «لله» خبره والجملة خبر «إنَّ» نحو: إن مال زيد كله عنده.

الثاني: أنه توكيد على المحل، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق، فيكون «للهِ» خبراً لِ «إنَّ» أيضاً.

وقرأ الباقون بالنصب، فيكون تأكيداً لاسم «إنَّ» وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و «للهِ» خبر «إنَّ» .

وقيل على النعت؛ لأنَّ لفظة «كُلّ» للتأكيد، فكانت كلفظة «أجمع» .

فصل

هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره؛ لأن المنافقين قالوا: إن محمداً لو قبل مِنَّا رَأيَنَأ ونُصْحَنا، ملا وقع في هذه المِحْنةِ، فأجابهم اللهُ تَعَالَى بأن الأمرَ كُلَّه للهِ، وهذا [الجواب] إنما ينتظم إذا كانت أفعالُ العبادِ بقضاء اللهِ وقدَرِهِ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعاً لشبهة المنافقين.

قوله: {يُخْفُونَ} إما خبر لِ {طَآئِفَةً} وإما حال مما قبله - كما تقدم - وقوله: {يَقُولُونَ}

ص: 616

يحتمل هذينِ الوجهينِ، ويحتمل أن يكون تفسيراً لقوله:{يُخْفُونَ} فلا محلَّ له حينئذٍ.

قوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ} كقوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} وقد عرف الصحيح من الوجهين.

وقوله: «ما قُتِلْنا ههنا» جواب «لَوْ» وجاء على الأفصح، فإن جوابها إذا كان منفياً ب «ما» فالأكثر عدم اللام، وفي الإيجاب بالعكس، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله:«وطائفة» إعراباً أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال: «فإن قُلتَ: كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله:» وطائفة «.

قُلْتُ: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} صفة ل {َطَآئِفَةٌ} و {يَظُنُّونَ} صفة أخرى، أو حالٌ، بمعنى: قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و {يَقُولُونَ} بدلٌ من {يَظُنُّونَ} .

فإن قلتَ: كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظنِّ؟

قلتُ: كانت مسألتهم صادرة عن الظن، فلذلك جاز إبداله منه، و {يُخْفُونَ} حال من {يَقُولُونَ} و {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} اعتراض بين الحالِ وذي الحالِ، و {يَقُولُونَ} بدلٌ من {يُخْفُونَ} والأجود أن يكون استئنافاً» . انتهى.

وهذا من أبي القاسم بناءً على أنَّ الخبرَ محذوفٌ، كما تقدم تقريره في قوله:{وَطَآئِفَةٌ} أي: ومنكم طائفةٌ، فإنه موضعُ تفصيلٍ.

فإن قيل: ما الفرق بين قوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} وبين قوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ} وقد أجاب عن الأول بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} وأجاب ههنا بغير ذلك؟ فالجوابُ من وجهين:

الأول: أن المنافقينَ قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقولٌ لم نخرج مع محمدٍ إلى قتالِ أهلِ مكةَ، وما قُتِلْنَا هاهنا، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر ليس كما قلتم من أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ، وهذا كالمناظرةِ الدائرةِ بين أهلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزلَةِ؛ فإنَّ السُّنِّي يقولُ: الأمر كُلُّهُ - في الطَّاعِةِ والمعصيةِ، والإيمانِ والكُفْرِ بيد اللهِ، والمعتزلي يقول: ليس الأمر كذلكح فإن الإنسانَ مختارٌ، وميتقلٌّ بالفعل، إن شاء آمن وإن شاء كَفَر، فَعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جواباً عن الشُّبْهَةِ الأولى.

الثاني: أن المراد من قوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} أي: هل لنا من النُّصْرَة التي وَعَدَنَا بها محمد صلى الله عليه وسلم َ شيء؟ ويكون المراد من قوله: «لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا» هو ما كان بقوله عبد الله بن أبي من أن محمداً لو أطاعني ما خرج عن «المدينة» ، وما قُتِلْنا ههنا.

ص: 617

واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه [الشُّبْهَةَ] من ثلاثة أوجهٍ:

الأول: قوله: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ} ومعناه: أن الحَذَرَ لا يدفع القَدَرَ، فالذين قَدَّر الله عليهم القَتْلَ، لا بُدَّ وأن يُقْتَلُوا على كل تقديرٍ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالى لما أخبره أنه يقتل، فلو لم يُقْتَلْ، لانْقَلَبَ علمه جهلاً.

وقال المفسِّرون: لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم مَنْ كَتَبَ اللهُ عليهم القَتْلَ إلى مضاجعهم ومصارعهم، حتى يُوجَدَ ما علم الله أنه يُوجد وقيل: تقديرُ الكلام: كأنه قيل للمنافقين: لو جلستم في بيوتكم، وتَخَلَّفْتُمْ عن الجهاد، لخرج المؤمنون الذين كُتِبَ عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم، ولم يتخلَّفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلُّفكم.

قوله: {لَبَرَزَ} جاء على الأفصح، وهو ثُبُوتُ اللامِ في جواب «لو» مثبتاً. وقراءة الجمهور {لَبَرَزَ} مخفَّفاً مبنياً للفاعل، وقرأ أبو حَيْوَة «لَبُرِّزَ» مشدَّداً، مبينيًّا للمفعول، عدَّاه بالتضعيف. وقرئ «كَتَبَ» مبنياً للفاعل، و «القَتْلَ» مفعول به.

وقرأ الحسنُ: {كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} رَفعاً.

الجوابُ الثاني عن هذه الشُّبْهَةِ قوله: «وليبتلي» فيه خمسة أوجُهٍ:

فقيل: إنه متعلق بفعل قبله، وتقديره: فَرَضَ اللهُ عليكم القتَالَ، ولم يَنْصُرْكُمْ يوم أُحُدٍ، ليبتلي ما في صدوركم، أي: ضمائركم.

وقيل: بفعل بعده، أي: ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء.

وقيل: الواو زائدة، واللام متعلقة بما قبلها.

وقيل: «وليبتلي» عطف على «ليبتلي» الأول وإنما كُرِّرت لطول الكلام، فعطف عليه {وَلِيُمَحِّصَ} قاله ابنُ بحرٍ.

وقيل: هو عطف على علةٍ محذوفة تقديره: ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي.

الجواب الثالث عن هذه الشُّبْهَةِ قوله: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} فيه وَجْهَانِ:

أحدهما: أن هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات، وتطهرها.

الثاني: أنها تصيره كَفَّارةً لذنوبكم، فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات.

فإن قيل: قد سبق ذِكْرُ الابتلاء في قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] فلم أعادَه؟

ص: 618

فالجواب: أنه أعادهُ؛ لطول الكلام بينهما، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين، والابتلاء الثاني سائر الأحوال.

فإن قيل: قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ} المرادُ منه القلب؛ لقوله: {القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصَّدْرُ - وهو ما في القلب من النِّيَّةِ - وجعل متعلق التمحيص ما في القلب - وهو النيات والعقائد - فلم خالف بين اللفظين في المتعلِّق؟

فالجوابُ: أنه لما اختلف المتعلَّقان حسنَ اختلافُ لفظَيْهما. ثم قال: {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: الأسرار والضمائر؛ لأنها حالَّةٌ فيها، مصاحبة لها، وذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يَخْفَى عليه ما في الصدور وغيره - لأنه عالم بجميع المعلومات - وإنما ابتلاهم لمَحْض الإلهية.

ص: 619