المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٩

[ابن عادل]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين،

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

سورة الأعراف

ص: 3

قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها مكية. وقال قتادة: مكية غير قول [الله] تعالى: {وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة} [الآية:‌

‌ 1

63] إلى قوله عز وجل: " يفسقون " ثمان آيات وهي مائتان وست آيات، وثلاثة آلاف وثلثمائة وخمس وعشرون كلمة، وأربعة عشر ألفا وثلاث مائة وعشرة أحرف. قال ابن عباس رضي الله عنهما:«آلمص: أنا اللَّهُ أَفَصِّلُ» ، وعنه «أنا اللَّهُ أعلمُ وأفَصِّلُ» . وقد تقدَّم الكلامُ على الأحْرُفِ المقطَّعَة في أوَّلِ الكتابِ.

وقال السُّدِّيُّ رضي الله عنه: «آلمص» على هجاءِ قولنا في أسماء اللَّه «سبحان المصورُ» .

قال القَاضِي رحمه الله: ليس حَمْلُ هذا اللَّفْظِ على قولنا: أنا الله أفصل أولى من [حمله] على قوله: «أنَّا اللَّهُ أصْلِحُ» ، [أنا الله أمتحن، أنا الله أملك «؛ لأنَّهُ إن كانت العبرةُ بحرفِ الصَّادِ فهو موجودٌ في قوله: أنّا اللَّهُ أصْلِحُ،] وإن كانت العبرةُ بحرف الميم فكما أنَّهُ موجودٌ في العلم فهو أيضاً موجود في الملك، والامتحان، فكان حَمْلُ قولنا»

ص: 3

آلمص «على هذا المعنى بِعَيْنِهِ محضُ التَّحَكُّم، وأيضاً فإنْ جاء تفسيرُ الألفاظِ بناءً على ما فيها من الحروفِ من غير أنْ تكون تِلْكَ اللفظَةُ موضوعة في اللُّغَةِ لذلِكَ المَعْنَى؛ انْفَتَحَتْ طريقةُ البَاطنيّة في تفسير سائرِ [ألفاظ] القرآنِ الكريمِ بما يُشَكِلُ هذا الطريق.

ص: 4

وأمَّا قولُ بعضهم: إنَّهُ من أسماء اللَّهِ تبارك وتعالى فأبعدُ؛ لأنه ليس جعله اسْماً للَّه أولى من جعله اسماً لبعض رُسُلِهِ من الملائِكَةِ، أو الأنبياءِ - عليهم، وعلى نبيِّنَا أفضلُ الصَّلاة والسَّلام -، ولأن الاسمَ إنَّمَا يَصيرُ للمسمَّى بواسِطَةِ الوَضْعِ والاصطلاح وذلك مفقودٌ هُنَا، بل الحقُّ أنَّ قول:» آلمص «اسم لقب لهذه السُّورة الكريمة، وأسماءُ الألقابِ لا تفيد ههنا فائدة في المسمَّيات، بل هي قائِمَةٌ مقامَ الإرشاداتِ، وللَّهِ تبارك وتعالى سبحانهُ أن يسمِّي هذه السورةَ بقوله:» آلمص «كما أنَّ الواحد مِنَّا إذا حدث له ولدٌ فإنَّهُ يسمِّيه بمحمِّدٍ.

قوله:» كِتَابٌ «: يجوز أن يكون خبراً عن الأحْرُف قَبْلَهُ، وأن يكون خبراً للمبتدأ مُضْمِرٍ، أي: هو كتابٌ، كذا قدَّرهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

ويجوز أن يكون كتابٌ مبتدأ و» أنْزِلَ «صفتُهُ و» فَلَا تَكُنْ «خبره، والفاءُ زائدةٌ على رأي الأخْفَشَ أي: كتابٌ موصوفٌ بالإنزالِ إليكَ، لا يكنْ في صدرك حرجٌ منهُ، وهو بعيدٌ جدّاً. والقائمُ مقام الفاعل في» أنْزِلَ «ضميرٌ عائد على الكتابِ، ولا يجوز أن يكون الجارَّ؛ لئلا تخلو الصفةُ من عائدٍ.

والمرادُ بالكتابِ القرآن الكريم.

فإن قيل: الدَّلِيلُ الذي دَلَّ على صِحَّةِ نُبُوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ هو أن اللَّه تبارك وتعالى جَدُّهُ لا إله إلَاّ هو - خصَّهُ بإنزالِ هذا القرآن عليه فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته، وما لم نَعْرِف نبوته لا يمكننا أن نحتج بقوله فلو أثبتنا كَوْنَ هذه السورة نازلةً من عند الله تبارك وتعالى بقولِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ؟

فالجوابُ: نَحْنُ نعلم بمحضِ العَقْل أنَّ هذه السورة الكريمة كِتَابٌ أنْزِلَ إليه من عِنْد اللَّهِ؛ لأنه عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلام ما تَتَلْمَذَ لأسْتَاذٍ، ولا تعلم من مُعَلِّمٍ، ولا طَالَعَ كِتَاباً، ولم يخالطِ العلماء والشُّعراءَ وَأهلَ الأخْبَارِ، وانقضى من عمره صلى الله عليه وسلم َ أرْبَعُونَ سَنَةً ولم يتفق له شيءٌ من هذه الأحوالِ، ثم بعد الأربعينَ ظهر له هذا الكتابُ العزيزُ المشتملُ على علوم الأولينَ والأخرينَ، والعقلُ يشهدُ بأنَّ هذا لا يحصل إلا بطريقِ الوَحْي من عند اللَّه تبارك وتعالى؛ فثبت بهذا الدَّليل العقلي أن هذا الكتاب أنزل على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم َ من عند ربه وإلهه عز وجل.

فصل في دحض شبهة خلق القرآن

احتج القائلون بخلق القرآن الكريم بقوله: {كِتَابُ أنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 2] ، فوصف بكونه منزلاً

ص: 5

والإنْزَالُ يقتضي الانتقال من حالٍ إلى حالٍ، وذلك لا يليقُ بالقَدِيم فَدَل على أنَّهُ محدث.

والجوابُ أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز [هو] هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثةً مخلوقةً.

فإن قيل: هَبْ أنَّ المرادَ منه الحروف إلَاّ أنَّه الحروفَ أعْرَاضٌ غير باقية بدليل أنّها متوالية وكونها متوالِيةً يُشْعِرُ بعدمِ بقائِهَا، وإذا كان كذلك العَرَضُ الذي لا يَبْقَى زَمَانَيْنِ كيف يعقل وصفه بالنزول؟

فالجوابُ: أنَّهُ سبحانه وتعالى أحْدَثَ هذه الرُّقُومَ والنُّقُوشَ في اللَّوْحِ [المَحْفُوظِ] ، ثم أنَّ الملك يطالعُ تلك النُّقوش، وينزِّل من السَّماءِ إلى الأرض ويعلِّم محمداً - صلوات اللَّهِ وسلامه عليه - تلك الحروفَ والكلماتِ، فكان المرادُ بكَوْنِ تلك الحروفِ نازلةً هو أنَّ مبلغها نزل من السَّمَاءِ إلى الأرْضِ.

فصل في تأويل المكانية

الَّذين أثبتوا للَّه مَكَاناً تمسَّكُوا بهذه الآيةِ فقالوا: إنَّ كلمة «مِنْ» لابتداءِ الغَايَةِ، وكلمة «إلَى» لانتهاء الغاية، فقوله:«أنْزِلَ إليْكَ» يقتضي حصول مسافةٍ مبدؤهَا هو اللَّهُ تبارك وتعالى وغياتها هو مُحَمَّد - عليه أفضل الصلاة والسلام -، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تبارك وتعالى مختص بجهة فوق؛ لأن النُّزُولَ هو الانتقالُ من فوق إلى أسفل.

والجوابُ: لمَّا ثبت بالدَّلائل القاطِعَةِ أن المكان والجهة على اللَّهِ سبحانه وتعالى محال وجب حملُهُ على التَّأويلِ وهو أنَّ الملك انتقل من العلو إلى أسفل.

ص: 6

قال مُجَاهِدٌ: «شكٌّ، والخِطَابُ للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم َ والمرادُ به الأمة، ويُسَمَّى الشكُّ حَرَجاً؛ لأن الشَّاكَّ ضَيِّقُ الصَّدْرِ كما أن المتيقن منشرح القَلْبِ» .

وقال أبُو العالية رحمه الله عليه، حَرَجٌ: ضِيقٌ، والمعنى: لا يَضِيقُ صدركَ بسبب أن يكذِّبُوكَ في التَّبْلِيعِ.

قال الكيا: فظاهرُهُ النَّهْي ومعناه: نَفْيُ الحَرَج عنه صلى الله عليه وسلم َ أي: لا يضيقُ صَدْرُكَ ألَاّ

ص: 6

يؤمنوا به فإنَّما عليك منه البلاغ وليس عليك سوى الإنْذَارِ به، ومثله قوله عز وجل:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] .

قوله: «مِنْهُ» متعلق ب «حَرَجٌ» . و «مِنْ» سببيَّةٌ أي حرج بسببه تقول: حَرِجْتُ منه أي: ضقْتُ بسببه، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنَّهُ صفةٌ له أي: حَرَجٌ كَائِنٌ وصادر منه، والضَّمِيرُ في «مِنْهُ» يجوز ن يعود على الكِتابِ وهو الظَّاهِرُ، ويجوزُ أن يعود على الإنزالِ المدلول عليه ب «أُنْزِلَ» ، أو عَلى الإنذارِ، أو على التَّبْليغِ المدلُولِ عليهما بسياق الكلامِ، أو على التَّكْذِيبِ الَّذِي تضمنه المعنى، والنهي في الصُّورةِ للحَرَج، والمرادُ الصَّأدِرُ منه مبالغةً في النَّهْيِ عن ذلك كأنَّهُ قيل: لا تتعاطى أسباباً ينشأ عنها حرج، وهو من باب «لا أرَيَنَّكَ ههنا» ، النهي متوجه على المتكلم والمراد به المخاطب كأنه قال: لا تكن بحضرتي فأراك ومثله: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَاّ يُؤْمِنُ بِهَا} [طه: 16] .

قوله: «لتُنْذِرَ بِهِ» في متعلق هذا «اللَاّم» ثلاثة أوجه.

أحده: أنَّها متعلِّقة ب «أنْزلَ» أي: أنْزِلَ إليك للإنذار، وهذا قول الفرَّاء قال: اللَاّم في «لِتُنْذِرَ» منظومٌ بقوله: «أُنْزِلَ» على التَّقْديمِ والتَّأخِير، على تقدير: كتاب «أُنْزِلَ إليك لِتُنْذِرَ بِهِ فلا يَكُنْ» . وتبعه الزَّمَخْشَرِيُّ والحُوفِيُّ، وأبُو البقاءِ على ذلك، وعلى هذا تَكُونُ جُمْلَةُ النَّهْي معترِضَةً بَيْنَ العِلَّة ومعلولها، وهو الذي عناه الفرَّاءُ بقوله:«على التَّقْدِيم والتَّأخير» .

والثاني: أنَّ اللامَ متعلِّقةٌ بما تعلَّقَ به خَبَرُ «الكَوْنِ» إذ التقدير: فلا يكن حَرَجٌ مستقراً في صَدْرِكَ لأجْلِ الإنْذَارِ. كذا قاله أبو حيَّان عن الأنْبَارِيِّ، فإنَّهُ قال:«وقال ابْنُ الأنْبَارِيّ: التقدير: فلا يكن في صدرك حرجٌ منه كي تُنْذِرَ بِهِ فجعله متعلقاً بما تعلَّق به» في صَدْرِكَ «، وكذا علَّقه به صاحبُ» النَّظْمِ «، فعلى هذا لا تكون الحملة معترضة» .

قال شهابُ الدِّين: الذي نقله الواحديُّ عن نصِّ ابْنِ الأنباريِّ في ذلك أن «اللَاّمَ» متعلِّقةٌ ب «الكون» ، وعن صاحب «النَّظْمِ» أنَّ اللَاّمَ بمعنى «أنْ» وسنأتي بنصَّيْهما إن شاء الله تعالى، فيجوز أن يكون لهما كلامان.

الثالث: أنَّها متعلِّقةٌ بنفس الكَوْنِ، وهو مَذْهَبُ ابن الأنْبَارِيِّ والزَّمَخْشَرِيِّ، وصاحب «النَّظْمِ» على ما نقله أبُو حيَّان.

قال أبُو بَكْرِ بْن الأنْبَارِيِّ: ويجوزُ أن تكون اللَاّمُ صلةً للكون على معنى: «فلا يَكُن

ص: 7

في صَدْرِكَ شيء لتنذر، كما يقول الرجُلُ للرَّجُل لا تكن ظالماً لتقضي صاحبك دينه فتحمل لام كي على الكون» .

وقال الزَّمَخْشَريُّ: فإن قُلْتَ: بِمَ تعلَّق به «لِتُنْذِرُ» ؟ قُلْتُ: ب «أُنزل» أي: أنزل لإنذارك به، أو بالنَّهي؛ لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم، وكذا إذا علم أنَّهُ من عند الله شجعه اليقين على الإنْذَارِ.

قال أبُو حيَّان: «فقوله: بالنَّهْي ظاهره أنَّهُ يتعلَّقُ بفعل النهي فيكونُ متعلقاً بقوله:» فَلَا يَكُنْ «، وكان في تعليق المجرور والعمل في الظَّرْفِ فيه خلاف، وَمَبْنَاهُ على أنَّ» كان «النَّاقِصَة هل تدل على حدثٍ أم لا؟

فمن قال: إنَّهَا تدلُّ على الحدثِ جوَّزَ ذلك، ومن قال: لا تَدُلُّ عليه منعه» .

قال شهابُ الدِّين: الزَّمَخْشَرِيُّ مسبوق إلى هذا الوجه، بل ليس في عبارته ما يدلُّ على أنَّهُ متعلق ب «يَكُونُ» بل قال «بالنَّهْي» فقد يريدُ بما تضمَّنه من المعنى، وعلى تقدير ذلك فالصَّحيحُ أنَّ الأفعالَ النَّاقِصَةَ كلَّهَا لها دلالةٌ على الحدثِ إلَاّ «لَيْسَ» ، وقد أقمت على ذلك أدلَّةً وأتيتُ من أقوالِ النَّاسِ بما يَشْهَدُ لصحَّةِ ذلك كقولِ سيبويه، وغيره في غير هذا المَوْضُوعِ.

وقال صاحبُ «النَّظْم» : وفيه وجهٌ آخرُ، وهو أن تكون اللَاّمُ بمعنى أنْ والمعنى: لا يضيقُ صَدْرُكَ ولا يَضْعُفْ [عن] أن تُنْذِرَ به، والعربُ تضعُ هذه اللام في موضع «أنْ» كقوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} [التوبة: 32] وفي موضع آخر: {لِيُطْفِئُواْ} [الصف: 8] فهما بمعنى واحد.

قال شهابُ الدِّين: هذا قولٌ ساقطٌ جدّاً، كيف يكون حرفُ مختص بالأفعال يقع موضع آخر مختص بالسماء؟

قوله: «وَذِكْرَى» يجوزُ أن يكون في محلِّ رَفْعٍ، أو نَصْبٍ، أو جَرٍّ.

فالرَّفْعُ من وجهين، أحدهما: أنها عطف على «كِتَابٌ» أي: كتابٌ وذكرى أي: تَذْكِيرٌ، فهي اسم مَصْدَرٍ وهذا قول الفرَّاءِ.

والثاني من وجهي الرَّفْع: أنَّهَا خبر مُبتدأ مُضْمرٍ أي: هو ذكرى، وهذا قولُ الزَّجَّاج.

والنَّصْبُ من ثلاثة أوْجُهٍ:

ص: 8

أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على المصدر بفعل من لَفْظِهِ تَقْديرُهُ: وتذكر ذكرى أي تَذْكِيراً.

الثاني: [أنها] في محلِّ نَصْبٍ نَسَقاً على مَوْضِع «لِتُنْذِرَ» فإن موضعه نصب، فيكونُ إذْ ذاكَ معطُوفاً على المَعْنَى، وهذا كما تعطفُ الحال الصريحة على الحالِ المؤوَّلة كقوله تعالى:

{دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} [يونس: 12]، ويكونُ حينئذٍ مفعولاً من أجْلِهِ كما نقُولُ:«جِئْتُكَ لِتُكْرمَنِي وإحْسَاناً إليَّ» .

الثالث: قال أبُو البقاء: - وبه بَدَأ -: «إنَّها حال من الضمير في» أنزل «وما بينهما مُعْتَرِضٌ» . وهذا سَهْوٌ فإنَّ «الواو» مانعة من ذلك، وكيف تَدْخُلُ الواوُ على حالٍ صريحةٍ؟ والجرُّ من وجهين أيضاً.

أحدهما: العطفُ على المَصْدَرِ [المُنْسَبِك من «أنْ» المقدَّرة بعد لام كي، والفعل، والتَّقديرُ: للإنْذَارِ والتَّذْكِيرِ.

والثاني: العطفُ] على الضَّميرِ في «بِهِ» ، وهذا قول الكُوفيِّين، والذي حسَّنَهُ كون «ذِكْرَى» في تقدير حرفٍ مصدريٍّ - وهو «أنْ» - والفعل لو صرح ب «أنْ» لحسُنَ معها حذفُ حرفِ الجرِّ، فهو أحْسَنُ من «مررتُ بِكَ وَزَيْدٍ» إذ التَّقْديرُ: لأن تنذر به وبأن تُذَكِّر.

وقوله: «لِلمُؤمِنِيْنَ» يجوز أن تكون «اللَاّمُ» مزيدةً في المفعولِ به تقويةً له؛ لأنَّ العاملَ فَرْعٌ، والتقديرُ: وتذكِّرَ المُؤمنينَ.

ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بمحذُوفٍ؛ لأنَّهُ صِفَةٌ ل «ذِكْرَى» .

فصل في معنى الآية

قال ابْنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يريدُ مَوْعِظَةً للمصدِّقين.

فإن قيل: لم قيَّد هذه الذِّكْرَى بالمؤمنين؟

فالجوابُ: هو نَظِيرُ قوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .

قال ابْنُ الخَطيب: والبَحْثُ العقلِيُّ فيه أنَّ النُّفُوس البشريَّةَ على قِسْمَيْنِ: بَلِيدةٌ جَاهِلَةٌ بعِيدَةٌ عن عَالمِ الغَيْبِ غَريقَةٌ في طلب اللَّذَّاتِ الجُسْمَانِيَّةِ، ونفوسٌ شريقةٌ مشرقةٌ بأنوار الإلهيَّةِ، فبعثه الأنبياء في حق القسم الأول للإنْذَارِ والتَّخْوِيفِ فإنَّهُم لمَّا غرقوا في نومِ الغَفْلَةِ ورَقْدَةِ الجَهالةِ احْتَاجُوا إلى مُوقِظٍ يُقِظُهُمْ.

وأمَّا في حقِّ القسم الثَّانِي فتذكير وتنبيه؛ لأنه ربما غَشِيَهَا من غَوَاشِي عالم الجِسْمِ فيعرضُ لها نوعُ ذُهُولٍ وغَفْلَةٍ، فإذا سَمِعَتْ دعوةَ الأنبياء واتَّصل لها أنوارُ أرواحِ رُسُلَ

ص: 9

اللَّهِ؛ تَذكَّرَتْ مركزَهَا؛ فثبت أنَّهُ تعالى إنَّمَا أنزلَ هذا الكتاب على رَسُولِه؛ ليكونَ إنذاراً في حقِّ طائفةٍ، وذكرى في حقِّ طائفة أخْرَى.

ص: 10

لمَّا أُمر الرَّسولُ بالتَّبليغ، والإنذارِ؛ أمر الأمة بمتابعة الرسول.

قوله: «مِنْ ربِّكُمْ» يجوزُ فيه وجهان:

أحدهما: أنه يتعلَّقُ ب «أنزل» وتكون «مِنْ» لابتداء الغايةِ المجازية.

الثاني: أنْ يتعلَّقُ ب «أنزل» وتكون «مِنْ» لابتداء الغايةِ المجازية.

الثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ: إمّا من الموصول، وإمَّا من عائده القائم مقام الفاعل.

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس

اتدلَّ نُفَاةُ القياسِ بقوله: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} والمرادُ به، القرآنُ والسَّنُة، واستدلُّوا أيضاً بها على أن تخصيصَ عموم القرآن القياسِ لا يُجوزُ، لأنَّ عُمُوم القُرْآنِ

ص: 10

منزَّلٌ من عند الله، والله - تعالى - أوجبَ متابعتَهُ فوجب العمل بِعُمُومِ القرآن، ولمَّا وجب العمل به؛ امتنع العملُ بالقِيَاسِ، وإلَاّ لَزِمَ التَّنَاقَضُ.

وأجيبوا بأن قوله تعالى {فاعتبروا} [الحشر: 2] يدلُّ على وجوب العمل بالقياس، فكان العمل بالقياس عملاً بإنزال.

فإن قيل: لو كان العمل بالقِيَاس عملاً بما أنزله اللَّهُ لكان تارك العمل بلا قياس كافراً؛ لقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] وحيث اجتمعت الأمَّةُ على عدمِ التَّكْفير؛ علمنا أنَّ العمل بالقياس ليس عملاً بما أنْزَلَ اللَّهُ.

وأجيبوا بأنَّ كون القياس حجَّةً ثبت بإجماع الصَّحابة والإجماع دليل قَاطِعٌ، وما ذكرتمُوهُ تمسُّكٌ بالعُمُومِ، وهو دليل مَظْنُونٌ والقَاطِعُ أولى من المَظْنُونِ.

وأجَابَ نفاةُ القياسِ بأن كون الإجماع حجَّةً قاطِعَةً إنَّما ثبت بِعُمُومَاتِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، والفرع لا يكون أقْوَى من الأصْلِ، وأجِيبُوا بأنَّ الآيَاتِ والأحاديث لما تعاضدت قويت.

قوله: {وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أي: لا تَتَّخِذُوا غيره أوْلِيَاءَ تطيعونَهُم في مَعْصِيَةِ اللَّهِ.

قوله: «مِنْ دُونِهِ» يجُوزُ أن يتعلق بالفعل قَبْلَهُ، والمعنى: لا تَعْدِلُوا عَنْهُ إلى غيره من الشَّيَاطِينِ والكُهَّانِ.

والثاني: أن يتعلق بِمَحْذُوفٍ؛ لنه كان في الأصْلِ صفة ل «أولياء» فلمَّا تقدَّم نُصِبَ

ص: 11

حالاً، وإليه يميل تَفْسِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فإنَّهُ قال:«أي لا تتولَّوْا من دونه شياطين الإنس والجن؛ فيحملوكم على الأهواء والبدع» . والضَّمِيرُ في «دونه» يعود على «ربِّكُمْ» ولذلك قال الزَّمَخشريُّ «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ، ويجُوزُ أن يعود على «مَا» الموصُولةِ، وأن يعود على الكتابِ المُنَزَّل، والمعنى: لا تَعْدِلُوا عنه إلى الكُتُبِ المَنْسُوخَةِ.

وقرأ الجَحْدَرِيُّ: «ابَْغُوا» بالغين المعجمة من الابتغاء. ومالك بن دينار ومجاهد: «ولا تَبْتَغُوا» من الابتغاء أيضاً من قوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} آل عمران: 85] .

قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ} قد تقدَّم نظيرُهُ في قوله: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] وهو أنَّ «قَلِيلاً» نعت مصدر محذوف أي: تذكُّراً قليلاً تذكرون، أوْ نعت ظرف زمانٍ مَحْذُوفٍ أيضاً أي: زماناً قَلِيلاً تذكَّرون، فالمصدرُ أو الظَّرْفُ منصوب بالفعل بعدهُ، و «مَا» مزيدةٌ للتَّوكيد، وهذا إعْرابٌ جليٌّ.

وقد أجَازَ الحُوفِيُّ أن تكون نَعْتَ مصدرٍ محذوف لقوله: «ولا تَتَّبِعُوا» أي: ولا تَتَّبِعُوا من دونه أوْلِيَاءَ اتِّبَاعاً قليلاً، وهو ضعيف؛ لأنه يصيرُ مَفْهُومُهُ أنَّهم غير مَنْهيِّين عن اتِّبَاعِ الكَثيرِ، ولكِنَّهُ مَعْلُومٌ من جهة المَعْنَى، فلا مَفْهُوم لَهُ.

وحكى ابْنُ عطيَّة عن أبِي عَلِيٍّ أنَّ «مَا» مصدرية موصولة بالفِعْلِ بَعْدَها، واقْتَصَرَ على هذا القَدْر، ولا بُدَّ لَهُ من تَتِمَّة، فقال بعض الناس: ويكون «قَلِيلاً» نعت زمان محذوف، وذلك الزَّمَانُ المحذوف في محلِّ رفع خبر مقدّماً و «مَا» المصدريَّةُ، وما بَعْدَها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخراً، والتَّقدِيرُ: زمناً قليلاً تذكُّرُكم أي: أنَّهُم لا يقع تذكرهم إلا في بعض الأحْيَانِ ونظيره: «زمناً قليلاً قيامك» .

وقد قِيلَ: إنَّ «ما» هذه نَافِيَةٌ، وهو بعيد؛ لأن «ما» لا يَعْمَلُ ما بَعْدَهَا فيما قبلها عند البصريين، وعلى تقدير تَسْلِيم ذلك فيصيرُ المعنى: ما تذكرون قليلاً، وليس بِطَائِلٍ، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى:{كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] عند من جعلها نافية.

وهناك وَجْهٌ لا يمكن أن يأتي ههنا وهو أن تكون «مَا» مصدريَّةٌ، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية ب «قَلِيلاً» الذي هو خبر كان، اولتقدير: كانُوا قليلاً هُجُوعُهُم، وأمَّا هنا فلا يمكن ذلك لعدم صحَّةِ نصب «قليلاً بقوله:» وَلَا تَتَّبِعُوا «حتى يجعل» ما تَذَكَّرُون «مرفوعاً به. ولا يجوز أَن يكون» قَلِيلاً «حالاً من فاعل» تَتَّبِعُوا «و» ما تَذَكَّرُونَ «مرفوعاً

ص: 12