الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويمكن أن يجاب بأن يقال: إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أن يلجأ الأشرف] إلى خدمة الأدنى، أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح؛ لأنه لا اعتراض عليه في أن يسقط حق نفسه، أما الملائكة فقد رضوا بذلك فلا بأس به، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود، فهذا قياس مناسب، وإنه يوجب تخصيص النص، ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استوجب الذم العظيم، فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز.
(فصل في بيان قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد} )
قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} لا شك أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى، وقوله:{أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} لا شك أن قائل هذا القول هو إبليس، وقوله:" فاهبط منها " لا شك أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى، وقوله:{فأنظرني إلى يوم يبعثون} لا شك أن هذا قول إبليس، ومثل هذه المناظرة بين الله وبين إبليس مذكور في سورة " ص ".
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس، وقد عظم الله شرف موسى عليه الصلاة والسلام بقوله:{وكلمه ربه} [الأعراف: 143]{وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164] ، فإذا كانت المكالمة تفيد الشرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس؟ وإن لم يوجب الشرف العظيم فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف لموسى عليه الصلاة والسلام.
والجواب من وجهين:
أحدهما: قال بعض العلماء: إنه تعالى قال ذلك لإبليس بواسطة على لسان بعض الملائكة؛ لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله إلا بواسطة.
الثاني: أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة لكن على وجه الإهانة بدليل قوله تعالى: {فاخرج إنك من الصاغرين} ، وتكلم مع الأنبياء على سبيل الإكرام بدليل قوله [تعالى] لموسى عليه الصلاة والسلام:{وأنا اخترتك} [طه:
13]
، وقوله:{واصطنعتك لنفسي} [طه: 41] وهذا نهاية الإكرام.
الضمير في " منها "
الضمير
في
«منها
» قال ابن عباس: «يُريدُ من الجنَّة؛ لأنه كان من سُكَّانها»
قال ابن عباس: كان في عدنٍ، لا في جنَّة الخلْدِ.
وقيل: تعودُ على السَّمَاءِ، لأنه روي عن ابن عباس:«أنَّهُ وَسْوَسَ إليهما وهو في السَّمَاءِ» ، ولأنَّ الهبوط إنَّما يكون من ارتفاع.
وقيل: يعود على الأرْضِ، أمِر أن يخرج منها إلى جَزائر البحار ولا يدخل في الأرض إلا كالسَّارِقِ.
وقيل: يَعُودَ على الرُّتْبَةِ المُنيفَةِ، والمَنْزِلَةِ الرَّفيعَةِ.
وقيل: يَعُودُ على الصُّورةِ والهيئة الَّتي كان عَلَيْهَا؛ لأنَّهُ كان مُشْرِقَ الوَجْهِ فَعَادَ مظلماً.
قوله: «فَاخْرُجْ» تَأكِيدٌ ل «اهْبِطْ» إذْ هو بمعناهُ.
وقوله: «فِيهَا» لا مفعوم لهُ يعني: أنَّهُ لا يتوهَّمُ أنَّهُ يجوزُ أنْ يتكبَّرَ في غَيْرَهَا ولما اعْتَبَر بَعْضَهُمْ؛ احْتَاجَ إلى تقدير حذفِ مَعْطُوفٍ كقوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] قال: والتقدير: «فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فيها، ولا في غيرها إنَّكَ من الصَّاغِرينَ، الأذلَاّء، والصَّغَارُ الذُّلُّ والإهانة» .
قوله: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: أخرنِي، وأمْهِلْني فلا تميتني إلى يوم يُبعَثُونَ من قُبُورهم، وهي النَّفْخَةُ الأخِيرَةُ عند قِيَام السَّاعَةِ.
والضَّميرُ في «يُبْعَثُونَ يعودُ على بَنِي آدَمَ لدلالة السِّياقِ عليهم، كما دَلَّ على ما عاد عليه الضَّميرانِ في» منها «وفيها كما تقدم.
قوله: ف {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} قال بعضُ العُلَمَاءِ، إنَّهُ تعالى أنظره إلى النَّفْخَةِ الأولى؛ لأنَّهُ تعالى قال في آيةٍ أخرى:{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 37، 38] ، المراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحْيَاءُ كلهُمْ.
وقال آخرون: لم يُوقِّتِ اللَّهُ تعالى له أجلاً بل قال: {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} وقوله في الآيةِ الأخْرَى {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} المرادُ منه الوقت المَعْلُومُ في عِلْمِ الله تعالى.
قالوا: والدَّليلُ على صِحَّتِهِ: أنَّ إبليس كان مُكَلَّفاً، والمُكَلَّفُ لا يجوزُ أن يعلم أنَّ اللَّهَ تعالى أخَّرَ أجَلَهُ إلى الوقت الفُلانِيِّن لأنَّ ذلك المُكَلّفَ يعلمُ أنَّهُ متى تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وإذا علم أنَّ وقت موته هو الوَقْتُ الفُلانِيُّ أقدم على المعصية بقلب فارغ، فإذا قَرُبَ وَقْتُ أجَلِهِ؛ تاب عن تلك المعاصي، فَثَبَتَ أن تعريف وقت المَوْتِ بعينه يَجْرِي
مَجْرَى الإغْرَاءِ بالقَبِيح، وذلك غير جَائزٍ على اللَّهِ تعالى.
وأجاب الأوَّلُونَ بأنَّ تَعْرِيفَ اللَّه - تعالى - كَوْنَهُ من المُنْظَرِينَ إلى يَوْمَ القِيَامَةِ لا يقْتَضِي إغْراءً؛ لأنَّهُ تعالى كَانَ يعلمُ أنَّهُ يمُوتُ على أقْبَح أنْواعِ الكُفْرِ والفِسْقِ، سواء عَلِمَ وَقْتَ موته، أوْ لم يعلمْهُ، فلم يكنْ ذلك الإعلامُ موجِباً إغراءَهُ بالقبيح، ومثاله أنَّهُ تعالى عرَّف أنبياءَهُ أنَّهُم يموتون على الطَّهَارَة والعِصْمَةِ، ولم يكن ذلك مُوجِباً إغراءهم بالقبيح؛ لأجل أنه تعالى عَلِمَ أنَّهُ سواء عرَّفَهُم تلك الحالة، أم لم يعرِّفْهُمْ تلك الحالة، فإنَّهُم يَمُوتُونَ على الطَّهارة والعِصْمةِ، فلمَّا كان حالهم لا يَتَفَاوت بسببِ هذا التَّعْرِيف، فلا جَرَمَ لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيحِ فكذلك ههنا.
قوله: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} في هذه» الباء «وجهان:
أحدهما: أنَّهَا قسميَّةٌ وهو الظَّاهِرُ أي: بقدرتك عليَّ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم الذي يسلكونه إلى الجَنَّةِ بأن أزيِّنَ لهم الباطِل، وما يُكْسِبُهُمْ المآثِمَ.
ويدل على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة» ص «: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ} [الآية: 82] .
والثاني: أنَّها سببيَّةٌ، وبه بدأ الزَّمَخْشَرِيُّ قال:{فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ؛ لأقعدن لهم، ثم قال:» والمعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم «.
فإنْ قُلْتَ: بِمَ تعلَّقَتِ» البَاءُ «؛ فإنَّ تعلها ب» لأقْعَدُنّ «يصدُّ عنه لام القسم لا تقولُ: واللَّه بزيدٍ لأمرنّ؟
قُلْتُ: تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ [أي] : فبسبب إغوائك أقسم.
ويجُوزُ أن يكون «البَاءُ» للقسم أي: فأقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ.
قال شهابُ الدِّين. وهذان الوَجْهَانِ سبقه إليهما أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ، وذكر عبارةً قريبةً من هذه العِبارَةِ.
وقال أبو حيان: «وما ذكره من أنَّ اللَاّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ ب» لأقْعُدَنَّ «ليس حكماً مجتمعاً عليه، بل في ذلك خِلافٌ» .
قال شهابُ الدِّين: أما الخلافُ فنعم، لكنَّهُ خلافٌ ضعيفٌ لا يعتد به أبُو القَاسِمُ، والشَّيْخُ نَفْسُهُ قد قال عند قوله تعالى:{لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] في قراءة من كَسَرَ اللَاّم في «لِمَنْ» : إنَّ ذلك لا يجيزه الجمهورُ، وسيأتي مبينّاً إن شاء اللَّهُ تعالى.
و «مَا» تَحْتَمِلُ ثلاثةَ أوْجُهٍ:
أظهرها: أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ أي: فَبِإغوائِكَ إيَايَ.
والثاني: أنَّها استفهاميَّةٌ يعني أنَّهُ اسْتَفْهَمَ عن السَّبب الذي إغواهُ به فقال: فبأيِّ شيءٍ من الأشْيَاءِ أغْوَيْتَنِي؟ ثم استأنَفَ جُمْلَةً أقْسَمَ فيها بقوله: «لأقْعُدَنَّ» وهذا ضعيفٌ عند بعضهم، أو ضرورةً عند آخرينَ من حيثُ أنَّ «مَا» الاسفتهاميَّة إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفُهَا، ولا تثبت إلَاّ في شذوذ كقولهم: عمَّا تَسْألُ؟ أو ضَرُورَةً كقوله: [الوافر]
2412 -
عَلَى مَا قَامَ يَشْتمُنِي لَئِيمٌ
…
كَخِنْزير تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
والثالث: أنَّها شرطيةٌ، وهو قول ابن الأنْبَارِيِّ، ونَصُّهُ قال رحمه الله: ويجوز أن يكون «مَا» بتأويل الشَّرْطِ، و «الباء» من صلة الإغواء، والفاءُ المضْمَرةُ جوابُ الشَّرْطِ، والتقديرُ: فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطَكَ؛ فتُضْمَرُ الفاءُ [في] جواب الشَّرْطِ كما تُضْمِرُهَا في قولك: «إلَى مَا أوْمَأتَ أنِّي قَابِلُهُ، وبما أمرت أني سامعٌ مطيعٌ» . وهذا الذي قاله ضعيف جدّاً، فإنَّهُ على تقدير صحَّةِ معناهُ يمتنعُ من حيث الصناعةُ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلَاّ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كقوله:[البسط]
2413 -
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا
…
والشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلانِ
أيْ: فالله. وكان المبرد لا يُجَوَّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور:[البسيط]
2414 -
مَنْ يَفْعَل الخَيْرَ فالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ.....
…
...
…
...
…
...
…
... . .
فعلى قول أبي بكر يكونُ قوله: «لأقْعدنَّ» جواب قسم محذوف، وذلك القسَمُ المقدَّرُ، وجوابه جوابُ الشَّرْطِ، فيقدَّرُ دخول الفَاءِ على نفس جُمْلَةِ القَسَمِ مع جوابها تقديرُهُ: فبما أغْوَيْتَنِي فواللَّهِ لأقْعُدَنَّ. هذا يتمم مذهبه.
والإغواء إيقاع الغَيِّ في القَلْبِ أي: بما أوْقَعْتَ في قلبي من الغَيِّ والعِنَادِ والاستكبار وقد تقدَّمَ في البَقَرَة.
قوله: «صِرَاطكَ» في نَصْبِهِ ثلاثة أوْجُهٍ:
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على إسْقَاطِ الخَافِضِ.
قال الزَّجَّاج: ولا اختلاف بين النَّحءويين أنَّ «على» محذوفة كقولك: «ضَرَبَ زيد الظَّهْرَ والبطنَ، أي: على الظَّهْرِ والبَطْن» .
إلا أن هذا الذي قاله الزَّجَّاجُ - وإن كان ظاهِرُهُ
الإجماع - ضعيف من حيث إنَّ حَرْفَ الجرِّ لا يطَّردُ حَذْفَهُ، بل هو مخصوص بالضَّرُورَةِ أو الشُّذوذِ؛ كقوله:[الوافر]
2415 -
مُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا.....
…
...
…
...
…
...
…
. .
[وقوله] : [الطويل]
2416 -
…
...
…
...
…
...
…
... .
…
لَوْلَا الأسَى لقَضَانِي
[وقوله] : [الطويل]
فَبَتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي.....
…
...
…
...
…
...
…
.
أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ، والتَّقديرُ: لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ.
وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنَّ «صِرَاطكَ» ظرف مكان مُخْتَصّ، والظَّرْفُ المكانيُّ المختصُّ، لا يصل إليه الفِعْلُ بنفسه، بل ب «في» تقول: صلَّيْتُ في المسجد، ونمت في السُّوقِ. ولا تقول: صليتُ المَسْجِدَ إلا فيما استثني في كُتُبِ النحوِ، وإنْ وَرَدَ غير ذلك، كان شاذّاً؛ كقولهم «رَجَعَ ادْرَاجَهُ» و «ذَهَبْتُ» مع «الشَّام» خاصَّة أو ضرورةً؛ كقوله:[الطويل]
َزَى اللَّهُ بالخَيْرَاتِ مَا فَعَلا بِكُمْ
…
َفِيقَيْنِ قَالَا خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ
في خَيْمتَي، وجعلُوا نظير الآيةِ في نَصْبِ المكان المختصِّ قول الآخر:[الكامل]
َدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنَهُ
…
ِيهِ كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
يتُ أنْشَدَهُ النُّحَاةُ على أنَّهُ ضَرُورةٌ، وقد شذَّ ابن الطَّرَاوَةِ عن مذهب النُّحَاةِ فجعل «الصِّراط» و «الطَّريقَ» في هذين الموضعين مكانين مُبْهَمَيْن. وهذا قولٌ مردودٌ؛ لأن المُخْتَصَّ من الأمكنة ما له أقطار تحويه، وحدود تحصره، والصِّراطُ والطَّريقُ من هذا القبيل.
الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على المفعول به؛ لأن الفِعْلَ قبله - وإنْ كان قاصراً - فقد ضُمِّن معنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ. والتقديرُ: لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه.
فصل في معنى إغواء إبليس
قول إبليس «فَبِما أغْوَيْتَنِي» يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواءه إلى اللَّه - تعالى -، وقوله
في آية أخرى: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواء العباد غلى نفسه، فالأول دلَّ على مَذْهَب أهْلِ الجَبْر، والثَّانِي يدلُّ على مذهب [أهل] القدر، وهذا يدلُّ على أنه طكان متحيراً في هذه المسألةِ. وقد يقال: إنَّهُ كان معتقداً بأن الإغواءِ لا يَحْصُلُ إلَاّ بالمغوي فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُغْوِياً لغيره من الغاوين ثمَّ زعم أنَّ المُغوي لهُ هو اللَّهُ - تعالى - قطعاً للتَّسلْسُل.
واختلفُوا في تَفْسير هذه الكَلِمَةِ، فقال أهْلُ السُّنَةِ: الإغواءُ إيقاع الغيِّ في القَلْبِ، والغيُّ هو الاعتقادُ البَاطِلُ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ كان يعتقدُ أنَّ الحقَّ والباطل أنَّمَا يقعُ في القَلْبِ من اللَّهِ.
وأمَّا المعتزلةُ فلهم ههنا مقاماتٌ.
أحدها: أن يفسِّرُوا الغَيَّ بما ذكرناه، ويعتذروا عنه بوجوه.
منها: أن قالوا: هذا قول إبْليسَ، فهب أنَّ إبليس اعتقد أنَّ خَالِقَ الغيِّ، والجهلِ، والكفرِ هو الله، إلَاّ أنَّ قول إبليس ليس بحجَّةٍ.
ومنها قالوا: إنَّه تعالى لمَّا أمره بالسُّجُود لآدَمَ؛ فعند ذلك ظهر غيه وكفره، فجاز أن يضيف ذلك إلى الله - تعالى - لهذا المعنى، وقد يَقُولُ القائِلُ: لا تحملني على ضَرْبِكَ أي: لا تَفعلْ ما أضربك عِنْدَهُ.
ومنها: أن قوله {ربِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي} أي: لعنتني، والمعنى أنَّكَ لمَّا لَعَنْتَنِي بسبب آدَمَ؛ فأنَا لأجْلِ هذه العَداوَةِ؛ ألقي الوساوسَ في قُلُوبهم.
المقام الثاني: أنْ يفسِّرُوا الإغْواءَ بالهلاكِ، ومنه قوله تعالى:{فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] أي: هلاكاً وويلاً، ومنهُ أيضاً قولهم: غَوَى الفَصِيلُ يَغْوِي غوىً؛ إذَا أكثر من اللَّبَنِ حتى يفسدَ جوفه ويُشَارِفَ الهَلاكَ والعَطَبَ. وفسَّروا قوله تعالى: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] إن كان اللَّهُ يريدُ أنْ يهلككهم بعنادكم للحق. فهذا جميع الوجوه المذكورة.
قال ابْنُ الخَطِيبِ: ونحن لا نُبَالغُ في بيان أنَّ المراد من الإواء في هذه الآية الإضلالُ؛ لأن حَاصِلَهُ يرجع إلى قول إبليس، وإنَّه ليس بحجة إلَاّ أنَّا نقيمُ البرهانُ اليقينيَّ على أنَّ المُغْوِي لإبليس هو اللَّهُ - تعالى - وذلك؛ لأنَّ الغاوي لا بدَّ لهُ من مُغْوٍ، والمُغْوِي له إمَّا أن يكون نَفْسَهُ، أو مخلوقاً آخَرَ، أو اللَّهَ - تعالى - والأوَّلُ باطِلٌ؛ لأن
العاقلَ لا يختارُ الغوَايَة مع العِلْمِ بكونها غوَايَةٌ، والثَّاني أيضاً باطلٌ، وإلاّ لزم إما التَسَلْسُل وإمَّا اغلدَّوْرُ، والثَّالِثُ هو المقصود.
فصل في المراد من الإقعاد
المراد من قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} أنَّهُ يُواظِبُ على الإفْسَادِ مواظبة لا يَفْتُرُ عنها، ولهذا المعنى ذكر القُعُود؛ لأن من أراد المُبَالَغَة في تكميل أمر من الأمُور قعد حتى يصير فارغَ البالِ، فيمكنه إتمام المقصود. ومواظبته على الإفْسَادِ، هي مُواظَبَتُهُ على الوَسْوسَةِ بحيثُ لا يَفْترُ عنها.
قال المُفَسِّرُونَ: معنى {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} أي: بالصَّدِّ عنه وتزيين البَاطِل؛ حتَّى يهلكوا كما هَلَكَ، أو يضلوا كما ضَلَّ، أو يخيبوا كما خَابَ.
فإن قيل: هذه الآيَةُ دَلَّتْ على أنَّ إبليس كان عالماً بالدِّين الحقِّ؛ لأنه قال {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} وصراطُهُ المُستقِيمُ هو دينه الحقُّ، ودَلَّتْ أيضاً على أن إبليس كان عالماً بأنَّ الذي هو عليه من الاعتقاد هو مَحْضٌ الغوايَةِ والضَّلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال:{رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] ، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أنْ يرضى إبليسُ بذلك المَذْهَب مع علمه بكونه ضلالاً وغوايةً، وبكونه مضاداً للدِّين الحقِّ، ومنافياً للصِّراط المستقيم، فإنَّ المرءَ إنَّما يعتقدُ الاعتقادَ الفَاسِدَ إذا غلب على ظَنِّهِ كونه حَقّاً، فأمَّا من عَلِمَ أنَّهُ باطلٌ وضلالٌ وغوايةٌ يَسْتَحِيلُ أنْ يختاره، ويرضى به، ويعتقدهُ.
فالجوابُ: أنَّ من النَّاسِ من قال: إنَّ كفر إبليسَ كفْرُ عَناد لا كُفْرَ جَهْلٍ، ومنهم من قال: كُفْرُهُ كُفْرُ جَهْلٍ. وقوله: {فَبِمآ أَغْوَيْتَنِي} ، وقوله:{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} يريدُ به في زعم الخَصْمِ، وفي اعتقاده.
فصل في بيان هل على الله رعاية المصالح
احتجَّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ لا يجب على اللَّه رعاية مصالح العبدِ في دينه
ولا في دنياه؛ لأنَّ إبليس استمهل الزَّمَانَ الطويل فأمْهَلَهُ اللَّهُ، ثمَّ بيَّن أنَّهُ إنَّمَا يستمهله؛ لأغواء الخلق، وإضلالهم.
والله - تعالى - عَالِمٌ بأنَّ أكثر الخلق يطيعونهُ، وقبلونَ وسْوَسَتَهُ كما قال تعالى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلَاّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين} [سبأ: 20] فثبت أنَّ إنْظَارَ إبليس وإمْهَالَهُ هذه المدة الطويلة؛ يَقْتَضِي حصور المفاسِدِ العظيمة.
والكفر العظيم، فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العبادِ؛ لامتنع أنْ يمهله، وأن يمكنه من هذه المفاسد، فَحَيْثُ أنْظَرَهُ وأمهله؛ علمنا أنَّهُ لا يجب عليه شيء من رِعَايَةِ المصالح أصْلاً، ومما يوِّي ذلك أنَّهُ تعالى بَعَثَ الأنبياءَ دعاة إلى الحقِّ، وعلِمَ من حال إبليس أنَّهُ لا يَدْعُوا إلَاّ إلى الكُفْرِِ والضلالِ، ثم إنَّهُ تعالى أماتَ الأنْبِيَاءِ الذينَ يَدْعُونَ الخلق إلى الحق، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين يَدْعُونَ إلى الكُفْرِ والبَاطِل، ومن كان مُرِيداً لمَصَالِح العباد؛ امتنعَ منه أنْ يفعل ذلك.
قالت المُعتزلةُ: اختلف شُيُوخُنَا في هذه المسألةِ فقال الجُبَّائِيُّ: إنَّهُ لا يختلفُ الحالُ بسببِ وجودِهِ وعدمِهِ، ولا يضل بقوله أحَدٌ إلا من لو فَرَضْنَا عدم إبليس، لكان يضل أيضاً ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى:{مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَاّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [الصافات: 162، 163] ، ولأنَّهُ لو ضَلَّ به أحَدٌ لكان بقاؤه مفسدة.
وقال أبُو هَاشِم: يجوز أنْ يضل به قَوْمٌ، ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشَّهْوَة، فإنَّ هذه الزِّيادة من الشهوة لا توجب فِعْلَ القَبيح إلَاّ أنَّ الامْتناعَ منها يصير أشَقَّ، وأجْلِ تلك الزِّيَادة من المشقَّةِ، تحصل الزِّيادةُ في الثَّواب، فكذا ههنا بسبب بقاءِ إبليس يصير الامتناع من القَبَائِح أشد، وأشق، ولكنه لا ينتهي إلى حدِّ الإلجاء والإكْراهِ.
والجوابُ: أمَّا قول أبي علي فضعيف؛ لأنَّ الشَّيْطانَ لا بُدَّ وأن يزيِّن القبائِحَ في قلب الكافر ويحسِّنهَا له، ويذكره ما في القَبَائِح من أنواع اللَّذَّاتِ، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حُصُولِ هذا التذكير والتَّزْيين لا يكون مُسَاوِياً لحاله عِنْدَ عدم هذا التذكير والتزيين، ويدلُّ على ذلك العرف، فإنَّ الإنسان إذا حصل له جلساءُ يرغبونه في أمر من الأمُور، ويحسنونه في عينه ويسهِّلُونَ عليه طريقَ الوُصُولِ إليه، ويواظبون على دعوته إليه؛ فإنَّهُ لا يكون حاله في الإقدام على ذلك، كحاله إذا لم يوجد هذا التَّذْكير والتَّحسين والتَّزيين، والعلم بذلك ضروري.
وأمَّا قولُ أبي هاشم فضروريُّ البُطْلانِ؛ لأنه إذا صار هذا التَّذكير والتَّزيين حاملاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائِهِ في المفسدة، وما ذكره من خلق الزِّيادةِ في الشَّهْوَةِ فهو حُجَّةٌ أخرى لنا في أنَّ اللَّه تعالى لا يراعي المصلحة، فكيف يمكنه أن يحتجَّ به، والذي يقرره غاية التقرير: أنه لسبب حصول تلك الزِّيادة في الشَّهوة يقع في الكفر وعذاب الأبَدِ، ولو احترزَ عن تلك الشَّهْوَة فغايتُهُ أن يزداد ثوابُهُ بزيَادَةِ تلك المشقَّةِ، وحصول هذه الزَّيادَة من الثَّوابِ شيءٌ لا حَاجَةَ إليْهِ ألْبَتَّة، أمَّا دفعُ العِقَاب المؤبَّدِ، فليه أعظم الحاجات، فلو كان إلهُ العالم مُرَاعياً لمصالح العِبادِ لاسْتَحَال أن
يهمل الأهم الأكمل الأعظم لأجل زيادةٍ لا حاجةَ إليها ولا ضَرُورةَ.
فَثَبَتَ فساد هذه المذاهب، وأنَّهُ لا يَجِبُ على الله شيء أصلاً.
قوله: «ثم لآتينهم» جُمَْةٌ معطوفةٌ على جواب القسم أيضاً وأخبر أنَّهُ بعد أنْ يَقْعُدَ على الصِّراطِ يأتي من هذه الجهات الأربع، ونوَّع حَرْفَ الجرِّ فَجرَّ الأوَّلَيْن [ «ب» مِنْ «والثَّانيين ب» عَنْ «لنكته ذكرها الزَّمَخْشَرِي. قال رحمه الله:» فإن قُلْتَ كَيْفَ قيلَ: مِنْ بين أيْديهمْ، ومن خلفهم بحرف الابتداء، وعنْ أيْمَانِهِم، وعن شَمَائِلِهِمْ بحرف المُجاوَزَةِ؟
قلت «: المفعول فيه عُدِّي إليه الفِعْلُ نحو تعديته إلى المفعُولِ به، فكما اختلف حروفُ التَّعْدِيَة في ذلك اختلفت في هذا، وكانت لغة تُؤخَذُ ولا تُقاسُ، وإنَّمَا يُفتش عن صِحَّةِ موقعها فقط، فلما سمعناهم يَقُولُون: جلس عن يمينه، وعلى يمينه، وعن شماله، وعلى شماله قلنا: معنى» عَلَى يَمينِهِ «أنَّهُ تمكَّن من جهة اليمين تمكُّن المُسْتعلِي من المُسْتَعْلَى عليه.
ومعنى» عَنْ يَمينِهِ «أنَّهُ جَلَسَ مُتَجافِياً عن صاحب اليمينِ غير مُلاصِق له مُنْحَرِفاً عنه، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى استعمل في المُتَجَافِي وغيره كما ذكرنا في» تعال «. ونحوه من المفعول به قولهم:» رَمَيْتُ على القَوْسِ، وعن القَوْسِ، ومن القَوْسِ «لأنَّ السَّهْمَ يَبْعُدُ عنها، ويستعليها إذا وضع على كَبدهَا للرَّمْي، ويَبْتَدِىء الرَّمْيُ منها، فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى» في «؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ ويَبْتَدِىءُ الرَّمْيُ منها، فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى طفي» ؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ للفعل، ومِنْ بين يديه ومن خلفه؛ لأنَّ الفِعْلَ يقع في بعض الجِهَتَيْنِ كا تقُولُ: جِئْتُ من اللَّيْل تريدُ بعض اللَّيل «.
قال شهابُ الدِّين:» وهذا كلامُ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمُهُ في فهم كلامِ العرب «.
وقال أبُو حيَّان: وهو كلامٌ لا بَأسَ به. فلم يوفِّ حقَّهُ.
ثم قال: وأقُولُ: وإنَّما خصَّ بين الأيدي، والخلف بحرف الابتداءِ الذي هو أمكن في الإتْيَانِ؛ لأنَّهُمَا أغلب ما يجيءُ العدوُّ منهما فَيَنَال فرصتَهُ، وقدَّم بين الأيْدِي على الخَلْفِ؛ لأنَّهَا الجِهَةُ الَّتِي تَدُلُّ على إقدام العَدُوِّ وبسالته في مواجهة قِرْنِهِ غير خَائِفٍ مِنْهُ، والخلف جهة غدر ومخاتلة، وجهالة القِرْن بِمَنْ يغتاله، ويتطلب غِرَّتِهِ وغَفْلَتَهِ، وخصَّ الأيمان والشَّمائِلَ بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العَدُوّ، وإنما يجاوز إتْيَانَهُ إلى الجِهَةِ الَّتِي هي أغْلَبُ في ذلِكَ، وقُدِّمَتِ الأيمان على الشَّمائِل؛ لأنها هي الجِهَةُ القويَّةُ في مُلاقَاةِ العَدُوِّ، وبالأيمان البَطْشُ والدَّفْعُ، فالقرن الي يأتي من جهتها أبْسَلُ وأشْجَعُ إذ جاء من الجهة الَّتي هي أقوى في الدَّلإْعِ، والشَّمَائِل ليست في القُوِّةِ والدَّفْعِ كالأيمان.
[والأيمانُ] والشَّمَائِلُ جَمْعا يمينٍ وشمالٍ، وهما الجَارِحَتَانِ وتجمعان في القلَّة على أفْعُلٍ، قال:[الرجز]
[2420]
- يَأتِي لَهَا مِنْ أيْمُنِ وأشْمُلِ
…
والشَّمَائِلُ يُعبَّرُ بها عن الأخلاق والشِّيم تقول: له شمائل حسنة، ويُعبَّر عن الحسنات باليمين، وعن السَّيِّئَات بالشَّمَال؛ لأنَّهُمَا منشأ الفعلين: الحسن السيّىء.
2421 -
أَبُثْنَى، أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتنِي
…
فأفْرَحَ أمْ صَيَّرتني فِي شِمَالِكِ
يكنون بذلك عن عِظَمِ المنْزِلَةِ عند الشَّخْصِ وخِسَّتِها، وقال:[الطويل]
2422 -
رَأيْتُ بَنِي العَلَاّتِ لمَّا تَضَافَرُوا
…
يَجُوْزُوْنَ سَهْمِي بَيْنَهُمْ فِي الشَّمَائِلِ
والشَّمائل: جمع شمال بفتح الشِّين وهي الرِّيح.
قال ابمرؤ القيس: [الطويل]
2423 -
وَهَبَّتْ لَهُ رِيحٌ بِمُخْتَلِفِ الصُّوَى
…
صَباً وشَمالٌ فِي مَنَازِلِ قُفَّالِ
والألف في «الشَّمال» زائدة، لذا يُزاد فيها الهمزة أيضاً بعد الميم وقبلها فيقولون: شَمْأل وشَأمَل، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطه في التَّصْرِيفِ قالوا:«أشملت الريح» إذا هبت شمالاً.
فصل في معنى «من بين أيديهم»
قال عليُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عن ابين عباس: «مْنْ بيْنَ أيدِيهِم أي: من قبل الآخر فأشككهم فيها، ومن خَلْفِهِم أرغبهم في دنياهم وعن أيمانهم أشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي» .
وروى عطيَّةُ عن ابن عباس: «مِنْ بَيْنِ أيديِهِمْ من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم. ومن خَلْفهمْ: من قبل الآخرة فأقول: لا بَعْثَ، ولا جَنَّة ولا نَارَ، وعن أيْمَانِهِمْ:
من قبل حسناتهم وعن شمائلهم: من قبل سيِّئاتهم» .
قال ابن الأنْبَاريِّ: «قول من قال الأيمانُ كِنَايَة عن الحسنات والشَّمائِل كناية عن السيئاتِ قول حسنٌ؛ لأنَّ العرب تقولُ: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالكَ، يُريدُ اجعلني من المُقدَّمينَ عِنْدك، ولا تجعلني من المؤخرين» .
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي أنه قال: «أنتَ عِنْدَنَا باليمين أي: بمنزلة حسنةٍ، وإذا خبثت منزلته قال أنت عندي بالشِّمالِ» .
وقال الحكم والسُّدِّيُّ: «مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ» : من قبل الدنيا يزيّنها لهم، ومن خلفهم: من قبل الآخرة يثبِّطُهُم عنها، وعن أيمانهم من قبل الحقِّ يَصُدُّهُم عنه، وعن شمائلهم: من قبل الباطل يزينه لهم.
وقال مُجَاهِدٌ: «مِنْ بَيْنِ أيديهم، وعن أيمانهم من حث يبصرون ومن خَلْفِهِم، وعن شمائلهم من حيث لا يُبْصِرُونَ» .
قال ابن جريج: معنى قوله: «حَيْثُ يبصرون أي: يخطئون، وحيث لا يُبْصِرُون أي: لا يعلمون أنَّهم يخطئون» .
وقيل: من بَيْنِ أيْدِيهِمْ في تكذيب الأنْبِياءِ والرُّسُلِ الذين يكونون حاضرين، ومن خلفهم في تَكْذِيب من تقدَّمَ من الأنبياء والرُّسُلِ، وعن أَيمانهم في الكُفْرِ والبِدْعَةِ، وعن شمائلهم في أنواع المعاصي.
وقال حُكَمَاء الإسْلامِ: إنَّ في البدن قُوىً أربعاً؛ هي الموجبة لِقُوَّاتِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، فالقوة الأولى الخياليَّةُ التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها، وهي موضوعة في البطن المقدَّم من الدِّماغِ، وصورة المحسوسات إنَّمَا تَرِدُ عليها من مقدمها.
وإليه الإشارة بقوله: {مِنْ بَيْنِ أيْدِيِهِمْ] .
وَالقُوَّةُ الثَّانِيَةُ: الوهمِيَّةُ التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة
للمحسوسات، وهي موْضُوعَةٌ في البَطْنِ المؤخر من الدِّماغِ، وإليه الإشَارَةُ بقوله:«وَمِنْ خَلْفِهِم» .
والقُوَّةُ الثَّالِثَةُ: الشَّهْوَةُ، وهي موضوعة في الكبدِ، وهي من يمين البدن، وإليه الإشارة بقوله:«وعَنْ أيْمَانِهِم» .
والقُوَّة الرَّابِعَةُ: الغَضَبُ، وهي موضوعةٌ في البطن الأيسر من القلب، وإليه الإشارة بقوله:«وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ» . فهذه القُوَى الأرْبَعُ التي تَتَولَّدُ عنها أحْوالٌ تُوجِبُ زوال السَّعادات الرُّوحانيَّة، والشَّياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوَسْوسَةِ، فهذا هو السَّبَبُ في تعيين هذه الجهات الأربع.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «إنَّ الشَّيطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدْمَ بِطَرِيْقِ الإِسْلامِ فقَالَ: اتَّبِعْ دِيْنَ آبَائِكَ فَعَصَاهُ فأسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيْقِ الهِجْرةِ فقالَ لَهُ: تَدَعُ دِيَارَكَ وتَتَغَرَّبُ! فَعَصَاهُ وهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيق الجِهَادِ فقال له: تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فيقُسمُ مَالُكَ وتُنْكَحُ امْرَأتكُ فَعَصَاهُ فقاتَلَ» فهذا الخَبَرُ يدلُّ على أنَّ الشَّيطان لا يترك جهة من جهات الوسْوسَةِ إلَاّ ويلقيها في القَلْبِ.
فإن قيل: فلم [لم] يذكر من الجهات الأربع {مِنْ فَوْقِهِم ومِنْ تَحْتِهِم؟}
فالجوابُ أنَّا ذكرنا أنَّ القُوَى التي يتولَّدُ منها ما يُوجِبُ تفويتَ السَّعادات الرُّوحانية فهي موضوعةٌ في هذه الجوانب الأربعة من البدنِ.
وأمّا في الظَّاهر فيروى أنَّ الشَّيْطانَ لمَّا قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا، كيف يتخلَّصُ الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأرْبَعِ؟ فأوحى اللَّهُ تعالى إليهم:«أنه بَقِيَ للإنسان جهتان: الفَوْقُ والتَّحْتُ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدُّعَاءِ على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرْضِ على سبيل الخَشُوع غفرت له ذَنْبَ سبعينَ سَنَةً» .
الوجدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللِّقَاءِ، أو بمعنى العِلْم أي: لا تُلْقي أكثرهم شاكرين أو لا تعلم أكثرهم شاكرين ف «شاكرين» حال على الأَوَّلِ، مفعول ثانٍ على الثَّانِي.
وهذه الجملة تحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّ تكون استئنافية أخبر اللَّعِينُ بذلك لتظنِّيه قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]، أو لأنَّهُ علمه بطريق قيل: لأنه كان قد رأى ذلك في اللَّوْح المَحْفوظِ. ويحتمل أن تكون دَاخِلَةً في حيِّز ما قبلها من جواب القسمِ فتكونُ معطوفةً على قوله: «لأقْعُدَنَّ» أقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْنِ، وأخرى منفَّية.
ف «مذؤوماً مَدْحُوراً» حالان من فاعل «اخرج» عند من يجيز تعدد الحال لذي حال واحدة، ومَنْ لا يُجيز ذلك ف «مَدْحُوراً» صفة ل «مذؤوماً» أو هي حالٌ من الضَّمير في الجارِّ قَبْلَهَا، فيكونُ الحالانِ مُتَدَاخِلَيْنِ.
و «مَذْءُوماً مَدْحُوراً» اسما مفعول مِنْ: ذَأمَهُ وَدَحَرَهُ. فأمَّا ذَأمَهُ فيقالُ: بالهمز: ذَأمَه، يَذْأمُهُ كرَامَه يَرْأمُهُ، وذَامَهُ يَذِمُهُ كبَاعَه يَبِيعُهُ من غَيْر هَمْزٍ، وعليه قولهم:«لنْ تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذَاماً» يروى بهمزةٍ ساكنةٍ أو ألف، وعلى اللُّغَةِ الثَّانية قول الشاعر:[الطويل]
2424 -
تَبِعْتُك إذْ عَيننِي عَلَيْهَا غَشَاوَةٌ
…
فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أذِيمُهَا
فَمَصْدَرُ المَهمُوز: ذأمٌ كرأس، وأمَّا مصدر غير المهموز فَسُمِعَ فيه ذامٌ بألف، وحكى ابْنُ الأنْبَارِيِّ فيه ذيماً كينعٍ قال: يقال: ذأمْتُ الرَّجُلَ أذْأمُه، وذِمْتُه أذِيْمُه ذَيْماً، وذَمَمْتُه أذُمُّه ذَماً بمعنىً؛ وأنشد:[الخفيف]
2425 -
وأقَامُوا حَتَّى أبِيرُوا جَمِيعاً
…
فِي مقَامٍ وكُلُّهُمْ مَذْءُومْ
ُّ: العَيْبُ ومنه المثلُ المتقدَّمُ: «لن تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذاماً» أي كُلُّ امرأة حسنة لا بدَّ أن يكون فيها عيب ما وقالوا: «أرَدْتَ أنْ تُذيمَهُ فمَدَهْتَهُ» أي: «تُعيُبُه فَمَدحْتَهُ» فأبدل الحاء هاء: وقيل: الذَّامُ: الاحتقارُ، ذَأمْتُ الرجل: أي: احْتَقَرْتُهُ، قاله الليثُ.
وقيل: الذَّامُ الذَّمُّ، قاله ابن قيتبة وابن الأنْبَاريِّ؛ قال أمّيَّةُ:[المتقارب]
2426 -
وَقَالَ لإبْلِيسَ رَبُّ العِبَادِ
…
[أن] اخْرُجُ لَعِيناً دَحِيراً مَذُومَا
والجمهور على «مَذْءُوماً» بالهمز.
وقرأ أبُو جَعْفَرٍ والأعمشُ والزُّهْرِيُّ «مَذُوْماً» بواوٍ واحدةٍ من دون همز وهي تَحْتَمِلُ وجهين:
أحدهما - ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه - أنَّهُ تَخْفِيف «مذؤوماً» في القراءةِ الشَّهيرةِ بأن أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ على الذَّالِ السَّاكنة، وحُذِفَت الهَمْزَةُ على القاعدةِ المُشْتَهِرَةِ في تَخْفيفٍ مثله، فوزن الكلمة آل إلى «مَفُول» لحَذْفِ العَيْنِ.
والثاني: انَّ هذه القراءة مَأخُوذَةٌ من لغة مَنْ يَقُولُ: ذِمْتُه أذِيمُهَ كبِعْتُهُ أبيِعُهُ، وكان من حقِّ اسم المَفْعُولِ في هذه اللُّغَةِ مَذِيمٌ كمبيع قالوا: إلا أنَّهُ أبْدِلَتِ الواوُ من اليَاءِ على حدِّ قولهم «مَكثولٌ» في «مَكِيلٍ» مع أنَّهُ من الكيل ومثلُ هذه القراءةِ في احْتِمالِ الوجهين قول أمَيَّةَ بْنِ أبي الصَّلْتِ في البيت المُتقدِّمِ أنشده الواحِديُّ على لغةِ «ذَامَهُ» بالألف «يَذِيمُهُ» بالياء، ولَيْتَهُ جعله محتملاً للتَّخْفِيفِ من لُغَةِ الهَمْزِ.
والدَّحْرُ: الطَّرْدُ والإبْعَادُ يقال: دَحَرَهُ، يَدْحَرُهُ دَحْراً، ودُحوراً؛ ومنه:{وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} [الصافات: 8، 9] ؛ وقول أميَّةَ في البيت المتقدم «لَعِيناً دَحِيراً» .
وقوله أيضاً: [الكامل]
2427 -
وبإذْنِهِ سَجَدُوا لآدَمَ كُلُّهُمْ
…
إلَاّ لَعِيناً خَاطِئاً مَدْحُوراً
وقال الآخرُ: [الوافر]
2428 -
دَحَرْتُ بَنِي الحَصِيبِ إلى قَدِيدٍ
…
وقَدْ كَانثوا ذَوِي أشَرٍ وفَخْرٍ
[قال ابن عباس: «مذءُوماً أي: ممقوتاً» .
وقال قتادةُ: «مَذْءُوماً مدحوراً أي: ليعناً شقيّاً» .
وقال الكَلْبِيُّ: «مَذموماً ملوماً مدحوراً مقصيّاً من الجنَّةِ ومن كُلِّ خَيْر» ] .
قوله: «لَمْن تبعكَ» في هذه «اللَاّام» وفي «من» وجهان:
أظهرهما: أنَّ اللَاّمَ هي المُوطِّئَةُ لقسم مَحْذُوفٍ، و «مَنْ» شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و «لأملأنَّ» جواب القسم المَدْلُول عليه بلام التوْطِئَة، وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ لِسَدِّ جواب القَسَم مَسَدَّه. وقد تقدَّم إيضاحُ ذلك مراراً.
والثاني: أنَّ اللَاّم لامُ الابتداء، و «مَنْ» مَوْصُولَةٌ و «تَبِعَكَ» صلتها، وهي في محلِّ رفع بالابتداء أيضاً، و «لأمْلأنَّ» جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القَسَمُ المَحْذُوفُ، وجوابُه في محلِّ رفع خبرٍ لهذا المُبْتَدَأ، والتَّقْديرُ، للّذي تبعك منهم، واللَّهِ لأمْلأنَّ جَهَنَّم منكم.
فإن قُلْتَ: أيْنَ العِائِدُ من الجملة القسمِيَّةِ الواقِعَةِ خبراً عن المبتدأ؟
قلتُ: هو مُتَضَمَّنٌ في قوله «مِنْكُمْ» ؛ لأنَّهُ لمَّا اجتمع ضَمِيراً غَيْبَةٍ وخطابٍ غلب الخطابُ على ما عُرفَ.
وفَتْحُ اللَاّم هو قراءةُ العامَّة. وقرأ عَاصِمٌ في رواية أبي بكر من بعض طرقه والجَحْدَرِيُّ: «لِمَنْ» بكسرها، وخُرِّجَتْ على ثلاثةِ أوْجُهٍ:
أحدها - وبه قال ابنُ عطيَّة - أنَّها تتعلَّقُ بقوله «لأمْلأنَّ» فإنَّهُ قال: {لأجْلِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُم لأمْلأنَّ} ، وظاهرُ هذا أنَّهَا متعلِّقةٌ بالفعل بعد لام القسم.
وقاب أبُو حيَّان: «ويمتنعُ ذلك على قَوْلِ الجُمْهُورِ تقديرها؛ لأنَّ ما بعد لام القسم لا يعملُ فيما قبلها» .
والثاني: أنَّ اللَاّامَ متعلِّقَةٌ بالذَّأم والدَّخرِ، والمعنى: أخْرُجْ بهاتين [الصِّفتين] لأجل اتِّباعِكَ. ذكره أبُو الفَضْلِ الرَّازِيُّ في كتاب «اللَّوَامِح» على شّاذِّ القراءة.
قال شهابُ الدِّين: ويمكن أن تَجِيءَ المسْألةُ من باب الإعمال، لأن كلاًّ من «مذءوماً» و «مدحوراً» يطلبُ هذا الجارَّ عند هذا القَائِلِ من حيثُ المعنى، ويكون الإعمال للثَّانِي كما هو مختار البصريَّين للحذف من الأوَّلِ.
والثالث: أن يكون هذا الجَارُّ خبراً مُقَدَّماً، والمُبْتَدَأ محذوف تَقْدِيرُهُ: لمَنْ تَبِعَكَ منهم هذا الوعيدُ، ودّلَّ على قوله هذا الوعيد قوله:«لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ» ؛ لأن هذا القسم وجوابه وعيدٌ، وهذا الذي أراد الزَّمخشريُّ بقوله: يَعْنِي لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله: «لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ» على أنَّ «لأمْلأنَّ» في محلِّ الابتداء و «لمَنْ تَبِعَكَ» خبره.
قال أبُو حيَّان: «فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأٌ على مذهب البصريين؛ لأنَّ قوله:» لأمْلأنَّ «جملةٌ هي: جوابُ قسم محذوف، من حَيْثُ كونها جُمْلَةً فقط، لا يجوز أن تكون مبتدأة، ومن حيث كونها جوبااً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً؛ لأنها إذْ ذاك من هذه الحَيْثيَّة لا موضع لها من الإعراب، ومن حيث كونها مبتدأ لها موضع من الإعراب ولا يجُوزُ أن تكون الجُمْلَةُ لها مَوضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب وهو محال؛ لأنَّهُ يلزم أن تكون في موضع رفع، لا في موضع رَفْعٍ، داخل عليها عاملٌ غَيْرُ داخلٍ عليها عامل، وذلك لا يتُصَوَّرُ» .
قال شهابُ الدِّينِ بعد أنْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «بمعنى لمن تبعك الوعيد وهو لأملأنَّ» : كيف يحسن أنْ يتردد بعد ذلك فيقال: إنْ أرَادَ ظاهِرَ كلامه، كيف يريدُهُ مع التَّصْريح بتأويله هو بنفسه؟ وأمَّا قَوْلُهُ على أنَّ «لأمْلأنَّ» في محلِّ الابتداء، فإنَّمَا قاله؛ لأنَّهُ دَالٌّ على الوعيدِ الذي هو في محل الابتداء، فنسب إلى الدَّالِّ ما يُنْسَبُ إلى المدْلُولِ من جِهَةِ المَعْنَى.
وقول الشَّيْخ أيضاً «ومِنْ حَيْثُ كوْنهَا جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً إلى آخره» كلام متحمِّل عليه؛ لأنَّهُ لا يريد جملة الجوابِ فقط ألْبَتَّةَ، إنَّمَا يريدُ الجملة القَسَمِيَّةَ برُمتِهَا، وأنَّما استغنى بِذِكْرِهَا عن ذكر قسيمها؛ لأنَّها مَلْفُوظٌ بها، وقد تقدَّم ما يُشْبِهُ هذا الاعتراض الأخير عليه، وجوابُهُ.
وأمَّا قَوْلُ الشَّيْخ: «ولا يَجُوزُ أن تكُونَ الجملة لها مَوْضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب» إلى آخر كلامهِ كُلِّهِ شيء واحد ليس فيه مَعْنىً زَائِدٌ.
قوله: «أجْمَعِيْنَ» تَأكيدٌ. واعْلَمْ أنَّ الأكْثَرَ في أجمع وأخواته المستعملة في التَّأكيد إنَّمَا يُؤتَى بها بَعْدَ «كُلٍّ» نحو: {فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وفي غير الأكثر قَدْ تَجِيءُ بدون «كل» كهذه الآية الكريمةِ، فإنَّ «أجْمَعينَ» تأكيد ل «مِنْكُمْ» ، ونظيرُهَا فيما ذكرما قوله تعالى:{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] .
فصل
قال ابْنُ الأنْبَاريِّ: الكناية في قوله: «لَمَنْ تَبِعَكَ» عائد على ولد آدم؛ لأنَّهُ حين قال: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ» كان مخاطباً لولد آدم فرجعتِ الكِنَايَةُ إليهم.
قال القَاضِي «: دلَّت هذه الآية على أنَّ التَّابعَ والمتبع يَتَّفِقَانِ في أنَّ جهنَّم تُملأ منهما، فكما أنَّ الكَافِرَ تبعه، فكذلك الفاسق فيجب القطع بدخول الفَاسِقَ في النَّار. وجوابه: أنَّ المذكور في الآية أنَّهُ تعالى يَمْلأُ جهنَّمَ ممن تَبِعَهُ، وليس في الآيَة أنَّ كلَّ من تبعه يدخلُ جهنَّم، فسقط هذا الاستدلالُ، ودلَّتْ هذه الآية على أنَّ جميع أهْلِ البدعِ والضَّلالة يَدْخُلُونَ جهنَّمَ، لأنَّ كلهم متابعون إبليس.
قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآيةِ في سورة البقرةِ، بقي الكلامُ هنا على حَرْفٍ واحد وهو قوله تعالى في سُورةِ البقرة:{وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً} [البقرة: 35] بالواو، وقال ههنا بالفَاءِ، والسَّبَبُ فيه من وجهين:
الأول: أنَّ الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التَّعْقِيبِ.
فالمَفْهُوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا مُنَافَاةَ بين النَّوْعِ والجِنْسِ، ففي سورة البقرة ذكر الجِنْسَ، وفي سُورةِ الأعْرَافِ ذكر النَّوْعَ.
الثاني: وقال في البقرة: «رغداً» وهو ههنا محذوف لدلالة الكلام عليه.
قوله: «فوَسْوَسَ لَهُمَا» أي: فَعَلَ الوَسْوَسَةَ لأجلهما.
والفَرْقُ بين وسْوَسَ له وَوسْوَسَ إليه أنَّ وَسْوَسَ له بمعنى لأجله كما تقدَّم، وَوَسْوَسَ إليه ألْقَى إلَيْه الوَسْوَسَةَ.
والوَسْوَسَةُ: الكلام الخفيُّ المكرر، ومثله الوسْواسُ وهو صوتُ الحليِّ، والوسوسَةُ أيضاً الخَطْرَةُ الرَّديئَةُ، وَوَسْوَسَ لا يتعدَّى إلى مَفْعُولٍ، بل هو لَازِمٌ كقولنا: وَلْوَلَتِ المَرأةُ، ووعْوَعَ الذِّئْبُ ويقالُ: رجلٌ مُوَسْوِسٌ بِكَسْرِ الوَاوِ، ولا يُقَالُ بفتحها، قالهُ ابْنُ الأعْرَابِيِّ.
وقال غيره: يقال: مُوَسْوَس له، ومُوَسْوَس إليه.
وقال اللَّيْثُ: «الوَسْوَسَةُ حديثُ النَّفْس، والصَّوْتُ الخَفِيُّ من ريحٍ تَهُزُّ قصباً ونحوه كالهمْسِ» . قال تعالى {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] .
وقال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاج يَصِفُ صَيَّاداً: [الرجز]
2429 -
وَسْوَسَ يَدْعُوا مُخْلِصاً رَبِّ الفَلَقْ
…
لَمَّا دَنَا الصَّيْدُ دَنَا مِنَ الوَهَقْ
أي: لما أراد الصَّيدَ وسوس في نَفْسِهِ: أيُخْطىء أم يُصِيبُ؟ وقال الأزْهَرِيُّ: «وسْوَسَ ووَزْوَزَ بمعنىً واحد» .
فإن قيل: كيف وَسْوَسَ إليه، وآدم كان في الجَنَّةِ وإبليس أخرج منها «؟
فالجوابُ: قال الحسن: كان يُوَسْوِسُ من الأرْض إلى السَّمَاءِ وإلى الجِنَّةِ بالقُوَّةِ الفَوْقيَّةِ التي جعلها له.
وقال أبُو مُسْلِمٍ الأصْفهانِيُّ: بَلْ كان آدمُ وإبليس في الجنَّةِ؛ لأنَّ هذه الجنَّةَ كانت بعض جنات الأرض، والذي يقوله بعض النَّاس من» أنَّ إبليس دخل الجنَّة في جَوْف الحيَّةِ ودخلت الحيَّة في الجنَّةِ «فتلك القصة ركيكةٌ ومشهورةٌ.
وقال آخَرُون: إنَّ آدم وحَوَّاءَ ربنا قَرُبَا من باب الجَنَّةِ، وكان إبليس واقفاً من خارج الجَنَّةِ على بَابها فيقْرُبُ أحَدُهُمَا من الآخر فتحصل الوسْوسَةُ هناك.
فإن قيل: إنَّ آدم عليه السلام كان يَعْرِفُ ما بينه وبين إبليسَ من العداوة، فَكَيْفَ قبل قوله؟
فالجواب: [لا يَبْعُد أنْ يُقال إنَّ إبليسَ لَقِيَ آدَمَ مِراراً كثيرةً، ورَغَّبَهُ في أكْلِ الشَّجَرَة بِطُرُقٍ كثيرةٍ؛ فلأجْل] المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثَّر كلامه عند وأيضاً فقال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] أي: حَلَفَ لهما فاعْتَقَدُوا أنَّ أحَداً لا يَحْلِفُ كاذباً فلذلك قبل قوله.
قوله:» لِيُبْدِيَ لَهُمَا «في طلام» لِيُبْدِي «قولان:
أظهرهما: أنها لامُ العِلَّةِ على أصلها؛ لأنَّ قَصْدَ الشَّيْطانِ ذلك.
وقال بعضهم:» اللَاّمُ «للِصَيْرُورةِ والعاقِبَةِ، وذلك أنَّ الشِّيْطَانَ لم يكن يعلم أنَّهُمَا يعاقبان بهذه العُقُوبَةَ الخَاصَّاةِ، فالمعنى: أن أمْرَهُمَا آل إلى ذلك. الجوابُ: أنهُ يجوزُ أنْ يُعْلم ذلك بطريق من الطُّرُق المتقدِّمةِ في قوله {وَلَا نَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] .
ومعنى قوله:» لِيُبْدِيَ لَهَمَا «ليظهر لهما ما غُطِّي وسُتِرَ عنهما من عوراتهما.
قوله:» مَا وُوْري «» مَا «موصولة بمعنى الذي، وهي مفعول ل» لِيُبْدِي «أي: لِيُظْهِر الذي سُتِرَ.
وقرأ الجمهور: «وُوْري» بواوين صريحَتَيْنِ وهو ماضٍ مبني للمفعول، أصله «وَارَى» كضارَبَ فلمَّا بُني للمفعول أبْدِلَت الألف واواً كضُورِبَ، فالواو الأولى فاء، والثَّانية زَائِدَةٌ.
وقرا عبد الله: «أُوْرِيَ» بإبدال الأولى همزة، وهو بدلٌ جَائِزٌ لا واجب.
وهذه قَاعِدٌةٌ كليَّةٌ وهي: أنَّه إذا اجتمع في أوَّلِ الكلمةِ واوان، وتحرَّكتِ الثَّانيةُ، أو كان لها نَظِيرٌ مُتَحَرِّكٌ وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً، فمثال النَّوْعِ الأوَّلِ «أوَيْصِلٌ» ، وَ «أوَاصِلُ» تصغير واصلٍ وتكسيره، فإنَّ الأصل: وُوَيْصِل، وواصل؛ فاجتمع واوان في المثالين ثانيتهما متحركة فوجب إبدالُ الأولى همزة. ومثالُ النَّوْعِ الثَّانِي أوْلى فإنَّ أصلها
وُوْلَى، فالثَّانَيِةُ؛ لكنها قد تتحرَّكُ في الجَمْعِ في قولك: أُوَل؛ كفُضْلَى وفُضَل، فإن لم تتحرَّك ولم تحمل على متحرّك، جَازَ الإبدَالُ كهذه الآيَةِ الكريمةِ. ومثله وُوْطِىءَ وأوْطِىءَ.
وقرأ يحيى بن وثاب «وَرِيَ» بواو واحدة مضمومة وراء مكسورة، وكَأنَّهُ من الثُّلاثيِّ المتعدِّي، وتحتاج إلى نَقْلِ أنَّ وَرَيْتُ كذا بمعنى وارَيْتُه.
والمُوَارَاةُ: السَّتْرُ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ُ - لمَّا بلغه موت أبي طالب لعليٍّ:«اذْهَبْ فوارِه» . ومنه قول الآخر: [مخلع السبيط]
2430 -
عَلَى صَدىً أسْوَدَ المُوَارِي
…
فِي التُّرْبِ أمْسَى وفِي الصَّفِيحِ
وقد تقدَّم تحقيق هذه المادَّةِ
والجمهور على قراءة «سَوْءَاتِهما» بالجمع من غير نقل، ولا إدغام.
وقرأ مُجاهدٌ والحسن «سَوَّتهما» بالإفراد وإبدال الهمز [واواً] وإدغام الواو فيها.
وقرأ الحسنُ أيضاً، وأبو جعفر وشَيْبَةُ بن نصاح «سَوَّاتهما» بالجمع وتشديد الواو بالعمل المتقدم.
وقرأ أيضاً «سَواتِهما» بالجمع أيضاً، إلا أنَّهُ نقل حركة الهمزة إلى الواو من غير عملٍ آخَرَ، وكلُّ ذلك ظَاهِرٌ. فمن قرأ بالجمع فيحتمل وجهين:
أظهرهما: أنَّهُ من باب وَضْعِ الجمع موضع التَّثْنِيَةِ كراهية اجتماع تثنيتين، والجمع أخُوا التَّثْنِيَةِ فلذلك ناب منابها كقوله:{صَغَتْ قُلُوبُكُمآ} [التحريم: 4] وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذه القاعدة.
ويحتمل أنْ يكون الجَمْعُ هنا على حقيقته؛ لأنَّ لكل واحد منهما قُبُلاً، ودُبُراً، والسوءات كنايةٌ عن ذلك فهي أربع؛ فلذلك جِيءَ بالجَمْعِِ، ويؤيِّدُ الأوَّل قراءةُ الإفراد فإنَّه لا تكون [كذلك] إلَاّ والموضع موضع تثنية نحو:«مَسَحَ أَذُنَيْهِ ظَاهِرهُمَا وبَاطِنَهُمَا» .
فصل في أن كشف العورة من المحرمات
دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ كَشْفَ العوْرَةِ من المُنْكَرَاتِ، وأنَّهُ لم يزل مُسْتَهْجَناً في الطِّبَاع مُسْتَقْبَحاً في العُقُولِ.
قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلَاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} .
هذا استثناء مُفَرَّغٌ وهو مفعول من أجله فقدَّرَهُ البَصْرِيُّونَ إلَاّ كراهة أنْ تكونا، وقدَّرَهُ الكوفِيُّون إلاّ أن لا تكونا، وقد تقدَّم مراراً أنَّ قول البَصْرِيِّين أوْلى؛ لأنَّ إضْمَارَ الاسْمِ أحسنُ من إضمار الحَرْفِ.
وقرأ الجمهور «مَلَكَيْنِ» بفتح اللَاّم.
وقرأ عَلِيٌّ، وابن عباس والحسنُ، والضَّحَّاكُ، ويحيى بْنُ أبِي كَثِير والزُّهْرِيُّ وابن حكيم عن ابن كثير «مَلِكين» بكسرها قالوا: ويُؤيِّدُ هذه القراءة قوله في موضع آخر: {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لَاّ يبلى} [طه: 120] والمُلك يناسِبُ المَلِك بالكسر. وأتى بقوله «مِنَ الخَالِدِينَ» ولم يقل «أو تَكُونَا خَالِدَيْن» مبالغةٌ في ذلك؛ لأنَّ الوصف بالخُلُودِ أهمُّ من المَلْكية أو المُلْك، فإنَّ قولك:«فُلانٌ من الصَّالحينَ» بلغُ من قولك صالحٌ، وعليه {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12]
فصل في بيان قوله ما نهاكما ربكما
هذا الكلام يمكن أنْ يَكُونَ ذكرَهُ إبْلِيسُ مُخَاطِباً لآدم وحواء، ويمكن أنْ يكُون بوسْوسَةٍ أوْقَعَها في قلبيهما، والأمران مَرْويَّانِ إلَاّ أنَّ الأغْلَبَ أنَّهُ كان على سبيل المُخَاطَبَةِ بدليل قوله تعالى:{وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] .
والمعنى: أنَّ إبليس قال لهما هذا الكلام، وأراد به إنْ أكلتما تكونا بمنزلة الملائِكَةِ، أو تكُونَا من الخالدينَ إنْ أكلتما، فرغبهما بأن أوْهَمَهُمَا أنَّ من أكَلَهَا صار كذلك، وأنَّهُ تعالى نَهَاكثمَا عنها لكي لا يكونا بِمَنْزِلَةِ الملائِكَةِ، ولا يخْلُدَا.
وفي الآية سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأولُ: كيف أطْمَعَ إبْلِيسُ آدمَ أن يكون ملكاً عند الأكْلِ من الشَّجَرَةِ مع أنَّهُ شَاهَدَ الملائِكة متواضعين سَاجِدينَ له معترفين بفضله؟ .
والجوابُ من وجوه:
أحدها: انَّ هذا المعنى أحد ما يَدُلُّ على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الرض، أمّا ملائكةُ السَّموات وسكانُ العَرْشِ والكرسيِّ، والملائكةُ المقرَّبون فما سجدوا لآدم ألْبَتَّةَ. ولو كَانُوا قد سَجَدُوا له لكان هذا التَّطْميع فَاسِداً مختلاًّ.
وثانيها: نَقَلَ الواحديُّ عن بعضهم أنَّهُ قال: إنَّ آدمَ علم أنَّ الملائكة لا يمُوتُونَ إلى يوم القيامةِ، ولم يعلم ذلك لنفسه فعرض عليه إبليس أنْ يَصِيرَ مِثْلَ الملكِ في البَقَاءِ. وضعَّف هذا بأنَّهُ لو كان المَطْلُوبُ من الملائِكَةِ هو الخُلُودُ فحينئذٍ لا يبقى فرق بين قوله {إِلَاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} وبين قوله:{إلَاّ أَنْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} .
وثالثها: قال الواحدي: كان ابن عباس يقر «مَلِكَين» بكسر اللام ويقول: ما طمعا في أن يكونا مَلَكَيْن لكنهما استشرفا إلى أن يكونا مَلِكَيْن، وإنَّما أتَاهُمَا المَلْعُونُ من وجهة الملك، ويدلُّ على هذا قوله:{هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لَاّ يبلى} [طه: 120]، وضعف هذا الجواب من وجهين:
الأول: هب أنَّهُ حصل الجوابُ على هذه القراءة فهل يقول ابنُ عبَّاسٍ أنَّ تلك القراءة المشهورة باطلة؟ أو لا يقولُ ذلك؟ والأولُ باطل، لأنَّ تلك القراءة قراءة متواترة فكيف يُمْكِنُ الطَّعْنُ فيها؟ وأمَّا الثَّاني فعلى هذا التَّقدير الإشكال باقٍ؛ لأنَّ على تلك القراءة يكون بالتَّطْميع قد وقع في أنْ يَصِيرَ بواسطة لذلك الأكل من جملة الملائكة. وحينئذ يَعُودُ السُّؤالُ.
الوجه الثاني: أنَّهُ تعالى جعله مسجود الملائكةِ، وأذِن له في أن يسكن الجنَّة، وأنْ يأكل منها رغداً حيث شاء وأراد، [ولا مزيد] في الملك على هذه الدَّرَجَةِ.
السؤال الثاني: هل تدلُّ هذه الآية على أنَّ درجة الملائكة أكمل وأفضل من درجة النُبُوَّةِ؟
الجوابُ: أنَّا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كانت قَبْلَ النُّبُوَّةِ لم يدلَّ على ذلك؛ لأنَّ آدم عليه الصلاة والسلام حين طَلَبَ الوصُولَ إلى درجةِ الملائِكَةِ ما كان من الأنبياء، وإنْ كانت هذه الواقِعَةُ قد وقعت في زَمَن النُّبُوَّةِ فلعلَّ آدم عليه الصلاة والسلام رغبَ في أنْ يصيرَ من الملائِكَةِ في القدرة والقُوَّة أو في خلقة الذات بأنْ يَصِيرَ جَوَْهَراً نُورَانياً، وفي أن يصيرَ من سُكَّانِ العرْشِ، وعلى هذا فلا دلالةَ في الآيةِ على ذلك.
السُّؤال الثالثُ: نقل أنّ عمرو بْن عُبَيْدٍ قال للحسنِ في قوله: {إِلَاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} ، وفي قوله «وقَاسَمَهُمَا» قال عمرو: قلت للحسن؛ فهل صَدقَاهُ في ذلك؟ فقال الحسن: مَعَاذَ الل، لو صَدَّقَاهُ لكانا من الكَافرينَ. ووجه السُّؤال: أنه كيف يلزم هذا التَّكْفيير بتقدير أن يُصَدِّقا إبليس في ذلك القول؟
والجوابُ: ذكرُوا في تَقْدير ذلك التَّكفِير أنَّهُ عليه الصلاة والسلام لو صدق إبليس في الخلُودِ، لاكن ذلك يوجب إنكار البعث والقيامة وأنه كفرٌ.
ولقائل أن يقُول: لا نُسَلِّمُ أنَّه يلزم من ذلك التَّصديق حصولُ الكفْرِ، وبيانه من وجهين.
الأول: أن لفظ الخُلُودِ مَحْمُولٌ على طُولِ المُكْثِ لا على الدَّوامِ، فانْدَفَعَ ما ذكره.
والثاني: هَبْ أنَّ الخُلُودَ مُفَسّر بالدَّوَامِ إلَاّ أنَّا لا نسلم أنَّ اعْتِقَادَ الدَّوام يُوجِبُ الكُفْرَ، وتقْرِيرُهُ: أنَّ العِلْمَ بأنه تعالى هل يُمِيتُ هذا المكلف، أو لا يُمِيتُهُ؟ علم لا يحصل لا من دليل السَّمْعِ، فلعله تعالى ما بيَّنَ في وقت آدم عليه الصلاة والسلام أنَّهُ يُمِيتُ الخلق، ولمَّا لم يُوجَدِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ بأن آدم عليه الصلاة والسلام ُ - لا يجوز له دوام البقاء فلهذا السَّببِ رغِبَ فيه، وعلى هذا التَّقْديرِ فالسُّؤالُ غير لازم.
السُّؤالُ الرابعُ: قد ثبت بما سبق أنَّ آدم وحوَّاءَ عليهما السلام لو صدقا إبليس فيما قال لم يلزم تكفِرُهُمَا فهل يقولون: إنَّهُما صَدَّقَاهُ فيه قطعاً؟ أو لم يحصل القَطْعُ، فهل يقولُون: أنَّهُمَا ظَنَّا أن الأمر كما قال، أو ينكرون هذا الظَّنَّ أيضاً.
فالجواب: أنَّ المحقِّقين أنْكَرُوا حصولل هذا التَّصديق قطعاً وظناً كما نجد أنفسنا عند الشَّهْوةِ، نقدُمُ على الفعلِ إذا زينَ لنا الغير ما نشتهيه، وإنْ لم نعتقد الأمر كما قال.
السُّؤالُ الخامِسُ: قوله: {إِلَاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} هذا التَّرغيبُ، والتَّطْمِيعُ وقع بمَجْمُوع الأمرين، أو بأحدهما؟ والجوابُ: قال بعضهم: التَّرْغيبُ في مجموع الأمرين؛ لأنَّهُ أدخل في التَّرْغِيبِ.
وقيل: بل هُوَ عَلَى ظاهره على طريق التَّخْييرِ.
قوله: «وقَاسَمَهُما» المفاعلةُ هنا يحتمل أن تكُونَ على بابها فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «كأنَّهُ قال لهما: أقْسِمُ لكُمَا أنِّي لمن النَّاصِحِينَ، وقالا له: أتقسُم باللَّهِ أنت إنَّكَ لمن الناصحين لنا فجعل ذلك مُقَاسَمَةً بَيْنَهُم، أو أقسم لهما بالنَّصِيحَةِ، وأقسما له بقبُولِهَا، أو أخرج قسم إبليس على وزن المُفَاعَلَةِ؛ لأنَّهُ اجْتَهَد فيها اجتهاد المُقَاسِمِ» .
وقال ابْنُ عطيَّة: «وقَاسَمَهُمَا» أي: حَلَفَ لهما، وهي مفاعلة إذْ قَبُولُ المحلوف له، وإقباله على معنى اليمينِ كالقسم وتقريره: وإنْ كان بَادِىء الرَّأي يعطي أنَّها من واحد ويحتمل أنَّ «فاعل» بمعنى «أفعل» كبَاعَدْته، وأبْعَدْتُهُ، وذلك أنَّ قوله الحَلْف إنَّما كان من إبليس دونهما، وعليه قول خالدِ بْن زُهير:[الطويل]
2431 -
وَقَاسَمَها باللَّهِ جَهْداً لأنْتُمُ
…
ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُها
قال قتادةُ: حلف لهما بالله حتى خَدَعَهُمَا، وقد يُخْدَعُ المُؤمِنُ بالله.
{إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} أي: قال إبليس: إنِّي حلفت قبلكما، وأنا أعلم أحْوالاً كثيرةً من المصالحِ والمفاسد، لا تَعْرِفَانها، فامْتَثِلا قولي أرشِدكُمَا، وإبليسُ أوَّلُ من حَلَفَ باللَّهِ كاذباً، فلمَّا حلف ظن آدم أنَّ أحداً لا يحلف بالله إلَاّ صَادِقاً فاغبر به.
قوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} يجوز في «لَكُمَا» أن تتعلق بما بعده على أن «أل» معرفة لا موصولة، وهذا مذهبُ أبي عُثْمان، أو على أنَّها موصولةٌ، ولكن تُسُومح في الظَّرْفِ وعدليه ما لا يتسامح في غيرهما أتِّسَاعاً فيهما لدورانهما في الكلام، وهو رَأيُ بعض البَصْريِّين، وأنْشَدَ:[الرجز]
2432 -
رَبَّيْتُهُ حَتَّى إذا تَمَعْدَدَا
…
كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أُجْلَدَا
ف «بِالعَصَا» متعلِّقٌ بأْجلَدا وهو صلة أنْ، أو أن ذلك جائزٌ مطلقاً، ولو في المفعول به الصَّريح، وهو رأي الكوفيين وأنشدوا:[الكامل]
2433 -
…
...
…
...
…
... ..... وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي
أي: أن تسألي خابراً، أو أنُّهُ متعلِّقٌ بمحذوف على البيانِ أي: أعني لَكُمَا كقولهم: سُقْياً لك، ورَعْياً، أو تعلَّقَ بمحذوف مدلول عليه بصِلَةِ أل أي: إنِّي نَاصِحٌ لَكُمَا، ومثل هذه الآية الكريمة:{إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الشعراء: 168]، {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 68] .
وجعل ابن مالك ذلك مطَّرداً في مَسْألةِ أل الموصولة إذا كانت مجرورة ب «من» .
ونَصَحَ يتعدَّى لواحدٍ تارَةً بنفسه، وتارةً بحرف الجرِّ، ومثله شَكَرَ، وقد تقدَّمَ، وكال، ووزن. وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر والتَّعدِّي بنفسه، أو كل منهما أصْلٌ؟ الرَّاجِحُ الثَّالِثُ.
وزعم بعضُهم أنَّ المفعول في هذه الأفْعَالِ محذوفٌ، وأنَّ المجرور باللَاّم هي الثَّاني، فإذا قُلْتَ: نَصَحْتُ لِزَيْدٍ فالتقديرُ: نصحتُ لزيدٍ الرَّأيَ، وكذلك شضكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه وَوَزَنْتُ له متاعه فهذا مَذْهَبٌ رابع.
وقال الفرَّاءُ: «العربُ لا تَكَادُ تقول: نَصَحْتُكَ، إنَّمَا يَقُولُونَ نَصَحْتُ لك وأنْصَحُ لك» ، وقد يجوز نصحتك. قال النابغة:[الطويل]
2434 -
نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا
…
رَسُولِي وَلَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ رَسَائِلِي
وهذا يقوِّي أنَّ اللَاّم أصلٌ.
والنُّصْحُ: بَذْلُ الجُهْدِ في طلب الخَيْرِ خاصَّةً، وضدُّهُ الغشُّ.
وأمَّا «نَصَحْتُ لِزَيْدٍ ثوبه» فمتعدٍّ لاثنين، لأحدهما بنفسه وللثاني بحرف الجرِّ بأتِّفاقٍ، وكأنَّ النُّصْحَ الذي هو بَذْلُ الجهد في الخير مأخُوذٌ من أحد معنيين: أمَّا من نَصَحَ أي أخْلَصَ ومنه: نَاصِحُ العسل أي خَالِصُهُ، فمعنى نَصَحَهُ: أخلص له الوُدَّ، وإمَّا من نَصَحْتُ الجِلْدَ والثَّوْبَ إذا أحكمت خياطتهما، ومنه النَّاسحُ للخيَّاطِ والنَّصَاحُ للخيط، فمعنى نَصَحه أي: أحكم رأيه منه.
ويقال: نَصَحه نُصُوحاً ونَصَاحَةً قال تعالى: {توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم: 8] بضمِّ النُّونِ في قراءة أبِي بَكْرٍ، وقال الشَّاعر في «نَصَاحَةٍ» :[الطويل]
2435 -
أحْبِبْتُ حُبّاً خَالَطَتْهُ نَصَاحَةٌ.....
…
...
…
...
…
...
…
. .
وذلك كذُهُوبٍ، وذهابٍ.
«الباء» للحال أي: مصاحبين للغرور، أو مصاحباً للغرور فهي حال: إمَّا من الفاعل، أو من المفعول ويجوز أن تكون الباءُ سببيَّةً أي: دَلَاّهُمَا بسببِ أنْ غَرَّهُمَا.
والغُرُورُ: مصدرٌ حُذف فَاعِلُهُ ومفعوله، والتقديرُ: بِغُروره إيَّاهُمَا وقوله: «فَدَلَاّهَمَا» يحتملُ أن يكون من التَدْلِيَةِ من معنى دَلَا دَلْوَه في البِئْرِ، والمعنى أطمعهما.
قال أبُو منصور الزْهَرِيُّ: لهذه الكلمة أصلان:
أحدهما: أن يكون أصْلُهُ أن الرَّجُلَ العَطْشَانَ يُدْلِي رِجْلَهُ في البئر ليأخذ الماء، فلا يجدُ فيها ماء فوضعت التَّدْلية موضع الطَّمعِ فيما لا فائدة فيه، يقالُ: دَلَاّهُ: إذا أطْمَعَهُ.
قال أبُو جنْدَبٍ: [الوافر]
2436 -
أحُصُّ فَلَا أُجِيرُ ومَنْ أُجِرْهُ
…
فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بالغُرُورِ
وأن تكون من الدَّالِّ، والدَّالَّةَ، وهي الجُرْأة [أي] : فَجَرَّأهما قال: [الوافر]
2437 -
أظُنُّ الحِلْمُ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي
…
وقدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الحَلِيمُ
وعلى الثاني [يكون] الأصل دَلَّلَهُمَا، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال فأبدلت الثَّالث حرف لين كقولهم: تَظنَّيْتُ في تظَّننْت، وقَصَّيْتُ أظْفَاري في قَصَصْتُ. وقال:[الرجز]
2438 -
تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ
…
فصل في معنى «فدلاهما بغرور»
قال ابنُ عبَّاس «فَدلَاّهُمَا بِغُرُورٍ» أي غرهما باليمين وكان آدمُ يظنُّ أنَّ أحداً لا يحلف كَاذِباً باللَّه. وعن ابن عمر أنَّهُ كان إذا رَأى من عبيده طاعةً وحسن صلاة أعْتَقَهُ فكان عبيدُهُ يفعلون ذلك طلباً لِلْعتْقِ فقيل له إنَّهُم يخدعُونَكَ فقال: من خَدَعَنَا باللَّهِ؛ انخدعنا له.
قيل معناه ما زال يخدعه، ويكلمه بزخرف من القول باطل.
وقيل حطَّهُمَا من مَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ إلى حالةِ المَعْصية، ولا يكونُ الدلوى إلَاّ من علوٍّ إلى أسْفَلٍ.
قوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة} «الذَّوْقُ» وجود الطَّعْمِ بالفَم، ويعبر به عن الأكل وقيل: الذَّوْقُ مَسُّ الشَّيْءِ باللِّسانِ، أو بالفَمِ يُقَالُ فيه: ذاق يَذُوقُ ذُوْقاً مثل صَامَ، يَصُومُ صَوْماً، ونَامَ يَنَامُ نَوْماً.
وهذه الآية تدل على أنهما تناولا البُرَّ قَصْداً إلى معرفة طعمه، ولولا أنَّهُ تعالى ذكر في آية أخرى أنَّهُمَا أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدُلُّ على الأكل؛ لأنَّ الذَّائِقَ قد يكونُ ذَائِقاً من دون أكل.
قوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} أي ظهرت عَوْرَتُهُمَا وزال اللِّبَاسُ عنهما.
روي عن ابن عباس أنَّهُ قال: قبل أن ازدردا أخذتها العقوبة وظهرت لهما عورتهما، وتهافت لباسهما حتى أبْصَر كُلُّ واحدٍ منهما ما وُوْرِيَ عنه من عَوْرَةِ صَاحبهِ فكانَا لا يريان ذلك.
قوله «وطَفِقَا» طَفِقَ من أفعال الشُّرُوعِ كأخَذَ وجعل، وأنْشَأ وعلَّق وهبَّ وانبرى،
فهذه تَدُلُّ على التَّلَبُّسِ بأوَّلِ الفِعْلِ، وحكمها حكم أفْعَالِ المُقاربَةِ من كون خبرها لا يكون غلَاّ مُضَارِعاً، ولا يجوز أن يقترن ب «أن» لمنافاتها لها؛ لأنها للشُّروع وهو حال و «أنْ» للاستقبال، وقد يقعُ الخبرُ جملة اسمية كقوله:[الوافر]
2439 -
وَقَدْ جَعَلَتْ قَلُوصُ بَنِي سُهَيْلٍ
…
مِنَ الأكْوَارِ مَرْتَعُهَا قَرِيبُ
وشرطيَّة ك «إذا» كقوله عمر: «فَجَعلَ الرَّجُلُ إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً» .
ويقال طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها، وطَبِقَ بالباء الموحدة أيضاً، والألف اسمها، و «يَخْصَفَان» خَبَرُهَا.
وقرأ أبُوا السمالِ: «وطَفَقَا» بفتح الفاء. وقرأ الزُّهْرِيُّ: «يُخْصِفَانِ» بضم حرف المضارعة من أخْصَفَ وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: ان يكون أفْعَلَ بمعنى فَعَلَ.
والثاني: أن تكون الهَمْزَةُ للتَّعْديَة، والمَفْعُولُ على هذا مَحْذُوفُ، أي: يُخْصِفَانِ أنفسهما، أي: يَجْعلانِ أنفسَهُمَا خاصِفَيْنِ.
وقرأ الحسنُ، والأعرجُ ومُجاهِدٌ وابْنُ وثَّابٍ «يَخِصِّفانِ» بفتح الياء وكسر الخاء، والصَّاد مشدودةٌ، والأصْلُ يَخْصِفَانِ، فأدغمت التَّاءُ في الصَّادِ، ثم اتْبعت الخَاءُ للصَّادِ في حركتها، وسيأتي نظيرُ هذه القراءة في «يُونس» و «يس» نحو {يهدي} [يونس: 35] و {يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] .
وروى مَحْبُوبٌ عن الحسنِ كذلك إلَاّ أنَّهُ فتح الخاء، فلم يُتْبِعْها للصَّادِ وهي قراءةُ يعقوب وابْنِ بُرَيْدَةَ.
وقرأ عبد الله «يُخُصِّفان» بضمِّ الياءِ والخَاءِ وكسر الصَّادِ مشدودة وهي من «خَصِّفَ» بالتَّشديد، إلَاّ أنَّهُ أتبع الخاء للياء قبلها في الحركةِ، وهي قراءة عَسِرةُ النُّطْقِ.
ويَدُلُّ عل أنَّ أصْلها مِنْ خَصَّفَ بالتَّشديدِ قِراءةُ بعضهم «يُخَصِّفان» كذلك، إلَاّ أنَّهُ بفتح الخاء على أصلها.
و «الخصفُ» : الخَرْزُ في النِّعالِ، وهو وَع طريقة على أخرى وخرْزهما، والمِخْصَفُ: ما يُخْصَفُ به، وهو الإشفَى.
قال رُؤبَةُ: [الكامل]
2440 -
…
...
…
...
…
...
…
... أنْفِهَا كالمِخْصَفِ
والخَصْفَةُ أيضاً: الحُلَّةُ للتَّمْر، والخَصَفُ: الثِّيابُ الغَلِيظَةُ، وخَصَفْتُ الخَصْفَةَ: نَسَجْتُهَا، والأخْصَف: الخَصِيفُ طعام يبرق، وأصْلُهُ أن يُوضَعَ لَبَنٌ ونحوه في الخَصْفَةِ فَيتلوَّنُ بلونها.
وقال العبَّاسُ يمدحُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم َ: [المنسرح]
2441 -
…
طِبْتَ فِي الظِّلالِ وَفِي
…
مُسْتَودَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ
يشير إلى الجَّنَّةِ أي حَيْثُ يخرز، ويطابق بعضها فوق بعض.
فصل
قال المُفَسِّرُون: جعلا يَخْصِفَانِ ويرقعان ويلْزِقَانِ ويصلانِ عليهما من ورق الجنَّةِ، وهو ورق التِّين حتى صار كهيئة الثَّوْبِ.
قال الزَّجَّاجُ: يجعلان ورقةً على وقرةٍ لِيَسْتُر سَوْءَاتِهِمَا.
وروى أبَيُّ بنُ كعبٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «كان آدَمُ طوالاً كأنَّهُ نَخْلَةٌ سحوق كثيرة شَعْرِ الرَّأسِ، فلما وقع بالخطيئة بَدَتْ له سوأته، وكان لا يراها فانْطَلَقَ هَارِباً في الجنَّةِ،
فعرضت له شجرةٌ من شجر الجنَّةِ فحبسته بشَعْرِهِ فقال لها أرسِلِيني؛ قالت: لَسْتُ بِمُرْسِلَتكَ، فَنَادَاهُ ربُّهُ: يا آدمُ أين تَفِرُّ قال: لا يَا رَب، ولكني استحييتك»
وفي الآية دليل على أنَّ كَشْفَ العَوْرَةِ قبيحٌ من لدن آدم، ألا تَرَى أنَّهُُما كيف بادرا إلى السَّتْرِ، لما تقرَّر في عقلهما من قُبْحِ كَشْفِ العورة.
قوله: «عليهما» قال أبُو حيَّان: الأَوْلى أن يعود الضَّمِيرُ في «عليهما» على عَوْرَتَيْهِمَا، كَأنَّهُ قيل: يَخْصِفَانِ على سَوءأتيهما، وعاد بضمير الاثنين؛ لأنَّ الجمع يُرَادُ بن اثنان.
ولا يَجُوزُ أن يعود الضَّميرُ على آدَمَ وحوَّاءَ؛ لأنَّهُ تَقرَّرَ في علم العربيَّةِ أنَّهُ لا يتعدَّى من فعل الظَّاهِر والمُضْمَرِ المتَّصل إلى الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب لفظاً أو مَحَلاًّ في غير باب «ظَنّ» ، و «قَعَدَ» و «عَدمَ» ، و «وَجَد» لا يجُوزُ زيد ضربه، ولا ضَرَبَهُ زيد، ولا زَيْدٌ مَرَّ به، ولا مَرَّ به زيدٌ، فلو جعلنا الضَّمِيرَس في «عَلَيْهِمَا» عائداً على آدم وحوَّاءَ لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي يَخْصِفُ إلى الضَّميرِ المنصوب مَحَلاًّ، وقد رفع الضَّمير المتَّصِل، وهو الألف في «يَخْصِفَانِ» ، فإن أخِذَ ذلك على حَذْفِ مُضافٍ مراد؛ جَازَ ذلك، تقديره: يَخْصِفانِ على بَدَنَيْهِمَا.
قال شهابُ الدِّين: ومثل ذلك فيما ذكر {وهزى إِلَيْكِ} [مريم: 25] . {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] .
وقول الشاعر: [المتقارب]
2442 -
هَوِّنُ عليْكَ فإنَّ الأمُورَ
…
بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا
وقوله: [الطويل]
2443 -
دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَرَاتِهِ
…
ولكِنَ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ
قوله: «مِنْ وَرَقِ» يحتملُ وَجْهَيْنِ:
أن تكون «مِن» لابتداء الغايةِ وأن تكون للتَّبعيضِ.؟
و «نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا» لم يصرِّحْ هنا باسم المنادى للعلم به.
وقوله: «أَلَمْ أنْهَكُمَا» يجوزُ أن تكون هذه الجُمْلَةُ التقديريَّةُ مفسِّدة للنداء لا محلّ لها
ويحتمل أن يكُونَ ثَمَّ قول مَحْذُوفٌ، هي مَعْمُولَةٌ له أي: فقال: لم أنْهَكُمَا.
وقال بعضَهُم: هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بقولٍ مُقدَّرٍ ذلك القَوْلُ حال تقديره: وناداهما قَائِلاً ذلك. و «لَكُمَا» متعلِّقٌ ب «عَدُوّ» لما فيه من معنى الفِعْل، ويجوز أن تكون متعلِّقة بمَحْذُوفٍ على أنها حالٌ من «عَدٌوِّ» ؛ لأنَّهَا تأخّرَتْ لجاز أن تكون وصفاً.
فصل في قوله «ألم أنهكما»
معنى قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} يعني: عن الأكْلِ منها وأقل لَكُمَا: إنَّ الشَّيْطانَ لكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ.
قال ابن عبَّاس: بيَّن العداوة حَيْثٌ أبي السُّجُود وقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] .
قوله: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} : ضررناها بالمِعْصِيَةِ، وتقدَّمَ تفسِيرُهَا في سُورةِ البقَرةِ، وأنَّها تَدُلُّ على صدور الذَّنْبِ منه عليه الصلاة والسلام، إلَاّ أنَّا نقُولُ: هذا الذَّنْبُ إنَّمَا صَدَرَ عنه قَبْلَ النُّبُوَّةِ.
وفي قوله: {قَالَا رَّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسنَا} فائدةٌ: حَذْف حرف النداء هنا تعظيم المُنَادَى، وتَنْزِيهُهُ.
قال مَكِّي: كَثُر نِدَاءُ الرَّبِّ بحذف «يَا» من القرآن، وعلّةُ ذلك أن في حذف «يا» من نداء الرَّب معنى التَّعْظِيم والتنزيه؛ وذلك أنَّ النداءَ فيه طَرَف من معنى الأمر؛ لأنَّكَ إذا قُلْتَ: يا يزيدُ فمعناه: تعالا يا زَيْدُ أدعوك يا زَيْدُ، فحُذِفَتْ «يا» من نداء الرَّبِّ ليزول معنى الأمر يونقص، لأنَّ «يا» تُؤكِّده، وتُظهرُ معناهُ، فكان في حذف «يا» الإجلال، والتعظيم، والتنزيه.
قوله: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} هذا شرط حُذِفَ جوابه لدلالة جواب القسم المقدَّر عليه، فإن قيل: حرف الشَّرْطِ لام التَّوْطِئَةِ للقسم مقدرة كقوله: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] ويَدُلُّ على ذلك كثرةُ ورُوُدِ لامِ التَّوْطِئَةِ قبل أداة الشَّرطِ في كلامهم. وتقدَّم إعرابُ ما بعد ذلك في البقرة.
وهذا خطابٌ يجبُ أن يتناول الثلاثة الذين تقدَّمَ ذِكرُهُم وهم: آدمُ، وحوَّاءُ، وإبليسُ، فالعداوة ثَابِتَةٌ بين الإنس والجنِّ، لا تزول ألْبَتَّةَ.