المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

به، إذْ يصيرُ المعنى: أنَّهُم نُهُوا عن الاتِّباعِ في حال - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٩

[ابن عادل]

الفصل: به، إذْ يصيرُ المعنى: أنَّهُم نُهُوا عن الاتِّباعِ في حال

به، إذْ يصيرُ المعنى: أنَّهُم نُهُوا عن الاتِّباعِ في حال قلَّة تذكرهم، وليس ذلك بمُرَادٍ.

وقرأ ابن عامر:» قَلِيلاً ما تَذكرُونَ «باليَاءِ تَارةً والتَّاءِ أخرى، وقرأ حَمْزَةُ والكِسَائِي وحفص عن عاصم بتاء واحدة وتخفيف الذال، والباقون بتاء وتشديد الذَّالِ.

قال الواحِديُّ:» تذكَّرُون «أصله» تتذَكَّرُونَ «فأدغمت تاء تفعل في الذَّال؛ لأنَّ التَّاء مهموسة والذَّال مجهورة، والمجهور أزيد صوتاً من المَهْمُوسِ، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد، و» مَا «موصولة بالفِعْلِ، وهي معه بِمَنْزلَةِ المصْدَرِ فالمعنى: قَلِيلاً تَذَكُّرُكُمْ.

وأمَّا قراءةُ ابْنِ عامر» يَتَذكَّرُونَ «بياء وتاء فوجهها أنَّ هذا خطابٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم َ أي: قَلِيلاً ما يتذكرون هؤلاء الَّذِينَ ذُكِّرُوا بها الخِطَابِ.

وأمَّا قراءةُ الأخَوَيْنِ، وحفص خفيفة الذَّالِ شدِيدَة الكَافِ، فقد حَذَفُوا التي أدْغَمَهَا الأوَّلُون، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في الأنعام.

ص: 13

لمَا أُمر الرَّسولُ بالإنذار والتَّبليغ وأمر القَوْمُ بالقبُول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد.

وفي «كَمْ» وجهان:

أحدهما: أنَّهَا في موضعِ رفع بالابتداء، والخبرُ الجُمْلَة بعدها، و «مِنْ قَرْيَةٍ» تمييزٌ، والضمير في «أهْلَكْنَاهَا» عائد على معنى «كَمْ» ، وهي هنا خبرية للتَّكْثيرِ، والتَّقدير: وكثير من القرى أهْلَكْنَاهَا.

قال الزَّجَّاجُ: و «كَمْ» في موضع رَفْع بالابتداءِ أحسن من أن تكون في موضع نَصْبٍ؛ لأن قولك: «زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ» أجود من قولك: «زَيْداً ضربتُهُ» بالنَّصْب، والنَّصْبُ جيِّدٌ عربيٌّ أيضاً لقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:‌

‌ 4

9] ، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنه جعل «أهْلَكْنَاهَا» صفة ل «قرية» ، والخبر قوله:«فَجَاءَها بَأسُنَا» قال: وهو سَهْوٌ؛ لأن «الفَاءَ» تمنع من ذلك.

قال شهابُ الدِّين: ولو ادَّعى مدَّعٍ زيادَتَها على مذهب الأخفش لم تُقبل دَعْوَاهُ؛ لأن الأخفش إنَّمَا يَزِيدُهَا عند الاحتياج إلى زيادتها.

ص: 13

الثاني: أنَّهَا في موضع نَصْبٍ على الاشتغال بإضمار فعل يفسِّره ما بعده، ويقدَّرُ الفِعْلُ متأخَّراً عن «كم» ؛ لأن لها صدر الكلام، والتَّقديرُ: وكم من قريةٍ أهلكناها [أهلكناها]، وإنَّمَا كان لها صدر الكلام لوَجْهَيْنِ:

أحدهما: مضارعتها ل «كم» الاستفهامية.

والثاني: أنَّهَا نقيضة «رُبَّ» ح لأنها للتكثير و «رُبَّ» للتَّقْلِيلِ فحُمل النقيضُ على نَقِيضهِ كما يحملون النظير على نظيره، ولا بد من حَذْفِ مُضافٍ في الكلام لقوله تعالى:{أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} فاضطرَرْنَا إلى تَقْدير محذوفٍ؛ لأن البَأسَ لا يليق بالأهْلِ، ولقوله:{أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} فعاد الضمير إلى أهل القرية، وأيضاً فلأن التَّحْذِيرَ لا يقع إلَاّ للمُكَلَّفينَ، وأيضاً والقِائِلَةُ لا تَلِيقُ إلَاّ بالأهْلِ.

ثم منهم مَنْ قدَّره قبل قرية أي: كم من أهْلِ قَريةٍ، ومنهم مَنْ قدَّرَهُ قبل «ها» في أهلكنَاهَا أي: أهْلَكْنَا أهلها، وهذا ليس بِشَيءٍ؛ لأن التَّقاديرَ إنَّمَا تكُونُ لأجل الحَاجَةِ، والحاجةُ لا تَدْعُو إلى تَقْديرِ هذا المُضَافِ في هَذَيْنِ الموضِعَيْنِ المذكُوريْنِ؛ لأن غهلاكَ القرْيَة يمكنُ أن يقعَ عليها نَفْسِهَا، فإن القُرى قد تُهْلَكُ بالخَسْفِ والهَدْمِ والحريقِ والغَرَقِ ونحوه، وإنما يحتاج إلى ذلك عند قوله:«فَجَاءَهَا» لأجل عَوْدِ الضَّمير من قوله: «هُمْ قَائِلُونَ» عليه، فيقدَّرُ: وكم من قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءَ أهلها بأسنا.

قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: هل يقدَّرُ المُضَافُ الذي هو الأهل قبل القَرْيَةِ، أو قَبْلَ الضَّمير في «أهلكْنَاهَا» .

قلتُ: إنَّمَا يُقدَّرُ المُضَافُ للحاجَةِ، ولا حَاجَةَ فإن القريَةَ تَهْلَكُ، كما يَهْلَكُ أهلها وإنَّما قَدَّرْنَاهُ قبل الضمير في «فَجَاءَهَا» لقوله:{} وَظَاهِر الآية: أنَّ مجيءَ البَأسِ بعد الإهلاكِ وعقيبة؛ لأنَّ الفاءَ تعطي ذلك لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البَأسِ، وبعدَهُ يقعُ الإهلاك.

فمن النُّحَاةِ من قالك الفاء تأتي بمعنى «الوَاوِ» فلا ترتب، وجعل من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضَعِيفٌ، والجمهور أجَابُوا عن ذلك بوجهين:

أحدهما: أنَّهُ على حذف الإرادة أي: أرَدْنَا إهلاكها كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 6]، {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} [النحل: 98] ، «إذَا دَخَل أحَدُكُمُ الخَلاء فَلْيُسَمِّ [اللَّهَ] » ، وقيل: حكمنا بِهَلاكِهَا.

الثاني: أنَّ معنى «أهْلَكْنَاهَا» أي: خذلناهُم ولم نوفقهم فنشأ عن ذلك هَلَاكُهُم، فعبر بالمسَّبب عن سَبَبِهِ وهو بابٌ واسع. وثَمَّ أجوبة ضعيفة؛ منها: أنَّ الفاء هاهنا تفسيرية نحو: «تَوَضَّأ فغسل وجهه ثم يديه» فليست للتعقيب ومنها أنَّها للتَّرتيب في القَوْلِ فقط كما

ص: 14

أخبر عن قرى كثيرة أنَّها أهلكها [ثم] قال: فكان من أمرها مجيء البأس ومنها ما قاله الفرَّاءُ، وهو: أن الإهلاكَ هو مجيء البَأسِ، ومجيءُ البأسِ هو الإهلاكُ، فلما كانا مُتلازِمَيْنِ لم يبال بأيِّهما قدَّمت في الرتبة، كقولك:«شتمني فأساء» ، وأساءَ فَشَتَمَنِي، فالإساءَةُ والشَّتْمْ شيءٌ واحدٌ، فهذه ستَّةُ أقوال.

واعلم أنَّه إذا حُذِفَ مُضافٌ، وأقيم المضافُ غليه مقامَهُ جاز لك اعتباران:

أحدهما: الالتفاتُ إلى ذَلِكَ المحذوفِ.

والثاني - وهو الأكْثَرُ - عَدمُ الالتفاتِ إليه، وقد جُمع الأمرانِ هنا، فإنَّهُ لم يُراع المحذوفَ في قوله:«أهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا» وراعاهُ في قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} ، هذا إذا قدَّرْنَا الحذفَ قبل «قَرْيَةٍ» ن أمَّا إذا قَدَّرْنَا الحذف قبل ضمير «فَجَاءَهَا» فإنَّهُ لم يراعِ إلَاّ المحذوفَ فقط وهو غيرُ الأكْثَرِ.

قوله: «بَيَاتاً» فيه ثلاثةُ أوْجْهٍ:

أحدها: [أنَّهُ] منصوب على الحال وهو في الأصل مصدر، يقال: بَاتَ يَبِيتُ بيْتاً وبيتة وبَيَاتاً وبَيْتُوتَةً.

قال اللَّيْثُ: «البَيْتُوتَةُ» : «دخولُكَ في اللَّيْلِ» فقوله: «بَيَاتاً» أي: بَائِتينَ وجوَّزوا أن يكون مفعولاً لهُ، وأنْ يكونَ في حكم الظَّرْفِ.

وقال الوَاحِديُّ: قولهك «بَيَاتاً» أي: ليلاً وظاهرُ هذه العِبَارة أنْ تكون ظَرْفاً، لولا أن يُقَالَ: أراد تَفْسِير المعنى.

قال الفرَّاءُ: يقالُ: بات الرَّجُلُ يَبيتُ بَيْتاً، وربَّمَا قالوا: بَيَاتاً، وقالوا: سُمِّيَ البيتُ بَيْتاً؛ لأنَّهُ يُبَاتُ فيه.

قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُو} هذه الجملةُ في محلِّ نصب نَسَقاً على الحال، و «أو» هنا للتَّنْوِيع لا لِشَيءٍ آخر كأنَّهُ قيل: آتاهُ بأسُنَا تارةً لَيْلاً كقوم لوطٍ، وتَارَةً وَقْتَ القَيْلُولَةِ كقوم شُعَيْبٍ. وهل يحتَاجُ إلى تَقْديرِ واوِ حالٍ قَبْلَ هذه الجُمْلَةَ أم لا؟ خلافٌ بين النَّحْوِيِّينَ.

قال الزمخشريُّ: «فإن قُلْتَ: لا يُقَالُ: جاءَ زيدٌ هو فارسٌ» بغيرِ واوٍ فما بالُ قوله تعالى: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} ؟

قلتُ: قدَّر بعض النَّحويين الواو محذوفَةً، وردَّهُ الزَّجَّاج وقال: لو قلتَ: جاءني زيدٌ رَاجِلاً، أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى «واو» ؛ لأن الذِّكر قد عام على الأوَّل.

والصَّحِيحُ أنَّها إذا عُطفَتْ على حالٍ قبلها حذفت الواو استثقالاً؛ لاجتماع حرفي

ص: 15

عطف؛ لأن واو الحال [هي] واو العطف استُعِيرَتُ للوصل، فقولك:«جاء زَيدٌ راجلاً أو هو فارس» كلامٌ فصيح وارد على حدِّه، وأمَّا «جاءني زَيْدٌ هو فارس» فخبيث.

قال أبو حيَّان: أما [بعضُ النَّحويين الذي أبهمه] الزمخشريُّ فهو الفرَّاءُ، وأما قول الزَّجَّاج: كلا التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو؛ لأن الذِّكر قد عاد على الأوَّلِ ففيه إبْهَامٌ وتعيينه أنَّهُ يمتنعُ دخولها في المثالِ الأوَّلِ [ويجوز في المثال] الثاني؛ فليس انتفاءُ الاحتياج على حدِّ سواء؛ لأنه في الأوِّل لامتناع الدُّخُولِ، وفي الثاني لكثرتِهِ لا لامتناعه.

قال شهابُ الدِّين: أمَّ امتناعُهَا في المثالِ الأوَّلِ؛ فلأن النَّحْويين نَصُّوا على أنَّ الجلمة الحاليَّة إذا دَخَلَ عليها حرفُ عطفٍ امتنع دخولُ واوِ الحالِ عليها، والعلَّةُ فيه المشَابَهَةُ اللَّفظيَّةُ؛ ولأن واو الحال في الأصل عاطفةٌ، ثم قال أبُو حيَّان. وأمَّا قولُ الزمخشري فالصَّحيحُ إلى آخره، فتعليلُهُ ليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ واوَ الحال ليست بحرف عَطْفِ فيلزم من ذكرها اجتماعُ حَرْلإَي عَطْفٍ؛ لأنَّها لو كانت حرف عطفٍ للزم أن يكونَ ما قَبْلَهَا حالاً، حتى يعطف حالاً على حالٍ، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكُونَ حالاً دليل على أنَّهَا ليست واو عطْفٍ، ولا لُحظ فيها معنى واوِ عَطْفٍ تقُولُ:«جاء زيدٌ، والشمسُ طالِعَةٌ» فجاءَ زَيْدٌ ليس بحالٍ فيعطف عليها جُمْلَة حالٍ، وإنَّمَا هذه الواوُ مغايرة لواو العَطْفِ بكل حالٍ، وهي قسمٌ من أقسام الواو كما تأتي للقسم، وليستْ فيه للعَطْفِ كما إذا قلت:«واللَّه لَيَخْرُجَنَّ» .

قال شهابُ الدِّين: أبُو القَاسِم لم يدَّع في واو الحال أنَّها عاطفة، بل يدَّعِي أنَّ أصلها العَطْفَ، ويدلُّ على ذلك قوله: استُعِيرَتْ للوصول، فلو كانت عَاطِفَةً على حالِهَا لما قَالَ: اسْتَعِيرَتْ فَدَلَّ قوله ذلك على أنَّها خجرت عن العطف، واسْتُعْمِلَتْ لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امْتِنَاعِ مجامَعَتِهَا لعاطفٍ آخر.

وأمَّا تسمِيَتُهَا حرف عطف، فباعْتِبَارِ أصْلِهَا ونَظِيرُ ذلك أيضاً واو «مع» فإنَّهم نَصُّوا على أنَّ أصلها واوُ عَطْفٍ، ثمَّ استعملتْ في المعيَّةِ، فكذلك واوُ الحَالِن لامتناعِ أن يكُونَ أصْلُهَا واوَ العطف.

ثم قال أبُو حيَّان: «وأمّا قوله» فَخَبِيثٌ «فليس بِخَبِيثٍ؛ وذلك أنَّهُ بَنَاهُ على أنَّ الجلمة الحالِيَّة إذا كانت اسميَّةً، وفيها ضميرُ ذي الحَالِ فحذفُ الواوِ منها [شاذٌ] وتبع في ذلك الفرَّاء، وليس بِشَاذٍّ بل هو كثيرٌ في النَّظْمِ والنَّثْرِ.

قال شهابُ الدِّين: قد يبق أبا القاسم في تسمية هذه الواو حرف عَكْفٍ الفرَّاءُ، وأبُو بَكْرٍ بْنُ الأنْبَارِيِّ.

ص: 16

قال الفرَّاءُ: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} فيه واو مُضْمَرَةٌ، المعنى: أهلكناها فَجَاءَهَا بَأسُنَا بَيَاتاً أو هم قائلون فاستثقلوا نسقاً على أثَرِ نَسَقٍ، ولو قيل لكَانَ صواباً.

قلتُ: قد تقدَّم أنَّ الشَّيخَ نقل أنَّ الواوَ ممتنعةٌ في هذا المثال، ولم يَحكِ خِلافاً، وهذا قَوْلُ الفرَّاءِ:«ولو قيل لكان صواباً» مُصَرِّحُ بالخلاف له.

وقال أبُو بَكْرٍ: أضْمِرَتْ واوُ الحالِ لوُضُوحِ معناها كما تَقُولُ العرب: «لقيتُ عَبْدَ الله مُسْرعاً، أو هو يَرْكُضُ» فَيَحْذِفُونَ الواوَ لأمْنِهمُ اللَّبس، لأن الذِّكْرَ قد عَادَ على صاحب الحال، ومن أجل أنَّ «أو» حرف عطف والوُ كَذِلَكَ، فاسْتَثْقَلُوا جمعاً بين حرفين من حروفِ العَطْفِ، فَحَذَفُوا الثَّانِي.

قال شهابُ الدِّين: فهذا تَصْرِيحٌ من هذين الإمَامَيْنِ بما ذكره أبُوا القَاسِم، وإنما ذكرتُ نص هذين الإمَامَيْنِ؛ لأعلم اطلاعه على اقوال النَّاسِ، وأنَّهُ لا يأتي بغير مُصْطَلحِ أهْلِ العلم كما يرميه به غير مرَّةٍ.

و «قَائِلثونَ» من القَيْلأُولَةِ. يقال: قَالَ يَقِيلُ [قَيْلُولَةً} فهو قَائِلٌ ك «بائع» والقيلُولَةُ: الرَّاحَةُ والدعَةُ في الحرِّ وسط النهار، وإن لم يكن معها نَوْمٌ.

وقال اللَّيث: هي نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ.

قال الأزْهَرِيُّ: «القيلولة: الرَّاحَةُ، وإن لم يكن فيها نَوْمٌ بدليل قوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] ، والجنَّةُ لا نَوْمَ فيها» .

قال شهابُ الدِّينِ: و «ولا دليلَ فيما ذَكَرَ؛ لأن المقيل هنا خرج عن موضعه الأصْلِيِّ إلى مُجَرَّدِ الإقامة بدليل أنَّهُ لا يراد أيضاً الاستراحة في نِصْفِ النَّهَارِ في الحر فقد خَرَجَ عن موضعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرنا، والقَيْلُولَةُ مصدرٌ ومثلها: القَائِلَةُ والقيلُ والمَقِيلُ» .

فصل في المراد بالآية

معنى الآية أنهم جَاءَهُمْ بَأسُنَا، وهم غير متوقِّعين له، إمَّا ليلاً وهم نَائِمُونَ، أو نهاراً وهم قَائِلُونَ، والمُرَادُ أنَّهُم جاءهم العذابُ على حين غَفْلَةٍ منهم، من غير تقدُّم أمارة تدلُّهم على نزول ذلك العذاب مكانه، قيل لِلْكُفَّارِ: لا تغتروا بأسباب الأمْنِ والرَّاحةَ، فإنَّ عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة.

ص: 17

قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} جوَّزُوا في «دَعْواهُم» وجهين:

ص: 17

أحدهما: أن يكون اسْماً ل «كان» ، و {إِلَاّ أَن قالوا} خبرها، وفيه خدشٌ من حيث إنَّ غير الأعرف جعل اسماً والأعْرَفُ جعل خبراً، وقد تقدَّم ذلك في أوَّل الأنعام عند {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: 23] .

والثانيك أن يكون «دَعْوَاهُم» خبراً مقدماً و {إِلَاّ أَن قالوا} اسماً مؤخراً كقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَاّ أَن قالوا} [النمل: 56]{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار} [الحشر: 17]، و {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] ذكر ذلك الزَّمخشريُّ ومكيُّ بن أبِي طالبٍ، وسبقهما إلى ذلك الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ، ولكن ذلك يشكل من قاعدة أخرى ذكرها النُّحاةُ، وهو أنَّ الاسم والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابُهُمَا؛ وجَبَ تَقْدِيمُ الاسمِ، وتأخير الخبر نحو: كان موسى صاحبي، وما كان دعائي إلَاّ أن اسْتَغْفَرْتُ، قالوا: لأنهما كالمفعولِ والفاعلِ فمتى خَفِيَ الإعْرَابُ التزم كل في مَرْتَبَتِهِ، وهذه الآيَةُ مما نحن فيه فكيف يُدَّعى فيها ذَلِكَ، بل كيف يَخْتَارُهُ الزَّجَّاجُ؟ وقد رأيتُ كلام الزَّجَّاجِ هنا فيمكن أن يُؤخَذَ منه جَوابٌ عن هذا المكانِ، وذلك أنه قال:«إلَاّ أنَّ الاختيار إذا كانت» الدَّعْوَى «في موضع رفع أن يقول: فما كانت دَعْوَاهُم، فَلَمَّا قال:» كَانَ دَعْوَاهُمْ «دلَّ على أن» الدَّعْوى «في موضع نصب، غير أنه يجوز تَذْكِير الدعوى وإن كانت رفعاً، فمن هنا يقال: تذكير الفعل فيه قرينة مرجَّحةٌ لإسنادِ الفِعْلِ إلى» أنْ قَالُوا «، ولو كان مسنداً للدَّعْوَى لكان الأرجح» كَانَتْ «كما قال، وهو قَرِيبٌ من قولك:» ضَرَبَتْ مُوسَى سَلْمَى «فقدمت المفعول بقرينةِ تأنِيثِ الفِعْلِ، وأيضاً فإنَّ ثمَّ قَرينَةً أخرى، وهي كَوْنُ الأعْرَفِ أحَقُّ أن يكون اسماً من غير الأعرف» .

والدَّعْوَى تكون بمعنى الدُّعَاءِ، وبمعنى الادِّعَاءِ، والمقْصُودُ بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً، ويحتمل أيضاً أنْ تكونَ بمعنى الاعتراف، فمن مَجِيئها بمعنى الدُّعَاءِ ما حَكَاهُ الخَلِيلُ:«اللَّهُمَّ أشْركْنا فِي صالح دعوى المُسلمين» يريد في صالح دُعَائِهِم؛ وأنشدوا: [الطويل]

2402 -

وإنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ اشْتَفِي

بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِهَا فَتَهُونُ

ومنه قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15] وقال الزَّمخشريُّ: [ويجوز] : فما كان استغاثتهم لا قولهم هذا؛ لأنه لا يستغاثُ من اللَّهِ تعالى بغيره، من قولهم: دعواهم يا لكعب.

ص: 18

وقال ابنُ عطيَّة: وتحتملُ الآيةُ أن يكون المعنى: فما آلت دَعَاويهم التي كانت في حال كُفْرِهِمْ إلا إلى الاعتراف؛ كقول الشاعر: [الطويل]

2403 -

وَقدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فَمَا كَانَ نَصْرُهَا

قَتَيْبَةَ إلَاّ عَذَّها بالأبَاهِمِ

و «إذ» منصوب ب «دعواهم» .

وقوله: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} «كُنَّا» وخبرها في محل رفع خبر ل «إنَّ» ، وَ «إنّ» وما في حيزها في محل نَصْبٍ محكياً ب «قَالُوا» ، و «قَالثوا» وما في حيزه لا محل له لوقوعه صلةً ل «إنَّ» ، و «أنّ» وما في حيزها في محلِّ رفع، أو نصب على حسب ما تقدَّم من كونها اسماً، أو خبراً.

ومعنى الآية: أنَّهُم لم يَقْدِرُوا على ردِّ العذاب، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالخيانَةِ حين لا ينفع الاعتراف.

ص: 19

القائمُ مقامَ الفاعِلِ الجار والمجرور وفي كيفيَّة النظم وجهان:

الأول: أنه تعالى لمَّا أمر الرَّسول أولاً بالتبليغ ثم أمر الأمة بالقَبُولِ، والمتابعة، وذكر التَّهْديد على ترك القبول والمتابعة، بذكر نُزُولِ العذابِ في الدُّنْيَا - أتبعه بنوع آخر من التَّهْديدِ وهو أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة.

الثاني: أنه تعالى لما قال: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلَاّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 5] أتبعه أنه لا يقتصر على الاعتراف منهم يوم القيامة، بل يَنْضَافُ إليه أنَّهُ تعالى يسأل الكُلَّ عن كيفيَّةِ أعمالهم، وبين أن هذا السؤال لا يختصُّ بأهل العقاب، بل هو عامٌّ بأهل العقابِ والثَّوابِ، ونظيره قوله تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] .

فإن قيل: المقصود من السُّؤالِ أن يخبر المسئول عن كيفية أعمالهم، وقد أخبر عنهم أنهم يقرون بأنهم كانوا ظَالمينَ فما فَائِدَةُ السُّؤال بعده؟ وأيضاً قال تعالى بعد هذه الآية:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} [الأعراف: 7] فإذا كان يقصُّه عليهم بعلم فما معنى هذا السؤال؟

فالجواب: أنَّهُم لمَّا أقَرُّوا بأنهم كانُوا ظالمين مُقَصِّرين سألوا بعد ذلك عن سَبَبِ الظُّلْمِ، والتَّقْصِيرِ، والمقصود منه التَّقْريعُ والتَّوبيخُ.

ص: 19

فإن قيل ما الفائدة في السؤال الرُّسُلِ مع العلم بأنه لم يَصْدُر عنهم تقصير ألبتة؟

فالجوابُ: لأنهم إذا اثبتوا أنه لم يَصْدُرْ عنهم تَقْصِيرٌ ألْبَتَّةَ التحق التَّقْصِيرُ كله بالأمَّةِ، فيتضاعفُ إكرامُ اللَّه تعالى للرُّسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التَّقْصِير، ويتضاعف الخِزْيُ والإهانَةُ في حقِّ الكفَّارِ، ولما ثبت أنَّ ذلك التَّقْصِيرُ كان منهم.

والمعنى: أنه بين للقوم ما أسروه، وما أعلنوه من أعمالهم، وبين الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال. وقوله:" بعلم " في موضع [الحال] من الفاعل، و" الباء " للمصاحبة أي: لنقصن على الرسل والمرسل إليهم حال كوننا متلبسين بالعلم. ثم أكد هذا المعنى بقوله: {وما كنا غائبين} أي: ما غاب عن علمه شيء من أعمالهم، وذلك يدل على أن الإله لا يكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله {فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين} وبين قوله: {فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 39] وقوله: {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} [القصص: 78] فالجواب من وجوه: أحدها: أن القوم لا يسألون عن الأعمال؛ لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم. وثانيها: أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التوبيخ كقول القائل: " ألم أعطك " وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم} [يس: 60] وقول الشاعر: {الوافر} 2404 - ألستم خير من ركب المطايا

...

...

...

...

...

فإذا عرف هذا فنقول: إن الله عز وجل لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى:{فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} ثم قال: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101] . فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضا لقوله: " وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون "، وقوله:{فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]، معناه: أنه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف؛ لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.

ص: 20

وثالثها: أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال، وعن بعضها بعدم السؤال، وهذه الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده المرسلين والمرسل إليهم، ويبطل قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار.

ص: 21

الوزن مبتدأ، وفي الخبر وجهان:

أحدهما: هو الظَّرْف أي: الوزن كائن أو مستقرٌّ يومئذٍ أي: يوم إذ يُسْألُ الرُّسُلُ والمرسلُ إليهم. فحذف الجملة المضاف إليها «إذْ» وعوَّض منها التَّنْوين، هذا مذهب الجُمْهُور خلافاً للأخْفَش. وفي «الحقّ» على هذا الوجه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه نَعْتٌ للوزن أي: الوزن الحق في ذلك اليوم.

الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كأنَّهُ جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ من قائل يقول: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحقُّ لا البَاطِلُ.

الثالث: أنه بدلٌ من الذَّميرِ المستكن في الظَّرْفِ وهو غَرِيبٌ ذكره مَكِيٌّ.

والثاني: من وجهي الخبر أن يكون الخبر «الحق» ، و «يومئذ» على هذا فيه وجهان:

أحدهما: أنَّهُ منصوب على الظَّرْفِ ناصبه «الوَزْنْ» أي: يقع الوَزْنُ ذلك اليوم.

والثاني: أنَّهُ مفعول به على السَّعةِ وهذا الثاني ضعيفٌ جدّاً لا حَاجَةَ إليه.

ولمَّا ذَكَرَ أبُو البقاءِ كون «الحق» خبراً، وجعل «يَوْمئذٍ» ظرفاً للوزن قال:«ولا يَجُوزُ على هذا أن يكون صِفَةً، لَئِلاّ يلزم الفَصْلُ بين المَوصُولِ وصِلَتِهِ» .

قال شهابُ الدِّين: وأين الفَصْلُ؟ فإن التركيبَ القرآنيَّ إنما جاء فيه «الحق» بعد تمام الموصول بصلته، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يُوصَفَ. تقول:«ضَرْبُكَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ الشديدُ حسنٌ» .

فالشَّديدُ صفة لِضَربِكَ. فإنْ تَوَهَّمَ كون الصِّفَةِ محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه، فَكَأنَّهَا مُقدَّمَةٌ في التَّقدير فَحَصَلَ الفَصْلُ تقديراً فإن هذا لا يُلْتَفَتْ إليه؛ لأنَّ تلك المعمولات من تَتِمَّةِ الموصول فلم تل إلَاّ الموصول وعلى تقدير اعتقاد ذلك له، فالمَانِعُ من ذلك أيضاً صيرورةُ المبتدأ بلا خبر، لأنَّكَ إذا جعلت «يَومئذٍ» ظرَفْاً للوزن و «الحقُّ» صفته فأين خبره؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر.

وقد طوَّلَ مكيٌّ بذكر تقدير «الحقّ» على «يومئذ» وتأخيره عنهُ باعتبار الإعرابات المتقدمة، وهذا لا حَاجَةَ إليه لأنَّا مقيَّدُونَ في القرآن بالإتيان بِنَظْمِهِ. وذكر أيضاً

ص: 21

أنه يجوز نصبه، يعني أنَّهُ لو قُرِىءَ به لكان جَائِزاً، وهذا أيضاً لا حاجة إليه.

قوله: «مَوَازِيْنُهُ» فيها قولان:

أحدهما: أنَّها جمع ميزان: الآلة [التي] يوزنُ بها، وإنَّمَا جمع؛ لأن كلَّ إنسانٍ له ميزان يخصُّه على ما جاء في التَّفْسير، أو جُمع باعتبار الأعمال الكثيرة وعبّر عن هذا الحال بالمحل.

والثاني: أنَّها جمع موزون، وهي الأعمال، والجمع حينئذٍ ظاهر. قيل: إِنَّمَا جمع الميزان ههنا، وفي قوله:{وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47] ؛ لأنَّه لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزانٌ، ولأفعال الجوارح ميزانٌ، ولما يتعلق بالقول ميزان.

وقال الزَّجَّاجُ: إنَّمَا جمع الموازين ههنا لوجهين:

الأوَّلُ: أنَّ العرب قد تُوقِعُ لَفْظَ الجَمْعِ على الواحد فيقولون: خرج فلان إلى مَكَّةَ راكباً البِغَالَ.

والثاني: أن الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان.

قال القرطبيُّ: والموازين جمع ميزان وأصلُهُ: «مِوْزَانٌ» قلبت الواوُ ياءٌ لكسرة ما قبلها.

فصل في المراد بالميزان

قال مُجَاهِدٌ والأعْمَشُ والضَّحَّاكُ: المراد بالميزان العدل والقضاء، وذهب إلى هذا القول كثيرٌ من المُتأخِّرينَ قالوا: لأنَّ لَفْظَ الوزن على هذا المعنى شَائِعٌ في اللُّغَةِ؛ لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلَاّ بالكَيْل، والوزن في الدُّنْيَا، فلم يبعد جعل الوزن كِنَايَةً عن العَدْلِ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا لم يكن له قَدْرٌ ولا قِيمَةٌ عند غيره يقال: إنَّ فُلاناً لا يقيم لفلان وَزْناً. قال تعالى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 105] ، ويُقَالُ هذا الكلامُ في وزن هذا وفي وزانه، أي: يعادله ويُسَاويه مع أنَّهُ ليس هناك وَزْنٌ في الحَقيقَةِ؛ قال الشَّاعِرُ: [الكامل]

قَدْ كُنْتُ عِنْدَ لِقَائِكُمْ ذَا قُوَّةٍ

عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ ميزَانُهُ

أيْ عندي لكل مخاصم كلامٌ يعادل كلامه، فجعل الوزن مثلاً للعدل وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ: المُرَادُ من الآية هذا المعنى فقط، والدَّلِيلُ عليه أنَّ الميزانَ إنَّما يراد ليتوصل به

ص: 22

إلى مَعْرِفَةِ مقدار الشيء، ومقاديرُ الثواب والعِقَابِ لا يمكن إظْهَارُهَا بالميزان؛ لأن أعْمَالَ العِبَادِ أعْرَاضٌ، وهي قد فنِيَتْ وعُدِمَتْ، ووزن المعدوم مُحَالٌ، وأيضاً فبتقدير بِقَائِهَا كان وزنها محالاً.

وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ. وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ، لإإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزاداد غمُّه.

وقال القُرْطُبِيُّ: «الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد» .

فإن قيل: الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ.

فنقول: إنَّ المكلف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ اللَّهَ - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان وزنها محالاً.

وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ. وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ، فإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزداد غمُّه.

وقال القُرْطُبِيُّ: «الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد» .

فإن قيل: الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ.

فنقول: أنَّ الملكف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ الله - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان مقرّاً بذلك فحينئذ كفاه حكم اللَّه تعالى بمقادير الثَّواب والعقاب في علمه بأنه عَدْلٌ وصوابٌ، وإنْ لم يكن مُقِرّاً بذلك لم يعرف من رجحان كفَّةِ الحسنات على كفَّةِ السيِّئات أو بالعَكْس من حُصُولِ الرُّجْحَانِ لا على سبيل العَدْلِ والإنْصافِ، فثبتَ أنَّ هذا الوَزْنَ لا فَائِدَةَ فيه ألْبَتَّةَ وقال أكْثَرُ المفسرين: أرَادَ وزن الأعْمَالِ بالميزان، وذلك أنَّ الله - تعالى - ينصب ميزاناً له لسان يوزن بها أعمال العباد خيرها وشرها وكفتان، كل كَفَّةٍ بِقَدْرِ ما بين المَشْرِقِ المَغْرِبِ.

واختلفوا في كَيْفيَّةِ الوَزْنِ، فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال.

وروي أنَّ رَجُلاً ينشر عليه تسعة وتسعون سِجلاً، كل سِجِّلٍّ منها مدُّ البَصَرِ فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفَّة الميزان ثم يخرج له بِطَاقَةٌ فيها شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله، فتوضع السِّجلات في كفه، والبطاقة في كفَّة فطاشت السِّجلات وثقلت البطاقة.

وقيل: توزن الأشخاص.

روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «لَيَأتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامةِ فلا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» وقيل: توزن الأعمال. رُوِيَ ذلك ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما فيؤتى بالأعْمَالِ

ص: 23

الحَسَنَةِ على صُورةٍ حَسَنةٍ، وبالأعمال السيِّئَةِ على صورة قَبِيحَة، فتوضع في الميزانِ.

والحكمة في وَزْنِ الأعْمَالِ امتحان اللَّه عباده بالإيمان به في الدُّنْيَا، وإقامة الحُجَّةِ عليهم في العقبى.

ص: 24

هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ أهْلَ القِيَامَةِ فَريقَانِ، منهم من يزيد حسناته على سيئاته، ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته، فأمَّا القسمُ الثَّالثُ، وهُو الَّذين تكُونُ حَسنَاتُهُ وسيئاته متعادلة فإنه غير موجود.

قال أكثر المفسرين: المراد ب {مَنْ خَفَّت مَوازِينُهُ} الكافر لقوله تعالى: {فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} ، ولا معنى لكون النْسَانِ ظالماً بآياتِ اللَّه إلَاّ كونه كَافِراً بها مُنْكِراً لها، وهذا هو الكَافِرُ.

وروي أنّه إذا خَفَّتْ حَسَنَاتُ المُؤمِنِ يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بِطَاقَة كالأنْمُلَةٍ فيلقيها في كفَّةِ الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح، فيقوُلُ ذلك العَبْدُ المُؤمِنُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم َ: «بِأبي أنْتَ وأمِّي، ما أحْسَنَ وَجْهَكَ وأحْسَنَ خَلْقَكَ فَمَنْ أنْتَ؟

فَيَقُولُ:» أنا نَبِّيُكَ مُحَمَّد، وهذه صَلَواتكَ الَّتِي كُنْتَ تُصَلِّيها عَلَيَّ، وقَدْ وَفَيْتُكَ أَحْوَجَ ما تكُونُ إلَيْهَا «رواه الواحِدِيُّ في» البَسيطِ «.

والخبر الذي تقدَّم أيضاً من أنَّهُ تعالى يُلْقِي في كفه الحسنات الكتاب المُشْتَمِلَ علىشهادةِ أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، وأمَّا قول ابن عباس، وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر.

وقال أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه حين حضره الموت لعمر بن الخطاب في وصَّيتهِ: إنَّمَا ثقلت مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيِنُهُ يَوْمَ القِيامَةِ باتِّباعِهِم الحقَّ في الدُّنْيَا، وثقله عليهم، وحُقَّ لميزان يوضع فيه الحقُّ غداً أن يكون ثَقِيلاً، وإنَّما خَفَّتْ مَوَازينُ من خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ باتِّباعِهِم البَاطِلَ في الدُّنْيَا، وخفته عليهم، وحقَّ لميزانٍ يُوضَعُ فيه البَاطِلُ غداً أن يكُونَ خَفِيفاً.

قوله:» بِمَا كَانُوا «متعلِّقٌ ب» خَسِرُوا «، و» مَا «مَصْدريَّةٌ، و» بِآيَاتِنَا «متعلِّقٌ ب» يَظْلِمُونَ «قُدِّمَ عليه للفَاصِلَةِ. وتعدَّى» يَظْلِمُونَ «بالباءِ: إمَّا لتَضَمُّنِهِ معنى التَّكْذيب نحو: {كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا} وإمَّا لِتَضَمُّنِهِ معنى الجَحْدِ نحو {وَجَحَدُواْ بِهَا} [النمل: 14] .

ص: 24

لمَّا أمر الخَلْقَ بمتابَعَةِ الأنْبِيَاءِ، ثمَّ خوَّفَهُم بعذاب الدُّنْيَا وهو قوله:{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ، وبعذاب الآخِرَةِ وهو السُّؤالُ ووزن الأعمال رغبهم في دعوة الأنْبِيَاء في هذه الآية بطريق آخر، وهو أنَّ ذكر كثرة نعم اللَّه عليهم، وكثرة النِّعيم توجبُ الطَّاعة فقال:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض} أي: جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ومكَّنَّاكم، والمُرَادُ بالتَّمكين التمليك والقوة والقدرة.

قوله «وجَعَلْنَا لكم» يجوز أن يكون «جَعَلَ» بمعنى «خَلَقَ» فيتعدَّى لواحد فيتعلَّقُ الجاران ب «مَعَايِشَ» ، والثَّأني أحد الجارين، والآخر: إمَّا حال متعلِّقَةٌ بمحذوف، وإمَّا متعلِّقةٌ بنفس الجعل وهو الظَّاهِرُ.

و «مَعَايِش» جمع مَعيشَةٍ، وفيها ثلاثةُ مذاهبٍ:

مذهبُ سيبويه والخَلِيل: أنَّ وزنها مَفْعُلَةٍ بِضَمِّ العين، أو مَفْعِلة بكسرها، فعلى الأوَّلِ جُعلتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، ونُقِلَتْ إلى فَاءِ الكَلِمَةِ. وقياس قول الأخْفَشِ في هذا النَّحوِ أن يغيِّر الحرفَ لا الحَرَكَة، ف «معيشة» عنده شَاذَّةٌ إذْ كان يَنْبَغِي أَن يقال فيها مَعُوشة.

وأمَّا على قولنا إنَّ أصلها «مَعِيشَةٌ» بكسر العين فلا شُذُوذَ فيها ومذهب الفرَّاءِ: أنَّ وزنها مَفْعلة بفتح العين، وليس بشيءٍ.

والمعيشةُ اسمٌ لما يُعاشُ به أي: يُحْيا وقال الزَّجَّاجُ: المعيشةُ ما يتوصلون به إلى العيش وهي في الأصل مصدر ل «عَاشَ» يعيشُ عَيْشاً، وعِيْشَةً قال تعالى:{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]، وَمَعَاشاً: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 11]، ومَعِيشاً قال رُؤبةُ:[الرجز]

2406 -

إلَيْكَ أشْكُوا شِدَّةَ المَعيشِ

وَجُهْدَ أعْوَامِ نَتَفْنَ رِيشِي

والعامَّةُ على «مَعَايشَ» بصريح الياءِ. وقد خرج خارجةُ فَرَوَى عن نافع «مَعَائِشَ» بالهَمْزِ، وقال النَّحْويُّون: هذا غَلَطٌ؛ لأنَّهُ لا يهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المدِّ زائداً نحو: صَحَائِف ومَدَائِن، وأمَّا «مَعَايِش» فالياءُ أصلٌ؛ لأنها من «العَيْشِ» .

ص: 25

قال الفَارِسيُّ - عن أبي عثمان -: «أصلُ أخْذِ هذه القراءة عن نَافعِ» قال: «ولَمْ يَكُنْ يَدْرِي ما العَرَبِيَّةُ» .

قال شهابُ الدِّينِ: وقد فعلتِ العربُ مثل هذا، فَهَمَزُوا «مَنَائِرَ ومَصَائِبَ» جمع «منارةٍ ومُصِيبَة» والأصل «مَنَاوِرُ، ومَصَاوِبُ» وقد غلَّطَ سيبويه من قال مصائِبَ، ويعني بذلك أنَّهُ غلطه بالنسبة إلى مخالفة الجادَّةِ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال:«واعْلَمْ أنَّ بعضهم يغلط فيقول: إنَّهم أجمعونَ ذَاهِبُونَ» [قال] ومنهُمْ من يأتي بها على الأصل فَيَقُولُ: مصاوب ومناور، وهذا كما قالوا في جمع «مقالٍ» و «مقام» :«مقاول» و «مقاوم» في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال: وأنشد النَّحْوِيُّون على ذلك: [الطويل]

2407 -

وإنِّي لَقَوَّامٌ مقَاوِمَ لَمْ يَكُنْ

جَريرٌ ولا مَوْلَى جرِيرٍ يَقُومُهَا

ووجه همزها أنَّهُم شبَّهوا الاصليَّ بالزَّائد فتوهموا أن «معيشة» بزنة «صحيفة» فهمزوها كما همزا «تيك» قالوا: ونظير ذلك في تشبيههم الأصل بالزائد قولهم في جميع «مسيل» «مُسْلان» ، توهَّموه على أنَّه على زِنَةٍ «قضيبٍ وقُضْبَان» وقالوا في جمعه «أمْسِلَة» كأنَّهْمِ تَوَهَّمُوا أنَّهُ بزنة «رَغيفٍ، وأرْغِفَةٍ» وإنَّما مسيل وزنه «مفعلٌ» ؛ لأنه من سيلان الماءِ، وأنْشَدُوا على «مَسِيلِ، وأمْسِلة» قول أبِي ذُؤيْبٍ الهُذَلِيِّ: [الوافر]

2408 -

بِوَادٍ لا أنِيسَ بِهِ يبابٍ

وأمْسِلَةٍ مَذَانِبُهَا خَلِيفُ

وقال الزَّجَّاجُ: جميعُ نُحَاةِ البَصْرَةِ يَزْعُمُونَ أنَّ همزها خَطَأ، ولا أعلم لها وجهاً إلَاّ التِّشْبِيه ب «صحيفة» و «صحائف» ، ولا ينبغي التَّعْوِيلُ على هذه القراءة.

قال شهابُ الدين: وهذه القراءةُ لم يَنْفَرِدْ بها نافعٌ بل قَرَأهَا جماعة جلَّةٌ معه؛ فإنَّها منقولة عن ابن عامر الذي قَرَأ على جماعة من الصَّحابةِ ك «عُثْمان» و «أبي الدَّرْدَاءِ» و «معاوية» ، وقد يبق ذلك في «الأنعام» ، فقد قَرَأ بها قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ، وهو عربي فَصِيحٌ وقَرَأ بها أيضاً زيدُ بْنُ عَلِيٍّ، وهو على جانب من الفَصَاحَة والعلم الذي لا يدانيه فيه إلَاّ القليل، وَقَرأ بها أيضاً الأعْمَشُ والأعْرَجُ وكفى بهما في الإتْقَانِ والضَّبْطِ. وقد نقل الفرَّاءُ أنَّ قلب هذه الياء تشبيها لها بياء «صحيفة» قد جاء، وإن كان قليلاً.

وقوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} كقوله: {قَلِيلاً ما تَذكَّرُونَ} .

ص: 26

لما ذكر كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ على العبد أتْبَعَهُ بذكر أنَّهُ خلف أبَانَا [آدم] وجعله مسجود الملائكة، والإنعامُ على الأبِ يَجْرِي مجرى الإنعام على الابن.

واختلف النَّاسُ في «ثُمَّ» في هذين الموضعين: فمنهم مَنْ لم يَلْتَزِم [فيها] ترتيباً، وجعلها بمنزلة «الواوِ» فإنَّ خلقنا وتصويرنا بعد قوله تعالى للملائكة «اسْجُدُوا» .

ومنهم من قال: هي للتَّرْتِيبِ لا في الزمان بل للترتيب في الإخبار ولا طائل في هذا.

ومنهم من قال: هي للتَّرْتِيب الزَّمَانيِّ، وهذا هو موضوعها الأصْلِيُّ.

ومنهم من قال: الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ والثَّانيةُ للتَّرتيبِ الإخْباريِّ.

واختلف عِبارةُ القائلين بأنَّها للتَّرْتِيب في الموضعين فقال بعضهم: أنَّ ذلك على حذف مضافين، والتقديرُ: ولقد خلقنا آباءَكُم ثم صوَّرْنَا آباءَكم ثم قلنا، ويعني بأبينا آدم عليه الصلاة والسلام ُ - وإنَّما خاطبه بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له، ولأنه أصلُ الجميع، والتَّرتيب أيضاً واضح.

وقال مجاهدٌ: المعنى خلقناكم في ظَهْرِ آدم ثم صوَّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. رواه عنه أبُو جريج وابْنُ أبِي نَجِيحٍ.

قال النَّحَّاسُ: وهذا أحْسَنُ الأقْوَالِ يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرَهُم حين أخذ عليهم الميثاقَ، ثمَّ كان السُّجُود [بعد ذلك] ويُقَوِّي هذا قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ} [الأعراف: 172] .

وفي الحديث أنَّهُ أخرجهم أمثال الذَّرِّ، فأخذ عليهم الميثاق.

وقال بعضهم: المُخَاطِبُ بَنُو آدم، والمرادُ بهم أبوهم وهذا من باب الخطاب لشَخْصٍ، والمُرَادُ به غيره كقوله:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49]، وإنَّما المُنَجَّى والذي كان يُسَامُ سُوءَ العذاب أسلافهم. وهذا مستيضٌ في لسانهم. وأنشدوا على ذلك:[الطويل]

2409 -

إذَا افْتَخَرَتْ يَوْماً تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا

وَزَادَتْ عَلَى مَا وطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ

ص: 27

فأنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْ

عُرُوشَ الَّذِينَ اسْتَرهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ

وهذه الوَقْعَةُ إنَّما كانت في أسلافهم.

والترَّتيبُ أيضاً واضح على هذا.

ومن قالك إن الأولى للتَّرتيب الزَّماني، والثَّانية للتَّرْتيب الإخْبَارِيِّ اختلفت عباراتهم أيضاً. فقال بعضهم: المرادُ بالخطابِ الأوَّلِ آدمُ، وبالثَّاني ذريَّتُهُ، والترتيب الزَّمانيُّ واضح و «ثُمَّ» الثَّانية للتَّرْتِيب الإخباريِّ.

وقال بعضهم: ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرناكم في بُطُونِ أمهاتكم.

وقال بعضهم: [ولقد خلقنا] أرواحكم ثم صوَّرْنَا أجسامكم، وهذا غَرِيبٌ نقله القَاضِي أبو عليٍّ في «المعتمد» .

وقال بعضهم: خلقناكم نُطَفاً في أصلابِ الرِّجال، ثُمَّ صوَّرْناكم في أرحام النٍّساءِ.

وقال بعضهم: ولقد خلناكم في بطون أمَّهاتكم وصوَّرناكُم فيها بعد الخلق بِشَقِّ السَّمع والبصرِ، ف «ثمَّ» الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ، والثانية للترتيب الإخباري أي: ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة.

وقيل: إنَّ «ثُمَّ» الثانية بمعنى «الواو» [أي] وقلنا للملائكة فلا تكون للتَّرتيب.

وقيل: فيه تقديمٌ وتأخير تقديرُهُ: ولقد خلقناكم يعني آجم، ثمَّ قلنا للملائكة اسجُدُوا، ثمّ صوَّرنَاكم.

وقال بعضهم: إنَّ الخلق في اللُّغَة عبارة عن التقدير، وتقدير اللَّه عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كلِّ شيءٍ بمقداره المعيِّنٍ، فقوله «خَلَقْنَاكُم» إشارة إلى حكم الله، وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم.

وقوله «صَوَّرْنَاكُم» إشارة إلى أنَّهُ تعالى [أثبت في اللَّوْحِ المحفوظ صورة كل كائن يحدث] إلى يوم القيامة، فخلق الله تعالى عبارة عن حكمه ومشيئته، والتَّصوير عبارة عن إثْبَاتِ صورة الأشياء في اللَّوحِ المحفوظ. ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم، وأمر الملائكة بالسُّجود.

قال ابن الخطيب: وهذا التَّأوِيلُ عندي أقْرَبُ من سائر الوُجُوهِ.

وقد تقدَّم الكلامُ في هذا السُّجود، واختلاف الناس فيه في سورة البقرة.

قوله: «إلَاّ إبليسَ» تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة. وكان الحسن يقول: إبليسُ لم

ص: 28

يكن من الملائكةِ؛ لأنه خُلقَ من نارٍ والملائكة من نور لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، و [هو ليس كذلك فقد عصى إبليس واستكبر، والملائكةُ ليسوا من الجنِّ وإبليسُ من الجنِّ، والملائكة رسُلُ اللَّهِ، وإبليسُ ليس كذلك، وإبليسُ أوَّلُ خليقة الجنِّ وأبوهم كما أنَّ آدمَ أوَّلُ خليقة الإنس وأبُوهم، وإبليسُ له ذُرِيَّةٌ والملائكة لا ذُرِّيَّةَ لهم.

قال الحسنُ: ولمَّا كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه اللَّهُ وكان اسم إبليسَ شيئاً آخر فلما عَصَى اللَّهَ سمَّاهُ بذلك، وكان مؤمناً عابداً في السَّماءِ حتَّى عصى الله؛ فأهبط إلى الأرض] .

قوله: «لَمْ يَكُنْ» هذه الجملة استئنافِيَّةٌ؛ لأنها جوابُ سؤال مقدَّرٍ، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة «أبَى» ، وتقدَّم أنَّ الوقف على إبليس.

وقيل: فائدة هذه الجُمْلَة التَّوكيد لما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس.

وقال أبُو البقاءِ: إنَّهَا في محلِّ نصب على الحال أي: إلَاّ إبليس حال كونه ممتنعاً من السُّجُودِ، وهذا كما تقدَّم له في البقرة من أن «أبَى» في موضع نصب على الحال.

ص: 29

في «لا» هذه وجهان:

أظهرهما: أنها زائدة للتوكيد.

قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «لا» في «ألَاّ تسجد» صلة بدليل قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص: 75] ومثلها {لِّئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] بمعنى ليعلم، ثم قال: فإن قلت ما فائدةُ زيادتها؟

قلت: توكيد بمعنى الفعل الذي يدخلُ عليه، وتحقيقه كأنه قيل: يستحق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السُّجُود، وتُلزمه نفسك إذا أمرتك؟ . وأنْشَدُوا على زيادة «لا» قول الشَّاعر:[الطويل]

2410 -

أبَى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلتْ نَعَمْ

بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ

يروى «البُخْل» بالنصب والجر، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها، تقديره: أبى جُودهُ البخل. وأمَّا رواية الجر فالظَّاهرُ منها عدم الدلالة على زيادتها، ولا حجَّة في هذا البيت على زيادة «لا» في رواية النَّصْبِ، ويتخرَّجُ على وجهين:

ص: 29

أحدهما: أن تكون «لا» مفعولاً بها، و «البخل» بدلٌ منها؛ لأن «لا» تقالُ في المنع فهي مؤدِّية للبُخْلِ.

والثاني: أنَّها مفعول بها أيضاً، و «البُخْل» مفعول من أجْلِهِ، والمعنى: أبي جُودُه لفظ «لا» لأجل البُخْلِ أي: كَرَاهَة البُخْلِ، ويؤيِّدُ عدَمَ الزِّيادةِ روايةُ الجَرِّ.

قال أبُو عمرو بْنُ العلاءِ: «الرِّوايةُ فيه بخفض» البُخْلِ «؛ لأن» لا «تستعمل في البُخْلِ» ، وأنشدُوا أيضاً على زيادتها قول الآخر:[الكامل]

2411 -

أفَعَنْكِ لا بَرْقٌ كأنَّ وَميضَهُ

غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ

يريد أفعنك بَرْقٌ، وقد خرجَّه أبُو حيَّان على احتمال كَوْنِهَا عاطفة، وحذف المعطوف، والتقديرُ: أفعنك لا عن غَيْرِك.

وكون " لا " في الآية زائدة هو مذهب الكسائي، والفراء والزجاج، وما ذكرناه من كون البخل بدلا من " لا "، و" لا " مفعول بها هو مذهب الزجاج.

وحكى بعضهم عن يونس قال: كان أبو عمرو بن العلاء يجر " البخل " ويجعل " لا " مضافة إليه، أراد أبي جوده لا التي هي للبخل؛ لأن " لا " قد تكون للبخل وللجود، فالتي للبخل معروفة، والتي للجود أنه لو قال له:" امنع الحق " أو " لا تعط المساكين " فقال: " لا " كان جودا.

قال شهاب الدين: يعني فتكون الإضافة للتبيين، لأن " لا " صارت مشتركة فميزها بالإضافة، وخصصها به، وقد تقدم طرف جيد من زيادة " لا " في أواخر الفاتحة.

وزعم جماعة أن " لا " في هذه الآية الكريمة غير زائدة لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك؟

فقال بعضهم: في الكلام حذف يصح به النفي والتقدير: ما منعك فأحوجك ألا تسجد؟

وقال بعضهم: المعنى ما ألجأك ألا تسجد.

وقال بعضهم من أمرك ألا تسجد؟ أو من قال لك ألا تسجد، أو ما دعاك ألا تسجد.

قالوا: ويكون هذا استفهاما على سبيل الإنكار، ومعناه أنه ما منعك عن ترك السجود شيء، كقول القائل لمن ضربه ظلما: ما الذي منعك من ضربي، أدينك أم عقلك أم جارك.

ص: 30

والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه الأمور، وما امتنعت من ضربي.

وقال القاضي: ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه قال: ما دعاك إلى ألا تسجد؛ لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها.

وهذا قول من يتحرج من نسبة الزيادة إلى القرآن، وقد تقدم تحقيقه، وأن معنى الزيادة على معنى يفهمه أهل العلم، وإلا فكيف يدعي زيادة في القرآن بالعرف العام؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين.

و" ما " استفهامية في محل رفع بالابتداء، والخبر الجملة بعدها أي: أي شيء منعك؟ . و" أن " في محل نصب، أو جر؛ لأنها على حذف حرف الجر إذ التقدير: ما منعك من السجود؟ و" إذ " منصوب ب " تسجد " أي: ما منعك من السجود وقت أمري إياك به.

(فصل في دلالة الأمر)

احتجوا بهذه الآية على أن الأمر يفيد الوجوب؛ لأنه تعالى ذم إبليس على ترك ما أمر به، ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به يوجب الذم.

فإن قالوا: هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب، فلم قلتم: إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك؟

والجواب: أن قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر، لأن قوله:" إذ أمرتك " مذكور في معرض التعليل، والمذكور في قوله: إذ أمرتك " هو الأمر من حيث إنه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة فوجب أن يكون ترك الأمر من حيث إنه أمر موجبا للذم.

(فصل في دلالة الأمر على الفور أم التراخي)

واحتجوا أيضا بهذه الآية على أن الأمر يقتضي الفور، قالوا: لأنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال، ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب الذم بترك السجود في الحال.

قوله: " أنا خير منه " اعلم أن قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد} طلب للداعي الذي دعاه إلى ترك السجود، فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي، وهو أنه قال:" أنا خير منه ".

قوله: " خلقتني من نار " لا محل لهذه الجملة؛ لأنها كالتفسير والبيان للخيرية ومعناه: أنا لم أسجد لآدم؛ لأني خير منه ومن كان خيرا من غيره فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدون، ثم بين المقدمة الأولى، وهو قوله:" أنا خير منه " بأن قال

ص: 31

خلقتني من نار، وخلقته من طين، والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل.

أما بيان أن النار أفضل من الطين فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السماوات، قوية التأثير والفعل، والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال، والفعل أشرف من الانفعال،، وأيضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة. وأما الأرضية والبرد واليبس، فهما يناسبان الموت والحياة أشرف من الموت، وأيضا فالنضج متعلق بالحرارة، وأيضا فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين، وأما وقت الشيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية، لا جرم كان هذا الوقت أردى أوقات عمر الإنسان.

وأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر؛ لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع.

وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون، فإنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس.

والجواب عنها أن نقول: هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاث: أولها أن النار أفضل من التراب، وهذا قد تقدم الكلام فيه.

قال محمد بن جرير: ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل ما جعل الله له الفضل، وقد فضل الطين على النار.

وقالت الحكماء: للطين فضل على النار من وجوه:

منها: أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والتوبة والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة والارتفاع والاضطراب وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثه اللعنة والشقاوة؛ ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها، [و] لأن التراب سبب الحياة؛ لأن حياة الأشجاء، والنبات به، والنار سبب الهلاك، ولأن التراب يكون منه وفيه أرزاق الحيوان، وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معايشهم ومساكنهم والنار لا يكون فيها شيء من ذلك، وأيضا النار مفتقرة إلى التراب، وليس التراب مفتقر إليها، فإن المحل الذي يكون مكونا من التراب أو فيه فهي الفقيرة إلى التراب، وهي غني عنها.

وأيضا إن النار وإن حصل بها بعض المنفعة فالشر كامن فيها، لا يصدها عنه إلا

ص: 32

حبسها، ولولا الحابس لها لأفسدت الحرث والنسل وأما التراب فالخير والبركة [فيه] ، كلما قلب ظهرت بركته وخيره. فأين أحدهما من الآخر؟

وأيضا فإن الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه، وذكر منافعها وخلقها، وأنه جعلها:{مهادا} [النبأ: 6] و {فراشا} [البقرة: 22] و {بساطا} [نوح: 19]، و {قرارا} [النمل: 61] و {كفاتا} [المرسلات: 25] للأحياء والأموات ودعا عباده إلى التفكر فيها، والنظر في آياتها وعجائب ما أودع فيها، ولم يذكر النار إلا في معرض العقوبة والتخويف والعذاب إلا موضعا أو موضعين ذكرها بأنها {تذكرة ومتاعا للمقوين} [الواقعة: 73] بذكره لنار الآخرة، ومتاعا لبعض أفراد الناس وهم المقوون النازلون بالمفازة، وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافر تمتع بالنار في منزله. فأين هذا من أوصاف الأرض. وأيضا فإن الله تعالى وصف الأرض بالبركة في مواضع من كتابه، وأخبر أنه بارك فيها، وقدر فيها أقواتها، وقال:{ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها} [الأنبياء: 71]، {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها} [سبأ: 18] {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} [الأنبياء: 81] وأما النار فلم يخبر بأنه جعل فيها بركة أصلا بل المشهور أنها مذهبة للبركات مبيدة لها. فأين المبارك في نفسه من المزيل للبركة؟ وما حقها؟

وأيضا فإن الله تبارك وتعالى جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه، ويسبح له بالغدو، والآصال، وبيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا، وهدى للعالمين.

وأيضا فإن الله أودع في الأرض من المنافع، والمعادن، والأنهار والثمرات والحبوب، وأصناف الحيوان ما لم يرد في النار شيء منه إلى غير ذلك.

وأما المقدمة الثانية، وهي من كانت مادته أفضل فهو أفضل، فهذا محل النزاع، والبحث؛ لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله تبارك وتعالى ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة، ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر، والنور من الظملة والظلمة من النور، وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله، لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر.

وأيضا، فالتكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه.

وأيضا فالمفضل إنما يكون بالأعمال، وما يتصل بها، لا بسبب المادة؛ ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر.

ص: 33

(فصل في تخصيص العموم بالقياس)

احتج من قال " إنه لا يجوز تخصيص عموم بالقياس " بهذه الآية؛ فإنه لو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استوجب إبليس هذا التعنيف الشديد، والتوبيخ العظيم، ولما حصل ذلك دل على أن تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز.

وبيانه أن قوله تعالى للملائكة: " اسجدوا لآدم " خطاب عام يتناول جميع الملائكة، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس، وهو أنه مخلوق من النار، والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف فيلزم كون إبليس أشرف من آدم، ومن كان أشرف من غيره فإنه لا يؤمر بخدمته لأن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك فثبت أن إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئا إلا أنه خصص العموم بالقياس، فاستوجب بذلك الذم الشديد، فدل ذلك على أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز.

وأيضا فالآية تدل على صحة هذه المسألة من وجه آخر، وهو أن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى:{فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} [الآية 13 من الأعراف] ووصف إبليس بكونه " متكبرا " بعد أن حكى عنه القياس [الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أنه من حاول تخصيص النص بالقياس] تكبر على الله، ودلت هذه الآية على أن التكبر على الله يوجب العقاب الشديد، والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين، فدل ذلك على أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وهذا هو المراد بما نقله الواحدي في " البسيط " عن ابن عباس أنه قال:" كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وقاس ".

وأول من قاس إبليس، وكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس.

والجواب أن القياس الذي يبطل النص بالكلية باطل، أما القياس الذي يخصص [النص] في بعض الصور لم قلتم: إنه باطل؟

وتقريره: أنه لو قبح أمر من كان مخلوقا من النار بالسجود لمن كان مخلوقا من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقا من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقا من الأرض أولى؛ لأن النور أشرف من النار، وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر كل واحد من الملائكة بالسجود لآدم، فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل.

أما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام لم قلتم: إنه [باطل؟

ص: 34