المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أنواع العلوم وحكمها من حيث المنهج - المنهج بين الماضي والحاضر

[عبد الله بن أحمد قادري]

الفصل: ‌أنواع العلوم وحكمها من حيث المنهج

تحقيق ذلك إلا بالتزام المنهج الذي التزم به الجيل الرائد وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالقدوة المربية المقتدية بذلك الإمام الخاتم عليه الصلاة والسلام.

ص: 252

‌أنواع العلوم وحكمها من حيث المنهج

تنقسم العلوم كلها إلى قسمين رئيسيين:

- علوم إنسانية: تتعلق بالإنسان نفسه- باعتقاده وخلقه ونظام حياته وصلته بخالقه وبالكون من حوله، وبمعاده.

وهذا العلم يجب أن ينبثق منهجه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى أعلم بخلقه وبالمنهج الذي يصلح لهم فدروب النفس ومنحنياتها لا يعلمها إلا بارئها، إذ الإنسان الذي يفتخر بعلمه المادي في هذا القرن ما زالت معرفته بنفسه بدائية (كما يقول القسيس كاريل أحد علماء الغرب البارزين) .

ولعلم الله تعالى بما يصلح للنفس يأمرها بالأقدام على ما تكره ويأمرها بالاستسلام له، لأن ما يأمرها به فيه الخير وإن بدا لها في الظاهر أنه شر مكروه، كما قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وهو المبرأ سبحانه وتعالى من الظلم فلا يخشى أحد أن يظلم بسبب منهجه تعالى بخلاف البشر " يا عبادي إني حرمت على نفسي الظلم وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ".

كما يجب ألا يتلقى المسلم هذا العلم إلا من عالم مسلم، والأصل في المسلم أن يكون أميناً مستوعباً لما يلقيه على طلبته خوفاً من المسئولية أمام ربه كما قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .

وينقسم هذا العلم أيضاً إلى قسمين:

فرض عين وهو الذي يجب على كل فرد تحصيله ليصح تصوره لما أراد الله منه، كالعلم بالله، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبأركان الإسلام، وبتفاصيل العبادات التي يجب أن يتقرب بها إلى الله تعالى، وأمور الحلال والحرام في المعاملات التي يزاولها في أسرته ومع جيرانه ونحو ذلك.

ص: 252

وفرض كفاية وهو العلم الذي لا يطلب من جميع أفراد المسلمين بل يجب أن يكون فيهم من يعلمه فإذا وجد العدد الكافي الذي علم هذا العلم سقط عن باقيهم كالقضاء والإفتاء ونحوهما.

- النوع الثاني من العلوم:

-العلوم الكونية، كالصناعة والزراعة والتجارة والطب والكيمياء والفيزياء وغيرها من المهن المختلفة التي تعتبر ضرورية أو محتاجاً إليها وهذه العلوم فرض كفاية يجب أن يوجد من أفراد المسلمين من يجيدها ليتمكنوا من الاستغناء بهم عن أعدائهم وليعدوا للعدو العدة المأمور بها كما قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} لأن الحاجة إلى العدو تفتح عليهم أبواباً من الضرر لا تحصى من إفساد عقيدتهم وأخلاقهم وجعلهم أذلاء للأعداء لا يقدرون على تصريف شئونهم الدينية والدنيوية كما هو واقع المسلمين في هذا الزمان، وهذا ما حرص عليه أهل الغرب - أي أن يبقى المسلمين محتاجين إلى علوم الغرب وصناعاتهم، ولذلك أغرقونا بصناعاتهم لا سيما الكمالية منها حتى لا نفكر في اشتغالنا بالصناعة فيكون ذلك هدماً لحضارتهم إذ أن المسلمين يملكون ركيزة الحضارة الحقة وهي الدين الذي لم يبق دين حق سواه، فإذا اجتمع الحديد والكتاب حق على الكفر الذل والدمار وفات عليهم أن يسودوا العالم وإن يستغلوا ثرواته.

ولنستمع في هذا المعنى إلى ما قاله أحد الساسة الفرنسيين في منتصف هذا القرن:" إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة ولكنه في حاجة إلى الاستقلال في استغلال هذه الإمكانيات الضخمة الكامنة في بطون سهوله وجباله وصحاريه، إنه - يعني العالم الإسلامي- في عين التاريخ عملاق مقيد لم يكتشف نفسه بعد اكتشافاً تاماً فهو حائر قلق كاره لماضيه في عصر الانحطاط راغب رغبة يخالطها شيء من الكسل أو بعبارة أخرى من الفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر.

فلنعط هذا العالم ما يشاء ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخلطة وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور

ص: 253

بعجزه عن مجازاة الغرب في الإنتاج فقد بؤنا بالإخفاق الذريع وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً يتعرض به التراث الحضاري الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته القيادية ". اهـ.

والأصل أن يتلقى المسلم العلوم الكونية من مسلم ارتبط علمه بعقيدته، فإذا لم يوجد العالم المسلم الذي يغني المسلمين عن التلقي على أيدي الكافرين فإن أخذ العلم عنهم عندئذ متعين ولكن ليس لكل فرد من أفراد المسلمين أن يكون ذلك المتلقي بل الواجب أن يختار الأفراد الذين لا يخشى عليهم من دسائس الكافرين وشبهاتهم ممن أعدوا إعداداً خاصاً في تصورهم الصحيح للإسلام وربوا تربية إيمانية ثابتة ودربوا على السلوك الإسلامي حتى أصبح يسري في أرواحهم ودمائهم ويجب أن يتلقوا فقط العلوم الكونية البحتة وألا يتلقوا شيئاً من الجوانب الاعتقادية أو الأخلاقية أو التشريعية أو الاجتماعية، وأن يكونوا عالمين أن تلقيهم عن هؤلاء الأعداء إنما هو من باب الاضطرار كأكل الميتة يقدر بقدره فإذا أصبح في استطاعة المسلمين الاستغناء بعلمائهم كان لزاماً عليهم بذل جهودهم لتعليم أبنائهم تعليماً يفوقون به أعداءهم حتى يحققوا أمر الله عز وجل:

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .

وهذا هو السبيل الذي سلكه المسلمون في العصور الفاضلة عصور الفتح والعلم والقيادة التي كانت أوروبا في حينها في عصورها المظلمة المسماة بالعصور الوسطى التي يخطىء بعض الكتاب من المسلمين بل الراجح أنهم يتعمدون أن يطلقوها على تلك العصور النيرة للمسلمين زوراً وبهتاناً.

أقول: لقد سلك السلمون هذا المسلك العظيم فاطلعوا على العلوم الموجودة في عهدهم وكانت مطوية في الكتب التي تدرس نظرياً وتشرح وتترجم وتختصر فقط فحولها المسلمون إلى علوم تجريبية تطبيقية في فترة يسيرة من الزمن فأصبحوا أساتذة العالم وموجهيه يفد إليهم طالبو المعرفة من كل مكان، والسر في ذلك ما سبق من اعتبارهم كل عمل يعملونه عبادة تقربهم إلى الله. ولقد عرف أعداء الإسلام هذا السر الذي قفز بالمسلمين في فترة قصيرة من رعاة إبل حفاة جهال متباغضين إلى قادة للعالم حكماء كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

ص: 254