الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الثاني: السنة
…
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
يُطْلَقُ لَفْظُ "السُّنَّةِ" عَلَى مَا جَاءَ مَنْقُولًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخُصُوصِ، مِمَّا لَمْ يُنَصَّ1 عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بَلْ إِنَّمَا نُصَّ عَلَيْهِ من جهته عليه الصلاة
1 قال في "المنهاج": "هي ما صدر منه صلى الله عليه وسلم من الأفعال والأقوال التي ليست للإعجاز، يعني ليست من القرآن، وقد تكون متضمنة لمعنى ورد فيه؛ فقوله: "مما لم ينص عليه في الكتاب" ليس معناه أنه يلزم في إطلاق السنة ألا تكون واردة في معنى قد تضمنه الكتاب العزيز، بل معناه مما لم يكن معتبرًا جزء من الكتاب بنفس ألفاظه، ويدل على هذا قوله: "كان بيانًا لما في الكتاب أو لا"؛ لأنه إنما يكون بيانًا له إذا كان الكتاب متضمنًا لأصل المعنى؛ فتجيء السنة شارحة ومبينة، وزاد بعضهم قيد: "مما ليس من الأعمال الطبيعية"، وتركه غيره لظهوره، وقوله: "كان ذلك مما نص عليه في الكتاب"؛ أي: وحده أو مع السنة أيضًا، وقوله: "أو لا" أي: بأن نص عليه في السنة فقط، وإنما حملناه على هذا ليصح كون هذا المعنى مغايرًا لما قبله وأعم منه، وقوله: "وإن كان العمل بمقتضى الكتاب"؛ أي: في بعض صور هذا الإطلاق، هذا وظاهر قوله أولًا: "بل إنما نص عليه من جهته" أن هذا الإطلاق خاص بالأقوال، ولا يشمل الأفعال، وقوله بعد: "عمل على وفق ما عمل عليه النبي عليه السلام مع ضميمة قوله، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة" يقتضي أن الإطلاق الثاني خاص بالأفعال، ولا يشمل الأقوال المتوجهة منه إلى غيره بالأوامر والنواهي فيما لا يتعلق به عليه السلام ويكون قول صاحب "المنهاج" وغيره: إن السنة ما صدر منه
…
إلخ تعريفًا للإطلاق العام، ويكون كل من هذين الإطلاقين في كلام المؤلف خاصًّا، ويساعد على أن غرضه الخصوص في الإطلاقين قوله بعد:"وإذا جمع ما تقدم تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه"، وقد عد منها الإقرار وجهًا، وإن لم يصرح به في تفاصيل الإطلاقات؛ إلا أنه تقدم له عد الإقرار من الأفعال. "د".
قلت: وانظر في معنى السنة: "شرح الكوكب المنير""2/ 166، 194"، و"الإحكام" للآمدي "1/ 196"، و"المحلى على جمع الجوامع""2/ 94"، و"نهاية السول""2/ 238"، و"تيسير التحرير""3/ 19"، و"فواتح الرحموت""2/ 97"، و"أصول السرخسي""1/ 113"، و"التلويح على التوضيح""2/ 2"، و"إرشاد الفحول""33"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية""18/ 306-309 و22/ 540 و28/ 18، 378"، و"حجية السنة""ص68".
وَالسَّلَامُ، كَانَ بَيَانًا لِمَا فِي الْكِتَابِ أَوْ لَا.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا فِي مُقَابَلَةِ الْبِدْعَةِ؛ فَيُقَالُ: "فُلَانٌ عَلَى سُنَّةٍ" إِذَا عَمِلَ عَلَى وَفْقِ مَا عَمِلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ مِمَّا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ لَا، وَيُقَالُ:"فُلَانٌ عَلَى بِدْعَةٍ" إِذَا عَمِلَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ فِيهِ عَمَلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ؛ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ السُّنَّةِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا لَفْظُ السُّنَّةِ عَلَى مَا عَمِلَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ1 أَوْ لَمْ يُوجَدْ؛ لِكَوْنِهِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةٍ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ تُنْقَلْ إِلَيْنَا، أَوِ اجْتِهَادًا2 مُجْتَمَعًا عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ خُلَفَائِهِمْ؛ فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ إِجْمَاعٌ، وَعَمَلُ خُلَفَائِهِمْ رَاجِعٌ أَيْضًا إِلَى حَقِيقَةِ3 الْإِجْمَاعِ من جهة4 حمل الناس عليه حسبما
1 أي: عثرنا عليه في السنة أو لم نعثر عليه فيها؛ ليصح قوله بعد: "لِكَوْنِهِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةٍ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ تُنْقَلْ إلينا، وإذا حمل قوله: "لم يوجد" على ظاهره، وأنها لم تصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلًا لم يظهر قوله: "لكونه اتباعًا لسنة
…
إلخ"؛ فإنه وما بعده راجع إلى قوله: "أو لم توجد" بيانًا له، ولو كان هذا راجعًا إلى قوله "وجد"؛ لم يكن لتقييده بقوله "لم تنقل إلينا" معنى. "د".
قلت: قد يحمل مراد المصنف في قوله: "لكونه اتباعًا لسنة"؛ أي: عملهم؛ فبمجرد ثبوت أمر ما أنه من عمل الصحابة؛ فهو من السنة لأن السنة قامت على اعتبار عمل الصحابة، فهذا الأمر وإن لم ينقل إلينا؛ فهو من السنة، ولهذا الاعتبار أدخلوا الموقوف في أقسام الحديث النبوي.
وانظر: "قمر الأقمار""2/ 2"، و"حجية السنة""ص69".
2 لا يقال: إن الاجتهاد هو النظر في الأدلة من كتاب وسنة
…
إلخ؛ فلا تظهر مقابلته بما قبله لأنا نقول: إن صورة اتباع السنة تفرض فيما كان الدليل هو السنة مباشرة، وما بعده بواسطة القياس ونحوه. "د". قلت: في "ط": "اجتهاد".
3 انظر لمَ لم يقل: "راجع إلى اتباع سنة لم تنقل إلينا" كما قال في سابقه؟ بل اقتصر فيه على شق الاجتهاد والإجماع، قد يقال: إن الأول في الحقيقة داخل في إطلاق السنة المشهور؛ فلا حاجة للنص عليه إلا لمجرد التنبيه على صورة يتوهم عدم دخولها، والمهم عنده هو إدخال ما يرجع لبقية الأدلة من الإجماع والاستحسان والمصالح؛ فلذا لم يكرره فيما يتعلق بخلفائهم، لكن كان عليه أن يذكر القياس أيضًا. "د".
4 أي: فلما حملوا الناس عليه، والتزمه الجميع، وساروا فيه بدون نكير؛ دل على إجماعهم عليه، وهو أولى بالقبول من الإجماع السكوتي؛ لأن هذا قد صاحبه عمل الجميع. "د".
اقْتَضَاهُ النَّظَرُ الْمَصْلَحِيُّ عِنْدَهُمْ؛ فَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْمَصَالِحُ1 الْمُرْسَلَةُ وَالِاسْتِحْسَانُ، كَمَا فَعَلُوا فِي حد الخمر2، وتضمين3 الصناع،
1 أي: ما كان منها في عهد الصحابة. "د".
2 حيث كان تعزير الشارب في عهده صلى الله عليه وسلم غير محدود، بل كانوا يضربون الشارب تارة نحو أربعين وتارة يبلغون ثمانين، وكذا في عهد أبي بكر، فلما كان في آخر إمرة عمر، ورأى شيوع الشرب في الناس، بعدما صاروا في سعة من العيش وكثرة الثمار والأعناب؛ استشار الصحابة في حد زاجر؛ فقال علي:"نرى أن تجلده ثمانين لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري جلد ثمانين"، وقال عبد الرحمن بن عوف:"أرى أن تجعلها كأخف الحدود "يعني ثمانين""، وعليه؛ فتحديد الثمانين هو السنة التي عمل عليها الصحابة باجتهاد منهم، وأجمعوا عليه. قال في "المرقاة":"أي: للسياسة". "د".
قلت: وأثر علي "نرى أن تجلده
…
" أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 842"، ومن طريقه الشافعي في "المسند" "2/ 90، ترتيب السندي"، وإسناده منقطع، ووصله النسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" "5/ 118"- وعبد الرزاق في "المصنف" "7/ 378/ رقم 13542"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 375"، وفي صحته نظر، كما قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 75"، وعلل ذلك من وجهين؛ فلينظرا في كلامه، وأما مقولة عبد الرحمن؛ ففي "الصحيحين".
3 قال في "منح الجليل""7/ 513": "وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم الضمان عن الأجراء، وخصص العلماء من ذلك الصناع؛ وضمنوهم نظرًا واجتهادًا". وقال المؤلف في "الاعتصام""2/ 616، ط ابن عفان": "إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع، وقال علي: "لا يصلح الناس إلا هذا"1، ووجه المصلحة أن الناس لهم حاجة إليهم، وهم يغيبون عن الأمتعة، ويغلب عليهم التفريط، فلو لم يضمنوا مع مسيس الحاجة إليهم؛ لأفضى إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا بدعواهم الهلاك؛ فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة؛ فكانت المصلحة التضمين" ا. هـ.
_________
1 أخرجه ابن أبي شيبة "6/ 285"، وشريح في "القضاء""ق 57/ ب"، وابن حزم "8/ 202"، والبيهقي "6/ 137".
وَجَمْعِ1 الْمُصْحَفِ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ2 مِنَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، وَتَدْوِينِ3 الدَّوَاوِينِ، وَمَا أشبه ذلك4.
1 أي: في زمن أبي بكر، حيث كان مفرقًا في الصحف والعسب والعظام، فجعله مجتمعًا كله في صحف ملتئمة خشية أن يضيع منه شيء مكتوب، وإن كان محفوظًا كله في صدور كثيرين من الصحابة، ثم في زمن عثمان لما اختلف الناس في وجوه القراءة حتى صار يكفر بعضهم بعضًا؛ لأن ما لم يكن يعرفه الواحد منهم من الوجوه ينكره على غيره وينسبه للكفر؛ فلذلك ندب عثمان طائفة من الصحابة موثوقًا بأمانتهم وعلمهم، ووكل إليهم كتابة خمسة مصاحف يقتصرون فيها على الوجوه التي نزل بها القرآن ابتداء، وكلها بلغة قريش؛ فلا يتجاوزونها إلى ما يتلى باللغات الأخرى "التي كان رخص لأهلها بالقراءة بها تيسيرًا عليهم بعد ما تلقوها عنه، صلى الله عليه وسلم"، فلما اتصلت القبائل، وامتزجت لغة قريش بلغات الآخرين؛ لم يبق داع لاستعمال هذه القراءات المؤدية إلى كثرة الاختلاف بين المسلمين فيما هو أصل الدين، ولما كانت المصاحف الخمسة عارية من النقط والشكل؛ وسعت وجوه القراءة المتفق عليها بلغة قريش، وأرسل عثمان المصاحف إلى الأمصار آمرًا بالاقتصار على ما وافقها وترك ما خالفها الذي صار في حكم المنسوخ؛ فهذان الجمعان لم يكونا في عهده صلى الله عليه وسلم بل حصلا باجتهاد الخليفتين وبعض الصحابة، وأقرهم الباقون على كون ذلك مصلحة. "د".
قلت: انظر في ذلك: "المصاحف" لابن أبي داود، و"تاريخ القرآن" لأبي عبد الله الزنجاني.
2 يعني: الموافق لما في هذه المصاحف العثمانية أفاد في "الاعتصام""2/ 613-614" أنه جمع الناس على قراءة لم يحصل فيها الاختلاف في الغالب؛ لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات الأخرى، ولم يخالف في عدم القراءة بغير ما في المصاحف إلا ابن مسعود؛ فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءات المخالفة لها.
قلت: انظر تفصيل مخالفة ابن مسعود في "تاريخ المدينة" لابن شبة "3/ 1004 وما بعدها".
3 أي: الذي حصل في عهد عمر لكتابة أسماء الجيوش، والعرفاء، وآلات الحرب، وأموال بيت المال ومصارفها، وغير ذلك مما يحتاج إليه الخليفة والولاة. "د".
قلت: انظر تفصيل ذلك في "الإدارة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب" لفاروق مجدلاوي، ط دار النهضة العربية، سنة 1990م.
4 كولاية العهد من أبي بكر لعمر، وكترك الخلافة شورى بين ستة، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن لأرباب الجرائم في عهد عمر، وكهدم الأوقاف التي بإزاء مسجد الرسول، وتوسيع المسجد بها، وتجديد أذان للجمعة في السوق في عهد عثمان، ولم يكن في شيء من ذلك سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو النظر المصلحي الذي أقره الصحابة، رضي الله عنهم. "د".
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ قَوْلُهُ1، عليه الصلاة والسلام:"عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ"2.
وَإِذَا جُمِعَ مَا تَقَدَّمَ؛ تَحَصَّلَ مِنْهُ فِي الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام وَفِعْلُهُ، وَإِقْرَارُهُ -وَكُلُّ ذَلِكَ إِمَّا مُتَلَقَّى بِالْوَحْيِ أَوْ بِالِاجْتِهَادِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ- وَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ، وَالرَّابِعُ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوِ الْخُلَفَاءِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَنْقَسِمُ إِلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ، وَلَكِنْ عُدَّ وَجْهًا وَاحِدًا؛ إِذْ لَمْ يَتَفَصَّلِ الْأَمْرُ فِيمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ تَفْصِيلَ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.
1 أي: فقد أضاف صلى الله عليه وسلم السنة إليهم كما أضافها إلى نفسه؛ فسنتهم هي ما عملوه استنادًا لسنته صلى الله عليه وسلم وإن لم تطلع عليها منقول عنه، وكذا ما استنبطوه بما اقتضاه نظرهم في المصلحة. "د".
2 مضى تخريجه "ص133"، والحديث صحيح.
3 ومجموع الثلاثة هو ما يطلق عليه السنة عند الأصوليين. "د".
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُتْبَةُ السُّنَّةِ التَّأَخُّرُ عَنِ الْكِتَابِ فِي الِاعْتِبَارِ1، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْكِتَابَ مَقْطُوعٌ بِهِ2، وَالسُّنَّةَ مَظْنُونَةٌ، وَالْقَطْعُ فِيهَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّفْصِيلِ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَظْنُونِ؛ فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ3.
1 أي: فإذا ورد ما ظاهره المعارضة أخذ بالكتاب وقدم عليها، هذا ما يقصده كما يدل عليه بقية المسألة، وإن كان الدليل الثاني باعتبار شقه الأول؛ لا ينتج هذا المعنى، وإنما ينتج مجرد التبعية كالفرع مع الأصل، بل جهة كونها بيانًا تقتضي تقديمها عليه إذا ظن التعارض؛ ولذلك استدل من قال بتقديم السنة على الكتاب بقوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] المفيد أنها قاضية على الكتاب؛ إلا أنه لاحظ في البيان معنى آخر يقتضي أن يكون مؤخر الرتبة عن المبين، لكنه معنى شعري لا تقوم على مثله الأدلة في هذا الفن. "د".
قلت: ناقش الأدلة المذكورة وبين بطلانها الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة""ص488 وما بعدها"، وسنعتني بكلامه وننقل مناقشته لكل شبهة، والله الموفق.
2 أي: من جهة الثبوت والنقل، بخلاف السنة؛ فإنها مظنونة من هذه الجهة، إلا في المتواتر منها وهو قليل، وأما من جهة الدلالة؛ فالكتاب والسنة سواء قطعًا وظنًّا. "ف".
وفي نسخة "ماء": "أن الكتاب قطعي".
3 قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة""ص489-491" في هذا الدليل، وعده شبهة؛ قال: "والجواب أنا إذا نظرنا إلى السنة من حيث ذاتها؛ وجدناها قطعية في جملتها وتفاصيلها أيضًا، وذلك حاصل بالنسبة للصحابي المشاهد له صلى الله عليه وسلم السامع له؛ فتنهار الشبهة من أساسها، ويجب على مقعد القاعدة أن يلاحظ فيها كل مجتهد، ولو كان لا وجود له الآن.
وإذا نظرنا إليها من حيث طريقها وبالنسبة إلينا؛ قلنا: إن كان الخبر المعارض للآية متواترًا لم يصح فيه هذا الكلام أيضًا؛ فكيف يؤخر في الاعتبار مع أنه قد يكون قطعي الدلالة والآية ظنيتها، وقد يكون متأخرًا عنها ناسخًا لها، وهو في هاتين الحالتين واجب التقديم في الاعتبار، فضلًا عن المساواة؟ =
..........................................................................
= وكون غيره من الأخبار غير قطعي لا يؤثر في قطعيته؛ لأن التعارض إنما حصل بين الآية وبينه وحده، فلا يهمنا مقارنته بين الكتاب والسنة في القطع من حيث الجملة والتفاصيل.
وكون السنة المتواترة قليلة لا يفيده شيئًا في صحة دعواه العامة، بل لو فرضنا عدم وجودها بالكلية، وجب علينا أن نفرض وجودها، ونفصل في القاعدة على مقتضى هذا الفرض؛ لأنه ممكن الحصول.
وإن كان خبر آحاد، فهو وإن كان ظني الثبوت، إلا أنه قد يكون خاصًّا فيكون قطعي الدلالة، والمعارض له من القرآن عامًّا فيكون ظنيها، فيكون لكل منهما قوة من وجه، فيتعادلان، فإهدار أحدهما ترجيح بلا مرجح، بل لا بد من الجمع بينهما بحمل أحدهما على ما يوافق الآخر، فنكون قد أعملناهما معًا.
فإن قال: إن مذهبي أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها؛ فهو في العمل مقبول، وإلا فالتوقف لأنه حينئذ مخالف لأصول الشريعة، ومخالفها لا يصح، ولأنه ليس له ما يشهد بصحته، وما هو كذلك ساقط، والمستند إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني؛ فعند قبوله تكون المعارضة بين أصلين قرآنيين". كما صرح به فيما سيأتي "ص312"، وكذا بنحوه فيما مضى "3/ 186".
قلنا له: أما قولك: إنه إذا لم يستند إلى قاعدة مقطوع بها مخالف لأصول الشريعة، وليس له ما يشهد بصحته؛ فممنوع، فإن أصول الشريعة تقتضي العمل بما يغلب على ظن المجتهد ثبوته وإن لم يستند إلى قاعدة قطعية، وقد أقمنا الأدلة على عموم ذلك في محله، وأن عدالة الراوي المعتبرة في نظر الشارع شاهدة على صحته، وإلا لما غلب على ظن المجتهد ثبوته.
فإن أردت بالشهادة بصحته الاندراج تحت قاعدة قطعية، وقلنا: إنه لم تحصل هذه الشهادة؛ منعنا لك الكبرى القائلة: وما هو كذلك فساقط، بل هي عين الدعوى؛ فهي مصادرة.
ثم نقول له: لم حصرت القاعدة القطعية في المعنى القرآني؟ ولم لا يكون في السنة المتواترة؟
ثم نقول: إذا كان مستندًا إلى المعنى القرآني كان مقبولًا عندك؛ فما المانع من أن يكون معارضًا بنفسه حينئذ، حيث تقوى في نظرك بالاستناد، ولم هذا التكلف والدوران مع أنه السبب في معارضة الآية للمعنى القرآني الذي استند إليه؟ فالذي يقوى على أن يجعل غيره معارضًا؛ ألا يقوى بنفسه على المعارضة؟! انتهى بتصريف يسير.
وَالثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ إِمَّا بَيَانٌ لِلْكِتَابِ، أَوْ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيَانًا؛ فَهُوَ ثَانٍ1 عَلَى الْمُبَيَّنِ فِي الِاعْتِبَارِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْمُبَيَّنِ سُقُوطُ الْبَيَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْبَيَانِ سُقُوطُ الْمُبَيَّنِ، وَمَا شَأْنُهُ هَذَا؛ فَهُوَ أَوْلَى فِي التَّقَدُّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا؛ فَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تقدم [و] 2 اعتبار الكتاب3.
1 أي: معطوف عليه من ثنيت الشيء ثنيًا: عطفته، أو مردود إليه من ثنى الشيء ثنيًا: رد بعضه عن بعض؛ فكأن البيان والمبين شيء واحد رد بعضه عن بعض، وأما ثاني المدى يعني: من ثنى رجله عن دابة إذا ضمها إلى فخذه؛ فلا يناسب هنا فتدبر. "ف". وفي "ط": "ثان عن".
2 زيادة من الأصل، وسقطت من جميع النسخ المطبوعة و"ط.
3 رد الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة""ص491-494" على هذا الدليل بقوله: "والجواب أن نقول له: ما المراد من سقوط المبين في قولك: يلزم من سقوط المبين سقوط البيان
…
إن كان مرادك نسخه بوحي آخر؟ قلنا: فهذا الوحي هو الذي أسقط البيان أيضًا مباشرة، لا بواسطة إسقاط المبين؛ فإنه لما نسخ المبين لم ينسخ ظاهره، وإنما نسخ المراد منه، والمراد منه هو معنى البيان.
وإن أردت بسقوطه عدم وروده في القرآن؛ فلا نسلم أنه يلزم من ذلك سقوط البيان، وعدم اعتباره إذا ورد مشتملًا على الحكم وتفاصيله، كل ما في الأمر أنه لا يقال له: بيان، وهذا لا ضير فيه، فلو فرضنا أن الله تعالى لم يوجب الصلاة في الكتاب، وصدر من النبي صلى الله عليه وسلم فعله للصلاة، وقوله:" صلوا كما رأيتموني أصلي"؛ علمنا من ذلك وجوبها وكيفيتها.
وأما إذا ورد مشتملًا على التفاصيل فقط دون الحكم المفصل؛ فلا يفهم منه شيء لكونه فصل شيئًا لم يعلم ما هو، لا لعدم كونه حجة، على أن هذا لا يمكن صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة.
وأما قولك: ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين؛ فإن أردت بسقوط البيان نسخه قلنا: نسخه نسخ للمراد من المبين.
وإن أردت عدم ورود البيان قلنا: فما المراد بعدم سقوط المبين؟ إن أردت إمكان العمل به؛ فممنوع، وإن أردت قيام دلالته على الحكم إجمالًا إلى أن يأتي البيان؛ فمسلم، ولكن ما الفائدة =
.........................................................................
= منه وحده ما دام العمل لم يمكن به؟
ولو سلمنا لك هذا كله، فلا نسلم لك قولك: وما شأنه هذا فهو أولى بالتقدم؛ لأن ما ذكرته من حكاية استلزام السقوط وعدمه، إنما ينتج مجرد التبعية كالفرع مع الأصل، لا تبعية الضعيف الذي لا يقوى على معارضة متبوعه القوي، بل جهة كونه بيانًا تقتضي تقديمه على المبين إذا ظن التعارض فيعمل بالبيان؛ ولذلك استدل من قال بتقديم السنة على الكتاب بقوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} المفيد أنها قاضية على الكتاب.
وأما قوله فيما بعد "ص311": "إن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب، فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، وليست السنة هي المثبتة للحكم دون الكتاب، كما إذا بين مالك معنى آية فعملنا بمقتضاه؛ فلا يصح لنا أن نقول: إنا عملنا بقوله دون أن نقول: عملنا بقول الله تعالى" ا. هـ ملخصًا.
ففيه أن خصمه لم يقل باطراح الكتاب، وإنما قال بالمساواة وإعمال الدليل والجمع بينهما.
وأما قوله: بل إن ذلك المعبر في السنة
…
إلخ؛ فهذا اعتراف بمذهب خصمه، وبما يتنافى مع تأخير السنة عن الكتاب في الاعتبار.
وأما قوله: وليست السنة هي المثبتة للحكم
…
إلخ؛ فمسلم ونحن نقول به، وينافي مذهبه، وإن أراد أن الكتاب وحده هو المثبت؛ فغير مسلم، وقياسه على تفسير مالك باطل، فإن قول مالك ليس بحجة، بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم وتفسيره؛ فإنه وحي وحجة.
ولو سلمنا له ذلك لم يكن خلافه إلا في تسمية السنة دليلًا حينئذ؛ فيكون الخلاف لفظيًّا لا نجد له باعثًا عليه، ما دام متفقًا معنا على أن السنة أثرت في الكتاب وحملته على خلاف ظاهره.
ثم نرجع إلى أصل الشبهة؛ فنقول: إنا لو سلمنا اقتضاء ما ذكرت تقديم المبين على البيان؛ فلا نسلمه على إطلاقه، وإنما نسلمه عند عدم إمكان الجمع بينهما؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهدار أحدهما.
ثم نقول: القرآن قد يكون بيانًا للقرآن وقد يكون بيانًا للسنة، وقد تكون السنة بيانًا للسنة؛ فهل تقول: إن رتبة البيان التأخير في جميع هذه الأحوال؟ =
وَالثَّالِثُ: مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ؛ كَحَدِيثِ مُعَاذٍ: "بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: أجتهد رأيي1، الحديث.
= ثم نقول: هل يصح القول بالتعارض بين الدليلين فضلًَا عن القول بإهدار أحدهما بعد الاعتراف بأن أحدهما بيان والآخر مبين، وبعد التعبير عنهما بهذين العنوانين؟
وأما قولك فيما لم يكن بيانًا: إنه لا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب؛ فلا شك أن مرادك: أن لا يوجد في الكتاب ما يخالفه، فإن أردت ما يخالفه قطعًا؛ سلمنا لك ذلك، ولكن هذا لا يستلزم ضعف السنة عن الكتاب، بل هذا أمر لا بد منه في جميع أنواع الوحي، حتى بين الآيات بعضها مع بعض؛ لأنه لا يمكن المخالفة بين أحكام الله تعالى مطلقًا.
وإن أردت ما يخالفه ظنًّا؛ لم نسلم لك اشتراط عدم وجوده في القرآن، بل قد يوجد كما توجد مثل هذه المخالفة بين الآيتين؛ ويجب تأويل أحد الدليلين حينئذ والجمع بينهما لئلا يهدر الآخر بلا مرجح.
1 أخرجه أحمد في "المسند""5/ 230، 236، 242" وأبو داود في "السنن""كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، 4/ 18-19/ رقم 3592"، والترمذي في "الجامع""أبوب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي، 3/ 616/ رقم 1327"، والدارمي في "السنن""المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة، 1/ 60"، والطيالسي في "المسند""1/ 286، منحة المعبود"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى""2/ 347، 584"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""ص154-155، 188-189"، وابن عبد البر في "جامع البيان""2/ 55-56"، والبيهقي في "السنن الكبرى""10/ 114" و"معرفة السنن والآثار""1/ 173-174"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية""2/ 272"، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير""1/ 105-106/ رقم 101"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير""1/ 215"، وعبد بن حميد في "المنتخب""124"، وابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام""6/ 26، 35 و7/ 111-112"، من طرق عن شعبة عن أبي عون الثقفي؛ قال: سمعت الحارث بن عمرو يحدث عن أصحاب معاذ من أهل حمص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له
…
وذكره، وذكر بعضهم أن شعبة قال في الحارث:"ابن أخي المغيرة بن شعبة".
ورجال إسناد الحديث ثقات إلى الحارث بن عمرو؛ فأبو عون اسمه محمد بن عبيد الله =
.........................................................................
= الثقفي، الكوفي، الأعور، ثقة، من الرابعة، كما في "التقريب""2/ 187"، و"التهذيب""9/ 322".
ومدار إسناد الحديث على الحارث بن عمرو، قال الترمذي عقبه:"لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
فتحرير حاله وبيان أصحاب معاذ، وهل هم الذين رفعو الحديث أم رووه عن معاذ وهو الذي رفعه، هذه الأمور هي الفيصل في الحكم على الحديث.
الكلام على الحارث بن عمرو:
قال ابن عدي في "الكامل""2/ 613": "سمعت ابن حماد يقول: قال البخاري: الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن أصحاب معاذ عن معاذ، روى عنه أبو عون، لا يصح ولا يعرف، والحارث بن عمرو وهو معروف بهذا الحديث الذي ذكره البخاري عن معاذ لما وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فذكره" انتهى بحروفه.
قلت: المتمعن في هذا النقل يتأكد له ما قاله الترمذي من أن حديث معاذ لا يعرف إلا من طريق الحارث هذا، ووجدت الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في "التاريخ الكبير""2/ 1/ 177، 275"، يقول في الحارث وحديثه هذا:"لا يصح ولا يعرف إلا بهذا".
ونقله عنه العقيلي في "الضعفاء الكبير""1/ 215"، وارتضاه بسكوته عنه، وكذلك فعل الحافظ ابن كثير القرشي في "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب""ص152".
وجهل الحارث بن عمرو جماعة من أهل العلم؛ منهم ابن الجوزي؛ فقال في "العلل المتناهية""2/ 272": "
…
ثبوته لا يعرف لأن الحارث بن عمرو مجهول
…
"، وقال الجورقاني في "الأباطيل" "1/ 106": "هذا حديث باطل، رواه جماعة عن شعبة عن أبي عون الثقفي عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة كما أوردناه، واعلم أنني تصفحت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه، فلم أجد له طريقًا غير هذا، والحارث بن عمرو هذا مجهول".
قلت: وقال بنحو كلام الجورقاني هذا شيخه ابن طاهر القيسراني في تصنيف مفرد في طرق هذا الحديث، ونقل خلاصة كلامه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 183"؛ فقال: "اعلم أنني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت عنه من لقيته من أهل =
...........................................................................
= العلم بالنقل؛ فلم أجد له غير طريقين: إحداهما طريق شعبة، والأخرى عن محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ، وكلاهما لا يصح".
ثم أفاد الحافظ ابن حجر أن الخطيب البغدادي أخرجه في كتاب "الفقيه والمتفقه" من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا؛ لكان كافيًا في صحة الحديث. ا. هـ.
ولا بد هنا من ضرورة التأكيد على صحة ما قدمناه عن جماعة من جهابذة الجرح والتعديل أن الحارث بن عمرو قد تفرد بالحديث عن أصحاب معاذ، ومجرد وجود طرق أخرى من غير طريق أصحاب معاذ، لا يعني أن الحارث لم يتفرد به.
وهنا طريقان غير طريق الحارث:
الأولى: التي ذكرها ابن طاهر: محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ، وهي غير صحيحة كما قال ابن طاهر؛ للإبهام الذي فيها، ولضعف رواتها.
والثانية: طريق عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وتفرد بها عبادة بن نسي -بضم النون، وفتح السين، بعدها ياء مشددة- وهو من الرواة الأردنيين، يكنى أبا عمر، ثقة فاضل مات سنة ثماني عشرة ومائة؛ كما في "التهذيب""5/ 113".
وروى هذا الحديث عن عبادة بن نسي محمد بن سعيد بن حسان، وقد أبهم في رواية الإمام سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب "المغازي" له؛ كما في "النكت الظراف""8/ 422" لابن حجر، و"تحفة الطالب" "ص153" لابن كثير؛ فوقع إسناد الحديث عنده هكذا: قال الإمام سعيد بن يحيى: حدثني أبي حدثني رجل عن عبادة بن نسي به.
ولكن وقع التصريح به في "سنن ابن ماجه""1/ 21/ رقم 55"، ومن طريقه الجورقاني في "الأباطيل""1/ 108-109/ رقم 102"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق""16/ 310/ أ"؛ فرواه من طريق الحسن بن حماد سجادة -صدوق- ثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن سعيد بن حسان عن عبادة به.
قال الجورقاني عقبه: "هذا حديث غريب"، وذكره ابن القيم في "تهذيب السنن" "5/ 213" وقال:"هذا أجود إسنادًا من الأول "أي: حديث معاذ المتكلم عليه"، ولا ذكر للرأي فيه" ا. هـ. =
......................................................................
= قلت: ولفظ هذا الحديث: "لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، فإن أشكل عليك أمر، فقف حتى تبينه أو تكتب إليّ فيه".
وذكره الجورقاني وحسنه مع غرابته كما تقدم ليبين بطلان لفظ حديث معاذ هذا، إذ أورده تحت عنوان "في خلاف ذلك".
وما أصاب الجورقاني ولا ابن القيم في قولهم: إن إسناد هذا الحديث أجود من الحديث الذي فيه للرأي ذكر، إذ فيه "محمد بن سعيد بن حسان" وهو المصلوب، المتهم الكذاب.
قال ابن كثير في "تحفة الطالب""ص155" بعد أن ذكر طريق الأموي في "مغازيه" بوجود المبهم فيه، ومن ثم طريق ابن ماجه المبينة أنه المذكور؛ فقال:"فتبينا بهذا أن الرجل الذي لم يسم في الرواية الأولى، هو محمد بن سعيد بن حسان، وهو المصلوب، وهو كذاب وضاع للحديث، اتفقوا على تركه".
ولهذا قال البوصيري في "زوائد ابن ماجه""ورقة 5/ ب": "هذا إسناد ضعيف، محمد بن سعيد هو المصلوب، اتهم بوضع الحديث"، وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 122":"لا يصلح حديثه لاستشهاد ولا متابعة".
نعم، لم يتفرد به محمد بن سعيد المصلوب؛ فقد رواه آخر عن عبادة بن نسي، ولكن إسناده لا يفرح به؛ فقد أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "16/ 310/ أ" من طريق سليمان الشاذكوني: نا الهيثم بن عبد الغفار عن سبرة بن معبد عن عبادة به ولكن الشاذكوني كذاب؛ فهذه الطريق كالماء، لا تشد شيئًا.
فالخلاصة أن هذين الطريقين غير صحيحين، ولهذا قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي فيما نقله ابن الملقن في "تذكرة المحتاج""ص70"، وابن حجر في "التلخيص" "4/ 183":"لا يسند، ولا يوجد من وجه صحيح"، بل قال ابن الملقن في"البدر المنير" "5/ ق 214":"وهو حديث ضعيف بإجماع أهل النقل فيما أعلم"، ونقل فيه عن ابن دحية في كتابه "إرشاد الباغية والرد على المعتدي مما وهم فيه الفقيه أبو بكر بن العربي":"هذا حديث مشهور عند ضعفاء أهل الفقه، لا أصل له؛ فوجب اطراحه".
عودة على الحارث بن عمرو:
اضطرب الإمام الذهبي في الحكم على "الحارث بن عمرو"؛ فقال في ترجمته في =
.......................................................................
= "الميزان""1/ 439": "ما روى عن الحارث غير أبي عون؛ فهو مجهول"، وأورده في "مختصر العلل""ص1046-1047"، وقال:"قال ابن الجوزي وغيره: الحارث مجهول، قلت "الذهبي": ما هو مجهول، بل روى عنه جماعة، وهو صدوق إن شاء الله".
كذا قال هنا، مع أنه قال في "الميزان":"مجهول"؛ فانظر إلى هذا الاضطراب1.
ولم يذكر لنا الجماعة الذين رووا عنه، أما إخراج بعضهم له من حيز الجهالة -كما فعل الكوثري في "مقالاته""ص60-61"- بمجرد قول شعبة "ابن أخي المغيرة بن شعبة"؛ فلا شيء لأنه لم يقل أحد من علماء الحديث أن الراوي المجهول إذا عرف اسم جده أو بلده بله اسم أخي جده، خرج بذلك عن جهالة العين إلى جهالة الحال، قال الخطيب في "الكفاية": "المجهول عند أهل الحديث من لم يعرفه العلماء ولا يعرف حديثه إلا من جهة واحد
…
"، ومن ثَمَّ؛ فإن قول "وهو ابن أخي المغيرة بن شعبة" يحتمل أن تكون ممن هو دون شعبة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط من الاستدلال.
أصحاب معاذ:
ضعف هذا الحديث كثير من المحدثين بجهالة أصحاب معاذ، قال ابن حزم:"هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق"، "قلت: أي طريق الحارث"، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا؛ فلا حجة فيمن لا يعرف من هو، وقال بعد نقل البخاري السابق فيه ما نصه: "وهذا حديث باطل لا أصل له"، وقال الجورقاني: "وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون، وبمثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة"، وكذا قال ابن الجوزي في "الواهيات".
وأعله الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث البيضاوي""ص87، بتحقيق العجمي" بجهالة أصحاب معاذ أيضًا، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى.
ورد العلامة ابن قيم الجوزية هذه العلة؛ فأجاب عنها بقوله في "إعلام الموقعين" "1/ =
_________
1 وظفرت له في "السير""18/ 72" في ترجمة "الجويني" باضطراب آخر؛ إذ قال: ".... بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة من أهل حمص عن معاذ؛ فإسناده صالح"؛ فجعل إسناده صالحًا هنا، مع تصريحه بجهالة الحارث.
........................................................................
= 243": "وأصحاب معاذ وإن كانوا غير مسمين؛ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى
…
"1، وكذا قال ابن العربي في "العارضة" "6/ 72-73" وقبله الخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 189".
قلت: وكلامهم متين وقوي، ولكن علة الحديث غير محصورة في جهالة أصحاب معاذ؛ فالحديث يعل بالعلة الأولى والأخيرة، ولا يعل بهذه، ولبسط ذلك وتوضيحه أقول في كون هذه العلة قاصرة غير صالحة: أخرج البخاري -الذي شرط الصحة- حديث عروة البارقي: "سمعت الحي يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات"، وقال مالك في القسامة:"أخبرني رجال من كبراء قومه"، وفي "الصحيح" عن الزهري:"حدثني رجال عن أبي هريرة: من صلى على جنازة؛ فله قيراط".
فجهالة أصحاب معاذ جرح غير مؤثر، لا سيما أن مذهب جمع من المحدثين كابن رجب وابن كثير تحسين حديث المستور من التابعين، والجماعة خير من المستور كما لا يخفى، ولهذا لم يذكر ابن كثير في "تحفة الطالب" هذه العلة ألبتة، مع أن كلامه يفيد تضعيفه للحديث.
تنبيه: وقال الذهبي في "مختصر العلل""ص1046-1047" في رد هذه العلة: "وقال، أي ابن الجوزي: وأصحاب معاذ لا يعرفون، قلت "الذهبي": ما في أصحاب محمد بحمد الله ضعيف لا سيما وهم جماعة".
كذا وقع فيه، والعبارة لا تخلو من أمرين؛ إما سليمة فهذا وهم من الذهبي رحمه الله فأصحاب معاذ ليسوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يقال فيهم هذا الكلام، والسياق يدل على أنهم من التابعين، والتابعي يجوز أن يكون ضعيفًا، وإما خطأ من النساخ، والصواب "أصحاب معاذ"، وهذا الظاهر؛ فحينئذ يتوافق ما قلناه مع ما عنده، مع ملاحظة أن التابعي يجوز أن يكون ضعيفًا.
الكلام على وصله وإرساله:
وخير من تكلم وحرر هذا المبحث الدارقطني في "العلل""م 2/ 48/ ب و9/ أ" =
_________
1 قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي""4/ 559" بعد أن نقل رد ابن القيم لعلة جهالة أصحاب معاذ: "قلت: الكلام كما قال ابن القيم، لكن ما قال في تصحيح حديث الباب ففيه عندي كلام".
.........................................................................
= "مخطوط"؛ فقال: "رواه شعبة عن أبي عون هكذا "أي: موصولًا"، وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه، والمرسل أصح، قال أبو داود "أي: الطيالسي": أكثر ما كان يحدثنا شعبة عن أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مرة: عن معاذ" ا. هـ.
وقال الترمذي في الحديث: "ليس إسناده عندي بمتصل"، قال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 118":"وكأنه نفى الاتصال باعتبار الإبهام الذي في بعض رواته، وهو أحد القولين في حكم المبهم".
وأعل العراقي الحديث في "تخريج أحاديث البيضاوي" بعلل ثلاث: الأولى الإرسال هذا، الثانية جهالة أصحاب معاذ، الثالثة جهالة الحارث بن عمرو.
مسرد عام بأسماء من ضعف الحديث:
ضعف حديث معاذ هذا جماعة من جهابذة الحديث، على رأسهم أميرهم الإمام البخاري، وتلميذه الترمذي، والدارقطني، والعقيلي، وابن طاهر القيسراني، والجورقاني -بالراء المهملة وليس بالمعجمة، ذاك الجوزجاني صاحب "أحوال الرجال"- وابن حزم، والعراقي، وابن الجوزي، وابن كثير، وابن حجر، وغيرهم من الأقدمين، واضطرب فيه الذهبي كما بينا.
مسرد بأسماء من صحح الحديث:
صحح حديث معاذ هذا أبو بكر الرازي، وابن العربي المالكي في "عارضة الأحوذي"، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وغيرهم من المتأخرين.
ملحظ من صححه ومن ضعفه:
نظر مصححوه إلى عدم كون جهالة أصحاب معاذ علة قادحة فيه، وتناسوا الإرسال وجهالة الحارث بن عمرو، أما من ضعفه؛ فبعضهم ذكر العلل القادحة -على ما بيناه- وهما علتا الإرسال وجهالة الحارث، كالحافظ ابن كثير في "تخريج أحاديث منتهى ابن الحاجب"، وبعضهم زاد علة غير قادحة -على ما حققناه- وهي جهالة أصحاب معاذ، ونحا بعضهم منحى آخر؛ فقال بعد أن اعترف بضعفه وأنه لا يوجد له إسناد قائم:"لكن اشتهاره بين الناس وتلقيهم له بالقبول مما يقوي أمره"؛ كما فعل عبد الله الغماري في "تخريج أحاديث اللمع في أصول الفقه""ص299"، وسبقه أبو العباس بن القاضي فيما نقله عنه الحافظ في "التلخيص""4/ 183"، وقال الغزالي في "المستصفى" "2/ 254": "وهذا حديث تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر أحد فيه طعنًا وإنكارًا، =
........................................................................
= وما كان كذلك؛ فلا يقدح فيه كونه مرسلًا، بل لا يجب البحث عن إسناده"، وأطلق صحة جماعة من الفقهاء أيضًا كالباقلاني وأبي الطيب الطبري لشهرته وتلقي العلماء لهم، وكأني بالجورقاني يرد عليهم عندما قال في "الأباطيل" "1/ 106": "فإن قيل لك: إن الفقهاء قاطبة أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه، فقل: هذه طريقه، والخلف قلد فيه السلف، فإن أظهروا غير هذا مما ثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم، وهذا مما لا يمكنهم ألبتة"، وكذلك ابن الجوزي عندما قال في "العلل المتناهية" "2/ 272": "وهذا حديث لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه".
هل معنى حديث معاذ صحيح؟
اختلف العلماء: هل معنى هذا الحديث صحيح أم لا؟ فمن نفى صحة معناه فنفيه لصحة مبناه من باب أولى، ولكن كان سبب صحة معناه عند بعضهم صحة مبناه؛ فكأنه صححه لشواهده، واعتدل آخرون فنفوا صحته من حيث الثبوت، وأثبتوها من حيث الدلالة، وإن كان إطلاق ذلك لا يسلم من كلام كما سيتبين معك إن شاء الله تعالى.
فممن صحح معنى الحديث وانبنى عليه تصحيحه لمبناه الإمام الذهبي؛ فقال في "مختصر العلل": "هذا حديث حسن الإسناد، ومعناه صحيح؛ فإن الحاكم يضطر إلى الاجتهاد، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر".
فتحسينه لإسناده غير صحيح؛ إذ لم يسلم من علة الإرسال وجهالة الحارث، ولكن تصحيح معناه فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص صحيح، لا مجال للقول بخلافه، لا سيما أن شواهد كثيرة من نصوص أخرى تؤكد هذا المعنى.
وأطلق ابن الجوزي تصحيح معنى الحديث في "العلل المتناهية""2/ 272" وإن كان يرى عدم ثبوته؛ فقال: "
…
ولعمري إن كان معناه صحيحًا، إنما ثبوته لا يعرف".
قلت: وإطلاق تصحيح معناه فيه نظر؛ فمتنه لا يخلو من نكارة؛ إذ فيه تصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة؛ فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا، وعدم التفريق بينهما؛ لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم. أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة =
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ: "إِذَا أَتَاكَ أَمْرٌ؛ فَاقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ فِيهِ رَسُولُ الله، صلى الله عليه وسلم....."1 إلخ.
= الضعيفة" "رقم 881".
الخلاصة وتنبيهات:
وخلاصة ما تقدم أن حديث معاذ هذا أعل بثلاث علل، لم تسلم واحدة منها، وهي جهالة أصحاب معاذ، وبقيت اثنتان، وهي جهالة الحارث والإرسال؛ فهو ضعيف من حيث الثبوت، وصحيح في بعض معناه، ومنكر في التفرقة بين الكتاب والسنة من حيث الحجية، وحصر حجية السنة عند فقد الكتاب؛ كما ذكرناه آنفًا.
ونختم الكلام على هذا الحديث بملاحظتين:
الأولى: أفاد ابن حزم في "ملخص إبطال القياس""ص14" أن بعضهم موه وادعى فيه التواتر!! قال: "وهذا كذب، بل هو ضد التواتر؛ لأنه لا يعرف إلا عن أبي عون، وما احتج به أحد من المتقدمين"، وأقره الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير""4/ 183".
والأخيرة: قال ابن طاهر القيسراني: "وأقبح ما رأيت فيه قول إمام الحرمين في كتاب "أصول الفقه": والعمدة في هذا الباب على حديث معاذ! قال: وهذه زلة منه، ولو كان عالمًا بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة".
وتعقبه الحافظ في "التلخيص""4/ 183"؛ فقال: "قلت: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبر بألين من هذه العبارة مع أن كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه؛ فإنه قال: والحديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل، كذا قال، رحمه الله".
اللهم ارزقنا الأدب مع علمائنا ومشايخنا، وتقبل منا، وارزقنا السداد والصواب، وجنبنا الخطأ والخلل والفحش.
1 أخرجه النسائي في "المجتبى""كتاب آداب القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم، 8/ 231"، ومن طريقه الضياء في "المختارة""رقم 133"، والدارمي في "سننه""1/ 60"، وابن أبي شيبة في "مصنفه""7/ 241، ط دار الفكر"، ومن طريقه ابن عاصم -كما في "مسند الفاروق""2/ 548"- ومن طريقه الضياء في "المختارة""رقم 134"، وسعيد بن منصور -ومن =
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: "إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَاقْضِ فِيهِ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ"1.
وَقَدْ بَيَّنَ2 مَعْنَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: "انْظُرْ مَا تَبَيَّنَ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَاتَّبِعْ فِيهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم"3.
وَمِثْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ؛ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى به نبيه، صلى الله عليه وسلم"4
= طريقه البيهقي في "الكبري""10/ 110"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""2/ 99"، وابن عبد البر -المذكور لفظه- في "الجامع""2/ 846/ رقم 1595"، وابن حزم في "الإحكام""6/ 29-30"، والبيهقي "10/ 115" من طرق عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله؛ فكتب إليه، وذكروه بألفاظ، منها المذكور هنا، ومنها ما سيأتي عند المصنف، وإسناده صحيح؛ وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر""1/ 120"، وعزاه ابن كثير في "مسند الفاروق""2/ 548" لأبي يعلى، وفي آخره قصة رؤيا عامل عمر على حمص اقتتال الشمس والقمر، وسبق ذكر إسناده مع بيان ضعفه "2/ 455".
1 هذا اللفظ أخرجه ابن عبد البر في "الجامع""رقم 1596"، وإسناده صحيح، ومضى تخريجه في الذي قبله، وفي "ط":"وما تلتفت".
2 احتاج لهذا الدفع ما يتوهم من قوله: "ولا تلتفت إلى غيره" شمول الغير للسنة، مع أنه إذا وجدت السنة مع الكتاب؛ فلا بد من الالتفات إليها كبيان للكتاب. "د".
3 أخرجه بهذا اللفظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 848/ رقم 1598"، وما قبله يشهد له.
4 أخرجه الدارمي في "السنن""1/ 59"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 848-849/ رقم 1599" -والمذكور لفظه- ورجاله ثقات، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر""1/ 119".
وأخرجه البيهقي في "الكبرى""10/ 115" من طريق آخر عن ابن مسعود.
الْحَدِيثَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا عن سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ؛ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِهِ1.
وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ2 وَالْعُلَمَاءِ.
وَمَا فَرَّقَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ3 رَاجِعٌ إِلَى تَقَدُّمِ اعتبار الكتاب
1 أخرجه الدارمي في "السنن""1/ 59"، والبيهقي في "السنن الكبرى""10/ 115"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""2/ 202-203"، وابن حزم في "الإحكام""6/ 28-29"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 849-850/ رقم 1600، 1601، 1602" من طريق سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد؛ قال: سمعت ابن عباس: إذا سئل
…
به.
وإسناده صحيح، وصححه البيهقي، وانظر "نصب الراية""4/ 64".
2 منه ما عند البيهقي في "السنن""10/ 115" عن زيد بن ثابت أنه قال ذلك لمسلمة بن مخلد لما سأله عن القضاء، وإسناده حسن، قاله ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر""1/ 120".
وناقش الشيخ عبد الغني عبد الخالق هذا الدليل؛ فقال في "حجية السنة""494": "والجواب أن الحديث ذكره بعضهم في الموضوعات، ولو صح؛ لوجب تأويله على أن المراد به الأسهل والأقرب تناولًا، ولا شك أن كتاب الله كذلك، وإنما وجب هذا التأويل لأن قطعي المتن والدلالة من السنة يقدم على ظاهر الكتاب، وهو كثير بالنسبة لمعاذ المشاهد له صلى الله عليه وسلم وإذا كان خبر آحاد؛ فقد يكون قطعي الدلالة والقرآن ظنيها، فيتعادلان؛ فلا يصح التقديم، بل يجب التأويل الجمع بالاجتهاد والنظر في أدلة الترجيح، وأما قول عمر: "انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحدًا"؛ فيجب حمله على ما كان نصًّا واضحًا لم يشكل بمعارضة شيء من السنة، لما ذكرنا، على أن قول عمر ليس بحجة".
3 انظر في بسط ذلك: "أصول السرخسي""2/ 303"، و"كشف الأسرار""2/ 203"، و"فواتح الرحموت""1/ 58" و"التوضيح على التنقيح""3/ 75"، و"البدخشي""1/ 55".=
عَلَى اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ اعْتِبَارَ الْكِتَابِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، وَقَدْ لَا يُخَالِفُ غَيْرُهُمْ فِي مَعْنَى تِلْكَ التَّفْرِقَةِ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ كَالْكِتَابِ فِي مَرَاتِبِ الِاعْتِبَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ:
أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَيْسَ الْكِتَابُ بقاضٍ عَلَى السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَتَأْتِي السُّنَّةُ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا؛ فَيُرْجَعُ إِلَى السُّنَّةِ، وَيُتْرَكُ مُقْتَضَى الْكِتَابِ.
وَأَيْضًا؛ فَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَمْرًا فَتَأْتِي السُّنَّةُ فَتُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ السُّنَّةِ1، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا تُقَيِّدُ مُطْلَقَهُ، وَتَخُصُّ عُمُومَهُ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ؛ فَالْقُرْآنُ آتٍ بِقَطْعِ كُلِّ سَارِقٍ؛ فَخَصَّتِ السُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَارِقَ النِّصَّابِ الْمُحْرَزِ2، وَأَتَى بِأَخْذِ الزَّكَاةِ من
1 بعدها في "د" وحدها: "فَتُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ السنة، وحسبك
…
".
2 الدليل على ما ذكر المصنف جملة من الأحاديث، نقتصر على الآتي:
ما أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، وفي كم يقطع؟ 12/ 96/ رقم 6789، 6790، 6791"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1312/ رقم 1684" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"، وفي رواية لمسلم:"لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا"، وهذا في النصاب.
جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ظَاهِرًا؛ فَخَصَّتْهُ بِأَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ1، وَقَالَ تَعَالَى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النِّسَاءِ: 24] ؛ فَأَخْرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا2؛ فَكُلُّ هَذَا تَرْكٌ لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَتَقْدِيمُ السُّنَّةِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً.
وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إِذَا تَعَارَضَا فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ: هَلْ يُقَدَّمُ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ، أَمْ بِالْعَكْسِ، أَمْ هُمَا مُتَعَارِضَانِ3؟
= وما أخرجه أبو داود في "السنن""رقم 1710، 4390"، والنسائي في "المجتبى""8/ 85"، والترمذي في "الجامع""رقم 1289"، وابن ماجه في "السنن""رقم 2596"، والدارقطني في "السنن""4/ 381"، وأحمد في "المسند""2/ 180، 203، 207"، والبيهقي في "الكبرى" "
8/ 278"، وغيرهم من حديث عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مرفوعًا، وفيه: "من سرق منه شيئًا بعد أن يئويه الجرين، فبلغ ثمن المجن؛ فعليه القطع"، وفي رواية: "وليس في شيء من الثمر قطع؛ إلا ما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن؛ ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن؛ فقيه غرامة مثليه وجلدات نكالًا"، وإسناده صحيح، والجرين: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر، وهذا في الحرز، وهو الموضع الذي يحرز فيه الشيء لحفظ المال؛ كالدار، والحانوت، والخيمة، والخزانة، والصندوق، وما شابهه.
وانظر تفصيل المسألة مع أدلتها في "دلائل الأحكام" لابن شداد "4/ 112-115 و119-122"، و"الإرواء""8/ 67-68، 69/ رقم 2408، 2413"، و"أحكام السرقة في الشريعة""ص58 وما بعدها، وص151 وما بعدها" لأحمد الكبيسي.
1 من مثل الإبل والغنم والبقر والذهب والورق، وتجد الأدلة على ذلك في الأصناف المستثناة في "دلائل الأحكام""2/ 567 وما بعدها"، وفي سائر كتب أحاديث الأحكام مثل "النيل"، و"سبل السلام"، و"العمدة" مع "شروحها".
2 لما ثبت في "الصحيحين" من تحريم لذلك، وسيأتي تخريجه "ص383".
3 أي: فإن علم المتأخر منهما نسخ المتقدم، وإلا رجح أحدهما بما يصلح مرجحًا أو جمع بينهما إن أمكن وإلا أخذ بغيرهما، وقولهم:"لا معارضة بين ظني وقطعي" إنما يكون في المعارضة الحقيقة؛ أي: في المعقولات، أما في الشرعيات؛ فلا مانع لأنها في الواقع صورة معارضة فقط، أما المعارضة بمعنى التناقض ذي الوحدات الثمانية؛ فلا أثر لها في الأدلة الشرعية. "د".
وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَرَأَوْا أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْكِتَابِ لَا يُقَدَّمُ1 عَلَى كُلِّ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَا تَضْعُفُ فِي الدَّلَالَةِ عَنْ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ، وَأَخْبَارَ الْآحَادِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ مَعَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ2، وَتَأَوَّلُوا التَّقْدِيمَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الْبِدَايَةِ بِالْأَسْهَلِ الْأَقْرَبِ3، وَهُوَ الْكِتَابُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا؛ فَلَا وَجْهَ لِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ، بَلِ الْمُتَّبَعُ الدَّلِيلُ4.
فَالْجَوَابُ: إِنَّ قَضَاءَ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ لَيْسَ بِمَعْنَى تَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ وَاطِّرَاحِ الْكِتَابِ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ الْمُعَبَّرَ فِي5 السُّنَّةِ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْكِتَابِ؛ فَكَأَنَّ السُّنَّةَ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ لِمَعَانِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44]، فَإِذَا حَصَلَ بَيَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] بِأَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ، وَأَنَّ الْمَسْرُوقَ نِصَابٌ فَأَكْثَرُ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ؛ فَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، لَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ السُّنَّةَ أَثْبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ دُونَ الْكِتَابِ، كَمَا إِذَا بَيَّنَ لنا مالك أو غيره من المفسرين
1 فإن قطعي السند والدلالة من السنة يقدم على ظاهر الكتاب؛ فقول: "لا تضعف" أي: بل قد تقدم كما ذكرنا، وقد يحصل التعارض إذا تساويا في قطعية السند والدلالة، ولذلك قالوا: إنه لم يبق من صور التعارض بينهما ما يرجح فيه الكتاب لسنده؛ إلا ما كان ظني الدلالة منه مع قطعي الدلالة منها مع ظنية ضدها. "د".
2 أي: في تقديم الكتاب عليهما أو تقديمها عليه أو تعارضهما. "د".
3 أي: تناولًا. "د".
4 أي: ما يتعين للدلالة منهما بطريق من طرق الترجيح المذكورة في بابه. "د".
5 في "ط": "بل على إن ذلك المفسر".
مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَعَمِلْنَا بِمُقْتَضَاهُ؛ فَلَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّا عَمِلْنَا بِقَوْلِ الْمُفَسِّرِ الْفُلَانِيِّ دُونَ أَنْ نَقُولَ عَمِلْنَا بِقَوْلِ اللَّهِ أَوْ قَوْلِ رَسُولِهِ، عليه الصلاة والسلام.
وَهَكَذَا سَائِرُ مَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَعْنَى كَوْنِ السُّنَّةِ قَاضِيَةً عَلَى الكتاب أنها مبينة له؛ فلا يتوقف مَعَ إِجْمَالِهِ وَاحْتِمَالِهِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَا أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ1.
وَأَمَّا خِلَافُ2 الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّعَارُضِ؛ فَقَدْ مَرَّ3 فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا اسْتَنَدَ4 إِلَى قَاعِدَةٍ مَقْطُوعٍ بِهَا فَهُوَ فِي الْعَمَلِ مَقْبُولٌ، وَإِلَّا؛ فَالتَّوَقُّفُ، وَكَوْنُهُ مُسْتَنِدًا إِلَى مَقْطُوعٍ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ جُزْئِيٌّ تَحْتَ مَعْنًى قُرْآنِيٍّ
1 انظر مناقشة هذا الكلام فيما مضى في التعليق على "ص298".
2 شروع في الجواب عن الإشكال الثاني، وهو قول بعض الأصوليين بتعارضهما إذا كان ظني الدلالة ولم يعلم تاريخهما؛ فلا يرجح أحدهما على الآخر بكونه كتابًا ولا بكونه سنة، بل إن لم يمكن الجمع بينهما رجح أحدهما بما يسوغ ترجيحه به إن أمكن، وإلا تركا. "د".
3 حيث قال في المسألة الثانية: "وإن كان ظنيًّا؛ فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر، وإلا وجب التثبت فيه"، وقال:"إن هذا المعتبر يرجع إلى أصل قرآني يكون بيانًا له، وإن عامة أخبار الآحاد بيان للقرآن، وذلك معنى رجوعه لأصل قطعي"، ومثله هناك بالأحاديث التي بينت صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج، والأحاديث التي بينت جملة من الربا
…
إلخ، وأنت إذا تأملت وجدت أحاديث الطهارة والصلاة مثلًا وإن كانت شارحة ومفصلة لهذين النوعين من العبادة لا يقال فيها: إنها جزئيات لكلي قرآني إلا باعتبار ضعيف؛ لأنه بدأ بميامنه في الوضوء مثلًا جزئيته لآية الطهارة لا يجعله متعين القصد في الآية؛ إذ الطهارة كما تتحقق على هذه الصفة تتحقق بالبدء بالمياسر، وكذا رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لا تستلزمه آية:{أَقِيمُوا الصَّلاة} ، حتى يكون الخبران الواردان في هذين الجزئيين لهما حكم الجزئي الحقيقي الذي تكون معارضته لغيره معارضة محققة يصح نسبتها لأصله وكليه، ويترتب على ذلك أنه من معارضة قطعيين؛ فهذا كلام خطابي. "د".
4 في "ط": "أسند".
كُلِّيٍّ، وَتَبَيَّنَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ هُنَالِكَ، فَإِذَا عَرَضْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَجَدْنَا الْمُعَارَضَةَ فِي الْآيَةِ، وَالْخَبَرِ مُعَارَضَةَ أَصْلَيْنِ قُرْآنِيَّيْنِ؛ فَيَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَنْ مُعَارَضَةِ كِتَابٍ مَعَ سُنَّةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ وُقُوعُ هَذَا التَّعَارُضِ إِلَّا مِنْ تَعَارُضِ قَطْعِيَّيْنِ1، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَسْتَنِدِ الْخَبَرُ إِلَى قَاعِدَةٍ قَطْعِيَّةٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْقُرْآنِ عَلَى2 الْخَبَرِ بِإِطْلَاقٍ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ3 مَا ذُكِرَ مِنْ تَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ إِنَّمَا غَالِبُهُ فَرْضُ أَمْرٍ جَائِزٍ، وَلَعَلَّكَ4 لَا تَجِدُ فِي الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَقْضِي بِتَوَاتُرِهِ إِلَى زَمَانِ الْوَاقِعَةِ؛ فَالْبَحْثُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ فِي غَيْرِ وَاقِعٍ أَوْ فِي نَادِرِ الْوُقُوعِ، وَلَا كَبِيرَ جَدْوَى فِيهِ، وَاللَّهُ أعلم.
1 أي: وسيأتي الكلام فيه بعد. "د". وفي "ط": "لأنه من تعارض
…
".
2 كما تقدم في رد عائشة حديث: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" بآية: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . "د".
3 هذا جواب الإشكال الثالث، وهو أن السنة أيضًا فيها قطعي السند؛ فلا تقل عن الكتاب في الدلالة. "د".
4 كأنه سلم الإشكال بالمتواترة على مسألته من تقديم الكتاب مطلقًا على السنة، ولكنه جعل أمره هينًا؛ لأنه إما أنه لا توجد سنة متواترة على شرط التواتر، يعني: يرويها من يستحيل تواطؤهم على الكذب في كل طبقة إلى زمنه صلى الله عليه وسلم وإما أن يكون نادرًا لا يستحق البحث والاستشكال. "د".
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
السُّنَّةُ رَاجِعَةٌ فِي مَعْنَاهَا إِلَى الْكِتَابِ؛ فَهِيَ تَفْصِيلُ1 مُجْمَلِهِ، وَبَيَانُ2 مُشْكِلِهِ، وَبَسْطُ3 مُخْتَصَرِهِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لَهُ4، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 5 [النحل: 44] .
1 كالأحاديث المفصلة لمجمل: {أَقِيمُوا الصَّلاة} مثلًَا. "د".
2 كالأحاديث التي أوضحت الغرض من الآيات التي فهم منها الصحابة خلاف مقصودها، مثلًا آية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
…
} إلخ [التوبة: 34] ، لما نزلت كبر ذلك على الصحابة، فسألوا عنها؛ فقال عليه، الصلاة والسلام:"إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم". فكبّر عمر، وكالحديث الذي رفع عن الصحابة إشكال آية:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] ، وبيانه أن المراد بالظلم الشرك كما في آية لقمان. "د".
قلت: استشكالهم آية لقمان ورد في خبر صحيح وقد مضى تخريجه "3/ 402" أما قوله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة
…
" إلخ أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم 1664"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 408-409"، وهو في "السلسلة الضعيفة" لشيخنا الألباني "رقم 1319".
3 كما في آية: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] ؛ فقد بسط قصتها الحديث الذي أخرجه الخمسة، وشرح ما حصل فيها من النهي عن كلامهم، ثم النهي عن قربان نسائهم
…
إلى آخر القصة. "د".
قلت: وقصة الذين تخلفوا ثابتة صحيحة مضى تخريجها "2/ 270".
4 قوله: "وذلك لأنها بيان"؛ فهو يقصد به أن جميعها بيان فقط، ولا شيء منها بمستقل، كما يدل عليه قوله: "فلا تجد في السنة
…
" إلخ، ثم إن هذا عين دعواه كما اعترف به أخيرًا حيث قال: "وذلك معنى كونها راجعة إليه"؛ فيكون هذا التعليل منه مصادرة؛ فكان عليه أن يستدل على الدعوى بالآية مباشرة، قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص520".
5 اعترض الشيخ عبد الغني عبد الخالق على هذا الاستدلال بالآية؛ فقال في "حجية السنة""ص520-522": "وأما قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ؛ =
...........................................................................
= فلا دلالة فيه على حصر علة إنزال الذكر في التبيين.
سلمنا أنه يدل على هذا الحصر -على حد قول من يقول: إن الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر- وأن معنى الآية: وما أنزلنا إليك الذكر "الكتاب" إلا تبين للناس ما نزل إليهم فيه من الأحكام، لكنه لا ينتج مطلوبه من أن وظيفة سنته صلى الله عليه وسلم البيان لما في الكتاب فقط، وأنه لا شيء منها بمستقل؛ إذ كل ما فهم من هذا الحصر أنه إنما أنزل الكتاب ليبينه صلى الله عليه وسلم للناس، لا ليهمل بيانه، ويترك الناس جاهلين بما فيه من الأحكام، وهذا لا ينفي أنه قد يستقل بسن أحكام لا نص عليها في الكتاب.
مثلًا: إذا أعطيت مدرسًا كتابين وقلت له: لم أعطك الكتاب الأول إلا لتبينه لتلاميذك وتشرحه لهم؛ فهل معنى هذا القول أنك لم تعطه الثاني إلا ليبين به الأول، وأنه ليس في الثاني زيادة عما في الأول من القواعد، وإنما الذي فيه مجرد بسط قواعد الأول وشرحها؟ كلا.
فما نحن فيه كذلك، أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وحيين: أحدهما متلو والآخر غير متلو، وقال له: لم أنزل عليك المتلو إلا لتبين للناس ما فيه من الأحكام، فهذا لا يقتضي أن يكون غير المتلو بيانًا للمتلو فقط، وأنه ليس فيه ما لم ينص عليه الأول.
ولئن سلمنا أن الآية تفيد أن غير المتلو للبيان؛ فليس فيها ما يدل على أنه بيان لمجمل الكتاب فقط، فإن البيان في الآية معناه إظهار الحكم للناس، وتعريفهم به، سواء أكان ابتداء لم يسبق أن ذكر إجمالًا في كتاب ولا في سنة، أم لم يكن كذلك، و {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في الآية شامل للكتاب وغيره من أنواع الوحي، والذكر الكتاب فقط على الرأي المشهور، ومعنى الآية حينئذ:"وما أنزلنا إليك الكتاب المعجز للبشر؛ إلا ليكون دليلًا على صحة رسالتك، مذكرًا لهم بما يستحقونه من العقاب على مخالفة أحكام الله، ومن الثواب على امتثالها؛ فيمكنك حينئذ أن تظهر للناس جميع ما أنزل إليهم من أنواع الوحي استقلالًا أو بيانًا، ويكون إظهارك هذا حجة عليهم، حيث أثبتنا صحة رسالتك بهذا الذكر، وبشرناهم وأنذرناهم فيه"، هذا إن أريد بالذكر الكتاب.
فإن أريد به العلم كما قاله بعض المفسرين؛ فالأمر ظاهر، إذ لا يكون خاصًّا بالكتاب، فالمعنى عليه "وأنزلنا إليك جميع أنواع الوحي لتبين ما فيها من الأحكام للناس، وتظهرها لهم".
والبيان قد ورد في القرآن بمعنى مطلق الإظهار، ووصف به الكتاب نفسه في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين} [القصص: 2]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ =
فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ أَمْرًا إِلَّا وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ دَلَالَةً إِجْمَالِيَّةً أَوْ تَفْصِيلِيَّةً، وَأَيْضًا؛ فَكُلُّ مَا دَلَّ1 عَلَى أَنَّ القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها2؛
= الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] .
فليس في الآية دلالة على ما ذهب إليه المستدل، ولو فرض جدلًَا أن في الآية احتمالًا آخر يفيد مذهبه، ولم نهتد إليه؛ فماذا يفيده هذا الاحتمال، سواء أكان راجحًا أم مرجوحًا، والمسألة قطعية لا ينفع فيها مثل ذلك؟ ".
1 لم يستدل عليه في موضعه من مباحث الكتاب العزيز، بل قال: إنه "لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة". "د".
2 قوله: "إن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها"، فإن أراد بذلك أنه ذكر فيه جميع القواعد الإسلامية الأصلية، وذكر فيه جميع الأدلة التي يعتمد عليها المجتهدون في فهم الأحكام الفرعية، سواء أكانت هذه الأدلة مستقلة بإفادة حكم لم ينص عليه الكتاب، أم مبينة لحكم أجمله؛ فنحن نقول وتؤمن به، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولكن ماذا في ذلك: أيستلزم دعواه؟ كلا، وكل ما دل على ذلك من قوله تعالى:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} ، وقوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} على تسليم أن ليس المراد به اللوح المحفوظ؛ فهو لا يدل على دعواه كذلك.
وإن أراد بذلك أنه ذكر فيه كل حكم على سبيل الإجمال ونص عليه؛ فهذا لا نسلمه إذ الواقع يكذبه، والآيات التي ذكرها يجب حملها على خلاف ذلك، وإلا كانت كاذبة، على أنا لو أخذنا بظاهرها وسلمنا صحة ذلك جدلًا؛ لكانت دليلًا على أن القرآن كلية الشريعة، بمعنى أنه احتوى على كل حكم إجمالًا وتفصيلًا، ونص على ذلك كله، ولم يكن لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان، ولا استقلال، أتقول أنت بذلك؟ كلا، فما الذي تقوله في الخروج من هذا الإشكال؟ ألست ستقول: إن القرآن احتوى على التفاصيل بمعنى أنه بين بيانًا شافيًا أن السنة حجة فيها؟ فهذا الذي تقوله في التفاصيل هو ما قلناه نحن في غيرها.
فإن قلت: إني أتخلص من ذلك بأن أقول: إن القرآن قد اشتمل على كليات هذه التفاصيل؛ قلنا: سلمنا لك جدلًا أنه اشتمل على هذه الكليات، وأن التفاصيل في الواقع مندرجة فيها، ولكن أيمكنك أنت وغيرك ممن هو أعلى منك عقلًا وفهمًا وإدراكًا لمعاني القرآن أن تستنبطوا جميع هذه التفاصيل من تلك الكليات؟ إن قلت نعم؛ فأنت مكابر، ولا يصح معك الكلام، وإن =
فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ1: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] .
= قلت لا؛ قلنا لك: أفيصح حينئذ أن يقال: إن القرآن تبيان لهذه التفاصيل التي لا يمكن لمجتهد من هذه الأمة أن يدركها منه، مع أن كلمة "تبيان" تدل على منتهى الإظهار والإيضاح؟ لا يصح ذلك، فدل على أن تأويلك هذا غير صحيح.
على أنا لو سلمنا لك أنه يمكنك أو يمكن غيرك إدراك هذه التفاصيل؛ أفلا نجد أنفسنا قائلين حينئذ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مبين أيضًا، كما هو غير مستقل؟ فإنا على هذا الفرض نفهم جميع الأحكام إجمالًا وتفصيلًا؛ فلا داعي لتأسيس الرسول بالبيان، ولا بالاستقلال، ولكنا نقول بالاتفاق: إنه مبين ابتداء ومؤسس لهذه التفاصيل، لا مؤكد لها.
فإن قلت: إني أقول: إننا لا يمكننا إدراكها، ولكن صح وصف القرآن بأنه تبيان لها بالنظر إلى الواقع، وصح وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مبين لها ابتداء ومؤسس لهال بالنظر إلى عقولنا؛ قلنا: فكذلك نحن نقول: إن الأحكام التي استقلت بها السنة ولم يرد في القرآن نص عليها يمكننا أن ندركها منه، بوصف الرسول بأنه مؤسس لها ابتداء بالنظر إلى الظاهر، وإن كانت في الواقع مندرجة تحت كليات القرآن، ومحل النزاع هو النص بحيث يمكن الفهم منه للمجتهدين، لا الاندراج في الواقع ولو لم يمكن الفهم؛ إذ ما قيمة هذا الاندراج بالنسبة للمجتهد الذي يريد أن يستنبط.
وبالجملة؛ فأفعال الصلاة، وميراث الجدة لم ينص عليهما القرآن نصًّا يمكن لعقولنا أن تفهمهما منه، ووصف القرآن بأنه تبيان لهما وكل منهما أسسه النبي صلى الله عليه وسلم في عقولنا ابتداء، كل ما في الأمر أن هذا التأسيس بالنظر لأفعال الصلاة نسميه بيانًا في الاصطلاح؛ لأن حكم الصلاة منصوص عليه في القرآن مجملًا، وبالنظر لميراث الجدة لا يسمى بيانًا؛ لأنه لم ينص عليه مطلقًا، بل نسميه استقلالًا.
فإن جعلت قوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} مبطلًا لتأسيس ميراث الجدة من ناحية الإجمال؛ وجب القول بأنه مبطل لتأسيس حكم أفعال الصلاة وتفاصيلها، ولا يصح أن يقال لفعله صلى الله عليه وسلم إلا أنه مؤكد فقط، بل لا يقال له مؤكد أيضًا؛ إذ التأكيد فرع الصلاحية للتأسيس، ولم يقل أحد من المسلمين عامة بشيء من ذلك. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص522-524". وفي "ط":"وينبوع الملة".
1 في نسختي "ف" و"م": "
…
ذلك وقال"، وفي "ط": "ولأن الله قال".
وَفَسَّرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ خُلُقَهُ1 الْقُرْآنُ2، وَاقْتَصَرَتْ فِي خُلُقِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَإِقْرَارَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْخُلُقَ مَحْصُورٌ3 فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ حَاصِلَةً فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ أَوَّلُ4 مَا فِي الكتاب، ومثله قوله:
1 وخلق الشخص ما تنشأ عنه أفعاله بسهولة؛ فأفعاله صلى الله عليه وسلم وأقواله وسائر شأنه صادر عن القرآن، والأفعال وما معها هي ما تطلق عليه السنة. "د".
2 الحديث صحيح، ومضى تخريجه "2/ 332"، ورد الشيخ عبد الغني عبد الخالق على المصنف بقوله: "وأما قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} ؛ فنعم الوصف ونعم الموصوف به صلى الله عليه وسلم وكرم وعظم، وهل من شك في ذلك، وأما تفسير عائشة رضي الله عنها فهو موقوف عليها فليس بحجة، سلمنا أنه حجة، وسلمنا أنه يفيد الحصر؛ فمفهومه أن خلقه وما يصدر عنه من الأفعال لا يخالف القرآن، هذا هو الذي يفيده الحصر، وليس فيه تعرض لما سكت عنه القرآن.
سلمنا أنه تعرض له، لكنه تعرض له في المنطوق على وجه الإثبات، لا في المفهوم على وجه النفي، كما يقصده الخصم؛ فإن ما يصدر عنه وسكت القرآن عن النص على حكمه قد أمره الله تعالى بتبليغه واتباعه في القرآن نفسه؛ فقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، وقال:{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106] ، وهذا عام يشمل المتلو وغيره، المؤكد والمبين والمستقل؛ فدل ذلك على أن خلقه الذي نشأ عنه المحافظة على تبليغ غير المتلو إذا كان مستقلًَا وعلى اتباعه مطابق للقرآن وموافق له؛ فهو داخل في منطوق الحصر".
انظر: "حجية السنة""ص524-525".
3 أي: بمقتضى الجملة المعرفة الطرفين في كلامها، أو أثر الخلق مطلقًا لا يخرج عنها. "د".
4 يعني: أن القرآن وإن اشتمل على علوم خمسة كما تقدمت الإشارة إليه في المسألة السابعة من الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل في العلوم المضافة للقرآن؛ فإن أول ما يعنى به هو الأمر والنهي، أي: التكاليف الشرعية اعتقادية وعملية، وأهم ما في السنة بيان التكاليف وتفاصيلها؛ فتكون السنة حاصلة في القرآن على وجه الإجمال، ولو قال بدله:"لأنها لا تخرج عن كونها بيانًا للأشياء الداخلة تحت قوله كل شيء"؛ لكان أوضح في غرضه. "د".
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ 1 مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] .
وَقَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 3] .
وَهُوَ يُرِيدُ2 بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ؛ فَالسُّنَّةُ إِذًا فِي مَحْصُولِ الْأَمْرِ بَيَانٌ لِمَا فِيهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهَا رَاجِعَةً إِلَيْهِ.
وَأَيْضًا؛ فَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ3 دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بَعْدُ4 بِحَوْلِ اللَّهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ السُّنَّةَ راجعة إلى الكتاب، وإلا وجب
1 أي القرآن، على رأي، والرأي الآخر أنه اللوح المحفوظ. "د".
2 هذا من تمام الدليل؛ لأنه لو كان المراد أنه أكمل الدين بما نزل من القرآن وما ورد من السنة؛ لم يتم الدليل، ومعلوم أنه عاش عليه السلام بعد نزول هذه الآية نحو ثمانين يومًا لم تخل من سنة قولية وفعلية، وهو يعين هذا المراد. "د".
قلت: معنى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، كما قال البيضاوي وغيره أنه أكمل الدين بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو أكمله بالقرآن كما يقول المستدل، بواسطة التنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، ومن ذلك التوقيف على أن السنة بجميع أنواعها حجة، ومنها المستقل في التشريع.
وليس معنى الآية أنه أكمله بالقرآن بواسطة النص على كل حكم جاء في السنة؛ إذ لو كان كذلك لوجب أن يكون مشتملًا على التفاصيل لأن ذكر الأحكام مجملة لا يقال: إنه على وجه الكمال، حيث إن الكمال لا يتحقق كما يزعم الخصم إلا من النص على الحكم، وبالجملة، فالكلام ههنا كالكلام في قوله:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} . انظر: "حجية السنة""ص525".
3 بل الاستقراء المذكور غير تام، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين، وكلام العلماء الأعلام في المسألة تدل على خلاف زعم المصنف، وانظر:"حجية السنة""ص525-526".
4 أي: في المسألة الرابعة، وأما الاستقراء المذكور في الإشكال الثالث في هذه المسألة؛ فهو معارضة للاستقراء المستدل به هنا. "د".
التَّوَقُّفُ1 عَنْ قَبُولِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ كَافٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ أَوْجُهٍ2:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 65] .
وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ3 بِالسَّقْيِ قَبْلَ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ شِرَاجِ الْحَرَّةِ4 -الْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي "الْمُوَطَّأِ"5- وَذَلِكَ لَيْسَ فِي كتاب الله تعالى.
1 أي: إذا كانت لا تعارض أصلًا قطعيًّا في الكتاب، ولا يشهد لها منها أصل قطعي، أما إذا عارضها أصل قطعي؛ فمردودة. "د". قلت: بينا ما في استدلاله هذا من أمور فيما مضى؛ فارجع إليه إن شئت.
2 في "ط": "وجوه".
3 حيث خاصمه الأنصاري إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "اسق يا زبير، وأرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري، وقال: إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي عليه السلام وقال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر". فطلب صلى الله عليه وسلم من الزبير أولًا التسامح مع جاره بالاكتفاء بأقل درجة في السقي، فلما لم يفهم الأنصاري ذلك، وحمله محملًا سيئًا؛ استوفى صلى الله عليه وسلم للزبير حقه الشرعي، وهو أن للأعلى حبس الماء عن الأسفل حتى يسقي سقيًا تامًّا. "د".
قلت: انظر تخريجه في الهامش بعد الآتي.
4 في "د": "الجرة" بالجيم، والصواب بالحاء.
وكتب "ف" هنا: "الشراج: مجاري الماء من الحرار إلى السهل، واحدها شرج؛ بالفتح، والتسكين" ا. هـ مختصرًا.
5 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار، 5/ 34/ رقم 2359، 2360، وكتاب التفسير، باب {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} ، 8/ 254/ رقم 4585"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه، صلى الله عليه وسلم 4/ 1829-1830/ رقم 2357" عن عبد الله بن الزبير، ومضى تخريجه "2/ 285"، وتجد هناك كلامًا أوعب، والله الهادي. والحديث ليس في "الموطأ" برواياته الخمس المطبوعة بين أيدينا.
ثُمَّ جَاءَ1 فِي عَدَمِ الرِّضَى بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ مَا جَاءَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النِّسَاءِ: 59] .
وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى الْكِتَابِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ2 بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [الْمَائِدَةِ: 92] .
وَسَائِرُ مَا قُرِنَ فِيهِ طَاعَةُ الرَّسُولِ بِطَاعَةِ اللَّهِ؛ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فِي كِتَابِهِ، وَطَاعَةَ الرَّسُولِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ3؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ لَكَانَ مِنْ طَاعَةِ الله4.
1 أي: في الآية السابقة، من عد ذلك خروجًا عن الإيمان، يعني: فالكتاب شهد للسنة بالاعتبار في موضوع ليس في القرآن. "د".
2 قال ابن القيم في "إعلام الموقعين""1/ 49-50/ ط طه سعد": "أجمع المسلمون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد مماته".
3 هذا الحصر لا نقرك عليه، بل نقول: إن طاعة الرسول امتثاله في جميع ما أمر به ونهى عنه، مبينًا كان أو مؤكدًا أو مستقلًّا؛ فالآية شاملة لهذه الأنواع كلها، كل ما في الأمر أن امتثال المستقل في بادئ الرأي أظهر دخولًا في طاعة الرسول، حيث إنه يحقق الانفراد في ظاهر الأمر دون البيان؛ لأنه عين المراد من المبين، فامتثاله امتثال لذاك، ودون المؤكد كذلك، ولا يضرنا اشتراك الطاعتين في بعض الأنواع؛ إذ المهم لنا شمول طاعة الرسول للمستقل من سنته، على أنك إذا تأملت وجدت أن طاعة الرسول في جميع الأنواع مستلزمة لطاعته تعالى، ونمنع لك الحصر أيضًا في قولك:"وذلك السنة التي لم تأت في القرآن".
قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة""ص510-511".
4 أي: فإفراد الرسول بطاعة غير طاعة الله يدل على تباين المطاع فيه لكان منهما. "د".
وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الْآيَةَ [النُّورِ: 63] .
فَقَدِ اخْتُصَّ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام بِشَيْءٍ يُطَاعُ فِيهِ، وَذَلِكَ السُّنَّةُ الَّتِي لَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّسَاءِ: 80] .
وَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] .
وَأَدِلَّةُ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى؛ فَهُوَ لَاحِقٌ فِي الْحُكْمِ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْهِ1.
وَالثَّانِي: الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَمِّ2 تَرْكِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الْكِتَابِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مَا فِي السُّنَّةِ مَوْجُودًا فِي الْكِتَابِ لَمَا كَانَتِ السُّنَّةُ مَتْرُوكَةٌ عَلَى حَالٍ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:"يُوشِكُ بِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: هَذَا كِتَابُ اللَّهِ، مَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ؛ أَلَا مَنْ بَلَغَهُ عَنِّي حَدِيثٌ فَكَذَّبَ بِهِ؛ فَقَدْ كَذَّبَ الله ورسوله والذي حدثه"3.
1 إن أردت بالزيادة الاستقلال فقط؛ فلا نقول به نحن، وإن أردت ما يشمل الاستقلال والبيان؛ فهو حق. انظر:"حجية السنة""ص511".
2 لو صاغ هذا الإشكال في صورة أخرى كأن يقول: الأحاديث الدالة على أن الشريعة تتكون من الأصلين معًا: الكتاب والسنة وأن في السنة ما ليس في الكتاب، وأنه يجب الأخذ بما في السنة من الأحكام كما يؤخذ بما في الكتاب، لو فعل ذلك؛ لكان مع كونه في ذاته وجيهًا موافقًا لقوله بعد:"وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ مَا ليس في الكتاب"، ولكان مغايرًا تمام المغايرة للإشكال الرابع الذي لا يخرج في محصوله عن الثاني إلا بتكلف لا حاجة إليه. "د".
3 أخرجه آدم بن أبي إياس في "العلم" -ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام""ص73"- والخطيب في "الفقيه والمتفقه""1/ 90"، وابن عبد البر في "الجامع""2/ 183/ رقم 2340"، و"التمهيد""1/ 152" من طريق بقية بن الوليد عن محفوظ بن مسور عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعًا به.
وإسناده ضعيف جدًّا، بقية مدلس وقد عنعن، ولا ينفعه تصريحه بالسماع في رواية آدم؛ =
وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ عَنِّي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حرمناه، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ"1.
وَفِي رِوَايَةٍ: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرَى مِمَّا أَمَرْتُ به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ"2.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ أَشْيَاءَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ؛ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ المرأة على عمتها أو [على] خالتها،
= لأن من بعده لم يصرح بالسماع، ومحفوظ ترجمه الذهبي في "الميزان""3/ 444"، وقال:"عن ابن المنكدر بخبر منكر"، وقال:"لا يدرى من ذا؟ "، وعزاه الهيثمي في "المجمع""1/ 149" للطبراني في "الأوسط"، وله طرق أخرى عن جابر لا تخلو من ضعف، فأخرجه أبو يعلى في "مسنده""1813"، والخطيب في "الكفاية""10"، والهروي في "ذم الكلام""ص72" من طريق يزيد الرقاشي والخطيب في "الكفاية""11" من طريق عباد بن كثير -وكلاهما ضعيف- عن أنس.
ولعل الصواب ما عند الشافعي في "الرسالة""90، 404"، ومن طريقه الحميدي في "المسند""1/ 255"، ومن طريقه الحاكم في "المستدرك""1/ 108-109"، وابن عبد البر في "الجامع""2/ 1184/ رقم 2341" عن ابن المنكدر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وكذا ورد مرسلًا عن ابن المنكدر عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع مرسلًا، كما عند الآجري في "الشريعة""ص50".
ويغني عنه ما مضى "ص190". وهو صحيح بتعدد طرقه.
1 مضى تخريجه "ص191"، وهو لفظ حديث معاوية بن صالح عن الحسن بن جابر عن المقدام بن معدي كرب؛ كما بيناه هناك، ولله الحمد.
2 مضى تخريجه مفصلًا "ص190"، وهذا لفظ حديث الحميدي، وهو من مرسل ابن المنكدر، وهو صحيح بتعدد طرقه وشواهده؛ كما بيناه هناك، ولله الحمد. وفي "د": "بما أمرت
…
".
وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ1، وَالْعَقْلِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَهُوَ2 الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ [حَيْثُ قَالَ فِيهِ:"مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ"3.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ] 4 أَنَّهُ خَطَبَ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ؛ فَقَالَ: "وَاللَّهِ؛ مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. فَنَشَرَهَا؛ فَإِذَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ5، وَإِذَا فِيهَا: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرَ إِلَى كَذَا6، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا7.
وَإِذَا فِيهَا: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أخفر مسلمًا8؛
1 تقدم تخريج الأحاديث في تحريم هذه المحرمات "3/ 372".
2 الضمير راجع إلى الأمثلة الثلاثة الأخيرة. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب العلم، باب كتابة العلم، 1/ 204/ رقم 111" بسنده إلى أبي جحيفة؛ قال: "قلت لعلي: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا؛ إِلَّا كِتَابُ الله.... به"، وتتمته:"قال: قلت: فما هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر".
وأخرجه أيضًا بنحوه في "كتاب الجهاد، باب فكاك الأسير، 6/ 167/ رقم 3047، وكتاب الديات، باب العاقلة، 12/ 246/ رقم 6903، وباب لا يقتل المسلم بالكافر، 12/ 260/ رقم 6915".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
5 في نسخ "ف" و"م" و"ط": "فإذا فيها".
6 بفتح فسكون: جبل بالمدينة. "ف".
7 الصرف: التوبة، والعدل: الفدية، وقيل: الصرف النافلة، والعدل الفريضة، وقيل: الصرف الحيلة، ومنه قيل: فلان يتصرف أي: يحتال، وقوله تعالى:{فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} [الفرقان: 19] معناه: لا يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب ولا أن ينصروا أنفسهم. "ف".
8 أي: نقض عهده وغدره، والخفارة، مثلثة: الذمة وانتهاكها إخفار، والهمزة فيه للإزالة =
فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَإِذَا فِيهَا: مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا"1.
وَجَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: "بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2.
وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ فِي السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: تَرَكَ الْكِتَابُ مَوْضِعًا لِلسُّنَّةِ، وَتَرَكَتِ السُّنَّةُ مَوْضِعًا لِلْقُرْآنِ3.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الِاقْتِصَارَ4 عَلَى الْكِتَابِ رَأْيُ قَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ، خَارِجِينَ عَنِ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة، 4/ 81/ رقم 1870 وكتاب الجزية والموادعة، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة، 6/ 273/ رقم 3172، وكتاب الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، 12/ 41-42/ رقم 6755، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 275-276/ رقم 7300" -والمذكور عند المصنف لفظ البخاري في هذا الموطن- ومسلم في "صحيحه""كتاب الحج، باب فضل المدينة، 2/ 994-998/ رقم 1370".
قال "د": "ويبقى النظر في حصر ما عندهم في الأمور المذكورة مع سعة علمهم وكثرة استنباطهم، وقد ثبت عن علي رضي الله عنه كثير مما ليس في الصحيفة، والظاهر -كما قال في "فتح الباري"- أنه ليس المراد حصر ما علموه بل ما كتبوه، كما قال: "والله؛ ماعندنا كتاب نقرؤه"؛ فتحمل عليها الرواية الأولى، وهي قوله: "والله ما عندنا إلا كذا"، غير أن هذا الجواب يتوقف على ثبوت أن عليًّا رضي الله عنه كان يكتب ما يستنبطه هو من القرآن".
2 مضى تخريجه "ص298".
3 في "ط": "للرأي" ولعله الصواب.
4 ليس في الدعوى التي هي رأس المسألة هذا الاقتصار المذموم، إنما فيها أنك لا تجد في السنة أمرًا إلا والكتاب دل عليه إجمالًا أو تفصيلًا، ولا تلازم بين القول بهذا واطراح بعضهم للسنة، ولا يلزم من كون بنائهم فاسدًا أن يكون المبني عليه فاسدًا؛ فما أطال به في هذا الوجه وما رتبه عليه في قوله:"هذا مما يلزم القائل: إن السنة راجعة إلى الكتاب" هو كما ترى. "د".
السُّنَّةِ؛ إِذْ عَوَّلُوا عَلَى مَا بَنَيْتَ عَلَيْهِ من أن الكتاب فيه بيان كل شئ، فَاطَّرَحُوا أَحْكَامَ السُّنَّةِ فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الِانْخِلَاعِ عَنِ الْجَمَاعَةِ1 وَتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اثْنَتَانِ: الْقُرْآنُ، وَاللَّبَنُ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ؛ فَيَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ لِيُجَادِلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا اللَّبَنُ؛ فيتبعون الريف، يتبعون الشهوات ويتركون الصلوات"2.
1 التاريخ يعيد نفسه، وفي مطلع هذا القرن هناك جهود كثيرة سلكت سبيل هدم السنة والتنكر لها؛ منها:"أضواء على السنة المحمدية" لمحمود أبو رية، و"الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها" للسيد صالح أبو بكر، وقامت جهود خطيرة في شبه القارة الهندية لإنكار السنة، من أفظعها وأخطرها ما قام به غلام أحمد برويز إذ أسس طائفة في الباكستان قائمة على هذه الفكرة الباطلة، وهنالك جهود كثيرة في الرد على هؤلاء وكشف فضائحهم وبواطيلهم، من أشهرها:"السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" لمصطفى السباعي، و"دراسات في الحديث النبوي" لمحمد الأعظمي، و"الأنوار الكاشفة" للمعلمي اليماني، و"حجية السنة" لعبد الغني عبد الخالق، و"دفاع عن السنة" لمحمد أبو شهبة، و"السنة المفترى عليها" للبهنساوي، و"موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي" لمحمد بن إسماعيل السلفي، و"زوابع في وجه السنة قديمًا وحديثًا" لصلاح مقبول.
2 أخرجه أحمد في "المسند""4/ 156"، والطبراني في "الكبير""17/ 296-297/ رقم 818"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1201/ رقم 2362" من طريق أبي السمح ثنا أبو قبيل عن عقبة بن عامر به مرفوعًا.
وإسناده ضعيف، أبو السمح اسمه دراج بن سمعان، صدوق في حديثه؛ إلا أنه توبع؛ فقد تابعه جماعة منهم:
أولًا: عبد الله بن لهيعة، أخرجه من طرق عنه، ومن بينها طريق عبد الله بن يزيد المقرئ =
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ؛ فَخُذُوهُمْ بِالْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ"1.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: "إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وجدال المنافق
= عن ابن لهيعة عن أبي قبيل به: أحمد في "المسند""4/ 146، 155، 156"، وأبو يعلى في "المسند""3/ 285/ رقم 1746"، والطبراني في "الكبير""17/ 296/ رقم 816"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1199/ رقم 2359".
ثانيًا: الليث بن سعد، أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير""17/ 295-296/ رقم 815"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1201/ رقم 2361".
ثالثًا: مالك بن الخير الزبادي، أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير""17/ 296".
ومدار هذه الطرق على أبي قبيل وهو حيي بن هانئ المعافري، وثقه أحمد وابن معين والفسوي وأبو زرعة وأحمد بن صالح والعجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال:"يخطئ"، وذكره الساجي في "الضعفاء"، فحديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن، ولم يسمع من عقبة إلا هذا الحديث كما في "مجمع الزوائد""2/ 194".
وقد توبع أبو قبيل؛ فأخرجه أحمد في "المسند""4/ 155" من طريق أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة، ورجاله ثقات؛ فصح الحديث إن شاء الله تعالى.
1 أخرجه الدارمي في "السنن""1/ 49"، والآجري في "الشريعة""ص48، 52، 74"، وابن بطة في "الإبانة""رقم 83، 84، 790"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة""1/ 123"، وابن أبي زمنين في "أصول السنة""رقم 7 و8"، والأصبهاني في "الحجة""1/ 205، 312"، وابن عبد البر في "الجامع""2/ 1010/ رقم 1927"، والهروي في "ذم الكلام""ص68"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""1/ 180، 181، 182"، وابن حزم في "الإحكام""6/ 119"، والبيهقي في "المدخل""رقم 213"، وابن النجار؛ كما في "كنز العمال""1/ 375" من طرق بألفاظ متقاربة، وهو صحيح، وشبهات القرآن متشابهاته؛ إذ ليس في القرآن شبه.
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين""1/ 54، 55"، وذكر هذا الأثر وغيره في ذم الرأي عن عمر:"وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة".
بِالْقُرْآنِ"1.
وَعَنْ عُمَرَ: "ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ"2.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ"3.
وَعَنْ عُمَرَ: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَرَجُلٌ يُنَافِسُ الْمُلْكَ عَلَى أَخِيهِ"4.
وَهُنَا آثَارٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ مَعَ طَرْحِ5 السُّنَنِ وَعَلَيْهِ حَمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَوْلَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا؛ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهَّالًا؛ فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ علم؛ فضلوا
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع""رقم 1868" بسند رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، الحسن البصري لم يسمع من أبي الدرداء رضي الله عنه وفي نسختي "ف" و"م":"وجدل" بدل "وجدال".
2 ورد من طرق عنه، وبعضها صحيح، وقد مضى تخريجه "ص89".
وفي الأصل و"ط": "زيغة" بدل "زلة".
3 مضى تخريجه "ص280"، وهو صحيح.
4 مضى تخريجه "ص280".
5 بالتأمل في هذه الآثار لا تجدها تفيده في غرضه من الإشكال بوجود شيء في السنة ليس في الكتاب، بل ربما أنتجت العكس، وهو أن هذه السنة إنما تتكلم في موضوعات من الكتاب؛ فيجب أن يبين الكتاب بها، ولا تهمل وتطرح، ويعمد إلى فهم الكتاب بالرأي؛ فهذا الإشكال الرابع ضعيف من وجوه كثيرة. "د".
وَأَضَلُّوا" 1، وَمَا فِي مَعْنَاهُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ هَكَذَا فَعَلُوا، اطَّرَحُوا الْأَحَادِيثَ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ؛ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا.
وَرُبَّمَا ذَكَرُوا حَدِيثًا يُعْطِي أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:"مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَإِنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ أَنَا، وَكَيْفَ أُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَبِهِ هَدَانِي الله؟ "2.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1/ 194/ رقم 100"، ومسلم في "الصحيح""كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/ 2058/ رقم 2673" عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما.
2 ورد من حديث جماعة، منهم: أبو هريرة وثوبان وابن عمر وعلي وجبير بن مطعم ومن مرسل الحسن.
أما حديث ثوبان؛ فأخرجه الطبراني في "الكبير""2/ 97/ رقم 1429".
وأما حديث ابن عمر؛ فأخرجه الطبراني في "الكبير""2/ 316/ رقم 13224"، وابن بطة في "الإبانة""102"، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه الوضين بن عطاء سيئ الحفظ، وفيه مجاهيل.
وأما حديث أبي هريرة؛ فله ألفاظ تجدها في "السلسلة الضعيفة""رقم 1083، 1084، 1085، 1086"، وسيأتي أحدها قريبًا "ص337".
وأما حديث علي، فأخرجه الدارقطني في"السنن""4/ 208-209"، والهروي في "ذم الكلام""ص170" من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم بن زر بن حبيش عن علي مرفوعًا، قال الدارقطني عقبه:"هذا وهم، والصواب عن عاصم بن زيد عن علي بن الحسين مرسلًا عن النبي، صلى الله عليه وسلم".
وأما حديث جبير؛ فأخرجه الخطيب في "الكفاية""430"، وفيه سليم بن مسلم المكي، قال ابن معين:"جهمي خبيث"، وتركه النسائي، وقال أحمد:"لا يساوي حديثه شيئًا".
وأما مرسل الحسن؛ فأخرجه الهروي في "ذم الكلام""ص170"، وفيه صالح المري، تركه النسائي وغيره.
وجميع هذه الأحاديث ليست بصحيحة، ولا تخلو من كذاب أو متهم أو متروك أو مجهول؛ =
...........................................................................
= كما تراه في "اللآلئ المصنوعة""1/ 213 وما بعدها"، و"تنزيه الشريعة""1/ 264 وما بعدها".
وقد ظفرت بكلمات سمان فخام لجماعة من الأئمة الأعلام، فيها حكم على هذه الأحاديث، منها:
- ما قاله عبد الرحمن بن مهدي: "الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث"، ذكره عنه ابن عبد البر في "الجامع""2/ 1191/ رقم 2347".
- ما ساقه المصنف بعد قوله: "قالوا: وهذه الألفاظ
…
إلخ".
- الساجي، نقل عنه ابن بطة في "الإبانة" "1/ 266-267" قوله:"هذا حديث موضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وبلغني عن علي بن المديني أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، والزنادقة وضعت هذا الحديث".
- ووافقهم ابن بطة بقوله: "وصدق ابن الساجي وابن المديني -رحمهما الله- لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه ويكذب قائله وواضعه، والحديث الصحيح والسنة الماضية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترده، قال الله، عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، والذي أمرنا الله عز وجل أن نسمع ونطيع، ولا نضرب لمقالته عليه السلام المقاييس، ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب ولا بغيره، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية".
- ولابن حزم كلام متين في رد هذه الأحاديث، وذلك في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام""2/ 76-82"، ومما قاله فيه:"إنه لا يقول هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق، إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم المصيبة بشدة مطالبة الكفار لهذه الملة الزهراء، وعلى ضعف بصائر كثير من أهل الفضل يجوز عليهم مثل هذه البلايا؛ لشدة غفلتهم، وحسن ظنهم لمن أظهر لهم الخير".
- الشافعي قال في "الرسالة""ص225": "ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء، صغر ولا كبر".
- البيهقي قال في "المدخل إلى دلائل النبوة""1/ 27": "الحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح"، قال:"وهو ينعكس على نفسه بالبطلان؛ فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن". وانظر: "تذكرة المحتاج""ص27-31" لابن الملقن.
قال عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ: "الزَّنَادِقَةُ وَالْخَوَارِجُ وَضَعُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ". قَالُوا1: "وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تَصِحُّ2 عَنْهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِصَحِيحِ النَّقْلِ مِنْ سَقِيمِهِ، وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْمٌ3؛ فَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِضُهُ4 عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَنَعْتَمِدُ5 عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: فَلَمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ وَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لَا نَقْبَلَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ وَجَدْنَا كِتَابَ اللَّهِ يُطْلِقُ التَّأَسِّيَ بِهِ، وَالْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ، وَيُحَذِّرُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ جُمْلَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ".
هَذَا6 مِمَّا يُلْزِمُ الْقَائِلَ: إِنَّ السُّنَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكِتَابِ، وَلَقَدْ ضَلَّتْ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ طَوَائِفُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ؛ فَالْقَوْلُ بِهَا وَالْمَيْلُ إِلَيْهَا مَيْلٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى خلاف ما تقدم.
أما الوجه الْأُوَلُ؛ فَلِأَنَّا إِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ بَيَانٌ لِلْكِتَابِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمَا فِي الْكِتَابِ احْتِمَالٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَتُبَيِّنُ السُّنَّةُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِذَا عَمِلَ الْمُكَلَّفُ عَلَى وَفْقِ الْبَيَانِ؛ أَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَرَادَ بِكَلَامِهِ، وَأَطَاعَ رَسُولَهُ فِي مُقْتَضَى بَيَانِهِ، وَلَوْ عَمِلَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَيَانِ؛ عَصَى اللَّهَ تعالى في
1 ما سبق نقله عن ابن مهدي وما يأتي بعد: "قالوا" من كلام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1191".
2 لأنها سقيمة التركيب بعيدة عن أسلوبه البارع، صلى الله عليه وسلم. "د".
3 في مطبوع "الجامع" زيادة: "من أهل العلم".
4 في مطبوع "الجامع": "نعرض هذا الحديث".
5 فهي معارضة بالقلب، بنفس دليل الخصم. "د".
6 أي: ما ذكر في الإشكال الرابع من مضاهاة أقوال الخارجين عن السنة والأخذ بما وضعه الزنادقة. "د".
عَمَلِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَيَانِ؛ إِذْ صَارَ عَمَلُهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَ بِكَلَامِهِ، وَعَصَى رَسُولَهُ فِي مُقْتَضَى بَيَانِهِ؛ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِفْرَادِ الطَّاعَتَيْنِ تَبَايُنُ الْمُطَاعِ فِيهِ بِإِطْلَاقٍ1، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فِي السُّنَّةِ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ2، بَلْ قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْمَعْنَى، وَيَقَعُ الْعِصْيَانَانِ وَالطَّاعَتَانِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَلَا مُحَالَ فِيهِ.
1 ما مرادك بقولك: "إن السنة بيان للكتاب
…
"، فإن أردت به أن جميع السنة بيان له، فهذا ما نتنازع فيه، ولا يمكنك بحال إثباته، وسنبطل شبهك، وسائر تكلفاتك في إرجاع المستقل إلى المبين؛ فالواقع أن بعض السنة بيان وبعضها مستقل، كما سنبينه في المسألة الثالثة، وإذا كان الواقع كذلك؛ كانت الآية شاملة لكل منهما، إلا إذا أخرج بعضه الدليل، ولا دليل، وعلى هذا لا يصح لك أن تبني ردك على خطأ مخالف للواقع، وإن أردت به أن بعض السنة بيان له، فهذا مسلم، ونعفيك أيضًا من محاولتك إدخال امتثال هذا النوع في طاعة الرسول، فإنا لم نقل بعدم شمولها له، بل أنت الذي فعلت ذلك في تقريرك لدليلنا؛ فلتوجه الاعتراض إلى نفسك لا إلينا، وحاول إقناع نفسك بما ذكرت. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة" "ص511".
2 إن أردت بقولك: ما في السنة جميعها، فنحن لم نقل: إن الآيات تدل على أن جميعها ليس في الكتاب، بل نقول: إن بعضها مستقل وبعضها مبين، والآيات شاملة للنوعين، وإنما أنت الذي قلت ذلك في التقرير الذي تبرعت به.
وإن أردت بما في السنة بعض ما في السنة؛ منعنا لك الشرطية؛ إذ لا يلزم من عدم لزوم تباين المطاع فيه بإطلاق لإفراد الطاعتين خروج الطاعتين المتباينتين بإطلاق من الآية، وبعبارة أخرى: لا يلزم من إدخال امتثال السنة المبينة في طاعة الرسول خروج امتثال السنة المستقلة، مع أنها الأصل في الدخول على ما هو الظاهر، ومع وجودها في الواقع؛ فالآية لا زالت شاملة، وإذا أردت أن تخرجها؛ فعليك بالدليل.
وإن كنت تريد أن تقول: إن هذه الآيات لا تدل على وجود النوع المستقل في الواقع؛ فهذا مسلم لك، ولكنا إنما نستدل بها على حجيته ولو على فرض وجوده، وأما هذا الوجود؛ فسنثبته في المسألة الثالثة بغير هذه الآيات، ويثبته أيضًا قوله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} الآية. انظر: "حجية السنة""ص511-512".
وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي وُجُودِ1 مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الْقُرْآنِ، يَأْتِي عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِي السُّؤَالِ:"فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْهِ" مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الزَّائِدَ؛ هَلْ هُوَ زِيَادَةُ الشَّرْحِ عَلَى الْمَشْرُوحِ إِذْ كَانَ لِلشَّرْحِ2 بَيَانٌ لَيْسَ فِي الْمَشْرُوحِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْحًا، أَمْ هُوَ زِيَادَةُ مَعْنًى آخَرَ لَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ3؟ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَتَنَزَّلُ4 الْوَجْهُ الثَّانِي.
وَأَيْضًا؛ فَإِذَا5 كَانَ الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ إِجْمَالِيًّا وَهُوَ فِي السُّنَّةِ تَفْصِيلِيٌّ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ إِيَّاهُ؛ فَقَوْلُهُ:{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} أَجْمَلَ فِيهِ مَعْنَى الصَّلَاةِ، وَبَيَّنَهُ عليه الصلاة والسلام، فَظَهَرَ مِنَ الْبَيَانِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُبَيَّنِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْبَيَانِ هُوَ مَعْنَى الْمُبَيَّنِ6، وَلَكِنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ يَخْتَلِفَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَجْهَ فِي الْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ التَّوَقُّفُ، وَفِي الْبَيَانِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَمَّا اخْتَلَفَا حُكْمًا صَارَ كَاخْتِلَافِهِمَا مَعْنًى؛ فاعتبرت7 السنة اعتبار المفرد عن الكتاب.
1 يعني: أين يوجد في القرآن ذلك الحكم الذي قضى به للزبير ولو إجمالًا أو احتمالًا؟ وقد أحال جوابه على المسألة الرابعة، كما أحال عليها الجواب عن الإشكال الثالث. "د".
2 في نسختي "ف" و"م": "في الشرح".
3 إنا لا نريد واحدًا بخصوصه كما علمت، بل يكفينا الشمول للاثنين، كما تدل عليه الآيات، فإن زعمت القصر على الشرح؛ فعليك بالدليل، ولا يصح أن يقال: إن شمول الدليل للمدعي محل النزاع، بل محل النزاع هو نفس المدعى. انظر:"حجية السنة""ص512".
4 أي فيقال: قولكم "لما كانت السنة متروكة على حال" غير مسلّم، بل تكون متروكة لأنه لم يلتفت إلى ما فيها من البيان للمعنى الذي اشتمل عليه الكتاب. "د".
5 في الأصل: "وإذًا فإذا".
6 في "ط": "معنى المبين هو معنى البيان".
7 جواب عما يقال: إن ما أجيب به عن الأول لا يظهر في الثاني لا سيما الأحاديث الثلاثة الظاهرة في التغاير، وأنها فيما اشتملت عليه السنة مما لم يوجد أصله في القرآن، كما هو الظاهر من قوله، عليه السلام:"أوتيت القرآن ومثله معه"، وقوله:"وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله"؛ فهو يقول: لما اختلفا حكمًا اعتبرت السنة مفردة عن الكتاب؛ فصح فيها التعبير بالمماثلة ونحوها من العبارات الواردة في الأحاديث، وانظر هل هذا الجواب بالكأنية مصحح للتعبير بالعبارات المذكورة وكاف لدفع الإشكال في تأصيل قاعدة كلية كموضوعنا؟ "د".
وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَإِنَّمَا1 وَقَعَ الْخُرُوجُ عَنِ السُّنَّةِ فِي أُولَئِكَ لِمَكَانِ إِعْمَالِهِمُ الرَّأْيَ وَاطِّرَاحِهِمُ السُّنَنَ، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى2، وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ كَمَا تَبَيَّنَ تُوَضِّحُ الْمُجْمَلَ، وَتُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ، وَتُخَصِّصُ الْعُمُومَ؛ فَتُخْرِجُ كَثِيرًا3 مِنَ الصِّيَغِ الْقُرْآنِيَّةِ عَنْ ظَاهِرِ مَفْهُومِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَتَعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ بَيَانَ السُّنَّةِ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الصِّيَغِ، فَإِذَا طُرِحَتْ وَاتُّبِعَ ظَاهِرُ الصِّيَغِ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى؛ صَارَ صَاحِبُ هَذَا النَّظَرِ ضَالًّا فِي نَظَرِهِ، جَاهِلًا بِالْكِتَابِ خَابِطًا فِي عَمْيَاءَ لَا يَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ فِيهَا؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعُقُولِ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَّا النَّزْرِ الْيَسِيرِ، وَهِيَ الْأُخْرَوِيَّةُ4 أَبْعَدُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ.
وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ5 مِنَ الْحَدِيثِ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي النَّقْلِ؛ فَلَا حجة به
1 في "ط": "فإنه".
2 وهي بناؤهم على ما بنيت عليه المسألة من أن القرآن تبيان لكل شيء؛ فإنه صحيح في ذاته، ولكن الفساد فيما بنوه عليه من الاستغناء عن السنة والاكتفاء بالقرآن ليؤولوه حسب أهوائهم، وتقدم لك سقوط هذا الاعتراض من نفسه. "د".
3 في الأصل: "جميعًا".
4 في نسخ "ف" و"م" و"ط": "في الأخروية".
5 أي: على الاقتصار على الكتاب وطرح السنة، وقوله: "لا يمكن فيه التناقض
…
إلخ" أي: فلا معنى لطرحه، وسواء أفرعنا على القول بجواز الخطأ في اجتهاده عليه السلام وعدم إقراره على الخطأ من الله، وأنه لا بد أن يرده إلى الصواب قبل العمل باجتهاده، أم قلنا: إنه لا يخطئ في الاجتهاد رأسًا -وإن كان هذا أحسم للمادة وأولى في أنه لا يحكم حكمًا يعارض الكتاب- فلا معنى لاطراح السنة على أي تقدير. "د".
لِأَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ صَحَّ أَوْ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ يُقْبَلُ مِثْلُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِمَّا وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ صِرْفٌ، وَإِمَّا اجْتِهَادٌ مِنَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام مُعْتَبَرٌ بِوَحْيٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّنَاقُضُ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وَإِذَا فُرِّعَ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْخَطَأِ فِي حَقِّهِ؛ فَلَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الصَّوَابِ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْخَطَأِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ حُكْمًا يُعَارِضُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَيُخَالِفُهُ.
نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ السُّنَّةُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ وَلَا مُوَافَقَةٌ، بَلْ بِمَا يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ؛ إِلَّا إِذَا قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْجَائِزِ، وَهُوَ الَّذِي تَرْجَمَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنَ الْمُوَافَقَةِ1 لِكِتَابِ اللَّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ؛ فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ صَحَّ سَنَدُهُ أَوْ لَا.
وَقَدْ خَرَّجَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي بَيَانِ "مُشْكِلِ الْحَدِيثِ" عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ؛ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحَدِيثٍ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنِدُّ 2 مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أنه منكر؛ فأنا أبعدكم منه"3.
1 وصار الكتاب مشتملًا على السنة؛ فعاد الأمر إلى جعل الحديث معارضة بالقلب، وصار حجة لأصل المسألة لا عليها؛ كما هو الإشكال الرابع، هذا ما يريده. "د".
2 في "المشكل" و"ط": "وتنفر".
3 أخرجه أحمد في "المسند""3/ 497 و5/ 425"، والطحاوي في "مشكل الآثار""15/ 344/ رقم 6067"، والبزار في "المسند""رقم 187، زوائده"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 63، الإحسان" من طريق أبي عامر العقدي -واسمه عبد الملك بن عمرو القيسي- وابن سعد =
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَذْكُورِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ؛ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ1 كَعْبٍ كَانَ فِي مَجْلِسٍ، فَجَعَلُوا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُرَخَّصِ وَالْمُشَدَّدِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغُوا؛ قَالَ:"أَيْ هَؤُلَاءِ! مَا حَدِيثٌ بَلَغَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِفُهُ الْقَلْبُ2، وَيَلِينُ لَهُ الْجِلْدُ، وَتَرْجُونَ عِنْدَهُ؛ فَصَدِّقُوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَا يَقُولُ إِلَّا الْخَيْرَ"3.
وَبَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ4 أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الْآيَةَ [الْأَنْفَالِ: 2] .
وَقَالَ: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ [الزمر: 23] .
= في "الطبقات الكبرى""1/ 387" من طريق عبد الله بن مسلمة بن قعنب، كلاهما عن سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد بن سويد به.
وأخرجه ابن وهب في "المسند""8/ ق 164/ 2": أخبرني القاسم بن عبد الله عن ربيعة به. ورواه عبد الغني المقدسي في "العلم""2/ 43/ 2" من طريق أخرى عن سليمان بن بلال، أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة""رقم 732".
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
قال ابن كثير في "التفسير""2/ 264، ط دار المعرفة": "رواه الإمام أحمد رضي الله عنه بإسناد جيد، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب"، وقال فيه أيضًا "2/ 473": إسناده صحيح، وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك
…
"، وصححه الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "6/ 523".
1 ضبطه "د": "بالمرخص والمشدد" بكسر الخاء والدال المشددتين، والصواب فتحهما.
2 في مطبوع "المشكل": "تعرفه القلوب".
3 أخرجه الطحاوي في "المشكل""15/ 345-346" بسند ضعيف، فيه عبد الله بن صالح سيئ الخفظ.
4 في كتابه "مشكل الآثار""15/ 346".
وَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 83] .
فَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِهِ، وَكَانَ مَا يُحَدِّثُونَ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ فَفِي كَوْنِهِمْ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ وَجَبَ التَّوَقُّفُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا سِوَاهُ1.
وَمَا قَالَهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا2 لَا مُخَالِفًا فِي الْمَعْنَى؛ إِذْ لَوْ خَالَفَ لَمَا اقْشَعَرَّتِ الْجُلُودُ، وَلَا لَانَتِ الْقُلُوبُ؛ لِأَنَّ الضِّدَّ لَا يُلَائِمُ الضِّدَّ وَلَا يُوَافِقُهُ.
وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ، عليه الصلاة والسلام: "إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ وَلَا تُنْكِرُونَهُ فَصَدِّقُوا بِهِ قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ؛ فَإِنِّي أقول
1 وذكر نحو ما هنا باختصار أيضًا كما فعل المصنف أبو المحاسن الحنفي في "المعتصر من المختصر من مشكل الآثار""2/ 383".
2 إنما يلزم منه أن يكون موافقًا في تلك الصفات، أما في نفس المدلول، فلا، فقد يكون موافقًا في صفات لين القلوب
…
إلخ عند ذكره، ويكون معناه لا موافقًا ولا مخالفًا، فالكلام خطابي، وقوله: "لأن الضد
…
إلخ" غير متجه؛ إذ لا يلزم من كونه مشتملًا على معنى ليس في الكتاب أن يكون ضدًّا، ولا ألا تقشعر منه الجلود وتوجل القلوب. "د".
قلت: قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "صحيح ابن حبان""رقم 63": وهذا الحديث خطاب للصحابة، ثم لمن سار على قدمهم واهتدى بهديهم، واقتدى بإمامه وإمامهم صلى الله عليه وسلم فعرف سنته وهديه، وعرف شريعته وامتلأ بها قلبه، إيمانًا وإخلاصًا ورضى عن طيب نفس، وإعراضًا عن الهوى والزيغ؛ فهو الذي يعرف الصحيح من السنة، ويطمئن قلبه إليها، وينكر المردود غير الصحيح؛ فلا يسيغه في عقله ولا في قلبه، ولله در الحافظ ابن حبان إذ أشار إلى هذا أدق إشارة في العنوان الذي كتب تحته هذا الحديث:"الإخبار عما يستحب للمرء كثرة سماع العلم، ثم الاقتفاء والتسليم". وانظر: "مفتاح الجنة""ص184" للسيوطي.
مَا يُعْرَفُ وَلَا يُنْكَرُ، وَإِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ وَلَا تَعْرِفُونَهُ فَكَذِّبُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَا أَقُولُ مَا يُنْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ" 1.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ2 الْمَرْوِيَّ إِذَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وسنة نبيه3 لوجود معناه في
1 أخرجه الطحاوي في "المشكل""15/ 347/ رقم 6068"، والدارقطني في "السنن""4/ 208"، والمخلص في "الفوائد المنتقاة""9/ 218/ 1"، وابن عدي في "الكامل""1/ 36"، والخطيب في "تاريخ بغداد""11/ 391"، والهروي في "ذم الكلام""ص171" من طريق يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به، وعزاه في "الكنز""10/ 134" للحكيم الترمذي، ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ إلا أن وهمًا وقع فيه ليحيى بن آدم، ولم ينتبه لهذا الهروي؛ فقال:"لا أعرف علة هذا الخبر؛ فإن رواته كلهم ثقات، والإسناد متصل"، وكشف عن هذا الوهم إمامان جليلان:
أحدهما: أمير الدنيا في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، قال في "التاريخ الكبير" "3/ 434" في ترجمة "سعيد المقبري" ما نصه:"وقال ابن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث، قال: "وقال يحيى: عن أبي هريرة وهو وهم، ليس فيه أبو هريرة".
والآخر: الإمام الجهبذ الكبير أبو حاتم الرازي، قال ابنه في كتاب "العلل" "2/ 310/ رقم 3445":"سمعت أبي وحدثنا عن بسام بن خالد عن شعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وذكره" ثم قال: "قال أبي: هذا حديث منكر، الثقات لا يرفعونه".
ويريد بذلك والله أعلم أنهم لا يذكرون أبا هريرة فيه، وكذلك فعل ابن طهمان، ولا تنفع متابعة شعيب بن إسحاق لأن بسام بن خالد غير معروف. وانظر:"السلسلة الضعيفة""رقم 1085".
وجاء في الأصل: "فأنا أقول ما يعرف ولا ينكر".
2 في "ط": "بأن".
3 أخذ السنة هنا لا يتفق مع غرضه من الاستدلال بهذا، على أن السنة لا تزيد على ما في الكتاب شيئًا جديدًا، وأنها لمجرد البيان، وأن ما وافق منها كتاب الله قبل وما لا فلا، وهذه هي النتيجة التي سيصل إليها بقوله: "والحاصل من الجميع
…
إلخ"؛ فلا يتم الاستدلال إلا بالاقتصار على موافقة كتاب الله، وأتى له ذلك من هذا الحديث. "د".
ذَلِكَ؛ وَجَبَ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قَالَهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ؛ فَقَدْ قَالَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ، إِذْ يَصِحُّ تَفْسِيرُ كَلَامِهِ عليه الصلاة والسلام لِلْأَعْجَمِيِّ بِكَلَامِهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مُخَالِفًا يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ؛ وَجَبَ أَنْ يُدْفَعَ، وَيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا.
وَالْحَاصِلُ مِنَ الْجَمِيعِ صِحَّةُ اعْتِبَارِ الْحَدِيثِ بِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَعَدَمِ1 مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَصِحَّ؛ فَلَا عَلَيْنَا إِذِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ صَحِيحٌ، وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ؛ فَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْأَصْلِ فِي الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ بَقِيَ النَّظَرُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي دَلَّ الْكِتَابُ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ؛ حَتَّى صَارَ مُتَضَمِّنًا لِكُلِّيَّتِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيَانًا لَهُ فِي التَّفْصِيلِ، وَهِيَ:
1 هذه الزيادة تقتضي أن الموافقة لا تلزم، وأنه يكفي في اعتبار الحديث ألا يكون مخالفًا، وإلا، لما كان لذكرها فائدة مع الموافقة، فإذا كان هذا غرضه من الزيادة لم يبق في هذا البحث الطويل من مبدأ كلام الطحاوي إلى هنا ما يصلح أن يكون دليلًا على مقصده من كون السنة راجعة إلى الكتاب؛ فعليك بجمع أطراف الكلام في هذه المسألة وتتبع مقاصده فيها ووزنها بدقة يظهر لك غثها من سمينها. "د".
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَآخِذَ:
-مِنْهَا: مَا هُوَ عَامٌّ جِدًّا، وَكَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى أَخْذِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ وَلُزُومِ الِاتِّبَاعِ لَهَا، وَهُوَ فِي مَعْنَى أَخْذِ الْإِجْمَاعِ مِنْ مَعْنَى1 قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 115] .
وَمِمَّنْ أَخَذَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ؛ فَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَتَتْهُ، فَقَالَتْ لَهُ:"بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ ذَيْتَ وَذَيْتَ2 وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَإِنَّنِي قَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَلَمْ أَجِدِ الَّذِي تَقُولُ! فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ: أَمَا قَرَأْتِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الْحَشْرِ: 7] ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ"3.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ 4، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ". قَالَ: فَبَلَغَ ذلك
1 في نسختي "ف" و"م": "الإجماع منه في معنى"، وفي "ط":"الإجماع منه في نحوه".
2 هذه العبارة كناية مثل كيت وكيت. "ف" و"م"، وبعدها في "ط":"والواشمات والمستوشمات".
3 مضى تخريجه "ص182"، والقصة في "الصحيحين" وغيرهما.
4 النامصة هي التي تنقش الحاجب حتى تغير شكل خلقته، والمتنمصة هي التي يفعل بها ذلك. "د".
قلت: النمص مطلق أخذ شعر الوجه، ومنهم من عمم، قال صاحب "القاموس" "ص817":"النمص: نتف الشعر، ولعنت النامصة وهي مزينة النساء بالنمص والمتنمصة وهي المزينة به". قال "ماء/ ص411": "النامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه".
امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ؛ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟! فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ! فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ1، قَالَ اللَّهُ، عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] " الْحَدِيثَ2.
فَظَاهِرُ قَوْلِهِ لَهَا: "هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ"، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْرِ: 7] دُونَ قَوْلِهِ: {وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه} [النِّسَاءِ: 119] ، أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَيُشْعِرُ بِذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى مُحْرِمًا عَلَيْهِ ثِيَابُهُ؛ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَنْزِعُ ثِيَابِي. فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الْآيَةَ3 [الْحَشْرِ: 7] .
وَرُوِيَ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "اتْرُكْهُمَا. فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا أَنْ تُتَّخَذَا سُنَّةً. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ4؛ فَلَا أَدْرِي أَتُعَذَّبُ عَلَيْهَا أَمْ تُؤْجَرُ لِأَنَّ الله
1 الياء في "قرأتيه" و"وجدتيه" للإشباع. "ف".
2 مضى تخريجه "ص182"، والقصة في "الصحيحين" وغيرهما.
قال "ماء/ ص413": "قوله: "الواشمات": الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل، و"المستوشمة": هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك
…
و"المتفلجة": هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة، وقيل: هي التي تتفلج في مشيتها؛ فكل ذلك منهي عنه. قاله الخازن" ا. هـ.
3 أخرجه الآجري في "الشريعة""ص51"، وابن بطة في "الإبانة""82"، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام""248"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1182-1183/ رقم 2338" بإسناد جيد.
4 مضى تخريجه "2/ 516".
قَالَ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الْأَحْزَابِ: 36] "1.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمَةَ عَنْ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ؛ فَقَالَ: "هُنَّ أَحْرَارٌ. قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: بِالْقُرْآنِ. قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 59] ، وَكَانَ عُمَرُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ قَالَ: عَتَقَتْ وَلَوْ بِسَقْطٍ"2.
وَهَذَا الْمَأْخَذُ يُشْبِهُ الِاسْتِدْلَالَ3 عَلَى إِعْمَالِ السُّنَّةِ أَوْ هُوَ هُوَ، وَلَكِنَّهُ أُدْخِلَ4 مُدْخَلَ الْمَعَانِي التَّفْصِيلِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الكتاب من السنة.
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف""2/ 433/ رقم 3975"، والشافعي في "الرسالة""رقم 1220" و"المسند""6/ 208، بهامش الأم، وص83"، والدارمي في "السنن""440"، والحاكم في "المستدرك""1/ 110"، والبيهقي في "الكبرى""2/ 453" و"المعرفة""1/ 37"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""1/ 146"، والهروي في "ذم الكلام""رقم 268"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1183"، وهو صحيح. وذكره ابن عبد البر في "الاستذكار""1/ 148، ط القديمة"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور""5/ 201" لابن أبي حاتم وابن مردويه.
2 أخرجه الهروي في "ذم الكلام""194"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1175/ رقم 2325"، وإسناده صحيح، وعتق أم الولد ثابت عن عمر في "الموطأ""2/ 776"، و"غريب الحديث""3/ 337"
لأبي عبيد، و"طبقات ابن سعد""158-160/ التتمة الأولى"، و"المعرفة والتاريخ""1/ 628".
وانظر: "مسند الفاروق""1/ 373"، و"البداية والنهاية""9/ 346" لابن كثير.
3 وهذا ممنوع، بل هو نفس الاستدلال؛ فيجب الاقتصار على قوله:"هو هو". انظر: "حجية السنة""ص527".
4 أي: سلكوا به مسلك الدال على المعاني التفصيلية التي في السنة، وجعلوا دلالة السنة على تلك المعاني دلالة للكتاب عليها، كما رأيت في الآثار المتقدمة، وإلا؛ فليست بذاتها ولا بكليها مدلولًا عليها في الكتاب، وإنما المدلول عليه في الكتاب منها كلي الاعتداد بها ووجوب =
- وَمِنْهَا: الْوَجْهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَالْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ فِي بَيَانِ مَا أُجْمِلَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ؛ إِمَّا بِحَسَبِ كَيْفِيَّاتِ الْعَمَلِ أَوْ أَسْبَابِهِ أَوْ شُرُوطِهِ أَوْ مَوَانِعِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ كَبَيَانِهَا لِلصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي1 مَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا، وَبَيَانِهَا لِلزَّكَاةِ فِي مَقَادِيرِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَنُصُبِ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ وَتَعْيِينِ مَا يُزَكَّى مِمَّا لَا يُزَكَّى، وَبَيَانِ أَحْكَامِ الصَّوْمِ وَمَا فِيهِ مِمَّا لَمْ يَقَعِ النَّصُّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ الْحَدَثِيَّةُ وَالْخَبَثِيَّةُ، وَالْحَجُّ، وَالذَّبَائِحُ وَالصَّيْدُ وَمَا يُؤْكَلُ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ، وَالْأَنْكِحَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ، وَالْبُيُوعُ وَأَحْكَامُهَا، وَالْجِنَايَاتُ مِنَ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَا وَقَعَ مُجْمَلًا فِي الْقُرْآنِ2، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ دُخُولُهُ تَحْتَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل: 44] .
= امتثالها. "د".
قلت: وقوله: "ولكنه أدخل
…
إلخ"؛ فلا يفيده في موضوع النزاع شيئًا، فإن النص الدال على حجية السنة لا يقال: إنه نص على الأحكام الفرعية التي ثبتت بالسنة، كما يقال: إن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} نص على وجوبها.
ثم نقول له: إن هذا المأخذ يعكس الأمر؛ فيكون القرآن هو المبين لما في السنة، فإن القرآن دال على حجية السنة، والمعقول أن الدال هو الذي يبين ما اشتمل عليه المدلول وما ثبت به، لا العكس.
وإن أبيت إلا أن المدلول هو المبين للدال؛ قلنا لك: قد ورد في السنة أيضًا ما فيد وجوب العمل بالقرآن؛ فيكون القرآن أيضًا مبينًا لما في السنة على ما ذكرت، ولا يصح أن يكون مستقلًّا؛ أفتقول بذلك؟ قاله في "حجية السنة""527".
1 في "ط": "اختلاف أنواعها في".
2 نقول: إن أردت أن تبين لنا بهذا المأخذ أن بعض السنة بيان لما في الكتاب من الأحكام المجملة التي نص عليها كوجوب الصلاة والزكاة؛ فهذا لا ننكره، وإن أردت أن جميعها كذلك، فهذا أمر لم توضحه لنا، وعلى ذلك يكون قولك:"كل ذلك بيان لما وقع مجملًا في القرآن" إذا أردت به جميع السنة، ممنوعًا، ولما تحاول إثباته لنا. وقد تقدم لك أن لكل من المخصص والناسخ ناحية بيان للمراد من نص الكتاب، وناحية استقلال بإفادة الحكم فيما عدا هذا المراد، ومثلهما في ذلك سائر الشروط والقيود؛ فتأمل ذلك وتدبره يظهر لك ما في كلامه من الخلط والإبهام. قاله الشيخ عبد الغني عبد الخالق في "حجية السنة""ص529".
وفي "ط": "مجملًا في الكتاب".
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: "إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ، أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ؟ ". ثُمَّ عَدَّدَ إِلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ:"أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا، وَإِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ ذَلِكَ"1.
وَقِيلَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: "لَا تُحَدِّثُونَا إِلَّا بِالْقُرْآنِ. فَقَالَ لَهُ مُطَرِّفٌ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالْقُرْآنِ بَدَلًا، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ2 هُوَ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنَّا"3.
وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ؛ قَالَ: "كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ
1 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" -كما في "مفتاح الجنة""241" للسيوطي- وابن بطة في "الإبانة""رقم 65، 66، 67"، والآجري في "الشريعة""ص51"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1192/ رقم 2348". "استدراك 4".
وأثر عمران هذا لا يفيد حصر السنة في المفسرة، وإنما تعرض للتفسير؛ لأنه الموجود في مثاله الذي أراد أن يقنع به الخصم، قاله في "حجية السنة""ص529".
2 وهو الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- أي: فحديثه يبين القرآن فيتحدث بالسنة لذلك. "د".
3 أخرجه أبو خيثمة في "العلم""97"، والهروي "246"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1193/ رقم 2349"، وقول مطرف هذا يفيد أن القرآن قد يشتمل على حكم لم ينص عليه نصًّا يستطيع المجتهدون أن يستنبطوه بحسب أوضاع اللغة؛ فيستقل صلى الله عليه وسلم بإفهامه لنا من حيث الإجمال والتفصيل، لعلمه بما في القرآن من أسرار لا يعلمها من البشر إلا هو، بتعليم الله تعالى إياه بواسطة جبريل أو الإلهام، وهذا يحقق ما ذهبنا إليه. قاله في "حجية السنة""ص529".
اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ] 1 عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْضُرُهُ جِبْرِيلُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي تُفَسِّرُ ذَلِكَ"2.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "الْكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْكِتَابِ"3، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:"يُرِيدُ أَنَّهَا تَقْضِي عَلَيْهِ وَتُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ"4.
وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَى أَنَّ السُّنَّةَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ؛ فَقَالَ: "مَا أَجْسُرُ عَلَى هَذَا أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: إِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ"5.
فَهَذَا الْوَجْهُ فِي التَّفْصِيلِ أَقْرَبُ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَأَشْهَرُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعُلَمَاءِ في هذا المعنى.
1 سقطت من نسخة "د".
2 أخرجه الدارمي في "السنن""1/ 145"، وابن المبارك في "الزهد""91، زيادات نعيم"، والمروزي في "السنة""ص28"، وابن بطة في "الإبانة""رقم 90"، والهروي في "ذم الكلام""ص75"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة""رقم 99"، والخطيب في "الكفاية""44، 47" و"الفقيه""1/ 91" من طرق عن الأوزاعي به. وإسناده صحيح، ونسبه ابن حجر في "الفتح""13/ 291" للبيهقي وصحح إسناده.
3 أخرجه الدارمي في "السنن""1/ 145"، وابن بطة في "الإبانة""رقم 88، 89"، والمروزي في "السنة""ص28"، والهروي في "ذم الكلام""ص74، 75"، وابن شاهين في "السنة""48"، والخطيب في "الكفاية""ص47" من طرق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير تارة، وعن مكحول أخرى، وهو صحيح. وأخرجه البيهقي -كما في "مفتاح الجنة""ص199"- من قول الأوزاعي، وصححه ابن حجر في "الفتح""13/ 291"، وهو في القسم الضائع من "المدخل إلى السنن".
4 "جامع بيان العلم""2/ 1194".
5 ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم""2/ 1194/ رقم 2354"، وابن القيم في "الطرق الحكمية""ص86، ط العسكري"، ونقل نحوه عن الإمام أحمد ابنه عبد الله في "مسائله""رقم 1186"، وأبو داود في "مسائله""276"، والخطيب في "الكفاية""47" و"الفقيه""1/ 73"، والهروي "رقم 213". وعبارات العلماء هذه لا تفيد مراد المصنف من إيرادها هنا في حصر السنة في البيان بحال، وهذا ظاهر.
- وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السُّنَّةِ عَلَى الْكَمَالِ زِيَادَةً إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْبَيَانِ وَالشَّرْحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ أَتَى بِالتَّعْرِيفِ بِمَصَالِحِ الدَّارَيْنِ جَلْبًا لَهَا، وَالتَّعْرِيفِ بِمَفَاسِدِهِمَا دَفْعًا لَهَا، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْمَصَالِحَ لَا تَعْدُو الثَّلَاثَةَ الْأَقْسَامِ، وَهِيَ:
الضَّرُورِيَّاتُ، وَيُلْحَقُ بِهَا مُكَمِّلَاتُهَا.
وَالْحَاجِيَّاتُ، وَيُضَافُ إِلَيْهَا مُكَمِّلَاتُهَا.
وَالتَّحْسِينِيَّاتُ، وَيَلِيهَا مُكَمِّلَاتُهَا.
وَلَا زَائِدَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى السُّنَّةِ وَجَدْنَاهَا لَا تَزِيدُ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَالْكِتَابُ أَتَى بِهَا أُصُولًا يُرْجَعُ إِلَيْهَا، وَالسُّنَّةُ أَتَتْ بِهَا تَفْرِيعًا عَلَى الْكِتَابِ وَبَيَانًا لِمَا فِيهِ مِنْهَا؛ فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ إِلَّا مَا هو راجع إلى تلك الأقسام1.
1 إن هذه المصالح والأمور العامة، قد تأصلت في السنة كما تأصلت في الكتاب، وتفصل بعضها في الكتاب كما تفصل بعضها في السنة، وكل منهما وحي من عند الله، مساوٍ للآخر في الحجية والمنزلة؛ فليس لك أن تعين أحدهما للتأصيل، والآخر للتفصيل، أفيجوز لك على هذا أن تقول: إن الكتاب لا يستقل بتشريع الحكم؛ لأن هذه المصالح قد تأصلت في السنة وتفصلت في الكتاب؟
ثم نقول: لو سلمنا أنها تأصلت في الكتاب فقط وتفصلت في السنة فقط؛ أفيمكننا أن نستقل بفهم الأحكام التي لم ينص عليها تفصيلًا ولا إجمالًا من هذه الأمور العامة؟
لو فرضنا أن الكتاب نص نصًّا صريحًا على هذه المصالح العامة، ولم ينص لا هو ولا السنة على تفاصيلها؛ أفيمكننا أن ندرك أن صوم رمضان واجب، وصوم يوم العيد حرام، وأن السارق يحد بخلاف الناهب والمختلس، وأن حد السارق قطع اليد اليمنى في أول مرة، وأن حد الزاني البكر جلد مائة وتغريب عام، وحد الثيب الرجم
…
إلى غير ذلك.
ألم تر أن المعتزلة لما ذهبوا إلى قريب مما ذهبت إليه -وهو قاعدة الحسن والقبح العقليين- اعترفوا صراحة أن العقل قد لا يهتدي إلى بعض الأحكام؟ فإذا كانت هذه المصالح والأمور العامة على فرض أن الكتاب نص عليها صراحة لا يمكن للمجتهد أن يستقل بفهم الأحكام منها؛ كانت لا تغنيك فتيلًا في محل النزاع. قاله في "حجية السنة""ص530-531".
فَالضَّرُورِيَّاتُ الْخَمْسُ كَمَا تَأَصَّلَتْ فِي الْكِتَابِ تَفَصَّلَتْ فِي السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ حِفْظَ الدِّينِ حَاصِلُهُ فِي ثَلَاثَةِ معانٍ، وَهِيَ: الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، فَأَصْلُهَا فِي الْكِتَابِ، وَبَيَانُهَا فِي السُّنَّةِ1، وَمُكَمِّلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، وَهِيَ:
الدُّعَاءُ إِلَيْهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
وَجِهَادُ مَنْ عَانَدَهُ أَوْ رَامَ إِفْسَادَهُ.
وَتَلَافِي2 النُّقْصَانِ الطَّارِئِ فِي أَصْلِهِ.
وَأَصْلُ هَذِهِ فِي الْكِتَابِ وَبَيَانُهَا فِي السُّنَّةِ عَلَى الْكَمَالِ.
وَحِفْظُ النَّفْسِ حَاصِلُهُ فِي ثَلَاثَةِ معانٍ، وَهِيَ: إِقَامَةُ أَصْلِهِ بِشَرْعِيَّةِ التَّنَاسُلِ، وَحِفْظُ3 بَقَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ جِهَةِ4 الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَذَلِكَ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ دَاخِلٍ، وَالْمَلْبَسُ وَالْمَسْكَنُ، وذلك ما يحفظه
1 ومنه ما أخرجه مسلم [برقم 1] عن عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان؛ فراجعه. "ف".
2 بمحافظة الإمام على إقامة أصول الدين بإقامة الحدود الشرعية كقتل المرتدين. "د".
3 لم يذكر الثالث ولو قال: "وحفظ النفس من جانب العدم، وهو ما يعود عليها بالإبطال وشرعت له أحكام الجنايات"؛ لوفى بالثالث إلا أنه سيدرج الحد والقصاص في المكمل ولم يجعلهما من الأصل كما صنع في كتاب المقاصد، وإن كان هذا اعتبارًا آخر كما سيقول لكن عليه، أين هو المعنى الثالث؟ وقد يقال: إنه جعل حفظ البقاء قسمين: أحدهما حفظه من الداخل والآخر من الخارج، فإذا ضما إلى الأول كملت ثلاثة، وقوله: "وإقامة ما لا تقوم
…
إلخ" عائد إلى المكملين قبله. "د".
4 كأنه قال: حفظه باستعمال الأغذية واتخاذ الملابس والمساكن، وهذا غير ما يأتي في مكملات حفظ النفس من فحص الغذاء مثلًا ومعرفة أنه لا يضر أو يقتل
…
إلخ. "د".
مِنْ خَارِجٍ.
وَجَمِيعُ هَذَا مَذْكُورٌ أَصْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَمُبَيَّنٌ فِي السُّنَّةِ، وَمُكَمِّلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ مَا هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ؛ كَالطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَاللِّعَانِ، وَغَيْرِهَا، وَحِفْظُ مَا يُتَغَذَّى بِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَضُرُّ أَوْ يَقْتُلُ أَوْ يُفْسِدُ، وَإِقَامَةُ مَا لَا تَقُومُ هَذِهِ الْأُمُورُ إِلَّا بِهِ مِنَ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ، وَشَرْعِيَّةِ1 الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، وَمُرَاعَاةِ الْعَوَارِضِ اللَّاحِقَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَقَدْ دَخَلَ2 حِفْظُ النَّسْلِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَأُصُولُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْهَا، وَحِفْظُ الْمَالِ رَاجِعٌ إِلَى مُرَاعَاةِ دُخُولِهِ فِي الْأَمْلَاكِ3 وَكَتَنْمِيَتِهِ أَنْ لَا يَفِيَ4، وَمُكَمِّلُهُ دَفْعُ5 الْعَوَارِضِ، وَتَلَافِي6 الأصل بالزجر والحد والضمان، وهو في
1 شرعية الحد والقصاص ومراعاة بقية العوارض -وما أكثرها- كل هذا مكمل لحفظه، وكلها من جانب العدم، وهذا هو المكمل الثالث، وإن كان اعتباره لهذا المكمل هنا غير اعتباره في كتاب المقاصد، ولا مانع من اختلاف الاعتبار متى كان كلٌّ صحيحًا في نفسه. "د".
2 أي: في قسم حفظ النفس، ويصح أن يكون مراده دخل في مكمله، والجميع كما قال أصله في القرآن. "د".
3 أي: بعوض وبغيره من أبواب نقل الملكية شرعًا. "د".
4 قد يقال: إن فيه تحريفًا، وإن صوابه:"ألا يفنى"؛ أي: تنميته إنما تعتبر من حفظه الضروري إذا كانت التنمية وسيلة إلى عدم فنائه بالإنفاق وغيره، أما التنمية التي يقصد منها مجرد الكثرة؛ فليست داخلة في ضروري حفظه، وقد يصحح الأصل بأن التنمية التي تعد من الحفظ الضروري تنمية المال القاصر عن درجة الوفاء بما يحفظ النفس وغيرها، أما ما زاد عن ذلك؛ فالتنمية لا تدخل في الضروريات؛ فكل من المعنيين وجيه بل مقصود في الواقع، وعلى الأول يكون المعنى "لأجل ألا يفنى"؛ فهو مفعول لأجله بدون تقرير، وعلى الثاني:"خشية ألا يفي". "د".
5 بالمحافظة عليه من الإسراف والسرقة والحرق وسائر متلفاته. "د".
6 وهو مراعاة صحة دخوله في الملكية يكون بالزجر في مثل الغصب الذي لم يحصل به تلف، والحد في السرقة، والضمان في المتلف؛ فهذه الثلاثة تحفظ صحة دخول الأموال في ملكية الناس، ومما فيه الزجر لعب الميسر، ولم يرد فيه حد مخصوص. "د".
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَحِفْظُ الْعَقْلِ يَتَنَاوَلُ1 مَا لَا يُفْسِدُهُ [وَالِامْتِنَاعَ مِمَّا يُفْسِدُهُ] ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ، وَمُكَمِّلُهُ شَرْعِيَّةُ الْحَدِّ2 أَوِ الزَّجْرِ3، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَهُ أَصْلٌ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي السُّنَّةِ حُكْمٌ عَلَى الْخُصُوصِ أَيْضًا؛ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ4 الْأُمَّةِ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِالضَّرُورِيَّاتِ حِفْظُ الْعِرْضِ؛ فَلَهُ فِي الْكِتَابِ أَصْلٌ شَرَحَتْهُ السُّنَّةُ فِي اللِّعَانِ وَالْقَذْفِ، هَذَا وَجْهٌ فِي الِاعْتِبَارِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَلَكَ أَنْ تَأْخُذَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ؛ فَيَحْصُلُ الْمُرَادُ أَيْضًا.
وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْحَاجِيَّاتِ اطَّرَدَ النَّظَرُ أَيْضًا فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ أَوْ نَحْوِهِ؛ فَإِنَّ الْحَاجِيَّاتِ دَائِرَةٌ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ.
وَكَذَلِكَ التَّحْسِينِيَّاتُ.
وَقَدْ كَمُلَتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ؛ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا شيء،
1 لعل الأصل: "بتناول" بالباء الموحدة، وقوله:"في القرآن" أي: من الآيات الدالة على إباحة الأكل من الطيبات مع عدم الإسراف وعدم الاعتداء، ويحتمل أن يكون الأصل هكذا:"يتناول ما يفسده" بحذف "لا"؛ أي: يتناول حفظه عما يفسده، وهو في القرآن تحريم الخمر. "د".
2 أي: في الخمر. "د".
3 أي: في سائر المخدرات. "د".
4 قالوا: إنه يكون بحسب الجريمة في جنسها ووصفها بصغرها وكبرها، هذا في الزجر وحد الخمر كذلك، لم يرد أصله في القرآن ولم يحدد في السنة بحد مخصوص؛ فكانوا يضربونه بالنعال تارة وبالجريد تارة بدون عدد محدود، أما الثمانون؛ فإنها جاءت من القياس على القذف كما قال علي:"إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى"؛ فأخذ عمر برأيه وحد في الخمر ثمانين. "د".
قلت: وأثر علي فيه نظر، ومضى تخريجه في التعليق على "ص291".
وَالِاسْتِقْرَاءُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَيَسْهُلُ عَلَى مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمَّا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ كَذَلِكَ قَالُوا بِهِ وَنَصُّوا عَلَيْهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ.
وَمَنْ تَشَوَّفَ إِلَى مَزِيدٍ؛ فَإِنَّ دَوَرَانَ الْحَاجِيَّاتِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَالتَّيْسِيرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَالرِّفْقِ.
فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الدِّينِ يَظْهَرُ فِي مَوَاضِعَ شَرْعِيَّةٍ الرُّخَصُ فِي الطَّهَارَةِ؛ كَالتَّيَمُّمِ، وَرَفْعِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ فِيمَا إِذَا عَسُرَ إِزَالَتُهَا، وَفِي الصَّلَاةِ بِالْقَصْرِ، وَرَفْعِ الْقَضَاءِ فِي الْإِغْمَاءِ، وَالْجَمْعِ، وَالصَّلَاةِ قَاعِدًا وَعَلَى جَنْبٍ، وَفِي الصَّوْمِ بِالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ؛ فَالْقُرْآنُ إِنْ نَصَّ عَلَى بَعْضِ التَّفَاصِيلِ كَالتَّيَمُّمِ وَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فَذَاكَ، وَإِلَّا؛ فَالنُّصُوصُ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِيهِ كَافِيَةٌ، وَلِلْمُجْتَهِدِ إِجْرَاءُ الْقَاعِدَةِ وَالتَّرَخُّصُ بِحَسَبِهَا، وَالسُّنَّةُ أَوَّلُ قَائِمٍ بِذَلِكَ.
وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّفْسِ أَيْضًا يَظْهَرُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا مَوَاضِعُ الرُّخَصِ؛ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَشَرْعِيَّةِ الْمُوَاسَاةِ بِالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، وَإِبَاحَةِ1 الصَّيْدِ وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ2 فِيهِ مِنْ إِرَاقَةِ الدَّمِ الْمُحَرَّمِ3 مَا يَتَأَتَّى بِالذَّكَاةِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَفِي التَّنَاسُلِ مِنَ الْعَقْدِ عَلَى الْبُضْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ صَدَاقٍ، وَإِجَازَةِ بَعْضِ الْجَهَالَاتِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى تَرْكِ الْمُشَاحَّةِ كَمَا فِي الْبُيُوعِ، وَجَعْلِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا دُونَ مَا هُوَ أَكْثَرُ4، وَإِبَاحَةِ الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك.
1 فالإباحة هنا رخصة دعا إليها رفع الحرج، وإن كانت الذبائح والصيد عدهما فيما تقدم آنفًا من مكملات حفظ النفس. "د".
2 في "ط": "تأت".
3 لأن الدم الخبيث في الحيوان لا ينفصل جميعه عن الجسم حتى يطهر الجسم منه إلا إذا خرج من منفذ عام للدم كالودجين. "د".
4 ففي التقييد بالثلاث رفع الحرج وتيسير للمرأة بكونها بعد الثلاث صار لا شأن له معها تتزوج من تشاء، وهذا يساعد حفظ النسل فيه رفع حرج كبير يعرفه من أهل الملل من ليس عندهم طلاق، وإسراف الناس فيه في هذا الزمان ليس من أصل تشريعه، بل من عدم العمل بأوامر الشريعة ونواهيها المكملة له، الواردة في الكتاب والسنة، من بعث الحكمين وغيره. "د".
وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَالِ أَيْضًا فِي التَّرْخِيصِ فِي الْغَرَرِ الْيَسِيرِ، وَالْجَهَالَةِ الَّتِي1 لَا انْفِكَاكَ عَنْهَا فِي الْغَالِبِ، وَرُخْصَةِ السَّلَمِ وَالْعَرَايَا وَالْقَرْضِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهُ التَّوْسِعَةُ فِي ادِّخَارِ الْأَمْوَالِ وَإِمْسَاكُ2 مَا هُوَ فَوْقَ الْحَاجَةِ مِنْهَا، وَالتَّمَتُّعُ بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَلَالِ عَلَى جِهَةِ الْقَصْدِ3 مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا إِقْتَارٍ.
وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَقْلِ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُكْرَهِ، وَعَنِ الْمُضْطَرِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهِ فِي الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ4 عِنْدَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْمَرَضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَاعِدَةِ5 رَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ اجْتِهَادِيٌّ، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ مِنْهُ مَا يُحْتَذَى حَذْوُهُ؛ فَرَجَعَ إِلَى تَفْسِيرِ مَا أُجْمِلَ مِنَ الْكِتَابِ، وَمَا فُسِّرَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ؛ فَالسُّنَّةُ لَا تَعْدُوهُ وَلَا تَخْرُجُ عَنْهُ.
وَقِسْمُ التَّحْسِينِيَّاتِ جَارٍ أَيْضًا كجريان الحاجيات؛ فإنها راجعة إلى العمل
1 كما في أصول الجدران المغيبة في الأرض، وكما في بيع البطيخ، وكما في بيع الفجل والجزر ونحوها مما غيب بعضه في الأرض وإخراجه كله قيل: بيعه يفسده؛ فاغتفر لذلك. "د".
2 لا ينافي هذا عده التنمية من الضروريات فيما تقدم؛ لأن المعدود منها فيه ما كان مقيدًا بأحد القيدين أي بألا يفي، كما أهل أصل النسخة، أو بألا يفنى، كما هو الوجه الثاني، وسبق أن القيدين مطلوبان معًا. "د".
3 الأنسب به أن يكون من حاجيات النفس كإباحة الصيد والمواساة؛ لأنه توسيع على النفس بما يقوي حفظها، وإن كان اعتباره أيضًا صحيحًا من جهة بذلك المال في هذه الطيبات. "د".
4 أي: فالنفس حينئذ مقدمة على العقل؛ فيرخص فيما يدفع عنها الهلاك وإن كان يضر بالعقل، سواء أكان أكلًا أم شربًا. "د".
5 أي: والقاعدة مقررة في الكتاب صريحًا؛ فالقرآن يشمل جميع ما ذكر ويعتبر كليًّا له، وقد ورد بعضه فيه تفصيلًا، وقوله:"أكثره اجتهادي"؛ أي: فالمعقول فيه أن يناط بكليات تتفصل بالاجتهاد لا بالنص، وما فسرته السنة منه قليل فقط ليحتذى حذوه كما قاله. "د".
بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَحْسُنُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ؛ كَالطَّهَارَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَوَاتِ، عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى أَنَّهَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَمَحَاسِنِ الْهَيْئَاتِ وَالطِّيبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَانْتِخَابِ الْأَطْيَبِ وَالْأَعْلَى فِي الزَّكَوَاتِ وَالْإِنْفَاقَاتِ، وَآدَابِ الرِّفْقِ فِي الصِّيَامِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّفُوسِ كَالرِّفْقِ وَالْإِحْسَانِ، وَآدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّسْلِ؛ كَالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ، مِنْ عَدَمِ التَّضْيِيقِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَبَسْطِ الرِّفْقِ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَالِ؛ كَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ إِشْرَافِ نَفْسٍ1 وَالتَّوَرُّعِ فِي كَسْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَالْبَذْلِ مِنْهُ عَلَى الْمُحْتَاجِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَقْلِ؛ كَمُبَاعَدَةِ الْخَمْرِ وَمُجَانَبَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ اسْتِعْمَالَهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَاجْتَنِبُوهُ} يُرَادُ بِهِ الْمُجَانَبَةُ بِإِطْلَاقٍ.
فَجَمِيعُ هَذَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ بَيَّنَهُ الْكِتَابُ عَلَى إِجْمَالٍ أَوْ تَفْصِيلٍ أَوْ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ قَاضِيَةً عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ فِي الْفَهْمِ وَأَشْفَى فِي الشَّرْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ، وَالْعَاقِلُ يَتَهَدَّى2 مِنْهُ لِمَا لَمْ يُذْكَرُ مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
- وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَجَالِ الِاجْتِهَادِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَمَجَالِ الْقِيَاسِ الدَّائِرِ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَهُوَ المبين في دليل القياس.
ولنبدأ بالأول:
1 أي: من غير حرص، وفي الحديث:"وما جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ له ولا سائل؛ فخذه، وما لا؛ فلا تتبعه نفسك". "ف".
قلت: والحديث صحيح أخرجه الشيخان كما مضى "1/ 309".
2 في الأصل: "يهتدي"، وقد تكرر مثلها؛ فلا يحتاج إلى تنبيه آخر.
وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْكِتَابِ النَّصُّ عَلَى طَرَفَيْنِ مُبَيَّنَيْنِ فِيهِ أَوْ فِي السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَأْخَذِ الثَّانِي، وَتَبْقَى الْوَاسِطَةُ عَلَى اجْتِهَادٍ، وَالتَّبَايُنُ1 لِمُجَاذَبَةِ الطَّرَفَيْنِ إِيَّاهَا؛ فَرُبَّمَا كَانَ وَجْهُ النَّظَرِ فِيهَا قَرِيبُ الْمَأْخَذِ، فَيُتْرَكُ إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ، وَرُبَّمَا بَعُدَ عَلَى النَّاظِرِ أَوْ كَانَ مَحَلَّ تَعَبُّدٍ لَا يَجْرِي عَلَى مَسْلَكِ الْمُنَاسِبَةِ؛ فَيَأْتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيه البيان2، وأنه
1 لعل الأصل: "والتشابه"، ويمكن تصحيح النسخة بأنه كلما روعي جذب أحد الطرفين لها باينت الآخر. "د". وفي "ط":"محل اجتهاد والتباس لمجاذبة....".
2 إنك اعترفت أن الواسطة بين الطرفين المنصوص عليهما في الكتاب قد يعجز المجتهد عن إدراك حكمها من الكتاب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسنه ويشرعه لنا، غير أنك تسمي تشريعه حينئذ بيانًا، ونحن نسميه استقلالًا فقط، حيث إن الكتاب لم ينص عليه نصًّا يمكن المجتهد أن يفهم الحكم منه على وجه التفصيل، ولا على وجه الإجمال.
ومثل ذلك يقال في مجال القياس؛ فقد يعجز المجتهد عن إدراك الحكم في الفرع على نحو ما قررته في مجال الاجتهاد.
ولا يهمنا أن يكون هذا الحكم في الواسطة أو الفرع قد سنه صلى الله عليه وسلم بواسطة وحي أو اجتهاد قد وفقه الله إليه بما أوتي من الحكمة والعلم المفقودين في غيره، وإنما المهم أنه شرع ما لم ينص عليه في الكتاب، وكان تشريعه حجة؛ لأنه إما بوحي، وإما باجتهاد معصوم فيه أو مقر على حكمه؛ فاجتهاده من حيث هو ليس بحجة، وإنما حجيته ناشئة عن عصمته فيه، أو عن الإقرار على حكمه.
وأما إذا كان حكم الواسطة أو الفرع قريب المأخذ؛ فإن كان قربه من ناحية أن الشارع قد نص على علة أحد الطرفين أو الأصل في الكتاب، ووجدنا هذه العلة شاملة للواسطة أو الفرع، فلو جرينا على أن النص على العلة نص على الحكم في جميع ما وجدت فيه؛ كان الحكم في الفرع أو الواسطة منصوصًا عليه في الكتاب، وكانت السنة حينئذ من قبيل المؤكد، ولكن هذا لا يفيدك؛ لأن الشارع لم ينص على علة كل حكم في الكتاب، بل ذلك نادر، أما إذا نص على العلة في السنة؛ كانت السنة مستقلة بإفادة الحكم في الواسطة أو الفرع.
وإن كان قربه من ناحية إمكان استنباط العلة من غير النص كالمناسبة؛ كان الحكم في الواسطة أو الفرع ثابتًا بالقياس، وكذا إذا جرينا في الشق الأول على أن النص على العلة ليس نصًّا =
لَاحِقٌ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَوْ آخِذٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَجْهٍ احْتِيَاطِيٍّ1 أَوْ غَيْرِهِ2، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا3.
وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وبقي بين هذين
= على الحكم، وكأنك تريد أن تقول حينئذ: إن القياس قد استقل بالحكم؛ فلا استقلال للسنة، على ما يشعر به قولك "ص379":"وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال له بِالْقِيَاسِ أَوْ بِالْوَحْيِ؛ إِلَّا أَنَّهُ جَارٍ فِي أفهامنا مجرى القياس".
فنقول لك: إن تشريع الله تعالى بأي نوع من أنواع الوحي غير مقيد بما يجري في أفهامنا ولو كان ما يجري في أفهامنا ظاهرًا كل الظهور؛ فله أن يخالفه، وله أن يوافقه، والقياس دليل ضرورة، لا يعمل به إلا عند العجز عن معرفة حكم الله، بواسطة أي نوع من أنواع الوحي؛ فهو بجانب السنة لا قيمة له، سواء أوافقها أم خالفها؛ حتى السنة التي تكون عن اجتهاد وقياس؛ فإنا لم نحتج بها حينئذ إلا من حيث العصمة عن الخطأ في الاجتهاد، أو تقرير الله له صلى الله عليه وسلم على الحكم.
ثم نقول: إذا ساغ لك أن تثبت حكمًا "لم ينص عليه الكتاب" بالقياس استقلالًا؛ أفلا يسوغ لك أن تثبته بالسنة استقلالًا؟
قد يكون لك شيء من الشبهة في جعلك السنة أدنى مرتبة من الكتاب، أما أن تقول: إن السنة متأخرة عن القياس، وإنها إذا وافقته يكون هو المؤسس للحكم والسنة هي المؤكدة، وإن القياس يقوى على الاستقلال دونها؛ فهذا أمر ليس لك فيه أقل شبهة. قاله في "حجية السنة""ص532-534".
1 كما يأتي في احتجاب سودة. "د".
2 إذا جعل بالجر عطفًا على ما قبله كانت القاعدة قاصرة عن شمول مثل الحكم في الجنين بالغرة في المثال الثامن، حيث قال فيه:"وإن له حكم نفسه"، وإذا جعل بالرفع عطفًا على قوله:"لاحق" يكون نوعًا ثالثًا غير اللحوق بأحد الطرفين أو بهما؛ فتكون القاعدة شاملة لمثل هذا الحكم. "د".
3 انظر: "أفعال الرسول، صلى الله عليه وسلم""1/ 119 وما بعدها" للشيخ محمد الأشقر.
الْأَصْلَيْنِ أَشْيَاءُ يُمْكِنُ لَحَاقُهَا بِأَحَدِهِمَا؛ فَبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ مَا اتَّضَحَ بِهِ الْأَمْرُ1؛ فَنَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ2، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَالَ:"إِنَّهَا رِكْسٌ"3.
وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ الْقُنْفُذِ؛ فقال: "كُلْ". وَتَلَا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 145]، فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ: "هُوَ خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ". فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "إِنْ قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَمَا قَالَ"4.
1 في "ط": "بالأمر".
2 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع، 9/ 657/ رقم 5530" عن أبي ثعلبة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نهى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ.
وأخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مخلب من الطير، 3/ 1533/ رقم 1932" عن أبي ثعلبة نحوه، وأخرجه برقم "1934" عن ابن عباس ولفظه:"نهى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير".
3 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية، 9/ 653/ رقم 5528"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيد والذبائح/ رقم 1940" عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديًا فنادى في الناس:"إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الأهلية". زاد مسلم: "فإنها رجس أو نجس".
وكتب "ف" هنا ما نصه: الركس شبيه بالرجيع، والمراد هنا النجس، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بروث في الاستنجاء فقال:"إنه ركس" ا. هـ.
قلت: وخرجت الحديث الذي أورده "ف" في "الخلافيات""2/ رقم 375، 378"، وهو صحيح.
4 أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب الأطعمة، باب في أكل حشرات الأرض، 3/ 354/ رقم 3799" -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى""9/ 326"- وأحمد في "المسند""2 / 381" من طريق عيسى بن نميلة عن أبيه؛ قال: كنت عند ابن عمر؛ فسئل
…
وذكر نحوه.
قال البيهقي عقبه: "هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد فيه ضعف".
قلت: آفته ابن نميلة وأبوه فهما مجهولان، والذي سمعه من أبي هريرة مبهم أيضًا، ولذا قال الخطابي:"ليس إسناده بذاك"، وأقره ابن حجر في "التلخيص الحبير""4/ 156".
وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ: "نَهَى عليه الصلاة والسلام عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا"1، وَذَلِكَ لِمَا فِي لَحْمِهَا وَلِبَنِهَا مِنْ أَثَرِ الْجِلَّةِ وَهِيَ الْعَذِرَةُ2.
فَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِلْحَاقِ بِأَصْلِ الخبائث، كما ألحق عليه
1 أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها، 3/ 351/ رقم 1785"، والترمذي في "الجامع""أبواب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة، 4/ 270/ رقم 1824"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الذبائح، باب النهي عن لحوم الجلالة، 2/ 1064/ رقم 3189"، والبيهقي في "السن الكبرى""9/ 332"، والبغوي في "شرح السنة""11/ 252" من طريق ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر به.
قال الترمذي: "حديث حسن غريب، وروى الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا".
قلت: الثوري أثبت بلا شك من ابن إسحاق؛ فراويته تقدم ولكن يشهد لرواية ابن إسحاق أحاديث عديدة، منها: حديث ابن عباس، ونصه:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبن الجلالة"، أخرجه الترمذي في "الجامع""رقم 1825"، وأبو داود في "السنن""رقم 3719"، والنسائي في "المجتبى""7/ 240"، وأحمد في "المسند""1/ 229، 241، 293، 321، 339"، وابن حبان في "الصحيح""12/ 220-221/ رقم 3599، الإحسان"، والحاكم في "المستدرك""2/ 34"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 887"، والطبراني في "الكبير""رقم 11819، 11820، 11821"، والبيهقي في "الكبرى""5/ 254 و9/ 333، 334"، وإسناده صحيح.
قال ابن حبان عقبه: "الجلالة: ما كان الغالب على علفها القذارة، فإذا كان الغالب على علفها الأشياء الطاهرة الطيبة لم تكن بجلالة".
2 كذا في "ط" وهامش الأصل، ووقعت في جميع النسخ المطبوعة هكذا "العنهدة"، وكتب "ف":"لم نقف عليه"، وفي "اللسان":"الجلة: البعرة والعذرة".
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الضَّبَّ1 وَالْحُبَارَى2 وَالْأَرْنَبَ3 وَأَشْبَاهَهَا4 بِأَصْلِ الطيبات.
1 وذلك في إقراره من أكله وتعليل الامتناع عن أكله بقوله: "إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"، كما هو في "صحيح البخاري""كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، و"صحيح مسلم""كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد، رضي الله عنه.
2 أخرج أبو داود في "السنن""كتاب الأطعمة، باب في أكل لحم الحبارى، 3/ 354/ رقم 3797"، والترمذي في "الجامع""أبواب الأطعمة باب ما جاء في أكل الحبارى، 3/ 77/ رقم 1828"، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات""رقم 1021"، والمحاملي في "أماليه""رقم 528، رواية ابن البيع"، والطبراني في "الكبير""7/ 95"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير""3/ 168"، وابن عدي في "الكامل""2/ 497"، والبيهقي في "الكبرى""9/ 322"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 111" من طريق إبراهيم -ولقبه برية- بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده؛ قال: أكلت مع رسول الله لحم حبارى، قال الترمذي عقبه:"هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن عمر بن سفينة روى عنه ابن أبي فديك، ويقال: برية بن عمر بن سفينة".
قلت: إسناده ضعيف جدًّا، أورد العقيلي الحديث في "ضعفائه""3/ 168" في ترجمة "عمر بن سفينة"، وقال:"حديث غير محفوظ ولا يعرف إلا به، ونقل عن البخاري قوله: "إسناده مجهول".
قلت: عمر صدقه أبو زرعة كما في "الجرح والتعديل""6/ 113"، وآفته ابنه، قال ابن حبان في ترجمة إبراهيم:"يخالف الثقات في الروايات، ويروي عن أبيه ما لا يتابع عليه من رواية الأثبات؛ فلا يحل الاحتجاج بخبره بحال"، وضعفه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 154" بقوله:"وإسناده ضعيف، ضعفه العقيلي وابن حبان".
وانظر غير مأمور: "من روى عن أبيه عن جده""ص77-78".
و"الحبارى": طائر طويل العنق رمادي اللون على شكل الإوزة، الذكر والأنثى والجمع فيه سواء.
انظر: "اللسان""4/ 160"، و"المعجم الوسيط""1/ 152"، و"حياة الحيوان الكبرى""1/ 225-226"، وأكلها حلال.
3 ويدل عليه ما أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الذبائح والصيد، باب الأرنب، 9/ 661/ رقم 5535"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الأرنب، 3/ 1547/ رقم 1953" عن أنس رضي الله عنه قال: أنفجنا -أي: أثرنا- أرنبًا ونحن بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا -أي: تعبوا- فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة فذبحها، فبعث بوركيها -أو قال: بفخذيها- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلها. لفظ البخاري.
4 من مثل الجراد، وسيأتي الدليل على إباحته "ص372".
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ مَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ؛ كَالْمَاءِ، وَاللَّبَنِ، وَالْعَسَلِ وَأَشْبَاهِهَا، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ إِزَالَةِ الْعَقْلِ الْمُوقِعِ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ؛ فَوَقَعَ فِيمَا بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ مَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُسْكِرَ، وَهُوَ نَبِيذُ الدُّبَّاءِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَالنَّقِيرِ1 وَغَيْرِهَا؛ فَنَهَى عَنْهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِالْمُسْكِرَاتِ تَحْقِيقًا؛ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فِي أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ كَالْمَاءِ وَالْعَسَلِ؛ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"كُنْتُ 2 نَهَيْتُكُمْ عَنِ الِانْتِبَاذِ 3؛ فانتبذوا" 4، و "كل
1 أي: المنبوذ في هذه الأوعية، والدباء: ما يتخذ من القرع، واحدته دباءة، والمزفت: إناء يطلى بالزفت وهو القار، والنقير أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ فقد كان أهل اليمامة ينقرون أصل النخلة ثم يشدخون فيها الرطب والبسر، ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وفي الحديث:"نهى صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والنقير"، والحنتم: جرار مدهونة خضر أو حمر، ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم، واحده حنتمة، وخصت هذه الأواني بالنهي لإسراعها بتغير ما ينبذ فيها. "ف".
2 تحريم الانتباذ في هذه الأوعية سد للذريعة، وفطام لهم عن المسكر وأوعيته؛ إذ كانوا حديثي عهد بشربه، فلما استقر تحريمه عندهم، واطمأنت إليه نفوسهم، وشكوا من ضيق الأمر عليهم بمنع هذه الأواني التي لا مندوحة لهم عنها؛ أباح لهم الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكرًا؛ فقد رجح جانب التحريم حيث قام مقتضيه، فلما زال المقتضى رجح جانب الحل الذي هو الأصل، وسواء أقلنا: إن ذلك بوحي أم باجتهاد؛ فالكل بيانه صلى الله عليه وسلم. "د".
3 أي: في تلك الأواني، وفي بعض الروايات وقع التصريح بها. "ف".
4 أخرجه النسائي في "المجتبى""كتاب الأشربة، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر، 8/ 319، ص195"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""4/ 328"، والطيالسي =
.........................................................................
= في "المسند""ص195"، والدارقطني في "السنن""4/ 259"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 298" من طريق أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن أبي بردة بن نيار الأنصاري مرفوعًا:"إني كنت نهيتكم عن الشرب في الأوعية، فاشربوا فيما بدا لكم، ولا تسكروا". وله عندهم ألفاظ منها للنسائي: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا ".
ثم قال: "هذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم، لا نعلم أن أحدًا تابعه عليه من أصحاب سماك بن حرب، وسماك ليس بالقوي، كان يقبل التلقين، قال أحمد بن حنبل: كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث، خالفه شريك في إسناده ولفظه، ثم رواه النسائي من طريق شريك عن سماك عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعًا: "نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت". وخالفه أبو عوانة؛ فرواه عن سماك عن قرصافة امرأة منهم عن عائشة؛ قالت: "اشربوا ولا تسكروا"، قال النسائي: وهذا أيضًا غير ثابت وقرصافة هذه لا ندري من هي، والمشهور عن عائشة خلاف ما روت عنها قرصافة".
ثم خرجه بلفظ آخر بعيد عن هذا المعنى، وقال الدارقطني:"وهم فيه أبو الأحوص في إسناده ومتنه، وقال غيره: عن سماك عن القاسم عن ابن بريدة عن أبيه: "ولا تشربوا مسكرًا"، ثم أخرجه كذلك من طريق يحيى بن يحيى النيسابوري عن محمد بن جابر عن سماك، ثم قال: وهذا هو الصواب".
وذكر ابن أبي حاتم في "العلل""2/ 24-25" أنه سأل أبا زرعة عن حديث أبي الأحوص هذا؛ فقال أبو زرعة: "وهم فيه أبو الأحوص قلب من الإسناد موضعًا وصحف في موضع، أما القلب؛ فقوله عن أبي بردة، أراد عن ابن بريدة ثم احتاج أن يقول ابن بريدة عن أبيه؛ فقلب الإسناد بأسره، وأفحش في الخطأ، وأفحش من ذلك وأشنع تصحيفه في متنه: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا"، وقد روى هذا الحديث عن ابن بريدة عن أبيه أبو سنان ضرار بن مرة، وزبيد اليامي عن محارب بن دثار، وسماك بن حرب، والمغيرة بن سبيع، وعلقمة بن مرثد، والزبير بن عدي، وعطاء الخراساني، وسلمة بن كهيل عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء؛ فاشربوا في الأسقية، ولا تشربوا مسكرًا". وفي حديث بعضهم:"واجتنبوا كل مسكر" ولم =
مُسْكِرٍ حَرَامٌ" 1، وَبَقِيَ فِي قَلِيلِ الْمُسْكِرِ عَلَى الأصل من التحريم2؛ فبين أن
= يقل أحد منهم: ولا تسكروا؛ وقد بان وهم حديث أبي الأحوص من اتفاق هؤلاء المسمين على ما ذكرنا من خلافه، قال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أبي الأحوص خطأ في الإسناد والكلام، فأما الإسناد؛ فإن شريكًا وأيوب ومحمدًا ابني جابر رووه عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي -صلى الله علي وسلم- كما رواه الناس:"فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا". قال أبو زرعة: كذا أقول، وهذا خطأ، والصحيح حديث ابن بريدة عن أبيه.
وأخرج ابن ماجه في "السنن""كتاب الأشربة، باب ما رخص فيه من ذلك، 2/ 1128/ رقم 3406"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 227-228" عن ابن مسعود مرفوعًا:" إني كنت نهيتكم عن نبيذ الأوعية، ألا وإن وعاء لا يحرم شيئًا، كل مسكر حرام".
وأخرجه أيضًا الطبراني في "الكبير""رقم 10304"، وابن حبان في "الصحيح""12/ 229-230/ رقم 5409، الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى""8/ 311"، وإسناده حسن، وحسنه البوصيري في "مصباح الزجاجة""3/ 108".
ثم وقفت عليه باللفظ الذي ذكره المصنف، وهو قطعة من حديث فيه قصة عن أبي سعيد، أخرجه مالك في "الموطأ""2/ 485 في كتاب الضحايا، باب ادخار لحوم الأضاحي" عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبي سعيد، ولم يسمع ربيعة من أبي سعيد، ولكن أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار""4/ 228"، والحاكم في "المستدرك""1/ 374، 375"، والبيهقي في "الكبرى""8/ 311" من طريق ابن وهب عن أسامة بن زيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن واسع بن حبان عن أبي سعيد نحوه، وإسناده صحيح.
وانظر: "صحيح البخاري""كتاب الأشربة، باب الانتباذ في الأوعية والتور، 10/ 56-57"، و"صحيح مسلم""كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرًا، 3/ 1557"، وقد مضى نحو هذا الحديث وشواهد كثيرة له وتخريجها في "2/ 79-80".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 3/ 1587/ رقم 2002" عن جابر، رضي الله عنه.
وورد عن ابن عمر في "صحيح مسلم""رقم 2003" بلفظ: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، وعن عائشة في "الصحيحين" كما بينته في التعليق على "2/ 522".
وانظر تخريج الحديث السابق.
2 لعله قد سقط من النسخة هنا كلمة "أو الإباحة" فالفرض أنه بقيت واسطة وهي القليل الذي لا يسكر، إلى أي الطرفي تنضم، فبين أن ما أسكر كثيره
…
إلخ. "د".
مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ؛ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ1، وَكَذَلِكَ نَهَى عَنِ الْخَلِيطَيْنِ لِلْمَعْنَى الَّذِي نَهَى مِنْ أَجْلِهِ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَغَيْرِهِمَا2؛ فَهَذَا وَنَحْوُهُ دَائِرٌ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ، فَكَانَ البيان مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَيِّنُ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا إِلَى أَيِّ جِهَةٍ يُضَافُ مِنَ الْأَصْلَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ مِنْ صَيْدِ الْجَارِحِ الْمُعَلَّمِ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ، وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا فَصَيْدُهُ حَرَامٌ، إِذْ لَمْ يُمْسِكْ إِلَّا على نفسه؛ فدار
1 أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر، 3/ 327/ رقم 3681"، والترمذي في "الجامع""أبواب الأشربة، باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، 4/ 292/ رقم 1865"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، 2/ 1125/ رقم 3393"، وأحمد في "المسند""3/ 343"، و"الأشربة""148"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 860"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار "4/ 351" من طريق داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر به مرفوعًا، وإسناده حسن من أجل داود، وقد تابعه موسى بن عقبة -وهو ثقة-، أخرجه من طريقه ابن حبان في "الصحيح" "12/ 202/ رقم 5382، الإحسان"، وسلمة بن صالح -وهو ضعيف- أخرجه من طريقه ابن عدي في "الكامل" "3/ 1177".
والحديث صحيح بمجموع طريقيه، والله والموفق.
قال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وعائشة وعبد الله بن عمر وابن عمرو وخوات بن جبير"، وقال عن حديث جابر:"هذا حديث حسن غريب من حديث جابر". وانظر: "نصب الراية""4/ 301-305".
2 في "ط": "والجر وغيرها"، وفي نسختي "ف" و"م":"وغيرها"، ولذا كتب "ف" هنا:"لعله: "وغيرهما" أو يزاد قبله "والنقير"".
بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ مَا كَانَ مُعَلَّمًا وَلَكِنَّهُ أَكَلَ مِنْ صَيْدِهِ؛ فَالتَّعْلِيمُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَيْكَ وَالْأَكْلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ اصْطَادَ لِنَفْسِهِ لَا لَكَ، فَتَعَارَضَ الْأَصْلَانِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِ ذَلِكَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ"1.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "إِذَا قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَيْكَ"2.
وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسم الله؛ فكل وإن
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الذبائح والصيد، باب التسمية على الصيد، 9/ 598/ رقم 5475"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529-1530/ رقم 1929" عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه.
2 أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 271/ رقم 2851"، والترمذي في "الجامع""أبواب الصيد، باب ما جاء في صيد البزاة، 4/ 66/ رقم 1467"، وأحمد في "المسند""4/ 257/ 377، 379"، والبيهقي في "السنن الكبرى""9/ 238" من طريق مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به.
قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي، والعمل على هذا عند أهل العلم".
قلت: مجالد ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره؛ إلا أنه توبع، ولكن بلفظ آخر نحو المذكور.
أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب، 9/ 609/ رقم 5483"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529/ رقم 1929" عن بيان عن الشعبي عن عدي بن حاتم؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب. قال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله؛ فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن؛ إلا أن يأكل الكلب، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها؛ فلا تأكل". لفظ البخاري.
قلت: وكلام الترمذي السابق يقيد بما قاله البيهقي عقبه: "ذكر البازي في هذه الرواية لم يأت به الحفاظ الذين رووه عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد".
أكل منه" 1 الحديث.
1 أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 271-272/ رقم 2852" -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى""9/ 237-238"، وابن عبد البر في "الاستذكار""15/ 285/ رقم 21939"- من طريق داود بن عمرو الدمشقي عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة به، وقال البيهقي عقبه:"حديث أبي ثعلبة مخرج في "الصحيحين" من حديث ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة وليس فيه ذكر الأكل، وحديث الشعبي عن عدي أصح من حديث داود بن عمرو الدمشقي ومن حديث عمرو بن شعيب".
قلت: وإسناده ضعيف، وفيه نكارة واضحة.
وداود بن عمرو ضعف، وقال ابن حجر في "التقريب" "199":"صدوق يخطئ"، وأخطأ في هذا الحديث، ولفظ:"إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله، فكل". قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: "وإن أكل". فأخطأ في قوله: "وإن أكل"، والصواب قوله:"وإن قتل".
ويقع مثل هذا كثيرًا للرواة، والأدلة على ما قلت كثيرة، هذا بعضها:
- الثابت في حديث عدي السابق: "وإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه"، ومن المحال أن يروي الثقات الأثبات هذا، ثم يروون حديث أبي ثعلبة، ولا يتعرضون لمثل هذه اللفظة؛ فالحاجة إليها ماسة، فانفراد من يخطئ بها دلالة على عدم ثبوتها.
- مخالفتها لصريح القرآن، وهو قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم} [المائدة: 4] .
- قول الذهبي في ترجمة "داود بن عمرو" في "الميزان""2/ 17-18": "تفرد بحديث: "وإذا أرسلت كلبك
…
فكل وإن أكل منه""، قال:"وهو حديث منكر".
- قول ابن حزم في "المحلى""7/ 471": "هو حديث ساقط لا يصح، وداود بن عمرو ضعيف، ضعفه أحمد بن حنبل".
وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه نحو ما في الحديث السابق؛ فأخرجه أبو داود في "سننه""كتاب الصيد، باب في الصيد، 3/ 110/ 2857"، والبيهقي في "الكبرى""9/ 238"، و"المعرفة" "13/ 445/ رقم 18786" من طريق حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أعرابيًّا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله! إن لي كلابًا مكلبة؛ فأفتني في صيدها. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم:"إذا كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك".
قال: ذكيًّا أو غير ذكي؟ قال: "نعم"، قال: فإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه". وهو حديث معلول؛ =
وَجَمِيعُ ذَلِكَ رُجُوعٌ لِلْأَصْلَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ1.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ لَا يَقْتُلَ الصَّيْدَ مُطْلَقًا، وَجَاءَ أَنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا الْجَزَاءَ، وَأُبِيحَ لِلْحَلَالِ مُطْلَقًا؛ فَمَنْ قَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَبَقِيَ قَتْلُهُ خَطَّأً فِي مَحَلِّ النَّظَرِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ2 بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَمْدِ والخطأ،
= فقد رواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن عمرو بن شعيب، فقال عن رجل من هذيل: إنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلب يصطاد، قال:"كل أكل أو لم يأكل". ذكره البيهقي، ثم قال: فصار حديث عمرو بن شعيب بهذا معلولًا.
وحكم على ظاهر سنده ابن حجر في "الفتح""9/ 602"؛ فقال: "سنده لا بأس به"، وحكمه في "التلخيص الحبير""2/ 136" أدق، وذلك عند قوله:"أعله البيهقي"، وتعنت ابن حزم بتضعيفه إياه في "المحلى""7/ 471" بأنه صحيفة.
وقد ثبت عن ابن عمر وسعد نحو هذا؛ كما في "الموطأ""2/ 492، 493"، وانظر في بسط المسألة وأقوال أئمة الفقه في:"الاستذكار""15/ 281 وما بعدها"، و"دلائل الأحكام""4/ 239 وما بعدها".
وإذا علم ضعف الحديث؛ فلا وجه لما كتبه "د" هنا، وهذا نصه:"فيكون الحديث الأول من الإلحاق بأحد الطرفين احتياطًا فقط".
1 أي: الطرفين الواضحين. "د".
2 كما أخرج مالك في "الموطأ""267، رواية يحيى و1245، رواية أبي مصعب" عن عبد العزيز -قال أبو مصعب: عبد الملك- بن قرير عن محمد بن سيرين؛ أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: "إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين، نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيًا ونحن محرمان؛ فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت. قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلًا يحكم معه. فسمع عمر قول الرجل، فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا
…
قال: فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا. فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربًا. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، وهذا عبد الرحمن بن عوف".
قَالَ الزُّهْرِيُّ: "جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ، وَهُوَ فِي الْخَطَأِ سُنَّةٌ"1، وَالزُّهْرِيُّ مِنْ أَعْلَمِ الناس بالسنن.
= وأخرجه من طريق مالك: عبد الرزاق في "المصنف""4/ 408"، والبيهقي في "السنن الكبرى""5/ 203"، و"المعرفة""7/ 450/ رقم 10652".
قال ابن عبد البر في "الاستذكار""13/ 275-277": "أمر ابن وضاح بطرح عبد الملك اسم شيخ مالك في هذا الحديث، فقال: اجعله عن ابن قرير، وكذلك روايته عن يحيى عن مالك عن ابن قرير عن محمد بن سيرين في هذا الحديث، ورواية عبيد الله عن أبيه يحيى بن يحيى عن مالك عن عبد الملك بن قرير، وهو عند أكثر العلماء خطأ؛ لأن عبد الملك بن قرير لا يعرف.
قال يحيى بن معين: "وهم مالك في اسمه، شك في اسم أبيه، وإنما هو عبد الملك بن قريب وهو الأصمعي"، وقال آخرون: إنما وهم مالك في اسمه لا في اسم أبيه، وإنما هو عبد العزيز بن قرير، رجل بصري، يروي عن ابن سيرين أحاديث، هذا منها، وقال أحمد بن عبد الله بن بكير: لم يهم مالك في اسمه، ولا في اسم أبيه، وإنما هو عبد الملك بن قرير كما قال مالك، أخو عبد العزيز بن قرير".
ونقل البيهقي في "المعرفة""7/ 451" أن الشافعي خطأ مالكًا أيضًا في هذا الاسم، وعلى أية حال؛ فالأمر كما قال ابن عبد البر:"الرجل مجهول، والحديث معروف محفوظ من رواية البصريين والكوفيين".
قلت: وللطريق الأول علة أخرى، وهي الانقطاع بين ابن سيرين وعمر، كما نبه عليه ابن التركماني في "الجوهر النقي""5/ 203"، قال ابن عبد البر:"رواه ابن جابر، ورواه عن قبيصة الشعبي، ومحمد بن عبد الملك بن قارب الثقفي، وعبد الملك بن عمير، وهو أحسنهم سياقة له، ورواه عن عبد الملك بن عمير جماعة من أهل الحديث، منهم سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن عبد الحميد، وعبد الملك المسعودي، ومعمر بن راشد، ذكرها كلها علي بن المديني". ثم أسندها من جميع هذه الطرق ثم قال: "ظاهر حديث مالك من قوله: "أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيًا" يدل على أن قتل ذلك الظبي كان خطأ".
1 أخرجه بسنده إليه عبد الرزاق في "المصنف""4/ 391/ رقم 8178"، وذكره عنه ابن عبد البر في "الاستذكار" "13/ 285". وفي "ط": "جاء في القرآن
…
على العمد
…
".
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ قَدْ بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ، وَجَاءَتْ بَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُلْتَبِسَةٌ لِأَخْذِهَا بِطَرَفٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ فَبَيَّنَ صَاحِبُ السُّنَّةِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى التَّفْصِيلِ.
فَالْأَوَّلُ1 قَوْلُهُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" 2 الْحَدِيثَ.
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ: "وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ" لِمَا رأى من شبهه بعتبة، الحديث3.
1 أي: ما كان على الجملة. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح""كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان بن بشير، رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، 4/ 292/ رقم 2053، وباب شراء المملوك من الحربي، 4/ 441/ رقم 2218، وكتاب الخصومات، باب دعوى الوصي للميت، 5/ 74/ رقم 2421، وكتاب العتق، باب أم الولد، 5/ 163/ رقم 2533، وكتاب الوصايا، باب قول الموصي لوصيه: تعاهد ولدي، 5/ 371/ رقم 2745، وكتاب المغازي، باب منه، 8/ 23/ رقم 4303، وكتاب الفرائض، باب الولد للفراش حرة كانت أو أمة، 12/ 32/ رقم 6749، وباب من ادعى أخًا وابن أخ، 12/ 52/ رقم 6765، وكتاب الحدود، باب للعاهر الحجر، 12/ 127/ رقم 6817، وكتاب الأحكام، باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، 13/ 172/ رقم 7182"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات، 2/ 1080/ رقم 1457" عن عائشة رضي الله عنها وقوله، صلى الله عليه وسلم:"احتجبي منه"، حمله بعضهم على جهة الاختيار والتنزه؛ فإن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها، وقال بعضهم: كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر؛ فكأنه حكم بحكمين: حكم ظاهر، وهو"الولد للفراش"، وحكم باطن، وهو الاحتجاب من أجل الشبه، كأنه قال: ليس بأخ لك يا سودة إلا في حكم الله بالولد للفراش، فاحتجبي منه لما رأى شبهه لعتبة. أفاده ابن عبد البر في "التمهيد""8/ 186".
كتب "د" هنا ما نصه: "لما رأى شبهه بعتبة؛ فألحق بصاحب الفراش، وهو واضح، وألحقه بغير صاحب الفراش من جهة المحرمية، فلم يجعله من محارم سودة؛ لوضوح شبهه بغير أبيها احتياطًا". وفي "ط": "هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي
…
".
وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّيْدِ: "فَإِذَا اخْتَلَطَ بِكِلَابِكَ كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا؛ فَلَا تَأْكُلْ، لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ قَتَلَهُ الَّذِي لَيْسَ مِنْهَا"1.
وَقَالَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ2 وَقَدْ كَانَتْ تُطْرَحُ فِيهَا الْحِيَضُ3 وَالْعَذِرَاتُ: "خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" 4؛ فَحَكَمَ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وهو الطهارة.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب، 9/ 609/ رقم 5483"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، 3/ 1529/ رقم 1929" عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه.
2 بضاعة -بضم الباء- هو المشهور، وذكر الجوهري الضم والكسر، قال المنذري: "بئر بضاعة: دار لبني ساعدة بالمدينة، وبئرها معلوم، وبها مال من أموال أهل المدينة، قيل: بضاعة: اسم لصاحب البئر، وقيل: لموضعها.
3 جمع حيضة -بكسر فسكون- وهي الخرقة التي تستثفر بها المرأة؛ كالمحيضة، وجمعها محايض، وفي حديث عائشة:"ليتني كنت حيضة ملقاة"، وفي حديث بئر بضاعة:"تلقى فيها المحايض". "ف".
قلت: في الأصل: "خرق الحيض بدل من الحيض". قلت: انظر أيضًا "الصحاح""3/ 1073".
4 للحديث طرق كثيرة، أحسنها طريق أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب القرظي عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد به، كما عند أحمد في "المسند""3/ 31"، وأبي داود في "السنن""رقم 66"، والترمذي في "الجامع""1/ 95"، والنسائي في "المجتبى""1/ 174"، والدارقطني في "السنن""1/ 30"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 47"، وابن أبي شيبة في "المصنف""1/ 141-142"، والبغوي في "شرح السنة" "2/ 60/ =
........................................................................
= رقم 283"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 269".
وقال الترمذي: "حديث حسن، وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد"، وقال البغوي:"هذا حديث حسن صحيح"، وقال شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" "1/ 45":"قلت: ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين، غير عبيد الله بن عبد الله بن رافع"، وصححه لطرقه وشواهده.
قلت: ومن أصح شواهده حديث سهل بن سعد، أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار""1/ 12"، والدارقطني في "السنن""1/ 32"، والبيهقي في "السن الكبرى""1/ 259"، وقاسم بن أصبغ في "مصنفه"، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى""1/ 155"، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في "مستخرجه على سنن أبي داود" كما في "التلخيص الحبير""1/ 13".
والحديث صححه أحمد بن حنبل. قال الخلال: "قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح، وصححه أيضًا يحيى بن معين وابن حزم، وحسنه ابن القطان، وقال ابن أصبغ: أحسن شيء في بئر بضاعة، وقال العيني: إسناده صحيح، وصححه النووي".
انظر: "التلخيص الحبير""1/ 12"، و"تحفة المحتاج""1/ 137"، و"المجموع""1/ 82"، و"المغني""1/ 25"، و"خلاصة البدر المنير""1/ 7"، و"البناية في شرح الهداية""1/ 320"، و"إرواء الغليل""1/ 45-46"، و"الهداية في تخريج أحاديث البداية""1/ 266"، و"تحفة الطالب" لابن كثير "رقم 146"، و"تنقيح التحقيق""1/ 205-207"، و"البدر المنير" "2/ 51-61". وانظر لزامًا:"الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام "رقم 145-146"، و"الخلافيات" المجلد الثالث مع تعليقي عليهما.
وكتب "د" هنا ما نصه: "الحديث أخرجه أصحاب السنن، وفيه: إنا نستقي لك الماء من بئر بضاعة وتلقي فيها لحوم الكلاب وخرق المحايض وعذر الناس "جمع عذرة، وهي الفتيلة التي توضع داخل الحلق إذا أصابه وجع"، وإذا نظر إلى الروايات الأخرى التي فيها زيادة: "إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه"، يكون الحكم بالطهارة لأن علامة التنجيس لم توجد فيه، وإن كانت هذه الروايات ضعيفة سندًا!! لكنها لا بد أن تكون بحيث يعتمد عليها، بدليل الإجماع على معناها، ولا إجماع بدون سند من الكتاب أو السنة؛ فلا يكون مما نحن فيه لأنه من باب تحقيق المناط فقط إذا كانت القاعدة مقررة من قبل، ويكون هذا كتذكير لهم بالحكم، أما إذا كان إنشاء للحكم، فهو من الباب".
وَجَاءَ فِي الصَّيْدِ: "كُلْ مَا أَصْمَيْتَ1، وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ"2.
وَقَالَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الحارث فِي الرَّضَاعِ؛ إِذْ3 أَخْبَرَتْهُ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ بِأَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ، وَالْمَرْأَةُ4 الَّتِي أَرَادَ تَزَوُّجَهَا، قَالَ فِيهِ: "كيف 5 بها وقد زعمت أنها
1 أي: ما أصابه السهم فأسرع بموته وأنت تراه، من "الإصماء" وهو أن تقتل الصيد مكانه، و"الإنماء" أن تصيبه إصابة غير قاتلة في الحال، ومعناه: أن ما أصبته، ثم غاب عنك فمات بعد ذلك فلا تأكله؛ فإنك لا تدي أمات بصيدك أم بعارض آخر. "ف".
قلت: انظر في تفصيل هذا المعنى وأحكامه: "تفسير القرطبي""6/ 71-72"، و"فتح الباري""9/ 611"، و"معرفة السنن والآثار""13/ 449-450".
2 أخرجه الطبراني في "الكبير""12/ 27/ رقم 12370" بإسناد ضعيف، فيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير""4/ 136"، وأخرجه البيهقي في "الكبرى""9/ 241"، و"المعرفة""13/ 449/ رقم 18800، 18802" من طريقين عن ابن عباس موقوفًا، وهو أشبه، وصححه البيهقي موقوفًا، وضعف المرفوع، وانظر:"فتح الباري""9/ 611"، و"مجمع الزوائد""4/ 162"، و"تخريج العراقي لأحاديث الإحياء""2/ 96".
وللمرفوع شاهد من حديث عمرو بن تميم عن أبيه عن جده؛ كما عند أبي نعيم في "المعرفة"، وفيه محمد بن سليمان بن مشمول وقد ضعفوه، وانظر:"من روى عنه أبيه عن جده""ص493"، و"لسان الميزان""2/ 73".
وكتب "د" هنا ما نصه: "وبالتأمل في الفرق بين مسألة الصيد ومسألة الماء، حيث أنه صلى الله عليه وسلم رجح في الصيد عدم الحل وفي الماء الطهارة، تجد أنه قد أخذ فيهما بالأصل إن كان اجتهادًا؛ فالأصل الذكاة الشرعية المعروفة، والصيد رخصة بقيود وشروط؛ فما لم نجزم بحصول الشروط رجعنا إلى الأصل، وهو عدم الحل؛ لأنه غير مذكى، وكذلك الماء رجح فيه الأصل، وهو الوصف الذي خلق عليه حتى يتبين ما يخالفه، ولما لم يتبين بقي على أصله".
3 في النسخ المطبوعة: "إذا"، والمثبت من الأصل و"ط".
4 أي: مع المرأة. "ف".
5 في "ط": "فكيف".
قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ دَعْهَا عَنْكَ" 1.
إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرَةٍ.
وَالسَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ عز وجل حَرَّمَ الزِّنَى، وَأَحَلَّ التَّزْوِيجَ وَمِلْكِ الْيَمِينَ، وَسَكَتَ عَنِ النِّكَاحِ الْمُخَالِفِ لِلْمَشْرُوعِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ مَحْضٍ وَلَا سِفَاحٍ مَحْضٍ؛ فَجَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، حَتَّى يَكُونَ2 مَحَلًّا لِاجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ فِي إِلْحَاقِهِ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ مُطْلَقًا3، أَوْ فِي4 بَعْضِ الْأَحْوَالِ،
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، 4/ 291/ رقم 2052، وكتاب النكاح، باب شهادة المرضعة، 9/ 152/ رقم 5104"، والنسائي في "المجتبى""كتاب النكاح، باب الشهادة في الرضاع، 6/ 109"، و"الكبرى" -كما في "التحفة""7/ 300"- والترمذي في "الجامع""أبواب الرضاع، باب ما جاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، 3/ 457/ رقم 1151"، وأبو داود في "السنن""كتاب الأقضية، باب الشهادة في الرضاع، 3/ 306-307/ رقم 3603"، وأحمد في "المسند""4/ 7، 383-384"، والدارقطني في "السنن""4/ 175-176"، والحميدي في "المسند""رقم 579"، والبيهقي في "الكبرى""7/ 463" عن عقبة بن الحارث، رضي الله عنه.
وكتب "د" هنا ما نصه: "وفيه أنه تزوج بنتًا لأبي إهاب بن عزيز؛ فأتته امرأة فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوج بها، فركب إلى المدينة. فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: "وكيف وقد قيل؟ ". ففارقها؛ إلا أنهم قالوا: إن هذا إرشاد إلى طريق الورع والتنزه عن الشبهات ولو ضعيفة، فإن الشارع جعل لسماع دعوى المرأة في الرضاع شروطًا لم تستوف ههنا؛ فكان مقتضاه ألا يلتفت إلى قول المرأة، ولا يقضي به في تحريم هذا النكاح، ومنه تعلم ما في قوله: "التي أراد أن يتزوج بها"".
قلت: انظر في المسألة وفقهها: "شرح السنة""9/ 87"، و"فتح الباري""9/ 153 وما بعدها و5/ 269".
2 أي: المسكوت عنه، أي: باقيه الذي لم تبينه السنة. "د".
3 كما في مثال النكاح بغير ولي قبل الدخول؛ فليس له أثر يترتب عليه إن حصل الطلاق قبل الدخول، وبعد الدخول ألحق بكل من الأصلين في حالة وحكم وإن كانت هذه الأحكام التي ذكرناها أخذت من بيان الحديث لا من اجتهاد العلماء. "د".
4 في الأصل: "على".
وَبِالْأَصْلِ الْآخَرِ فِي حَالٍ آخَرَ؛ فَجَاءَ فِي الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا؛ فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا" 1، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا جَاءَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مِنَ السُّنَّةِ.
وَالسَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ صَيْدَ الْبَحْرِ فِيمَا أَحَلَّ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ فِيمَا حَرَّمَ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَدَارَتْ مَيْتَةُ الْبَحْرِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَأَشْكَلَ حُكْمُهَا؛ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"2.
1 الحديث صحيح بمجموع طرقه؛ كما بينته بتفصيل في تعليقي على "3/ 47".
2 أخرجه مالك في "الموطأ "كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء، 1/ 22/ رقم 12" -ومن طريقه الشافعي في "الأم" "1/ 16"، و"المسند" "8/ 335، مع الأم"، وأبو عبيد في "الطهور" "رقم 231"، ومحمد بن الحسن في "الموطأ" "رقم 46"- وابن أبي شيبة في "المصنف" "1/ 131" و"المسند" كما في "نصب الراية" "1/ 96"، وأحمد في "المسند" "2/ 237 و361 و393"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 176، وكتاب الصيد والذبائح، باب ميتة البحر، 7/ 207"، و"السنن الكبرى" "رقم 67"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، 1/ 100-101/ رقم 69"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 64/ رقم 83"، والدارمي في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر، 1/ 186، وكتاب الصيد، باب في صيد البحر، 2/ 91"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 136/ رقم 386، وكتاب الصيد، باب الطافي من صيد البحر، 2/ 1081/ رقم 3246"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 478، ترجمة سعيد بن سلمة المخزومي"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 119، موارد الظمآن"، وابن خزيمة في "الصحيح" "1/ 59/ رقم 111"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 43"، والدارقطني في "السنن" "1/ 36"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 140-141" و"معرفة علوم الحديث" "ص87"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 3" و"السنن الصغرى" "1/ 63/ رقم 155"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 247"، والبغوي في "شرح السنة" "2/ 55-56/ رقم 281"، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير" "1/ 346"، وقال: "إسناده متصل ثابت"، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، ونقل عنه البخاري تصحيحه =
وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: "أُحِلَّتْ [لَنَا] مَيْتَتَانِ: الحيتان، والجراد"1.
= لهذا الحديث.
وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن السكن وابن المنذر والخطابي والطحاوي وابن منده وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وابن الأثير وابن الملقن والزيلعي وابن حجر والنووي والشوكاني والصنعاني وأحمد شاكر والألباني.
انظر: "نصب الراية""1/ 95"، و"التلخيص الحبير""1/ 9"، و"المجموع""1/ 82"، و"خلاصة البدر المنبر""رقم 1"، و"تحفة المحتاج""رقم 3"، و"البناية شرح الهداية""1/ 297"، وتعليق شاكر على "جامع الترمذي""1/ 101"، و"نيل الأوطار""1/ 17"، و"سبل السلام""1/ 15"، و"إرواء الغليل""1/ 42"، و"البدر المنير""2-5".
وقال الإمام الشافعي في هذا الحديث: "هذا الحديث نصف علم الطهارة". انظر "المجموع""1/ 84"، وانظر لزامًا:"الطهور" لأبي عبيد "رقم 231-240" مع تعليقي عليه.
1 أخرجه أحمد في "المسند""2/ 97"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، 2/ 1073/ رقم 3218، وكتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال، 2/ 1102/ رقم 3314"، والشافعي في "الأم""2/ 223" و"المسند""2/ 173/ رقم 607، ترتيب السندي"، وعبد بن حميد في "المنتخب""ص340 ورقم 820"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير""2/ 331"، وابن عدي في "الكامل""4/ 1582"، وابن حبان في "المجروحين""2/ 58"، والبيهقي في "الكبرى""1/ 254 و9/ 257"، والدارقطني في "السنن""4/ 272"، والبغوي في "شرح السنة""11/ 244"، وابن ثرثال في "سداسياته" -كما في "الصحيحة""رقم 1118"- جميعهم من طريق عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر به مرفوعًا.
وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير""1/ 200، مع الفيض" للحاكم، وتبعه شيخنا في "الصحيحة"، ولم أعثر عليه في "المستدرك"، ولعل منشأ هذا العزو ما حكاه ابن الملقن في "البدر المنير" "2/ 161" و"تحفة المحتاج" "1/ 216/ رقم 122":"رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف، لأجل عبد الرحمن بن أسلم، وإن كان الحاكم قال في "مستدركه" في حديث هو في سنده: هذا حديث صحيح الإسناد"، وذكر الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند""8/ 81" أنه لم يجده في "المستدرك" بعد طول بحث.
والإسناد المذكور ضعيف جدًّا، وقال الدارقطني والبيهقي: "رواه سليمان بن بلال عن زيد =
...........................................................................
= ابن أسلم عن عبد الله بن عمر، أنه قال: "أحلت لنا
…
". قالا: "وهو الأصح"، يعني أن الحديث موقوف وليس بمرفوع.
وهذا الذي رجحه أبو زرعة الرازي، كما في "العلل""2/ 17/ رقم 1524" لابن أبي حاتم، وقال الإمام أحمد في "العلل""2/ 136 و3/ 271/ رقم 1795 و5204، رواية ابنه عبد الله"، "روى عبد الرحمن أيضًا حديثًا آخر منكر، حديث: "أحل لنا ميتتان ودمان"، وأشار إلى صحة وقفه، بروايته في "العلل" أيضًا "1/ 480/ رقم 1099، رواية عبد الله" عن ابن عمر من طريق آخر، وستأتي الإشارة إليه، مع أن ابن عدي في "كامله" "1/ 388" قال: "رواه يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال مرفوعًا"، وأسنده من طريقه "4/ 1503"، قال البيهقي: "وقد رفع هذا الحديث أولاد زيد عن أبيهم، وهم: عبد الله، وأسامة، وعبد الرحمن بنو زيد بن أسلم عن أبيهم عن ابن عمر" قال:"وأولاد زيد كلهم ضعفاء، جرحهم يحيى من معين، وكان أحمد بن حنبل وعلي بن المديني يوثقان عبد الله بن زيد؛ إلا أن الصحيح من هذا الحديث هو الأول"، يعني: الموقوف الذي ذكره.
قلت: ومتابعة عبد الله وأسامة أخرجها أحمد في "العلل""1/ 480/ رقم 1099، رواية ابنه عبد الله"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير""2/ 331"، وابن عدي في "الكامل""1/ 388 و4/ 1503".
وقال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح في "كلامه على الوسيط": "هذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث، غير أنه متماسك"، قال:"وأولاد زيد وإن كانوا قد ضعفوا ثلاثتهم؛ فعبد الله منهم، قد وثقه أحمد وعلي بن المديني". قال: "وفي اجتماعهم على رفعه ما يقويه تقوية صالحة".
قلت: وجنح الشيخ ابن دقيق العيد في "الإمام" إلى تصحيح الرواية المرفوعة من طريق عبد الله بن زيد؛ فإنه قال، عقب قول البيهقي: إن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني كانا يوثقان عبد الله بن زيد إلى آخره: "إذا كان عبد الله على ما قالاه؛ فيدخل حديثه فيما رفعه الثقة، ووقفه غيره، وقد عرف ما فيه عند الأصوليين والفقهاء". يعني: والأصح تقديم ما رواه الرافع؛ لأنها زيادة، وهي من الثقة مقبولة.
قال: "لا سيما وقد تابعه على ذلك أخواه، أي: فلا يسلم أن الصحيح الأول كما قال البيهقي؛ فتكون هذه الطريق حسنة، مع أن الرواية الأخرى يحسن الاستدلال بها، قال البيهقي: =
وَأَكَلَ عليه الصلاة والسلام مِمَّا قَذَفَهُ الْبَحْرُ لَمَّا أَتَى بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ1.
وَالثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، [وَأَقَصَّ مِنَ الْأَطْرَافِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ....} [الْمَائِدَةِ: 45]] 2 إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَذَا فِي الْعَمْدِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ؛ فَالدِّيَةُ لِقَوْلِهِ:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .
= "هي في معنى المسند"، أي: في حكم المرفوع، كما فهم ابن حجر في "الفتح""9/ 621".
قلت: لأن قول الصحابي: "أمرنا بكذا"، و"نهينا عن كذا"، و"أحل كذا"، و"حرم كذا": مرفوع عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى المختار عند جمهور الفقهاء، والأصوليين، والمحدثين.
لا جرم أن الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، والشيخ محيي الدين النووي قالا:"يحصل الاستدلال بهذه الرواية لأنها في معنى المرفوع".
ولهذا الحديث طريق ضعيفة جدًّا، غريبة، لا بأس بالتنبيه عليها، وهي: عن مسور بن الصلت عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا كما تقدم، أخرجه الدارقطني في "العلل""3/ ق 112/ أ"، والخطيب في "تاريخه""12/ 245"، وقال الدارقطني:"لا يصح لأن المسور كان ضعيفًا، وهو كما قال؛ فقد كذبه أحمد، وقال ابن حبان: "يروي عن الثقات الموضوعات، لا يجوز الاحتجاج به".
وله طريق أخرى فيها أبو هاشم كثير بن عبد الله الأبلي، تركه النسائي، وقال البخاري:"منكر الحديث"، ولذا قال ابن حجر بعد كلامه على رواية أولاد زيد: "تابعهم شخص أضعف منهم، وهو
…
".
وانظر: "التلخيص الحبير""1/ 26"، و"نصب الراية""4/ 202"، و"البدر المنير""2/ 158-164"، و"تخريج الزيلعي على الكشاف""1/ 100/ رقم 84".
1 أخرج ذلك البخاري في "صحيحه""كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر وهم يتلقون عيرًا لقريش وأميرهم أبو عبيدة، 8/ 78/ رقم 4362"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل، 4/ 2308-2309/ رقم 3014" عن جابر رضي الله عنه وليس في رواية مسلم أكله صلى الله عليه وسلم منه.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
وَبَيَّنَ1 عليه الصلاة والسلام دِيَةَ الْأَطْرَافِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَأْتِي2 بِحَوْلِ اللَّهِ؛ فَجَاءَ طَرَفَانِ أُشْكِلَ بَيْنَهُمَا الْجَنِينُ إِذَا أَسْقَطَتْهُ أُمُّهُ بِالضَّرْبَةِ3 وَنَحْوِهَا؛ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ جُزْءَ الْإِنْسَانِ كَسَائِرِ الْأَطْرَافِ، وَيُشْبِهُ الْإِنْسَانَ التَّامَّ لِخِلْقَتِهِ4؛ فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ5 فِيهِ أَنَّ دِيَتَهُ الْغُرَّةُ6، وَأَنَّ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ لِعَدَمِ تَمَحُّضِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَهُ.
وَالتَّاسِعُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَأَبَاحَ الْمُذَكَّاةَ؛ فَدَارَ الْجَنِينُ الخارج من بطن
1 وأشهر أحاديث الموضوع ما رواه مالك والنسائي عن عبد الله بن حزم عن أبيه، وما رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب، وهذا المثال مما وقع في الكتاب النص على الطرفين، لكن بيان أحدهما به والآخر بالسنة، وبقيت الواسطة على اجتهاد يبعد على الناظر. "د".
قلت: حديث عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قضى في الموضحة بخمس، وفي الأصابع بعشر، وفي لفظ:"في الموضحة خمس"، أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، 4/ 695/ رقم 4566"، والترمذي في "الجامع""أبواب الديات، باب ما جاء في الموضحة، 4/ 13/ رقم 1390"، والنسائي في "المجتبى""كتاب القسامة، باب المواضح، 8/ 57"، وابن أبي شيبة في "المصنف""9/ 142"، وعبد الرزاق في "المصنف""9/ 306/ رقم 7324"، والدارمي في "السنن""2/ 194"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 785"، وابن أبي عاصم في "الديات""113"، والبيهقي في "الكبرى""8/ 81"، والبغوي في "شرح السنة""10/ 195"، وإسناده صحيح.
قلت: وسيأتي تخريج الحديث الآخر.
2 في المثال الرابع مما يجري مجرى القياس. "د".
3 أي: من غيرها. "د".
4 في "ط": "الخلقة".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الديات، باب جنين المرأة، 12/ 246/ رقم 6904"، ومسلم في "الصحيح""كتاب القسامة، باب دية الجنين، 3/ 1309/ رقم 1681" عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
6 قال صاحب "التيسير" في شرح الحديث: "الغرة عند العرب العبد والأمة، وعند الفقهاء: ما بلغ ثمنه من العبيد نصف عشر الدية، وقوله: "حكم نفسه"؛ أي: لم يلحق بأحد الطرفين". "د". ونحوه عند "ف".
الْمُذَكَّاةِ مَيِّتًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَاحْتَمَلَهُمَا؛ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" 1 تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الجزئية على جانب الاستقلال.
1 أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب الأضاحي، باب ما جاء في ذكاة الجنين، 3/ 103/ رقم 2827"، والترمذي في "الجامع""أبواب الأطعمة، باب ما جاء في ذكاة الجنين، 4/ 72/ رقم 1476"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الذبائح، باب ذكاة الجنين ذكاة أمه، 2/ 1067/ رقم 3199"، وأحمد في "المسند""3/ 31، 53"، وعبد الرزاق في "المصنف""4/ 502/ رقم 8650"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 900"، وأبو يعلى في "المسند""2/ 278/ رقم 992"، والدارقطني في "السنن""4/ 272-273، 274"، والبيهقي في "الكبرى""9/ 335"، والبغوي في "شرح السنة""11/ 228"، جميعهم من طريق مجالد بن سعيد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رفعه.
وإسناده ضعيف لضعف مجالد، ولكنه توبع، تابعه يونس بن أبي إسحاق، وهو متفق على ثقته، وأبو الوداك ثقة، احتج به مسلم.
وقد ضعفه ابن حزم في "المحلى""7/ 419" بقوله: "مجالد ضعيف، وأبو الوداك ضعيف".
قلت: أبو الوداك وثقه ابن معين وابن حبان، وقال النسائي:"صالح"، ولذا قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 157":"أما أبو الوداك فلم أر من ضعفه".
وأخرج متابعة يونس عن أبي الوداك أحمد في "المسند""3/ 39"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 1077، موارد"، والدارقطني في "السنن""4/ 274"، والبيهقي في "الكبرى""9/ 335"، والخطيب في "الموضح""2/ 249".
قال ابن حجر في "التلخيص""4/ 157": "فهذه متابعة قوية لمجالد"، وقال المنذري في "مختصر السنن" "4/ 120":"وهذا إسناد حسن، ويونس -وإن تكلم فيه- فقد احتج به مسلم في "صحيحه""، وقال الذهبي في "الميزان" "4/ 483" وساق كلام الأئمة فيه وعنه:"قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة"، وترجمه في "من تكلم فيه وهو موثق""رقم 389".
وأخرجه أحمد في "المسند""3/ 45"، وأبو يعلى في "المسند""2/ رقم 1206"، والطبراني في "الصغير""1/ 88، 168"، والخطيب في "تاريخ""8/ 412"، وأبو نعيم في =
وَالْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النِّسَاءِ: 11] ؛ فَبَقِيَتِ الْبِنْتَانِ مسكوتًا عنهما؛ فنقل
= "مسانيد فراس بن يحيى المكتب""رقم 39" من طريق عطية العوفي -وهو ضعيف مدلس ولم يصرح بالسماع- عن أبي سعيد به.
وله شاهد من حديث جابر أخرجه الدارمي في "السنن""2/ 84"، وأبو داود في "السنن""رقم 2828"، وأبو يعلى في "المسند""3/ 343/ رقم 1808"، وابن عدي في "الكامل""2/ 660، 733 و6/ 2403"، والدارقطني في "السنن""4/ 273"، والحاكم في "المستدرك""4/ 114"، وأبو نعيم في "الحلية""7/ 92 و9/ 236"، و"أخبار أصبهان""1/ 92 و2/ 82"، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان""رقم 288"، وابن الأعرابي في "المعجم""رقم 200"، والسهمي في "تاريخ جرجان""265" -موقوفًا- والخليلي في "الإرشاد""1/ 438"، والبيهقي في "الكبرى""9/ 334-335" من طرق عن أبي الزبير عن جابر، وليس من بينها طريق الليث بن سعد، ولم يصرح أبو الزبير في أي منها بالتحديث، فهو معلول من هذه الجهة، وبنحوه أعله ابن حزم في "المحلى""7/ 419".
وورد الحديث عن ابن عمر وأبي هريرة وكعب بن مالك وأبي ليلى وأبي أيوب الأنصاري وابن مسعود وابن عباس وعلي وأبي أمامة وأبي الدرداء وعمار بن ياسر والبراء بن عازب، ولا تخلو طرقه هذه من ضعف، وليس هذا موطن سردها، إلا أن الحديث صحيح ثابت من هذه الطرق، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 156":"قال عبد الحق: لا يحتج بأسانيده كلها، وخالف الغزالي في "الإحياء"؛ فقال: "هو حديث صحيح"، وتبع في ذلك إمامه".
قلت: يريد إمام الحرمين الجويني، كما صرح به العراقي في "تخريج الإحياء""2/ 116".
قال ابن حجر: "فإنه -أي: إمام الحرمين- قال في "الأساليب": هو حديث صحيح، لا يتطرق احتمال إلى متنه، ولا ضعف إلى سنده، وفي هذا نظر، والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة، وهي مجموع طرق حديث أبي سعيد وطرق حديث جابر".
قلت: والعجب من "د"؛ فإنه نقل عن ابن حجر الكلام السابق، وفيه بدل من "تنتهض":"تنتقض"!! وقال بعد أن ذكر مخارجه عن "الجامع الصغير": "الكل معلول"، والأمر ليس كذلك كما اتضح لك، ولله الحمد، ولا داعي للإطالة بأكثر من هذا، والله الموفق.
فِي السُّنَّةِ1 حُكْمُهُمَا، وَهُوَ إِلْحَاقُهُمَا بِمَا فَوْقَ الْبِنْتَيْنِ2. ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ.
فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ، وَرَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا، أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا؛ فَيَأْخُذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِطَرَفٍ؛ فَلَا يَخْرُجْ عَنْهُمَا وَلَا يَعْدُوهُمَا3.
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات، 4/ 414/ رقم 2092"، وأبو داود في "السنن""كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب، 3/ 121/ رقم 2892"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب، 2/ 908-909/ رقم 2720"، وأحمد في "المسند""3/ 352"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى""3/ 524"، والدارقطني في "السنن""4/ 79"، والحاكم في "المستدرك""4/ 333-334"، والبيهقي في "الكبرى" "6/ 229" من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر؛ قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا، ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال:"يقضي الله في ذلك". فنزلت آية الميراث؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال:"أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي؛ فهو لك".
وإسناد حسن، من أجل عبد الله بن محمد بن عقيل، قال الترمذي:"هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل"، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور""4/ 445" لابن أبي شيبة ومسدد والطيالسي وابن أبي عمر وابن منيع وابن أبي أسامة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان.
وشذ بشر بن المفضل عن عبد الله بن محمد بن عقيل؛ فقال: "هاتان بنتا ثابت بن قيس"، أخرجه أبو داود في "السنن""رقم 2891"، والدارقطني والبيهقي، قال أبو داود والبيهقي:"أخطأ بشر فيه، إنما هما ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة".
وانظر: "فتح الباري""8/ 244"، و"إرواء الغليل""6/ 122"، و"تفسير ابن كثير""1/ 468".
2 في "ط": "الثنتين".
3 غير ظاهر في الغرة في الجنين؛ لأنه لم يأخذ حكم النفس ولا الأطراف، وهو يفيد عطف قوله:"أو غيره" فيما سبق على قوله "احتياطي". "د".
وَأَمَّا مَجَالُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أُصُولٌ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ نَحْوِهَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهَا، وَتُقَرِّبُ إِلَى الْفَهْمِ الْحَاصِلِ مِنْ إِطْلَاقِهَا أَنَّ بَعْضَ الْمُقَيِّدَاتِ مِثْلُهَا؛ فَيَجْتَزِي بِذَلِكَ الْأَصْلِ عَنْ تَفْرِيعِ الْفُرُوعِ اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ فِيهِ، وَهَذَا النَّحْوُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي حُكْمِ الْعَامِّ مَعْنًى، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ1 بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَوَجَدْنَا فِي الْكِتَابِ أَصْلًا، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ مَا يَلْحَقُ بِهِ أو يشبهه أو يدانيه؛ فهو المعنى ههنا، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ بِالْقِيَاسِ2 أَوْ بِالْوَحْيِ؛ إِلَّا أَنَّهُ جَارٍ فِي أَفْهَامِنَا مَجْرَى الْمَقِيسِ، وَالْأَصْلُ الْكِتَابُ شَامِلٌ لَهُ بِالْمَعْنَى الْمُفَسَّرِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ3، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ4:
أَحَدُهَا5: أَنَّ اللَّهَ عز وجل حَرَّمَ الرِّبَا6، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي قالوا فيه:
1 في المسألة التاسعة، وإنه كان العموم هناك للأشخاص، وإن الشريعة ليست خاصة ببعضهم دون بعض، وهنا شمول يرجع للمعنى الذي فيه الحكم، كحرمة النبيذ بجعل الخمر شاملًا له معنى وإن لم يشمله صفة. "د".
2 بناء على أنه صلى الله عليه وسلم يجتهد فيقيس، وقيل: ليس له الاجتهاد. "د".
قلت: انظر لزامًا ما علقناه على قوله هذا في "ص354".
3 في المسألة الثانية، حيث قال:"إن الظن الراجع إلى أصل قطعي يعول عليه، ومثال ذلك ما ورد مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ البيوع والربا. "د".
4 في "ط": "أمثلته".
5 في "د": "أحدهما".
6 أي: وظاهر أن المراد به ما يعقد في الإسلام؛ لأن هذا هو الذي بصدده التشريع، فألحق به ما عقد في الجاهلية، فقال: "وربا الجاهلية موضوع
…
إلخ"، وهذا إما قياس منه صلى الله عليه وسلم أو بوحي يجري في أفهامنا مجرى القياس، ويصح أن يكون هذا المقدار إلى قوله: "وإذا كان كذلك" مثالًا لما تردد بين طرفين واضحين فألحقه بأحدهما، وذلك أن الله تعالى حرم الربا، وقال أيضًا:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ؛ فتردد ربا الجاهلية بين ما يغفر فينفذ عقده وما لا يغفر فيبطل عقده، أعني: إنه لا ينفذ ولا يترتب عليه أثره وإن كان مجرد =
{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [الْبَقَرَةِ: 275] هُوَ فَسْخُ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ، يَقُولُ الطَّالِبُ: إِمَّا أَنْ تَقْتَضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 279] ؛ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ"1.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْمَنْعُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ؛ أَلْحَقَتِ السُّنَّةُ بِهِ كُلَّ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى؛ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ؛ فَقَدْ أَرْبَى، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كان يدًا بيد"2.
1 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الحج، باب حجة النبي، صلى الله عليه وسلم 2/ 889/ رقم 1218" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ضمن حديث طويل، فيه خطبة الوداع الجامعة.
2 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، 3/ 1210/ رقم 1587"، وأبو داود في "السنن""كتاب البيوع، باب في الصرف، 3/ 248-249/ رقم 3349، 3350"، والترمذي في "الجامع""أبواب البيوع، باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل، 3/ 541/ رقم 1540"، وأحمد في "المسند""5/ 320"، والدارقطني في "السنن""3/ 24"، والبيهقي في "الكبرى""5/ 277، 282، 284" عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه.
ثُمَّ زَادَ1 عَلَى ذَلِكَ بَيْعُ النَّسَاءِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَصْنَافُ، وَعَدَّهُ مِنَ الرِّبَا2؛ لِأَنَّ النَّسَاءَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ3، وَيَدْخُلُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمَعْنَى4 السَّلَفُ يَجُرُّ نَفْعًا، وَذَلِكَ5 لِأَنَّ بَيْعَ هَذَا الْجِنْسِ بِمِثْلِهِ فِي الْجِنْسِ مِنْ بَابِ بَدَلِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ؛ لِتُقَارُبِ الْمَنَافِعِ فِيمَا يُرَادُ مِنْهَا؛ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِعْطَاءِ عَوَضٍ عَلَى غَيْرِ6 شَيْءٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَالْأَجَلُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَكُونُ عَادَةً
1 إلحاق ثان جاء في قوله، صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت
…
" إلخ وثم للتأخر الرتبي، وإلا؛ فالإلحاقان في حديث واحد، إلا أن يعتبر الترتيب في نفس ألفاظ الحديث ترتيبًا في الإلحاق زمانًا أيضًا، وكان عليه أن يؤخر قوله: "فإذا اختلفت" بعد قوله: ثم زاد" ويبقى النظر في أن تحريم بيع النساء عند اختلاف الأصناف جاء بإلحاق السنة؛ لأن هذا يتوقف على أن أصل تحريم الربا في القرآن كان لخصوص النساء عند اتفاق الأصناف فقط، وأن تحريم النساء عند الاختلاف إنما جاء من هذا الحديث، كما جاء تحريم ربا الفضل به، وربما لا يساعده ما كان جاريًا عندهم ووقع عليه التحريم في القرآن؛ إذ كانوا يعطون شعيرًا في مقابلة شعير لأجل بأكثر، في مقابلة دراهم لأجل بأكثر، وهكذا؛ فليرجع إلى التاريخ المبسوط في مثله. "د".
2 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نساء 4/ 381/ رقم 2178، 2179"، ومسلم في "الصحيح""كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل، 3/ 1217/ رقم 1596" عن أسامة بن زيد مرفوعًا: "لا ربا إلا في "النسيئة".
قال ابن حبان في "صحيحه""11/ 397-398" عقبه: "معنى هذا الخبر أن الأشياء إذا بيعت بجنسها من الستة المذكورة في الخبر، وبينها فضل؛ يكون ربًا، وإذا بيعت بغير أجناسها، وبينها فضل؛ كان ذلك جائزًا إذا كان يدًا بيد، وإذا كان ذلك نسيئة كان ربًا".
3 أي: غالبًا في العادة كما صرح به بعد. "د".
4 وإن كان لفظه لفظ السلف والقرض. "د".
5 تعليل التحريم في بيع هذه الأجناس بمثلها متفاضلًا، وقوله بعد:"والأجل.. إلخ" تعليل لتحريم النساء فيها حتى عند التساوي قدرًا؛ فهو تكميل لقوله: "لأن النساء في أحد العوضين
…
إلخ". "د".
6 قد يقال: إن هذا لا يظهر فيما إذا دار الفضل من الجانبين، كما في أخذ كثير رديء في قليل جيد؛ فزيادة الرديء تقابل بجودة الجيد، فهناك عوض؛ لا أن يقال: إن هناك غررًا كبيرًا لا يعلم معه أيهما غبن وهو ممنوع، وتعليله غير ما حققه بعضهم من أن العلة سد الذريعة. "د".
إِلَّا عِنْدَ مُقَارَنَةِ الزِّيَادَةِ بِهِ فِي الْقِيمَةِ؛ إِذْ لَا يُسَلَّمُ الْحَاضِرُ فِي الْغَائِبِ إِلَّا ابْتِغَاءَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنَ الْحَاضِرِ فِي الْقِيمَةِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ.
وَيَبْقَى النَّظَرُ: لِمَ جَازَ مِثْلُ هَذَا1 فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَلَمْ يَجُزْ فِيهِمَا؟ مَحَلُّ نَظَرٍ يَخْفَى وَجْهُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ مِنْ أَخْفَى الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحْ مَعْنَاهَا2 إِلَى الْيَوْمِ؛ فَلِذَلِكَ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ3؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ بَيِّنَةً لَوُكِّلَ فِي الْغَالِبِ أَمْرُهَا إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ، كَمَا وُكِّلَ إِلَيْهِمُ النَّظَرُ في كثير من محال
1 أي: التفاضل والنسيئة. "د".
2 أي: علتها وسر الفرق بين النقود والأطعمة وبين غيرهما، حيث منعا فيهما أجيزا فيما عداهما، راجع الجزء الثاني من "إعلام الموقعين"؛ ففيه البيان الكافي في المطلوب، والذي أشكل الفرق عند المؤلف هو أنه أخذ علة المنع مجرد الزيادة بدون عوض، ولكنهم أضافوا لهذا في النقدين والمطعومات المقتاتة ما يصح أن يجعل جزء علة يكون محط الفرق الواضح. "د".
3 فمن ذلك أنه اشترى العبد بعبدين، وأنه لما نفدت الإبل في جهاز الجيش أمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ على قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، وهذا فيه الأمران معًا. "د".
قلت: يشير الشارح -رحمه الله تعالى- إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب المساقاة، باب جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلًا، 3/ 1225/ رقم 1602"، والنسائي في "المجتبى""7/ 150، 292"، والترمذي في "الجامع""رقم 1239 و1596"، وأبو داود في "السنن""رقم 3358"، وأحمد في "المسند" "3/ 349-350" عن جابر؛ قال:"جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: "بعنيه". فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدًا بعد، حتى يسأله: أعبد هو؟ ".
وأما حديث عبد الله بن عمرو؛ فأخرجه أبو داود في "السنن""رقم 3357"، وأحمد في "المسند""2/ 171، 216"، وهو ضعيف.
الِاجْتِهَادِ؛ فَمِثْلُ هَذَا جَارٍ1 مَجْرَى الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْقِيَاسِ؛ فَتَأَمَّلْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْجَمْعَ2 بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا فِي النِّكَاحِ، وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] ؛ فَجَاءَ نَهْيُهُ عليه الصلاة والسلام عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ذَمَّ الْجَمْعَ3 بَيْنَ أُولَئِكَ مَوْجُودٌ هُنَا، وَقَدْ يُرْوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ:"فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ" 4، وَالتَّعْلِيلُ يُشْعِرُ بِوَجْهِ الْقِيَاسِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمَاءَ الطَّهُورَ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِإِلْحَاقِ مَاءِ الْبَحْرِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ بِأَنَّهُ "الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"5.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدِّيَةَ فِي النَّفْسِ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَاتِ الْأَطْرَافِ، وَهِيَ مِمَّا يُشْكِلُ قِيَاسُهَا عَلَى العقول؛ فبين6 الحديث من دياتها ما
1 لم يجزم بأنه منه؛ لما سبق له من أنه مِنْ أَخْفَى الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحْ مَعْنَاهَا، فربما كان تعبدًا ليس مبنيًّا على علة؛ فلا يتأتى إجراء القياس فيه، وأيضًا من أنه إما أن يكون بالوحي لا غير، بناء على أنه لا يجتهد، أو بعضه به وبعضه بالقياس إن جوز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد، وسيأتي قوله: "ولا علينا أقصد القياس على الخصوص
…
إلخ". "د".
2 أي: في صورة ما إذا عقد على الأم ولم يدخل بها، وأما ما عدا هذه الصورة، كما إذا دخل بالأم أو عقد على البنت؛ فإن التحريم تأييد لا يخص مجرد الجمع. "د".
3 في "ط": "الذي من أجله حرم الجمع
…
".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، 9/ 160/ رقم 5109"، ومسلم في "الصحيح""كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 2/ 1028/ رقم 1408" عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
5 مضى تخريجه "ص371"، وهو صحيح.
6 لكن أين في هذا إجراؤه مجرى القياس في أخذ الفرع حكم الأصل كالأمثلة السابقة واللاحقة؛ إلا أن يقال: الإلحاق في مجرد استحقاق المال في نظير التعدي خطأ على البدن، ولذلك قال هذه الكلمة المجملة، وهي أنه بين "ما وضح به السبيل" دون أن يقول:"ألحق الأطراف بالنفس"، وزاد أيضًا قوله:"وكأنه"، ولم يذكرها في تطبيق الأمثلة السابقة ولا اللاحقة. "د".
وَضَّحَ بِهِ السَّبِيلَ1، وَكَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْقِيَاسِ الَّذِي يُشْكِلُ أَمْرُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَيُحْذَى حَذْوُهُ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْفَرَائِضَ الْمُقَدَّرَةَ: مِنَ النِّصْفِ، وَالرُّبُعِ، وَالثُّمُنِ، وَالثُّلُثِ، وَالسُّدُسِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِيرَاثَ الْعَصَبَةِ إِلَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْأَبَوَيْنِ:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 11] .
وَقَوْلُهُ فِي الْأَوْلَادِ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11] .
وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] .
1 يشير المصنف إلى جملة من الأحاديث، أشهرها ما جاء في كتاب عمرو بن حزم:"وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشرة من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل".
ولهذا الكتاب وجادات كثيرة، تجعل الباحث يجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا لعمرو بن حزم؛ لأن التابعين ومن بعدهم وجدوا هذا الكتاب، وقرءوه وعملوا بما فيه، ولذا احتج به الإمام أحمد، كما في "مسائله""رقم 38" للبغوي، وإسحاق في "مسائله لأحمد""ص5"، وابن معين كما في "تاريخ الدوري""رقم 647"، والشافعي في "الرسالة""422-423".
وخرجته وتكلمت عليه بإسهاب في تعليقي على "الخلافيات""1/ 501-508"، وانظر:"العواصم والقواصم""1/ 333-335"، و"فتح الباري""12/ 226"، و"الإرواء""رقم 122"، و"تهذيب الكمال""11/ 419"، و"تنقيح التحقيق""1/ 412".
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 176] .
فَاقْتَضَى أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ الْمَذْكُورَةِ فَلِلْعَصَبَةِ، وَبَقِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْعَصَبَةِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ؛ كَالْجَدِّ، وَالْعَمِّ، وَابْنِ الْعَمِّ، وَأَشْبَاهِهِمْ؛ فَقَالَ1 عليه الصلاة والسلام:"أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا؛ فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" 2، وَفِي رِوَايَةٍ:"فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ" 3؛ فَأَتَى هَذَا عَلَى مَا بَقِيَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، بَعْدَ مَا نَبَّهَ الْكِتَابُ عَلَى أَصْلِهِ.
وَالسَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ تَحْرِيمِ الرَّضَاعَةِ قَوْلِهِ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النِّسَاءِ: 23] ؛ فَأَلْحَقُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَاتَيْنِ سَائِرَ الْقَرَابَاتِ4 مِنَ الرَّضَاعَةِ الَّتِي يَحْرُمْنَ مِنَ النَّسَبِ كَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتِ الْأَخِ، وَبِنْتِ الْأُخْتِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وجهة إلحاقها هي جهة الإلحاق
1 محل الشاهد قوله: "فما بقي
…
إلخ" المفيد للعموم في العصبة. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه، 12/ 11/ رقم 6732، وباب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، 12/ 16/ رقم 6735، وباب ميراث الجد مع الأب والإخوة، 12/ 18/ رقم 6737، وباب أبناء عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج، 12/ 27/ رقم 6746"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائض بأهلها، 3/ 1233/ رقم 1615" عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
3 قال ابن الجوزي في "التحقيق""2/ 248، ط دار الكتب العلمية": "ما نحفظ هذه اللفظة"، وأوردها الرافعي في "فتح العزيز"، وقال ابن حجر في تخريجه "التلخيص الحبير" "3/ 81":"وهذا اللفظ تبع فيه -أي: الرافعي- الغزالي، وهو تبع إمامه -أي: إمام الحرمين- وقد قال ابن الجوزي في "التحقيق": إن هذه اللفظة لا تحفظ، وكذا قال المنذري، وقال ابن الصلاح: فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة، فضلًا عن الرواية؛ فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد". ثم قال ابن حجر: "وفي "الصحيح" عن أبي هريرة حديث: "أيما امرئ ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا"؛ فشمل الواحد وغيره".
4 في "ط": "القرابة".
بِالْقِيَاسِ إِذْ ذَاكَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، نَصَّتْ1 عَلَيْهِ السُّنَّةُ -إِذْ كَانَ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ سِوَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَتَرَدُّدٌ بَيْنَ الْإِلْحَاقِ وَالْقَصْرِ عَلَى التَّعَبُّدِ- فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ" 2، وَسَائِرَ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ أَلْحَقَ3 بِالْإِنَاثِ الذُّكُورَ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْفَحْلِ، وَمِنْ جهته در للمرأة4، فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِالرِّضَاعِ [أُمًّا] 5؛ فَالَّذِي لَهُ اللَّبَنُ أَبٌ بِلَا إِشْكَالٍ.
وَالسَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ بِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ؛ فَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] .
1 أي: وجهة الإلحاق نصت عليه السنة؛ فقال عليه الصلاة والسلام
…
إلخ لأن المقام قابل لتردد المجتهدين، فلم يتركه صلوات الله عليه؛ فقوله:"نصت.. إلخ" خبر ثان. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، 5/ 253-254/ رقم 2646، وكتاب فرض الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم 6/ 211/ رقم 3105"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، 2/ 1068/ رقم 1444" عن عائشة، وفيه:"إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة"، لفظ مسلم، ولهما:"إن الرضاعة يحرم منها ما يحرم من الولادة"، وفي رواية لمسلم برقم "1445" بعد "9":"فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"، والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي في "الجامع""أبواب الرضاع، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، 3/ 453/ رقم 1147" عن عائشة أيضًا، وقال:"هذا حديث حسن صحيح".
3 كما في حديث عائشة في استئذان أفلح أخي أبي القعيس زوج المرأة التي أرضعتها؛ فقالت: يا رسول الله! إن أخاه ليس هو الذي أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته. فقال:"ائذني له فإنه عمك". "د". قلت: وهذه القصة هي التي أشرت إليها في تخريج الحديث السابق.
4 كذا في "ط" فقط، وفي غيره:"جهة در المرأة".
5 كذا في "ط"، وسقطت "أمًّا" من جميع النسخ، وفيها:"فالذي له اللبن أم"!! وكتب "د": "هنا سقط كلمة أما"، وقوله:"فالذي له اللبن أم" لعل الأصل: "فالذي له اللبن أب"، وهو الذي يلائم قوله عليه السلام في الحديث السابق:"فإنه عمك".
وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [الْعَنْكَبُوتِ: 67] .
وَذَلِكَ حَرَمُ اللَّهِ مَكَّةُ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ1 مَعَهُ؛ فَأَجَابَهُ اللَّهُ وَحَرَّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا2، فَقَالَ:"إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عَضَاهُهَا 3، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا"4.
1 في رواية للشيخين أنه صلى الله عليه وسلم لما أشرف على المدينة قال: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة"، وقد دعا لأهلها بالبركة في صاعها ومدها، وقال في رواية مسلم "رقم 1378" والترمذي "رقم 3924":"لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت شفيعًا له وشهيدًا يوم القيامة"، وورد أيضًا أنها تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد؛ فلعل هذه المزايا وما ماثلها يفسر بها قوله:"ومثله معه". "د".
2 تثنية "لابة"، وهي الحرة العظيمة، قال ابن الأثير:"المدينة ما بين حرتين عظيمتين يكتنفانها، والحرة حجارة سود". "ف".
قلت: كلام ابن الأثير في "النهاية""4/ 274".
3 جمع عضاهة وعضيهة وعضة، وأصلها: عضهة، وهي: شجرة ذات شوك. وقيل: العضاه اسم يقع على ما عظم من شجر الشوك وطال واشتد شوكه، فإن لم تكن طويلة؛ فليست من العضاه، والمراد هنا الشجر ذو الشوك مطلقًا. "ف".
4 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الحج، باب فضل المدينة، 2/ 992/ رقم 1363"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف""3/ 295"- وابن أبي شيبة في "المصنف""14/ 198"، وأحمد في "المسند""1/ 169، 181، 185"، والدورقي في "مسند سعد""رقم 38"، والحربي في "الغريب""3/ 924"، وعبد بن حميد في "المنتخب""رقم 153"، والجندي في "فضائل المدينة""رقم 69"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""4/ 191"، والبيهقي في "الكبرى""5/ 197" عن سعد مرفوعًا.
وأخرجه مسلم "رقم 1362"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة""2/ 304"- والطحاوي في "شرح معاني الآثار""4/ 192"، وأبو يعلى في "المسند""4/ 111/ رقم 2151"، وابن جرير في "التفسير""3/ 48/ رقم 2029"، والبيهقي في "الكبرى""5/ 198" عن جابر بألفاظ نحوه.
وَفِي رِوَايَةٍ: "وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بسوء إلا أذابه ال له1 فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ"2.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا"3.
وَمِثْلُهُ فِي صَحِيفَةِ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمَةِ4؛ فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِمَكَّةَ فِي الْحُرْمَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْحَجِّ: 25] .
وَالْإِلْحَادُ شَامِلٌ لِكُلِّ عُدُولٍ عَنِ الصواب إلى الظلم، وارتكاب المنهيات
1 مثل هذا الوعيد وما بعده لا يقال فيه: إنه قياس وتفريع على تحريم مكة، وكل ما يقبل هنا أن يكون الرسول دعا للمدينة كما دعا إبراهيم لمكة؛ فأجيب من الله وأبلغه إجابة دعوته وما معها من أنواع الوعيد لمن أحدث فيها حدثًا؛ فالمثال السابع على ما ترى من الضعف، وفي "تحريم الأصول" و"شرحه" -في مسألة أن حكم القياس ثبوت حكم الأصل في الفرع- قال:"ولذا لم يستند من قال بحرمة المدينة إلا إلى السمع، وإنما لم يثبت بالقياس لانتفاء الأصل والفرع" ا. هـ.
وإذا انتفى الأصل والفرع وهما ركنان في القياس؛ فكيف يقال إنه ثبت عند الرسول عليه السلام بالقياس؟ "د".
2 هذه قطعة من حديث سعد السابق، وهي بهذا اللفظ في "صحيح مسلم""2/ 992-993/ رقم 1363 بعد 460"، وأخرجها أيضًا الجندي في "فضائل المدينة""رقم 28"، ونحوها عند أحمد والدورقي وأبي يعلى، وتقدم مواطن رواياتهم، والله الموفق.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إثم من آوى محدثًا، 13/ 281/ رقم 7306"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الحج، باب فضل المدينة، 3/ 994/ رقم 1366" عن أنس بن مالك رضي الله عنه وانفرد مسلم بذكر " لا يقبل الله منه
…
".
4 انظر: "ص192، 208".
عَلَى تَنَوُّعِهَا، حَسْبَمَا فَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ1؛ فَالْمَدِينَةُ لَاحِقَةٌ بِهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَالثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 282] ؛ فَحَكَمَ فِي الْأَمْوَالِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْضَمَّةً إِلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَظَهَرَ بِهِ ضَعْفُ شَهَادَتِهِنَّ، وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:"مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ" 2، وَفَسَّرَ نُقْصَانَ الْعَقْلِ بِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ.
وَحِينَ3 ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَقَالَ فِيهِ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [الْبَقَرَةِ: 282] ؛ دَلَّ عَلَى انْحِطَاطِهِنَّ عَنْ دَرَجَةِ الرَّجُلِ، فَأَلْحَقَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ؛ فَقَضَى4 عليه الصلاة والسلام بِذَلِكَ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فِي اقْتِطَاعِ الْحُقُوقِ وَاقْتِضَائِهَا حُكْمًا قَضَى بِهِ قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
1 انظر تفصيل ذلك في "تفسير ابن كثير""3/ 224-225".
2 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، 1/ 86-87/ رقم 79" عن ابن عمر، رضي الله عنهما.
وأخرج البخاري في "الصحيح""كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، 1/ 405/ رقم 304، وكتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، 3/ 325/ رقم 1462" عن أبي سعيد نحوه.
3 لعله: "وحيث ثبت". "ف".
4 أخرج مسلم في "الصحيح""كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 3/ 1337/ رقم 1712"، وأبو داود في "السنن""كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 4/ 32/ رقم 3608"، والنسائي في "الكبرى" -كما في "مختصر سنن أبي داود""5/ 225" للمنذري-، وابن ماجه في "السنن""كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين، 2/ 793/ رقم 2370"، وأحمد في "المسند""1/ 248، 315"، والشافعي في "المسند""2/ 178/ رقم 627، 628، ترتيبه"، والدارقطني في "السنن""4/ 214"، والبيهقي في "الكبرى""10/ 167" عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد.
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 77] ؛ فَجَرَى الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ مَجْرَى الشَّاهِدَيْنِ أَوِ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي الْقِيَاسِ؛ إِلَّا أَنَّهُ يَخْفَى؛ فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ.
وَالتَّاسِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْبَيْعَ فِي الرِّقَابِ وَأَحَلَّهُ، وَذَكَرَ الْإِجَارَةَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ1؛ كَالْجُعْلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يُوسُفَ: 72] .
وَالْإِجَارَةُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَالِ الْيَتِيمِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاءِ: 6] .
وَفِي الْعُمَّالِ عَلَى الصَّدَقَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التَّوْبَةِ: 60] .
وَفِي بَعْضِ مَنَافِعَ2 لَا تَأْتِي عَلَى سَائِرِهَا؛ فَأَطْلَقَتِ السُّنَّةُ فِيهَا الْقَوْلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ مَنَافِعِ الرِّقَابِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالدُّورِ وَالْأَرَضِينَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا3، وَوَكَّلَ سَائِرَهَا إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَجَالُ الْقِيَاسِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، وَلَا عَلَيْنَا أَقَصَدَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام القياس
1 ومنها إجارة شعيب لموسى -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-. "د".
2 وأصرحها الرضاع، بل قال بعضهم: لم تأت الإجارة الجائزة في القرآن إلا في الرضاع {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . "د".
قلت: انظر في ذلك "الأم" للشافعي "3/ 250"، و"محاسن التأويل""3/ 611" للقاسمي.
3 يضيق المقام عن سرد الأحاديث، ونحيل القارئ على الكتب التالية؛ فإنه يجد فيها ذكرًا جيدًا لما قاله المصنف:"سنن البيهقي الكبرى""6/ 116 وما بعدها"، و"دلائل الأحكام" لابن شداد "3/ 439 وما بعدها"، و"نصب الراية""4/ 129 وما بعدها"، و"الفتح الرباني""15/ 122 وما بعدها"، و"الإجارة الواردة على عمل الإنسان""ص38 وما بعدها".
عَلَى الْخُصُوصِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِهِ بَيَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ.
وَالْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي شَأْنِ الرُّؤْيَا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ1، وَعَنْ رُؤْيَا يُوسُفَ2، وَرُؤْيَا الْفَتَيَيْنِ3، وَكَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ كُلِّ رُؤْيَا؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْكَامَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ4 النُّبُوَّةِ5، وَأَنَّهَا مِنَ المبشرات6، وأنها على
1 انظر الآيات في سورة الصافات "رقم 102-107".
2 انظر الآيات في سورة يوسف "رقم 4-6".
3 انظر الآيات في سورة يوسف "رقم 36-41".
4 ورد "من ستة وأربعين جزءًا"، وقالوا في توجيهه: إن النبوة كانت ثلاثًا وعشرين سنة، ومدة الرؤيا الصالحة قبلها كانت ستة أشهر، ونسبتها إلى ثلاث وعشرين سنة هي ما قاله صلى الله عليه وسلم. وهذا البيان وإن لم يرتضه بعضهم؛ فهو واضح، وأيضًا؛ فكثيرًا ما كان يقول لأصحابه:"هل رأى أحد منكم رؤيا؟ "، وكان يعبرها لهم، وهو يتضمن إلحاق غيرهم بهم. "د".
قلت: انظر في نقض التوجيه المذكور: "فتح الباري""12/ 364-365"، وما علقناه على "2/ 419".
5 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب التعبير، باب رؤيا الصالحين، 12/ 361/ رقم 6983، وباب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، 12/ 383/ رقم 6994"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1774/ رقم 2264" عن أنس مرفوعًا: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". لفظ البخاري، ولهما: "رؤيا المؤمن جزء
…
" به.
6 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب التعبير، باب المبشرات، 12/ 375/ رقم 6990" عن أبي هريرة؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات". قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة".
وأخرج مسلم في "الصحيح""كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1773/ رقم 2263" ضمن حديث عن أبي هريرة مرفوعًا، فيه:"فرؤيا الصالحة بشرى من الله".
أَقْسَامٍ1، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَتَضَمَّنَ إِلْحَاقَ غَيْرِ أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ بِهِمْ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْقِيَاسِ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
- وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَا يَتَأَلَّفُ مِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْ مَعَانٍ مُجْتَمِعَةٍ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ تَأْتِي فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَكِنْ يَشْمَلُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ شَبِيهٌ بِالْأَمْرِ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ؛ فَتَأْتِي السُّنَّةُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ؛ فَيُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبَيِّنَةً لِلْكِتَابِ، وَمِثَالُ هَذَا الْوَجْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ2 كِتَابِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي طَلَبِ مَعْنَى قَوْلِهِ، عليه الصلاة والسلام: "لَا
1 في رواية مسلم في الحديث السابق: "والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه".
وأخرج البخاري في "الصحيح""كتاب التعبير، باب الرؤيا من الله، 12/ 368-369/ رقم 6984"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الرؤيا، باب منه، 4/ 1771/ رقم 2261" عن أبي قتادة مرفوعًا: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان".
وفي رواية للبخاري: "الرؤيا الصادقة"، ولمسلم:"الرؤيا الصالحة".
2 في المسألة الثانية: حيث جعله من باب الدليل الشرعي الظني الراجع إلى قطعي لأنه مبثوث في الشريعة في جزئيات وكليات؛ فالسنة قد نظمت هذه المواضع المتفرقة المبثوثة، وجعلتها في سلك واحد بقاعدة عامة، وكأن هذا الوجه جمع المتفرقات، وأخذ كلي من الجزئيات، وإجمال للتفصيلات؛ فهو عكس لبعض الوجوه المتقدمة، وبالتأمل فيه تجده نادرًا ومأخذًا لا تنبني عليه الدعوى في أصل المسألة إلا إذا ضم لغيره من الوجوه، فإن كان مراد المؤلف أن هذه الوجوه الخمسة كل واحد منها يكفي لإثبات المسألة؛ فإنما يظهر ذلك في الوجه الثالث تامًّا، وفي الثاني ببعض تكلف، وفي الأول على الطريق الذي قصد منه، أما ما عداها؛ فلا يظهر انفراده بإثبات المسألة ودفع إشكالاتها، وإذا كان قد اعترض على الوجه السادس بالقصور مع أنه ذكر له عشرة أمثلة، وقال: إن هذا النمط في السنة كثير؛ فكيف يكون حال هذا الوجه الخامس الذي لم يتيسر له فيه إلا مثال واحد، نعم، إن كان غرضه من وجوهه الخمسة أن تكون مضمومة بعضه إلى بعض كما يشير إليه =
ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 1 مِنَ الْكِتَابِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْأَحَادِيثِ2؛ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ.
- وَمِنْهَا3: النَّظَرُ إِلَى تَفَاصِيلِ الْأَحَادِيثِ فِي تَفَاصِيلِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَّةِ بَيَانٌ زَائِدٌ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَأْخَذِ يَتَطَلَّبُ أَنْ يَجِدَ كُلَّ مَعْنًى فِي السُّنَّةِ مُشَارًا إِلَيْهِ -مِنْ حَيْثُ وَضْعِ اللُّغَةَ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى- أَوْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ4، وَلْنُمَثِّلْهُ ثُمَّ نَنْظُرْ فِي صِحَّتِهِ أَوْ عدم صحته.
1 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح لشواهده.
2 هذه المعاني الكلية "التي استنبط النبي صلى الله عليه وسلم من جزئياتها الموجودة في الكتاب" قليلة بالنسبة لسائر السنة، وقد لا يمكن لغيره صلى الله عليه وسلم أن يأخذها من جزئياتها، وقد يكون علمها بطريق الوحي، لا بالاستنباط من الجزئيات، ثم إن المعقول أن الجزئيات هي المبينة للكليات؛ فالقرآن هو المبين لكليات السنة على هذا، ولو سلمنا العكس؛ ففي القرآن كليات لها جزئيات في السنة؛ فالقرآن مبين على ما تقول. قاله في "حجية السنة""ص534-535".
3 هذا النظر السادس أخص من النظر الثاني المتقدم أنه المشهور عن العلماء؛ لأن ذلك بيان للحقيقة المطلوبة أو المنهي عنها مثلًا أو شروطها أو كيفياتها إلى آخر ما تقدم في بيان الأحاديث؛ كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاة} [الأنعام: 72] مثلًا، أما هذا؛ فمقصور على بيان لفظ مجمل ورد في الآية بما يوضح الغرض منه، كما قال:"من حيث وضع اللغة"، وقوله:"لا من جهة أخرى"؛ أي: من الجهات الخمسة السابقة. "د".
4 قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه البديع "حجية السنة""ص535 وما بعدها": "نقول: هذا هو المأخذ الذي لو تم لكان مبطلًا لما ذهبنا إليه من وجود سنة جاءت بما لم ينص عليه الكتاب نصًّا يمكن للمجتهد أن يأخذه منه، بحسب أوضاع اللغة ومعانيها الحقيقية والمجازية، ولكنه لن يتم، ومحاولة تطبيقه على جميع ما ورد في السنة محاولة فاشلة، وقد اعترف الشاطبي نفسه =
........................................................................
= بذلك، حيث يقول تعليقًا على هذا المأخذ فيما سيأتي "ص401": "ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب، أو نحوها
…
" إلخ قوله.
ولعلك بعد اطلاعك على كلام المصنف في هذه المسألة ندرك أنه رحمه الله يخالف فيها مخالفة لفظية: حيث يذهب إلى أن جميع ما في السنة مبينة بمعنى من المعاني التي علمتها من مأخذ، ولا يقول: إنها مبينة، بمعنى أن القرآن قد نص على كل حكم جاءت به السنة ولو على سبيل الإجمال، وأنه ليس للسنة وظيفة إلا إيضاح أحكامه المجملة وشرحها، وعلى ذلك؛ فهو لا ينكر وجود سنة مستقلة بالمعنى الذي أردناه، وهو أن ترد بما لم ينص عليه الكتاب، وإنما نفى الاستقلال بمعنى يتنافى مع ما أراد من معاني البيان، ونحن لو سلمنا له مأخذه، لم يكن هذا التسليم منافيًا لمذهبنا بحال، ألا ترى أن الشافعي الذي يقول: إن من السنة ما هو مستقل، يقول في الوقت نفسه بالمأخذ الأول.
غير الذي نأخذه على المصنف أنه لم يبين مقصده من أول الأمر، بل عبر عن مذهبه بعبارات موهمة للخلاف الحقيقي، وأقام الأدلة وطعن في أدلة أخرى بدون موجب لذلك كله.
وللشافعي رضي الله عنه كلمتان رزينتان هادئتان، قاطعتان لألسنة الخصوم على أي مذهب كانوا، مستأصلتان جذور الشغب والنزاع على أي لون كان:
1-
قال -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين أفضل ما جزى به المجاهدين المخلصين- في "الرسالة""ص88-89": "وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم؛ فبحكم الله سنه، وكذلك أخبرنا الله في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} ، وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سن؛ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعه معصيته التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجًا لما وصفت، وما قال رسول الله أسند عن أبي رافع".
2 وقال رضي الله عنه ونفعنا بعلمه بعد أن ذكر المذاهب في النوع المستقل "ص104-105": "وأي هذا كان؛ فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرًا بخلاف أمر عرفه من أمور رسول الله، وأن قد جعل الله بالناس كلهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلهم عليه من تبيين رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه؛ ليعلم من عرف منها ما وصفنا أن سنته صلى الله عليه وسلم إذا كانت سنة مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه نص كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب أخرى؛ فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله، يل هو لازم بكل حال، وكذلك قال رسول الله في حديث أبي رافع "الذي كتبنا قبل هذا"" ا. هـ.
وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ:
أَحَدُهَا:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَطْلِيقِهِ زَوْجَهُ وَهِيَ حَائِضٌ؛ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ 1 بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" 2 يَعْنِي: أَمَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} [الطَّلَاقِ: 1] .
وَالثَّانِي:
حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها
1 في "ط": "أمسكها".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} ، 9/ 345/ رقم 5251"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، 2/ 1093/ رقم 4171"، والنسائي في "المجتبى""كتاب الطلاق، باب وقت الطلاق للعدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء، 6/ 138"، والترمذي في "الجامع""أبواب الطلاق، باب ما جاء في طلاق السنة، 2/ 321/ رقم 1185، 1186"، وأبو داود في "السنن""كتاب الطلاق، باب في طلاق السنة، 2/ 632-634/ رقم 2179"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الطلاق، باب طلاق السنة، 1/ 651/ رقم 2019"، والشافعي في "المسند""2/ 32-33/ رقم 102-104، ترتيب السندي"، ومالك في "الموطأ""2/ 576، رواية يحيى"، وأحمد في "المسند""2/ 6، 54، 63، 64، 102، 124"، والدارمي في "السنن""2/ 160"، والطيالسي في "المسند""رقم 68، 1853"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""3/ 53"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 4249، الإحسان"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 734"، والدارقطني في "السنن""4/ 7، 8، 9"، والبيهقي في "الكبرى""7/ 323-324"، والبغوي في "شرح السنة""9/ 202" من طرق عن نافع عن ابن عمر به، وله ألفاظ متقاربة عندهم.
سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً؛ إِذْ طَلَّقَهَا1 [زَوْجُهَا] أَلْبَتَّةَ -وَشَأْنُ الْمَبْتُوتَةِ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ- لِأَنَّهَا بَذَتْ عَلَى أَهْلِهَا بِلِسَانِهَا2؛ فَكَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة} [الطَّلَاقِ: 1] .
وَالثَّالِثُ:
حَدِيثُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ؛ إِذْ وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ3، فَأَخْبَرَهَا عليه الصلاة والسلام أَنْ قَدْ حَلَّتْ4؛ فَبَيَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ قَوْلَهُ
1 في نسخة "م": "نفقة طلقها"، وكتب "د" هنا ما نصه:"يعني زوجها أبا عمرو بن حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة"، وما بين المعقوفتين من "ط" فقط.
2 أخرج مسلم في "صحيحه""كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، 2/ 1117/ رقم 1480"، والنسائي في "المجتبى""كتاب الطلاق، باب نفقة الحامل المبتوتة، 6/ 210"، والترمذي في "الجامع""أبواب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة، 2/ 325/ رقم 1191"، وأبو داود في "السنن""كتاب الطلاق، باب في نفقة المبتوتة، 2/ 715/ رقم 2289"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا هل لها سكنى ونفقة، 1/ 656/ رقم 2035، 2036"، وأحمد في "المسند""6/ 411، 412"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 4240، الإحسان"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""3/ 64"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 671"، والدارقطني في "السنن""4/ 22-25"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 472-474" عن فاطمة بنت قيس؛ قالت:"طلقني زوجي ثلاثًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة".
وفي رواية لمسلم برقم "1480 بعد 46" وغيره فيها زيادة: "قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله، عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] ".
3 ولفظ البخاري: "قريبًا من عشر ليالٍ". "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب التفسير، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، 8/ 653/ رقم 4909، وكتاب الطلاق، باب {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، 9/ 469"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها، 2/ 1122-1123/ رقم 1485"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، =
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَةِ: 234] مَخْصُوصٌ فِي غَيْرِ الْحَامِلِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطَّلَاقِ: 4] عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَغَيْرِهِنَّ.
وَالرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 59]، [قَالَ] : قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ1، يَعْنِي: عِوَضَ قَوْلِهِ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَةِ: 58] .
= باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، 6/ 191-192"، والترمذي في "الجامع" "كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع، 2/ 332-333/ رقم 1208"، ومالك في "الموطأ" "2/ 590، رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "6/ 432" عن أم سلمة؛ أن امرأة من أسلم يقال لها: سبيعة كانت تحت زوجها توفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين، فمكثت قريبًا من عشر ليال ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انكحي". لفظ البخاري الثاني.
وفي اللفظ الأول: "قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو السنابل فيمن خطبها، ولفظ مالك: "إن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر"، وفيه: "فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: قد حللت فانكحي من شئت".
1 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب التفسير" 8/ 164/ رقم 4479"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب منه، 4/ 2312/ رقم 3015"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 171/ رقم 9، 10"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة البقرة، 5/ 205/ رقم 2956"، وابن أبي حاتم في "التفسير" "1/ رقم 579، 591"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 240"، وأحمد في "المسند" "2/ 312، 318"، والبغوي في "معالم التنزيل" "1/ 76"، والخطيب في "التاريخ" "2/ 266" عن أبي هريرة مرفوعًا: "قيل لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . فدخلوا يزحفون على أستاههم؛ فبدلوا، وقالوا: حطة، حبة في شعرة".
وَالْخَامِسُ:
حَدِيثُ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا؛ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [الْبَقَرَةِ: 125] ؛ فَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ:"نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ"، وَقَرَأَ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} 1 [الْبَقَرَةِ: 158] .
وَالسَّادِسُ:
حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِرٍ: 60] ؛ قَالَ: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"، وَقَرَأَ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:{دَاخِرِينَ} 2 [غَافِرٍ: 60] .
وَالسَّابِعُ:
حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 3 [الْبَقَرَةِ: 187] ؛ قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
1 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الحج، باب حجة النبي، صلى الله عليه وسلم، 2/ 886-892/ رقم 1218" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وخرجته بالتفصيل في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي "1/ رقم 270-272"؛ فانظره.
2 أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب الصلاة، باب الدعاء، 1/ 76-77/ رقم 1479"، والترمذي في "الجامع""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 211/ رقم 4969، وباب ومن سورة المؤمن، 5/ 374-375/ رقم 3247، وأبواب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء 5/ 456/ رقم 3372"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، 2/ 1258/ رقم 3828"، والنسائي في "الكبرى""كتاب التفسير، باب سورة حم المؤمن، 2/ 253/ رقم 484"، وابن أبي شيبة في "المصنف""10/ 100"، والطيالسي في "المسند""رقم 801"، والبخاري في "الأدب المفرد""رقم 714"، وأحمد في "المسند""4/ 267، 271، 276"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 2396، موارد"، والحاكم في "المستدرك""1/ 490-491"، والطبراني في "الدعاء""رقم 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7" و"المعجم الصغير""1/ 97"، وابن جرير في "التفسير""24/ 51" عن النعمان بن بشير من طرق، بعضها صحيح.
3 قوله: {مِنَ الْفَجْر} نزلت بعد ما اشتبه جملة من الصحابة في المعنى، وصار بعضهم يربط حبلين أسود وأبيض في رجله لينظر إليهما، وبعضهم وهو عدي جعلهما تحت الوسادة، ثم سأل =
"إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ"1.
وَالثَّامِنُ:
حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ"2.
وَقَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "اللَّهُمَّ امْلَأْ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ
= رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما: أهما خيطان؟ فقال له: "إن وسادك لعريض.." -كناية لطيفة منه، صلوات الله وسلامه عليه؛ ".. بل هما سواد الليل وبياض النهار"، قال الشيخان:"نزل بعد {مِنَ الْفَجْر} ؛ فعلموا إنما يعني الليل والنهار، ولو كان نزل قوله: {مِنَ الْفَجْر} بيانًا من أول الأمر؛ لما وضع عدي الخيطين تحت الوسادة ولا ساءل، فلو ترك المؤلف ذكرها كان أولى، راجع البخاري ومسلمًا. "د".
قلت: وسبق تخريج ذلك "3/ 298".
1 مضى تخريجه "3/ 299"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
2 أخرجه الترمذي في "جامعه""أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، 1/ 340-341/ رقم 182، وأبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 217/ رقم 2983"، وأحمد في "المسند""5/ 7، 8، 12، 13، 22"، والطبراني في "الكبير""رقم 6823، 6824، 6825، 6826"، وابن جرير في "التفسير""2/ 344"، والبيهقي في "الكبرى""1/ 460"، والدمياطي في "كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى""رقم 31، 32، 33، 34، 35" من طرق عن الحسن عن سمرة به.
والحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، وتابع الحسن سليمان بن سمرة؛ فرواه عن أبيه ضمن وصية جامعة كما عند ابن زبر في "وصايا العلماء""88-89" -ومن طريقه الدمياطي في "كشف المغطى""رقم 37"-، والطبراني في "الكبير""رقم 7001، 7002، 7007، 7008، 7009، 7010" مفرقًا، وإسناده ضعيف، فيه خبيب بن سليمان من المجهولين، وجعفر بن سعد ليس بالقوي.
والحديث صحيح، أخرجه مسلم في "صحيحه""رقم 628"، والترمذي في "الجامع""رقم 181 و2985"، والطيالسي في "المسند""رقم 366"، وأحمد في "المسند""1/ 392، 403، 404، 456"، وغيرهم عن ابن مسعود بلفظه مرفوعًا.
الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ"1.
وَالتَّاسِعُ:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ مَوْضِعَ 2 سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ لِخَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} 3 [آلِ عِمْرَانَ: 185] "4.
وَالْعَاشِرُ:
حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْكَبَائِرِ: قَالَ عليه الصلاة والسلام فيها:
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الجهاد، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، 6/ 105/ رقم 2931، والمغازي، باب غزوة الخندق، 7/ 405/ رقم 4111، وكتاب التفسير، باب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ، 8/ 195/ رقم 4533، وكتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، 11/ 194/ رقم 6396"، ومسلم في "الصحيح""كتاب المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، 1/ 436/ رقم 627" وغيرهما عن علي، رضي الله عنه.
2 ولا يظهر هذا المثال؛ لأنه ليس فيه تفسير للفظ في الكتاب من حيث وضع اللغة كما هو موضع هذا النظر، وكما هو الجاري فيما قبله وما بعده من الأمثلة، بل هو كأنه استنتاج لهذا المعنى من الآية، وربما كان أظهر منه في غرضه حديث "الصحيحين":"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" مصداق قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ؛ لأن ما في الحديث وإن كان لم يعين بشخصه؛ إلا أنه توضيح وتقريب لمعنى الآية، وهو أقصى ما يعبر به للدلالة على المراد فيها. "د".
3 {فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ساقطة من الأصل
4 أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الواقعة، 5/ 48/ رقم 3292"، والدارمي في "السنن""2/ 239/ رقم 2833"، وأحمد في "المسند""2/ 438"، وابن أبي شيبة في "المصنف""13/ 101"، والحاكم في "المستدرك""2/ 299"، وأبو نعيم في "صفة الجنة""رقم 53"، والبغوي في "شرح السنة""15/ 209-210/ رقم 4372" من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا.
وإسناده حسن من أجل محمد بن عمرو.
والحديث صحيح، روي من وجوه عن أبي هريرة، قال أبو نعيم عقبه:"ورواه همام بن منبه، وأبو صالح، وابن أبي عمرة، وأبو أيوب المراغي في آخرين عن أبي هريرة"، وتفصيل ذلك يطول.
"الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَوْلُ الزُّورِ" 1، وَثَمَّ أَحَادِيثُ أُخَرُ فِيهَا ذِكْرُ الْكَبَائِرِ2، وَجَمِيعُهَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 31] .
وَهَذَا النَّمَطُ فِي السُّنَّةِ كَثِيرٌ.
وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفِي بِهَذَا الْمَقْصُودِ عَلَى [شَرْطِ] النَّصِّ وَالْإِشَارَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تَسْتَعْمِلُهَا الْعَرَبُ أَوْ نَحْوِهَا، وَأَوَّلُ شَاهِدٍ فِي هَذَا الصَّلَاةُ، وَالْحَجُّ، وَالزَّكَاةُ، وَالْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَاللُّقَطَةُ، وَالْقِرَاضُ، وَالْمُسَاقَاةُ، وَالدِّيَاتُ، وَالْقَسَامَاتُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ لَا تُحْصَى3؛ فَالْمُلْتَزِمُ لِهَذَا لَا يَفِي بِمَا ادَّعَاهُ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ فِي ذَلِكَ مَآخِذَ لَا يَقْبَلُهَا كَلَامُ الْعَرَبِ وَلَا يُوَافِقُ عَلَى مِثْلِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَلَا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
وَلَقَدْ رَامَ بَعْضُ النَّاسِ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ الَّذِي شَرَعَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يُوَفِّ بِهِ إِلَّا عَلَى التَّكَلُّفِ الْمَذْكُورِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْمَآخِذِ الْأُوَلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إِشَارَةٌ إِلَى خُصُوصَاتِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ؛ فكان ذلك نازلًا بقصده4 الذي قصد.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، 5/ 261/ رقم 2654"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 91/ رقم 87" عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا.
2 انظرها في كتاب "الكبائر" للذهبي بتحقيقي، وهو غير "الكبائر" المليء بالقصص الباطلة، والحكايات الواهية، وانظر عنه:"كتب حذر منها العلماء""2/ 201، 312-318" بقلمي.
3 وكلها ليس ما ورد فيها من السنة يجري هذا المجرى الذي يريده هذا القائل من البيان الخاص. "د".
4 أي: نازلًا بما قصده في هذه الدعوى إلى موضع الإهدار. "د".
وَهَذَا الرَّجُلُ1 الْمُشَارُ إِلَيْهِ لَمْ يَنْصِبْ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا لِاسْتِخْرَاجِ مَعَانِيَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي خَرَّجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي كِتَابِهِ "الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ"، دُونَ مَا سِوَاهَا2 مِمَّا نَقَلَهُ الْأَئِمَّةُ سِوَاهُ، وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الْمَعَانِي الْمُصَنَّفَةِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمَآخِذِ3 مُوَفِّيًا بِالْغَرَضِ فِي الْبَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
فَصْلٌ:
وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَمَّا أَوْرَدُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا؛ فَقَوْلُهُ، عليه الصلاة والسلام: "يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ
…
" 4 إِلَى آخِرِهِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ يَطْرَحُ السُّنَّةَ مُعْتَمِدًا عَلَى رَأْيِهِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا لَمْ نَدَعْهُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، بَلْ هُوَ رَأْيُ أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَقَوْلُهُ: "أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"5 صَحِيحٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ؛ إِمَّا بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الدَّائِرِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِالطَّرِيقَةِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَإِمَّا بغيرها من المآخذ المتقدمة.
ومن الْجَوَابُ عَنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ كل
1 ليت المصنف أشار إلى اسم هذا المؤلف؛ ليمكن العثور على ما صنعه؛ إذ إنه مبحث جدير بالاهتمام.
2 أي: فإذا كان لم يتم له غرضه في مقدار محدود من الأحاديث وهي أحاديث مسلم؛ فكيف يتم له غرضه إذا نظر إلى دواوين الحديث الأخرى؟ "د".
3 الأنظار الخمسة السابقة على هذا الأخير. "د".
4 مضى تخريجه "323".
5 هو قطعة من الحديث السابق، وف "ط":"مثل الذي حرم الله".
ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَعَنِ الْعَقْلِ1.
وَأَمَّا فِكَاكُ الْأَسِيرِ؛ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الْأَنْفَالِ: 72] ، وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَّا بِالِانْتِصَارِ بِغَيْرِهِ فَعَلَى الْغَيْرِ النَّصْرُ، وَالْأَسِيرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى بِالنَّصْرِ، فَهُوَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ.
وَأَمَّا أَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ؛ فَقَدِ انْتَزَعَهَا الْعُلَمَاءُ مِنَ الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّسَاءِ: 141] .
وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الْحَشْرِ: 20] .
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْعَدُ2، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ عَلَى التَّنْصِيصِ أَوْ نَحْوِهِ3 لَمْ يَجْعَلْهَا عَلِيٌّ خَارِجَةً عَنِ الْقُرْآنِ؛ حَيْثُ قَالَ:"مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ"4؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ لَعَدَّ الثِّنْتَيْنِ دُونَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ مَأْخَذَ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ؛
1 في "ف" و"ط": "وعلى العقل"، وكتب "ف" في الهامش:"لعله "وعن العقل"، وهو المذكور في صحيفة علي، رضي الله عنه"، وفي "م" في الهامش:"العقل: الدية، سميت بذلك لأن الإبل المأخوذة كانت تعقل -أي: تربط- بفناء القتيل".
قلت: وقد مضى تخريج المحرمات المذكورة في كلام المصنف "ص355".
2 لأن محل نفي الاستواء قد بين في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون} [الحشر: 20] ؛ فليس المراد ما يشمل عدم استوائهما في القصاص إذا تعدى بعضهم على بعض في الدنيا. "د".
3 أي: كما يؤخذ من دعوى انتزاع الحكم من الآيتين. "د".
4 مضى تخريجه "ص192".
فَلَمْ يُقِدْ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ، وَالْعُبُودِيَّةُ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ؛ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقَادَ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ.
وَأَمَّا إِخْفَارُ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ1، وَأَقْرَبُ الْآيَاتِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرَّعْدِ: 25] .
وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [الْبَقَرَةِ: 27] .
وَقَدْ مَرَّ تَحْرِيمُ الْمَدِينَةِ وَانْتِزَاعُهُ مِنَ الْقُرْآنِ2.
وَأَمَّا مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ؛ فَدَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الِانْتِفَاءَ مِنْ وَلَاءِ3 صَاحِبِ الْوَلَاءِ الَّذِي هُوَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ ذَلِكَ الْوَلَاءِ، كَمَا هُوَ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهَا:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النَّحْلِ: 72] .
وَصِدْقُ هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي "الصَّحِيحِ" مِنْ قَوْلِهِ: "أَيُّمَا عَبْدٍ أبق من مواليه؛
1 يرد عليه مثل اعتراضه المتقدم آنفًا، وأنه لو كان موجودًا في الكتاب عَلَى التَّنْصِيصِ أَوْ نَحْوِهِ؛ لَمْ يَجْعَلْهَا عَلِيٌّ رضي الله عنه خارجة عن القرآن، والاعتراض هنا أوجه؛ لأنه يقول: إنه من باب نقض العهد، أي: جزئي منه، وهو في آية: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ
…
} إلخ [الرعد: 25]، وينظر أيضًا لهذا النظر في قوله بعد:"فَدَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ به أن يوصل"؛ إلا أن يقال: إن هذا على وجه القياس أو غيره من الوجوه الأخرى. "د".
2 انظر "ص387".
3 في "م" و"ط": "ولاه" بالهاء في آخره.
فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ" 1.
وَفِيهِ: "إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ"2.
وَحَدِيثُ مُعَاذٍ3 ظَاهِرٌ فِي أَنَّ مَا لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا حَصَلَ بَيَانُهُ فِيهِ؛ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي السُّنَّةِ، وَإِلَّا؛ فَالِاجْتِهَادُ يَقْضِي عليه، وليس فيه معارضة4 لما تقدم.
1 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الإيمان باب تسمية العبد الآبق كافرًا، 1/ 83/ رقم 68" عن جرير بن عبد الله، رضي الله عنه.
2 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب تسمية العبد الآبق كافرًا، 1/ 83/ رقم 70" عن جرير بن عبد الله، رضي الله عنه.
وكتب "د" هنا ما نصه: "لم يتعرض للجواب عن أسنان الإبل الواردة في الصحيفة، وكذا لم يصرح بالجواب عن الاعتراض بالقضاء للزبير، وقد وعد به سابقًا؛ إلا أن يقال: إنه مندرج في النظر الرابع الراجع إلى القياس أو إلى الاجتهاد بإلحاق الواسطة المترددة بين الطرفين بأحدهما".
3 المتقدم "ص298".
4 لأن معاذًا لم ينف أصل كونه في القرآن عندما يلجأ للسنة، بل إنما يفيد كلامه أنه إذا لم يجد الحكم صريحًا مبينًا في الكتاب؛ يلجأ إلى السنة لتبينه، وإلا؛ فيبينه طريق الاجتهاد، هذا هو ظاهر كلامه، وهو جواب آخر الأسئلة في الاعتراض الثالث بالاستقراء. "د".
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ الْكِتَابَ دَالٌّ عَلَى السُّنَّةِ، وَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبَيِّنَةً لَهُ؛ فَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ1 إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِذْنِ أَوْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ2، وَأَمَّا مَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّا كَانَ أَوْ مَا يَكُونُ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا إِذْنٌ؛ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ فِي السُّنَّةِ مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ لِلْقُرْآنِ؛ فَهَذَا لَا نَظَرَ فِي أَنَّهُ بَيَانٌ لَهُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَةِ: 58] ؛ قَالَ: "دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ"3.
وَفِي قَوْلِهِ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 59] ؛ قَالَ: "قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ"4.
وَفِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 143] ؛ قَالَ: "يُدْعَى نُوحٌ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ. فَيُقَالُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. قَالَ: فَيُؤْتَى بِكُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ؛ فَذَلِكَ قَوْلُ الله: {وَكَذَلِكَ
1 أي: اطراده، وكليته إنما هي فيما كان راجعًا إلى التكليف، وأما ما عداه؛ فقد يكون كذلك، وقد لا يكون له أصل قريب في الكتاب؛ فلا يكون بيانًا له إلا على الوجه الأول من الوجوه السابقة، وستأتي الإشارة إليه في آخر المسألة. "د".
2 ويندرج فيه الأحكام الوضعية. "د".
3 مضى تخريجه "ص397".
4 مضى تخريجه قريبًا "ص397".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "بفتح العين، وروي في شعيرة، أمر بنو إسرائيل أن يقولوا حطة؛ فبدلوا وزادوا على ذلك مستهزئين، وقالوا: حبة في شعرة أو شعيرة، وروي أنهم قالوا: حنطة بدل حطة، والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في كتاب تفسير القرآن".
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143] "1.
وَفِي قَوْلَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110]، قَالَ:"إِنَّكُمْ تَتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وأكرمها على الله"2.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الأنبياء، باب قول الله، عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ، 6/ 371/ رقم 3339، كتاب التفسير، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ، 8/ 171-172/ رقم 4487، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، 13/ 316/ رقم 7349"، والترمذي في "الجامع""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، 5/ 207/ رقم 2961"، والنسائي في "الكبرى""كتاب التفسير، 1/ 195، 197/ رقم 26، 27"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد، صلى الله عليه وسلم 2/ 1432/ رقم 4284"، وابن أبي شيبة في "المصنف""11/ 454"، وأحمد في "المسند""3/ 9، 12، 58"، ووكيع في "نسخته عن الأعمش""رقم 26"، وعبد بن حميد في "المنتخب""رقم 913"، وأبو يعلى في "المسند""رقم 1173، 1207"، وابن جرير في "التفسير""2/ 5، 6"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 1719، موارد"، والحاكم في "المستدرك""2/ 268"؛ والبيهقي في "الأسماء والصفات""رقم 464" و"البعث"، والبغوي في "معالم التنزيل""1/ 123"، من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري به، بألفاظ مختلفة، والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي المطول.
2 أخرجه عبد الرزاق في "التفسير""1/ 130"، وعبد بن حميد في "المنتخب""رقم 409، 411"، والترمذي في "الجامع""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، 5/ 226/ رقم 3001"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد، صلى الله عليه وسلم 2/ 1433/ رقم 4287، 4288"، وعبد الله بن المبارك في "مسنده""رقم 106"، وأحمد في "مسنده""4/ 447 و5/ 3، 5"، ونعيم بن حماد في "زوائده على زهد ابن المبارك""ص114"، وابن أبي حاتم في "تفسيره""رقم 1156"، والحاكم في "المستدرك""4/ 84"، والطبراني في "الكبير""19/ 422"، وابن جرير في "التفسير""7/ 104/ رقم 7621، 7622، ط شاكر"، والبيهقي في "الكبرى""9/ 5"، والبغوي في "شرح السنة""1/ 405"، والواحدي في "الوسيط" "1/ 477 =
وَفِي قَوْلِهِ: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آلِ عِمْرَانَ: 169] ؛ "إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ...." إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ1.
= 478" من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده به بألفاظ متقاربة، وفي سائرها "تتمون"، وكذا في "م" و"ط" كما أثبتناه، وفي الأصل و"ف" و"ماء" و"د": "تتبعون"، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "2/ 64" لابن المنذر وابن مردويه.
وإسناده حسن، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم.
وقال ابن حجر في "الفتح""8/ 225": "وله شاهد مرسل عن قتادة عند الطبري، رجاله ثقات، وفي حديث علي عند أحمد بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جعلت أمتي خير الأمم" ".
قلت: وله شاهد عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا ضمن حديث فيه: "وإنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله"، أخرجه أحمد في "المسند""3/ 61"، وفيه علي بن زيد بن جدعان.
1 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، 3/ 1502-1503/ رقم 1887"، والترمذي في "الجامع""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، 5/ 231/ رقم 3011"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله، 2/ 936-937/ رقم 2801"، وأبو عوانة في "المسند""5/ 53، 54"، والحميدي في "المسند""رقم 120"، وسعيد بن منصور في "السنن""رقم 2559، ط القديمة"، وعبد الرزاق "5/ 263/ رقم 9554"، وابن أبي شيبة "5/ 308-309"، وكلاهما في "المصنف"، وابن منده في "الإيمان""رقم 244"، وابن جرير في "التفسير""5/ 386"، والواحدي في "الوسيط""1/ 520"، والطبراني في "الكبير""9/ 237-238"، والبيهقي في "الكبرى""9/ 163"، والبغوي في "معالم التنزيل""1/ 579" و"شرح السنة""10/ 364"، وابن عساكر في "الأربعين في الحث على الجهاد" "رقم 39" من طرق عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق؛ قال: سألنا عبد الله -أي: ابن مسعود- عن هذه الآية وذكرها؛ فقال: أما أنا قد سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش
…
".
وَقَالَ: "ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 158] : الدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا"1.
وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الْآيَةَ [الْأَعْرَافِ: 172] ؛ قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا 2 مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ 3! مَنْ هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك" 4 الحديث.
1 أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، 1/ 138/ رقم 158"، والترمذي في "الجامع""أبواب التفسير، باب ومن سورة الأنعام، 5/ 264/ رقم 3072"، وأبو عوانة في "المسند""1/ 107"، وأبو يعلى في "المسند""11/ 31-32، 33/ رقم 6170، 6172"، وابن جرير في "التفسير""8/ 103"، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
2 الوبيص: البريق واللمعان، وفي الحديث:"أخذ العهد على الذرية، وأعجب آدم وبيص ما بين عيني داود، عليه السلام". "ف".
3 في "ط": "ربي".
4 أخرجه النسائي في "الكبرى""كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} ، 1/ 506/ رقم 211"، وأحمد في "المسند""1/ 272"، وابن أبي عاصم في "السنة""رقم 202"، وابن منده في "الرد على الجهمية""رقم 29"، والحاكم في "المستدرك""1/ 27 و2/ 544"، وابن جرير في "التفسير""9/ 75 و13/ 222، ط شاكر" و"التاريخ""1/ 134"، والبيهقي في "الأسماء والصفات""1/ 518/ رقم 441 و714" من طريق حسين المروذي عن جرير بن حازم عن أبيه عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا.
وإسناده حسن، كلثوم من رجال مسلم، وثقه ابن معين وأحمد، وذكره ابن حبان في "الثقات""7/ 356"، ومع هذا قال النسائي عقب الحديث:"وكلثوم هذا ليس بالقوي، وحديثه ليس بالمحفوظ".=
وَفِي قَوْلِهِ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هُودٍ: 80] ؛ قَالَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ؛ فَمَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا إلا في ذروة من قومه"1.
= قلت: يريد مرفوعًا، وإلا، فقد روي من طرق عديدة موقوفًا، قال ابن منده:"هذا حديث تفرد به الحسين المروذي عن جرير بن حازم، وهو أحد الثقات، ورواه حماد بن زيد [كما عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 29"] ، وعبد الوارث [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 222" و"التاريخ" "1/ 67"] ، وابن علية [كما عند ابن سعد في "الطبقات" "1/ 29"، وابن جرير في "التفسير" "13/ 222" و"التاريخ" "1/ 67"] وربيعة بن كلثوم [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 229"] ، كلهم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا، وكذلك رواه حبيب بن أبي ثابت [كما عند الآجري في "الشريعة" "211، 212"، وابن جرير في "التفسير" "13/ 227" و"التاريخ" "1/ 67"] ، وعلي بن بذيمة [كما عند ابن جرير في "التفسير" "13/ 228، 229] ، وعطاء بن السائب [كما عند ابن جرير في "التفسير" "1/ 67، 68 و13/ 227 و228"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 29"] ، كلهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله" انتهى كلام ابن منده، وما بين المعقوفتين من إضافاتي.
وذكر نحوه ابن كثير في "التفسير""2/ 263 و3/ 501، ط الشعب"، وقال في آخره عن الموقوف:"فهذا أكثر وأثبت"، ونحوه في "البداية والنهاية""1/ 90" له.
والموقوف له حكم الرفع، ولا سيما أن له شواهد عديدة؛ كما تراه في "السلسلة الصحيحة""رقم 47-50 و848".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ......} ، 6/ 415/ رقم 3375، وباب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُف
…
} ، 6/ 418/ رقم 3387، وكتاب التفسير، باب {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ....} ، 8/ 366/ رقم 4694"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، 1/ 133/ رقم 151، وكتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل، عليه السلام 4/ 1839/ رقم 151" عن أبي هريرة، وأوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، وفيه: "ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد".
واللفظ الذي عند المصنف، أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب =
وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ والسبع المثاني"1.
= ومن سورة يوسف، 5/ 293/ رقم 3116" من طريق الفضل بن موسى، وعبدة، وعبد الرحيم بن سليمان، وأخرجه الطحاوي في "المشكل" "1/ 136، ط القديمة و1/ 300/ رقم 330، ط المحققة" -من طريق عبد الرحيم- وتصحف في الطبعة القديمة إلى عبد الرحمن بن سليمان، وأحمد في "المسند" "2/ 332" من طريق محمد بن بشر، وأحمد في "المسند" "2/ 384"، وابن جرير في "التفسير" "12/ 53"، وتمام في "الفوائد" "4/ 253-254/ رقم 1441، الروض البسام"، والحاكم في المستدرك""2/ 561" من طريق حماد بن سلمة، والبخاري في "الأدب المفرد""رقم 605" من طريق عبدة، وتمام في "الفوائد""رقم 1442، الروض" من طريق محمد بن خالد الوهبي، كلهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، وانفرد الفضل بقوله:"ذروة"، وقال الآخرون:"ثروة"، وقال الترمذي عقبه عن اللفظ الثاني:"وهذا أصح من رواية الفضل بن موسى، وهذا حديث حسن"، والمصنف ينقل عنه كعادته، ولم يلتفت إلى تصححه هذا؛ فنقله بلفظ "ذروة"، قال الترمذي وغيره:"قال محمد بن عمرو: الثروة: الكثرة والمنعة".
وإسناد الحديث حسن من أجل محمد بن عمرو. "استدراك 5".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب التفسير، باب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، 8/ 381/ رقم 4704" و"القراءة""51"، والترمذي في "الجامع""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297/ رقم 3124 -والمذكور لفظه- والطيالسي في "المسند" "305"، والدارمي في "السنن" "2/ 446"، وأحمد في "المسند" "2/ 448"، وعلي بن الجعد في "المسند" "1016"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 47 و14/ 58، 59"، والدارقطني في "السنن" "1/ 312"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 78، ط قديمة"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ 45" عن أبي هريرة مرفوعًا.
وأخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، 8/ 156-157/ رقم 4474، وباب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّه....} ، 8/ 307-308/ رقم 4647، وباب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، 8/ 381/ رقم 4703"، والنسائي في "المجتبى""كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله، عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، 2/ 139" و"فضائل القرآن" من "الكبرى""رقم 73"، وغيرهم عن أبي سعيد بن المعلى مرفوعًا بنحوه.
وَفِي رِوَايَةٍ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي"1.
وَسَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الْإِسْرَاءِ: 101] ؛ فَفَسَّرَهَا لهم2.
1 أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297/ رقم 3125"، والنسائي في "المجتبى""كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله، عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، 2/ 139"، وعبد بن حميد في "المنتخب""37"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند""5/ 114"، والدارمي في "السنن""2/ 446"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن""ص116-117، ط وهبي"، وابن الضريس في "فضائل القرآن""رقم 146"، وابن جرير في "التفسير""14/ 58، 59"، والواحدي في "أسباب النزول""12"، والبغوي في "شرح السنة""4/ 444/ 446"، والخطيب في "تاريخه""4/ 364"، وابن خزيمة في "صحيحه""1/ 252"، والطحاوي في "المشكل""1/ 467 و2/ 78"، والحاكم في "المستدرك""1/ 553"، والبيهقي في "السنن""2/ 375" و"القراءة""19، 52، 53، 54"، وابن النجار في "تاريخه""1/ 169" من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به، وبعضهم يزيد عن أبي.
وإسناده حسن، وله طرق أخرى يصل بها إلى درجة الصحة.
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "جامعه""أبواب الاستئذان، باب ما جاء في تقبيل اليد والرجل، 5/ 77/ رقم 2733، وأبواب التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، 5/ 305/ رقم 3144"، والنسائي في "المجتبى""كتاب تحريم الدم، باب السحر، 7/ 111-112"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الأدب، باب الرجل يقبل يد الرجل، 2/ 1221/ رقم 3705، مختصرًا"، وابن أبي شيبة في "المصنف""8/ 562 و14/ 289"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني""4/ 414-415" و"الجهاد""2/ 649/ رقم 275"، والطيالسي في "المسند""رقم 1164"، وأحمد في "المسند""4/ 239-240"، وإسحاق بن راهوية وأبو يعلى في "تخريج الزيلعي للكشاف""2/ 293"، والطحاوي في "المشكل""1/ 4-5"، وابن جرير في "التفسير""15/ 172-173"، والطبراني في "الكبير""8/ 83/ رقم 7396"، والحاكم في=
...........................................................................
= "المستدرك""1/ 9"، والبيهقي في دلائل النبوة" "6/ 268"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/ 97-98"، والخطيب في "الموضح" "1/ 330-331، 332"، والبغوي في "شرح السنة" "5/ 187"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 130-131" من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال صاحبه: لا تقل: نبي، إنه لو سمعك كان له أربع أعين، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات؛ فقال لهم: "لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت". قال: فقبلوا يده ورجله. فقالا: نشهد أنك نبي، قال:"فما يمنعكم أن تتبعوني؟ " قالوا: إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود. لفظ الترمذي.
وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
قلت: وظاهر إسناده الصحة ورجاله ثقات؛ إلا أن عبد الله بن سلمة اختلط، ورواية عمرو بن مرة عنه حال اختلاطه، وقد فصلت ذلك ولله الحمد في تعليقي على "الخلافيات""2/ 17-20".
ولذا؛ فالحديث ضعيف، ولا طريق له إلا المذكور، قال العقيلي:"ولا يحفظ هذا الحديث من حديث صفوان بن عسال؛ إلا من هذا الطريق".
وقد تفطن الإمام الحافظ ابن كثير إلى علة تقدح في هذا الحديث، وبين وهمًا وقع لعبد الله بن سلمة هذا فيه؛ فقال:"فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير في "تفسيره" من طرق عن شعبة بن الحجاج به، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو حديث مشكل، عبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعل اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم".
وقد أورد الزيلعي في "تخريج الكشاف""2/ 293" إشكالين على الحديث؛ فقال: "والحديث فيه إشكالان:
أحدهما:
أنهم سألوا عن تسعة وأجاب في الحديث بعشرة، وهذا لا يرد على رواية أبي نعيم والطبراني؛ لأنهما لم يذكرا فيه السحر، ولا على رواية أحمد أيضًا؛ لأنه لم يذكر القذف مرة، وشك =
وَحَدِيثُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ ثَابِتٌ صَحِيحٌ1.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيم} [الصَّافَّاتِ: 89] ؛ قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا في ثلاث: قوله إني سقيم" الحديث2.
= في أخرى؛ فيبقى المعنى في رواية غيرهم، أي: خذوا ما سألتموني عنه وأزيدكم ما يختص بكم لتعلموا وقوفي على ما يشتمل عليه كتابكم.
الإشكال الثاني: أن هذه وصايا في التوراة ليس فيها حجج على فرعون وقومه، فأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون، وما جاء هذا إلا من عبد الله بن سلمة؛ فإن في حفظه شيئًا، وتكلموا فيه وأن له مناكير، ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات؛ فاشتبه عليه بالتسع الآيات، فوهم في ذلك، والله أعلم".
ثم قال: "ورواه ابن مردويه في "تفسيره" كذلك بلفظ "السنن"".
1 مضى تخريجه مسهبًا في "1/ 546"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره، وانظر كتابنا:"من قصص الماضين في حديث سيد المرسلين""ص21-45".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، 6/ 388/ رقم 3357، 3358، وكتاب النكاح، باب اتخاذ السراري، 9/ 126/ رقم 5084"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل، عليه السلام 4/ 1840/ رقم2371" عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
وكتب "ف" هنا ما نصه: "وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في زوجه سارة: هي أختي، وهذا من معاريض الكلام وإن في المعاريض لمندوحة كقول نبينا صلى الله عليه وسلم لمن قال له في طريق الهجرة: ممن الرجل؟ قال: "من ماء"؛ حيث أراد عليه الصلاة والسلام ذكر مبدأ خلقه، ففهم السائل أنه بيان قبيلة، فسيدنا إبراهيم عليه السلام نظر نظرة في النجوم أوهمهم أنه ينظر فيها من حيث الأوضاع الفلكية التي يستدل بها على ما سيقع من الحوادث الكونية؛ فقال لهم: إني سقيم، وأراد أنه مستعد للسقم أو أنه سقيم القلب لكفرهم، والقوم توهموا أنه أراد قرب سقمه حيث لا يستطيع معهم الخروج إلى معبدهم، ولا يعد ذلك كذبًا في الحقيقة، وتسميته في بعض الأحاديث بالكذب بالنظر لما فهمه الغير منه لا بالنسبة لما قصده المتكلم".
قلت: وسيأتي في "ص442" تخريج قوله، صلى الله عليه وسلم:"من ماء".
وقال: "إنكم محشورون إلى الله [عراة] 1 غُرْلًا"2. ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاءِ: 104] 3.
وَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الْحَجِّ: 1] ؛ قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ" الْحَدِيثَ4.
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 الغرلة، بالضم: القلفة. "ف".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، 6/ 386-387/ رقم 3349، وباب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} ، 6/ 478/ رقم 3447، وكتاب التفسير، باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِم} ، 8/ 286/ رقم 4625، وباب {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك} ، 8/ 286/ رقم 4626، وباب {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} ، 8/ 437-438/ رقم 4740، وكتاب الرقاق، باب الحشر، 11/ 377/ رقم 6524، 6525، 6526"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا، 4/ 2194-2195/ رقم 2860"، والترمذي في "جامعه""أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحشر، 4/ 615-616/ رقم 2423، وأبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنبياء، عليهم السلام، 5/ 321-322/ رقم 3167"، والنسائي في "المجتبى""كتاب الجنائز، باب البعث، 4/ 114، وباب ذكر ذكر أول من يكسى، 4/ 117" و"السنن الكبرى""كتاب التفسير، 1/ 462-463/ رقم 180 و2/ 78/ رقم 357" عن ابن عباس مرفوعًا.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، 6/ 382/ رقم 3348، وكتاب التفسير، باب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} ، 8/ 441/ رقم 4741، وكتاب الرقاق، باب قوله، عز وجل: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ، 11/ 388/ رقم 6530، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ....} ، 13/ 453/ رقم 7483"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أخرج بعث النار، 1/ 201-202/ رقم 222"، والنسائي في "الكبرى""كتاب التفسير، 2/ 80-81/ رقم 359"، وأحمد في "المسند""3/ 32-33"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم =
وَقَالَ: "إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يظهر عليه جبار"1.
= 917"، وابن جرير في "التفسير" "17/ 87"، ووكيع في "نسخته عن الأعمش" "رقم 27" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا.
وفي الباب عن عمران بن حصين، أخرجه الترمذي في "جامعه""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، 5/ 323-324/ رقم 3169" -والمذكور لفظه- والنسائي في "الكبرى""كتاب التفسير، 2/ 82/ رقم 360"، وأحمد في "المسند""4/ 432، 435"، وابن جرير في "التفسير""17/ 111"، والحاكم في "المستدرك""1/ 28 و2/ 233، 385 و4/ 567" من طرق عن الحسن عن عمران به، قال الحاكم:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأكثر أئمة البصرة على أن الحسن قد سمع من عمران، غير أن الشيخين لم يخرجاه".
قلت: الحسن مدلس، وقد عنعن، ولم يصرح بالسماع؛ إلا أن ما قبله يشهد له، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي الدرداء وأنس وغيرهم.
وعزاه السيوطي في "الدر""4/ 343" لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن عن عمران به.
1 أخرجه الترمذي في "جامعه""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، 5/ 324/ رقم 3170"، والبخاري في "التاريخ الكبير""1/ 201"، والبزار في "مسنده""2/ 45/ رقم 1165، زوائده"، والحاكم في "المستدرك""2/ 389"، والطبراني في "الكبير""رقم 262، قطعة من الجزء 13"، والبيهقي في "الدلائل""1/ 125"، وابن جرير في "التفسير""17/ 151-152"، والواحدي في "الوسيط""3/ 268-269" من طريق عبد الله بن صالح عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة بن الزبير عن عبد الله بن الزبير مرفوعًا به.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا"، ثم أخرجه؛ فقال: ثنا قتيبة ثنا الليث عن عقيل عن الزهري به.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير""17/ 152" من طريق حجاج عن ابن جريج عن الزهري مرسلًا.
وإسناد المرفوع ضعيف، قال البزار عقبه:"لا نعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد".
قلت: فيه عبد الله بن صالح، كاتب الليث، قيل: ثقة مأمون، ضعفه الأئمة أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، كذا في "مجمع الزوائد""3/ 296".
وأمثلة هذا الضرب كثيرة.
وَالثَّانِي:
أَنْ لَا يَقَعَ مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ، وَلَا فِيهِ مَعْنَى تَكْلِيفٍ اعْتِقَادِيٍّ أَوْ عَمَلِيٍّ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ لأنه أمر زائد على مواقع التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِذَلِكَ1؛ فَالسُّنَّةُ إِذَا خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ وَقَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ نَمَطٌ صَالِحٌ فِي "الصَّحِيحِ"2 كَحَدِيثِ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى3، وَحَدِيثِ جُرَيْجٍ الْعَابِدِ4، وَوَفَاةِ مُوسَى5، وَجُمَلٌ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام والأمم
= وقال ابن أبي حاتم في "العلل""1/ 274-275/ رقم 810": "سألت أبي عن حديث رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة
…
"، وذكره مرفوعًا، ثم قال: "قال أبي: هذا خطأ، رواه معمر عن الزهري عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير موقوفًا، ورواه الليث
…
"، وساقه من الطريق التي ذكرناها، ثم قال: "قال أبي: حديث معمر عندي أشبه؛ لأنه لا يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوع".
1 أي: أن هذا هو المقصود الأول من الكتاب، كما سبق بيانه في المسألة السابعة من الطرف الثاني. "د".
2 في "البخاري" من هذا النوع طائفة صالحة، تجدها في كتاب التفسير منه، وكتاب بدء الخلق، وكتاب أحاديث الأنبياء. "د".
3 انظره في "صحيح البخاري""كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل، 6/ 500-501/ رقم 3464، وكتاب الأيمان والنذور، باب لا يقول ما شاء الله وشئت وهل يقول: أنا بالله ثم بك، 11/ 540/ رقم 6653"، و"صحيح مسلم""كتاب الزهد والرقائق، باب منه، 4/ 2275-2277/ رقم 2964" عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
4 انظره في "صحيح البخاري""كتاب أحاديث الأنبياء، باب 48، 6/ 476/ رقم 3436، وباب 54، 6/ 511/ رقم 3466"، و"صحيح مسلم""كتاب البر والصلة، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، 4/ 1976/ رقم 2550"، و"مسند أحمد""2/ 307 و308 و358 و395 و433"، و"مجابي الدعوة""رقم 1"، و"الآداب""رقم 1079" للبيهقي، و"مسند أبي يعلى""11/ 178-179/ رقم 6289" عن أبي هريرة به.
5 انظره في "صحيح البخاري" "كتاب الجنائز، باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة =
قَبْلَنَا1، مِمَّا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَكِنْ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ نَحْوٌ مِمَّا فِي الْقَصَصِ الْقُرْآنِيِّ، وَهُوَ نَمَطٌ رُبَّمَا رَجَعَ إِلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ فَهُوَ خَادِمٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَعْدُودٌ فِي الْمُكَمِّلَاتِ لِضَرُورَةِ التَّشْرِيعِ؛ فَلَمْ يَخْرُجْ بِالْكُلِّيَّةِ عن القسم الأول2، والله أعلم.
= أو نحوها، 3/ 206/ رقم 1339، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى، عليه السلام، 6/ 440/ رقم 3407"، و"صحيح مسلم" "كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى، عليه السلام 4/ 1842/ رقم 2372"، و"المجتبى" للنسائي "4/ 118 و119"، و"مسند أحمد" "2/ 269 و533"، و"مصنف عبد الرزاق" "11/ 274-275/ رقم 20530 و20531"، و"السنة" لابن أبي عاصم "رقم 599، 600"، و"صحيح ابن حبان" "8/ 38/ رقم 6190، الإحسان"، و"شرح السنة" "5/ 265-266/ رقم 1451"، و"صحيفة همام بن منبه" "رقم 60".
1 تجد هذه الأحاديث -ومنها ما أشار إليه المصنف آنفًا- مع تخريجها وبيان غريبها والفوائد المستنبطة منها في كتابي "من قصص الماضين"، وهو مطبوع، ولله الحمد.
2 وهو ما كان مبينًا للكتاب؛ لأنه خادم لمقصود الكتاب. "د".
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
السُّنَّةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ: قَوْلٌ، وَفِعْلٌ1، وَإِقْرَارٌ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْكَارِ لَوْ كَانَ مُنْكَرًا.
فَأَمَّا الْقَوْلُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَا تَفْصِيلَ.
وَأَمَّا الْفِعْلُ؛ فَيَدْخُلُ تحته الكف عن الفعل2؛ لأنه فعل عند جَمَاعَةٍ، وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْكَفَّ غَيْرُ فِعْلٍ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الكلام على كل واحد منهما3.
1 مما فرق به بين القول والفعل، أن الفعل لا يعارض فعلًا آخر؛ فلا ينسخه ولا يخصصه؛ لأنه لا عموم للأفعال، فلا يعقل التعارض بينها، وإنما يعقل بين الفعل والقول كما يعقل بين الأقوال. "د".
2 أي: ترك الفعل مطلقًا أو ترك الفعل المنهي عنه لأنه الذي اختلف في كونه فعلًا أو غير فعل؛ فالجمهور على أنه فعل، وهو الكف أي الانصراف عن المنهي عنه، مع سبق الداعية إليه أو يدونها؛ فيشمل نهي المعصوم أو هو فعل الضد للمنهي عنه، وقال قوم منهم أبو هاشم المعتزلي: مقتضى النهي الترك، أي عدم الفعل، وهو انتفاء المنهي عنه هذا هو المشهور عند الأصوليين وإن كان تركه صلى الله عليه وسلم لا يتقيد بكونه تركًا لخصوص المنهي عنه كما سيأتي. "ف".
قلت: انظر في تحقيق أن الترك المقصود فعل: "جمع الجوامع""1/ 214، مع شروحه"، و"شرح مختصر ابن الحاجب""2/ 13، 14"، و"المستصفى""1/ 90"، و"الإحكام""1/ 112"، و"إرشاد الفحول""ص91"، و"أصول السرخسي""1/ 79-80"، وانظر في عدم الالتفات إلى الترك غير المقصود:"مجموع فتاوى ابن تيمية""21/ 313-314"، وانظر في الترك وأقسامه وأحكامه:"أفعال الرسول، صلى الله عليه وسلم""2/ 45-70" للشيخ محمد الأشقر، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام""ص207-227" للدكتور محمد العروسي عبد القادر، ط دار المجتمع، جدة، سنة 1404هـ، ط الأولى.
3 أي: الفعل والكف. "د".
فَالْفِعْلُ مِنْهُ1 صلى الله عليه وسلم دَلِيلٌ عَلَى مُطْلَقِ الْإِذْنِ فِيهِ2 مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى غَيْرِهِ3؛ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَالْكَلَامُ هَنَا مَذْكُورٌ4 فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَخُصُّ هَذَا الْمَوْضِعَ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ أَبْلَغُ فِي بَابِ التَّأَسِّي وَالِامْتِثَالِ مِنَ5 الْقَوْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى بَيَانٍ؛ فَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ وَكِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ أَوِ الْقَرِينَةُ عَلَى خِلَافِ مُطْلَقِ الْإِذْنِ؛ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْوَاعِهِ، فَمُطْلَقُ الْإِذْنِ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ؛ فَفِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالٍ أَمْ كَانَ مُطْلَقًا؛ فَالْمُطْلَقُ كَسَائِرِ الْمَفْعُولَاتِ6 لَهُ، وَالَّذِي فِي حَالٍ كَتَقْرِيرِهِ لِلزَّانِي إِذْ أَقَرَّ عِنْدَهُ؛ فَبَالَغَ فِي الِاحْتِيَاطِ عليه7 حتى صرح له بلفظ الوطء
1 أراد به ما قابل الكف واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا؛ كما يدل عليه بيانه بعد "ف".
2 أي: غير مقيد بكونه واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا، واتخاذ ذلك يفهم من دليل آخر كما قال، وليس مراده أن فعله صلى الله عليه وسلم عند ذلك يكون غير مأذون فيه كما بينه بعد. "ف".
3 أي: على غير الإطلاق، بأن دل على تعيين نوع الإذن من وجوب أو ندب أو إباحة، كما يشير إليه بعد. "د".
4 واختلفوا فيه على أربعة أقوال، والآمدي اختار أنه إن لم يظهر فيه قصد القربة؛ فهو دليل على القدر المشترك بين الثلاثة، وإن ظهر؛ فهو دليل على المشترك بين الواجب والمندوب، وابن الحاجب قال:"إن ظهر قصد القربة؛ فالمختار أنه للندب، وإلا؛ فللإباحة". "د".
5 في "م": "عن".
6 أي: غير الطبيعة الجبلية؛ فإنه لا نزاع في كونها للإباحة لا غير. "د".
7 حيث ردد الكلام معه وشدد عليه فيه حتى صرح
…
إلخ؛ ففعل هذا مأذون فيه في حال دون حال. "ف".
الصَّرِيحِ1، وَمِثْلُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ فَإِنَّمَا جَازَ لِمَحَلِّ الضَّرُورَةِ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا بِدَلِيلِ النَّهْيِ عَنِ التَّفَحُّشِ مُطْلَقًا2، وَالْقَوْلُ هُنَا فِعْلٌ3؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى تَكْلِيفِيٌّ4 لَا تَعْرِيفِيٌّ؛ فَالتَّعْرِيفِيُّ هُوَ الْمَعْدُودُ فِي الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ إِخْبَارًا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالتَّكْلِيفِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يُعَرِّفُ بِالْحُكْمِ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَوْلٌ، كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا التَّرْكُ5؛ فَمَحَلُّهُ فِي الْأَصْلِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهُوَ الْمَكْرُوهُ وَالْمَمْنُوعُ؛ فَتَرْكُهُ عليه الصلاة والسلام دَالٌّ عَلَى مَرْجُوحِيَّةِ الْفِعْلِ، وَهُوَ إِمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا فِي حَالٍ؛ فَالْمَتْرُوكُ مُطْلَقًا ظَاهِرٌ، وَالْمَتْرُوكُ فِي حَالٍ كَتَرْكِهِ الشَّهَادَةَ6 لمن
1 وذلك في قوله، صلى الله عليه وسلم:"أنكتها"، كما في "صحيح البخاري""رقم 6824"، وقد مضى تخريجه "ص117".
2 أورد البخاري في "صحيح""كتاب الأدب، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، 10/ 452" عدة أحاديث فيها النهي عن الفحش، أصرحها برقم "6030" من حديث عائشة رضي الله عنها فيه:"وإياك والعنف والفحش".
3 أي: فالفعل في هذا المقام أم مما تعورف عليه في مقابلة القول بالفعل؛ فلذا عد تقريره للزاني فعلًا. "د".
4 التكليف متعلق بالشرع، ومسألة الفرق بين "القول" و"الفعل" لغوية محضة، والاختلاف المذكور بين جهتي القول واقع في كل قول، سواء صدر من المنتسبين إلى الشرع أم غيرهم؛ فلو عبر بقوله:"الوجه الفعلي للقول"؛ لكان أوضح، أفاده الشيخ محمد الأشقر في "أفعال الرسول، صلى الله عليه وسلم""2/ 36"، وله كلام جيد في التفريق بين الوجه العباري والوجه الفعلي للقول، وانظر:"إحكام الأحكام""1/ 10"، و"تيسير التحرير""1/ 249"، و"المعتمد""1/ 387 و2/ 1006"، و"الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام""ص75".
5 أي: المعبر عنه بالكف سابقًا، وإن كان بينهما اختلاف في المعنى عندهم. "د".
6 أي: تحملها؛ لأن تحمل الشهادة فيما ليس بمباح مكروه، وليس المراد أداء الشهادة؛ لأن كتمان الشهادة لا يجوز مطلقًا، وفي رواية قال:"لا رجعة"، وعليها يكون قد أبطل الهبة رأسًا، فترك الشهادة لعدم وجود محلها إما على رواية "أشهد غيري"؛ فإن محل الشهادة موجود، ولكنه مرجوح ومكروه، فلم يشهد عليه، مع بقائه نافذًا فيكون مما نحن فيه، وبعد؛ فإنما صح له التمثيل بهذا للمتروك في حال؛ لأنه أخذ الشهادة مطلقة، لكنه لو أخذ نوعًا منها وهو الشهادة على نحلة بعض الأولاد دون بعض؛ لكان من قبيل المتروك مطلقًا. "د".
نَحَلَ بَعْضَ وَلَدِهِ دُونَ بَعْضٍ1؛ فَإِنَّهُ قَالَ: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَأَشْهِدْ غَيْرِي؛ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جور"2، وهذا ظاهر3.
1 أي: وهبه دون الآخر، والنحل، بالضم: إعطاؤك الإنسان شيئًا بلا استعاضة، والاسم: النحلة، بالكسر. "ف".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور، 5/ 258/ رقم 2650"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، 3/ 1243/ رقم 1623" وغيرهما عن النعمان بن بشير بهذا اللفظ.
وأخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الهبة، باب الهبة للولد، 5/ 211/ رقم 2586"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، 3/ 1241/ رقم 1623"، وأبو داود في "السنن""كتاب البيوع والإجارات، باب الرجل يفضل بعض ولده في النحل، 3/ 811/ رقم 3542"، والترمذي في "الجامع""أبواب الأحكام، باب في النحل والتسوية بين الولد، 3/ 649/ رقم 1367"، والنسائي في "المجتبى""كتاب النحل، باب اختلاف الناقلين لخبر النعمان بن بشير في النحل، 6/ 258-259، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الهبات، باب الرجل ينحل ولده، 2/ 795/ رقم 2375"، ومالك في "الموطأ" "2/ 751"، وأحمد في "المسند" "4/ 268" عن النعمان بألفاظ، منها: "فارتجعه"، ومنها: "فاردده".
3 أي: أن تطبيق قاعدة الترك على غير المأذون سواء أكان من المتروك مطلقًا الذي لا يحتاج إلى جلب أمثلة له، أم من المتروك في حال كمثال النحلة ظاهر؛ لأن الأصل فيما تركه أنه غير مأذون فيه، إلا أن هناك أمورًا وقع تركها مع كونها مأذونًا فيها، وهي في ظاهرها تخرج عن هذه القاعدة؛ فذكر هذه الأمور التي تركها صلى الله عليه وسلم وهي مأذون فيها، وذكر أسباب الترك، ثم عاد فحللها ورجعها إلى القاعدة، وبين أنها لتلك الأغراض صارت غير مأذون فيها سوى أولها؛ فليس فيه ترك أصلًا. "د".
وَقَدْ يَقَعُ التَّرْكُ لِوُجُوهٍ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ:
- مِنْهَا: الْكَرَاهِيَةُ طَبْعًا؛ كَمَا قَالَ فِي الضَّبِّ وَقَدِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ: "إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي؛ فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ" 1؛ فَهَذَا تَرْكٌ لِلْمُبَاحِ بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ2، وَلَا حَرَجَ فِيهِ.
- وَمِنْهَا: التَّرْكُ لِحَقِّ الْغَيْرِ؛ كَمَا فِي تَرْكِهِ أَكْلَ الثُّومِ وَالْبَصَلِ لِحَقِّ الْمَلَائِكَةِ3، وَهُوَ تَرْكُ مُبَاحٍ لِمُعَارَضَةِ حَقِّ الْغَيْرِ.
- وَمِنْهَا: التَّرْكُ خَوْفَ الِافْتِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ [وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ] 4 بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، كَمَا تَرَكَ الْقِيَامَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رمضان5.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن الوليد، رضي الله عنه.
2 انظر تفصيلًا في الفعل الجبلي الصادر منه صلى الله عليه وسلم ومتى يكون مندوبًا في "أفعال الرسول، صلى الله عليه وسلم""1/ 219-236" للأستاذ محمد الأشقر.
3 روي في "التيسير" عن الخمسة أنه صلى الله عليه وسلم أتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحًا، فسأل عنها، فأخبر بما فيها من البقول، فأشار إليهم أن يقدموها إلى بعض أصحابه، فلما رآه أكلها؛ قال له:"كل فإني أناجي من لا تناجي"، وهذا أوضح في التمثيل للمسألة السابعة من مثال العسل الآتي له. "د". قلت: وقد مضى تخريجه "ص115"، وذكرت جملة من الأحاديث في هذا الباب مع تخريجها في "التعليقات الحسان على تحقيق البرهان في شأن الدخان""ص107-113".
4 سقط من "ط".
5 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "الصحيح""كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، 1/ 524/ رقم 761" عن عائشة مرفوعًا، وفيه:"فإنه لم يخف علي شأنكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها".
وقال: "لولا أن أشق 1 على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ" 2، وَقَالَ لَمَّا أَعْتَمَ بِالْعَشَاءِ حتى رقد النساء والصبيان:"لولا أن أشق 3 على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ"4.
- وَمِنْهَا: التَّرْكُ لِمَا لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ بِالْجُزْءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْكُلِّ؛ كَإِعْرَاضِهِ عَنْ سَمَاعِ غِنَاءِ الْجَارِيَتَيْنِ في بيته5، وفي
1 و3 جعل هذين مما تركه خشية الافتراض فيه نظر؛ لأنه لم يصرح فيه إلا بمجرد خوف المشقة إذا أمرهم به، ولو بتأكد الطلب على جهة الفضيلة، ولا يلزم أن تكون المشقة متوقفة على الطلب المحتم، نعم، فسر بعضهم قوله:"لأمرتهم"؛ فقال: أي أمر إيجاب؛ فهو جارٍ على مقتضى هذا التفسير.
2 ورد عن جمع من الصحابة، وعد متواترًا، انظر:"صحيح البخاري""كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، 2/ 374/ رقم 887"، و"صحيح مسلم""كتاب الطهارة، باب السواك، 1/ 220"، وقد خرجت غير حديث باللفظ المذكور في تحقيقي لرسالة الشيخ علي القاري "معرفة النساك في معرفة السواك""رقم 1-8".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب مواقيت الصلاة، باب النوم قبل العشاء لمن غلب، 2/ 50/ رقم 571، وكتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، 13/ 224/ رقم 7239"، ومسلم في "صحيحه""كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها، 1/ 444/ رقم 642" عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
5 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد، 2/ 440/ رقم 949، وباب سنة العيدين لأهل الإسلام، 2/ 445/ رقم 952، وباب إذا فاتته العيد يصلي ركعتين، 2/ 474/ رقم 987، وكتاب الجهاد، باب الدرق، 6/ 94/ رقم 2906، وكتاب المناقب، باب قصة الحبشة، 6/ 553/ رقم 3529، وكتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب المدينة، 7/ 264/ رقم 3931"، ومسلم في "صحيحه""كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، 2/ 607-608/ رقم 892" عن عائشة؛ قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي، صلى الله عليه وسلم. فأقبل عليه =
الْحَدِيثِ: "لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي"1، وَالدَّدُ: اللَّهْوُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ يُؤْذَنُ فِيهِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي كتاب الأحكام.
= رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "دعهما"، فلما غفل غمزتهما فخرجتا. لفظ البخاري.
وانظر في شرح الحديث بما يوافق استدلال المصنف به في "مجموعة الرسائل""3/ 201"، ومجموع الفتاوى" "11/ 565، 569"، و"تلبيس إبليس" "237-238"، و"غاية المرام" "226-227" لشيخنا الألباني، و"المدخل" "3/ 109" لابن الحاج، و"الإعلام بأن العزف حرام" "ص40" لأبي بكر الجزائري.
1 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد""رقم 785"، والبزار في "مسنده""3/ 129/ رقم 2402، زوائده"، والطبراني في "الأوسط""1/ 262/ رقم 415"، والدولابي في "الكني""1/ 179"، والبيهقي في "الكبرى""10/ 217"، و"الآداب""رقم 925، ط عطا ورقم 904، ط عبد القدوس"، وابن عدي في "الكامل""7/ 2698" من طريق يحيى بن محمد بن قيس أبي زكير عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس مرفوعًا، وفي آخره:"قال يحيى بن قيس بن عقبة: يعني: لست من الباطل، ولا الباطل مني"، وقال البيهقي عقبه:"قال علي بن المديني: سألت أبا عبيدة -صاحب العربية- عن هذا؛ فقال: يقول: لست من الباطل، ولا الباطل مني"، وقال:"وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: الدد هو اللعب واللهو".
قال البزار: "لا نعلمه يروى إلا عن أنس، ولا نعلم رواه عن عمرو إلا يحيى بن محمد بن قيس".
قلت: وكلامه متعقب بما يأتي.
وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو إلا أبو زكير".
قلت: وإسناده ضعيف، فيه يحيى بن محمد بن قيس، وقد وثق، ولكن ذكر هذا الحديث من منكراته، والله أعلم، وقال الذهبي:"قد تابعه عليه غيره"، قاله الهيثمي في "المجمع""8/ 225".
وأعله ابن عدي بيحيى أيضًا، وقال:"عامة رواياته مستقيمة إلا هذا الحديث، وهو يعرف به"، وأورده العقيلي في "الضعفاء الكبير""4/ 427" في ترجمة يحيى المذكور، وقال:"وقد تابعه عليه من هو دونه". =
- وَمِنْهَا: تَرْكُ الْمُبَاحِ الصِّرْفِ1 إِلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ؛ فَإِنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لِأَزْوَاجِهِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 51] عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ2 الْمُفَسِّرِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَتَرَكَ مَا أُبِيحَ لَهُ إِلَى الْقَسْمِ الَّذِي هُوَ أَخْلَقُ بِمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ، وَتَرَكَ3 الِانْتِصَارَ مِمَّنْ قَالَ4 لَهُ: اعْدِلْ؛ فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَنَهَى مَنْ
= وأخرجه الطبراني في "الكبير""19/ 343-344/ رقم 794" من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن معاوية رفعه.
قال الهيثمي في "المجمع""8/ 226": "رواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن نصر الترمذي عن محمد بن عبد الوهاب الأزهري، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات".
قلت: محمد بن أحمد بن نصر الترمذي ترجمه الخطيب في "التاريخ""1/ 365"، والسبكي في "طبقاته""2/ 187-188"، وابن حجر في "لسان العرب""5/ 49"، وهو ثقة، إلا أنه اختلط.
وفيه محمد بن إسماعيل الجعفري، رواه عن الدراوردي، قال أبو حاتم:"منكر الحديث، يتكلمون فيه"، وقال أبو نعيم:"متروك، والراوي عنه محمد بن عبد الوهاب الذي جهله الهيثمي، ولم أظفر له بترجمة"، قال ابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 266/ رقم 2295" بعد أن ذكر حديث أنس ومعاوية:"قلت لأبي زرعة: أيهما عندك أشبه؟ قال: الله أعلم، ثم تفكر ساعة، فقال: حديث الدراوردي أشبه، وسألت أبي؛ فقال: حديث معاوية أشبه".
وانظر: "تخريج الزيلعي لأحاديث الكشاف""2/ 366".
1 أي: الخالص. "ماء".
2 وحمله بعضهم على الطلاق والإمساك، أعني: تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وحمله بعضهم على الأمرين جميعًا. "د".
3 في "ف" و"م": "وتركه".
4 هو ذو الخويصرة، وكان من المنافقين، قتل في الخوارج يوم النهروان على يد علي، رضي الله عنه. "د".
أَرَادَ قَتْلَهُ1، وَتَرَكَ قَتْلَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَمَّتْ له الشاة2، ولم يعاقب عروة بْنَ الْحَارِثِ إِذْ أَرَادَ الْفَتْكَ بِهِ، وَقَالَ: من يمنعك مني؟ الحديث3.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 617-618/ رقم 3610"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744-745/ رقم 1064" عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ 6/ 272/ رقم 3169، وكتاب المغازي، باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، 7/ 497/ رقم 4249، وكتاب الطب، باب ما يذكر في سم النبي، صلى الله عليه وسلم 10/ 244-245/ رقم 5777" عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الهبة، باب قبول الهدية من المشركين، 5/ 230/ رقم 2617"، ومسلم في "الصحيح""كتاب السلام، باب السم، 4/ 1720/ رقم 2190" عن أنس رضي الله عنه وفيه: "ألا نقتلها؟ ". قال: لا. وفي رواية للبيهقي: "أنه أمر بقتلها".
قال "د": "ويجمع من الروايات بأنه عفا عنها لحق نفسه، فلما مات من أكلها بشر بن البراء -وهو ابن معرور- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها قصاصًا". وقد مضى عند المصنف "2/ 461"، وتخريجه هناك أيضًا.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجرة في السفر عند القائلة، 6/ 96/ رقم 2910، وباب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر، 6/ 97/ رقم 2913، وكتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، 7/ 426/ رقم 4134"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الفضائل، باب منه، 4/ 1787/ رقم 843" عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه.
ووقع اسم الأعرابي أو الرجل الذي أراد أن يفتك به صلى الله عليه وسلم في "ف" و"م" و"د" و"ماء": "عروة" وهو خطأ، والصواب ما ذكرناه، ووقع في الأصل و"ط" على الجادة، ودليله ما ذكره البخاري في "صحيحه" "7/ 426/ رقم 4136" عقب حديث جابر:"وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل: غورث بن الحارث"، ووقع مسمى هكذا في "مسند أحمد""3/ 364-365"، و"سنن سعيد بن منصور""2/ 238/ رقم 2504، ط الأعظمي"، و"غريب الحديث" للحربي "1/ 307-308"، و"دلائل النبوة""3/ 373، 375، 376" للبيهقي.
- وَمِنْهَا: التَّرْكُ لِلْمَطْلُوبِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ؛ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ" 1، وَفِي رِوَايَةٍ:"لَأَسَّسْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ" 2، وَمَنَعَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَقَالَ:"لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"3.
وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ تَرْجِعُ إِلَى الأصل المتقدم4.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، 3/ 439/ رقم 1584" -والمذكور لفظه- ومسلم في "الصحيح""كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، 2/ 968-969/ رقم 1333" عن عائشة، رضي الله عنها.
2 ورد نحوه في "الصحيحين" -كما في المواطن السابقة- وفي "مسند إسحاق بن راهويه""رقم 7": "ووضعته على أساس إبراهيم"، و"رقم 8":"لبنيت البيت على قواعد إبراهيم"، و"رقم 671":"وبنيته على أساس إبراهيم"، وكذا في "المجتبى" للنسائي "5/ 215" من طريقه، وفي رواية أخرى له:"فبلغتُ به أساس إبراهيم، عليه السلام"، ونحو هذه الألفاظ في "مسند أحمد""6/ 57، 239".
والحديث عند علي بن الجعد في "المسند""رقم 2525"، و"جامع الترمذي""رقم 875"، وغيرهما.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، 6/ 546/ رقم 3518، وكتاب التفسير، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، 8/ 648-649/ رقم 4905، وباب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} ، 8/ 653/ رقم 4907" عن جابر، رضي الله عنه.
4 وهو أن الترك محله غير المأذون فيه، والمؤلف في رده هذه الأمور إلى القاعدة تارة يلاحظ الفعل فيجعله منهيًّا عنه، وتارة يلاحظ الترك فيجعله مطلوبًا، وهما متلازمان، وإنما هو التنويع في التعبير. "د".
أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَرْكٍ بِإِطْلَاقٍ1، كَيْفَ وَقَدْ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ، عليه الصلاة والسلام؟
وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَقَدْ صَارَ فِي حَقِّهِ التَّنَاوُلُ مَمْنُوعًا أَوْ مَكْرُوهًا لِحَقِّ2 ذَلِكَ الْغَيْرِ، هَذَا فِي غَيْرِ مُقَارَبَةِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا مَعَ مُقَارَبَتِهَا وَالدُّخُولِ فِيهَا؛ فَهُوَ عَامٌّ3 فِيهِ وَفِي الْأُمَّةِ؛ فَلِذَلِكَ نَهَى آكِلَهَا عَنْ مُقَارَبَةِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِهَا لِمَنْ أَرَادَ مُقَارَبَتَهُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَهُوَ مِنَ الرِّفْقِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ؛ فَالتَّرْكُ هُنَالِكَ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلِ الذَّرَائِعِ إِذَا كَانَ تَرْكًا لِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ خَوْفًا مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ خَوْفًا مِنْ مَآلٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ؛ صَارَ التَّرْكُ هُنَا مَطْلُوبًا.
وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ4 فِيهِ رُجُوعُهُ إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْخَامِسُ؛ فَوَجْهُ النَّهْيِ الْمُتَوَجَّهِ عَلَى الْفِعْلِ حَتَّى حَصَلَ التَّرْكُ أن
1 أي: لا يعد تركًا رأسًا؛ لأن إقراره كفعله سواء، وقد أقر أكله على مائدته، وأيضًا؛ فهو جبلي لا يدخل في الباب رأسًا كما تقدمت الإشارة إليه. "د".
2 أي: وهو أمر مستمر ومطلق لا يخص حالًا دون حال. "د".
3 كما ورد في الحديث: "من أكل ثومًا أو بصلًا؛ فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا"، أخرجه في "التيسير" عن الخمسة. "د".
قلت: أخرجه مسلم في "صحيحه""رقم 567" عن عمر، ورقم "563" عن أبي هريرة، ورقم "565-566" عن أبي سعيد، والبخاري في "صحيحه""2/ 339/ رقم 853"، ومسلم في "صحيحه""رقم 561" عن ابن عمر، والبخاري "2/ 339/ رقم 856 و9/ 575/ رقم 5451"، ومسلم "رقم 562" عن أنس، رضي الله عنه.
4 أي: في مبحث المباح، وأن مَا لَا حَرَجَ فِيهِ بِالْجُزْءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بالكل؛ فلذلك قال:"تبين رجوعه"، ولم يقل: إنه منهي عنه. "د".
الرَّفِيعَ الْمَنْصِبِ مُطَالَبٌ بِمَا يَقْتَضِي مَنْصِبُهُ، بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَغَيْرَ لَائِقٍ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، حَسْبَمَا جَرَتْ بِهِ الْعِبَارَةُ عِنْدَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ:"حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ"1، إِنَّمَا يُرِيدُونَ فِي اعْتِبَارِهِمْ لَا فِي حَقِيقَةِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ، وَلَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ بَعْدَ الْقَسْمِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ يَعْتَذِرُ إِلَى رَبِّهِ وَيَقُولُ:"اللَّهُمَّ! هَذَا عَمَلِي فِيمَا أَمْلِكُ؛ فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ"2، يُرِيدُ بِذَلِكَ مَيْلَ الْقَلْبِ
1 انظر ما قدمناه "3/ 548".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، 3/ 446/ رقم 1140"، وأبو داود في "السنن""كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242/ رقم 2134"، والنسائي في "المجتبى""كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، 7/ 64"، وابن ماجه في "السنن""كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، 1/ 633/ رقم 1971"، وابن أبي شيبة في "المصنف""4/ 386-387"، وأحمد في "المسند""6/ 144"، وإسحاق بن راهويه في "المسند""رقم 1370، مسند عائشة"، وابن أبي حاتم في "العلل""1/ 425"، وابن حبان في "الصحيح""10/ 5/ رقم 4205، الإحسان"، والطحاوي في "المشكل""1/ 88"، والحاكم في "المستدرك""2/ 187"، والبيهقي في "الكبرى""7/ 298" من طرق عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة به.
ورجاله ثقات، واختلف في رفعه ووصله، وانفرد حماد بن سلمة في وصله، وأرسله غيره.
قال النسائي بإثره: "أرسله حماد بن زيد"، وقال الترمذي عقبه:"ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلًا؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة".
وقال ابن أبي حاتم: "فسمعت أبا زرعة يقول: لا أعلم أحدًا تابع حمادًا على هذا"، وقال:"قلت: روى ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه
…
" الحديث مرسل".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف""4/ 386" من طريق ابن علية التي ذكرها ابن أبي حاتم. =
إِلَى بَعْضِ الزَّوْجَاتِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُمْلَكُ، كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا كَسْبَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا أَنْفُسِهَا.
وَالَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا الْمَوْضِعَ -وَأَنَّ الْمَنَاصِبَ تَقْتَضِي فِي الِاعْتِبَارِ الْكَمَالِيِّ الْعَتْبَ عَلَى مَا دُونَ اللَّائِقِ بِهَا- قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ عليهما السلام فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ1، وَفِي اعْتِذَارِ نُوحٍ عليه السلام عَنْ أَنْ يَقُومَ بِهَا، بِخَطِيئَتِهِ وَهِيَ دُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَدُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، قَالُوا2: وَبَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] وَهَذَا يَقْضِي3 بِأَنَّهُ دُعَاءٌ مُبَاحٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَقْصَرَ نَفْسَهُ لِرَفِيعِ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ مِثْلِهِ مِثْلُ هَذَا؛ إِذْ كَانَ الْأَوْلَى الْإِمْسَاكَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ اعْتَذَرَ بِخَطِيئَتِهِ، وَهِيَ الثَّلَاثُ الْمَحْكِيَّاتُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ:"لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ"4؛ فَعَدَّهَا كِذْبَاتٍ وإن
= ويشهد لما ذكره المصنف أولًا ما أخرجه أبو داود في "السنن" كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، 2/ 242-243/ رقم 2135"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 186"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 74" عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس؛ حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها". وإسناده حسن.
1 انظره بطوله في "صحيح البخاري""كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 417-418/ رقم 6565"، و"صحيح مسلم""كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، 1/ 180-181/ رقم 193".
2 كأنه يحتاج عنده إلى تثبت، وسيأتي له أن قوله:{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك} [نوح: 27] ، إنما كان بوحي، وأنه هو معنى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوح
…
} إلخ [هود: 36] ؛ أي: يستلزمه، إلا أن كل هذا وإن أفاد أن دعاءه اقترن بما هو في معنى: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك
…
} إلخ [هود: 36] ؛ فهو لا يعتبر أنه ما دعا إلا بعد ما نزل عليه ذلك صريحًا، بل هذا القدر محتاج للإثبات. "د".
3 في "ط": "يقتضي".
4 مضى تخريجه قريبًا "ص414" وهو في "الصحيحين" عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
كَانَتْ تَعْرِيضًا اعْتِبَارًا بِمَا ذُكِرَ.
وَالْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ1 فِي دَلِيلِ الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ لَمْ تُرَدَّ أَوْ لَمْ تَبْطُلْ أَوْ لَمْ يُنَبَّهْ عَلَى مَا فِيهَا؛ فَهِيَ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ، فَإِذَا عَرَضْنَا مَسْأَلَتَنَا عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ نُوحٍ دُعَاءَهُ عَلَى قَوْمِهِ؛ فَقَالَ:{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نُوحٍ: 26] .
وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَتْبٍ وَلَا لَوْمٍ، وَلَا خُرُوجٍ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ حَكَى أَنَّهُ قَالَ:{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} الآية [نوح: 27] .
ومعلوم أنه عليه السلام لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْبٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] .
وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّافَّاتِ: 88، 89] .
وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ مَا يُشِيرُ إِلَى لَوْمٍ وَلَا عَتْبٍ، وَلَا مُخَالَفَةِ أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 63] ؛ فَلَمْ يَقَعْ فِي هَذَا الْمَسَاقِ ذِكْرٌ لِمُخَالَفَةٍ وَلَا إِشَارَةٍ إِلَى عَتْبٍ، بَلْ جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى:{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصَّافَّاتِ: 84] ، وَهُوَ غَايَةٌ فِي الْمَدْحِ بِالْمُوَافَقَةِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَاقِ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ
…
} [الْأَنْبِيَاءِ: 51] إِلَى آخِرِهَا؛ فَتَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ مَدْحَهُ وَمُنَاضَلَتَهُ عَنِ
1 في "ص160".
الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا نَاضَلَ بِهِ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ، صلى الله عليه وسلم:"لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ" 1، وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْقِيَامَةِ يَسْتَقْصِرُ نَفْسَهُ عَنْ رُتْبَةِ الشَّفَاعَةِ بِمَا يَذْكُرُهُ2، وَكَذَلِكَ نُوحٌ؛ فَثَبَتَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْخَطِيئَةِ هُنَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِ3 مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ مِنَ الْعَبْدِ فِيمَا تَطْلُبُهُ بِهِ الْمَرْتَبَةُ؛ فَكَذَلِكَ قِصَّةُ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام فِي مَسْأَلَةِ الْقَسْمِ4.
وَقَدْ مَدَدْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعْضَ النَّفَسِ لِشَرَفِهِ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ؛ لِبُيِّنَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مَا يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَى بَيَانِهِ النَّفْسُ، مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَفِي آخِرِ5 فَصْلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي أَيْضًا مِمَّا يَتَمَهَّدُ بِهِ هَذَا الْأَصْلُ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَنَّ التَّرْكَ هُنَا6 رَاجِعٌ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ، لَكِنِ النَّهْيُ الِاعْتِبَارِيُّ.
وَأَمَّا السَّادِسُ؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْكِ الَّذِي يقتضيه النهي لأنه من باب
1 مضى تخريجه "ص414"، وهو في "الصحيحين" عن أبي هريرة.
2 وهو قوله: "وإني كنت كذبت
…
إلخ"، وكذلك نوح إذ يقول: "إني كانت لي دعوة دعوت بها على قومي". "د".
قلت: ورد ذلك في حديث الشفاعة المشار إليه آنفًا، وهو في "الصحيحين".
3 في "م": "قبيل".
4 والحديث مرسل وليس بصحيح، كما بيناه قريبًا "ص430".
5 في المسألة الثامنة عشرة، وفيها أنه إذا رجع الأمر إلى الأصل والنهي إلى المآل يكون من باب سد الذرائع، وقوله:"هذا الأصل"؛ أي: وهو أن الترك محله في الأصل غير المأذون فيه، وتمهيده للوجه الثالث منه ظاهر، ولو ذكر هذا هناك؛ لكان أوضح. "د".
6 أي: في الوجه الخامس. "د".
تَعَارُضِ مَفْسَدَتَيْنِ؛ إِذْ يَطْلُبُ الذَّهَابَ إِلَى الرَّاجِحِ، وَيَنْهَى عَنِ الْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ، وَالتَّرْكُ هُنَا هُوَ الرَّاجِحُ؛ فَعَمِلَ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ1 فَمَحْمَلُهُ2 عَلَى أَنْ لَا حَرَجَ فِي الْفِعْلِ الَّذِي رَآهُ عليه السلام فَأَقَرَّهُ، أَوْ سَمِعَ بِهِ فَأَقَرَّهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي3 الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الذي
1 أي: تثبيته لأحد على شيء. "ماء".
2 في "ماء": "فمحله".
3 وحاصله أنه إذا علم بفعل وإن لم يره، فسكت قادرًا على إنكاره، فإن كان معتقد كافر يعلم إنكاره له صلى الله عليه وسلم فلا أثر لسكوته لأنه يعلم أن لا ينتفع بالإنكار في الحال، وإن لم يكن معتقد كافر، فإن سبق تحريمه بعام يكون الفعل الذي أقره نسخًا للتحريم أو تخصيصًا له به، على الخلاف بين الحنفية والشافعية في ذلك، وإلا بأن لم يسبق التحريم؛ فدليل الجواز حتى لا يكون فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير واقع في الشريعة، فإذا استبشر بالفعل؛ فأولى أن يدل على الجواز، إلا أن يدل دليل على أن هذا الاستبشار لأمر آخر اقترن بالفعل لا لنفس الفعل؛ فعند ذلك يختلف القول في اعتبار سكوته واستبشاره تقريرًا لأصل المسألة وأحقيتها، أو يجعل السكوت والاستبشار غير إقرار ولا موجب لأحقية أصل المسألة، كما في مسألة المدلجي لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أسامة بن زيد وزيد بن حارثة عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما، وقد بدت أقدامهما؛ فقال:"إن هذه الأقدام بعضها من بعض"، وكان أسامة مثل الليل، وزيد مثل القطن؛ فأثبت الشافعي صحة النسب بالقيافة ومنعها الحنفية، ولكل منهما حجته ورده على الآخر، وإنما نقلنا هذه النبذة لتساعد على فهم المقام. "د".
قلت: وتجد كلامًا عن القيافة في "الطرق الحكمية" لابن القيم، وتعليقنا عليه، ومضى تخريج حديث: "إن هذه الأقدام
…
" في "ص75"، وهو صحيح، وانظر بسط موضوع "الإقرار" في: "التمهيد" "1/ 11 وما بعدها" للكلوذاني، و"شرح الكوكب المنير" "2/ 166، 194"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 94"، و"الإحكام" "1/ 169" للآمدي، و"تيسير التحرير" "3/ 19"، و"أصول السرخسي" "1/ 113"، و"التلويح على التوضيح" "2/ 2"، و"نهاية السول" "2/ 238"، و"فواتح الرحموت" "2/ 97"، و"التفتازاني على ابن الحاجب" "2/ 22"، و"إرشاد الفحول" "33"، و"إعلام الموقعين" "2/ 387 وما بعدها".
يَخُصُّ الْمَوْضِعَ هُنَا أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ جِنْسٌ لِأَنْوَاعٍ: الْوَاجِبُ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالْمُبَاحُ بِمَعْنَى الْمَأْذُونِ فِيهِ1 وَبِمَعْنَى أَنْ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ؛ فَغَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَهُ2 عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَلَيْهِ يُؤْذِنُ إِطْلَاقَهُ بِمُسَاوَاةِ3 الْفِعْلِ لِلتَّرْكِ، وَالْمَكْرُوهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَكْرُوهَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ السُّكُوتُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحَلَّ تَشْرِيعٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَكْرُوهُ بِحُكْمِ إِطْلَاقِ السُّكُوتِ عَلَيْهِ دُونَ زِيَادَةٍ4 تَقْتَرِنُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَرِينَةٌ وَلَا تَعْرِيفٌ5 أَوْهَمَ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ، وَهُوَ الْإِذْنُ أَوْ أَنْ لَا حَرَجَ بِإِطْلَاقٍ، وَالْمَكْرُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
لَا يُقَالُ: فَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ؛ إِذْ لَا يُفْهَمُ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ فِيهِ غَيْرُ مُطْلَقِ الْإِذْنِ أَوْ أَنْ لَا حَرَجَ، وَلَيْسَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَرْكِهِ وَمَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ، وَالْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ زَائِدٌ6 عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَلَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ مُقْتَضَى الْإِقْرَارِ، وقد زعمت أنه7 داخل، هذا خلف.
1 مرتبط بالمباح إشارة إلى إرادة معنييه السابقين في مبحث المباح. "ف".
2 أي: تحت ما لا حرج فيه الذي هو محمل الإقرار الشامل للأنواع الثلاثة. "ف".
3 أي: على الأقل، حتى يدخل الواجب والمندوب، ثم يقال: وهل هذه العبارة تسع دخول المباح، بمعنى ما لا حرج فيه على تفسيره له سابقًا؟ "د".
4 أي: زيادة من شأنها أن تصرف السكوت إلى غير معنى الإقرار. "د".
5 أي: ولا قول يفيد غير الإذن. "د".
6 أي: ينافي مطلق رفع الحرج، يرشدك إلى ذلك قوله:"للموافقة بينهما" المقتضي أن أصل الاعتراض بالتنافي بين عدم الحرج، وبين مفهوم الواجب والمندوب. "د".
7 الأنسب: "أنهما داخلان". "د".
لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ هُمَا دَاخِلَانِ لِأَنَّ عَدَمَ الْحَرَجِ مَعَ فِعْلِ الْوَاجِبِ1 لَازِمٌ لِلْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي الِاقْتِضَاءِ قَصْدًا مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ صَارَا لَا حَرَجَ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الِاقْتِضَاءِ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِ، لا من جهة الفعل، و"أن لَا حَرَجَ"2 رَاجِعٌ إِلَى الْفِعْلِ؛ فَلَا يَتَوَافَقَانِ، وَإِلَّا؛ فَكَيْفَ يَتَوَافَقَانِ وَالنَّهْيُ يُصَادِمُ عَدَمَ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ؟
فَإِنْ قِيلَ: مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَعْفُوًّا عَنْهُ هُوَ مَعْنَى عَدَمِ الْحَرَجِ فِيهِ، وَأَنْتَ تُثْبِتُ هُنَا الْحَرَجَ بِهَذَا الْكَلَامِ.
قِيلَ: كَلَّا، بَلِ الْمُرَادُ هُنَا غَيْرُ الْمُرَادِ هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَالِكَ فِيمَا بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَاعِلَ الْمَكْرُوهِ مُصَادِمٌ لِلنَّهْيِ بَحْتًا3 كَمَا هُوَ مُصَادِمٌ فِي الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَلَكِنَّ خِفَّةَ شأن المكروه وقلة مفسدته صيرته بعدما وَقَعَ فِي حُكْمِ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ اسْتِدْرَاكًا لَهُ مِنْ رِفْقِ الشَّارِعِ بِالْمُكَلَّفِ، وَمِمَّا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالصَّغِيرَةِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الطَّاعَاتِ؛ كَالطَّهَارَاتِ، وَالصَّلَوَاتِ، وَالْجُمُعَاتِ، وَرَمَضَانَ، وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَسَائِرِ مَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالصَّغِيرَةُ أَعْظَمُ مِنَ الْمَكْرُوهِ؛ فَالْمَكْرُوهُ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ مُصَادَمَةِ النَّهْيِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَنَظَرٌ إِلَى مَا قَبْلَ الْوُقُوعِ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ؛ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَدْخُلَ المكروه تحت
1 الأنسب: "مع فعل الواجب أو المندوب". "ف".
2 أي: الذي يدل عليه الإقرار إنما هو في الفعل، وهذا موجود في الواجب والمندوب لا في المكروه. "د".
3 صوابه: "بحتًا" -بالتاء- أي: خالصًا لا شبهة فيه. "ف".
مَا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ؛ كَقِيَافَةِ الْمُدْلِجِيِّ فِي أُسَامَةَ وَأَبِيهِ زَيْدٍ1، وَأَكْلِ الضَّبِّ عَلَى مَائِدَتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ2.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ؛ قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: فَالْتَزَمْتُهُ فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شيئًا، قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسمًا3.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى طَهَارَةِ دَمِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ عَلَى من شرب دم حجامته4.
1 مضى تخريجه "ص75".
2 مضى تخريجه "ص357، 423"، وهو في "الصحيحين" عن خالد، رضي الله عنه.
3 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في "صحيحه""كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3/ 1393/ رقم 1772 بعد 72"، وأخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 8/ 481/ رقم 4214"، ومسلم أيضًا "رقم 1772 بعد 73" عن عبد الله بن مغفل بلفظ آخر.
4 أخرج البزار في "مسنده""3/ 145/ رقم 2436، زوائده"، والحاكم في "المستدرك""3/ 554"، والطبراني في "الكبير" -كما في التلخيص الحبير" "1/ 30"، و"المجمع" "8/ 270"، و"مناهل الصفا" "رقم 72"، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 329-230"، وهو ساقط حتى من القطعة التي طبعت ملحقًا بالمعجم- والبيهقي في "الكبرى" "7/ 67" من طريق موسى بن إسماعيل عن هنيد بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه؛ قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني الدم، فقال: "اذهب فغيبه". فذهبت فشربته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما صنعت؟ ". قلت: غيبته. قال: "لعلك شربته؟ ". قلت: شربته. زاد الطبراني؛ فقال: "من أمرك أن تشرب الدم، ويل لك من الناس، وويل للناس منك".
قال البزار: "قد روي عن ابن الزبير من وجه آخر". قلت: كما عند الدارقطني في "السنن""1/ 228"، وأبي نعيم في "الحلية""1/ 230"، والطريق المذكور آنفًا فيه هنيد -أو جنيد- بن القاسم، لا بأس به، ولكنه ليس بالمشهور في العلم، قاله ابن حجر في "التلخيص""1/ 30"، وقال الهيثمي في "المجمع" "8/ 270":"رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح؛ غير جنيد بن القاسم، وهو ثقة".
ولذا أطلق السيوطي في "مناهل الصفا""رقم 72" على إسناده بأنه جيد. وفي الباب عن جماعة والمذكور أقواها، انظرها في "البدر المنير""2/ 206-219".
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
الْقَوْلُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَارَنَهُ الْفِعْلُ؛ فَذَلِكَ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي التَّأَسِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ فِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام وَاقِعٌ عَلَى أَزْكَى1 مَا يُمْكِنُ فِي وَضْعِ التَّكَالِيفِ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّحَّةِ.
بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُطَابِقْهُ الْفِعْلُ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ؛ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ2 عَلَى أَفْضَلِيَّةٍ وَلَا مَفْضُولِيَّةٍ.
وَمِثَالُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: أَأَكْذِبُ لِامْرَأَتِي؟ قَالَ: "لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ". قَالَ: أَفَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا؟ قَالَ: "لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ"3.
ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ مَا أَجَازَهُ، بَلْ لَمَّا وَعَدَ عَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَذَلِكَ حِينَ شَرِبَ عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ4 عَسَلًا؛ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أزواجه: إني أجد منك
1 أي: أكمله في شرع التكاليف وإنشائها؛ ففعله في أعلى طبقات التشريع للأحكام، أي فإذا انضم إلى القول؛ كان ذلك أعلى مراتب الصحة في الاقتداء. "د".
2 كيف هذا؟ وسيأتي له في التعقيب على الأمثلة يقول: "وذلك يدل على مرجوحيته"، أي: إن مخالفة فعله لقوله يدل على مرجوحية مضمون القول، فإن قيل: إن ذلك بالنظر للقول وحده بدون نظر إلى أن تركه قصدًا؛ قيل: إن القول إذا كان بصيغة الأمر ففيه أقوال في كونه مشتركًا أو للوجوب والندب كما سبق له؛ فلا يتأتى إطلاق القول بعدم الدلالة على راجحية ومرجوحية. "د".
3 الحديث صحيح بشواهده، وقد مضى تخريجه "1/ 491"، وانظر:"السلسلة الصحيحة""رقم 498، 545".
4 وهي السيدة حفصة رضي الله عنها كما جاء في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب عند حفصة عسلًا، فتواخينا أن نقول له: أكلت مغافير، وهي صمغ العرفط، وله ريح كريهة. "ف".
رِيحَ مَغَافِيرَ -كَأَنَّهُ مِمَّا يُتَأَذَّى مِنْ رِيحِهِ- فَحَلِفَ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ، أَوْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ -وَيُرْجَعُ1 إِلَى الْأَوَّلِ- فَقَالَ اللَّهُ2 لَهُ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التَّحْرِيمِ: 1] ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَعِدَ وَيَقُولَ، وَلَكِنَّهُ عَزَمَ بِيَمِينٍ عَلَّقَهَا عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ تَحْرِيمٍ عَقَدَهُ؛ حَتَّى رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ.
وَأَيْضًا؛ فَلَمَّا قَالَ لِلرَّجُلِ الْوَاهِبِ لِابْنِهِ: "أَشْهِدْ غَيْرِي"3 كَانَ ظَاهِرًا فِي الْإِجَازَةِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ4 هُوَ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ دَلَّ على مرجوحية مقتضى القول.
1 فقد قارن فعله -وهو الكف عن شربه- قوله: إنه لن يشربه، ثم التمثيل به إنما يظهر لو أنه كف عنه وفاء بوعده للزوجة فيما لا يلزم الوفاء به، بل لمجرد إرضائها، ولكنه قرن الوعد بالحلف والتحريم؛ فليس له قبل نزول آية التحليل أن يخالف؛ فجعل المثال مما نحن فيه ليس واضحًا، وتقدم لنا أن التمثيل لهذا الوضع بقدر البقول الذي امتنع عن التناول منها مع أمره بتقريبها لبعض من حضر من أصحابه أوضح من هذا المثال. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب التفسير، باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، رقم 4912، وكتاب الطلاق، باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، رقم 5267، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا حرم طعامًا/ رقم 6691"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، رقم 1474"، وأبو داود في "السنن""كتاب الأشربة، باب في شراب العسل، 3/ 335/ رقم 3714"، والنسائي في "الكبرى""كتاب التفسير، 2/ 450/ رقم 628، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، رقم 20"، و"المجتبى""كتاب الطلاق، تأويل هذه الآية من وجه آخر 6/ 151، وكتاب الأيمان والنذور، باب تحريم ما أحل الله، عز وجل، 7/ 13، وكتاب عشرة النساء، باب الغيرة، 7/ 71" عن عائشة، رضي الله عنها.
3 مضى تخريجه "ص422"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
4 وأيضًا قوله: "لا أشهد على جور"، بل هذا محتاج إلى تأويل في الجور بالتغليظ على الرجل بتسميته جورًا حتى يبقى الأصل جائزًا. "د".
قلت: مضى تخريجه "ص422".
وَأَمَرَ عليه الصلاة والسلام حَسَّانَ وَغَيْرَهُ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ1 وَأَذِنَ2 لَهُمْ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ مُنِعَهُ3 عليه الصلاة والسلام وَلَمْ يُعَلَّمْهُ، وَذَلِكَ يدل على
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب المناقب، باب من أحب أن لا يسب نسبه، 6/ 553/ رقم 3531، وكتاب المغازي، باب حديث الإفك، 7/ 436/ رقم 4145، وكتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6150"، ومسلم في "الصحيح""كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت، رضي الله عنه، 4/ 1934/ رقم 2489" عن عائشة؛ قالت: استأذن حسان بن ثابت النبي صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين؛ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"فكيف بنسبي؟ ". فقال حسان: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
وأخرج البخاري في "صحيحه""كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، 10/ 546/ رقم 6153"، ومسلم في "الصحيح""كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت، رضي الله عنه، 4/ 1933" عن البراء بن عازب؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: "اهجهم -أو هاجهم- وجبريل معك".
وانظر سائر الأحاديث في "جزء أحاديث الشعر" للحافظ عبد الغني المقدسي "ت 600هـ"، وهو مطبوع. وانظر "الاعتصام""1/ 345 وما بعده ط ابن عفان و270 ط رضا".
2 فقد دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة ينشد بين يديه:
خلوا بني الكفار عن سبيله
…
اليوم نضربكم على تنزيله
البيتين.
فلما أنكر عمر على ابن رواحة وقال له: بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر؟ قال له: "خل عنه يا عمر؛ فلهي أسرع فيهم من نضح النبل"، أخرجه الترمذي وصححه النسائي. "د".
قلت: أخرجه النسائي في "المجتبى""كتاب مناسك الحج، باب إنشاد الشعر في الحرم، 5/ 202، وباب استقبال الحج، 5/ 211-212"، والترمذي في "الجامع""أبواب الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر، رقم 2847" و"الشمائل""245"، وأبو يعلى في "المسند""رقم 3394، 3440"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 5758، الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى""10/ 228"، وأبو نعيم في "الحلية""6/ 292"، والبغوي في "شرح السنة""رقم 3404" عن أنس بإسناد صحيح.
3 قد يقال: حيث لم يكن في قدرته الشعر، ولم يكن تركه اختيارًا؛ فلا يكون مما نحن فيه إلا أن يقال: إن هذ يكون أبلغ في الدلالة على مرجوحيته، ويقويه قوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69] . "د".
مَرْجُوحِيَّتِهِ، وَلِقَوْلِهِ:{وَمَا يَنْبَغِي لَه} [يس: 69]، وَقَالَ لِحَسَّانَ1:"اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ"؛ فَهَذَا إِذْنٌ فِي الْهِجَاءِ، وَلَمْ يَذُمَّ عليه الصلاة والسلام أَحَدًا بِعَيْبٍ فِيهِ، خِلَافَ عَيْبِ الدِّينِ، وَلَا هَجَا أَحَدًا بِمَنْثُورٍ، كَمَا لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ الْمَنْظُومُ أَيْضًا.
وَمِنْ أَوْصَافِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَيَّابًا وَلَا فَحَّاشًا2، وَأَذِنَ لِأَقْوَامٍ فِي أَنْ يَقُولُوا3 لِمَنَافِعَ كَانَتْ لَهُمْ فِي القول أو نضال4 عن الإسلام، ولم
1 يوم قريظة، حيث قال له:"اهج المشركين؛ فإن جبريل معك"، أخرجه الشيخان. "د".
2 يدل على ذلك أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الأدب، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، 10/ 452/ رقم 6031، وباب ما ينهى عن السباب واللعن، 10/ 464/ رقم 6046" عن أنس بن مالك، رضي الله عنه؛ قال:"لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابًا ولا فحاشًا ولا لعانًا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه".
وأخرج مسلم في "الصحيح""كتاب الفضائل، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، 4/ 1804-1805" عن أنس؛ قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا، ولا عاب عليّ شيئًا قط".
قلت: مضى تخريجه قريبًا.
3 يكذبون الكذب المباح المستثنى في الأحاديث؛ كحديث الخمسة إلا النسائي: "ليس بالكذاب الذي يصلح بين اثنين؛ فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا"، وحديث الترمذي الذي استثنى فيه الكذب على المرأة، وفي الحر وفي إصلاح ذات البين من حرمة الكذب. "د".
4 كما في قصة نعيم بن مسعود الذي قال له، عليه الصلاة والسلام:"خذل عنا إن استطعت". فقال لقريش وغطفان وقريظة ما قال؛ حتى أوقع الفرقة بينهم، وتخاذلوا في واقعة الأحزاب. "د".
قلت: وقصته في "سيرة ابن هشام""3/ 264، مع الروض الأنف" -وذكرها ابن حجر في "الفتح""7/ 402" وسكت عنها- و"مغازي الواقدي""2/ 480-493"، و"مغازي الزهري""ص80-81"، وقصته في "ضعيف الجامع""رقم 2818"، وأفاد أنها عند الشيرازي في "الألقاب".
يَفْعَلْ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْهُ التَّوْرِيَةُ؛ كَقَوْلِهِ:"نَحْنُ مِنْ مَاءٍ"1، وَفِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْغَزْوِ؛ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً2 وَرَّى بِغَيْرِهَا3، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِالْقَوْلِ4 الَّذِي مَفْهُومُهُ الْإِذْنُ إِذَا تَرَكَهُ قَصْدًا مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَحْسَنُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَالتَّوْسِعَةُ عَلَى وَفْقِ الْقَوْلِ مَبْذُولَةٌ، وَبَابُ التَّيْسِيرِ مَفْتُوحٌ، والحمد لله.
1 لقي النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه؛ فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال لهم: "نحن من ماء". فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياء اليمن كثير، فلعلهم منهم. والمعنى الآخر أنهم مخلوقون من ماء. "د".
قلت: القصة المذكورة أخرجها ابن إسحاق، كما في "سيرة ابن هشام" "2/ 194-195": حدثني محمد بن يحيى بن حبان به، وهي معضلة، وعنه ابن كثير في "البداية والنهاية""3/ 263"، وابن الجوزي في "الأذكياء""140-141"، وذكرها ابن القيم في "الطرق الحكمية""ص41".
2 إلا في غزوة تبوك، كما ورد في حديث كعب من مالك عن تخلفه عنها، وقد أخرجه في "التيسير عن الخمسة. "د".
قلت: ومضى تخريج تخلف كعب "2/ 270".
3 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب الجهاد، باب من أراد غزوة فورى بغيرها، 6/ 112-113/ رقم 2947، 2948" بسنده إلى كعب بن مالك رضي الله عنه قال: "ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها".
4 يريد أن يجمل حكم هذا القسم الثاني المعبر عنه سابقًا بقوله: "بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل"؛ أي: ففعل ما أذن فيه الرسول قولًا، ولكنه تركه قصدًا يعد مما لا حرج فيه، وتركه بقصد الاقتداء بالرسول في تركه له أحسن وأفضل لمن قدر ولم يتضرر بالترك، وقوله:"تركه قصدًا" مفهومه أنه إذا كان تركه صلى الله عليه وسلم له اتفاقًا ومصادفة، أو لأنه تعافه نفسه كأكل الضب، أو لأنه منع منه سجية كالشعر لا يكون مما نحن فيه، وتقدم الكلام عن الإشكال في الشعر والجواب عنه. "د".
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
الْإِقْرَارُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام إِذَا وَافَقَ الْفِعْلَ؛ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي التَّأَسِّي لَا شَوْبَ فِيهِ، وَلَا انْحِطَاطَ عَنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّأَسِّي؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام وَاقِعٌ مَوْقِعَ الصَّوَابِ، فَإِذَا وَافَقَهُ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ فَهُوَ كَمُجَرَّدِ1 الِاقْتِدَاءِ بِالْفِعْلِ؛ فَالْإِقْرَارُ دَلِيلٌ زَائِدٌ مُثْبِتٌ.
بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنِ اقْتَضَى الصِّحَّةَ فَالتَّرْكُ كَالْمُعَارِضِ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ؛ فَقَدْ رَمَى فِيهِ شَوْبَ التَّوَقُّفِ لِتَوَقُّفِهِ عليه الصلاة والسلام عَنِ الْفِعْلِ.
وَمِثَالُهُ إِعْرَاضُهُ عَنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ2 وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، وَبُعْدُهُ3 عَنِ التَّلَهِّي بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْرِجْ4 فِي اسْتِعْمَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بِحَضْرَتِهِ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ5 وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا دعت إليه حاجة
1 لا يصح أن يكون الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في مجموع فعله وإقراره كمجرد الاقتداء به في الفعل؛ لأن كلًّا منهما دليل مستقل؛ فاجتماعهما أقوى وأقطع للاحتمالات، ألا ترى أن الفعل وحده لا زال يحتمل الخصوصية مثلًا؟ وأيضًا؛ فإنه لا يتفق مع قوله:"وَلَا انْحِطَاطَ عَنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّأَسِّي" لِأَنَّ الفعل وحده ليس كذلك ففي العبارة ضعف، وكأنه يريد أن يقول: إن الفعل القائم من المكلف على الاقتداء بفعله صحيح، ويزيد على ذلك الإقرار لأنه دليل مثبت أيضًا. "د".
قلت: انظر في اختلاف التقرير والفعل واختلافه والقول في: "جمع الجوامع""2/ 365"، و"أفعال الرسول، صلى الله عليه وسلم""2/ 226-227".
2 يشير المصنف إلى قوله، صلى الله عليه وسلم:"لست من دد، ولا دد مني"، ومضى تخريجه "ص425"،
3 كما تقدم في حديث غناء الجاريتين بغناء بعاث. "د".
قلت: وهو في "الصحيحين" كما مضى "ص424".
4 في "ماء": "يخرج بالخاء".
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب المساجد، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، 1/ 463/ رقم 670" بسنده إلى سماك بن حرب؛ قال: قلت =
أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَمَّا جَاءَتْهُ الْمَرْأَةُ تَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ طَهَارَةِ الْحَيْضَةِ؛ قَالَ لَهَا:"خُذِي فِرْصَةً 1 مُمَسَّكَةً 2 فَتَطَهَّرِي بِهَا"3. فقالت: وكيف أتطهر بها؟ فأعاد عليها واستحيا حَتَّى غَطَّى وَجْهَهُ4. فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ مَا أَرَادَ، ففهمتها بما هو
= لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نعم، كثيرًا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس، قام، وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويتبسم.
وأخرجه مسلم أيضًا في "كتاب الفضائل، باب تبسمه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته، 4/ 1810/ رقم 2322"، والنسائي في "المجتبى""كتاب السهو، باب قعود الإمام في مصلاه بعد التسليم، 3/ 80-81" و"عمل اليوم والليلة""170"، وأبو داود في "سننه""كتاب الصلاة، باب صلاة الضحى، 2/ 29/ رقم 1294"، وأحمد في "المسند""5/ 91، 105"، وعلي بن الجعد في "المسند""رقم 2755"، والبيهقي في "الكبرى""7/ 52"، وفي رواية للترمذي في "الجامع""رقم 2850"، والطيالسي في "المسند""771"، وأحمد في "المسند""5/ 105"، وابن أبي شيبة في "المصنف""8/ 712-713"، والبيهقي في "السنن""7/ 52 و10/ 240" عنه، قال:"وكان الصحابة يذكرون عنده صلى الله عليه وسلم الشعر وأشياء من أمورهم".
1 الفرصة، بكسر الفاء: قطعة من صوف أو قطن أو خرقة تتمسح بها الحائض. "ف" و"م".
2 الممسكة: المطيبة بالمسك، يتبع بها أثر الدم، فيحصل منه الطيب والتنشيف. "ف" و"م".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الحيض، باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض، 1/ 414/ رقم 314، وباب غسل المحيض، 1/ 416-417/ رقم 315، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، 13/ 330/ رقم 7357"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، 1/ 260-261/ رقم 332" عن عائشة، رضي الله عنها.
4 المعروف أنه أعرض بوجهه؛ فانظر أين وردت التغطية؟ "د".
قلت: ورد في "صحيح مسلم""1/ 261": "واستتر"، وأشار لنا سفيان بن عيينة بيده على وجهه، وعند النسائي في "المجتبى" "1/ 136":"فاستتر كذا"، وفي "مسند أبي يعلى" "8/ 179 / رقم 4733":"فستر وجهه بطرف ثوبه"، ورواية الإعراض في "صحيح البخاري" و"مسند أحمد""6/ 122"، و"المجتبى""1/ 207-208" للنسائي.
أَصْرَحُ وَأَشْرَحُ؛ فَأَقَرَّ عَائِشَةَ عَلَى الشَّرْحِ الْأَبْلَغِ، وَسَكَتَ هُوَ عَنْهُ حَيَاءً؛ فَمِثْلُ هَذَا مُرَاعًى إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بَيَانُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ1 مِنْ بَابِ الْجَائِزِ، أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْإِفْهَامُ كَيْفَ كَانَ؛ فَإِنَّهُ مَحَلُّ مَقْطَعِ الْحُقُوقِ، وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ2.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْسَ الْإِقْرَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ3، بَلْ فِيهِ مَا يَكُونُ كَذَلِكَ نَحْوَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْمَطْلُوبَاتِ4 وَالْمُبَاحَاتِ الصِّرْفَةِ وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَالْأَمْثِلَةِ.
فَإِنْ قَارَنَهُ قَوْلٌ5، فَالْأَمْرُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ6، فَيَنْظُرُ إِلَى الْفِعْلِ؛ فَيَقْضِي بِمُطْلَقِ الصِّحَّةِ فِيهِ مَعَ الْمُطَابَقَةِ دُونَ المخالفة.
1 أي: العمل بالفرصة من باب الجائز فلا يتعين فيه الإفهام، أو أن نفس التفهيم لما وجد من يقوم به عنه وهو عائشة صار غير متعين عليه، وعد جائزًا. "د".
2 تقدم منها تقريره لمن اعترف بالزنى، وتصريحه باللفظ الذي يعد في غير هذا المقام فحشًا مبالغة في الاحتياط في الحد. "د".
3 أي: وضم دليل آخر يعين خصوص الحكم. "د".
4 انظر ما وجه زيادة المطلوبات، مع أن أصل الكلام في مطلق الجواز، ولو قال بدله مطلق الإذن لشمل المطلوبات والمباح بنوعيه، وكان موافقًا لما تقرر آنفًا فيما يفيده الإقرار من أنه لا حرج فيه، ولكن لا يناسب قوله:"ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة المذكورة" التي هي من النوع الثاني من المباح، أعني: ما لا حرج فيه. "د".
5 مقابل أصل المسألة تكميل للصور التي يقتضيها المقام، وهي هنا ضم القول إلى الإقرار. "د".
6 أي: في صورة انضمام الفعل للإقرار، وقد قرر ما يقتضيه التشبيه؛ فقال: "فينظر إلى الفعل
…
إلخ"، أي: ينظر إلى الفعل الذي أقره الرسول: هل جاء القول على وفق الإقرار له، أم جاء على عكسه؟ أقول: أما فرض مطابقة القول للإقرار؛ فظاهر، والحكم ظاهر أيضًا، وهو مطلق =
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:
سُنَّةُ1 الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم سُنَّةٌ يُعْمَلُ عَلَيْهَا وَيُرْجَعُ إِلَيْهَا، وَمِنَ الدَّلِيلِ على ذلك أمور:
= الصحة أو مطلق الإذن، ولكن كيف يتصور مخالف الإقرار للقول؟ وكيف يتصور بقاؤهما دليلين مع هذه المعارضة بحيث يجوز الأخذ بأيهما بلا حرج، قياسًا على ما سبق في مخالفة الفعل للإقرار؟ اللهم إلا إذا كان القول المخالف للإقرار خاصًّا بالرسول وليس فيه تصريح بأمر ولا نهي للمكلف ولا إباحة له، كما إذا فرض في مسألة الضب أنه مع الإقرار للآكل قال:"لا آكل" فقط دون أن يبين أن العلة أنه تعافه نفسه الشريفة. "د".
قلت: وعدم أكله صلى الله عليه وسلم للضب وتعليله ذلك بالمذكور آنفًا مضى تخريجه "ص423".
1 مفاد الدليل الأول والثاني أن المراد السنة العملية، أي: إذا عمل الصحابة عملًا لم ينقل لنا فيه سنة عن الرسول لا موافقة ولا مخالفة، فإنا نعد هذا كسنة للنبي صلى الله عليه وسلم ونقتدي بهم فيه، وعلى هذا يكون قوله بعد:"فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به" المراد بالقول؛ القول التكليفي لا التعريفي، وذلك كما إذا رأينا الصحابي في الحج مثلًا يكبر أو يلبي في مكان مخصوص، وليس المراد القول بمعنى الرأي والاجتهاد، وإلا؛ فمجرد المدح بالعدالة في الدليل الأول، والأمر باتباع سنتهم في الدليل الثاني لا يفيدان ذلك في الاجتهاد والآراء، أما الدليل الثالث الذي جعله معتمده؛ فمفاده الأخذ بآرائهم ومذاهبهم، وأنها تكون كالسنة، والظاهر أن مراد المؤلف ما هو أعم من آرائهم والاقتداء بهم في أعمالهم، وأنه يؤيد رأي القائلين:"مذهب الصحابة حجة"، تراجع المسألة بأدلة الطرفين في إحكام الآمدي، وقد أوضح ابن قيم الجوزية هذا المقام وحرره تحريرًا شافيًا، وأقام ستة وأربعين دليلًا على ما قصد إليه المؤلف هنا، وجعل محل الكلام فيما إذا قال بعضهم ولم يخالفه غيره، سواء اشتهر فيما بينهم أم لم يشتهر، وأنه إذا اشتهر ولم يخالفه أحد؛ هل يكون حجة فقط أم يعتبر إجماعًا؟ خلاف، فإن لم يشتهر كان حجة فقط، وهذا كله فيما ليس فيه نص من كتاب ولا سنة كما قلنا. "د".
قلت: انظر كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين""4/ 128 وما بعدها"، وانظر مبحث حجية قول الصحابي والأقوال فيه في "مختصر المنتهى""2/ 287، مع شرح العضد"، و"الإحكام""3/ 195" للآمدي، و"سلم الوصول على نهاية السول""4/ 408"، و"كشف الأسرار" "3/ =
أَحَدُهَا:
ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ1، وَمَدْحُهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] .
وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143] .
فَفِي الْأُولَى إِثْبَاتُ الْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ يَقْضِي بِاسْتِقَامَتِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ، وَجَرَيَانِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ دُونَ الْمُخَالَفَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِثْبَاتُ الْعَدَالَةِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُولَى.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا عَامٌّ فِي الْأُمَّةِ؛ فَلَا يَخْتَصُّ2 بِالصَّحَابَةِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّا نَقُولُ: "أَوَّلًا" لَيْسَ كَذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَا يَدْخُلُ3 مَعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَّا بِقِيَاسٍ وَبِدَلِيلٍ آخر.
1 مثنوية -بفتح، فسكون- أي: من غير استثناء، وأصله قولهم: حلف فلان يمينًا ليس فيها [ثنيا -بضم- أو: ولا ثنية ولا] مثنوية ولا استثناء، بمعنى واحد، ومأخذه من الثني والكلف والرد؛ لأن الحالف إذا قال:""إلا أن يشاء الله" [مستثنيًا في يمينه] ؛ فقد رد ما قاله بمشيئة الله غير". "ف" و"م".
2 في "ماء": "يخص".
3 كما هو المذهب المنصور أن الخطاب الشفاهي كـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ليس خطابًا لمن بعدهم، وإنما يثبت لمن بعدهم بدليل خارج من نص أو إجماع أو قياس، خلافًا للجنابلة؛ فقوله:"بدليل آخر" عطف على "قياس" عطف عام على خاص، وهذا الجواب ضعيف؛ لأنه لا يلزم في تعديته لمن بعدهم وجود الدليل المذكور في كل جزئية، بل الدليل الكلي كاف، وهو موجود، والثاني لا يفيد، والثالث يحتاج إلى بينة تثبت أن التابعين مثلًا لم يتصفوا على الكمال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كان الصحابة. "د".
"وَثَانِيًا" عَلَى تَسْلِيمِ التَّعْمِيمِ أَنَّهُمْ أَوَّلُ دَاخِلٍ فِي شُمُولِ الْخِطَابِ؛ فَإِنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّى ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَهُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِلْوَحْيِ.
"وَثَالِثًا" أَنَّهُمْ أَوْلَى بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ إِذِ الْأَوْصَافُ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا عَلَى الْكَمَالِ إِلَّا هُمْ؛ فَمُطَابَقَةُ الْوَصْفِ لِلِاتِّصَافِ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِالْمَدْحِ.
وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَدَلُوا الصَّحَابَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ؛ فَأَخَذُوا عَنْهُمْ رِوَايَةً وَدِرَايَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَلَا مُحَاشَاةٍ، بِخِلَافِ1 غَيْرِهِمْ؛ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ وَثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ، وَذَلِكَ مُصَدِّقٌ لِكَوْنِهِمْ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَدْحِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ خير
1 يفيد أنهم كانوا لا ينقبون عن عدالة الصحابي في الأخذ عنه، بخلاف غيره، مع أنهم لما اشترطوا العدالة قالوا: فلا يؤخذ عن مجهول الحال؛ لأن الفسق مانع من القبول؛ فلا بد من تحقق عدمه، أي: تحقق ظن عدم الفسق، ولا يكون ذلك مع الجهالة، ومقتضى هذا أنه لا فرق بين الصحابي وغيره، على أن المسألة خلافية، والمؤلف جار على مذهب الأكثر القائل: إن الصحابة عدول، لا يسأل عن عدالتهم، بل تؤخذ مسلمة بدون تنقيب ولا بحث في رواية ولا شهادة؛ لأنا إذا قبلنا تعديل بعضنا بتزكية واحد منا؛ فكيف لا تقبل فيهم تزكية رب العالمين، ورسوله الصادق الأمين؟ وعليه لا يعتبر الصحابي من المجهول الحال، وقيل: هم كغيرهم؛ فلا بد من التعديل، وقيل بالتفصيل بين ما بعد فتنة عثمان وما قبلها؛ فيحتاج إلى التعديل في الأول دون الثاني، والذي يتجه أن يبنى هذا المبحث على مبحث تعريف الصحابي؛ فقد يقوى النظر الأول، وقد يقوى الثاني. "د".
قلت: الصواب قبول رواية مجهول الحال من الصحابة؛ كما تراه في "علوم الحديث""ص147"، و"فتح المغيث""3/ 103"، و"شرح الألفية""3/ 13-14"، و"الأجوبة العراقية""ص10" للآلوسي، و"شرح الكوكب المنير""2/ 475"، و"الكفاية""96" للخطيب البغدادي، و"شرح مختصر المنتهى""2/ 67"، و"تيسير التحرير""3/ 65"، و"إرشاد الفحول""ص70"، و"صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة""ص271-301".
أُمَّةٍ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّهُمْ وَسَطٌ -أَيْ: عُدُولٌ- بِإِطْلَاقٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَوْلُهُمْ مُعْتَبَرٌ، وَعَمَلُهُمْ مُقْتَدًى بِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِمَدْحِهِمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا
…
} إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَْ} الْآيَةَ [الْحَشْرِ: 8-9] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي:
مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَأَنَّ سُنَّتَهُمْ فِي طَلَبِ الِاتِّبَاعِ كَسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِهِ:"فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"1.
وَقَوْلِهِ: "تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً". قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "ما أنا عليه وأصحابي"2.
1 مضى تخريجه "ص133"، وهو صحيح.
2 ورد عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة، أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 25/ رقم 2640"، وأبو داود في "السنن""كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 197-198/ رقم 4596"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/ 1321/ رقم 3991"، وأحمد في "المسند""2/ 332"، وابن حبان في "الصحيح""14/ 140/ رقم 6247، الإحسان و15/ 125/ رقم 6731، الإحسان"، وابن أبي عاصم في "السنة""رقم 6716"، والمروزي في "السنة""رقم 58"، وأبو يعلى في "المسند""رقم 5910، 5978، 6117"، والآجري في "الشريعة""25"، وابن بطة في "الإبانة""1/ 374-375/ رقم 273"، والحاكم في "المستدرك""1/ 6، 47، 128"، والبيهقي في "الكبرى""10/ 208"، وعبد القاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق""5"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس""18" من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به، من غير ذكر:"ما أنا عليه وأصحابي"، وإسناده حسن.
وأخرجه الترمذي في "الجامع""رقم 2641"، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها""85"، والآجري في "الشريعة""15-16" و"الأربعين""رقم 13"، والمروزي في "السنة""59"، =
وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "أَصْحَابِي مِثْلَ الْمِلْحِ، لَا يصلح الطعام إلا به"1.
= والعقيلي في "الضعفاء الكبير""2/ 262"، والحاكم في "المستدرك""1/ 128-129"، واللالكائي في "شرح أصول أهل السنة""رقم 147"، وابن بطة في "الإبانة""1/ 368-369/ رقم 264"، وقوام السنة في "الحجة""1/ 106"، وعبد القاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق""5-6"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" "7" من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رفعه مع ذكر:"ما أنا عليه وأصحابي".
قال الترمذي: "هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه".
قلت: إسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، ضعيف في حفظه؛ إلا أن الحديث صحيح لطرقه وشواهده، وقد صححه ابن القيم في "مختصر الصواعق المرسلة، "2/ 410"، والمصنف في "الاعتصام" "2/ 252"، وحسنه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "3/ 199"، وشيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 203، 204"، وانظر للحديث: "حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة" للصنعاني، و"نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق هذه الأمة" لأخينا الشيخ سليم الهلالي.
1 أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد""رقم 572" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة""14/ 72-73/ رقم 3863"، والقضاعي في "مسند الشهاب""2/ 275/ رقم 1347"- وأبو يعلى في "المسند""5/ 151/ رقم 2762"، والبزار في "المسند""3/ 291-292/ رقم 2771، زوائده"، والديلمي في "الفردوس""4/ 129/ رقم 6400"، وأبو القاسم الحلبي في "حديثه""3/ 1" -كما في "السلسلة الضعيفة""رقم 1762"- جميعهم من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن البصري عن أنس به.
قال البزار عقبه: "لا نعلم رواه عن الحسن إلا إسماعيل، ولا عنه إلا أبو معاوية، وإسماعيل روى عنه الأعمش والثوري، وجماعة كثيرة، على أنه ليس بالحافظ، وقد احتمل الناس حديثه، تفرد بهذا الحديث أنس".
قلت: أما تفرد أبي معاوية؛ فغير صحيح، فقد رواه ابن المبارك عن إسماعيل، والحديث ضعيف، آفة حديث أنس إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وفيه عنعنة الحسن.
وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب""2/ 276/ رقم 1348" من طريق آخر عن أنس، وفيه أبو هدبة إبراهيم بن هدبة وهو كذاب، وفيه مجاهيل أيضًا.
وَعَنْهُ أَيْضًا: "إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاخْتَارَ لِي مِنْهُمْ أَرْبَعَةً: أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا؛ فَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أَصْحَابِي، وَفِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خَيْرٌ"1.
= وأخطأ بعض الرواة، فجعله من مرسل الحسن من طريق ابن المبارك، انظر تفصيل ذلك في "العلل" لابن أبي حاتم "2/ 354-355/ رقم 2582"، وهي رواية ابن بطة في "الإبانة""رقم 964".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف""11/ 221"، ومن طريقه أحمد في "فضائل الصحابة""رقم 16، 1730" عن معمر عمن سمع الحسن به، وأخرجه أحمد أيضًا "رقم 17 و1740" من طريق آخر عن الحسن مرسلًا.
وله شاهد من حديث سمرة بن جندب عند البزار والطبراني، قاله البوصيري في هامش "المطالب العالية""4/ 150/ رقم 4207"، ونقله عنه صاحب "بذل النصح والشفقة للتعريف بصحبة السيد ورقة""ق 11/ 1"، وزاد الهيثمي في "المجمع" "10/ 18":"وإسناد الطبراني حسن".
قلت: حديث سمرة أخرجه الطبراني في "الكبير"، والبزار في "المسند""3/ 291/ رقم 2770، زوائده"، ولفظه:"إنكم توشكون أن تكونوا في الناس كالملح في الطعام، ولا يصلح الطعام إلا بالملح".
وفي إسناده جعفر بن سعد، وهو ضعيف، عن خبيب بن سليمان وهو مجهول، عن سليمان بن سمرة وهو مجهول الحال، قاله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة""رقم 1762".
1 أخرجه البزار في "المسند""3/ 288/ رقم 2763، زوائده"، وابن أبي زمنين في "أصول السنة""رقم 191"، وابن جرير في "صريح السنة""رقم 23"، والخطيب في "الموضح""2/ 280" و"التاريخ""3/ 162"، وابن حبان في "المجروحين""2/ 41"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة""7/ 1243/ رقم 2334"، كلهم من طريق عبد الله بن صالح ثنا نافع بن زيد عن زهرة بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله به مرفوعًا.
قال البزار: "لا نعلمه يروى عن جابر إلا بهذا الإسناد، ولم يشارك عبد الله بن صالح في روايته هذه عن نافع بن يزيد أحد نعلمه".
قال الهيثمي في "المجمع""10/ 16": "رواه البزار، ورجاله ثقات، وفي بعضهم =
وَيُرْوَى فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ" 1 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي معناه.
= خلاف"، وصححه القرطبي في "تفسيره" "13/ 305". قلت: كلا والله؛ فالحديث موضوع، وأدخل على عبد الله بن صالح، وحكم عليه بالوضع النسائي؛ كما في "تهذيب الكمال" "15/ 104"، وأسند الحاكم -كما نقل المزي- إلى أحمد بن محمد بن سليمان التستري قال: سألت أبا زرعة الرازي عن حديث زهرة، وساقه، فقال: هذا حديث باطل، كان خالد بن نجيح المصري وضعه ودلسه في كتاب الليث، وكان خالد بن نجيح هذا يضع في كتب الشيوخ ما لم يسمعوا ويدلس لهم، وله غير هذا. قلت لأبي زرعة: فمن رواه عن ابن أبي مريم؟ قال: هذا كذاب. قال التستري: وقد كان محمد بن الحارث العسكري حدثني به عن كاتب الليث وابن أبي مريم.
قال الحاكم أبو عبد الله: "فأقول: رضي الله عن أبي زرعة، لقد شفى في علة هذا الحديث وبين ما خفي علينا؛ فكل ما أتي أبو صالح كان من أجل هذا الحديث، فإذا وضعه غيره وكتبه في كتاب الليث؛ كان المذنب فيه غير أبي صالح"، وبنحوه قال البردعي، وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" "5/ رقم 398":"الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره فأنكروها عليه، أرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان أبو صالح سليم الناحة، وكان خالد بن نجيح يفتعل الكذب، ويضعه في كتب الناس".
وانظر: أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة المشرقة" "3/ 891"، و"تهذيب الكمال" "15/ 105/ 106"، و"تذكرة الحفاظ" "2/ 757- 758"، و"التهذيب" "5/ 259"، و"الميزان" "2/ 442".
1 ورد بألفاظ متقاربة عن جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- هم:
- ابن عباس، أخرجه أبو العباس الأصم في "حديثه""رقم 142" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل""رقم 152"- والخطيب في "الكفاية""48"، والديلمي في "الفردوس""4/ 75" من طريق سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك به.
وإسناده ضيف جدًّا، آفته ابن أبي كريمة ضعيف، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس، ولذا قال الزركشي في "المعتبر" "ص83":"وهذا الإسناد فيه ضعفاء"، وأخرجه البيهقي من حديث أبي زرعة ثنا إبراهيم بن موسى ثنا يزيد بن هارون عن جويبر عن جواب بن عبيد الله رفعه. =
...........................................................................
= ثم قال البيهقي: "هذا حديث مشهور، وأسانيده كلها ضعيفة، لم يثبت منها شيء".
وأخرجه أبو ذر الهروي في كتاب "السنة" من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعًا، وهو في غاية الضعف، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير""4/ 191".
ورواه ابن بطة في "الإبانة""رقم 702" من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه حمزة بن أبي حمزة، وهو كذاب.
- جابر، أخرجه الدارقطني في "المؤتلف والمختلف""4/ 1778"، ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع""2/ 925/ رقم 1760"، وابن حزم في "الإحكام""6/ 82" من طريق سلام بن سليمان عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان به.
قال ابن عبد البر عقبه: "هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول"، وقال ابن حزم:"هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك".
قلت: أبو سفيان أخرج له مسلم في "صحيحه"، وهو صدوق.
وقال ابن طاهر: "هذه الرواية معلولة بسلام المدائني، فإنه ضعيف، نقله عنه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف""2/ 230"، وبه أعله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة""رقم 58".
وأخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" من طريق آخر عن جابر، ثم قال:"هذا لا يثبت عن مالك، ورواته عن مالك مجهولون"، أفاده الزيلعي وابن حجر في "التلخيص الحبير""4/ 190".
- أبو هريرة، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب""2/ 275/ رقم 1346"، وهو معلول بجعفر بن عبد الواحد، وقد كذبوه.
- حديث ابن عمر، أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب""رقم 783"، والدارقطني في "فضائل الصحابة" -كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف""2/ 231"، وابن الملقن في "تذكرة المحتاج""ص68"- وابن بطة في "الإبانة""رقم 701"، وابن عدي في "الكامل""2/ 785-786" وأبو ذر في "السنة" -كما في "المعتبر""ص81"- من طريق حمزة الجزري عن نافع به، لكنه قال بدل "اقتديتم" بأيهم أخذتم بقوله "اهتديتم"، وهو هو، وذكره ابن عبد البر في "الجامع""رقم 1759" عن ابن عمر معلقًا من طريق حمزة، وقال: "هذا إسناد لا يصح، ولا يرويه=
...........................................................................
= عن نافع من يحتج به".
وعنه ابن حزم في "الإحكام""6/ 83" وقال: "فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلًا، بل لا شك أنها مكذوبة، وأسهب في بيان بطلان هذا الحديث دراية بكلام متين حسن، وكان قد بين قبل "5/ 64" تحت باب "ذم الاختلاف" بطلان هذا الحديث، وقال عنه: "وهذا الحديث باطل مكذوب، من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية"، وساق ثلاثة منها.
وقال ابن عدي في ترجمة "حمزة" وساق له أحاديث: "وكل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة، والبلاء منه"، وقال ابن حجر في "المطالب العالية""4/ 146"، وعزاه لعبد:"فيه ضعف جدًّا"، وقال ابن طاهر:"حمزة النصيبي كذاب"، قال:"ورواه بشر بن الحسين الأصبهاني عن الزبير بن عدي عن أنس، وبشر هذا يروي عن الزبير الموضوعات"، أفاده الزيلعي.
- حديث أنس، وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية""4/ 146/ رقم 4193" لابن أبي عمر في "مسنده" عن أنس، وقال:"إسناده ضعيف"، وأسنده -أي: ابن حجر- في "موافقة الخبر الخبر""1/ 147" من طريق ابن أبي عمر، وقال:"وفي إسناده ثلاثة ضعفاء في نسق سلام وزيد ويزيد، وأشدهم ضعفًا سلام"، وكان قد ذكر أن سلامًا خالف عبد الرحيم بن زيد؛ فقال:"عن أنس"، وقال عبد الرحيم:"عن عمر"، وروايته هي الآتية.
- حديث عمر بن الخطاب،1 أخرجه ابن بطة في "الإبانة""رقم 700"، والخطيب في "الكفاية""48" و"الفقيه والمتفقه""1/ 177"، والبيهقي في "المدخل""رقم 151"، ونظام الملك في "الأمالي""رقم 21، بتحقيقي"، وابن عدي في "الكامل""3/ 1057"، والديلمي في "مسنده""2/ 190"، والضياء في "المنتقى من مسموعاته بمرو""116/ 2"، وكذا ابن عساكر "6/ 303/ 1"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر""1/ 146-147" من طريق نعيم بن حماد ثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب به.
وإسناده هالك، قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 700-701":"هذا حديث ضعيف من هذا الوجه؛ فإن عبد الرحيم بن زيد هذا كذبه ابن معين، وضعفه غير واحد من الأئمة". ثم قال: "إلا أن هذا الحديث مشهور في ألسنة الأصوليين وغيرهم من الفقهاء، يلهجون به كثيرًا محتجين به وليس بحجة، والله أعلم". =
_________
1 وورد من حديث معاذ عند النسفي في "القند""ص537" وإسناده واه جدًّا.
...........................................................................
= وأعله الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف""2/ 232"، وابن عبد البر في "الجامع""2/ 924" بالعمي، وقال الأول:"وفيه أيضًا شائبة الانقطاع بين سعيد وعمر"، وقال الثاني:"والكلام أيضًا منكر عن النبي، صلى الله عليه وسلم"، وعزاه الزركشي في "المعتبر""ص80" للدارمي في "مسنده"، ولم أظفر به في "سننه" المطبوعة، وضعفه بالعمي والانقطاع، ورده بقوله:"لكن ذكرت في باب الوتر من "الذهب الإبريز" ما يصحح سماعه منه"، وحكم عليه شيخنا في "الضعيفة""رقم 60" بالوضع، وعلى كل حال الحديث ليس بصحيح، ومتنه منكر، ولا يجوز الاحتجاج به.
ولا التفات إلى تصحيح الشعراني له في "الميزان الكبرى""1/ 30" بالكشف؛ فهي دعوى فارغة سبق الإلماع إلى بطلانها. وبهذا حكم عليه الحفاظ، وهذا بعض من كلامهم:
- قال البزار، وقد سئل عن هذا الحديث:"منكر، ولا يصح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم". نقله ابن عبد البر وابن الملقن في "تذكرة المحتاج""ص68"، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر""1/ 147"، والزركشي في "المعتبر""83".
- قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية""1/ 283": "هذا لا يصح".
- قال ابن حزم في رسالته الكبرى "في الكلام على إبطال القياس والتقليد وغيرهما": "هذا حديث مكذوب موضوع باطل، لم يصح قط"، وبنحوه قال في "الإحكام""5/ 64".
- وأشار ابن الملقن في "تحفة المحتاج""ص67-68" إلى بعض طرقه، وقال:"وكلها معلولة".
- وقال البيهقي في "الاعتقاد""ص319" بعد أن ذكر حديث أبي موسى المرفوع: "النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة لأصحابي؛ فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أتى أمتي ما يوعدون"، وقال:"رواه مسلم [في صحيحه""رقم 2531"] بمعناه، وروي عنه في حديث بإسناد غير قوي، وفي حديث منقطع، أنه قال:"مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء، من أخذ بنجم منهم اهتدى"، قال:"والذي روينا ههنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه"، وتعقبه الزركشي في "المعتبر" "ص84" بقوله:"ولا يخلو عن نظر"، وبين ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 191" وجهه؛ فقال:"هو -أي: حديث أبي موسى- يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة، أما في الاقتدء؛ فلا يظهر من حديث أبي موسى".
بقي بيان وجه من قال بنكرته، وهو أنه لو كان صحيحًا ما خطأ بعضهم بعضًا ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع أحد إلى قول صاحبه، وإنما لقال كل لصاحبه: بأينا اقتدى الآخر في قوله؛ فقد اهتدى، ولكن كل منهم طلب البينة والبرهان على قوله؛ فثبتت نكارته، أفاده المزني، ونقله عنه ابن عبد البر في "الجامع""2/ 110، ط القديمة" وغيره.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ قَدَّمُوا الصَّحَابَةَ عِنْدَ تَرْجِيحِ الْأَقَاوِيلِ؛ فَقَدْ جَعَلَ طَائِفَةٌ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حُجَّةً وَدَلِيلًا، وَبَعْضُهُمْ عَدَّ قَوْلَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ دَلِيلًا، وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حُجَّةً وَدَلِيلًا، وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هذه الأقوال متعلق من السنة1.
1 تعلق القائلون بحجية قول أبي بكر وعمر دون غيرهم بأدلة كثيرة، منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، 1/ 472-473/ رقم 681" عن أبي قتادة، وذكر حديثًا طويلًا فيه قصة، وفيه من المرفوع:"فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا".
وبما أخرجه الترمذي في "جامعه""4/ 310"، وابن ماجه في "السنن""1/ 37/ رقم 97"، والحميدي في "المسند""رقم 449"، وابن أبي شيبة في "المصنف""12/ 11"، وأحمد في "المسند""5/ 382، 385، 402" و"فضائل الصحابة""رقم 478"، والطحاوي في "المشكل""2/ 83، 84"، والحاكم في "المستدرك""3/ 75"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى""2/ 334"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ""1/ 480"، والخلال في "السنة""رقم 336"، والبزار في "المسند""7/ 248-251/ رقم 2827، 2828، 2829"، والقطيعي في "جزء الألف دينار""رقم 162"، وابن أبي عاصم في "السنة""2/ 545-546/ رقم 1148، 1149"، وأبو نعيم في "الحلية""9/ 109"، وابن عبد البر في "الجامع""2/ 223، 224"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 177" و"التاريخ" "12/ 20" عن حذيفة مرفوعًا:"اقتدوا باللذين من بعدي: أبو بكر وعمر"، وإسناده صحيح.
واحتج هؤلاء بأثر لابن عباس، انظره في "إعلام الموقعين""4/ 143"، أما القائلون بحجية قول الخلفاء الأربعة؛ فقد استدلوا بحديث العرباض:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وقد مضى تخريجه "ص133" وهو صحيح، وانظر توجيه الحديث على قول هؤلاء في "كشف الأسرار""3/ 221"، و"منهاج الأصول""4/ 410، مع شرحه نهاية السول" و"جمع الجوامع""2/ 297 مع حاشية العطار"، و"إعلام الموقعين""4/ 139-140".
وَهَذِهِ الْآرَاءُ -وَإِنْ تَرَجَّحَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ خِلَافُهَا- فَفِيهَا تَقْوِيَةٌ تُضَافُ إِلَى أَمْرٍ كُلِّيٍّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَهَابُونَ مُخَالَفَةَ الصَّحَابَةِ، وَيَتَكَثَّرُونَ بِمُوَافَقَتِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا تَجِدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي عُلُومِ الْخِلَافِ الدَّائِرِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ؛ فَتَجِدُهُمْ إِذَا عَيَّنُوا مَذَاهِبَهُمْ قَوَّوْهَا بِذِكْرِ1 مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي مُخَالِفِيهِمْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ، وَقُوَّةِ مَآخِذِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكِبَرِ شَأْنِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُمْ مِمَّا يَجِبُ2 مُتَابَعَتُهُمْ وَتَقْلِيدُهُمْ فَضْلًا عَنِ النَّظَرِ مَعَهُمْ فِيمَا نَظَرُوا فِيهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَبْلَ أن يجتهد لا يمنع3 من تقليد
1 كما ترى ذلك كثيرًا عقب تراجم البخاري. "د".
2 هذا هو المطلوب، ولكنه لا يسلم لزومه لما قبله، ويعارضه أيضًا أنهم طالما خالفوهم في الأمور الاجتهادية التي هي موضوع الكلام، ولذلك؛ فالمعول عليه أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غير الصحابة، كما أنه لس بحجة على الصحابة باتفاق، فإن كان غرض المسألة وجوب الأخذ بسنتهم التي اتفقوا عليها؛ فذلك ما لا نزاع فيه لأنه أهم أنواع الإجماع؛ فليس من باب السنة وإن كان الغرض ما جرى العمل عليه في عهدهم وإن لم يتفقوا عليه؛ فهذا ليس بدليل شرعي يتقيد به المجتهد، وقد يقال: إنه عند اختلافهم لا تخرج سنتهم عن كونها حجة في نفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة، ويكون العمل بها متوقفًا على الترجيح، ومع عدم الوقوف على المرجح؛ فالواجب الوقف أو التخيير كما هو الشأن عند التعارض، فتحرر المسألة بأن الغرض سنة الصحابي قولًا أو فعلًا في غير موضع الإجماع منهم تعد سنة كخبر الآحاد؛ فيعول عليها ويرجع إليها كحجة ظنية، وهذا المعنى مأخوذ من كلام الآمدي في مذهب الصحابي. "د".
3 اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له التقليد بعد حصول اجتهاده ووصوله إلى الحكم في نظره، أما قبل الاجتهاد؛ فاختلفوا على سبعة أقوال: منها ما أشار إليه هنا، وهو المنقول عن الشافعي أنه يجوز له تقليد الصحابي لا غيره بشرط أن يكون أرجح في نظره ممن خالفه منهم، وإلا تخير، وقال أحمد:"يجوز مطلقًا"، وقال العراقيون: يجوز فيما يخصه لا فيما يفتى به، واختار الآمدي =
الصَّحَابَةِ، وَيُمْنَعُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي الصَّحَابِيِّ:"كَيْفَ أَتْرُكُ الْحَدِيثَ لِقَوْلِ مَنْ لَوْ عَاصَرْتُهُ لَحَجَجْتُهُ"1 وَلَكِنَّهُ2 مَعَ ذَلِكَ يَعْرِفُ لَهُمْ قَدْرَهُمْ.
وَأَيْضًا؛ فَقَدْ وَصَفَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَوَصَفَ مُتَابَعَتَهُمْ بِمَا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِهِ.
فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: "مَا لَمْ يَعْرِفْهُ3 الْبَدْرِيُّونَ؛ فَلَيْسَ [مِنَ] الدِّينِ"4.
= المنع مطلقًا. "د".
قلت: انظر مسلك الشافعي في حجية قول الصحابي في "الأم""7/ 246"، و"الرسالة""ص597-598"، وكذا كتاب أبو زهرة "الإمام الشافعي""308-309"، و"الإمام الشافعي وأثره في أصول الفقه""2/ 763 وما بعدها"، ومنه يستفاد أن قول الصحابي عنده حجة في مذهبيه القديم والجديد، وهذا ما نصره ابن القيم في "إعلام الموقعين""4/ 122"؛ فقال بعد أن نقل كلام البيهقي في "المعرفة""1/ 106، ط صقر" و"المدخل""ص109-110": "فهذا كلام الشافعي رحمه الله ورضي عنه- بنصه، ونحن نشهد بالله أنه لم يرجع، بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له".
1 نقله عنه جماعة، منهم ابن همام في "التحرير""3/ 71، مع التيسير".
2 أي: فهو وإن لم يترك ما صح عنده من الحديث لقولهم، لكنه إذا لم يجد الحديث ووجد سنتهم أخذ بها، ومما يضاف إلى هذا فيقويه ما نقله في "إعلام الموقعين" عن الشافعي في "رسالته البغدادية" وما رواه عن الربيع من جعله البدعة ما خالف كتابًا أو سنة أو أثرًا عن بعض الصحابة. "د".
قلت: انظر ما قدمناه في الهامش السابق.
3 أي: إذا أنكروا شيئًا فقالوا: إنه ليس من الدين؛ كان الأمر كذلك. "د".
4 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم""1/ 771/ رقم 1425 و2/ 945/ رقم 1805" بإسناد لا بأس به، وما بين المعقوفتين فيه في الموطنين، وسقط من "د" وأثبته من الأصل و"ف" و"م" و"ط".
وَعَنِ الْحَسَنِ -وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ"1.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: "لَمْ يُدَّخَرْ لَكُمْ شَيْءٌ خُبِّئَ عَنِ الْقَوْمِ لِفَضْلٍ عِنْدَكُمْ"2.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، وَخُذُوا طَرِيقَ من قبلكم؛ فلعمري لئن اتبعتموه لقد سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا"3.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا؛ فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، وأقومها هديًا،
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع""2/ 946/ رقم 1807".
2 أخرجه البيهقي في "المدخل""رقم 232"، وابن عبد البر في "الجامع""2/ 946/ رقم 1808" بإسناد صحيح، وانظر في شرحه:"الباعث""ص89، بتحقيقي" لأبي شامة المقدسي.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، صلى الله عليه وسلم 13/ 250/ رقم 7282"، وابن أبي شيبة في "المصنف""13/ 379"، وابن المبارك في "الزهد""رقم 47"، وأبو داود في "الزهد""رقم 273"، وعبد الله بن أحمد في "السنة""18"، وابن وضاح في "البدع""ص10، 11"، وابن بطة في "الإبانة""رقم 196، 197"، والمروزي في "السنة""25"، والبزار في "المسند""7/ 359/ رقم 2956"، وأبو نعيم في "الحلية""10/ 280"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة""1/ 90/ رقم 119"، والهروي في "ذم الكلام""ص123"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق""ص519، ترجمة أبي مسلم الخولاني"، وابن عبد البر في "الجامع""2/ 947/ رقم 1809" بألفاظ منها المذكور، وسيورد المصنف قريبًا لفظًا آخر له، وعزاه أبو شامة في "الباعث""ص70" لأبي داود في "السنن"، وانفرد بذلك، وعزاه ابن القيم في "إعلام الموقعين""4/ 121" للطبراني.
وَأَحْسَنَهَا حَالًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ؛ فَاعْرَفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ"1.
وَقَالَ عَلِيٌّ: "إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ". ثُمَّ قَالَ: "فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ؛ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ"2، وَهُوَ نَهْيٌ لِلْعُلَمَاءِ لَا لِلْعَوَامِّ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ قَالَ: "سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدِهِ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"، وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ "وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ": "لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تبديلها، ولا النظر في3 رأي
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع""2/ 947/ رقم 1810"، والهروي في "ذم الكلام""ص188"، ورزين كما في "مشكاة المصابيح""1/ 67-68" عن قتادة به؛ فهو منقطع.
وأخرج أبو نعيم في "الحلية""1/ 305-306" نحوه عن ابن عمر، وفيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف.
وعزاه ابن القيم في "إعلام الموقعين""3/ 121" للإمام أحمد.
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع""2/ 987/ رقم 1881"، وخشيش في "الاستقامة" كما في "كنز العمال""1/ 360/ رقم 1594".
وإسناد ابن عبد البر ضعيف؛ إذ هو من طريق خالد بن عبد الله الواسطي عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن علي.
قال شعبة: "ما حدثك عطاء عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري؛ فلا تكتبه".
وخالد بن عبد الله سمع من عطاء بعد اختلاطه، انظر:"الكواكب النيرات""ص322، 327، 330"، وانظر هذا الأثر وكلامًا جيدًا للمصنف حوله في "الاعتصام""2/ 689، ط ابن عفان".
3 ظاهر فيما أجمعوا عليه. "د".
خَالَفَهَا، مَنِ اهْتَدَى بِهَا مُهْتَدٍ...."1 الْحَدِيثَ، وَكَانَ مَالِكٌ يُعْجِبُهُ كَلَامَهُ2 جِدًّا.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "اتَّبِعُوا آثَارَنَا؛ فَإِنْ أَصَبْتُمْ فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَيِّنًا، وَإِنْ أَخْطَأْتُمْ فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا"3.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ؛ فَقَالَ: "اتَّبِعُوا آثَارَنَا وَلَا تَبْتَدِعُوا؛ فَقَدْ كُفِيتُمْ"4.
وَعَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ وَيَقُولُ5: سَبِّحُوا عَشْرًا وَهَلِّلُوا عَشْرًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "إِنَّكُمْ لَأَهْدَى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَضَلُّ! بَلْ هَذِهِ، بل هذه
1 أخرجه الآجري في "الشريعة""ص48، 65، 306"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ""3/ 386" ومن طريقه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة""1/ 94/ رقم 134"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""1/ 73"، وابن بطة في "الإبانة""1/ 352-353/ رقم 230، 231"، وابن عبد البر في "الجامع""2/ 1176/ رقم 2326"، والهروي في "ذم الكلام""ص107، 199"، والمروزي في "السنة""31"، وابن الجوزي في "سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز""84"، وهو صحيح.
2 أي: هذا الكلام المذكور ويتحدث به كثيرًا هو وغيره من الأئمة كما ذكره في "أعلام الموقعين""4/ 132"، وشرحه المصنف في "الاعتصام""1/ 116-117، ط ابن عفان" شرحًا وافيًا وعلق عليه بكلام متين، وفيه: "ومن كلامه -أي: عمر بن عبد العزيز- الذي عني به ويحفظه العلماء، وكان يعجب مالكًا جدًّا
…
" وساقه، وانظر التعليق على "3/ 130".
3 مضى تخريجه قريبًا، ولفظ "ماء/ ص424" مختلف عن هذا.
4 أخرجه وكيع في "الزهد""2/ 590/ رقم 315" -ومن طريقه أحمد في "الزهد""162"- وابن وضاح في "البدع والنهي عنها""10"، والدارمي في "السنن""1/ 69"، وأبو خيثمة في "العلم""رقم 54"، ومحمد بن نصر في "السنة""ص23"، والطبراني في "المعجم الكبير""9/ 168"، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب""ق 51/ 2 ورقم 460 من المطبوع"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة""1/ 86/ رقم 104"، والبيهقي في "المدخل""رقم 204"، وإسناده صحيح.
5 في "ط": "وهو يقول".
"يَعْنِي أَضَلُّ""1.
وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَكْثُرُ إِيرَادُهَا، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا وَهُوَ:
الرَّابِعُ:
مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ إِيجَابِ مَحَبَّتِهِمْ وَذَمِّ مَنْ أَبْغَضَهُمْ، وَأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَحَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام-2، وَمَا ذَاكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ رَأَوْهُ أَوْ جَاوَرُوهُ أَوْ حَاوَرُوهُ فَقَطْ؛ إِذْ لَا مزية
1 أخرجه الدارمي في "السنن""1/ 68 و69" بسند جيد، وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها""ص8-10، 11، 12، 13، 23"، وبحشل في "تاريخ واسط""ص198-199"، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس""ص16-17" من طرق عن ابن مسعود، والأثر صحيح بمجموع طرقه.
2 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب المناقب، باب منه، 5/ 696/ رقم 3863"، والبغوي في "شرح السنة""رقم 3860" -ومن طريقه القاضي عياض في "الشفا""2/ 266"، والسبكي في "الفتاوى""2/ 574"- وأحمد في "المسند""5/ 54، 57" و"فضائل الصحابة""رقم 321"، وابنه عبد الله في "زوائد المسند""4/ 85، 87 و5/ 55" و"زوائد الفضائل""رقم 2"، والبخاري في "التاريخ الكبير""3/ 1/ 131"، وابن أبي عاصم في "السنة""رقم 992"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 7212، الإحسان" و"موارد الظمآن""رقم 2284، موارد"، وقوام السنة في "الحجة في بيان المحجة""رقم 366"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 287" و"تثبيت الإمامة" -أو:"الرد على الرافضة"- "رقم 220"، والخطيب في "تاريخه""9/ 123"، والضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب""رقم 3، بتحقيقي"، والبيهقي في "الاعتقاد" "321" من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني رفعه:"الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي؛ فمن أحبهم بحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه". لفظ أحمد.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وإسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد، وقال البخاري:"فيه نظر"، وللحديث شواهد كثيرة، خرجت قسمًا منها في أول كتاب الشوكاني "در السحابة".
فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِشِدَّةِ مُتَابَعَتِهِمْ لَهُ، وَأَخْذِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْعَمَلِ عَلَى سُنَّتِهِ مَعَ حِمَايَتِهِ1 وَنُصْرَتِهِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ حَقِيقٌ أَنْ يُتَّخَذَ قُدْوَةً، وَتُجْعَلَ سِيرَتُهُ قِبْلَةً.
وَلَمَّا بَالَغَ مَالِكٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَةِ أَوْ مَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِمْ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى قُدْوَةً لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ؛ فَقَدْ كَانَ الْمُعَاصِرُونَ لِمَالِكٍ يَتَّبِعُونَ آثَارَهُ وَيَقْتَدُونَ بِأَفْعَالِهِ، بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ لِمَنْ أَثْنَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ قُدْوَةً أَوْ مَنِ اتَّبَعَهُمْ، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة: 22] .
1 وهذا وإن كان أقوى البواعث على حبهم وبغض من أبغضهم، التابعين لحبه صلى الله عليه وسلم وبغض من أبغضه؛ إلا أن محل الاستدلال هو ما قبله، وهذا الدليل الرابع كالأول ظاهر في الاقتداء بأفعالهم وأقوالهم التكليفية، لا الآراء والمذاهب. "د".
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:
كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَبَرٍ فَهُوَ كَمَا أَخْبَرَ، وَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، مُعْتَمَدٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَعَنْهُ1، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَنْبَنَى عَلَيْهِ فِي التَّكْلِيفِ حُكْمٌ أَمْ لَا2، كَمَا أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ حُكْمًا أَوْ أَمَرَ أَوْ نَهَى؛ فَهُوَ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام، لَا يُفَرَّقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ، وَبَيْنَ مَا نُفِثَ3 فِي رُوعِهِ وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ رَآهُ رُؤْيَةَ كَشْفٍ وَاطِّلَاعٍ عَلَى مُغَيَّبٍ عَلَى وَجْهٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ، أَوْ كَيْفَ مَا كَانَ؛ فَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ يُحْتَجُّ بِهِ وَيُبْنَى عَلَيْهِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مُؤَيَّدٌ بِالْعِصْمَةِ، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.
1 فإذا قال: إن الملك ألقى في روعي كذا؛ فهو صادق في أنه ألقى الملك إليه كذا، وصادق في مضمون الخبر. "د".
2 ولا ينافي هذا ما ورد في حديث مسلم في مسألة تأبير النخل، وقوله لهم:"لعلكم لو لم تضعوه؛ لكان خيرًا"؛ فتركوه فنقصت، فذكر ذلك له؛ فقال:"إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم؛ فخذوا به، وإذا أمرتكم بشي من رأيي؛ فإنما أنا بشر"، فإن هذا ليس في الواقع خبرًا، وإنما هو من باب الشك في عادة عندهم اعتقدوها سببًا عاديًّا، وكأنه قال لهم: جربوها، وهذا هو ما يفهم من قول: "لعلكم لو لم تضعوه
…
" إلخ؛ فهو لم يذكره خبرًا جازمًا، بل هو من باب المشورة عليهم في الأخذ بالتجربة في سبب عادي ليس من الأمور الشرعية، ولا مما قصد به الإخبار عن أمر يعلمه. "د".
3 وهو الإشارة المفهمة من غير بيان بالكلام، وقوله:"وألقي في نفسه" هو الإلهام الذي يكون بدون عبارة الملك وإشارته، ويكون الإلقاء مقرونًا بخلق علم ضروري أنه منه تعالى، وهذا القدر مشترك بين الثلاثة؛ إذ في المشافهة والإشارة لا بد أيضًا من خلق علم ضروري أنه مخاطبة الملك، ولذا كانت الثلاثة حجة قطعية عليه وعلى غيره، والثلاثة وحي ظاهر، يلزمه انتظار واحد منها عند الحاجة للحكم، وإن لم تحصل اجتهد، واجتهاده إنما يكون بالقياس، لا بالترجيح عند التعارض بين الدليلين لعدم علم المتأخر، ولا بغيره مما يكون فيه الاجتهاد عند غيره صلى الله عليه وسلم والاجتهاد وحي باطني. "د".
وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ؛ فَلَا نُطَوِّلُ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا نُمَثِّلُهُ ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ مَا أَرَدْنَا بِحَوْلِ اللَّهِ.
فَمِثَالُهُ قَوْلُهُ، عليه الصلاة والسلام:"إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا؛ فَاتَّقَوُا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ" 1؛ فَهَذَا بِنَاءُ حُكْمٍ عَلَى مَا أُلْقِيَ فِي النَّفْسِ.
1 أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث""1/ 298" - ومن طريقه البغوي في "شرح السنة""14/ 304/ رقم 4112"، والقضاعي في "مسند الشهاب""2/ 185/ رقم 1151"- ثنا هشيم بن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي عمن أخبره عن ابن مسعود به.
وإسناده صحيح لولا الرجل الذي لم يسم.
وأخرجه البغوي في "شرح السنة""14/ 304-305/ رقم 4113" من طريق أبي أسامة عن إسماعيل عن زبيد وعبد الملك بن عمير عن ابن مسعود به، ورجاله ثقات، وهو مرسل.
وأخرجه أيضًا "14/ 303-304/ رقم 4111" من طريق أبي حمزة عن إسماعيل عن رجلين أحدهما زبيد عن ابن مسعود به، وهو كسابقه، وأخرجه الحاكم في "المستدرك""2/ 4" من طريق آخر عن ابن مسعود، وفيه سعيد بن أبي أمية الثقفي، وهو مجهول، وبقية رجاله ثقات.
وللحديث شواهد كثيرة، بها يصل إلى درجة الصحة، منها:
- حديث جابر بن عبد الله، أخرجه ابن ماجه في "السنن""رقم 2144"، وابن أبي عاصم في "السنة""رقم 420"، والحاكم في "المستدرك""2/ 4"، والقضاعي في "مسند الشهاب""رقم 1152"، والبيهقي في "السنن الكبرى""5/ 265" من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر.
وابن جريج وأبو الزبير مدلسان، ولم يصرحا بالتحديث.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية""3/ 156-157 و7/ 158" من طريق حبيش بن مبشر ثنا وهب بن جرير ثنا شعبة عن محمد بن المنكدر به.
وإسناده صحيح، وقال أبو نعيم عقبه:"غريب من حديث شعبة، تفرد به حبيش عن وهب".
وأخرجه ابن حبان في "الصحيح""رقم 3239، 3241"، والحاكم في "المستدرك""2/ 4"، وأبو الفضل الرازي في "المشيخة""رقم 43"، والبيهقي في "الكبرى""5/ 264" و"الشعب""رقم 10505" من طريق عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن =
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنَسِيتُهَا؛ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ"1.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ" 2؛ فَهَذَا بِنَاءٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رؤيا
= محمد بن المنكدر به. وإسناده حسن.
ولفظ حديث جابر: "لا تستبطئوا الرزق؛ فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال وترك الحرام".
وكتب "د" هنا: "والإجمال في الطلب مباشرة الأسباب المشروعة مع ترك المبالغة والزيادة في الحرص لئلا يؤدي إلى الوقوع في محظور".
وفي الباب عن أبي أمامة، أخرجه الطبراني في "الكبير""رقم 7694"، وأبو نعيم في "الحلية""10/ 26-27"، وفي إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. وعن حذيفة، أخرجه البزار في "البحر الزخار""7/ 314-315/ رقم 2914"، وأوله:"هلموا إليّ، فأقبلوا إليه؛ فجلسوا، فقال: هذا رسول رب العالمين جبريل عليه السلام نفث في روعي". وقال عقبه: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن حذيفة إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد".
قلت: وفيه قدامة بن زائدة بن قدامة، قال الهيثمي في "المجمع" "4/ 71":"لم أجد من ترجمه"، ووافقه ابن حجر في "مختصر زوائد البزار""رقم 874".
وفي الباب عن المطلب، أخرجه البغوي في "شرح السنة""14/ 302-303/ رقم 4110"، ورجاله ثقات، وهو مرسل، والخلاصة الحديث صحيح بشواهده، والله أعلم.
1 أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، رقم 1166"، وابن خزيمة في "الصحيح""رقم 2197"، وأحمد في "المسند""2/ 291"، والدارمي في "السنن""2/ 28" وغيرهم عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، رقم 2015، وكتاب التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلي، رقم 1158، وكتاب التعبير، باب التواطؤ على الرؤيا، رقم 6991"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، رقم 1165" عن ابن عمر، رضي الله عنهما.
النَّوْمِ1.
وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَعَ2 فِي بَدْءِ الْأَذَانِ -وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَسْأَلَةِ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ الرُّؤْيَا؛ فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا حَقٌّ" الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ؛ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"فلله الحمد؛ فذاك أثبت"3.
1 أي: رؤياه صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر في الرواية الأولى، وأما الثاني؛ فتحتاج إلى تعريف صدقها عن الله بطريق من الطرق المشار إليها. "د".
2 في "ط": "واقع".
3 أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، 1/ 358-359/ رقم 189" -وهذا لفظه- وأبو داود في "السنن""كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، 1/ 135-136/ رقم 499"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الأذان، باب بدء الأذان، 1/ 232-233/ رقم 706"، وأحمد في "المسند""4/ 43"، والبخاري في "خلق أفعال العباد""رقم 180"، والدارمي في "السنن""1/ 268-269"، وابن الجاورد في "المنتقى""رقم 158"، وابن المنذر في "الأوسط""3/ 12-13/ رقم 1162"، والدارقطني في "السنن""1/ 341"، وابن خزيمة في "الصحيح""1/ 189/ رقم 371"، وابن حبان في "الصحيح""4/ 572-573/ رقم 1679، الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى""1/ 390-391"، وابن الجوزي في "التحقيق""1/ 231-232، ط الفقي"، كلهم من طريق ابن إسحاق؛ قال: ثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد ثنا أبو عبد الله بن زيد به، وإسناده جيد، وابن إسحاق صرح بالتحديث؛ فانتفت شبهة تدليسه، والخبر في "سيرة ابن هشام""2/ 154-155".
ولهذا الحديث طرق أخرى، المذكور آنفًا أقواها، قال ابن المنذر في "الأوسط" "3/ 13":"وليس في أسانيد أخبار عبد الله بن زيد إسناد أصح من هذا الإسناد، وسائر الأسانيد فيها مقال"، وقال ابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 193":"سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان خبر أصح من هذا؛ لأن محمد بن عبد الله بن زيد سمعه من أبيه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمعه من عبد الله بن زيد".
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف""1/ 203"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم =
فَحَكَمَ1 عليه الصلاة والسلام عَلَى الرُّؤْيَا بِأَنَّهَا حَقٌّ وَبَنَى عَلَيْهَا الْحُكْمَ فِي أَلْفَاظِ الْأَذَانِ.
وَفِي "الصَّحِيحِ": صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا ثُمَّ انْصَرَفَ؛ فَقَالَ: "يَا فُلَانُ! أَلَا تُحْسِنُ صَلَاتَكَ، أَلَا يَنْظُرُ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى كَيْفَ يُصَلِّي؛ فَإِنَّمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ؟ إِنِّي وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ مِنْ وَرَائِي 2 كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ"3. فَهَذَا حُكْمٌ أَمْرِيٌّ بِنَاءً4 عَلَى الْكَشْفِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ وَجَدَ أَكْثَرَ من هذا.
= 1788"، وابن خزيمة في "صحيحه" "1/ 197/ رقم 380"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 131، 132، 134"، والدارقطني في "السنن" "1/ 241"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 476، 477/ رقم 1938، 1939"، والبيهقي في "السنن" "1/ 420" من طريق ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد، وبعضهم يقول: "عن ابن أبي ليلي؛ قال: ثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد".
قال الدارقطني: "ابن أبي ليلى لا يثبت سماعه من عبد الله بن زيد"، ثم ساق الاختلاف فيه، وأخرجه أحمد في "المسند""4/ 42"، وعبد الرزاق في "المصنف""رقم 1787"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني""3/ 475/ رقم 1937"، والبيهقي في "الكبرى""1/ 414، 415" من طريق سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد.
والحديث صحيح، وأصح طرقه المذكورة أولًا كما سبق بيانه، وصححه غير واحد من الأئمة كالبخاري، والنووي، والذهبي، وانظر:"نصب الراية""1/ 259-260".
1 أي: بطريق من الطرق المتقدمة، لا بمجرد رؤياهما. "د".
2 هذه حالة رؤيا الكشف التي تحصل بإزالة الموانع العادية كما حصل في صبيحة الإسراء، حيث كشف له عن بيت المقدس وصار يصفه لقريش وصف عيان. "د".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الصلاة، باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها، 1/ 319/ رقم 423" عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وقد مضى تخريجه "2/ 472".
4 كذا في "ط"، وفي غيره:"امرئ بنى"، وكتب "د":"لعله "أمري" نسبة إلى الأمر؛ فإنه في معنى: أحسن صلاتك".
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ مَرَّ قَبْلَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ1 قَاعِدَةٌ بَيَّنَتْ أَنَّ مَا يَخُصُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخُصُّنَا، وَمَا يَعُمُّهُ يَعُمُّنَا، فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى ذَلِكَ؛ فَلِكُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَشْفِ وَالِاطِّلَاعِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَى اطِّلَاعِهِ وَكَشْفِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَعَ بِنْتِهِ عَائِشَةَ فِيمَا نَحَلَهَا إِيَّاهُ2 ثُمَّ مَرِضَ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَهُ3، قَالَ فِيهِ:"وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ؛ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ". قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ! وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ، إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ؛ فَمَنِ الْأُخْرَى؟ قَالَ: ذُو بَطْنٍ بِنْتُ خَارِجَةَ أَرَاهَا جَارِيَةً"4، وَقَضِيَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي نِدَائِهِ سَارِيَةَ5 وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ فَبَنَوْا -كَمَا تَرَى- عَلَى الْكَشْفِ وَالِاطِّلَاعِ الْمَعْدُودِ مِنَ الْغَيْبِ، وَهُوَ مُعْتَادٌ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وكتب العلماء
1 انظر: "2/ 263 وما بعدها".
2 وهو عشرون وسقًا. "د".
3 فأبطلها بحكم الشرع. "د".
4 أخرجه مالك في "الموطأ""2/ 483-484، رواية أبي مصعب و2/ 752/ رقم 4681، رواية يحيى الليثي وص236، رواية سويد بن سعيد"، وإسناده صحيح. وانظر:"الاستذكار""22/ 293-295" لابن عبد البر، و"أنساب الأشراف""63-64، الشيخان".
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل""6/ 370"، وأبو نعيم في "الدلائل""رقم 525-528"؛ وابن عساكر في "تاريخ دمشق""ص286، ترجمة عمر و7/ ق 10-13، ترجمة سارية"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة""رقم 2537"، و"كرامات الأولياء""رقم 67"، والسلمي في "أربعي الصوفية""رقم 5"، وابن الأعرابي في "كرامات الأولياء"، والديرعاقولي في "فوائده"، وحرملة في "حديث ابن وهب"، والدارقطني والخطيب في "الرواة عن مالك"، وابن مردويه، كما في "الإصابة""4/ 98"، و"تخريج السخاوي للأربعين السلمية""ص44-46" بأسانيد بعضها حسن، كما قال ابن حجر والسخاوي، وجود بعضها ابن كثير في "البداية والنهاية""7/ 131"، وقال بعد أن أورده من طرق:"فهذه طرق يشد بعضها بعضًا"، وألف القطب الحلبي في صحته جزءًا، قاله السيوطي في "الدرر المنتثرة""رقم 461".
وانظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن أولياء الشيطان""ص123-124" لابن تيمية.
مَشْحُونَةٌ بِأَخْبَارِهِمْ فِيهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ جَرَيَانَ الْحُكْمِ وِرَاثَةً عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ هُوَ فَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبِسَبَبِهِ جَلَبْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ كَافِيًا، وَلَكِنْ نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ هَذَا تَقْرِيرُهَا.
فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤَيَّدٌ1 بِالْعِصْمَةِ مَعْضُودٌ بِالْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَا قَالَ وَصِحَّةِ مَا بَيَّنَ، وَأَنْتَ تَرَى الِاجْتِهَادَ الصَّادِرَ مِنْهُ مَعْصُومًا2 بِلَا خِلَافٍ؛ إِمَّا بِأَنَّهُ لَا يُخْطِئُ أَلْبَتَّةَ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى خَطَأٍ إِنْ فُرِضَ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ ذَلِكَ؟ فَكُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ أَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ رُؤْيَا نَوْمٍ أَوْ رُؤْيَةِ كَشْفٍ مِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ مِمَّا أَلْقَى إِلَيْهِ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ عز وجل وَأَمَّا أُمَّتُهُ3؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ حُلْمًا4، وَكَشْفُهُ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ وَإِنْ تَبَيَّنَ فِي الْوُجُودِ صِدْقُهُ5، وَاعْتِيدَ ذَلِكَ فِيهِ وَاطُّرِدَ؛ فَإِمْكَانُ الْخَطَأِ وَالْوَهْمِ بَاقٍ، وَمَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقْطَعَ به حكم6.
1 فلا يصدر عنه في ذاته إلا الصدق، وتعضيده بالمعجزة يجعلنا لا نعتقد إلا ذلك. "د".
2 في "ماء": "معصوم".
3 تقدم الكلام بأوسع من هذا وأتم، في المسألة الحادية عشرة من النوع الرابع من المقاصد. "د".
4 أي: والحلم من الشيطان كما تقدم في الحديث. "د".
5 أي في غير هذه الجزئية التي يفرض الكلام فيها؛ فإمكان الخطأ والوهم باق في هذه الجزئية حتى ينكشف الأمر؛ إما بتحققها، أو عدمه، وبعد تحققها وحصولها؛ فالمرجع الوجود، لا الكشف ولا الرؤيا. "د".
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية""11/ 636 وما بعدها"، و"بدائع التفسير""1/ 152 وما بعدها" لابن القيم.
6 في "ط": "حكمًا".
وَأَيْضًا؛ فَإِنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا1 مَعْدُودًا فِي الِاطِّلَاعِ الْغَيْبِيِّ؛ فَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ تَلَا:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} 2 [لُقْمَانَ: 34] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ3. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الْأَنْعَامِ: 59] .
وَاسْتَثْنَى الْمُرْسَلِينَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِقَوْلِهِ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الْآيَةَ [الْجِنِّ: 26، 27] .
فَبَقِيَ مَنْ عَدَاهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ امْتِنَاعُ عِلْمِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 179] .
وَقَالَ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النَّمْلِ: 65] .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: "وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ مَا فِي غدٍ؛ فَقَدْ أَعْظَمَ الفرية على الله"4.
1 {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} سقطت من الأصل
2 يراجع ما يشير إليه من تحقيق معنى الغيب في قصد الشارع في كتب الحديث والتفسير. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، 1/ 114/ رقم 50، وكتاب التفسير، باب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة} ، 8/ 513/ رقم 4777"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإحسان، 1/ 39/ رقم 9" عن أبي هريرة رضي الله عنه ضمن حديث طويل.
4 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب معنى قول الله، عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، 1/ 159/ رقم 177" عن عائشة ضمن حديث، ولفظه:"ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية".
والمذكور عند المصنف لفظ الترمذي في "الجامع""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنعام، 5/ 262-263/ رقم 3068" عن عائشة رضي الله عنها وأخرجه أيضًا بنحوه في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النجم، 5/ 394-395/ رقم 3278".
وَقَدْ تَعَاضَدَتِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَتَكَرَّرَتْ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ [الْغَيْبَ إِلَّا] 1 اللَّهُ، وَهُوَ يُفِيدُ صِحَّةَ الْعُمُومِ مِنْ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ، حَسْبَمَا مَرَّ فِي بَابِ2 الْعُمُومِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ خَرَجَ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَنْ يَشْتَرِكُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فِي الْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ.
وَمَا ذُكِرَ قَبْلُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ مَا يُذْكَرُ عَنْهُمْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ؛ فَمِمَّا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ، إِذْ لَمْ يَشْهَدْ3 لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُقُوعُهُ عَلَى حَسَبِ مَا أَخْبَرُوهُ هُوَ مِمَّا يُظَنُّ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُعَامِلُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَّا بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ4 لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ جَوَازُ الْخَطَأِ، لِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ:"أَرَاهَا جَارِيَةً"5؛ فَأَتَى بِعِبَارَةِ الظَّنِّ الَّتِي لَا تُفِيدُ حُكْمًا، وَعِبَارَةُ "يَا سَارِيَةُ! الْجَبَلَ" -مَعَ أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ لَا تُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا6- هِيَ أَيْضًا لَا تُفِيدُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهَا مِثْلُهَا، وَإِنَّ سُلِّمَ؛ فَلِخَاصِّيَّةٍ7 أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَفِرُّ مِنْهُ8؛ فَلَا يَطُورُ9 حَوْلَ حِمَى أَحْوَالِهِ الَّتِي أكرمه الله بها،
1 سقطت من "د" كاملة، ومن "ف" و"م" سقطت كلمة "الغيب".
2 في المسألة السادسة منه، وهو أن العموم لا يلزم أن يكون آتيًا من جهة الصيغ، بل له طريق ثان وهو الآتي من جهة استقراء مواقع المعنى. "د".
3 كشهادته لرؤيا عبد الله بن زيد السالفة. "د".
4 في "ماء": "بجميع".
5 في قصته السابقة، وهي صحيحة، ومضى تخريجها.
6 بل نصيحة ومشورة. "د".
قلت: وقد صحت، كما بيناه، ولله الحمد.
7 في "ماء": "كخاصية".
8 كما ثبت في "صحيح البخاري""كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، 7/ 4/ رقم 3683"، ومسلم في "الصحيح""كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، رضي الله تعالى عنه، 4/ 1863-1864/ رقم 2396" عن سعد مرفوعًا: "والذي نفسي بيده؛ ما لقيك -والخطاب لعمر- سالكًا فجًّا قط إلا سلك فجًّا غير فجك".
9 أي: لا يقرب حول حماه، يقال: فلان لا يطورني، أي: لا يقرب طورتي، والطورة: فناء الدار وما حولها، وفلان يطور بفلان أي: كأنه يحوم حوله ويدنو منه، وفي حديث علي، رضي الله عنه:"وأن لا أطور به ما سمر سمير"؛ أي: لا أقربه أبدًا. "ف".
بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَإِذَا لَاحَ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ1؛ فَلَا يَكُونُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهَا مُحَقَّقٍ لَا شَكَّ فِيهِ، بَلْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا:"أَرَى" وَ"أَظُنُّ"2، فَإِذَا وَقَعَ مُطَابِقًا فِي الْوُجُودِ وَفُرِضَ تَحَقُّقُهُ بِجِهَةِ الْمُطَابَقَةِ أَوَّلًا، وَالِاطِّرَادِ ثَانِيًا؛ فَلَا يَبْقَى لِلْإِخْبَارِ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمٌ لأنه [قد] صَارَ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَاقِعِ3؛ فَاسْتَوَتِ الْخَارِقَةُ وَغَيْرُهَا، نَعَمْ4 تُفِيدُ الْكَرَامَاتُ وَالْخَوَارِقُ5 لِأَصْحَابِهَا يَقِينًا وَعِلْمًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقُوَّةً فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الظَّنَّ أَيْضًا مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ إِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ عِلْمًا مَعَ الِاطِّرَادِ وَالْمُطَابَقَةِ؛ فَإِنَّهُ يُفِيدُ ظَنًّا، فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا.
لِأَنَّا نَقُولُ: مَا كَانَ مِنَ الظُّنُونِ مُعْتَبَرًا شَرْعًا؛ فَلِاسْتِنَادِهِ إِلَى أصل شرعي
1 كذا في الأصل و"ماء" و"ط"، وفي النسخ المطبوعة:"الغير".
2 في "د": "أو أظن".
3 أي: لأنه يبقى على عدم العلم، بل على مجرد ظن أو شك حتى يقع، فبعد وقوعه مطابقًا لا يبقى للإخبار به فائدة في بناء حكم عليه، ويكون الحكم -إن كان هناك حكم- مبنيًّا على الواقع نفسه. "د".
4 استدراك على ما قبله الموهم أنه حينئذ لا فائدة في الخوارق والكرامات لأنه لا ينبني عليها حكم أصلًا، يقول: بل لها فائدة أهم من هذا، وهي زيادة اليقين، وشرح الصدر بتضاعف نور الإيمان، واتساع البصيرة والعلم بالرب واهبها. "د".
5 في "ط": "الكرامات الخوارق" بدون "واو" عطف.
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ1 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَلَا ظَنِّيٍّ، هَذَا وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ ذَلِكَ2 بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛ فَلَا يَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْعِصْمَةُ، وَإِذَا امْتَنَعَ الشَّرْطُ امْتَنَعَ الْمَشْرُوطُ باتفاق العقلاء.
1 المسألة الثانية من الأدلة. "د".
2 لا يصح رجوع اسم الإشارة إلى ما لم يستند إلى أصل قطعي أو ظني؛ لأن ما علم له صلى الله عليه وسلم بطريق الكشف أو بطريق الرؤيا كله حق معصوم كما تقدم أول المسألة، بل هو راجع لأصل الموضوع -وهو العمل بمقتضى الكشف والاطلاع الغيبي- أي: لا يقال: إن عمله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الكشف يصلح مستندًا لنا ولو ظنيًّا؛ فنقيس أنفسنا عليه لأنا نقول: إنه قياس مع الفارق، وهو العصمة في حقه وعدمها في حقنا. "د".