المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عبرة الدهر: الآن أمنت على مصر أبد الدهر، وأيقنت أن الباطل - النظرات - جـ ٣

[المنفلوطي]

الفصل: ‌ ‌عبرة الدهر: الآن أمنت على مصر أبد الدهر، وأيقنت أن الباطل

‌عبرة الدهر:

الآن أمنت على مصر أبد الدهر، وأيقنت أن الباطل ظل زائل لا ثبات له، وأن الحق صخرة عاتية لا تزعزعها العواصف ولا تعبث بها عاديات الأيام.

فقد مرت في غضون الأشهر الفائتة ساعات أعترف أني خفت فيها على الحق أن يغتاله الباطل ويصرعه عندما أشرفتُ على ذاك الميدان الواسع الفسيح -ميدان المعركة السياسية المصرية- ورأيت ذلك الجيش اللجب العرمرم جيش الباطل زاحفا بخيله ورجله، وفي مقدمته القوة الإنجليزية بمدافعها وطياراتها وصواعقها ورجومها، وفي مؤخرته القوة المصرية ببنادقها وسيوفها وسياطها وعصيها، وفي جناحيه الوزارة يحيط بها أنصارها وصنائعها وذوو الحاجة إليها والمنشقون يحيط بهم خدمهم وفلاحوهم، وأجراؤهم وأهلوهم، وذوو أرحامهم، وفيما بين هذا وذلك الكتاب الكاذبون والخطباء الخادعون والدعاة الخبثاء والجواسيس الدهاة والأحكام العرفية والمجالس العسكرية والقوانين الاستثنائية والأكاذيب

ص: 255

والأراجيف والصور والتهاويل وكل ما يمكن أن يسمى قوة يهجم بها هاجم على خصمه ليسلبه في آن واحد قوة جسمه وقوة قلبه وقوة يقينه، وقد ذهبت لذلك الجيش في آفاق السماء جلجلة كجلجلة الرعد القاصف، وانتشر له في جميع الأنحاء بريق يخطف الأبصار ويعشى الأنظار، فالتفتُّ إلى الجانب الآخر من الميدان فرأيت سعدا باشا واقفا في مكانه أعزل لا سلاح معه ولا يحيط به إلا سواد الأمة الأعزل مثله، فانبعثت من صدري صرخة الرعب والخوف، وأيقنت أن الرجل هالك هو وأمته ما في ذلك ريب ولا شك، ثم هجم ذلك الجيش العظيم هجمته الكبرى التي لم يسمع بمثلها في تاريخ هجوم الأقوياء على الضعفاء والتي استمرت سبعة شهور كاملة لا تهدأ ولا تفتر، فثبت الزعيم في مكانه ثباتا غريبا مدهشا وكأنما استحال إلى كرة فولاذية ملساء تتساقط عليها السهام ثم تنزلق عنها، وربما أصابت جسمه بعض الجرحات، ولكن لم يستطع سهم واحد أن ينفذ إلى قلبه، وثبتت الأمة بثباته فلم تهن ولم تضعف، ولم تعبأ ولم تحتفل، ولم تأخذ بلبها الصور والتهاويل، ولم تنل من نفسها الأكاذيب والأراجيف، ولم تعبث بعقيدتها الألسنة الخالبة والأقلام الخادعة، وها هي الأيام قد أخذت تدور دورتها، فانقلب الجيش المهاجم مدافعا والجيش المدافع مهاجما، ولله في خلقه شئون

ص: 256

أنظر إليهم ها هم يتقهقرون، وإن كانوا لا يزالون يضربون، ها هي ألسنة خطبائهم تتلجلج في أفواههم، وأقلام كتابهم تضطرب في أيديهم، ها هي وجوههم قد علتها غبرة الموت وقلوبهم تتنزى بين جوانحهم تنزي الكرة في أيدي ضاربيها، ها هي أصواتهم قد مازجها أنين محزن كأنين المحتضر، وصرخاتهم قد استحالت إلى عواء كعواء الذئاب، ها هم يخلطون ويهذون ويسبون ويشتمون ويصخبون ويحتدمون، أي: إنهم يلجئون إلى السلاح الأخير الذي يلجأ إليه المقهور في ساعته الأخيرة، ها هم يخافون من كل شيء حتى من خطبة يخطبها أزهري في مسجد، أو كلمة يلقيها طالب في متنزه، أو صرخة صرخها صارخ في محفل، ومن همس الهامس في أذن أخيه، ونظرة الناظر في وجه صاحبه، ومن قدوم جماعة من أعضاء مجلس النواب الإنجليزي الأحرار إلى مصر لا يملكون إلا قليلا من الحول والقوة، ومن سفر الزعيم من بلد إلى بلد لا يحمل إلا قلبه، ولا يملك إلا لسانه.

ما بالهم؟! وما الذي دهاهم؟! ومم يخافون والقوة في أيديهم، والأيام مواتية لهم، والدهر نازل على حكمهم؟! نعم، ولكنهم مبطلون، والباطل لا قوة له وإن اجتمعت في يده جميع القوى،

ص: 257

تلك عبرة الدهر التي يجب أن يعتبر بها أولادنا وأحفادنا من بعدنا.

فلتقرءوا يا أبناء الأجيال المقبلة هذه الصفحة المجيدة من تاريخ حياتنا؛ لتعلموا أن رجلا واحدا من أبناء أمتكم تمسك بالحق فاستطاع أن يثبت أمام أقوى قوة في العالم، وأن ثباته أنقذ مصر من أعظم نكبة كان يدخرها لها الدهر في طيات تصاريفه، ولتحنوا رءوسكم أمام هذه الذكرى المجيدة إجلالا لها وإعظاما لشأنها، ولتجعلوها مثلكم الأعلى في مستقبل حياتكم، وعبرتكم البليغة التي تغنيكم عن جميع العظات والعبر.

الآن أمنت على مصر أبد الدهر، فما في العالم قوة تستطيع أن تهاجمها أعظم من هذه القوة، وليس في الإمكان أن تحل بساحتها نكبة أهول من هذه النكبة، وما أحسب إلا أن الله تعالى قد أراد أن يبلوها ويختبرها فامتحنها بهذه المحنة الفادحة؛ ليرى كيف يكون صبرها واحتمالها، وقوة يقينها وإيمانها، فيمنحها من حسن الجزاء على قدر ما تبذل من حسن البلاء، وقد أبلت بلاء لم يبله أحد من قبلها، فلتنتظر الجزاء الأوفى، والمثوبة العظمى، ولتهنأ منذ اليوم بالمستقبل الباهر السعيد.

ص: 258