المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منتخبات من شعر المؤلف - النظرات - جـ ٣

[المنفلوطي]

الفصل: ‌منتخبات من شعر المؤلف

‌منتخبات من شعر المؤلف

وصف القلم:

يا يراعي لولا يد لك عندي

عفتُ نظمي في وصفك الأشعارا

يا يراع الأديب لولاك ما أصـ

ـبح حظ الأديب يشكو العثارا

غير أني أحنو عليك وإن لم

تك عونا في النائبات وجارا

أنت نعم المعين في الدهر لولا

أن للدهر همة لا تجارى

يتجلى في النفس شمس نهار

في دجى الليل تبعث الأنوارا

جمع الله فيه بين نقيضيـ

ـن فكان الظلام منه نهارا

فهو حينا نار تلظى وحينا

جنة الخلد تنثر الأزهارا

ص: 280

وتراه ورقاء1 تندب شجوا

وتراه رقطاء2 تنفث نارا

وتراه مغنيا إن شدا حر

ك بين الجوانح الأوتارا

وتراه مصورا يرسم الحسـ

ـن ويغري برسمه الأبصارا

فتخال القرطاس صفحة خد

وتخال المداد فيه عِذارا

هو جسر تمشي القلوب عليه

لتلاقي بين القلوب قرارا

صامت تسمع العوالم منه

أي صوت يناهض الأقدارا

فهو كالكهرباء غامضة الكنـ

ـه وتبدو بين الورى آثارا

كم أثار اليراع خطبا كمينا

وأمات اليراع خطبا مثارا

1 الورقاء: الحمامة.

2 الرقطاء: الحية الخبيثة.

ص: 281

قطرات من بين شقيه سالت

فأسالت من الدما أنهارا

كان غصنا فصار عودا ولكن

لم يزل بعد يحمل الأثمارا

كان يستمطر السماء فحال الـ

ـأمر فاستمطر العقول الغزارا

يسعد الناس باليراع ويلقى

ربه ذلة به وصغارا

وا شقاء الأديب هل وتر1 الدهـ

ـر فلا زال طالبا منه ثارا

أرفيق المحراث يحيا سعيدا

ورفيق اليراع يقضي افتقارا

ما جنى ذلك الشقاء ولكن

قد أراد القضاء أمرا فصارا

ليس للنسر من جناح إذا لم

يجد النسر في الفضاء مطارا

1 وتره: أصابه بثأر، يقول: كأن الدهر موتور لذلك الأديب، فهو يطالبه بالثأر.

ص: 282

حاسبوه على الذكاء وقالوا

حسبه صيته البعيد فخارا

أوهموه أن الذكاء ثراء

فمضى يسحب الذيول اغترارا

يحسب النقد للقصيدة نقدا

ويرى البيت في القصيدة دارا

ليس بدعا من هائم في خيال

أن يرى كل أصفر دينارا

إن بين المداد والحظ عهدا

وذماما لا يلتوي وجوارا

فاللبيب اللبيب من ودع الطر

س وولى من اليراع فرارا

على لسان عامل فقير:

زاحفتُ أيامي وزاحفنني

دهرا فلم تنكل ولم أنكل1

1 نكل: نكص وجبن.

ص: 283

لا عزمها واه ولا عزمتي

تصادم الجندل بالجندل

رمت فلم تبق على مفصل

لكنها طاشت عن المقتل

وليتها أصمت1 فما أبتغي

من عيشها إن أنا لم أقتل

لا خير في الصبر على غمرة

لا يأمل الصابر أن تنجلي

صبرت في البأساء صبر الذي

قيد إلى القتل فلم يحفل

لا فضل في الصبر لمستسلم

عي عن الفعل فلم يفعل

عشرون عاما لم تحل حالتي

ما أشبه الآخر بالأول

أغدو إلى المعمل في شملة2

خرقاء لم تكس ولم تشمل

1 أصمى الصيد: رماه فقتله.

2 الشملة: نوع من الأكسية.

ص: 284

كأنها برقع مصرية

لا تحجب الوجه عن المجتلي

تنم عن جسمي كما نم عن

نفسي غزير المدمع المرسل

يميل بي الهم مميل النقا

بين جنوب الريح والشمأل

فمن رآني ظن بي نشوة

أجل بكأس الحزن لا السلسل

أقضي نهاري مقبلا مدبرا

كأنني الآلة في المعمل

وصاحب المعمل لا يرتضي

مني بغير الفادح المثقل

فإن شكوت النزر1 من أجره

برح بي شتما ولم يجمل

حتى إذا عدت إلى منزلي

وجدت سوء العيش في المنزل

أرى أيامي يشتكين الطوى

إلى يتامى جوَّع نحَّل

1 النزر: القليل.

ص: 285

أبيت والأجفان في سهدها

كأنما شُدَّت إلى يذبل1

بين صغار سهد في الدجى

يذرون دمع الثاكل المرمل

بين ضعيف الخطو لم يعتمد

وشاخص في المهد لم يحول2

يدعون أما تتلظى أسى

حذار يوم الحادث المثكل

ووالدا عيَّ بإسعافهم

في العيش عي الفارس الأعزل

ما زال ريب الدهر ينتابني

بالمعضل الفادح فالمعضل

حتى رماني بالتي لم تدع

إلا بقايا الروح في هيكل3

فها أنا اليوم طريح الضنى

وليس غير الصبر من معقل

1 جبل معروف.

2 لم يعتمد: أي لم يتكل في مشيه على نفسه، والمحول: الذي بلغ حولا.

3 يريد بها الحمى.

ص: 286

في لفحة الرمضاء لا أتقي

وهبة النكباء لا أصطلي1

هذا هو البؤس فهل من فتى

تم له في البؤس ما تم لي

وقال ينعى على جماعة الفوضويين مذهبهم في قتل الملوك، ويشير إلى حادثة الفوضوي الذي وضع منذ سنوات قنبلة في طريق الفونس الثالث عشر ملك أسبانيا وهو عائد من الكنيسة مع عروسه في يوم حفلة قرانه، فأصابت القنبلة خيل المركبة وقتلت بعض الحاشية، ونجا الملك وعروسه وقبض على الفوضوي فقتل:

أيها الفاتك الأثيم رويدا

كل يوم تكيد للتاج كيدا

لا أرى التاج في البرية إلا

فلكا دائرا وأخذا وردا

يتخطى الرءوس رأسا فرأسا

ماشيا في العصور عهدا فعهدا

1 الرمضاء: شدة الحر، والنكباء: الريح الباردة.

ص: 287

فمحال أن يهدم المرء صرحا

أعجز الدهر بأسه أن يهدا

عبثا تقتل الملوك وعذرا

لك فيهم لو كنت تحمل حقدا

آفة العقل أن يرى الحمد ذما

ويرى الخطة الدنيئة حمدا

لا يبالي بالموت من عرف المو

ت ومن لا يرى من الموت بدا

غير أن الآجال فينا حدود

كل حي تراه يطلب حدا

أي جفن أجريت منه دموعا

كان لولاك في السماكين بعدا

أي روع أسكنته في فؤاد

كان في فادح الحوادث جلدا

ما بكى الفونس خشية بل غراما

ودموع الغرام أشرف قصدا

إن قلب الجبان يخفق رعبا

غير قلب المحب يخفق وجدا

ص: 288

كان بين الحياة والموت شبر

بُدّل النحس في مجاريه سعدا

فرأينا القتيل يعمر قصرا

وغريم القتيل يعمر لحدا

أنت تقضي والله يقضي بعدل

في البرايا والله أكبر أيدا1

جمرة أطفأ القضاء لظاها

فغدا جمرها سلاما وبردا

إن للمالك الكريم قلوبا

وقفت بينه وبينك سدا

فافتدته فكن خير فداء

لمليك وكان نعم المفدى

في الوجديات:

سقاها وحيا تربها وابل القطر

وإن أصبحت قفراء في مهمه قفر

طواها البلى طي الشباب رداءه

وليس لما يطوي الجديدان2 من نشر

1 الأيد: القوة.

2 الجديدان: الليل والنهار.

ص: 289

مرابض آساد ومأوى أراقم

تجاور في قيعانها الغيل بالجحر1

يكاد يضل النجم في عرصاتها2

ويزورّ عن ظلمائها البدر من ذعر

لقد فعلت أيدي السوافي بنؤيها3

وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر

وقفت بها في وحشة الليل وقفة

أثار شجاها كامن الوجد في صدري

ذكرت بها العهد القديم الذي مضى

ولم يبق منه غير بالٍ من الذكر

وعيشا حسبناه من الحسن روضة

كساها الحيا منه أفانين من زهر

فأنشأت أبكي والأسى يتبع الأسى

إلى أن رأيت الصخر يبكي إلى الصخر

وما حيلة المحزون إلا لواعج

تفيض بها الأحشاء أو عبرة تجري

1 الأراقم: الحميات، والغيل: موضع الأسد.

2 العرصات جمع عرصة، وهي ساحة الدار.

3 السوافي: الرياح، والنؤي: الحفير حول الخباء أو الخيمة يمنع السيل.

ص: 290

وما أنس م الأشياء لا أنس ليلة

جلاها الدجى قمراء في ساحة القصر

كأن النجوم في أديم سمائها

سفائن فوضى سابحات على نهر

كأن الثريا في الدجنة طرة1

مرصعة الأطراف باللؤلؤ النثر

كأن سهيلا حاسد كلما رأى

أخا نعمة يرميه بالنظر الشزر2

كأن السها3 حق تعرض باطل

إليه فألقى دونه مسبل الستر

كأن الدجى فحم سرى في سواده

من الفجر نار فاستحال إلى جمر

كأن نسيم الفجر في الجو خاطر

من الشعر يجري في فضاء من الفكر

وفي القصر بين الظل والماء غادة

تميس بلا سكر وتنأى بلا كبر

1 الطرة: الشعر المقدم في الجبهة.

2 سهيل: نجم معروف بشدة الاحمرار والخفقان.

3 السها: نجم ضعيف.

ص: 291

تريك عيونا ناطقات صوامتا

فما شئت من خمر وما شئت من سحر

لهوتُ بها حتى قضى الليل نحبه

وأدرجه المقدار في كفن الفجر

لعمرك ما راحت بلبي صبابة

ولا نازعتني مهجتي سورة1 الخمر

ولا هاجني وجد ولا رسم منزل

عفاء ولكن هكذا سنة الشعر

ومن كان ذا نفس كنفسي قريحة

من الهم لا يُعنى بوصل ولا هجر

كأني ولم أسلخ2 ثلاثين حجة

ولم يجر يوما خاطر الشيب في شعري

أخو مائة يمشي الهوينا كأنه

إذا ما مشى في السهل في جبل وعر

إذا شاب قلب المرء شاب رجاؤه

وشاب هواه وهو في ضحوة العمر

1 سورة الخمر: حدتها.

2 سلخ عامه: أمضاه.

ص: 292

حييت بآمالي قلما كذبنني

قنعت فلم أحفل بقل ولا كثر

وأصبحت لا أرجو سوى الجرعة التي

أذوق إذا ما ذقتها راحة القبر

وليست حياة المرء إلا أمانيا

إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر

جزى الله عني اليأس خيرا فإنه

كفاني ما ألقى من الأمل المر

وراض جماحي للزمان وحكمه

بما شاء من عدل وما شاء من جور

فما أنا إن ساء الزمان بساخط

ولا أنا إن سر الزمان بمغتر

وقال في شأن غني من الأغنياء غلبته المدنية الحديثة على بساطته الطبيعية، فابتنى قصرا فخما كان سببا في فساد حاله، وسوء مصيره:

يا صاحب القصر الذي شاده

فاستنفد المذخور من وجده1

أقمته كالطود في هضبة

ترد عادي الدهر عن قصده

1 الوجد: الغنى والسعة.

ص: 293

أزرته الأبراج في جوها

فانتظم الأنجم في عقده

أطلعت فيه كوكبا دانيا

أغنى عن الشاسع في بعده

قلصت ظل الليل عنه وما

رعيت حق الله في مده

أنشأت روضا زاهرا حوله

يعطر الكون شذا نده

ورحت بالرتبة في صدره

تدل دل الملك في جنده

كأنما الرتبة كل الذي

ينيله الكوكب من سعده

هب أنه اللوفر1 في حسنه

أو قصر بوكنهام2 في جده

وهبك روكفيلر3 تحوي الذي

يضلل الحاسب في عده

فالمال إن أجهده ربه

فالفقر والعدم مدى جهده

1 اللوفر: قصر في باريس.

2 قصر في لندن.

3 أحد الأغنياء في أمريكا.

ص: 294

والمال كالطائر إن هوّمت

حراسه طار إلى فنده1

والمجد للمال وكل الذي

تراه من مجد فمن مجده

هذا شهاب ساطع مشرق

والليلة الليلاء من بعده

بنيت للبنك فأغنيته

بجدك المبذول عن جده

بنيت ما لو قدَروا قدرَه

لقيل هذا الميت في لحده

وأدتَ فيه الأمل المرتجى

حيا ولم تأس على وأده

أغمدت فيه صارما طالما

تثلم الدهر على حده

واريتَ فيه ولدا ليته

قضى قرير العين في مهده

1 هوم: هز رأسه من النعاس، والفند: الجبل.

ص: 295

وليته ما شب في زخرف

يبكي يد الدهر على رغده

فليس من يأسى على مطلب

ناء كمن يأسى على فقده

غدرت بالبيت الذي بثك الـ

ـود فلم تبق على وده

هدمته والمجد ظل له

فما بقاء الظل من بعده

لكنت من كوخك في نعمة

تذيب قلب الدهر من حقده

وكان ينتابك مسترفدا

من بت محتاجا إلى رفده

فاليوم لا القصر كما ترتجي

منه ولا الكوخ على عهده

واليوم رب القصر يذري دما

من جفنه آنا ومن كبده

يدعو إليه الموت من بعد ما

نالت يد الأيام من أيده

ص: 296

واسود ذاك الجون من جلده

وابيض ذاك الجون من فوده1

هل يعلم الشرقي أن الردى

سر بصدر الدهر لم يبده

وأنه يفجؤنا بالأسى

يوما خروج السيف من غمده

وأن هذا الدهر في هزله

يغر بالكاذب من وعده

فهزله أنفذ من جده

ورهوه أسرع من وخده2

ويح لمصر ولأبنائها

مما يريغ3 الدهر من كده

نعيش بالهم ونرضى به

عيشا ونقضي العمر في نقده

كشارب الكأس يرى عابسا

منه ولا يقوى على رده

1 الجون: وصف للأبيض والأسود، والفود: ناحية الرأس.

2 الرهو: السير السهل، والوخد: السير السريع.

3 يريغ: يريد.

ص: 297

فإن لمحنا بارقا خاطفا

لا نسمع القاصف من رعده

نسرع خوض البحر في جزره

وجزره ينبئ عن مده

والكل ظمآن يرى صادرا

وما قضى الإربة من ورده

وقال في الحكم:

إذا ما سفيه نالني منه نائل

من الذم لم يحرج بموقفه صدري

أعود إلى نفسي فإن كان صادقا

عتبت على نفسي وأصلحت من أمري

وإلا فما ذنبي إلى الناس إن طغى

هواها فما ترضى بخير ولا شر

وقال يهنئ الشيخ محمد عبده بعودته من إحدى رحلاته في أوروبا:

راح يباري النجم في جده

وعاد كالسيف إلى غمده

رأى السرى والسهد مهر العلا

فجد وارتاح إلى سهده

ص: 298

لا يبصر الخطب جليلا ولا

تلوي به الأهوال عن قصده

مسدد العزم إذا ما مضى

يحار صرف الدهر في رده

كالسيف يجلوه القراع1 ولا

يأخذ ضرب الهام من حده

كان لمصر بعد توديعه

صبابة الصادي إلى ورده

واليوم قد عاد لها كل ما

ترجو من النعمة في عوده

وافترّ عنه ثغرها مثلما

يفتر ثغر الروض عن ورده

بدا وقد حفت به هيبة

كأنما عثمان في برده

ما فيه من عيب سوى أنه

يحسده الناس على مجده

ما حيلة الحساد في نعمة

أسبغها الله على عبده

1 القراع: الضراب.

ص: 299

وقال في حادثة عربية وقعت بين أسماء بنت أبي بكر الصديق وولدها أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير حينما حاصره الحجاج في مكة حتى أحرجه، ثم عرض عليه التسليم فاستشار أمه، فأشارت عليه بالاستقتال، فقاتل حتى قتل:

إن أسماء في الورى خير أنثى

صنعت في الوداع خير صنيع

جاءها ابن الزبير يسحب درعا

تحت درع منسوجة من نجيع1

قال يا أم قد عييتُ بأمري

بين أسر مر وقتل فظيع

خانني الصحب والزمان فما لي

صاحب غير سيفي المطبوع

وأرى نجمي الذي لاح قبلا

غاب غني ولم يعد لطلوع

بذل القوم لي الأمان فما لي

غيره إن قبلتُه من شفيع

فأجابت والجفن قفر كأن لم

يك من قبل موطنا للدموع

1 النجيع: الدم.

ص: 300

واستحالت تلك الدموع بخارا

صاعدا من فؤادها المصدوع

لا تسلم إلا الحياة وإلا

هيكلا شأنه وشأن الجذوع

إن موتا في ساحة الحرب خير

لك من عيش ذلة وخضوع

إن يكن قد أضاعك الناس فاصبر

وتثبت فالله غير مضيع

مت هماما كما حييت هماما

واحي في ذكرك المجيد الرفيع

ليس بين الحياة والموت إلا

كرة في سواد تلك الجموع

ثم قامت تضمه لوداع

هائل ليس بعده من رجوع

لمست درعه فقالت لعهدي

بك يابن الزبير غير جزوع

إن بأس القضاء في الناس بأس

لا يبالي ببأس تلك الدروع

ص: 301

فنضاها عنه وفرّ إلى المو

ت بدرع من الفخار منيع

وأتى أمه النعي فجادت

بعد لأي بدمعها الممنوع

وقال في الشيب:

ضحكات الشيب في الشعر

لم تدع في العيش من وطر

هن رسل الموت سانحة

قبله والموت في الأثر

يا بياض الشيب ما صنعت

يدك العسراء بالطرر

أنت ليل الحادثات وإن

كنت نور الصبح في النظر

ليت سوداء الشباب مضت

بسواد القلب والبصر

فالصبا كل الحياة فإن

مر مرت غبطة العمر

وقال على سبيل الفكاهة في شأن كلب اسمه "بيل" وفي لسيده، فطوقه طوقا من الذهب وأوصى له بخمسة آلاف دينار:

ص: 302

ليهنك يا "بيل" الجلال وعزة

يكاد لها القلب الكسير يطير

ملكت على الزهد الألوف وكلنا

إلى قطرة مما ملكت فقير

إذا كان هذا الطوق كالتاج قيمة

فأنت بألقاب الملوك جدير

وما المال إلا آية الجاه في الورى

فحيث تراه فالمقام خطير

ولو كان بين الجاه والفضل لحمة

لزالت عروش جمة وقصور

فيا بيل لا تجزع فرب متوج

شبيهك إلا منبر وسرير

وما أنت في جهل المقادير آية

فمثلك بين الناطقين كثير

لئن فاتك النطق الفصيح كما ترى

فسهمك من نطق الفؤاد وفير

وفيت بعهد للصديق وما وفى

بعهد صديق جرول1 وجرير

1 جرول: لقب الحطيئة الشاعر، وجرير شاعر معروف.

ص: 303

فعش صامتا واقنع بحظك واغتبط

فما النطق إلا آفة وشرور

ضلال يرى الإنسان فضلا لنفسه

وساعده في المكرمات قصير

وما المرء إلا صدقه ووفاؤه

وكل كبير بعد ذاك صغير

وماذا يفيد المرء حسن بيانه

إذا عيّ بالنطق الفصيح ضمير

مدحتك يا بيل لأني شاعر

وأنت على حسن الجزاء قدير

ولو كنت تدري ما أقول لقمت لي

بما لم يقم للمادحين أمير

ص: 304

في الوجديات:

جرى الدمع حتى ليس في الجفن مدمع

وقاسيت حتى ليس في الصبر مطمع

وما أنا من يبكي ولكنه الهوى

يريد من الأسد الخضوع فتخضع

فلله قلبي ما أجل اصطباره

وأثبته والسيف بالسيف يقرع

ولله قلبي ما أقل احتماله

إذا ما نأى عنه الحبيب المودع

إذا لاح لي سيف من الخطب رعتهُ

وإن لاح لي سيف من اللحظ أجزع

وأقتاد ليث الغاب والليث مخدر

ويقتادني الظبي الغرير فأتبع

وليل أضل الفجر فيه طريقه

فلم يدر لما ضل من أين يطلع

ص: 305

سهرتُ به أرعى الكواكب والكرى

عصي على الأجفان والدمع طيِّع

أود لو ان الطيف مَنَّ بزورة

وكيف يزور الطيف من ليس يهجع

لقد عشت دهرا ناعم البال خاليا

من الهم لا أشكو ولا أتوجع

أروح ولي في معهد الغي مربع

وأغدو ولي في مسرح اللهو مرتع

فما زلت أبغي الحب حتى وجدته

فلما أردت القرب كان التمنع

فلم يبق لي عن ذلك الحب مهرب

ولم يبق لي في ذلك القرب مطمع

كأني في جو الصبابة ريشة

بأيدي السوافي ما لها الدهر موقع

كأني في بحر الهيام سفينة

أحاط بها موج الردى المتدفع

ص: 306

كأني في بيداء دهماء مجهل

تضل رخاء في دجاها وزعزع

فلا أنا فيها واجد من يدلني

ولا نجمها يبدو ولا البرق يلمع

فمهلا رويدا أيها اللائم الذي

يجرعني في لومه ما يجرع

نصحت فلم أسمع وقلت فلم أطع

فما نصح حب لا يطيع ويسمع

فيا حب هذا القول لو كان مجديا

ويا نعم ذاك النصح لو كان ينفع

قضى الله ألا رأى في الحب لامرئ

وذاك قضاء نافذ ليس يدفع

مررت على الدار التي خف أهلها

وطال بلاها فهي قفراء بلقع

معاهد كانت آهلات وكان لي

مصيف تقضَّى في رباها ومربع

ص: 307

فيا ليت شعري هل يعودنَّ عيشنا

بمعهدها والشمل بالشمل يجمع

فتُقضى لُبانات وتطفى لواعج

وتبرد أكباد وتنضب أدمع

فما أنس م الأشياء لا أنس ليلة

تجشمت فيها الهول والهول مفزع

ولا مؤنس إلا ظلام ووحدة

ولا مسعد إلا فؤاد مروع

ولا صاحب إلا المطية حولها

ذئاب تعادي في الفلاة وأضبع

ولا عين إلا النجم ينظر باهتا

ويعجب لي ماذا بنفسي أصنع

إذا ما تشكت من كلال مطيتي

وقد كلمتها ألسن السوط تسرع

أسير بها سير السحاب كأنني

بأذرعها عرض الفدافد أذرع

ص: 308

إلى أن تنورت الخيام ولاح لي

ضياء بدا من جانب الخدر يسطع

فأقدمت نحو الحي والحي هاجع

وخضت سواد القوم والقوم صرع

ولا عهد لي من قبل أين خباؤها

ولكن هداني نشرها المتضوع

فبت وباتت يعلم الله لم يكن

سوى أذن تصغي وعين تمتع

نخال دوي الريح في الجو واشيا

بنا وضياء البرق عينا فنفزع

ولا عين إلا خوفنا وارتياعنا

ولا ناظر يرنو ولا أذن تسمع

وأعذب ورد راقٍ ما كان نيله

عزيزا وأحلى القرب قرب ممنع

فكانت برغم الدهر أحسن ليلة

رأيت بعمري بل هي العمر أجمع

ص: 309

وما راعنا إلا هدير حمامة

على فنن عند الصباح ترجِّع

فقمت ولم تعلق بذيلي ريبة

ولا كان إلا ما يشاء الترفع

وودعتها والحزن يغلب صبرنا

وأحشاؤنا من حسرة تتقطع

فقالت أهذا آخر العهد بيننا

وهل لتلاقينا معاد ومرجع

فقلت ثقي يا فوز بالله إنها

"سحابة صيف عن قليل تقشع"

وسرتُ وقلبي في الخيام مخلَّفٌ

ولي نحو قلبي والخيام تطلُّع

حنانيك رفقا أيها الدهر واتئد

فحسبي ما ألقى وما أتجرع

ورحماك بي فالسيل قد بلغ الزبى

ولم يبق في قوس التصبر منزع

ص: 310

على أنني أصبحت لا متخوفا

بلاء ولا إن نالني الرزء أجزع

فقد اعتصمت بالصبر نفسي وفوضت

إلى الله ما يعطي الزمان ويمنع

ص: 311

بول وفرجيني:

يا بني القفر سلاما عاطرا

من بني الدنيا عليكم وثناء

وسقى العارض من أكواخكم

معهد الصدق ومهد الأتقياء

كنتم خير بني الدنيا ومن

سعدوا فيها وماتوا سعداء

عشتم من فقركم في غبطة

ومن القلة في عيش رخاء

لا خصام لا مراء بينكم

لا خداع لا نفاق لا رياء

خلق بر وقلب طاهر

مثل كأس الخمر معنى وصفاء

ص: 312

ووفاء ثبت الحب به

وثبات الحب في الناس الوفاء

أصبحت قصتكم معتبرا

في البرايا وعزاء البؤساء

يجتلي الناظر فيها حكمة

لم يسطرها يراع الحكماء

حكم لم تقرءوا في كتبها

غير أن طالعتمو صحف الفضاء

وكتاب الكون فيه صحف

يقرأ الحكمة فيها العقلاء

إن عيش المرء في وحدته

خير عيش كافل خير هناء

فالورى شر وهمّ دائم

وشقاء لا يدانيه شقاء

ص: 313

وفقير لغني حاسد

وغني يستذل الفقراء

وقوي لضعيف ظالم

وضعيف من قوي في عناء

في فضاء الأرض منأى عنهم

ونجاء منهم أي نجاء

إن عيش المرء فيهم ذلة

وحياة الذل والموت سواء

ليت "فرجيني" أطاعت "بولسا"

وأنالته مناه في البقاء

ورثت للأدمع اللاتي جرت

من عيون ما درت كيف البكاء

لم يكن من رأيها فرقته

ساعة لكنه رأى القضاء

فارقته لم تكن عالمة

أن يوم الملتقى يوم اللقاء

ص: 314

ما "لفرجيني" وباريس أما

كان في القفر عن الدنيا غناء

إن هذا المال كأس مزجت

قطرة الخمرة فيه بدماء

لا ينال المرء منه جرعة

لم يكن في طيها داء عياء

عرضوا المجد عليها باهرا

يدهش الألباب حسنا ورُواء

وأروها زخرف الدنيا وما

راق فيها من نعيم وثراء

فأبته وأبى الحب لها

نقض ما أبرمه عهد الإخاء

ودعاها الشوق للقفر وما

ضم من خير إليه وهناء

فغدت أهواؤها طائرة

بجناح الشوق يزجيها الرجاء

ص: 315

يأمل الإنسان ما يأمله

وقضاء الله في الكون وراء

ما لهذا الجو أمسى قاتما

ينذر الناس بويل وبلاء

ما لهذا البحر أضحى مائجا

كبناء شامخ فوق بناء

وكأن الفلك في أمواجه

ريشة تحملها كف الهواء

ولفرجيني يد مبسوطة

بدعاء حين لا يجدي دعاء

لهفي والماء يطفو فوقه

هيكل الحسن وتمثال الضياء

زهرة في الروض كانت غضة

تملأ الدنيا جمالا وبهاء

ص: 316

من يراها لا يراها خلقت

مثل خلق الناس من طين وماء

ظنت البحر سماء فهوت

لتباري فيه أملاك السماء

هكذا الدنيا وهذا منتهى

كل حي ما لحي من بقاء

ص: 317