المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثامن رتشارد ب بلاكمور وثمن الجهد المبذول في النقد بلاكمور ناقد ينزع - النقد الأدبي ومدارسه الحديثة - جـ ٢

[ستانلي هايمن]

الفصل: ‌ ‌الفصل الثامن رتشارد ب بلاكمور وثمن الجهد المبذول في النقد بلاكمور ناقد ينزع

‌الفصل الثامن

رتشارد ب بلاكمور

وثمن الجهد المبذول في النقد

بلاكمور ناقد ينزع إلى أن يسلط على كل أثر أدبي ما يتطلبه من وسائل نقدية خاصة، حتى كاد أن يستغل، في الحين بعد الحين، كل ما وصفناه من مناهج نقدية في هذا الكتاب، ولذلك كان من العسير علينا ان نخصص له " نهجاً " مفرداً يتميز به دون سواه. على انه وان لم يتميز بأسلوب نقدي متفرد، فأن لديه مسلكاً عقلياً متفرداً، اعني قدرته على البحث المضني الذي لابد منه للنقد المعاصر، وقد نعد هذا الاكباب الجاهد في التقصي أكبر إسهام يشارك به بلاكمور في ذلك الميدان. ولقد قال مرة في فصل من كتابه " مزدوجات " The Double Agent: إن من يقرأ شعر بوند فلابد له من ان يعرف " الإشارات الكلاسيكية والتاريخية "، ولابد لمن يقرأ اليوت من التعرف إلى " الأفكار والمعتقدات ونظم المشاعر " التي إليها يلمح ويمي، أما من شاء أن يقرأ ولاس ستيفنز " فانه محتاج إلى المعجم فحسب ". وإذا أخذت هذا القول على وجهه الحرفي وطبقته على بلاكمور وجدته يتعلم التاريخ ليفهم شعر بوند

ص: 9

ويدرس اللاهوت ليقرأ اليوت، ويلازم المعجم وهو يقرأ ستيفنز.

وللكلمات عند بلاكمور أهمية خاصة، فهو الناقد الوحيد من بين النقاد الأحياء الذي لا يتردد في أن يسمي القاموس " صرح الكشوف الوثابة " وهو في الوقت نفسه الناقد الوحيد بين النقاد الأحياء الذي لا يتردد في أن يقول ما قاله عن منزلة الكلمات في الفصل الذي كتبه عن ملفل في كتابه " ثمن العظمة " The Expense of Greatness؛ هنالك قال بلاكمور:

" لابد من أن تكون الكلمات وطرق ترتيبها وتواشجها هي المصدر الأكبر المباشر لكل ما تضمنه الفنون المكتوبة أو المحكية من تأثير؛ فالكلمات هي التي تلد المعاني، والمعاني محمولة فيها قبل أن تبدأ آلام المخاض. واستعمال الكلمات عند الفنان يمثل مغامرة في سبيل الكشف؛ والخيال وثاب وهو يجوس بين الكلمات التي يمارسها؟ غير أن المغامرة في حقيقة الكلمات تسعفنا على شيء ابعد من حقيقتها بمعنى إننا نستطيع من خلالها أن نميز صور حقيقتها الموقفة من صورها الأخرى المخفقة، ونستطيع أن نقيس أنواع الحقيقة التي حاولناها ومدى قوتها، بل نستطيع أن نحدس، على وجه ما، أحوال العرف والمعتقد الضروريين لإيجادها وانبثاقها.

وملفل مثل بارع على مثل هذه التجربة. إذ ليس علينا عند قراءته إلا ان نصل بين حقيقة اللغة التي أشرنا إليها وبين القول المفترض المقدر - أن نصل بينهما وصل مبدأ بفكرة - لنرى من أين جاءت القوة للثاني. وليس علينا إلا أن نصل بين مبدأ اللغة وبين قرائن العرف التي قد تعدل منها بزيادة أو نقص لنفهم كيف وفق ملفل حيث وفق، أو لنعتذر عن تقصيره وقفزاته في محاولاته ليقبض على ناصية الحقيقة العظيمة

ص: 10

المستديمة التي تقدمها الكلمات العظيمة، وما ذلك إلا لأن ملفل قد تعود أن يستعمل الكلمات على نحو عظيم ".

ومن نتيجة هذا الانتحاء الشديد نحو الكلمات أصبح قسط كبير من بحث بلاكمور لفظياً. حتى انه لما أخذ يدرس كمنجز، مثلا، أعلن أن غايته إنما هي دراسة لغة كمنجز ليتخذ منها هادياً يهديه إلى " نوع المعنى الذي يؤديه استعماله للكلمات "، ومضى في هذا السبيل فجمع قائمة بالكلمات التي يكثر ترددها عند كمجنز، ولحظ أن كلمة " زهرة " من بينها أحبها إلى نفسه، وعد المواطن التي وردت فيها هذه الكلمة، ونبه إلى تعدد القرائن التي تستعمل فيها، واستنتج أن كلمة (زهرة " هي الكلمة المسيطرة على نفس كمنجز وخياله. ومن هذا التحليل اللغوي وغيره حدد طبيعة شعر كمنجز وأسهب في تبيان شأنه وقيمته.

أما تحليله لشعر ولاس ستيفنز في كتابه " مزدوجات " فإنه يبدؤه بعد الكلمات النادرة أو " الثمينة " الغالية التي يكثر منها، ثم يذهب إلى المعجم فيستخرج منه معانيها (مثلا: أسيان: معناها حزين أو مبتئس وهي مشتقة من أسي وهكذا) . ثم يقرأ الكلمات حسب وقوعها في قرائنها، ويخرج من كل ذلك بتفسير للقصيدة وبنظرية عن طبيعة فن ستيفنز. وفي الكتاب نفسه يحاول أن يفسر جملة معترضة غامضة لهارت كرين، وفي الكتاب نفسه يحاول أن يفسر جملة معترضة غامضة لهارت كرين، فيفزع إلى القاموس، ويعجز عن أن يجد لها معنى مقنعاً، ويقرر أن الشاعر لو استعمل العكس لأصاب، ومع ذلك فإنه ينتهي من ذلك إلى نظرية عن النقص في تركيب الجمل وعن الكلمات الطائشة غير المحددة التي تسبب إخفاق كرين، وإخفاقه هو في فهمه.

ويمضي بلاكمور في هذا الاستقصاء اللفظي في كتابه " ثمن العظمة " حتى أنه حين يتحدث هنالك عن إملي ديكنسون يعلن أن عبقريتها تتجلى " في الكلمات التي تستعملها وفي الطريقة التي تضع فيها الكلمات "

ص: 11

ويستمر قائلا بعد أن يقتبس إحدى عباراتها " دعنا نتساءل باحثين: ما الذي في الكلمات يصنع شعراً من مجموعها " ثم يذهب في تحليلات لغوية مستفيضة، فيعد المرات التي استعملت فيها لفظة " فسفور " وقرائنها، ويتتبع المصادر التي استمدت منها ألفاظها، ومن تلك المصادر أساطير الفروسية وشيكسبير وسكوت والتوراة والأناشيد الدينية وغيرها، ويحلل موارد التشبيهات والاستعارات في فقرة فذة (ومنها خياطة الملابس والقانون، والأحجار الكريمة والحرب الأهلية والتجارة البحرية والجغرافيا واللاهوت التجريدي؟ الخ) وأخيراً يتتبع مختلف الاستعمالات التي ترد فيها اثنتان من أحب الكلمات إليها وهما: " قطيفة " و " أرجوان "(وفي تحليله اللفظة الثانية كشف عن جهله بأن الرومان كانوا يستعملون كلمة " أرجوان " للدلالة على النبل والشرف) . ولما راجع شعر لورا رايدنغ لحظ كيف تسيطر عليها الكلمات المنفية المسلوبة (غير محب، غير ناعم، لا حياة؟) حتى أن بعض الصفحات لتحوي خمس عشرة صورة من صور السلب، وإذن فأن " الآنسة رايدنغ هي ربة النفي التي تضع في قبضتها: ليس ولا وغير ولم ولن؟ ".

وقد يقول من يسمع هذه الأمثلة: كل ناقد يقوم يبحث مشبه لهذا، فينقب في المعجم عن معاني الكلمات الغريبة، ويحسب تردد الكلمات والقرائن، وإن بلاكمور لم يزد على أن صرح بهذا العمل وأعلنه في نقده على نحو مفضوح بينما غيره يخفيه ولا يعلنه. وهذا حق إلى حد قليل جداً. بل إذا نظرنا إلى ما حققه بلاكمور قلنا أن هذا القول ليس حقاً أبداً، ولو كان حقاً لكان ذلك خيراً للنقد وأبقى. ذلك لأن بلاكمور متفرد بين النقاد في اعتقاده أن الشاعر لا يلقي للقارئ الجاد - أو للناقد - إلا ما هو معقول وأنه غير مشتط أبداً مهما كلفه في البحث عن المعاني التي يضمنها شعره فإذا كان الناقد لا يعرف فليذهب إلى حيث يجد المعرفة

ص: 12

وليحاول دائماً أن يتعلم. كل شيء تستطيع أن تفهمه بعون من الأضواء الخارجية، وقلما تجد شيئاً لا تستطيع أن تسلط عليه تلك الأضواء، ولذلك يكثر بلاكمور من لفظتي " مسئولية " و " ثمن "(ثمن الاستشهاد، ثمن العظمة) مؤكداً ما يجب أن يبذله المرء من جهد وما يدفعه من ثمن. ولقد حدد في إحدى مقالاته كيف يكفل الكاتب لما يكتبه أقصى حدود المسئولية، وحدد جهد النقد مستعيراً تشبيهات من أحوال الكد البدني، فقال في ذلك المقال الذي أختار له هذا العنوان الساخر:" مضجع دمث للنقاد "؟ قال:

" على الكاتب أن يقدر أنه يؤدي أشد الأعمال النقدية مشقة وعسراً، مما يقع في حيز استطاعته، فكأنه يحاول أن يبقي نفسه في موقف المنذعر، كأنه يقف موقف من ستستطيره الشياطين؛ كأنه لن يتعود أبداً على تصريف قواه التخيلية وموارده الشعورية، ولا يحب في الوقت نفسه أن يهبط من قيمتها، ومع ذلك فعليه وهو في هذه الحال من التوقف المعلق أن يحكم ويحسم في حقيقة المهمة الموكولة إليه. بهذا المعنى يكون إنشاء قصيدة عظيمة عملا من النقد الصارم، وقراءتها عملا آخر مقارباً لذلك، وبهذا المعنى أيضاً يسمى العمل النقدي عملا خلاقاً، ويكون توسيعاً لمدى المشاركة سواء أقام به الشاعر أو الناقد أو القارئ الجاد، وعندئذ يكون جهد النقد هو ثمن العظمة، ويكون الربح في معنى الاضطلاع الذي قام به الفرد في كل أدوار هذا الجهد ".

وأكثر النقاد في أيامنا هذه يعتقدون أن حسهم النقدي ومعرفتهم أمران متساويان، فهم يقرأون القصيدة قراءة مجهدة ولكنهم لا يعتقدون أن القصيدة تتطلب منهم أن يقرأوا ما عداها، فإذا شئنا أن نقدر قيمة ما يضطلع به بلاكمور ومدى تفرده فيه فما علينا إلا أن نقارن بين جهده في نقد بعض الآثار الأدبية التي تتطلب المعرفة الواسعة وبين جهود الناقدين

ص: 13

الآخرين. وحينئذ نجد أنه لا يدانيه أحد في التحليل اللغوي، ولقد كتبت - مثلا، مقالات لا تحصى عن كمنجز ولكن أحداً ولكن أحداً سواه لم يعن نفسه أمر حصر معجمه. ودع هذا وقارن ما كتبه بلاكمور عن عزرا بوند في كتابه " مزدوجات " بما كتبه ألان تيت في " مقالات محافظة في الشعر والأفكار " Reactionary Essays on Poetry and Ideas وكلا المقالين كان مراجعتين لأناشيد بوند، نشر الأول منهما في " الكلب والنقير " ونشر الثاني في " الأمة " Nation.

ويبدأ تيت مقاله بالحديث عن الجهل وقفة الاكتراث، ثم قال في أول جملة له بعد الاقتباس:" المرء لا يعرف من هو هذا المسمى سير لورنتيوس، ولا يقطع بأن معرفته به أو جهله له سيان. غير أن المرء يرتاح إلى ما يتميز به علم بوند الغريب الغامض من سعة وأنفساح، وهو علم لا يكاد ينهض به رجل واحد. وإذا قرأ الواحد منا آثاره ظل غير واثق من المسافة والزمن والتاريخ ".

ويمضي بعد ذلك تيت ليكشف عن " سر الشكل الشعري " لدى بوند فيبدو له أنه ليس إلا " محادثة " وأن الأناشيد ليست إلا حديثاً طائشاً مشتتاً، وهذا هو ما تدور عليه تلك القصائد. حتى إذا أفضى تيت بهذه الجامعة من جوامع كلمه، ذهب يحلل النشيد الأول، وحين مر به قول بوند " المكان الذي سبق أن ذكرته كركه الساحرة " علق عليه بقوله:" أي مكان كان " وأخيراً أدى ما لا يعد دراسة بحال، وأصدر بياناً يعلن فيه إلى الحاجة إلى الدراسة فقال:" ولا ريب في أن الأناشيد الثلاثين تكفي لتشغل وقت المرء في دراسة جميلة لا تنقطع - فإذا عينا سنة لكل نشيد فمعنى ذلك أن يستغرق المرء في دراستها ثلاثين عاماً، وأن يقرأ الثلاثين كلها في بضعة أسابيع من أجل نغمتها ". وفي هذا بلغ النقد منتهى التخاذل.

ص: 14

أما بلاكمور فإن مراجعته للأناشيد كانت على النقيض من هذا تماماً. فقد قرر أولا أن الشعر في الأناشيد ليس إلا حجاباً يسميه بوند: " Persona "، فهو يذهب إلى جذور هذه الكلمة اللاتينية، ثم ينفق اثنتي عشرة صفحة في دراسة أثرين كاملين من آثار بوند هما " هيو سلوين موبرلي " و " مراسيم الطاعة لسكستوس بروبرتيوس " ويتخذ منهما مفتاحين للأناشيد، ويحلل القصيدة الأولى بشيء من الاسهاب، ويترجم بيتاً اقتبسه بوند عن الإغريقية، ويفسر ما فيه من إشارات إلى كابانيوس الملحد الذي رماه جوبتر بالصاعقة، ويحشد العبارات التي أخذها بوند من الشاعر اللاتيني بروبرتيوس (19 ق. م) وأدرجها في القصيدة الثانية، ويقارن بين النص اللاتيني وترجمة بوند، وبين ترجمة بوند وترجمة بتلر الحرفية التي نشرتها مكتبة لوب، مقارنة مسهبة بعض الشيء. ثم ينفق اثنتي عشرة صفحة أخرى في تلخيص الموضوعات الكبرى التي احتوتها الأناشيد، ويقول في أثناء ذلك:

" إما أن يكتفي القارئ بقراءة الأناشيد نفسها، كأنها شيء مسترسل يوضح نفسه بنفسه، وإما أن يفتش عن المادة التي استغلها بوند نفسه أو عما يستطيع استكشافه منها؟ غير أن الفكر الحي النشيط لا يقف دائماً عند حدود الظن، مهما يكن الظن مقنعاً، أن كان في مقدوره ان يحصل على اليقين ".

ويعني هذا أن بلاكمور حين فسر الإشارات الواردة في الأناشيد عن عائلة مالاتستا، اطلع على أربعة كتب عن تلك العائلة وقرأها، وكانت ثلاثة منها بالإيطالية، والرابع منها لم ينشر بعد. وأخيراً يأخذ في تفسير القصائد وتقويمها بعد هذا التحليل الشامل المستوفي.

وهذا خير مثل على ما يتمتع به منهج بلاكمور من قوة إذا قارناه بجهل أكثر النقاد المعاصرين وضحالتهم وتراخيهم وتكاسلهم، وإذا كان

ص: 15

تيت مظلوماً في هذه المقارنة، فما ذلك إلا لأننا أفردناه بالذكر دون سائر الناقدين، ولكن تيت ليس بدعاً بينهم بل من الممكن ان تنسحي هذه المقارنة على كثيرين سواه. ولقد يستطيع المرء أن يقارن الفصل الذي كتبه بلاكمور عن الشاعر ييتس في كتابه " ثمن العظمة " بما كتبه بورا عن الشاعر نفسه - بتذوق وإدراك - في كتابه " ميراث الرمزية "، The Heritage. كلا الناقدين حلل " العودة الثانية " غلا أن دراسة بلاكمور للمبنى الصوفي القائم وراء تلك القصيدة، بالاعتماد على كتاب " الرؤيا " ليتس وعلى غيره من الكتب، لتمنح دراسة بلاكمور متسعاً من الفهم والإدراك يفتقر إليه بورا الذي كان يجهل ذلك المبنى الصوفي ولا يكترث بالبحث عنه. أو قد نقارن بين ما كتبه بلاكمور عن ت. إ. لورنس في كتابه " ثمن العظمة " وبين المراجعات التي نشرها مارك فان دورن في مجلة " الامة " ثم ضمنها كتابه " القارئ لنفسه ". وهذه مقارنة عادلة لان فان دورن يلح على ان لا يعرف الناقد شيئاً وأن يكتفي بقول اقل القليل. وكل ما قاله فان دورن عن لورنس انه " معقد إلى درجة المستحيل، وإلى حد لا يطاق " وانه قد يفسر ذات يوم. أما بلاكمور فأنه جلس في هدوء يحاول أن يفسره، فدرس في أثناء ذلك رسائله بعناية وذهب إلى مكتبة الكونغرس في واشنطن ليقرأ النسخة الوحيدة من كتاب آخر للورنس عنوانه:" دار الضرب " The Mint، وهو الكتاب الثاني المسموح به في أمريكة وعندما استعمل هذا الكتاب ورسائل لورنس أدى المهمة التي أحجم عنها فأن دورن وهي كشف معنى ما (أن لم نقل كشف المعنى) في " أعمدة الحكمة السبعة) .

بل أننا أحياناً لا تحتاج إلى استجلاب هذه المقارنة بين بلاكمور وغيره من النقاد، لأنه هو نفسه أحياناً يثيرها. فمثلا: عندما تحدث عن قصيدة " أربعاء الرماد " لاليوت في كتابه " مزدوجات " عنف ناقداً

ص: 16

ذكياً مثل ادموند ولسن (ومن مواطن الضعف في بلاكمور شدة مجاملته لزملائه) لأنه نقد القصيدة وهو يجهل مدلوها المسيحي، فاخطأ في قراءتها حين رأى فيها مثاراً للضعف لا للقوة. ولذلك فسر بلاكمور المعنى لالديني لذلك اليوم المسمى " أربعاء الرماد " ومبدأ نكران الذات والاتضاع في المسيحية، والتعاليم المسيحية في العبارة التي اقتبسها اليوت من دانتي، وهلم جرا؛ وكلها أمور لا غنى عنها لفهم القصيدة. فإما إن بلاكمور كان يعرف هذه الأشياء وإما انه كان يجهلها فبحث عنها حتى عرفها؛ أما ولسن فلم يكن يعرفها، ولم يكلف نفسه البحث عنها. ووجد بلاكمور لقاء الجهد المبذول، وجد قراءة دقيقة رصينة ركينة، وجد لقاء ما اضطلع به وهو يؤدي واجبه، وبذلك تجنب الخطأ الجاهل الذي اختاره ولسن. وهذا هو ما يحرزه بلاكمور غالباً فيما يبذله من جهد، وهو كفاء بالكلف التي يقدمها. ولقد يفيد النقاد أمثال تيت وبورا (بورا في هذا الموقف فحسب) وفان دورن وولسن إذا هم تفكروا ليلا في أسطورة النملة والجندب.

2

- إن بلاكمور، مثل اليوت، لم يؤلف كتباً في النقد وإنما نشر عدداً من المقالات والمراجعات، ثم ضم اثنتي عشرة منها في كتابه " مزدوجات " 1935، وجمع ثلاث عشرة أخرى في " ثمن العظمة " 1940، ومنذ ذلك الحين نشر من المقالات والمراجعات ما لا يقل عن اثنتي عشرة أيضاً، ولذلك فقد يسعفنا الحظ بكتاب ثالث له. وقد قضى بلاكمور عدداً من السنوات وهو يعمل في إنجاز سيرة نقدية عن هنري آدمز، ومنها نتف ظهرت في المجلات؛ وأعلن مرة أنه يعد دراسة عن هنري جيمس، وليس له سوى ما تقدم إلا ثلاثة دواوين شعرية

ص: 17

وعديد من " الكراسات " الصغيرة ذات القيمة المؤقتة العارضة. وحتى يصدر كتابه عن آدمز وكتابه عن جيمس ومجموعة ثالثة من مقالاته يظل كتاب " مزدوجات " خير مثل يستحق منا القول المفصل.

ومفتاح هذا الكتاب في عنوانه الفرعي: " مقالات في البيان والتبيان " ولعل بلاكمور ان يكون أدق قارئ متفرد في النقد الأمريكي وإذا علق على قصيدة فلا يبذه في ذلك إلا وليم امبسون بانجلترة، ولذلك فان أكثر كتابه شرح وتوضيح للنصوص. وقد أشرنا من قبل إلى دراسته للغة كمنجز وأناشيد بوند، وشعر ستيفنز، وهارت كرين، وفي هذه جميعاً خير طراز من الشرح لعدد من القصائد الصعبة، وكذلك هي دراسته لماريان مور والآخرين. ولعل خير مثل مركز من هذه الدراسة هو القسم الثاني من مقالته " أعتاب جديدة، وتشريحات جديدة " وعنوانه الفرعي " ملاحظ على نص من هارت كرين ". وهذا القسم كله شرح مستفيض لا مدخل فيه لغموض، لمقطوعة ذات أبيات أربعة عنوانها:" حانة " ولسبعة أبيات من قصيدة " دموع المسيح ". ومن الأمثلة النموذجية في ذلك الشرح ما كتبه بلاكمور حول بيت من القصيدة الثانية جاء فيه: " الناصري والعينان اللتان كأنهما الحراق (1) ".

ومن الوسائل التي يعتمد عليها بلاكمور في الشرح والتفسير أن يضيف

(1) الحراق Tinder مادة صوفية ناعمة تستعمل في إيراء النار بالقدح وهي تذكر بالكلمة tender فكأن الشاعر - حسبما يرى بلاكمور - قد اختارها عمداً للدلالة على ما يجاورها من ناحية صوتية، والحراق يستعل بسرعة فالصورة ملائمة لحال العينين، ويقول كرين أيضاً في القصيدة " أن القمر يرسل البنزين النقي "، والبنزين سائل محلل مطهر، وقد رمز به إلى ضوء القمر فناسب المقام، كما أن صوت الكلمة مناسب لنغمة Nazarine (الناصري) - هذا ما قاله بلاكمور وقد أشرنا إليه هنا لان ترجمته بدقة تعد متعذرة.

ص: 18

المادة المركبة أو قل أن يفهرسها، ثم يصبح لهذا التصنيف قيمة ذاتية مستقلة. وهذا يصدق على عرضه للموضوعات الكبرى - موجزة - في أناشيد بوند، وهو يصدق كثيراً على مقال له في " مزدوجات " كتبه عن فواتح جيمس ونشره في " الكلب والنفير " وجعله مقدمة لفواتح جيمس عندما نشرت بعنوان " فن القصة " The Art of the Novel. وهنا يضع بلاكمور ما يسميه " فهرستاً انتقائياً أو ثبتاً مؤقتاً " يدرج فيه المسائل الكبرى والموضوعات الهامة التي يتحدث عنها وبدل على مواضعها ثم يفعل ذلك نفسه في الموضوعات الصغرى. ومن ذلك كله ينتهي إلى فهرست نقدي مكون من عشرين صفحة لكل الأمور المتعلقة بفن القصة عند جيمس، وهي بالغة القيمة للمبتدئ الذي يريد أن يقرأ فواتح جيمس، وللمختص الذي يحاول أن يستمد شيئاً من الفواتح في بحثه، كما أن فارس بلاكمور هي في ذاتها عمل نقدي أيضاً.

وبما أن بلاكمور شاعر فانه ينفق كثيراً من جهده في نقد الشعر، ولذلك جاء ما يقارب ثلثي كتاب " مزدوجات " في نقد هذا الفن؛ وليس من الغريب إذن أن يتحول إلى الحديث عن أمور عامة في الشعر حين لا يجد أثراً شعرياً معيناً لينقده. ومما تجدر ملاحظته انه قلما يحلل النثر أو يكتب في مسائل النثر وفنيته، وإذا راجعت ما كتبه في النثر وجدته يتعلق بمشكلات متصلة بالمتفنن نفسه كدراسته عن ت. إ. لورنس وملفل، أو بالأفكار وبخاصة الأخلاقية منها كدراسته عن دستويفسكي وآدمز. غير انه أيضاً لم يكتب شيئاً في النظرية الشعرية، وإنما ينشا حديثه عن فنية الشعر من مسائل ومشكلات محددة باعيانها، فهو يتحدث عن القافية حين يعرض لشعر ماريان مور وطريقة استعمالها للتقفية، وهو يتحدث عن الصور والاستعارات حين يقارن بين ستيفنز وبوند واليوت في مقاله عن الأول منهم ويتحدث عن الشكل الشعري عرضاً إذ يتصدى

ص: 19

للحديث عن لورنس، ويشير عابراً إلى أمور الإيقاع والأوزان، ولم يكرس كثيراً من انتباهه للعروض لأنه يعده حشواً في فنية الشعر.

وإذا قارن بين استعارا ستيفنز واستعارات غيره من الشعراء ابرز وسيلة أخرى من الوسائل الكبرى التي يستغلها في " مزدوجات " وهي المقارنة بين القصائد وبين الشعراء. فمثلا يتوصل بلاكمور إلى رأيه في طبيعة ترجمة بوند لأشعار بروبرتيوس بمقارنة الترجمة بالأصل اللاتيني خطوة خطوة، لا بالحديث عنها تجريداً. ويقارن بين بوند واليوت وستيفنز، فيجد أن خيال ستيفنز غير معتمد على البصر مثل بوند ولا هو درامي مثل خيال اليوت ولكنه خيال خطابي؛ وهذا التصنيف هو الأساس الذي نقوم عليه مقالته. ويوضح في مقاله عن لورنس ما يسميه " هستيريا " لورنس وذلك بمقارنة موقفه بموقف اليوت الذي تدل عباراته على " هستيريا منضبطية ". ويثبت نقص الإحساس لدى كرين بان يحشد حوله مقتبسات من دانتي وشيكسبير وبودلير وييتس وستيفنز؛ ولكن بلاكمور لم يوغل في المقارنة إيغال اليوت الذي ينقلها أحياناً إلى شيء بعيد عما ينتقده، ويظل يبعد بها في استحضار أمثلة متشعبة حتى تتلاشى صلتها بالشيء المنقود، ويقتصد بلاكمور في المقارنات، وقد يسهب في تبيانها ولكنها في كل حال تخدم غاياته خدمة جلى.

وليس في كتاب " مزدوجات " استمداد علني من اكبر منبعين يستمد منهما النقد المعاصر اعني علم التحليل النفسي والماركسية، وأن كان فيه تأثير خفي لهما. وينتج هذا من إحدى فرضيات منهج بلاكمور وهي فرضية استمدها من اليوت في دور مبكر ووضحها في دراسة له عن اليوت نشرها عام 1928 في " الكلب والنفير "؛ ومؤدى هذه الفرضية أن النقد يجب أن يتناول الأدب من حيث هو أدب، لا من حيث يمثل أي شيء آخر. حتى حين يستمد بلاكمور علناً من علم النفس، كأن يتحدث

ص: 20

عن المرض الهستيري عند لورنس، تجده يستخدم سيكولوجيا أدبية في طابعها، فهو يصر على أنه لا يشخص مرض لورنس ولكنه يرى ان " الحقيقة في شعره وفي نثره الأخير؟ ذات طابع هستيري ". أما النقد الاجتماعي فابرز موطن استخدامه فيه بلاكمور هو حديثه عن " عودة المنفي " لمالكوم كولي 1934 وعن كتاب اليوت " بحثاًً عن آلهة غريبة " وفيه يقول:" أراني من وجهة سياسية اتفق مع كولي " ثم يقول:

إذا اخترت اتجاهاً سياسياً ووجهت فكرك لتصل من ذلك الاختيار إلى نتيجة أصيلة فليس يستتبع هذا أن اتجاهك السياسي سيؤثر تأثيراً مباشراً فيما تكتبه إن كنت كاتباً. وليس مما يستتبع هذا أنك قد كشفت عن ضرورة سياسية واتخذتها شعاراً لك، عن كنت ناقداً. أن الكاتب أو الفنان، في أي ميدان، هو مرآة مستقلة لمجريات الحياة التي تستغرقه، ما دامت له إرادة في أي شان من الشئون، وهو يخلق عن طريق الإبداء والتمثيل والنقل، وليس يتغير من أسلحته إلا السخرية التي يتمتع بها ذكاؤه، والتي يسلطها على الحقير والبليد؟ وقد ينفق أن تكون معتقدات الكاتب السياسية أساسية في فنه، حين تظهر فيه بقوة ضمنية لا جهرية، كقوة الدم على العودة في العروق، وربما لم يتفق لها أن تكون كذلك. ويجب على الفنان أن يحتفظ لنفسه بحقه في أن يعرض ما يراه وما يحس به من المشكلات الإنسانية، والشيء الوحيد الذي قد نتطلبه منه هو أن لا يعرض ما لا يراه ولا يحس به بل ما يعتقده لأسباب سياسية أو غير سياسية.

وينتهي بلاكمور من هذا إلى أن كولي واليوت قد اريانا طرقاً " تحسن منزلتنا كمواطنين " غير أن الغاية القصوى هي أن يضيفا " إلى

ص: 21

منزلة استقلالنا كفنانين ". وقد تنبه بلاكمور إلى أنه جار على النقد الاجتماعي حين تنكر له باسم " النقد السياسي " أي حين ابصر منه أسوأ احواله؛ ولذلك تجده يلح على ان هذه المعايير الاجتماعية تظل صحيحة ركينة ما دام يحددها برصانة ناس مثل كولي، أما أمثال غرانفل هكس وهوراس غرغوري فأنهم دائماً يسيئون استغلالها وتمثيلها. (ومن سقطات بلاكمور في هذا المقام أن يقول: " عن كانت بيرز بلاومان Piers Plowman تعالج الصراع الطبقي، فان حكايات كانتربري لم تعالج شيئاً من ذلك ". ولا مرية في أن حكايات كانتربري أدل على الصراع الطبقي من غالبية الآثار الأدبية لأنها تصور في افتتاحها انهيار الإقطاع بين الفارس وتابعه، وتتطرق إلى الفوارق الطبقية الحادة في أكثر الحكايات. ما أكثر الأمثلة التي قد يختارها بلاكمور، وكم كان من الأسلم له لو انه اختار قصيدة " قبلاي خان " أو ما أشبهها) .

ولنقل شيئاً في السخرية عند بلاكمور فان استعماله لها في كتاب " مزدوجات " غزير واسع. وتصبح لديه في أحد طرفيها نوعاً من الفكاهة (كان يقول: هذه تهمة حادة لكنها لا تجرح) وهي في الطرف الثاني تحفظ شكي حذر مترامي الأطراف. وفي الفصل الأخير من كتابه يسوي بينها وبين الفكر الحر فيقول:

توجد، لحسن الحظ، نماذج من التفكير الطليق البارئ من التقعيد؛ دعنا نتجه بأفكارنا كالمتأملين لنكحل أنظارنا بأنوار أفلاطون - في مرحلته الأولى - وبأنوار مونتين - في كل مراحل حياته -. أليس الحافز الحي والخصب في حواريات أفلاطون ومقالات مونتين إنما مردهما إلى عدم التقعيد و " الترسيم "؟ أليس أن أفلاطون - في عهده الأول - يمسك بالأفكار المتصارعة في توازن متبادل، ويقدمها لنا في

ص: 22

عراك وتطور ولا يحكم بالنصر لأحدها غلا في النهاية؟ أليس أن مونتين يفسح المجال دائماً لفكرة أخرى، ويهيئ دائماً مكانا ثالثا لسخرية مؤقتة تفصل في النزاع بين الفكرتين؟ أليست الأشكال التي ينشئها كل من الرجلين قائمة على السخرية لأنها دائما تفضح الازدواج في كل فكرة، في أعمق اعماقها، فهي تدل عليها كأنها تعرضها للاتهام الذاتي، وتبرزها في معمعان الحياة لا محصورة في البحث الحيوي، يصبح حين نستعيره ونزاوج بينه وبين حاجاتنا هو المسلك العقلي الوحيد لتكثير المبادئ وضروب " التقنيات " المتغطرسة التي تملأ أوعية التفكير النقدي لدينا.

أما إن كان المفكرون والفنانون اقل شاناً من أفلاطون ومونتين، أو كانوا مثلهما عظمة لكن آثارهم أدنى منزلة، فها هنا يضيف بلاكمور قائلا:" علينا أثناء القراءة والنقد ان نضيف الشك والسخرية من لدنا ". وقد يضيف بلاكمور نفسه هذه السخرية في كتاب " مزدوجات " على نحو حذر من التجريب؛ وإليك هذه الأمثلة:

" ليس من العسير أن نطبق هذه القسمة على كرين إذا قمنا بها تجريبا دون أن نتطلب منها أن تكون مثمرة، أو أن تكون هي القول الفصل ".

" يجب ألا نوغل في استقواء النظير لان قيمته غنما تكمن في عدم انطباقه انطباقاً كاملاً ".

" أن هذه العبارات التي نريد بها تمييز هذا من ذاك إنما هي خاضعة للتصحيح والتسديد ".

ومثل هذا المسلك الحذر التجريبي غير الحاسم يجذب إليه القارئ

ص: 23

بأكثر مما يستطيعه النقد في العادة، ولا ريب في أن بلاكمور يحسب دائماً حساب قرائه. وهو يتوقع ان يكون القارئ ذا فكر مدرب على تقبل الشعر أو انه " سينظر ويقرأ كأنما هو ذو فكر مدرب "، وهو يقر أن غاية النقد هي التذوق ولكنه يضيف إلى ذلك قوله في عبارة مونقة تشبه في حوكها أسلوب جيمس:" إلا أن التذوق نفسه يستطيع أن يكون ذا معايير يقيس بها صحته ورصانته، ولابد له، لكي يكون مكتملاً، من أن يدل على فهم " دائم " لغاية هي النتيجة الضرورية، بل هي الثمرة الصحيحة، لما فيه من صحة ورصانة ". وللنقد مهمتان - أولاهما - حسبما يحددها بلاكمور - هي " توسيع الافلة للخصائص الذاتية " والثانية هي الحكم على منسوب الأداء، أي بعبارة أخرى: مهمة النقد أن يحلل وان يقوم. وفي الأول يلح بلاكمور على أن يقود النقد القارئ دائماً إلى الأثر الفني؛ وهو يكتب ويقتبس دائماً اعتقاداً منه أن تحليله سيحول نظر القارئ إلى جزئيات القصيدة، لا انه يكتب للقارئ شيئاً مفهوماً يقوم مقامها ويغنيه عنها. وفي الثانية تجده يلح على أن يقرأ القارئ بفكره لا بعينه، وان يجرب الشكل والمحتوى، وان يحب الشعر من حيث هو شعر، وان يتقدم من القصيدة أما بزاد من المعرفة الواسعة أو بقدرة على بذل الجهد والصبر المصني. أي أن القارئ الذي يتصوره بلاكمور قريب الشبه من القارئ المثالي للشعر، وهو شاعر آخر أو ناقد مثل بلاكمور نفسه. ولا ريب في أن بلاكمور يدرك ندرة مثل هذا القارئ بين القراء الذين يمثلون جمهوره القلي، ولكنه مع ذلك قد يرفض ان يتنازل عن موقفه من اجل الكثرة الغالبة.

ولا يدرك وحدة كتاب " مزدوجات " إلا قارئ يحسن ترتيب المقدمات، هذا على الرغم من أن الكتاب مجموعة من المقالات العارضة والمراجعات. وهو يحوي قطعاً كبرى مثل دراسته لكمنجز وبوند وستيفنز

ص: 24

وكرين ود. هـ. لورنس وماريان مور وكتابات اليوت بعد أن تحول كاثوليكياً، وفواتح جيمس، والنقد الأدبي المعاصر، وإلى جانب هذه قطع صغيرة ثلاث. هي مراجعة لكولي واليوت معاً، ومراجعة لكتاب " الموروث العظيم " من تأليف غرانفل هكس، ومراجعة لبعض كتب كتبت عن صموئيل يتلر، وكل هذه الثلاث نشرت في " الكلب والنفير ". فإذا كانت القطع الكبرى توضح الواحدة في كتاب بلاكمور إيجاباً فالقطع الصغيرة توضحها سلباً، لأنها تدل على ما لا يرتضيه في حيز تلك الوحدة، فهو لا يرتضي المعايير المسيحية التي يستغلها اليوت والراديكالية التي يستعملها كولي والتشويه المتحيز لدى هكس والتور والتعنت لدى بتلر، وكلها معايير خارجة عن مجال المقاييس الأدبية. أما الوحدة الإيجابية فإنها كامنة في غموض العنوان " مزدوجات " لان بلاكمور لم يفصح بتلك المزدوجات في كتابه، ولكنها تتبلج لفكر القارئ تدريجاً. فالشعر مزدوج اثنيني لأنه يتكون من شكل ومحتوى، ومن عادة محسوسة وقوة تخيلية؛ والنقد مزدوج لأنه يتضمن التحليل والتذوق، وألفة الخصائص الذاتية وتقويم الأداء؛ والشعر والنقد معاً مزدوجان لأنهما يعينان " البيان والتبيان " وكل اثنتين من مصطلحات النقد مزدوجان: الشكل والمحتوى، المبنى والنسيج، الكاتب والقارئ، الثابت والمتحرك، الموروث والثورة، التعبير والنقل، ومن تواشيح هذه جميعاً ينشا شيء ثالث هو القصيدة أو المقالة أو هو في هذا الحال كاتب بلاكمور. ومن غموض العنوان يختبئ وراء القسمة الازدواجية فيه مصطلح ثالث واجهه بلاكمور من بعد علناً فتحولت مزدوجاته الثنائية إلى ثلاثيات.

3

- ليس لبلاكمور منهج محدد مرسوم وغنما لديه مزاج من الخصائص والتقريرات ولذلك لا يمكن أن نورد لطريقته تاريخاً ونسباً بعيداً، وإنما

ص: 25

نستطيع أن نذكر نسبها القريب، أعني أن نذكر الأشخاص الذين يستعد منهم ويستوحي بعض آرائهم. لكن هذه مسألة معقدة لأنه إذا استثنينا ولسن ثابت كان بلاكمور اشد النقاد الأحياء استمداداً وانتقاء. أما ثابت فقد استمد واعترف بأنه يستمد من كل ناقد إنجليزي معاصر على وجه التقريب ابتداء من مري وريد حتى الآنستين سبيرجن وبودكين. وعلى النحو نفسه نرى بلاكمور قد استغل كل ناقد حديث مشهور في كل من إنجلترة وأميركة وان باين نايت في مقدار الرفض والغربلة والتعديل لما يستمده.

وإذا ذكرنا الاستمداد في حال بلاكمور بدأنا بذكر اليوت، لان بلاكمور نشأ في أول عهده على تبجيله وتقدير نقده وقد كتب عنه أولى مقالاته النقدية في " الكلب والنفير " فأثنى عليه هنالك لأنه - أي اليوت - " يلتزم بالحقائق فيما ينقده من حيث صلتها بالأدب، وبه وحده " ومن ثم فأنه " نسيج وحده لا في الحاضر فحسب بل في الماضي؛ ففيه شيء من آرنولد وبعض من كولردج وقليل من دريدن وبين الحين والحين شيء من الدكتور جونسون، إلا أن اهتمامه بدريدن من بينهم هو الاهتمام المخلص الجامع ". وهذا غير صحيح طبعاً، ولكن من الممتع أن نرى بلاكمور يضع هذه القائمة من الاسماء، وهو في سن الثالثة والعشرين، يوم كان يعتقد انه يستمد نقده من مذهب اليوت في النقد. ثم استكشف بلاكمور أهمية هنري جيمس وفواتحه النقدية، يوم كتب عنه بين 1928، 1930 فقال أنه " اعظم أرباب الأقلام الأمريكيين وأكثرهم تنظيماً ولعلي اعتقد انه أشدهم إنسانية ". وقد أشبعت مقالات جيمس رغبته في النقد الفني، ولما درس الفواتح قال فيها:" إنها أكفأ نقد أدبي بل اعتقد إنها افصح وأصل قطعة من النقد الأدبي وجدت أبداً "، ولا يدانيها إلا مقالات أخرى لجيمس. ولعل نقد جيمس كان العامل الأكبر في تحديد

ص: 26

نقد بلاكمور وتشكيله، في الاتجاه المجازي وتطبيق الإحساس والإلحاح على القيمة الرفيعة للفن بل في الأسلوب نفسه (انظر فيما تقدم جملة وصفت بأنها تشبه إنشاء جيمس، وغيرها كثير يستخرجه القارئ عفواً دون تعمد أو بحث) . ولم يفارق بلاكمور أستاذه مفارقة واضحة غلا في الموضوع، لأنه سلط تحليله على الشعر لا على النثر، ونقد آثار غيره لا آثاره نفسه، حتى لنقول: أن نقد بلاكمور هو نقد جيمس نفسه مطبقاً في مجالات أخرى.

ولا ننس تأثيرات أخرى عدا تأثير جيمس. وفي أولها وربما كان أهمها تأثير اليوت في الفكرة والأسلوب: فمثلا يفرق بلاكمور بين العاطفة في الشاعر والعاطفة في القصيدة وهي تفرقة مستمدة من اليوت. وفي بعض جمله تلمح أسلوب اليوت أيضاً وهو أسلوب جيمس نفسه، مع تكثير من المعترضات والتردد وتبسيط للتراكيب، حتى أن هذا الأسلوب ليوحي إليك (ويضلل بما يوحيه أحياناً) بان التعبير الموجز المبسط يحتوي أفكاراً معقدة دقيقة. وقد استغل بلاكمون كثيراً مما يتميز به اليوت وما يردده من مبادئ وتأثر بأسلوبه، فوضع نفسه في صف الآخذين من نقده بل انه في السنوات الأخيرة تحول مثل اليوت إلى النص على النواحي الأخلاقية. وقد شغلت باله عبارة اليوت:" الضجر والرعب والمجد " الكامنة وراء الجمال والقبح، فاقتبسها - على الأقل - أربع مرات حسبما أحصيت. ولقد بدأ بلاكمور بالثناء على اليوت سنة 1928 حين وصفه في " الكلب والنفير "" بخصوة مشذبة الحواشي في أفكاره ". وفي سنة 1944 نشر مقالا عنه بمجلة Partisan فأعلن أنه يوافقه في كثير من معتقده الذي تحدث عنه في " ملاحظ نحو تعريف الحضارة "، ويخالفه مخالفة حادة فيما جمجمت به آراؤه هنالك دون تصريح. ولذلك يمكن أن نقول أن موقف بلاكمور من اليوت كان ثابتاً لا تردد فيه، ومجمل هذا

ص: 27

الموقف أنه يعترف بما يوافقه فيه وما يخالفه، وأنه يفيد من الآراء التي يتقبلها ويرفض ما عدا ذلك.

وهنالك تأثير آخر تمثله بلاكمور وخالفه أساساً، وذلك هو تأثير الأستاذ يرفنج بابت. فقد بدأ بلاكمور بمقال عنيف عن النزعة الإنسانية (1930) هاجم فيه بابت وأصحاب تلك النزعة بحدة حادة ووصفهم " بالعجرفية والعمى والجهل الجائر " ولم يجد لديهم شيئاً يستحق الثناء. ثم كتب مقالا أخر عن " النزعة الإنسانية والخيال الرمزي أو تعليقات على قراءة بابت من جديد " نشره في خريف 1941 بمجلة الجنوب، فعزا فيه قصور بابت إلى انه يمر " بالنموذجي " في الحياة عابراً، ولا يعير " القوى الخفية الأرضية " اهتماماً، وهذا كله من صور " التحلل في الخيال المسيحي ".

ثم يتحول بلاكمور عن مجرد الرفض لمبادئ بابت إلى قبولها مع توسيع لها وتعدليل فيها فيقول: " علينا أن نهتم بالبناء لا بالهدم "، علينا أن نعيد الاهتمام بالقوى الأرضية وان نعيد الخيال المسيحي، ولكن بلاكمور يسمي هذا الخيال باسم دينوي هو " الخيال الرمزي "، وكأن بلاكمور عاد يؤمن بالنزعة الإنسانية مضيفاً إليها هذا الذي يسميه " الخيال الرمزي "، ولذلك استمد المصطلح الخلقي عند بابت مثل: نظام - تناسب - اعتدال، وجعل من هذه الاصطلاحات معياراً جمالياً يعيش به الشكل الشعري وأضاف إليها اصطلاح " الأرضي ". ولقد كان اتصال بلاكمور بهارفرد، وإن لم يدرسوا فيها، ذا أثر فيه، وكان بابي ذا يد في هذا الأثر، ومن بين النقاد اللذين تلقوا تأثير بابت نجد اثنين لا يقبلانه محض قبول ولا يرفضانه محض رفض وإنما يستمدان منه ما يلائم حاجاتهما، وهما بلاكمور وفرنسيس فرغسون.

أن تأثير بلاكمور بكل من جيمس وأليوت وبابت وسانتيانا أيضاً في

ص: 28

فكرته عن " الجوهر " قد أصاب النزعة النقدية لديه وطريقته في ممارسة النقد. أما من الناحية " التقنية) فإنه تأثر بصف آخر من النقاد المعاصرين فيهم رتشاردز وأليسون وكنث بيرك. وقد أستمد بلاكمور الشيء الكثير من رتشاردز (حتى كتب عنه يقول: ليس ينجو ناقد أدبي من تأثيره) . ويبدو أنه يجله غاية الإجلال ولكنه يبدي تحفظات حادة إزاء الميل العلمي في نقد رتشاردز. ولما كتب في " مزدوجات " فصلاً عن ماريان مور، تعرض لذكر رتشاردز، وكان تقبله لتأثيره حينئذ على أشده، فقال فيه أنه خير ناقد معد للحكم والحسم، وقال في موضع آخر: إن كتاب " آراء منكيوس في العقل " خلاب جذاب لكنه غرار، أما " معنى المعنى " فإنه صورة لبضع مئات من الكلمات الفقيرة وقد جعلها المؤلف منبعاً للعلم الشفوي.

ثم قال فيه: " إنه ناقد معجب "" لا ينازعه أحد في حبه للشعر ومعرفته به "، ثم لامه لأنه جعل نفسه ضحية للمشكلات الأدبية العملية التي تمتد وتمتد ولا تقف عند حد، ولأنه على وجه الجملة يحاول أن يحول النقد الأدبي إلى علم اللغويات ويسلم بلاكمور بان مثل هذا العمل شيء هام، ثم يضيف إلى ذلك قوله:

ولكني أريد لهذا النقد أن يواجه دائماً - وهو مستغرق في مهمته - أمثلة من الشعر، وإنما أريده كذلك، من أجل أن يساعد عملياً في تذوق اللغة في ذلك الشعر - في تذوق استعمالاتها ومعانيها وقيمتها. وأريد منه أن يساعدني في أن يحقق لي ما يساعد السيد رتشاردز في تحقيقه، وهو يقرا الشعر من أجل الشعر ذاته؛ مهما يكن ذلك الشيء الذي أتطلبه منه.

ولب الخصومة بين بلاكمور ورتشاردز يتمثل في قوله: " الشعر هو

ص: 29

معنى المعنى " وذلك ما قاله في مقال له بعنوان " اللغة من حيث هي إشارات " نشر بمجلة Accent في صيف 1943.

أما ما بينه وبين أمبسون تلميذ رتشاردز فإنه محض وفاق، لان امبسون يؤدي في النقد ما يتطلبه بلاكمور بدقة، اعني انه يسلط نظريات رتشاردز على النصوص الشعرية. ويبدو ان بلاكمور لم يتأثر بالكتاب الثاني الذي كتبه امبسون عن " الرعوي " أما كتاب " سبعة نماذج من الغموض " فكان ذا أثر كبير فيه. حتى أن ما كتبه في " مزدوجات " عن ستيفنز وكرين ليس إلا كشوفاً امبسونية في الغموض، أي تفريعات لا تنتهي من مضمونات الصور والألفاظ الشعرية. ويبدو أنه يشارك امبسون الإيمان بان الغموض في الشعر سر تأثيره، على شريطة ان يكون غموضاً منضبطاً محدداً. ومما يصور تأثره بامبسون قوله في مقال " اللغة من حيث هي إشارات ": " عن كلمة من كلمات شيكسبير تهجى على نحو ما في إحدى النسخ ثم على نحو آخر في موضع آخر ثم على نحو ثالث في موضع ثالث لتحمل في ذاتها المعاني التي توحي بها التهجئات الثلاث وتزيد إليها معنى رابعاً أي انه مثل امبسون يضرب بقراءات العلماء لنصوص شيكسبير عرض الحائط. وفي مقال له عن ييتس يتبع أيضاً هذه الطريقة الامبسونية فيستغرق في تحليل معاني كلمة Profane حسبما يستعملها ييتس في إحدى قصائده.

وإذا تجاوزنا النقاد المعاصرين وجدنا تأثر بلاكمور بالناقد كولردج ضئيلاً، ولكنه يدخر اكبر إجلال لأقرب المعاصرين شبهاً بكولردج اعني الناقد كنث بيرك، وكثيراً ما أعلن انضواءه تحت راية هذا الناقد، وقد اقتبس منه عدة مرات في " مزدوجات " أثناء تحدثه عن ماريان مور، مستملحاً آراءه وأن لم يبرأ من مقاومته لها. ثم هو يضعه في صف مع بيرس لاشتراكهما في " النشاط والتميز الواضح في التأملات "

ص: 30

ويضيف قوله: " كلاهما يبعث الحيوية والنشاط في المرء وأن لم يكن يؤمن بالصدق فيما يقولان "، ويشكو بلاكمور من كنث بيرك كواه من رتشاردز: يستغل رتشاردز الأدب محطاً لفلسفة القيم ويستغل بيرك الأدب لفلسفة الإمكان الخلقي، ويقول: إن موطن الضعف في طريقة بيرك أنها قد تستغل على السواء في دراسة شيكسبير وداشيل هامت أو ماري كورلي، وتؤتي نفس الثمرات في كل آن (أهذا ذم للطريقة أو مدح لها؟ أليس هذا دليلا على قوتها؟ لقد أقر بيرك بهذه التهمة منذ عهدئذ) . وحكمه النهائي على طريقة بيرك إنها لا تستغرق كل الأدب - وذلك عيب طريقة رتشاردز أيضاً - ولكن إذا استعملها ناس حذرون مقتصدون مثل بيرك جعلوا منها طريقة مثمرة سديدة.

وفي " ثمن العظمة " يستمر بلاكمور في الاقتراب من بيرك مستغلا مبادئه ومناهجه مثل فكرته عن الشكل الضمني، ومصطلحاته الخاصة مثل " التحول الدنيوي " بل مستمداً منه مقتبسات من تعليقاته وملاحظه. وفي خريف 1939 نشر بلاكمور مقالة عن آدمز في مجلة الجنوب، فحشد لبيرك أقصى ما لديه من ثناء وجعله صنواً لمونتين في السخرية فقال:

أضف الصراحة والحذلقة إلى الخيال، فإذا كان المزيج الذي تصنعه متناسباً نتج لك خيال حر، رجراج وثاب يستطيع أن ينعكس انعكاساً دائماً مباشراً على المجتمع المتحرك دون ان تعيقه عن ذلك سرعة الحركة أو الطاقة والاتجاه. ووجود صاحب هذا الخيال أمر نادر، ولكنه أن وجد كان متقدماً على عصره بل هو في الحق متقدم على كل عصر وإن وجدت أمثلته من الماضي السحيق. مونتين في بعض أحواله كذلك. وقد يصبح أندريه جيد واحداً من هذا الفريق. أما في بلدنا

ص: 31

فلعل بيرك هو ذلك الرجل إلا حين تستولي عليه " الحمية والعصبية ".

ولما كتب بلاكمور مقاله " اللغة من حيث هي إشارات " أعتمد على آراء بيرك وأقتبس منه كثيراً، وفي ذلك المقال حاول أن يحدد العلاقة بين نقده ونقد بيرك فقال:

عن طريق الخيال أوجدت مقدمةً كتلك التي اهتدى إليها بيرك من الزاوية العقلية، أعني أن لغة الشعر قد تعتبر عملا رمزياً. وهذا هو الفرق بيني وبين السيد بيرك: إنه هو معني بإقامة المناهج لتحليل الأعمال التي يعبر عنها الرمز أما أنا فأوثر أن أهتم بالرمز المختلق. وهو يستكشف أحجية اللغة حين تتحول رمزية وأنا أحاول من خلال الأمثلة المتنوعة المتدرجة أن أرى كيف يمنح الرمز للأعمال في اللغة حقيقة شعرية. فالسيد بيرك يشرع وأنا أقضي، أما الذي يتولى التنفيذ فهو في مرحلة واقعة بيننا.

وقد استمد بلاكمور علناً من عدد آخر من النقاد فيهم أيفور ونترز وجون كرو رانسوم. وأثنى بلاكمور على ونترز في مجلة شعر، (تشرين الثاني: 1940) وأدرج ما كتبه عنه في كتابه " ثمن العظمة " فاستحسن هنالك نفاذ بصره في النواحي الخلقية " وألفته للمادة والشكل في الشعر والنثر الفني " وغير ذلك من فضائله. وقد استمد منه " بدعة الشكل المعبر "، أي ان الفكرة حسن تتحول إلى كلمات فقد انتحلت خير شكل مناسب لها، وان خير ما يعبر عن التفكك سياق شكلي مفكك وهكذا، وقد استغل بلاكمور هذه النظرية في كتابيه، ومن حولها ركز نقده لشعر د. هـ. لورنس، واستغلها أيضاً ليحطم أدباء مثل توماس وولف وكارك

ص: 32

ساندبرغ، ومن هم أعلى شاناً من هذين.

ولم يستعر من رانسوم إلا اصطلاح " المبنى - النسيج " واستعمله على نحو تجريبي. وفي الوقت نفسه تأثر رانسوم، بل كل مدرسة الجنوب وبخاصة ألان تيت وكلينث بروكس بآراء بلاكمور، وكلهم يقتبس منه ويعترف له بالمقدرة بل أن رانسوم يقدم اسمه في كتابه " النقد الجديد " ويعتبره النموذج الكامل للناقد الجديد، لأنه انتقائي أصيل معاً. وهو يسبغ عليه في مراجعاته ومقالاته صنوف الإطراء. والحق أن بلاكمور، بموقفه الانتقائي قد اثر في كل النقاد المعاصرين على وجه التقريب وبخاصة النقاد الشبان، حتى بيرك نفسه أثر فيه وتأثر به.

- 4 -

ما دام بذل الجهد الجاهد هو ما يميز طريقة بلاكمور في النقد فلنتقدم من اتجاهات نقدية أخرى تعتمد على الكد والجهد، من اجل المقارنة. ولنقرر بادئ ذي بدء أن اغلبها أدنى حظأً من طريقته جهداً وكداً حتى تكاد لا توازيها ابداً، وأكثرها يقع في باب الدراسة المختصة، وما كان من هذا الباب فقد عالجناه في فصل سابق (1) ، غير أن بعضها يستحق أن يذكر في هذا المقام لأنه فردي الطابع غريب الصبغة. وإذا ذكرنا كلمة " غريب الصبغة " ذهب الظن سريعاً إلى عزرا بوند وطريقته في النقد. أما فكرة بوند في النقد فإنها جد متواضعة، فالنقد لديه هو ان يقف المرء عند رف كتبه ويدل صديقه أي شيء يقرؤه، ولكن بوند في وقفته عند رف الكتب يلقي جهداً عظيماً وهو يبدي رأيه لصديقه وقد حدد خمسة أنواع من النقد في " اجعلوه جديدا ": Make It New، وهي:

(1) انظر الفصل السابع من هذا الكتاب.

ص: 33

1 -

النقد عن طريق المساجلة والمحادثة فهو يبدأ من محض الثرثرة والسفسطة المنطقية والتشغيب ووصف النزعات ويتدرج إلى تسجيل محدد واضح للاتجاهات وإلى محاولة لتقرير المبادئ العامة.

2 -

النقد بالترجمة.

3 -

النقد بالتدريب على محاكاة أسلوب عصر ما.

4 -

النقد عن طريق الموسيقى؟ وهذا معناه على التحديد ترتيب كلمات الشاعر في وضع جديد؟ وهو أكثر أنواع النقد حدة باستثناء النوع الخامس.

5 -

النقد في صورة خلق أدبي جديد، فمثلا نقد سنيكا في " آغون " لاليوت أشد حيوية وأقوى من مقالة اليوت عن سنيكا نفسه.

وليس في الأنواع الخمسة ما يسمى نقداً، من حيث المتعارف، إلا النوع الأول، أما سائرها، وكلها مما حاوله بوند، فليست تقوم مقام النقد الناشئ عن المساجلة والحديث أو تتفوق عليه وإنما هي تكملة له تتطلب جهداً.

وقد صدر بوند أول كتبه " روح الرومانس " قبل الأخذ في التفسير والتحليل التذوقي بمقدمة حدث فيها ترجمات جديدة لقدر صالح من المادة ابتداء من دانتي حتى السيد. وفي هذا الكتاب نفسه استغل النوع الأثير لديه من النقد وهي المحاكاة الساخرة، فحاكى فيها تنفج وتمان وانتفاخه ليبرز في ذلك أخطاءه. وقال بوند في كتابه " أبجدية القراءة " ABC of Reading إنه عجز عن أن يترجم كاتولس وفيون ولذلك وضع شعرهما وضعاً موسيقياً جديداً. ومن أنواع النقد التي يؤثرها بوند " المختارات الشعرية " ولذلك كرس نصف كتابه " أبجدية القراءة " للاختيار الصحيح

ص: 34

من الشعر، ويسمي بوند نفسه:" آلة شديدة الإرهاف " ولكنه في الواقع دارس فاشل حتى أن النقد الذي يقوم به أحياناً يشبه الدراسة الأدبية التقليدية؛ ومن أمثلة ذلك مقالة له عن " كفلكنتي " في كتابه " اجعلوه جديداًً " وهي تحتوي على دراسة مطولة مستفيضة لنص قصيدة واحدة، وتتبع لمصادرها ومآتيها، وعلى ترجمات عديدة وتصحيحات في النص وغير ذلك فإذا أضفت إليها محاكاته الساخرة وتعديله لموسيقى الشاعر فإنها تمثل كل طريقته النقدية القائمة على الكد وبذل الاجهد كما أنها تدل أيضاً على مدى ما يعانيه النقد المعاصر من هنأت وسقطات وعلى مدى ما تحققه الدراسة الجاهدة المزودة بالمعرفة والنصب. (لا مجال هنا للتساؤل: اكان بوند مخطئاً في أحكامه على كفلكنتي، فليست ثمة طريقة تكفل الصواب الخالص) .

وراندولف بورن ناقد آخر من فريق العاملين الجاهدين. حتى أنه كان يعتقد أن مراجعة كتاب ما يجب أن تقوم " على بحث مستقل وفكرة مركزية " لا أن تكون حديثاً خفيفاً عن الكتاب؛ وكذلك هي المراجعات التي كتبها بورن؛ كمراجعته لكتاب " وادي الديمقراطية " لمردث نيكلسون، فقد اتخذنا لتصوير فكر الغرب الأوسط وحال أمريكة كما أن حديثه عن الكاردينال نيومان كان تفسيراً لمعتقداته آرائه الدينية. وهكذا هو في كل مراجعاته، يتخذها مجالاً لدراسة الآراء والنظريات المتصلة بأشخاص من يراجع مؤلفاتهم. وللتمثيل على مبدأه نقول: من شاء أن يراجع كتاباً عن حياة نابوليون فعليه أن يدرس بنفسه هذه الحياة ويستخلص أحكامه الذاتية ثم يواجهها بما توصل إليه المؤلف، وهذه ويستخلص أحكامه الذاتية ثم يواجهها بما توصل إليه المؤلف، وهذه خطة ليست دائماً عملية ولكنك إن عارضتها بالمراجعات الخفيفة المستعجلة وجدتها بالغة القيمة.

كتب دلمور شفارتز مقالا بمجلة شعر، تشرين الثاني 1938 عن طريقة

ص: 35

بلاكمور في النقد، قال فيه:

قد يقدر المرء، تقديراً فحسب، أن بلاكمور، سواء درس في هارفارد أو لم يدرس، قد أثرت فيه دراسات أساتذتها الفيلولوجية وتحقيقاتهم للنصوص في شعر شوسر وغيره من قدامى الشعراء، وعلى أي حال فإن منهجه أصيل في الحدود التي يمتد إليها ومن الدلالة بمكان أن يحلل الناقد ولاس ستيفنز كأنما هو شوسري اسكتلندي من أبناء القرن الخامس عشر.

وإذا استبعد أن يكون بلاكمور قد احتذى دراسات هارفارد في نقده ولكن سواء فعل ذلك أو لم يفعل فان هذه الطريقة الهارفاردية قد انتحلها عدد من أساتذة الأدب الشبان بهارفارد نفسها ومنهم: ماثيسون وثيودور سبنسر وهاري ليفن. أما سبنسر وليفن فقد أفادا من وجود مخطوطة من كتاب جويس " صورة الفنان في شبابه " بمكتبة الكلية بهارفارد (حققها سبنسر ونشرها باسم " ستيفن بطلا ") فقارنا بينها وبين صورة مخطوطة أخرى من الكتاب نفسه، مقارنة تفصيلية ونشرا نتائج بحثها، فنشر الأول بحثه في مجلة الجنوب، واستغل الثاني بحثه في دراسته الأكاديمية الغريبة عن جيمس جويس.

وقد انتفع ماثيسون أيضاً بمصادر مكتبة هارفارد، فقد قدم أحد أقرباء هنري جيمس إلى تلك الجامعة مذكرات هنري جيمس وملاحظه التي لم تنشر وتبلغ ما يزيد على 150 ألف كلمة، فكانت تلك المقيدات مصدراً هاماً استغله ماثيسون في كتابه:" هنري جيمس: المظهر الأعظم "(كما أنه حقق تلك المقيدات ونشرها بالاشتراك مع كنث ك. مردوك) . كذلك استغل جهوده وجهود تلامذته في دراسة مقارنة لنسختين من رواية " صورة سيدة ". وراجع جيمس ثلاثة من قصصه الأولى فعدل فيها

ص: 36

وغير منها حين دفعها لتطبع في نيويورك، فتفحصها النقاد عاجلين، ولكن ماثيسون تناولها منظماً وطبق عليها خير نقد دراسي مؤيد بقوة الخيال، ومن العسير ان نجد مثل خيراً من هذا المثل على ما يستطيع أن يفيده النقد من الجهد والداب المستقصي.

ومن النقاد الآخذين بالكد ج. ولسون نايت دون أن يوشح نقده بالتخصص الدراسي لأنه يقوم به على نحو عفوي غير عامد. وقد قام نقد نايت لشيكسبي على بحث استقصائي لم يمارسه ناقد آخر، ذلك انه جعل كل ما انتجه شيكسبير يدور على محورين: واحد يمكن ان نسميه " عاصفة " والآخر يمكن أن ندعوه " موسيقى ". فكل ما يتصل بالشتاء عاصفة وكل ما يتصل بالصيف موسيقى، وكل وحوش البحر (مثل كالبيان) عاصفة وكل الأشياء المجنحة (مثل آربل) موسيقى، والأوغاد قوى عاصفية والأبطال قوى موسيقية، والألفاظ التي هي مثل " وقر في السمع " و " صرخات " من باب العاصفة والشخصيات مثل هاملت واوفيليا موسيقى شذت نغمتها؛ بل أن الحيوانات فريقان أيضاً فمنها حيوانات موسيقية ومنها حيوانات عاصفية. وتبلغ هذه الدراسة ذروتها في " العاصفة الشيكسبيرية " حي جد نايت أن هذه القسمة موجودة في الخرافة والأسطورة وعند الأدباء ابتداء من ملفل حتى اليوت، وقد تبدو الفكرة سمجة في هذا المجمل ولكنها ناجحة من الناحية النقدية، وإذا تناول القارئ كتب نايت وهو يدير هذه الفكرة، فكرة التعارض بين العاصفة والموسيقى، فإنه يحصل على عدد كبير من صور البصيرة النافذة الأصيلة.

وحين كان هـ. ل. منكن يعمل في النقد، كان يوغل مستقصياً في بحثه ليقيم فكرة أو يثبت نقطة، وقد بلغ من جهده أن ذكر أن الطبعات الأولى من قصص كونراد كات تدر على صاحبها دخلا كبيراً أثناء حياته، وذيل على هذا القول بحاشية جمع فيها أسعار ستة عشر كتاباً من فهارس

ص: 37

باعة الكتب على مدى ثلاث سنوات مختلفة. وكان يقرأ بعض كتب لأدباء متخلفين ويتفحص أساليبهم كلمة كلمة، عارضاً تفاهاتهم واحدة بعد أخرى.

ومالكولم كولي أيضاً مغرم بهذا النوع الشاذ من التدقيق، فقد يكتب في إحدى مراجعاته قائمة بالوظائف التي كان يشغلها الشعراء أثناء الحرب أو قد يقطع سياق مراجعته لكتاب عن احتلا الألمان لفرنسة ليقص كيف مات سنت بول رو أو إذا راجع كتاباً من تأليف كويستلر توقف ليقص حكايات ساخرة عن اللاجئين. ولا يعرف أحد من أين يستمد كولي مادته ولكنها صحيحة موثقة لا تبدو نابية في نقده. وقد كتب أيضاً في تاريخ الحضارة، ولكن كثيراً من مقالاته التي كتبها للصحف أخباري في طابعه مثل:" كيف كان الأدباء الأميركيون يكسبون رزقهم بين 1940 - 1946 " ومثل " الأدب الأمريكي أثناء الحرب وغيرها " وقد اعجله الجمع عن استغلا هذه المقالات نقدياً.

وقد نستطيع أن نضيف إلى القائمة أسماء وجهوداً أخرى، فتفسيرات ادموند ولسن محوطة بالجهد، ممهدة للنقد، وكذلك أيضاً هي الشروح والتوضيحات التي ألف منها ستيوارت جلبرت كتابه عن قصة " عولس " لجيمس جويس. ومن هذه البابة أيضاً ما أداه رتشاردز في كتابه " النقد التطبيقي "(انظر الفصل المخصص لدراسة رتشاردز) . وفي هذا الحقل من النقد طرفان يقف عند أحدهما رجل مثل بلاكمور ينفق جهداً مضنياً في استقصاء لفظة " زهرة " في شعر منجز ثم يستنج ما يريد استنتاجه من ذلك، وعلى الطرف الثاني شخص مثل كارولاين سبيرجن، يحشد مادة ضخمة قيمة ثم يعجز عن أن يستخلص منها استنتاجات نقدية. ونحن نعجب بالفريق الأول ونغرى بعمل الفريق الثاني لأنه يقدم لنا مادة صالحة للاستنتاج والحكم.

ص: 38

5 -

خصائص بلاكمور الذاتية وهذا الذي يؤديه في النقد أمران متلائمان متسقان. ولا أدري ما الذي حال بينه وبين الانتساب إلى كلية ولكني اقدر انه وجد فرص التعلم في خارج المعاهد العلمية العالية خيراً له (مثل كنث بيرك فإنه لم ينه دراسته الجامعية) وعلى أي حال فهو عالم مطلع، تشمل معرفته الفن المعماري والنحت والرسم والرقص والتمثيل والموسيقى ويستطيع أن يفيد من هذه المعرفة في النقد مثلما تدل مقالته " اللغة من حيث هي إشارات " فهناك يسهب في الحديث عن تنوع الإشارات في هذه الفنون. وقد أقر أنه لا يعرف الألمانية ولكنه، فيما يظهر، يعرف الإغريقية واللاتينية والإيطالية والفرنسية بشيء من الطلاقة. وهو يستعمل المجازات العلمية في نقده، ولابد انه درس الطبيعيات وأحرز فيها معرفة مفيدة له حين شاء أن يدرس هنري آدمز لا ليستطيع متابعة هنري آدمز في أفكاره الفيزيائية بل ليقول: لو أن آدمز درس الطبيعيات الجديدية لما اهتم أن يستعمل العلم ليرمز إلى الوحدة والقانون ومن اجل أن يفقه آراء آدمز درس التاريخ أيضاً والسياسة والاقتصاد وفي إحدى محاضراته عن بروكس آدمز سنة 1946 اقتبس من كثير من المؤرخين من ثوسيديد وفيكو حتى اكتون وتويني.

وفي السنوات القليلة الماضية كان بلاكمور يقيم في برنستون أولا عضواً في معهد الدراسات العليا ثم محاضراً في برنامج الفنون الإبداعية تحت رئاسة ألان تيت. وهو الآن ملتحق مقيم بقسم الكتابة الإبداعية. ويظهر أن عدم انتسابه إلى كلية جعله يهتم جدياً بالتعليم الحر، وقد أتيح لي أن اقرأ له تقديراً عن هذا الموضوع رفعه إلى جامعة برنستون فبدا لي أنه من ألمع الأمثلة التي قرأتها في النظرة التربوية ومن أشدها اقناعاً، وفي هذا التقرير يعالج أمر التعليم الحر كأنه يعالج قضية نقدية ويسلط عليها ما يمكن أن

ص: 39

يدعوه " الخيال الرمزي " وغير ذلك من فنون المعارف.

وهو إلى جانب النقد شاعر له ثلاثة دواوين وهي:

أ - من مسرات جوردان 1937 From Jordan " s Delight.

ب - العالم الثاني 1942The Second World.

ج - الأوروبي الطيب 1947 The Good European.

وليس مما يتفق وحدود هذا الفصل أن نتحدث في شعره إلا أن نلحظ، ما دمنا نتحدث عن نقده، ان شعره ينزع إلى أن يكون مخلصاً أخلاقياً ساخراً متافيزيقياً بعض الشيء، تقليدياً في الشكل، انتقائياً نوعاً ما، أعنى انه وإن كان أصيلا في أسلوبه ففيه تستبين مؤثرات مستمدة من بيتس واليوت وتيت. وهو شاعر مقل حتى ان ديوانه الثاني لا يحتوي غلا تسع قصائد نظمت في مدى خمس سنوات، وقد لا يدل هذا على فقر في الهام أو ضحالة في المقدرة، وإنما قد يكون دليلا على التحرز وحب الكمال والتثبت، وهذا هو شانه في الدراسة والنقد، فقد أعلن أن بسبيل تأليف كتاب عن هنري أدمز؛ ومضت حقبة كاملة من الزمن دون أن يصدر الكتاب.

وبعد ان صدر بلاكمور كتابه " ثمن العظمة " 1940 نشر اثنتي عشرة مقالة كبرى وعدداً من المراجعات وهي تكفي لكتاب ثالث وتزيد، ومن الحق أن يسمى هذا الكتاب المرتقب " الخيال الرمزي " ومن تلك المقالات ثلاث تدور حول هنري آدمز وهي قطع من الكتاب المزمع إنجازه أو إضافات منبثقة عنه. ومنها ثماني قطع تلتزم بدراسة النصوص على وجه محدد وهي تشبه نقداته السابقة للنصوص وهذه هي:

(1)

بين الأسطورة والفلسفة - قطع من ييتس، نشرت بمجلة الجنوب العدد الخاص بييتس، شتاء 1942 دراسة دقيقة لبضع من قصائد ييتس.

ص: 40

(2)

النبع المقدس - وهي تقسير لأحد كتب جيمس، أساء الناس فهمه، في مجلة كينيون خريف 1942 تفسير له على أساس من قصص جيمس المتعلقة بالأشباح.

(3)

ثورة الطيبة - الأبله عند دستويفسكي بمجلة Accent خريف 1942 دراسة اشتقاقية لكلمة ابله، ودراسة للتخطيطات الثمانية التي رسمها دستويفسكي للكتاب.

(4)

الجريمة والعقاب - دراسة في قصة دستويفسكي، بمجلة Chimera شتاء 1943 كشف أخلاقي.

(5)

انجذاب صاف - مراجعة لكتابين من تأليف ولاس ستيفنز بمجلة Partisam، أيار - حزيران 1943 تتبع للمعاني المجازية عند ستيفنز.

(6)

In the Country of the Blue دراسة تبين كيف يعالج جيمس أمر العلاقة بين الفنان والمجتمع؛ في العدد الخاص بجيمس من مجلة كينيون خريف 1943 مقارنة بين معالجة جيمس لهذا الموضوع وبين ما يفعله جويس وجيد مثله.

(7)

ملحوظة عن عزرا بوند، إعادة نظر في شعر بوند؛ بمجلة شعر، أيلول 1946 تبين صلة شعر بوند بشعر بروبرتيوس والموسيقى.

(8)

اليهودي يبحث عن ابنه: دراسة لعولس في Virginia Quarterly Review شتاء 1948 دراسة لكتاب على أساس من الرمز الديني.

أما سائر مقالاته الكبرى وهي خمس فقد كانت كلها جديدة في منحاها فهي تدور حول مشكلات أدبية عامة لم يباشر القول فيها في كتبه السابقة أو لم يطنب في استيفائها، وهذه هي:

ص: 41

1 -

" عادت الفوضى "، بمجلة الجنوب، ربيع 1941.

2 -

" النزعة الإنسانية والخيال الرمزي - ملاحظ في قراءة أيرفنج بابت من جديد "؛ بمجلة الجنوب، خريف 1941.

3 -

" اللغة من حيث هي إشارات "، بمجلة Accent، صيف 1943.

4 -

" اقتصاديات الكاتب الأمريكي - ملاحظ أولية "؛ بمجلة سيواني، ربيع 1945.

5 -

" ملاحظ في أربع مقولات نقدية "؛ بمجلة سيواني، خريف 1946.

وسأتحدث فيما بعد عن المبادئ النقدية الجمالية الجديدة التي تتضمنها هذه المقالات، حين أجمل القول في آراء بلاكمور، أما في هذا المقام فيكفي أن أقول إنها على تنوع موضوعاتها تتناول موضوعاً واحداً هو:" قيمة الفن ". فالأولى منها حديث عن مجموعة سخيفة من المقالات في الحضارة والثقافة الأمريكية قدمتها الجمعية الفلسفية الأمريكية، والثانية عن بابت، والثالثة محاضرة في برنستون، والرابعة عرض يستغل فيه الإحصائيات عن تجارة التأليف بأمريكة، والخامسة محاولة لتصنيف الوسائل الأدبية.

وهناك مراجعات صغيرة مقنعة تحمل طابع المقالات الكبيرة بعضها يتناول الشعر وفي إحداها يخفق بلاكمور في إدراك ما لشعر روبرت لوول من قيمة، وبعضها محاولات في تقويم بعض الجهود النقدية وتوضيحها، وهي تفضح ضعف بلاكمور في نقد زملائه النقاد، ففيها مجاملة لبعضهم وتطارح على إرضاء آخرين.

وقد يبدو من هذا العرض إن جهود بلاكمور مبددة في نواحي متباعدة، ولكن برغم هذا المظهر فإنها ذاهبة في سياق لأنها كلها تحوم حول مبدأين حافظ عليهما من أول عهده بالنقد حتى النهاية وهما: النقد ببذل الجهد، والقيمة العالية للفن.

على إن المناسبات هي التي كانت تستثير جهود بلاكمور وتحفزه إلى

ص: 42

العمل، فإذا طلب إليه أن يكتب مقالة استجاب إلى ذلك، ومقالتاه عن هاردي وييتس كتبتا للعددين المخصصين من مجلة الجنوب لهذين الأديبين، كما إن مقالته عن جيمس أعدت لتنشر في العدد الخاص بجيمس من مجلة كينيون، ومقالته الأولى عن النزعة الإنسانية كتبت لتنشر في العدد الخاص بجيمس من مجلة كينيون، ومقالته الأولى عن النزعة الإنسانية كتبت لتنشر في مجموعة خاصة بدراسة عيوب هذا المذهب. وهناك عدد آخر من المقالات كتبت استجابة لبعض المناسبات أو بطلب من القائمين على تحرير الصحف. واستجوبته صحيفة Partisan في مرتين، أجاب في الأولى عن سبعة أسئلة في الأدب الأمريكي 1939 وعلق على مقال لأليوت في الثانية، 1944. وانتهز الفرصة في المرة الأولى ليرسم مخططاً لمبادئه النقدية، وانتهز الفرصة في المرة الثانية ليكشف عن المضمونات الاجتماعية واللاهوتية في تلك المبادئ كأنما كان يتم استجواباته الأولى رغم مضي خمس سنوات عليها. أما حين طلب إليه أن يكتب في النزعة الإنسانية فقد أنتهز الفرصة ليحطم أصحاب تلك النزعة بالنص على مبدأيه الكبيرين وهما: إن اتساع المعرفة في أي موضوع أمر ضروري، وإن كل فن ونقد صحيح فلا بد من أن يتوفر لهما نفاذ البصيرة وقوة الخيال والنظام.

ولم يتورط بلاكمور في المجادلات العنيفة إلا قليلا، ولم يكن في هذا القليل يهاجم الأشخاص، ولكنه كان دائماً يوجه هجومه إلى الأفكار والمبادئ. ويبدو أنه ينفر من غمز الأشخاص أو من التباري في الهراش والنطاح مما يسميه الناس مجادلات أدبية. ومرة راجع بلاكمور بمجلة " الأمة " 1936 روبرت فروست، فانبرى برنارد دي فوتو للرد عليه لأنه من أتباع فروست ورماه بالحمق، فلم يرد عليه بلاكمور، فيما أعرف. وقد هاجمه هوارد ممفورد جونز سنة 1941 هجوماً ألطف فلم يرد عليه أيضاً فيما أعلم. واندفع إلى مهاجمته مشتطاً متحانقاً كل من الفرد كازين وهاري ليفين فما أعلم أنه رد عليهما. وصف غرانفل هكس نقده بأنه

ص: 43

" يشبه مراوغات اللاعبين الماهرين " فراجع بلامكور كتابه " الموروث العظيم " بمجلة " الكلب والنفير "(وأدرج المراجعة من بعد في كتابه " مزدوجات ") وتوصل في تلك المراجعة إلى تحطيم جميل كامل حين بين الفكرة الأساسية في الماركسية ومدى إصابة هكس في تطبيقها، وأقتبس في آخر المراجعة جملة هكس التي قالها فيه بسخرية بارعة ودون تعليق.

ولقد بين بلاكمور أن ناقداً ديالكتياً آخر لو تناول الماركسية معتمداً على الاستقصاء في جمع مواده العلمية لوجد فيها نظاماً اقتصاديا رصيناً، ولكن هكس فقير في إطلاعه على الأدب الأمريكي. وفي أثناء المراجعة نقد مواطن الضعف في النقد الماركسي بحدة، وكما هي عادته أكد القيم التي لا يفتأ يعمل على أساسها وهي التكثير والشك والفهم التخيلي لموقف الإنسان.

ولو أردنا أن نستعير تشبيهاً نوضح به نقد بلاكمور لقلنا: إنه يشبه صورة الساحر على المسرح وهو يقطع امرأة نصفين. ويخيل للمشاهد أثناء ذلك إنها قطعت حقاً، ثم إذا بها تنهض بعد قليل كاملة سليمة لم يصبها أذى وهي تنحني للرد على تحية الجماهير. يقول بلاكمور:" أن التحليل في هذه المواطن لا يعمق الحز والقطع بل إنه لا يقطع أبداً؛ إنه يجيز الخصائص والجزئيات فحسب، ولابد من أن ترى الخصائص والجزيئات مرة أخرى في أماكنها الطبيعية قبل أن يؤتي الجهد ثمراته ". ثم يبين التشبيه على نحو أوضح في موضع آخر فيقول:

" أي شيء هو هذا (النقد) إلا أنه تجزئة، لا لكي تحنط هذه البقايا المجزأة، بل لكي نفهم عقلياً حركة الأجزاء والعلاقة فيما بينها في الجسم الحي الذي نحبه. فمثل هذه التجزئة إذن خيالية، تدركها العين والفكر وحدهما، ولكنها تجلي معرفتنا دوم أن تحدث في ذلك الجسم

ص: 44

خدشاً واحداً ".

وهو يؤكد أن النقد وإن كان كحد الموسى فإنه على التحقيق لا يمس الشعر نفسه بسوء، ومن الطريف أن نجد هذا التشبيه نفسه - أعني التجزئة التي لا تفصل في الحقيقة جزءاً من جزء - موجوداً عند برادلي في مقدمته على كتاب " المأساة الشيكسبيرية ". وبما أن بلاكمور يعتقد أن التقطيع خيالي لا حسي مادي فإنه يستمد تصوراته عن النقد من النور لا من عملية القطع. فالنقد عنده " تنوير ". ويقول: دعنا نكحل أبصارنا بأنوار أفلاطون؟ الخ. أو يقول: وبذا يصبح الموضوع الشعري " متجلياً " أو هذه الكلمة " تجلو " أو هذه العبارة " تنير " وهلم جرا.

ولبلاكمور مقالة واحدة في " عمل الناقد " مدرجة في كتابه " مزدوجات "، غير أنه تحدث عن النقد في مواضع كثيرة من كتاباته. وإذا جمعت أقواله معاً وجدتها ترتكز حول مبدأ نقدي واحد، محوره تشبيه التجزئة الخيالية، وتشبيه النور، والنص على الثمن والمسئولية والسخرية والخيال والصناعة الفنية. وقال في تعريف النقد:" أنه حديث رسمي يقوله أحد " الهواة " وأكد " إن كل مباشرة عقلية فإنها صالحة للأدب ومن الممكن أن نسميها نقداً إذا هي تركزت حول أي نقطة من الأثر الأدبي نفسه ". غير أنه أضاف منبهاً: " أن نقد النقاد يذهب بنا في شعاب كثيرة وينتهي كل منا حيث بدأ، إلى تقبيل بقرتنا المحبوبة دونما أدنى شهوة لذلك " ويزيد إلى ذلك قوله:

بعض النقاد يخلقون عملا فنياً جديداً، وبعضهم علماء نفسيون وبعضهم متصوفة وآخرون سياسيون ومصلحون وثمة قليل من الفلاسفة ومن النقاد الأدبيين. ومن الممكن للمرء أن يكتب عن الفن من جميع هذه الزوايا ولكن لا نسمي ما يكتب نقداً إلا أن صدر عن آخر فريقين - الفلاسفة ونقاد

ص: 45

الأدب -؟ وليس بين أنواع النقد الدخيلة والأدب إلا علاقة إحصائية أو مورفولوجية، كالعلاقة بين صنعة العاج ولعبة الشطرنج.

وأحياناً يكون بلاكمور شديد التواضع في نظرته إلى مهمة النقد كأن يقول: " نستطيع أن نفصل جانباً بعض الأفكار التي نسميها أساسية وإن كنا نعني أن فصلها وتنحيها أمر ممكن فحسب ". أو يقول:

بقي ما يحتاجه النقد الأدبي من جهد أعني جمع الحقائق المتصلة بالآثار الأدبية والتعليق على ما في تلك الآثار من تدبير وصنعة فنية وتقنيات، وهذا هو الجهد الذي يستحق أن يبذل ما دام يدخل القارئ إلى حومة تلك الآثار.

وعلى الرغم من هذا التواضع فإن قواعده عن " الناقد الجيد " لا تزال تدلنا على الصعوبة والندرة في إجادة التطبيق وعلى مقدار ما يعتقده في تلك القواعد من قيمة وأهمية أصيلة في تطبيقها على الفنون حتى على أعظمها؛ ولذلك يقول:

الناقد الجيد يجنب نقده أن يصبح متحيزاً أو نابعاً من غرائزه، كما أن جهد فهمه دائماً محدد لا طائش، محدد ذو نوعية كالفن الذي يحاول فحصه وتفهمه؟ وهو يلحظ الحقائق ويبتهج لإدراك الفروق وتمييزها، ويجب أن يبقى ما يتفحصه تحت أضواء موضحة، سهلا لمن يحب أن يباشره من بعده، لكن دون تغيير في حقيقته وذاته.

ولقد كان بلاكمور يلح دائماً على عظم قيمة الفن ولكنه في إنتاجه الأخير قد أوغل في هذا الموضوع حتى كأنه أصبح يتخذ الفن ديناً دنيوياً مثل جيمس أو جويس. ولو سمعت أحداً يقول: " في الفن كل القيم "

ص: 46

لما كان ذلك إلا جيمس أو بلاكمور، وتكون القيم في الفن - حسب رأيهما - على ضربين: في أن الفن يعبر عن القيم وفي أن الفن هو نفسه تلك القيم. وجاءت مع هذا التقديس للفن نزعة جديدة نحو الفن تكاد تكون صوفية، أعني أن كل ما يقوله كتاب من الكتب الأدبية يصبح لدى بلاكمور حرفياً، حدث كل ما فيه من أحداث، فالتقى فيه فلان بفلان على التحقيق، أي تصبح للكتاب حياة مستقلة وإرادة ذاتية، وهو يتحدث عن هذا الكتاب أو عن تلك القصيدة كأنما يتحدث عن شيء دبت فيه الحياة وأصبح له كيان ووجود.

وصاحب هذا الإيمان إيمان آخر بالثلاثيات بعد المزدوجات الثنائية؛ كان بلاكمور من قبل يكثر من ذكر الثنائيات كأن يقول: " رأيي في هذا الأثر الفني مزدوج ثنائي؛ (0فائدة هذا النوع من الإقبال على الدراسة مزدوجة " فلما كتب عن دستويفسكي تحولت المزدوجات إلى ثلاثيات: ففي الصفحة الأولى من مقاله عن " الأبله " تجده يقول: " في هذا الكتاب الكامل إذن مسرحية ثنائية لا بل ثلاثية، ثم يختم مقاله بالحديث عن الكتاب في مناسيب ثلاثة: العقلي والسردي والتخيلي. وفي الفقرة الأولى من مقاله عن " الجريمة والعقاب " يعلن أن للقصة " ثلاثة أنواع من المغزى " ولابد للقارئ من أن يعيد بناء الثلاثة من طريق التحليل. ثم هو يلمح في مراجعته عن ولاس ستيفنز أن لدى ستيفنز ثالوثاً يتمثل في اتخاذ ثلاث مراحل، وفي احتواء كل دورة من شعره على ثلاثة أبيات ولذلك يقول:

الثالوث هو الشكل الوحيد المقبول من الوحدة. وأنا اعتقد أن ضروب المهارة في الخيال، التي بها تدخل الأفكار والأستبصارات والأعمال في نطاق الشعر، فإنها تؤتي خير ثمراتها إذا اختارت موضوعاً أو فكرة مثلثة. ذلك لأن التثنية

ص: 47

غير كافية إلا إذا تمخضت عن ثالث. فالحرب والسلام يحتاجان مظهراً ثالثاً مثلما يحتاج السائل والثلج بخاراً، مثلما تحتاج الجنة والنار مكاناً ثالثاً يسمى " الأعراف ". من الازدواج يجيء التولد، وهذه هي طبيعة العقل الخلاق.

أما المصطلح الذي أخذ يكثر من استعماله في تلك المرحلة، فإنه يضم كفتي " الخيال " و " الخيال الرمزي "؛ أما " العقل " فقد أحتل منزلة دنيا. فمثلا يقول: الوحدة عند بيتس وحدة " تخيلية " نتجت عن " قوة تخيلية عظيمة قادرة على التعميم " أو: الخيال وأعني به خيال الفنان يعلو على المخاوف والمغريات " أو: " الخيال لا العقل حسنة من حسنات الفهم " العقل يأثم والخيال يكفر الآثام؛ " حركات العقل عارضة متقطعة " أما الخيال " فهو مستمر وهو إرادة الأشياء "؛ والفنان يخلق قيماً أخلاقية " من الواقعي بعون من الخيال ". و " الخيال في النهاية هو المقنع الوحيد " وهلم جراً؛ وهذه أمثلة منتزعة من مقالات عديدة مختلفة.

ويتصل بفكرته عن الخيال، نقده لبابت وأصحاب النزعة الإنسانية؛ فأخطاؤهم في رأيه تنشأ من " انحلال الخيال المسيحي، ومن خلو الخيال الرمزي الديني من أي وصف " وإن ذلك لا علاج له إلا باتخاذ " الخيال الرمزي " فهو يمثل " النعمة الكبرى " وإذا شئنا استبقاء النزعة الإنسانية وجب أن نمزج بين عناصرها وهذا الخيال الرمزي. بل أن بلاكمور يقترح في المناهج التي تقرر في برنستون أن تكون قادرة على أن توجد في الطلبة " تكاملا تخيلياً ". وقال في محاضرة له عن بروكس آدمز: إن بروكس قد نضج لأنه تحول من القانون التاريخي المطلق وصرامته إلى قوة تخيلية مدركة للتاريخ إدراكاً عاماً كلياً. وفي مقاله " ملاحظ في أربع مقولات في النقد " تجده جعل رابعة المقولات وأسماها، هي " الخيال الرمزي "، وإن " الرمز " هو الذي يستشف من " الواقعي " فهو

ص: 48

" الحقيقي " بلا جدال. وفي ذلك يقول:

الكتابة التي تستمد كيانها وتظل أبداً وتقف عند ذلك الحد يمكن أن تسمى تجربة في نطاق الواقع. اما الكتابة التي تخلق أي توجد شيئاً وراء الحد الذي بلغته الكتابة الأولى فقد تسمى رمزاً. هي رمز لا بنسبة ما قيل وما قرر، وإنما بنسبة ما لم يقل وما لم يمكن قوله، أو بنسبة ما وراء الحدود التي بلغتها الكتابة الأولى من كون ذي استقلال وكيان ذاتي. فالرمز هو أدق معنى ممكن. إذا نظرنا إلى العامل الذي حرك الكلمات وما أحدثته هذه الكلمات حينما تحركت. والرمز لا يرمز لشيء معروف من قبل ولكن لشيء يوجده الكشف ويكاد ينكشف. وإذا رمز الرمز إلى شيء سوى استمراره الذاتي فهو يرمز إلى ما في دخيلة القارئ لكي يمكنه من أن يميزه ويجلي به تجربته، مثلما أن المعنى الذي يشير إليه الرمز يجلي المسارب في إحساس القارئ بنفسه، في تلك اللحظة نفسها.

هذا هو إذن بلاكمور: يقدر الفن والخيال الرمزي تقديراً رفيعاً حتى يكاد يكون صوفياً في موقفه، وبوحي من مضمونات هذا الموقف نستطيع أن نلخص ما أداه بلاكمور في النقد وأن نقدره فنقول: إن نقده في إحدى ناحيتيه غال ثمين، تعاظمي، لا مساس له بالحياة، أي هو بعبارة أخرى:" نقد هواة " ومن السهل علينا أن نجد الشواهد على تهمة " الهواية " في هذا النقد. أما تعاظمه المتعالي فيتبدى لنا من قوله مثلاً: إن حضارتنا الشعبية قد نجحت في أن تنتج أدباً بلا مقاييس وأن أمريكة تعاني لأنه " ليس فيها طبقة مسيطرة في المجتمع تستطيع أن تضع للفهم الجمالي والتعبير عن الحياة الإنسانية قيمة رفيعة " وأن " سير الجماهير

ص: 49

نحو الديموقراطية إذا أستمر مريره على هذا المنوال فإنه سيجعل رغبة الفنان وأهتمامه أمراً غير محتمل أو غير شامل أو بعيداً لا وصول إليه ". بل أن ميله إلى مجرد التجربة وتردد المرتاب الحذر ليجعل نقده مبرماً مضجراً كأن يقول مثلا: " تحاول هذه المقالة أن تقترب من هرمان ملفل بحذر وتتأتى إلى ذلك متسللة من وراء موقفه المتثبت الواثق - أي شيء كان ذلك الموقف - في الأدب الأمريكي - أي شيء كان ذلك المسمى أدباً أمريكياً ". ودقته تبلغ حد التعسف المرهق حين لا يتحدث مثلا عن أفلاطون بل عن أفلاطون في " مرحلته الأولى " ولا عن فواتح هنري جيمس بل عن " فواتحه النقدية " ولا عن قصائد توماس هاردي بل عن " مقطعاته وقصائده القصيرة " ولا عن شعر ييتس بل عن " آخر ما أنتجه من شعر ". ويقول في فاتحة كلامه عن آخر ما أنتجه ييتس من شعر: " آخر ما أنتجه ييتس شعر عظيم حقاً في نوعه، متنوع كثيراً في نوعه أيضاً، فهو يستحق دراسة خاصة ولكنها لن تكون الدراسة الوحيدة، وكذلك لن تكون هي الدراسة الكاملة ".

وإعجابه بالمرهف يصده أحياناً عن أن يتذوق ما لم يكن نصيبه من الإرهاف بالغاً، كعجزه عن أن يتذوق بعض النواحي في ملفل، فهو يجتاز تلك النواحي بقوله: إنه يفضل جيمس، وكعجزه عن أن يستسيغ شعر وليم كارلوس وليمز. وإذا حاكى هو جيمس في إسلوبه لم يستطع أن ينتحل قوة أسلوب جيمس وحذاقته بل يحاكي جمله المتقطعة المترددة فيتعب القارئ بالمعترضات وكثرة الفواصل. وهو يعيد أحياناً كتابة ما ينقده من شعر بدلا من أن يحلله. وآخر مظهر من مظاهر " الهواية " عنده إنه لم يؤلف كتاباً في النقد، واكتفى بكتابة المراجعات والمقالات التي تثيرها المناسبات.

ولكن عيوب بلاكمور تقابلها حسنات ترجح بها - وتلك هي الناحية

ص: 50

الثانية - فما يرجح بالتعاظم المتعالي إصراره على المسؤولية الاجتماعية لدى الفنان والمهمة الاجتماعية التي يؤديها كل من الفن والنقد. ويقابل " غلاء " نقده ذلك التواضع العاري الذي عبر عنه أجلى تعبير في قوله: " أعتقد إن قلة جمهوري إنما ترجع إلى نقائصي في الأسلوب والإحساس والأفق، ولست أجد من حقي أن أشكو أو أتذمر من هذا الوضع ". وهو يقول في موضع آخر:

علينا أن نغامر بحذر في استعمال أي مبدأ قد يبدو مناسباً أو مسعفاً في تجاوز الفجوات، ولست أنص على الحذر إلا في الاستعمال فإنه يجب أن يكون مؤقتاً تأملياً درامياً. وإن ثمرة التواضع لا تأتي إلا بعد سلسلة طويلة من اعتياده؛ والدعوة إلى التواضع معناها عدم النفور من الإقرار بالجهل.

ولا يوازي هذا التردد وعدم الحسم إلا ثقته الحاسمة في القيمة المطلقة للفن والخيال الإنساني، ولذلك تسمعه يقول في نفس المقال الذي اقتبسنا منه العبارة السابقة:

إن الفنون تخدم غايات تقع وراء تلك الفنون، وهي غايات الأشياء التي تحكيها أو تعبر عنها حين تحكيها أو تعبر عنها بمعزل عن التيار الكبير الذي يمنح تلك الفنون نظامها ومعناها وقيمتها. فإذا أنكر منكر تلك الغايات فكأنما أنكر أن المنشار مجعول لقطع الخشب، وإنه يجب ن يظل معلقاً لئلا ينقص النشر من قدره.

ويمتاز بلاكمور وأمبسون بأنهما أكثر قراء الشعر تدقيقاً، وإنهما قد تخصصا في هذه الناحية تخصصاً خرج إلى الغلو وجاوز طوره (وهذا قد يرجح بالهواية عند بلاكمور) وإن أستاذيهما - بيرك ورتشاردز - قد

ص: 51

شغلا نفسيهما بالتفريعات الناجمة عن نظرياتهما حتى عجزا عن أن يوليا النصوص الشعرية قسطاً صالحاً من وقتهما. أما شغف بلاكمور بالمرهف فإنه يوازيه ميل متزايد عنده إلى قبول ما هو غير مرهف كاستساغته التدني عند دستويفسكي والخشونة لدي ييتس وهذان يعدلان الذوق المرهف لدى كل من جيمس وآدمز. بل من صور الابتعاد عن المرهف تحول السخرية عند بلاكمور إلى نوع من الفكاهة في أحدث ما أنتجه. قابل بين هذه الدعابة الأكاديمية المجتلبة:

" ها هنا لا يصرخ السيد منسون قائلا مهابهاراتا ولا حتى مهابراكادبرا؛ أنه يكبح نفسه عن ذلك ويلتزم بصرخات أقل رنيناً لأنه يتحدث عن النقاد فيقول بابت! آرنولد آرنولد!.. "(1930) .

وبين قوله وهو هزل عميق:

" إلا أن السيد كيدر يسير في وجهة مخالفة، فهو يسقط الفلسفة من حسابه إهمالا ليس إلا، لأنه لم يمارسها. وانك لتشعر وأنت تقرؤه أن لو ذكره بها أحد في دور مبكر، يوم كان يستجمع معارفه وثقافته، لملأ بها أوراقه وصحفه ".

أو قوله في نقد الصور المرفقة بطبعة " الملاح القديم ":

" إنك لا ترى إلا رؤوسها كأنها مثل غطاء الرادياتور الممثل بالنحت في عام 1934 أو صور المنفيين العائدين. أما طائر البطروس فهو مستعجل ليتحول إلى بطة جالسة وقد افلح في ذلك. "

هذا وان نظم الشعر قد جعل بلاكمور يحاول أن يعيد كتابة القصيدة بدلاً من أن ينقدها، ولكنه أفاده أيضاً إذ منحه ذوقاً لا يكاد يخطئ (باستثناء هنات قليلة) ولذلك تجده حينما راجع تسعة شعراء سنة 1937

ص: 52

استخرج من بينهم بذوقه الثاقب كلاً من أيكن وستيفنز ونفى هسمان وماسترز وساندبرغ وبروكوش وغيرهم، ثم عمد إلى الاثنين اللذين فضلهما واستخرج من شعرهما أفضله وأجوده. كذلك فأن الشعر منحه القدرة أو قل الشجاعة على أن يميز في الأدباء العظام أمثال ييتس ودستويفسكي " ما يملأون به الفراغ "، أي يتركون القلم يكتب رجاء أن ينبثق شيء حسن. أما اتهامه بأنه لم يكتب كتباً فالرد عليه ان يقال: ان كتابيه اللذين أصدرهما منظمان يلتفتان حول وحدة ملموسة في الفكرة والتطبيق وهما متكاملان كأي كتاب تعده عظيماً في النقد.

ثم نستطيع ان نقول في الجملة أن " الهواية " لم تتلبس به، وانه ابتعد عنها قدر ما يبتعد عنها اخلص المتخصصين ولقد قال في مقاله عن " عمل الناقد ":

إن طريقتي إن صح أن أدعوها كذلك لا تلم بكل شيء بل تترك القارئ وفي يده القصيدة وأمامه عمل يؤديه بنفسه، وكل ما صنعته أني حاولت أن اقدم إليه القصيدة من حيث صلتها بهذه الطريقة التي رسمتها والتي اقتصدت فيها ومنحتها شيئاً من التعويض. وأنني لأتوقع أن ترد طريقتي هذه لمن يستعملها ما اقصده وتعوض عليه ما فقده.

وهذا مقياس لطريقته النقدية جيد متواضع يجعلنا نقول في الحكم عليه، على أساس من هذا المقياس: انه ألم بكل ما يمكن أن يلم به، وحقق كل ما يمكن ان يحققه ناقد يجمع العلم الواسع والكد المضني والألمعية التخيلية والشرف المتواضع. وأننا في قولنا هذا كله لا ندعي إننا نكافئه تعويضاً، او أنه كان يجب علينا أن نقتصد في الثناء.

ص: 53