المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل العاشر ايفور ارمسترونغ رتشاردز والنقد بالتفسير لا يكاد المرء يقترب من ايفور - النقد الأدبي ومدارسه الحديثة - جـ ٢

[ستانلي هايمن]

الفصل: ‌ ‌الفصل العاشر ايفور ارمسترونغ رتشاردز والنقد بالتفسير لا يكاد المرء يقترب من ايفور

‌الفصل العاشر

ايفور ارمسترونغ رتشاردز

والنقد بالتفسير

لا يكاد المرء يقترب من ايفور آرمترونغ رتشاردز إلا وهو يحس برهبة عظمى، فان اطلاعه في كل مجال من مجالات المعرفة واسع مترامي الأطراف، وتميزه في ستة ميادين، بجانب ميدان النقد، فذ ساطع، والألمعية والحذاقة في كتبه الأولى - على الأقل - رائعة، حتى ان دراسة سريعة له في بضعة آلاف من الكلمات لمحتوم عليها أن تكون سطحية مضحكة، وأن " معنى المعنى " وحده بما فيه من مشكلات الخدع " الصوتية " و " والثنوية "(1) ؛ وان ما يحويه من

(1) يعني المؤلفان بهذه الخدع العناصر التي تجعل المعاني في الكلمات غير محدودة كتعدد الإيحاءات الصوتية للكلمة الواحدة، أما الخدع العناصرية فهي التي تحملها المصطلحات العامة مثل الفضيلة، الحرية، الديمقراطية، السلم، المجد. وأما النوع الثالث فهو المصطلح الذي يحمل دلالتين معاً مثل " معرفة " فإنها تشير إلى ما هو معروف كما قد تشير إلى عملية التعرف به " وجمال " قد تعني خصائص الشيء الجميل كما تعني التأثيرات العاطفية الناجمة عن تلك الخصائص انظر " معنى المعنى " 1330 134.

ص: 116

" مثيرات " و " متخلفات " و " متطفلات " و " متبديات "(1) لابد وأن يصرف المعلق الارتجالي عنه. غير إنه من المستحيل أن يعالج النقد الحديث دون التحدث عن رتشاردز لأنه هو قالقه، بالمعنى الحرفي. فإن ما نسميه نقداً حديثاً بدأ عام 1924 عندما نشر كتاب " مبادئ النقد الأدبي " حيث يقول رتشاردز عن التجارب الجمالية:

سأجهد الجهد كله لأدل على أنها جد مشبهة لكثير من التجارب الأخرى وأنها تختلف، في المقام الاول، بالعلاقات القائمة بين محتوياتها، وأنها ليست إلا تطوراً للتجارب العادية وأنها من ثم تصبح أدق منها وارهف تنظيما، إلا أنها ليست بحال تجارب جديدة مغايرة للتجارب العادية. وحين ننظر إلى صورة، أو نقرأ قصيدة، أو نصغي إلى الموسيقى، لا نفعل شيئاً مبايناً تماماً لما نفعله ونحن ذاهبون إلى بهو التصاوير، أو لما فعلناه حين لبسنا ملابسنا صباحاً؛ نعم أن الطريقة التي تأدت بها التجربة إلى أنفسنا مختلفة، كما أن التجربة نفسها أكثر تعقيداً، وإذا وفقنا فيها فأنها تكون أكثر وحدة، غير أن فعاليتنا ليست في أساسها من نوع مخالف أبداً.

وإذ يخصص الكلام في الشعر، تجده يقول:

ليس لعالم الشعر، بأي معنى، واقع مخالف لسائر ما في العالم، وليست له قوانينه الخاصة، ولا خصائص مستمدة

(1) كل هذه المصطلحات تشير إلى أنواع من الكلمات:

فالمثيرات هي الكلمات التي تثير عواطف محيرة والمتخلفات لكثرة الإشارات المترابطة، والمتطفلات هي الكلمات التي يطلقها المتكلم حول موضوع لم يسيطر عليه تماماً، والمتبديات كلمات تشبه الرطانة أو الأصوات الفارغة في حقيقة دلالاتها (انظر معنى المعنى ص: 136 وما بعدها) .

ص: 117

من دنيا أخرى غير هذه، فانه مصنوع من تجارب هي من نفس أنواع التجارب التي تتأدى إلينا بطرق أخرى. وكل قصيدة، على وجه التحديد، قطعة محدودة من التجربة، قطعة يدركها الوهن، بشدة أو بخفة، إذا تطفلت عليها عناصر غريبة، لأنها منظمة تنظيماً أعلى وأشد إرهافاً من التجارب العادية التي تتأدى إلينا من الشوارع أو البطاح، فهي تجربة هشة ناعمة ولكنها اكثر التجارب قبولا للنقل والإيصال.

وبهذين المصطلحين اعني " التجربة " و " النقل الإيصال "، تحول رتشاردز بالنقد الادبي، وبهما كتب تعريفه المشهور للقصيدة في كتابه، وهو التعريف الوحيد الذي يبقى متماسكاً إذا أنت سمته تطبيقاً، فيما أعلم (1) .

هذه هي الطريقة الوحيدة العملية، في الحقيقة، لتعريف قصيدة، وأن بدت غريبة معقدة: وذلك أن نقول أن القصيدة مجموعة من التجارب التي لا تختلف في أي من خصائصها إلا بمقدار معلوم، يتفاوت تبعاً لكل من هذه الخصائص، عن تجربة معينة نتخذها معياراً لسائر التجارب. وقد نجد هذا المعيار في تجربة الشاعر عندما يأخذ بتأمل ما أكمل خلقه وأبدعه.

وقد كرس رتشاردز كل إنتاجه للكشف عن كيفية توصيل هذه التجارب للقارئ، أي أنه على التحديد خصص جهده للكشف عما يحصل عليه القارئ، أي لتوضيح العلاقة بين الجمهور والقصيدة لا العلاقة بين الشاعر والقصيدة. وقد سمى هذا الميدان ذات يوم " تفسير الدلالات " وأخيراً سماه " ريطوريقا " واليوم عاد إلى تسميته " تفسيراً ". وكل

(1) انظر كتاب مبادئ النقد الأدبي: 226 - 227 ويقر رتشاردز هنا بأن هناك صعوبات أيضاً مثل ذلك أن لا يكون الشاعر نفسه راضياً عما أبدعه.

ص: 118

كتاب من كتبه قد جال مجاله في ميدان من ميادين دراسة التفسير باستمرار ثابت باهر، وتتخلل كتبه غاية مزدوجة هي تفهمنا كيف تتم عملية النقل الفني، وكيف نجعلها تتم على وجه احسن.

وأول كتب رتشاردز هو " أسس علم الجمال " The Foundation of Aesthetics وقد نشره عام 1922 بالاشتراك مع اوغدن العالم النفسي، وجيمس دود وهو حجة في الفنون. ويستعرض المؤلفون في ما يقل عن مائة صفحة كل ما ورد في النظريات الجمالية بحثاً عن طبيعة " الجمال " وبعد أن يتأملوا كل التعريفات الرئيسية يطلعون بتعريفهم الخاص الذي يقول: إن الجمال تجربة أو حال في الجمهور وانه ليس " شيئاً " غامضاًً كاملا في العمل الفني نفسه كان يقدم للناس فكرة أصبحت مدار اهتمامه في كل مؤلفاته. وحين تتبع هذه الفكرة من طريق المقارنات للحدود الكثيرة والتحليلات للمصطلحات، كان يتقدم بما اتخذه منهجه الرئيسي من بعد.

وفي السنة التالية نشر رتشاردز وأوغدن مؤلفهما العظيم " معنى المعنى " وكما تتبعا في " أسس علم الجمال " فكرة " الجمال " خلال التعريفات الكثيرة تتبعا في " معنى المعنى " فكرة " المعنى " نفسها، وكانا يحاولان ان يقيما شيئاً شبيهاً بالنظرية عن طبيعة الرموز وتفسيرها وعلماً لطريقة الإيصال اللغوي يمكن تطبيقه من بعد على الفن. وكانت أداتهما الكبرى في هذا العمل هي السيكولوجيا الانتقالية مستمدين من كل مدرسة نفسية حديثة تقريباً. أما " التقنية " الكبرى التي استغلاها فهي التعريفات الكثيرة ثم انتهيا إلى ما سمياه علم الرمزية التي اصبح سواهما يسميها من بعد: السمانتيات الحديثة. وقد طور المؤلفان مصطلحاً لبحث الرموز وطريقة تفسيرها مستعملين اصطلاحي " راموزات " و " مرموزات " وبحثا العلاقة بين العمليات الفكرية والتفسير، وحددا قوانين التفكير، وكشفا عن طبيعة

ص: 119

" الحد " و " المعنى " واختبرا مدى نجاح هذه الطريقة في الأفكار الجمالية عن الجمال (معيدين شيئاً مما قالاه من قبل) وفي أمثلة من الأفكار الفلسفية، وأخيراً سلطا كل ذلك على الشعر. وقد استدعى هذا العمل التفرقة بين المعنى " الرمزي " للعلم (أو ما كان يسمى من قبل نثراً) وبين المعنى " الباعثي " أو " الإثاري " للشعر (وهذا امتداد لما سماه مل " الدال " و " الضمني ") .

لقد اتخذ أوغدن ورتشاردز من " معنى المعنى " قنطرة للفكر في أي مجال، وجعلا كل كتبهما من بعده وكأنها ملاحق عليه أو توسعات له، ووضحا في مقدمات الطبعات التالية من هذا الكتاب معقد العلاقة بينه وبين كتبهما الأخرى. أما كتاب رتشاردز " مبادئ النقد الأدبي "(1924) فانه " يحاول أن يتخذ نفس الأساس النقدي الذي حاول أن يقيمه في " معنى المعنى " أساساً في قدرة اللغة على الإثارة " وأما " العلم والشعر "(1926) Science and Poetry فأنه يبحث " مكانة الأدب ومستقبله في حضارتنا "(أي انه يحقق إيجاد العلاقة بين الوظائف الرمزية والاثارية للغة) ويجيء " النقد التطبيق "(1929)" تطبيقاً تعليمياً للفصل العاشر " وهو الفصل الذي يبحث في المواقف الرمزية بما في ذلك العجز عن التفسير ومواطن الاضطراب فيه. ويعالج كتاب " آراء منشيوس في العقل "(1932)" الصعوبات التي تعثر بها المترجم ويكشف عن وسائل التعريف المتعدد " وهذا ما يوضحه كتاب " القواعد الأساسية في التفكير "(1933) . أما كتاب " رأي كولردج في الخيال "(1935) فانه " يقدم تقديراً جديداً لنظرية كولردج في ضوء تقييم مناسب للغة الاثارية " ويستطيع القارئ على هذا النحو ان يضع كتب رتشاردز في مواضعها فيرى في " فلسفة البلاغة " The Philosophy of Rhetoric ما يوضح " سوء الفهم وطرق علاجه " وهذا شيء يحققه أيضاً كتاب " الأساسي في التعليم بين

ص: 120

الشرق والغرب ". Basic in Teaching: East and Weat (1935) ويحقق كذلك كتابه " الأمم والسلام " Nations and Peace (1947) ولكن في مجال آخر. أما " التفسير في التعليم " (1938) فأنه " كالنقد التطبيقي " " تطبيق تعليمي للفصل العاشر " يجري في هذه المرة " كالنقد التطبيقي " " تطبيق تعليمي للفصل العاشر " يجري في هذه المرة على النثر. ويكشف كل من " كيف نقرأ صفحة " وطبعة رتشاردز من " جمهورية أفلاطون " (كلاهما نشر سنة 1942) عن التعريف المتعدد في اللغة الأساسية بمعالجة نص من أفلاطون، وهلم جراً.

وتترتب كتب أوغدن على هذا النحو نفسه فيقدم لنا كتاب " معنى السيكولوجيا "(1926) الذي أعيد طبعه سنة 1929 بعنوان " أبجدية السيكولوجيا "" مقدمة عامة للمشاكل السيكولوجية في دراسة اللغة " وأما " الإنجليزية الأساسية "(1930) فانه " تلمس للمبادئ العامة في الدلالات ولأثرها في قضية إيجاد لغة علمية عالمية، ومجهود تحليلي لاكتشاف قواعد للغة يمكن بها ضبط الترجمة من نظام رمزي إلى نظام رمزي آخر " كما أن طبعة اوغدن لكتاب " نظرية بنثام عن أنواع الأدب التخيلي " Bentham " s Theory of Fictions (1932) " قد ركز فيها الانتباه على مساهمة مهملة في هذا الموضوع " (أي موضوع الدلالات وتفسيرها) وهذا هو الموضوع الذي عالجه أيضاً في " جرمي بنثام " Jeremy Bentham (أيضاً) . وما كتاب " مقاومة " Opposition (1932) إلا " تحليل لمظهر من مظاهر التعريف، ذي أهمية خاصة في التبسيط اللغوي " وعلى هذا النحو، فيما أعتقد، يمكن أن نعتبر كتب أوغدن المبكرة كشوفاً ابتدائية لهذه المشكلة أما تلك الكتب فهي: (أ) " مشكلة مذهب الاستمرار " The Problem of The Continuation School (1914) كتبه بالاشتراك مع ر. هـ. بست (ب) " بين خصب الإنتاج والحضارة " Fecudity Versus Civilization (1916) بالاشتراك مع أدلين مور

ص: 121

(ج)" انسجام الألوان " Colour Harmony (1926) بالاشتراك مع جيمس وود.

وفي الوقت نفسه لم تقف كتب رتشاردز عند توضيح مظاهر من نظرية تفسير الدلالات بل إنها أدت خدمات جلى فيما يتعلق بالبحث الأدبي على وجه الحديد؛ فأول كتاب ألفه مستقلا وهو " مبادئ النقد الأدبي " أوجد النقد الأدبي الحديث كما تقدم القول، وما يزال بعد عقدين من الزمان نصاً نقدياً هاماً مستمر التأثير. ولما تحدث عنه دافيد ديشز في كتابه " الكتب التي غيرت عقولنا " Books That Changed Our Minds وصفه بأنه طليعة الكتب في تطبيق علم النفس على الشكل، واسبغ عليه كنث بيرك حمده وإطراءه لهذا السبب نفسه، وهو يعتبر بعامة أهم كتاب ألفه رتشاردز وأكثر كتبه تعلقاً بالأصول من حيث ما حواه من مصطلح نظري وفلسفي (أما بحسب مفهوماتنا في هذا البحث فأنه يتضاءل إزاء " النقد التطبيق ") . وقد حاول رتشاردز في هذا الكتاب، بالإضافة إلى أنه عرف الشعر تجريبياً ونص على قابليته للبحث من أساسه، أن يجعل من النقد " علماً تطبيقياً " ذا وظيفة مزدوجة هي: تحليل كل من التجارب التفسيرية والتقييمية وفي الوقت نفسه اضطلع بمهمة تجاوز فيها حد العلم، تلك هي إنشاء معايير تقيمية، مصرحاً أن " من ينصب نفسه ناقداً فكأنما ينصب نفسه حكماً على القيم " محدداً خصائص الناقد " الجيد " في ثلاث:

أن يكون حاذقاً جرب حالة الفكر المرتبطة بالعمل الفني أثناء حكمه دون ان تشط به نزواته الذاتية. ثانياً لابد له من ان يكون قادراً على تمييز تجربة من أخرى من حيث مظاهرها الأقل سطحية. ثالثاً لابد من أن يكون حكماً رصيناً على القيم.

ص: 122

كل هذه المعايير تشير نحو موضوعية علمية، ولكنها أيضاً تشير، بنفس القوة، إلى خصائص ذاتية خالصة، أي إلى تلك الثقة الذاتية الغريبة التي ندعوها " الذوق ". ولما شاء رتشاردز أن يجلو خصائصه الذاتية، كما يوضح طريقته الموضوعية، ارفق بكتابه ملحقاً درس فيه بإيجاز عدداً من قصائد اليوت. وهذا الملحق وان كان سطحياً، فأنه مع ذلك ثاقب دقيق مشمول بسعة الاطلاع (مثلا يستخرج فيه رتشاردز إشارات من قصيدة بيربانك وبلايشتاين أكثر مما استطاع النقاد أن يلحظوه فيها بعد عقدين من الزمان) . ومع ذلك فان في كتاب " مبادئ النقد الأدبي " عدداً من العيوب. فمن أقيم الأشياء في الكتاب - مثلا - تأكيده أن (الدوافع لا يمكن تلقيها إلا أن كانت تخدم حاجة عضوانية " (وهذا عندما يطبق على الأدب معناه أن الأديب لا يشير إلى شيء ولا يقتبس شيئاً إلا أن يكون ذلك معبراً عنه) . غير أن رتشاردز يتقدم لتحطيم مبدأه هذا بحماقة، مقرراً أن النقد القائم على التحليل النفسي لا يستطيع ان يدرك ميزة قصيدة " قبلاي خان " لأن " باعثها الحقيقي " هو " الفردوس المفقود " وقراءات أخرى ثقفها كولردج - وهذا مثال من فرض يتخذ برهاناً، وهو في حاجة إلى إثبات، غير أن مثله ليس كثيراً عند رتشاردز. وفي الوقت نفسه يسيء رتشاردز قراءة قصيدة أخرى لكوردج وهي " الملاح القديم " واجداً أن " خلقيتها "" أمر دخيل "، مع إنها لب شعائر التكفير في القصيدة (1) . وأخيراً فان اللوحة المدهشة التي تشير إلى الجهاز العصبي على الصفحة 116 وتصور الطريق التي يمارس بها العقل الصور في بيت من الشعر تخلق آثاراً مضحكة مباينة تماماً لأهداف

(1) يشير هنا إلى الموضوع قصيدة " الملاح القديم " وكيف أن الربان قتل طائراً كان يتبع السفينة فهدأت الريح، وحل النحس، وكان " التكفير " فيها هو شعور الربان نفسه بشبح الذنب يلاحقه أنى اتجه، ثم موت البحارة واحداً بعد آخر.

ص: 123

رتشاردز وفيها جور على جديته عامة وكان من الخير لو أسقطها.

أما كتاب رتشاردز التالي " العلم والشعر " فانه مجموعة من سبع مقالات قصيرة وهو استمرار للبحث في هذه المشكلات جميعاً وفيه يطور رتشاردز فكرة " السؤال الكاذب " و " التقرير الكاذب " من اجل البوح الباعثي في الشعر. ويقدم فكرة اقرب إلى أن تكون طفولية وهي " وسائل الهرب " المهيأة للشاعر أي طرق " التملص من المصاعب " وهي الفكرة التي أمعن النقد الماركسي في استغلالها دون ملل. ويستمر رتشاردز في الوقت نفسه في بحوثه المحددة عن الشعر مخصصاً الفصل الأخير لنقد هادي ودي لأمير وييتس ولورنس، وهذه البحوث - كما جرت العادة - مرهفة مشمولة بسعة الإدراك رغم ما فيها من تهوين كثير لشأن ييتس، الأمر الذي اعتذر عنه رتشاردز بحاشية في الطيعة الثانية سنة 1935. (وألغى أيضاً قوله السابق بان اليوت " قد فصل كلياً بين شعره وكل المعتقدات " وأضاف ملحقاً وضح فيه ما يعنيه بكلمة معتقدات) .

وكان الهدف من كتاب " النقد التطبيقي " أن يكون " كشافا " إلى " مبادئ النقد الأدبي " ليظهر نقائص التفسير التي حاول كتاب المبادئ أن يصححها. وسنتحدث عنه بإسهاب فيما يلي:

ثم كان الكاتبان النقديان التاليان " آراء منشيوس في العقل " و " رأي كولردج في الخيال " تطويراً وتوسيعاً لمشكلات معينة. فأما الأول وعنوانه الفرعي " تجارب في التعريف المتعدد " فانه يكشف عن آراء منشيوس السيكاوجية وعن طرق المعنى عند الصينيين، وعن اللغة الصينية ومشكلة الترجمة منها إلى الإنجليزية، جاعلا من هذه كلها سلسلة من المشكلات المترابطة في التفسير المكثر. ويبدأ رتشاردز كتابه على الصفحة الأولى باثنتي عشرة قراءة متناوبة لسطرين من منشيوس، ثم يتقدم للكشف عن طبيعة القراءات المكثرة وعن خصائص اللغة الصينية بعامة مميزاً

ص: 124

ما كان منها نتيجة للثقافة، ويختبر نظرياته على عبارة لهربرت ريد ثم ينتهي إلى منطوق في التعرف المتعدد، ويوضحه بجداول مصنفة في القراءات المكثرة للأمور الآتية:" الجمال " و " المعرفة " و " الصدق " و " النظام ".

أما في كتاب " رأي كولردج في الخيال " فانه يحاول كشفا آخر في التعريف المتعدد وذلك بالغوص هذه المرة في معاني كلمة " خيال " المنتزعة من فكرة كولردج، ويحدد هدفه بأنه غربلة لتأملات كولردج واستخلاص فرضيات يمكن الاستفادة منها، وانه يرجو أن " يطور هذه الفرضيات إلى وسائل متضافرة في البحث يحق لها أن تدعي علما " وان طريقته بعامة هي التحليل والتجريب لا التقييم (وذلك ما أصبح لديه " إقناعا " أو " شعيرة " من شعائر المشاركة) . أما الخصيصة المميزة لنقد القرن العشرين كما يراها رتشاردز في الكتاب فهي العجز عن القراءة. فالعودة إلى كولردج في هذا الأمر، على الأقل، شيء يستحق الترحيب. وفي الوقت نفسه يمضي في الكشف عن مصادر الخطأ في القراءة بردها إلى الإرجاع المخزونة وإلى حسبان الملفوظات الاثارية ملفوظات رمزية وهكذا، غير انه تخلى عن اصطلاحات انحدت دلالتها المعنوية ضمنا إلى ما هو أسوأ مثل " التقرير الكاذب ".

كان " رأي كولردج " خامس خمسة من كتب رتشاردز النقدية العظيمة وآخرها استحقاقاً لصفة العظمة لان ما بعده وهو " فلسفة البلاغة " المنشور عام 1936 مخيب للآمال كثيراً، إذ ليس هو غلا سلسلة من المحاضرات ألقيت بكلية برنمور على طريقة من التبسيط والتقريب. فقد أصبح رتشاردز يسمي ميدانه " بلاغة " أي " دراسة سوء الفهم وطرق علاجه " او " كيف تؤدي الكلمات عملها " ويقترح في هذا الكتاب نظرية في النسبية اللفظية لو انه دفع بها خطوة أخرى لجعل كل النقد مستحيلا ثم ينقض على نفسه كل دراساته السيكولوجية الأولى المتعلقة بالأجهزة

ص: 125

العصبية. وأكبر إسهام في الكتاب، عن لم يكن الإسهام الوحيد فيه، هو البحث في المجاز وهو تحليل شامل يطور اصطلاحين جديدين هما " المحمول " و " الحامل ". والكتاب في مجمله هو الدلالة العامة الأولى على تحول اهتمام رتشاردز من النقل في مناسيبه العليا الممكنة، أي في نقد الشعر، إلى النقل في مناسبيه الجماهيرية الدنيا، أي في الإنجليزية الأساسية. (صدر هذا الكتاب بعد كتابين في سلسلة Psyche - Miniatures عن الإنجليزية الأساسية) .

وبعد سنتين صدر " التفسير في التعليم " فكان شاهداً على أن الإنجليزية الأساسية لم تستطع أن تسلب رتشاردز كل اهتمامه النقدية، ولكنها كانت الهبة الأخيرة التي نشأت عن دروسه في النقد التطبيقي بكمبردج واتخذها ملحقاً لكتابه السابق. وتقول مقدمة رتشاردز ان الكتاب تطوير أكمل لكتاب " فلسفة البلاغة " من حيث أنه يحاول أن ينعش ويصقل الثالوث القديم: ثالوث البلاغة والنحو والمنطق؛ وكثير من هذا الكتاب مكتوب بالنغمة اللاعقلانية الجديدة: " علينا أن نتقبل الحقائق الأساسية دون أن نتطلب لها توضيحاً ". أما الثالثوث فيجب أن نعتبره " فنونا لا علوماً " وأما القراءة فأنها مليئة " بأمور لا يمكن قياسها ولا تقنينها " ومهما يكن من شيء فأن الكتاب ما يزال يجري على الأصول السابقة مع إلحاح مستمر على " التجريب " وقد حصل رتشاردز على معلوماته لهذا الكتاب باستعمال الطريقة التجريبية " العرفية " في أحد الفصول، وهي الطريقة التي أجراها في " النقد التطبيقي "؛ غلا أنه في هذه المرة كان يجري التطبيق على النثر التفسيري؛ وهو يلحظ تصليحات وتحسينات في الطريقة استوحاها تجريبياً، ويتحدث عن بعض المضامين والإمكانات والأخطار الكبرى في الطريقة، ومما لم يكن لديه المعلومات عنه ليتحدث عنه في كتبه السابقة. ثم أن رتشاردز يدرك لأول مرة انه إن شاء أن يعالج جوانب

ص: 126

الضعف في التفسير معالجة كاملة فعليه ان ينحرف نحو دراسة " علم الخصائص " فينفق في ذلك فصلا مقدراً قدر الفروق الإنسانية الحقة التي تنجم عن أسباب اجتماعية مضفياً تلك الخصائص الإنسانية على قرائه الذين كانوا من قبل وليدي الفروض العارضة أو المتوهمة.

أما الضعف الوحيد الكبير في الكتاب فهو إيمانه الجديد في التعليم أيمانا يشبه الاعتقاد في الإكسير، وأن التعليم خير طريقة لحل المشكلات الكبرى، وتبدو اقتراحاته في الكتاب غير متناسبة كالاقتراح الأدلري الذي سخر منه كريستوفر كودول دون شفقة (اقترح لتصفية المشكلات العالمية إنشاء كرسي للبيداغوجيا العلاجية "، وبعد ان تحدث رتشاردز عن عجز عام في القراءة والتفسير يسود مجتمعنا قال: " حبذا لو أن الصحف خصصت بعض انهرها - وجعلتها تحت إشراف خاص - لرسائل تردها في هذا الموضوع من المدرسين وشجعت في أعمدة أخبارها على دراستها دراسة نقدية ".

وفي أثناء ذلك كان اهتمامه بالإنجليزية الأساسية يتزايد خلال العقد الرابع من هذا القرن؛ غير أن فكرة الإنجليزية الأساسية أقدم من ذلك إذ ألمع إليها كل من أوغدن ورتشاردز نتيجة لبحوثهما في " معنى المعنى " حين اكتشفا أن هنالك كلمات سياسية معينة تتردد في تعريفاتهما، الفنية بعد الفنية، وتحقق لديهما أن عدداً قليلا من الكلمات الأساسية قد يكفي للتعبير عن أي فكرة. وقد عمل اوغدن عشر سنوات في تطوير هذه الفكرة. وفي سنة 1929 نشر أول جريدة أساسية من الكلمات في سلسلة Psyche وتلا ذلك كتب أخرى تحدد اللغة ووسائلها. وفي سنة 1933 كتب رتشاردز:" القواعد الأساسية في التفكير " بالإنجليزية الأساسية، ليبين قدرة اللغة على أن توضح مسالة معقدة، وهي المنطق في هذا المقام.

ثم نشر في سنة 1935 كتيباً اكثر طموحاً هو " الأساسي في التعليم

ص: 127

بين الشرق والغرب " وصرح فيه بأن هناك أزمة ثقافية معاصرة وعجز عاماً في النقل الفني وضمنه تجربة رتشاردز نفسه لهذا العجز بشكله المتطرف في الصين ثم خصص سائر الكتاب لمناقشة استعمال الإنجليزية الأساسية علاجاً للغة ودفاعاً عنها ضد من يهاجمونها. وخير ما يمكن قوله في هذا الكتاب هو أن المشكلة التي يضعها رتشاردز، اعني ما يشبه أن يكون تدهوراً في حضارتنا، ليست كالمكلة التي يحلها، اعني كيف نحسن القراءة في المدارس. ومنذ عام 1938 وقف كل مؤلفاته على الإنجليزية الاساسية، في المقام الأول، وعمل في أميركة منذ 1939 حيث الحاجة إلى ذلك أمس. ثم نشر سنة 1942 طبعة موجزة من " جمهورية أفلاطون " باللغة الأساسية وجعل " كيف نقرا صفحة " تعليقات على حواشيها. أما هذا الكتاب الثاني وهو في ظاهره عمل نقدي، فانه في الحقيقة يعتمد الإنجليزية الأساسية حلا للمشكلة التعليمية كما أن كتابة " مائة كلمة عظيمة " رد على مشروع " مائة كتاب عظيم " الذي تضطلع به شركة مورتمر أدلر وسكوت بوخانان. أما من حيث الأسلوب فانه يعتمد التبسيط شأنه في ذلك شأن " فلسفة البلاغة " غير أنه يحرص على أن يكون غامضاً بشكل مرهق، وذلك لأن رتشاردز يستعمل فيه سبعة أنواع من علامات الاقتباس على الكلمات؛ وقد وضع مشكلات التعريف المتعدد أو الترجمة في اللغة الأساسية موحيا بجعلها الترياق الشافي مثلما فعل في كتابيه " القواعد الأساسية في التفكير " و " الأساسي في التعليم " وفي النهاية أي عندما تحول الكتاب إلى فلسفة أفلاطونية مبسطة، أنهاه رتشاردز برجاء أخير من اجل التعليم واللغة الأساسية والفكر ونشر في سنة 1943 كتابا اقل طموحا وأكثر " دغرية " في التبشير بمذهبه، وذلك هو كتاب " الإنكليزية الأساسية وفوائدها " ومنذ عندئذ، مضى في حملته فنشر " كتاب الجيب في الإنجليزية الأساسية " ويتألف كله من رموز تعليمية

ص: 128

منظورة ثم نر مقدمة لكتاب " ذخيرة الجيب " لروجيه. ولما نشر سنة 1947 كتابه " الأمم والسلام " كان قد بلغ نوعا من الاوج وكل هذا الكتاب تقريباً بالإنجليزية الأساسية (فيه 365 كلمة مأخوذة من جريدة الكلمات الأساسية و 25 مما سواها) موضح بالصور البسيطة، وهو دعوة إلى استئصال الحرب بطريقتين: الحكومة العالمية والإنجليزية الأساسية متضافرتين.

وقد كتب رتشاردز بضع مقالات لكنها كانت دائماً تتجه اتجاه كتبه، أما مقاله عن قصيدة هوبكنز " العقاب " الذي نشره في Dial أيلول (سبتمبر) 1926 والذي وصفه ف. ر. ليفز بأنه " أول نقد نابه كتب عن هوبكنز " فانه استمرار لبحثه في النصوص الشعرية المعينة في كتابه " العلم والشعر "، وفي هذا المقال وصف هوبكنز بأنه " اغمض ناظمي الشعر في الإنجليزي " وحلل القصيدة بشيء من الإسهاب مع إشارة إلى قصائد غنائية أخرى اصعب منها، من شعر هوبكنز نفسه، ليوضح طريقته التي يطبقها لتفسير الشعر الغامض المعقد خاصة. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1927 نشر بمجلة Forum مقالا عنوانه " كيف نفهم فورستر " وهو بحث في نصوص نثرية سلط فيه رتشاردز تحليله على العلاقة المعقدة بين نظرات فورستر وموضوعاته وإقبال الناس عليه، وبين وسائله القصصية. أما مقال " خمسة عشر بيتاً من لاندور " بمجلة كريتريون، نيسان (أبريل) 1933 فأنه تجربة أخرى في النقد التطبيقي إلا أنه يوجه المشكلة نحو نقائص التعليم وبذلك يكون جسراً يصل بين كتاب " النقد التطبيقي " وكتاب " التفسير في التعليم ".

وأما " تفاعل الألفاظ " فأنه محاضرة ألقيت في برنستون عام 1941 ونشرت في " لغة الشعر " الذي نشره ألان تيت سنة 1942، وهو آخر مقال، فيما اعلم، تناول فيه رتشاردز نقد الشعر على وجه الخصوص

ص: 129

وهو في الدرجة الأولى قراءة مقارنة مسهبة لمرثاة كتبها دريدن وأخرى كتبها دن فأظهرت عوار الأولى، وقد كشف رتشاردز عن كل سحره القديم، وهو يستعرض، باسهاب، مواطن الضعف في قصيدة دريدين بمقارنتها بما في قصيدة دن من خدع وإبهام، ولا يقلل من هذا السحر أن كان استنتاجه الأخير أن علينا جميعاً ان نكون " ارسطوطاليسيين افلاطونيين ". وابتعد عن نصوص الشعر في رسالتين حديثتين نشرتا بمجلة بارتزان: أولاهما (في عدد تموز - آب 1943) تعليق على الجدل الذي ثار حول " الهبوط العصبي "، والثانية (صيف 1944) عن مقال لاليوت في الثقافة؛ أما الأولى فتترجح، بعون من مجاز قسري موسع، بين دين غيبي وعلم طبيعي، وأما الثانية فأنها إسهام في أمور التعليم، وتقول إن التعليم " محاولة إدراك النظام الخلقي والفكري " وهو بهذا يهيئ لنا الخلاص الأبدي.

بعد استعراض هذا الإنتاج المحير الذي استمر ربع قرن من الزمان قد يكون من الممتع ان نتساءل ما هي حرفة رتشاردز أو ما هو ميدانه؟ لقد نصب نفسه في " أسس علم الجمال " جماليا، وفي " معنى المعنى " فيلسوفاً للمعرفة و " عالماً في الرموز " أو " سمانيتاً " - وهما الاصطلاحان اللذان يستعملهما بالتناوب؛ وكان في كل ما كتبه نفسانياً، يسمي نفسه " حيادياً " فيستمد بحماسة ودون تحيز من السيكلوجيا الفيزيولوجية والعصبية والسلوكية وسيكلوجية بافلوف في الإرجاع المنضبطة ومن التحليل النفسي ومذهب الجشطالت، ويهتدم ويتلقف من كل عالم سيكولوجي آخر ذي نظرية أو تجربة، كما يعتمد ملاحظه التجريبية الخاصة. وفي السنوات الأخيرة هاجم السيكولوجيا التربوية (وربما السيكولوجيا عامة) بأنها " رطانة " وأنها " مرض الغرام بالتجريد " وإذا اتخذنا " كيف نقرأ صفحة " شاهداً، وجدنا انه ربما كان مستعداً ليعيد سيكولوجيته - كفرع

ص: 130

من الفروع - إلى جذع الفلسفة المحطم، حيث انتزعها وليم جيمس في الأصل. زد إلى هذا أن رتشاردز كان دائماً معلماً وشيئاً من عالم بالصينيات ومنطقياً وذا نظريات تربوية ولغوياً، وكان منذ عقد مضى اعظم ناقد محترف، واهم من يطبق النقد عملياً، ولعله أول شخص، بعد بيكون، يتخذ كل المعرفة مجالا، ويجعل ميدانه كل العقل الإنساني.

2

- أن ما حققه " النقد التطبيقي " في منحاه لبالغ القيمة حتى انه تكاد لا تبطل العمل به أية نقائص تنشأ من بعد، فقد كان فاتحة نقد موضوعي وأول محاولة منظمة لإيقاف نسج النظريات حول ما يتلقاه الناس أو ما يجدونه حين يقرأون قصيدة ما. ولم تكن غايته النهائية شيئاً أدنى من التحسين العام للقراءة، وبالتالي التحسين العام للتذوق الأدبي. يقول رتشاردز (1) :

قد يبدو محض مبالغة أن يقال أن الغاية الأولى والوحيدة في كل المحاولات النقدية، أي في كل التفسير والاستساغة والنصح والمدح والقدح، هي التحسين في النقل والإيصال لكن الأمر كذلك عملياً. إذ الحقيقة أن الجهاز الكلي في القواعد والمبادئ النقدية إنما هو وسلية لبلوغ نقل اجمل وأدق وأحكم؛ نعم أن للنقد جانباً تقيمياً، فبعد أن نحل تماماً مشكلة النقل، وعندما نصل تماماً إلى التجربة، أي إلى الحال العقلية المرتبطة بالقصيدة، يتبقى علينا أن نحكم عليها، أي أن نقرر قيمتها، ولكن المسالة تسوى نفسها دائماً على وجه التقريب، أو قل

(1) راجع كتاب " النقد التطبيقي ": 11.

ص: 131

أن طبيعتنا الداخلية وطبيعة العالم الذي نعيش فيه هي التي تقرر لنا ذلك، وأذن تكون محاولتنا الكبرى هي ان نصل الحالة العقلية المرتبطة بالقصيدة ثم نرصد ما يحدث:

أما الأهداف المحدودة في الكتاب كما يصوغها رتشاردز في الفقرة الأولى من مقدمته فإنها ثلاثة:

أولا أن يقدم نوعاً جديداً من الاستدلال لأولئك المهتمين بحال الثقافة المعاصرة سواء أكانوا نقاداً أو فلاسفة أو معلمين أو سيكولوجيين أو أي رجال يحدوهم إلى ذلك حب الاستطلاع. ثانياً: أن يهيئ وسيلة جديدة لأولئك الذين يرغبون في أن يكشفوا لانفسهم عما يفكرون فيه وما يحسون به نحو الشعر (والأمور المشابهة) ولم يحبونه أو يكرهونه. ثالثاً: أن يعد الطريق لمناهج تربوية اكفأ من التي نستعملها لتطوير الأحكام والقدرة على فهم ما نسمع ونقرأ.

أما الغرض الأول ففيه طبعاً مشمولات واسعة الذيوع حول الشعر والنقد وأما عن الهدف الثاني فقد قال رتشاردز (1) :

أن هدفي الثاني أشد طموحاً ويحتاج مزيداً من تفسير فهو يمثل جزءا من محاولة عامة لتعديل طرقنا في أشكال معينة من البحث، فهناك موضوعات يمكن البحث فيها بمصطلح من الحقائق الثابتة والفروض الدقيقة، ومن أمثلة هذا النوع: الرياضيات والطبيعيات والعلوم الوصفية. وهناك موضوعات أخرى يمكن معالجتها بالقواعد المجربة وبالعرف المألوف عامة: كالأشياء الحسية في التجارة والقانون والتنظيم وأعمال الشرطة.

(1) كتاب " النقد التطبيقي " صك 5 وما بعدها.

ص: 132

وبين هؤلاء وهؤلاء يقع " قدر " هائل " من المشكلات والفروض والرموز والأخيلة والميول والمعتقدات، وهنا مجال الآراء العارضة والتخمينات المتفائلة؛ هنا باختصار يقع كل عالم الرأي المجرد والنزاع حول مسائل الشعور. وينضوي في هذا العالم كل شيء يهتم به الإنسان المتحضر، أكثر اهتمام؛ ولا أريد ان اخطر بالذهن إلا فلسفة الأخلاق والميتافيزيقا والآداب والدين وعلم الجمال والجدل الذي يدور حول الحرية والقومية والعدالة والحب والحق والايمان، وان نعرف كيف نوضح هذه الأمور ونبسطها. ويقف الشعر في هذا العالم، كمادة للبحث، " دخيلا " مرموقاً يتركز حوله الاهتمام، وهو كذلك بطبيعته وبأنموذج البحث الذي جرى العرف على ربطه به. ومن ثم فانه صالح بوجه بارز، كي يكون " طعماً " لكل من شاء أن يتصيد الآراء الراهنة والاستجابات في هذا الميدان المتوسط، من أجل فحصها ومقارنتها، ومن أجل دفع معرفتنا قدماً فيما يسمى التاريخ الطبيعي للآراء والمشاعر الإنسانية.

أن الذي كان يستشرفه رتشاردز، بعبارة أخرى، ليس شيئاً اقل من توسيع منطقة العلم، بما فيها من معلومات موضوعية جمعت تجريبياً، حتى يتخلل ميدان الشعر، وما يضارعه من مناطق الجدل. وقد كان رتشاردز يرجو " بحمل هذه الناحية العلمية إلى مجال أيدلوجية مقارنة " ان يقترح وسائل بداغوجية محسنة تساعد على تحقيق هدفه الثالث. زد إلى هذا أن رتشاردز وجد أن عمله ينطوي على مشمولات تتجه وجهة رابعة، اعني تطوير نقد يتناول ما يجد قبولا في النفوس، وقد أشار إلى هذا بسخرية، بالرغم مما فيه أساساً، من مشتملات جادة، حين

ص: 133

كتب يقول: " وعرضاً أقول أن هناك ضوءاً غريباً يلقي على منابع ارتياح النفوس لتلقي الشعر. والحق أني لست بارئاً من خشية أن تكون مجهوداتي ذات عون للشعراء الشباب (وغيرهم) حين يشاءون أن يزيدوا في مقدار ما يبيعونه من مؤلفاتهم. فأن وضع قواعد " لهذا القبول العام " يبدو شيئاً ممكناً تحقيقه ".

أما ما حققه رتشاردز نفسه مما كان يستشرفه فشيء بسيط واه في ذاته. ففي خلال حقبة من الزمان طبع قصائد، اغفل ذكر ناظميها، وحاول بعض المحاولة أن يخفي العصور التي قبلت فيها، وذلك بكتابتها حسب التهجئة الحديثة، عن تلامذته في كمبردج، وقد تسلسلت القصائد من شيكسبير حتى إلا ويلر ويلكوكس، ووزعت في مجموعات رباعية مختلطة، وطلب إلى الطلاب، وأكثرهم جامعيون يقرأون الإنجليزية لنيل درجة الشرف، أن يقراوا القصائد في أوقات الفراغ بعناية عدد ما يشاؤون من مرات، وأن يعلقوا عليها. وقد عرف رتشاردز القراءة الواحدة بأنها أي عدد من النظر والتصفح في جلسة واحدة، وطلب إلى الطلاب أن يسجلوا عدد القراءات مع تعليقاتهم، وبما أن بعض الطلاب قراوا اثنتي عشرة مرة أو اكثر، ولا تكاد تجد واحداً قرا قصيدة اقل من أربع مرات، فانه من الواضح أن القصائد قرئت كثيراً وبإمعان. وعند نهاية أسبوع جمع رتشاردز تعليقاتهم التي يسميها " بروتوكولات " أو مسودات، وتحدث عنها القصائد في حجرة الدراسة " ولم يكن إرجاع المسودات إجبارياً، ولذلك يمكن أن يقال عن ال 60./. الذين فعلوا ذلك إنما كانت تحدوهم رغبة حقيقة "(1) ، وقد اتخذت الحيطة لابقاء القصائد مجهولة النسبة، وحذر رتشاردز في ملاحظاته من أن

(1) ذلك ما قاله رتشاردز نفسه في مقدمته، انظر ص5 من الكتاب المذكور.

ص: 134

يحاول التأثير في المجموعة لصالح القصيدة أو ضدها أو أن يلمح بشيء إلا أن القصائد أميل إلى أن تكون خليطاً.

ويمثل " النقد التطبيقي " وعنوانه الفرعي " دراسة في الحكم الأدبي " شيئاً من هذه المادة بعد أن فرزت ونظمت. أما القسم الأول من الكتاب فانه تمهيدي، يفسر التجربة ويتحدث عن مشكلاتها المتعددة والثاني وهو الأطول يقدم نماذج من المسودات لثلاث عشرة قصيدة، ومعها القصائد، ولكل قصيدة فصل خاص مقسم حسب الاستجابة التي نجمت عن المسودات. ويتألف الرابع من خلاصة وإرشادات تحبيذية، وأربعة فهارس أضيفت: أحدها ملاحظ إضافية والثاني يجمع جدولاً للقبول النسبي الذي لاقته القصائد، والثالث يذكر أسماء أصحابها (حتى أن القارئ الذي كان يختبر نفسه على هذا النحو نفسه، يجد السر في النهاية منكشفاً) والرابع تترتب فيه القصائد على الطريقة التي قدمت بها في الأصل للطلبة. أما القصائد الثلاث عشرة المدروسة فإنها تتراوح بين عدد يمكن ان تعتبر " طيباً " مثل " السوناتة السابعة المقدسة " لدن (هبي على أركان الارضين المتخيلة) وقصيدة هوبكنز " الربيع والخريف: إلى طفل صغير " وبين قصائد لفيليب جيمس بيلي وج. د. بليو وولفرد رولاند تشايلد ورجل يسمى " وودباين ولي ".

وطريقة رتشاردز في كتابه هي أن يطبع القصيدة ثم يطبع أنواع الاستجابة لها ثم يشتق الأحكام العامة. وتجيء قراءاته اللامعة للقصائد خلال الإيحاءات وبطريقة عارضة. ولإيجاد تمييز أساسي في " مسودات " القراء يستعمل كلمة " تقرير " للملفوظات التي تكمن أهميتها فيما تعكسه من العمليات العقلية عند الأدباء. ويؤكد رتشاردز للقارئ أن المسودات التي يعرضها لم تجر فيها يد التلاعب حتى عن التهجئة والترقيم تركا دون تغيير حيث بدا ذلك

ص: 135

هاماً (عن الخط كما يقول رتشاردز له أهميته ولكنه لا يملك طريقة لعرضه) وانه ليس ضمن التعليقات والتفسيرات التي ينقلها شيء مختلق (شك قد يثور حقاً نظراً لأن بعض التعليقات تكاد لا تحظى بالتصديق) . وهو يؤكد أنه اختار مادة المسودات بموضوعية وإنصاف، ما أمكنه ذلك، إلا أنه هون بعض الشيء من نسبة المادة التي لا تستند إلى رأي.

ومهما يكن من شيء، فان ما تكشفه المسودات، لعله أن يكون أكبر صورة مروعة، وثقت بالشواهد العديدة، وقدمت أبداً لتصور القراءة العامة للشعر. ولعل أكبر شيء مخيف حصل عليه رتشاردز هو الشهادة على أن تلامذته (وربما أنطبق هذا على كل القراء والشعراء إلا قلة ممتازة منهم) يعتمدون إطلاقاً على ما يوحي به اسم الأديب وعلى إحساسهم بموضع ذلك الاسم في سجل الخالدين، ويتخذونه عكازاً لاحكامهم وقد كادوا في كل حالة أن يكونوا عاجزين عن الحدس بالمؤلف دون ان يعرفوا باسمه، وإذا حزروا اخطاوا التخمين ثم مضوا في تقييم ذاتي مؤسس على ذلك التخمين الخاطئ. وقد ظهر إنهم جميعاً يعكسون كل الأحكام المقبولة في مجال القيم الشعرية بآرائهم المخلصة مع أنهم لا يعرفون اسم صاحب القصيدة.. وخوفاً من أن تصبح هذه الحقيقة محطاً للتهوين من شأن الأحكام المقبولة فأن بلاهة ملاحظهم وعجزهم الصريح عن أن يقرأوا أو يلحظوا أبسط الحقائق المادية وأشدها وضوحاً تبينان أن الخطأ هو خطأهم.

ويلخص رتشاردز الصعوبات الكبرى التي تكشف عنها المسودات، ولعل خير طريقة تؤدي معنى لمادته أن ننثر تلخيصه هذا ثم أن نعرض بعض المسودات النموذجية التي تظهر بعض الأخطاء. وقد وجد الصعوبات الكبرى عشراً:

أ - العجز عن فهم المعنى الواضح للشعر أو تفسير معناه

ص: 136

النثري القابل للحل.

ب - الصعوبات في الفهم الحسي للشكل.

ج - الصعوبات المتصلة بالصور المنظورة.

د - أمور غير متناسبة في الذاكرة وخاصة ذكريات ذاتية أو خواطر مرتبطة على نحو خاطئ.

هـ - إرجاع مخزونة استدعتها القصيدة وحركتها.

و العاطفية (أو الضعف العاطفي) .

ز - الكبت، وهو معكوس العنصر السابق.

ح - اللياذ بالمبادئ.

ط - الفروض " المسبقة " ذات الصبغة الفنية.

ي - الأفكار " المسبقة " العامة النقدية.

ولنعرض أولا بضع نماذج من المسودات والشذرات عن سوناتة دن، فلعلها ابرز قصيدة في كل هذه " الطبخة "، فيسميها أحد القراء مقطوعة عاجزاً عن أي يتبين إنها سوناتة، ويرى ثان، مأخوذاً برجع مخزون نحو مادتها، أن لها وزن الترانيم ويقول فيها:

لقم من الالفاظ، لا تجد أي قبول. ترنيمة جيدة - في الحقيقة، وهذا ما يدل عليه وزنها.

روحها الدينية مرهقة لامرئ لا يؤمن بالتوبة على هذا النحو. وثمة قارئ لم يستطع أن يصنع فيها شيئاً:

أعترف تواً بأنني لا أستطيع أن اعرف عم يدور كل هذا الصخب فإن القصيدة محيرة تماماً، وما فيها من ضمائر عديدة وأحوال، تبهم الفكرة إن كانت فيها فكرة محدودة.

ويرى قارئ آخر أن في " أركان الأرضين المتخيلة "" إيهاماً جميلاً ". ويكتب آخر مدافعاً:

ص: 137

من الصعب على المرء أن يشرك الشاعر نزعته، إذ مع أن إخلاصه أمر واضح، فان وسائله الفنية رديئة، غير أن الأبيات على الرغم من ذلك تعبر عن إيمان بسيط في نفس رجل ساذج جداً. وينساق تلميذ في قطعة من ترجمة ذاتية فيقول:

بعد أن أخفقت في أن أكتب سوناتة اصبح لدي إعجاب شاذ بمن يكتبون هذا اللون من الشعر، ولو لم يكن الأمر كذلك لحسبتني في النهاية أقول إن هذه السوناتة رديئة.

ويقول آخر " القوافي غير مستوية "، وآخر يقول:" إنها تبطئ وتتعثر عندما تقترب من نهاياتها ". وثالث يقول: " أحسست أن الكاتب قد صوب سهمه نحو هدف عال فقصر دون بلوغه ". ويعلق شخص متحمس لتقطيع الأوزان بقوله:

تبدو لي القصيدة سوناتة متعفنة مكتوبة على البحر الأيامبي الخماسي، المناسب لمزاج الشاعر؛ ولم أستطيع أن أجد التفاعيل الخمس المعتادة في كل بيت على رغم من إلحاحي ودقي للطاولة بأصابعي، فان التفعيلات كثيراً ما تكون غير أيامبية، وفي البيت الواحد أحياناً أربعة مقاطع منبورة، وأحياناً ستة، أما في التركيب فأن القصيدة تشبه أن تكون قرزمة طالب في أول عهده بالشعر، وأسوأ ما فيها الأبيات 5 و 6و 7. أما الفكرة فتبدو وجيهة حقاً.

ويناقض قارئ آخر هذا الرأي بقوله: " أنا لا آبه بالمعنى فأني تكفيني موسيقي القصيدة ". وينقدها أحد الطلبة بقوله: " ليس فيها صور ". وينفيها طالب إطلاقاً بقوله: " إن أول نقطة في هذه السوناتة وهي فيما تبدو أوضح فيها، إنها كان من الممكن أن تكتب نثراً ويكون تأثيرها مساوياً للشعر أن لم يزد عليه ".

ص: 138

وقد أصابت قصيدة دن 30 مسودة مشايعة لها و42 مضادة و 28 ليس فيها آراء. وللمقارنة ننظر في القصيدة التي أحرزت اكثر عدد من المشايعين (54) وأقل عدد من المنكرين (31)(أما الخمسة عشر الباقية فإنها عارية عن الآراء) وهي قصيدة " الهيكل " لبليو (1) من مجموعة: " Parentalia and Other Poems " ومطلعها:

بين الأشجار السامقة الخاشعة

سأخر على ركبتي

فلن أجد هذا اليوم

مكاناً كهذا ملائماً للتعبد

وتستمر القصيدة في خمس مقطوعات على هذه الشاكلة. وقد اغفل بعض القراء القصيدة وتعلقو بالجدل الديني، وهذا مثال على ذلك:

" لا أحب أن اسمع الناس يتمجدون بتعبدهم؛ لقد كان ألفرد دي فيني يرى ان الصلاة جبن، ومع أني لا أتطرف تطرفه فأني اعتقد ان من الجفاء أن نحشر التواجد الديني في حلق هذا العصر الشكي وهو لا يسيغه ".

وأبان ناقد آخر عن مثل جميل من الأمور غير المتناسبة في الذاكرة، فقال: " حين قرأت البيت الثالث عنت على بالي صورة حيوية، صورة اللاعب وقد انفرد بالكرة، من خط دفاع واه، ثم مضى قدماً نحو الخط لا يثنيه شيء) .

وقد أحب اكثر القراء هذه القصيدة، وهذه تعليقات نموذجية تقدم بعض الأسباب المميزة التي حكمت لها بالأفضلية:

1 -

أن الأفكار الكامنة في هذه الأبيات لتشارف الكمال فالتعبير عن العاطفة حاد لذ كالعواطف نفسها؟ وأرى إنها تعبر عن أفكاري.

(1) هي القصيدة السابعة حسب ترتيب رتشاردز، أنظر ص 92 من كتاب " النقد التطبيقي ".

ص: 139

2 -

أظن إنها قصيدة جميلة جداً في الحقيقة، فأنا أحب الوزن، وأحب جو كل شيء هنالك، وهي تعطينا صورة فخمة للغابة، وللمشاعر المتدينة التي تشربها الشاعر حين رأى ما يصوره؛ إنها نقل جميل لشعور جميل.

3 -

أن الإيقاع ليبدو مناسباً لتدرج الفكرة تماماً.

4 -

جو من السلام والخشوع العميق، ينقل القارئ إلى عالم آخر، أنقى وانصع من هذا العالم.

5 -

لقد نجح الشاعر في جعل رغبته في العبادة مشاعاً بين الناس؟ إنها لقصيدة لطيفة.

6 -

إنها لواسطة العقد بين القصائد الأربع، فهي تخلق لنا جواً مهيباً هادئاً خاشعاً من غابة الصنوبر، فنتذكر كم ثارت فينا أفكار مشابهة بعثتها رؤية الهدوء الخاشع في الأشجار، حين نقف أمامها مأخوذين بعظمتها مشدوهين بابهتها، وهي قصيدة هادئة، جميلة بما في موسيقاها من رخامة وعذوبة.

إن الشيء المرعب حقيقة في " النقد التطبيقي " يتجلى لنا حين ندرك أن كتاب المسودات ليسوا قارئين نموذجيين للشعر ولكنهم بخاصة قراء ممتازون فمنهم أساتذة مرجوون للغد، وأدباء، بل شعراء يقرأون تحت ظروف تكاد تكون مثالية (مع الإقرار ببعض نواحي القصور إذ ليس لديهم مرجع يعتمدونه ولا نبراس يشع عليهم من إنتاج كامل، ولا لديهم أي تلميح عما يسميه رتشاردز " اصل " القصيدة) . ويقول رتشاردز مبدياً اسفه:

من مقارنات استطعت أن أجريها بين هذه المسودات ومسودات أخرى حصلت عليها من نماذج أخرى من القراء، أرى انه ليس ثمة ما يدعو للظن بان مقياساً عالياً من الفراسة النقدية قد يكون من

ص: 140

السهل إيجاده في ظل ظروفنا الثقافية الراهنة. لا ريب أننا لو استطعنا جمع الجمعية الملكية للأدب أو الأكاديمية من أجل تجارب كهذه فقد نتوقع انسجاماً أكثر في التعليقات، أو على الأقل في الأسلوب، ومحاكمة اكثر حذراً فيما يتصل بأخطار الاختبار، أما في الأمور الأساسية، فقد تحدث مفاجآت لم نكن نتوقعها. ويقول في الخلاصة عند نهاية الكتاب حاكياً عن كتاب المسودات:

هؤلاء هم ثمرة أكثر أنواع التعليم كلفاً ونفقة، باستثناء القليل منهم، واحب أن أقول مرة أخرى، مؤكداً، أنه ليس ثمة ما يدعو إلى الظن بان هناك أية مجموعة مشابهة لهم، في أي مكان في العالم، تستطيع أن تظهر مقدرة أعلى من مقدرتهم في قراءة الشعر. أن أبناء الجامعات الأخرى وبناتها الذين قد يظنون غير ذلك، مدعوون للقيام بمثل هذه الشواهد التجريبية التي يجمعونها تحت ظروف مشابهة، إلا أن المدرس المجرب أي مدرس تحاشى من أن يحول كل تلميذ لديه إلى حاك يردد آراءه. ولنسأل بصراحة: كم واحداً فينا مقتنع بأنه قد كان ينتج ما هو احسن مما أنتجوه، تحت تلك الظروف نفسها؟ ونقر بان تجربة رتشاردز في " النقد التطبيقي " كانت تحسساً أولا نحو وسائل المختبر وأنها غير متكاملة ومن السهل تسليط النقد عليها، وهو نفسه قد لحظ في الكتاب نفسه عدداً من الأمور أغفلها وكان يمكنه غلا يفعل ذلك: ومنها مشروعات مثل أن يدرس تنوع الأحكام عند القراء (أو ما يسميه " علم الخصائص ") وأن يتتبع الارتباطات بين قبول نوع من القصائد والصد عن نوع آخر. وهو يلحظ أن بعض التنوع قد

ص: 141

يكون ناشئاً عن التعب ويرى أن أسبوعاً واحداً قد لا يكفي لقراءة أربع قصائد قصيرة " مع أن هذا الرأي قد يبدو سخيفاً عند السادة المتصدرين في دنيا المناهج التعليمية، الذين يظنون أن كل الأدب الإنجليزي يمكن أن يطالع بإمعان، مع الفائدة المحققة، في عالم واحد! ". ويقترح رتشاردز في (التفسير في التعليم " توسعات أخرى لهذه الطريقة تشمل مواجهات لكتاب المسودات، ودراسة ما يسطبونه في مسوداتهم لكي نصل إلى عمليات التفكير عندهم، وهلم جراً. ويحضر في الذهن عدد من الإمكانات الأخرى لتصحيح الطريقة وتوسيعها فمنها في باب " علم الخصائص "، تبيان الروابط التي تربط القارئ بمدى محصوله الثقافي وتعليمه الأول، وبتجربة له سابقة في قراءة الشعر، وبطول المسودة، وبالمزايا الشخصية العامة؛ وفي باب التجريب العلمي: بالتدريجات العددية وبالمقارنة بين مسودات هؤلاء القراء ومسودات قراء اخبروا بأسماء الشعراء، وهنالك كتابتها من أجل الحصول على نتائج مختلفة أو أن نكتبها حسب تهجئة قديمة أو حسب تهجئة حديثة إلى غير ذلك من إمكانات تجريبية لا حصر لها. وأخيراً كان من الممكن الحصول على نتائج مخالفة لو أننا طلبنا إلى الطلاب أن يكتبوا فقط عن قصائد يحبونها.

ولعل اخطر تقص في الكتاب نقيصة أدركها رتشاردز وحاول أن يدافع عنها وهي الضحالة السيكولوجية، كتب يقول:

أنا تواق لان أواجه الاعتراض الذي قد يتقدم به بعض السيكولوجيين، أو خيرهم - حيثما وقع - وهو أن المسودات ليست تعطينا شهادة وافية بحيث نتمكن من أن نستخلص دوافع الكتاب وان البحث كله من ثم سطحي. إلا أن أولية كل بحث لابد من أن تكون سطحية، وإيجاد شيء صالح للبحث

ص: 142

بعد أن كان بعيداً والتوصل غليه من الصعوبات الكبرى في علم النفس. وأنا اعتقد أن الحسنة الكبرى لهذه التجربة هي أنها تحقق هذا الأمر. ولو إنني شئت أن اسبر أعماق اللاشعور عند هؤلاء الكتاب حيث أنا مؤمن بأنني أستطيع أن أجد الدوافع الحقيقية لما يحبونه ويكرهونه، إذن لخططت شيئاً يشبه أن يكون فرعاً من الوسائل التي تستعمل في علم التحليل النفسي لتحقيق هذا الغرض. ولكن كان من الواضح أن تقدماً قليلا قد يحقق لو إننا تعمقنا كثيراً ومهما يكن من شيء فحتى هذا الاختبار على حالة هذه قد أثار مادة غريبة كافية.

وحتى حين نسلم بعدالة هذا التفسير الذي يقوله رتشاردز نرى انه من المؤسف أن التعمق لم يكن ممكناً بحال لأنه كان خليقاً أن يبدد التفاؤل السهل، من اقتراحاته التي وضعها في سبيل إصلاح التعليم.

والشيء الوحيد الذي قد يسمح لقارئ هذا الكتاب بان يحتفظ برشده وببعض الأمل في مستقبل الشعر هو النغمة المرافقة الثابتة التي نتلمسها في قراءات رتشاردز الدقيقة اللامعة. وهو لا يواجهنا بهذه القراءات مباشرة ولكنه يجعلها بعامة، متضمنة، خلال الإشارة إلى تقريرات تجعل القارئ يحس عند النهاية بان مبنى الكتاب قائم على نوع من العملية الجدلية الحوارية. ورتشاردز على وعي تام بهذا المبنى الروائي لكتابه إذ يقول:" سأتقدم قصيدة اثر قصيدة، سامحاً للرأي المخالف الكامن عند اصطدام الآراء، وللذوق والاعتدال، بان توجه هذا العمل ". وفي حالات قليلة نجده يتقدم بنماذج من قراءاته ليوضح نقاطاً لم يستطع معالجتها كتاب المسودات، وتجيء قراءاته كوشائع النور خلال الضباب الكثيف. ومن الأمثلة النادرة تعليقه على بيت من إحدى القصائد:

ص: 143

" يا أنسجة فولاذية سخيفة [نسجتها] الشمس ":

" O، frail steel tissues of the Sun " إذ يقول:

Tissue - ولنبدأ بالاسم - كلمة ذات معنيين أولهما " ثوب من الفولاذ " قياساً على " ثوب من الذهب " أو " ثوب من الفضة " والصفة الفاترة المعدنية اللاعضوية في النسيج هي التي ربما كانت هامة. وثانيهما " رقيق ناعم شبيه بالشفاف " مثل الورق الرقيق.

Steel: مجاز من النوع الحسي، وهو النوع الثاني عند ارسطوطاليس أي عند الانتقال من الفصل إلى النوع، فالفولاذ نوع خاص من معدن قوي يستعمل للدلالة على أية مادة قوية تستطيع أن تمسك وتجمع أجسام السحائي الممتدة. أما الإيحاء المستمد من لون " الفولاذ " فانه مناسب للمقام.

Frail: ترديد يصور مبلغ رقة " النسيج " والشفافية وما يوشك ان يتمزق أيضاً لوهبه.

Of The Sun: توازي قولك " الذي نسجته دودة القز " أي نسيج من [لعاب] الشمس.

ان القيمة الهائلة في كتاب " النقد التطبيقي " لهي كلياً في المعلومات التي صورت لنا كيف يقرأ الشعر ناس تظن فيهم الكفاءة لذلك، ثم كيف يضع رتشاردز قراءاته الخاصة في وجه قراءاتهم بعد أن يوسعها ويعممها. وهو، من وجه أو آخر، يقر بقلة جدوى الاستحسانات في آخر كتابه، وقلة جدوى كل نوع من التقريظ والاستحسان. ويقترح الكتاب تحسيناً من خلال التعليم، أي بزيارة التجريب في الجامعة. ويجعل التفسير موضوعا يدرس، وبخلق " كرسي لصور الدلالات " شبيه بكرسي أدلر في " البيداغوجيا العلاجية ". ولكن المثل اللاتيني يقول: " من ذا

ص: 144

الذي يحمي الحماة؟ " - وأقول: من ذا الذي يعلم المعلمين. فان رتشاردز يدرك أن كتاب المسودات هؤلاء هم حتماً الذين سيعلمون الشعر في الجبل التالي، ومن غير المحتمل أن يتغيروا أساساً بهذا الاختبار، أو بالكتاب نفسه، أو بكل كتبه مجتمعة. أن الحياة لتثبت، باستمرار ووضوح، أن العجز العام لاختبار الآثار الفنية، بذكاء ونقد، يمتد فيشمل المحترفين في ميدانهم نفسه كما يشمل آخرين نفترض فيهم الكفاية.

أما في مسالة الاعتماد على سمعة الشاعر ودرجته في الحكم فان هنري بير في كتابه " الأدباء ونقادهم " يقدم لنا بعض القصص الممتعة، فيسرد قصة نموذجية عن حفلة موسيقية بباريس أقامها ليزت سنة 1837 وفيها ثلاثية لبيتهوفن وواحدة لبكسيس، وتبادل اسما الموسيقيين في البرنامج، سهواً فصفق الجمهور، وأكثره من المثقفين والعارفين بالموسيقى، تصفيقاً صاخباً لقطع بكسيس واستمع إلى قطعة بيتهوفن بقلة اكتراث، أو بما هو أسوأ من ذلك، وعلق ليزت على ذلك بقوله:

" عندما عزفت ثلاثية بيتهوفن في الموضع الذي كان مخصصا في الأصل لبكسيس، وجدت عارية من الإلهام عادية مملة، حتى ان كثيراً من المستمعين غادر القاعة معلنا أن جرأة المسيو بكسيس في تقديم موسيقاه غلة جمهور كان يستمع قبل لحظات إلى إحدى روائع بيتهوفن إنما هي وقاحة صرف ".

وأضاف ليزت يقول ان قطعة بكسيس لم تكن، فحسب، عادية. بل كانت تختلف في أسلوبها اختلافاً بيناً عن موسيقى بيتهوفن.

ومجمل القول أن كل ما يستطيع أن يفعله كتاب مثل " النقد التطبيقي " في طريق علاج الموقف الذي يعرضه هو انه يبرز موضع القراءة اللبيقة الدقيقة، في غابة متكاثفة من القصور وقلة الكفاية العامة. أما العزاء الأكبر فهو في أن هذه القراءة نتاج جهد الجماعة، لا الفرد، إلى حد ما، وإنها تشبه حقيقة ولدت من اجتماع عدة اخطاء، ونستطيع أن نفترض

ص: 145

بأن قراءات رتشاردز لا تجيء، فحسب من خلال هذه المسودات ولكنها أيضاً مستوحاة مسهبة موجهة بهذه المسودات نفسها، إلى حد ما، وأنها لا تفترق عن وسائله في مؤلفاته الأخرى من حيث أنها وليدة التكاثر والانتقاء. وواضح انه ليست هناك قراءة " صحيحة " لقصيدة. وغنما هناك قراءات جيدة وأخرى رديئة، وأن الجيدة تنشا من بين قراءات رديئة كثيرة. وهنا يتضح أن الفضل العظيم لكتاب " النقد التطبيقي "، ولكل مؤلفات رتشاردز بعامة، في النقد الأدبي الحديث، هو في الدرجة الأولى فضل في الطريقة وعلم المناهج أكثر منه في المبادئ أو في اقتراح الإصلاح. ذلك انه بإيجاده اقتراباً من الظروف التجريبية يحقق لأول مرة وصفاً موضوعياً لكيفية قراءة الشعر على الحقيقة، ويركز جهد النقد على ميدان قل خوضه فيه، اعني ميدان النقل أو التفسير الشعري أو علاقة القارئ بالقصيدة. وحين يوجد اقتراباً ما من الظروف الجماعية فأنه يحقق إيجاد وسيلة صالحة لتحسين القراءة وتحسين تلك العلاقة.

3

- لطالما عني النقد الأدبي، على شكل متقطع أو مستمد من الحدس، شأنه في ذلك شأن الوسائل الحديثة الأخرى، بدور القارئ أو الجمهور في عملية النقل الفني. فقد وضع كل من أفلاطون وأرسطوطاليس القواعد العامة، عن رد الفعل عند الجمهور، في مبدأيهما النفسيين الاجتماعيين المتعارضين، فقال الأول أن الفن مثير ضار للعواطف، وقال الثاني أنه عامل يساعد في تطهير العواطف؛ ولكن لم يحاول واحد منهما أن يدرس جمهوراً ورد الفعل عنده، نحو آثار فنية معينة. وقد طور لونجينوس بوضوح في كتابه " في الرائع " بالاستعمال اللغوي تلك التفرقة التي سماها مل من بعد " الدال " و " الضمني " حيث كتب لونجينوس (ترجمة

ص: 146

ريس روبرتس) يقول: " ثم أنك ولا بد على وعي بان الصورة تخدم غرضاً عند الخطباء، وغرضاً آخر عند الشعراء، وأن سبيل الصورة الشعرية أن تأسر، وسبيل الخطابية الوصف الحي ". وهذه تفرقة أساسية لكل دراسة تتناول التجربة الفنية عند الجمهور، ولكن لونجينوس وقف بها عند هذا الحد ولم يتجاوزه. نعم إنه يقترح من بعد في الكتاب نفسه عدداً من الوسائل التي تنتج تأثيراً في الجمهور؛ وحديثه بخاصة عن " الالتفات " في مخاطبة الجمهور نموذجي حقاً. وبعد أن يقتبس سطراً من هيرودوتس، يتحدث فيه عن أعمال البطل في ضمير المخاطب لا الغائب، يقول:

أتبصر، يا صديقي، كيف يقودك في الخيال خلال ذلك العالم ويجعلك ترى ما تسمع. وكل هذه الأحوال من الخطاب المباشر تضع السامع في قلب المشهد، وهكذا هو الحال حين يبدو انك تتحدث لا إلى الجماء الغفير، بل إلى فرد واحد.

" ولكنك يا تيديدس - ما كنت تعرفه، ذلك الذي قاتل البطل في سبيله "(الإلياذة 5: 85)

أنك ستجعل سامعك أكثر استثارة وتنبهاً، مفعماً بالمشاركة الحيوية، إذا أبقيته مستيقظاً بكلمات تخاطبه بها.

ولعل أول اعتراف رسمي بالحاجة إلى دراسة الجمهور دراسة نفسية إنما كانت في القرن الثامن عشر، وبلغت ذروتها في مقال إدمند بيرك " في الرائع والجميل "؛ يقول جون مورلي:

كان ذلك توسيعاً قوياً للمبدأ الذي وضحه أديسون، قبل زمن غير بعيد، في تردد واستحياء، وهو أن نقاد الفن يفتشون عن المبادئ الفنية في غير موضعها الصحيح، ما داموا يقصرون تفتيشهم على القصائد والصور والحفر والتماثيل والمباني

ص: 147

بدلا من أن ينظموا أولا العواطف والقابليات الإنسانية، التي يلوذ بها الفن. وكانت معالجة أديسون عابرة أدبية صرفاً، أما بيرك فانه عالج موضوعه بجسارة على أساس من السيكولوجيا العلمية التي كانت في متناوله حينئذ. وأن الاقتراب من هذا المبدأ من الناحية السيكولوجية معناه أحداث تقدم واضح فذ في طريقة البحث الذي أضطلع به.

أن بيرك حين أخذ يستقري الفن في مجال الجمهور كان يطبق عملياً نظرة نمت خلال القرن الثامن عشر وهي أن النقد يفيد إذا قلل الفروض وأكثر من المعلومات. ولقد كتب جونسون في " الجواب " يقول: " أن من مهمة النقد أن يقيم مبادئ، لكي ينقل الرأي إلى دائرة المعرفة ". وفي القرن التالي أضاف كولردج مظهراً علمياً آخر وهو " التجريب "، وكأنما كان في " السيرة الأدبية " يردد صدى جونسون (حين قال أن غاية النقد أن يقيم " مبادئ الكتابة ") . وقد لحظ كولردج نقطة أسهب رتشاردز من بعد في إبرازها في " النقد التطبيقي " وهي التباين الواسع وعدم الثبات أساساً في استجابة الجمهور للشعر (هي عند كولردج الاستجابة للأناشيد الغنائية Lyrical Ballads من نظم وردزورث)، فكتب يقول:

أنا مغرى بأن اعتقد أن هذا التقرير لا يشذ كثيراً عن الصواب اعتماداً على الحقيقة الملحوظة التالية التي أستطيع أن أقررها حسب معرفتي وهي أن مثل هذا الحكم العام قد قال به أشخاص متباينون كل على قصيدة غير الأخرى. ومن بين هؤلاء الذين اغلي من تقدير صراحتهم وحكمهم أتذكر بوضوح ستة، عبرت اعتراضاتهم عن هذا المغزى نفسه، مقرين في الوقت نفسه أن كثيراً من القصائد قد منحهم متعة

ص: 148

عظيمة. ومن الطريف، وأن بدا غريباً حقاً، أن ما عده أحدهم ممقوتاً عده الآخر أبياته المفضلة. وأنا حقاً مقتنع بيني وبين نفسي إنه لو أمكن أن تطبق هذه التجربة على هذه المجلدات مثلما تم في القصة المشهورة عن الصورة، لكانت النتيجة مماثلة، وإذن لرؤيت الأجزاء التي نثرت عليها البقع السود أمس، بيضاء ناصعة في اليوم التالي.

وحين كان كولردج يضع القاعدة النظرية التي قد تتطور إلى التجريب الموضوعي على القارئ، أنتج دي كونسي عدداً من الدراسات المتميزة بقوة الاستبطان والاستبصار، عن رد الفعل عند القارئ، وخير أمثلتها المعروفة مقال له عنوانه " في قرع الباب في ما كبث " وهو ما سينمو من بعد ليكون أبحاثاً نفسية تحليلية في الميدان نفسه. وفي هذا المقال بدأ دي كونسي بمشكلة عدم التناسب الذي لا يجد له تفسيراً في الاستجابات التي كان يثيرها دق الباب في نفسه (وهي بالدقة نفس المشكلة التي ابتدأ منها آرنست جونز بحوثه في هاملت بعد قرن من الزمان) . يقول دي كونسي:

منذ أيام طفولتي أحست دائما بحيرة عظيمة إزاء إحدى النقاط في ما كبث، وهي أن قرع الذي يتلو مقتل دنكان يثير أثراً في مشاعري لا أستطيع الإفصاح عنه. وكانت النتيجة أن ألقى هذا على حادث القتل رهبة خاصة وعمقا في الخشوع. ومع ذلك فمهما حاولت بإصرار أن يحيط فهمي هذا الأمر، فإني لم أستطع أن أرى لم يحدث لدي مثل هذا الأثر.

وبعد أن يجري متتبعا البحث الاستبطاني، يخرج بجواب (أما القول بأنه ليس الجواب الصحيح وأن أجوبة أخرى مرضية قد وجدت منذ

ص: 149

عهدئذ فلا يقلل من رجاحة ما توصل إليه دي كونسي من طريق منهجه في البحث) .

وخلال القرن التاسع عشر تطور الموروث المنحدر عن كولردج إلى اختبارات تجريبية عامة في مجالات كانت تعد من قبل حرما مقدسا للظن والتخمين. ومن نماذج ذلك اختبار جالتون لتأثير الصلاة، وأن كان هذا مثلا مضحكا (لقد أشار إليه رتشاردز مراراً باستحسان) ، فقد قرر جالتون، وهو محق فيما قرره، أن الصلوات التي تقام من أجل حياة الحكام وأطفال القسس أكثر من التي تقام لغيرهم، وفحص الإحصاءات عن مدى أعمارهم (فوجد أنها قد تكون في متوسطها اقصر من غيرها، ولكن ذلك لا يؤيد الظن بأن الصلاة ضارة) .

أما الآراء التي تعرف في القارة الأوربية باسم " علم الجمال الإنجليزية " وهي الجماليات الفيزيولوجية عند كل من هربرت سبنسر وغرانت ألن والتي تؤسس التجربة الجمالية فيها على رد فعل جسماني، فقد تطورت في ألمانيا أساسا إلى مدرسة علماء الجمال التجريبيين، ومؤسسها غوستاف فخنر، بدأ بالاختبار التجريبي على فرضية ادولف زايسنغ القائلة بان أقسام " القطاع الذهبي "(وفيها أن نسبة الوحدة الصغرى إلى الكبرى كنسبة الكبرى إلى الكل) تمتع إلى حد الإملال. أما تجاربه المؤيدة لهذه الفرضية والتي تحدث عنها في كتابه " علم الجمال التجريبي " Experimental Aesthetics فأنها قدمت للناس الطريقة التجريبية، بما فيها من نص على الكم، وخلقت بعامة معالجة عن طريق المختبر لدراسة رد الفعل عند الجمهور. ثم أن فون هلمهولتز في كتابه " احساسات النغم " Sensations of Tone أقسام علم جمال الموسيقى على أساس قوي من الطبيعيات والفيزيولوجيا. غير إن محاولات بعض الباحثين أمثال إ. ف. بريك وإيوالد هرنغ ثم من بعدهم ممن أجروا نفس التجارب على التأثيرات الممتعة للألوان ومجموعاتها لم

ص: 150

يحرزوا مثل ذلك النجاح. (مع إننا يمكن أن نفترض إننا في النهاية سيكون لدينا حتماً طبيعيات انسجام الألوان مقنعة كافية في معالجة الصور الكبرى، كفاية طبيعيات الصوت الموسيقي في مجال المؤلفات الموسيقية الكبرى) . وقد رسم فلهلم فندت تلميذ فخنر في كتابه " علم النفس الفيزيولوجي " Physiological Psychology الخطوط الكبرى للتطور المقبل في علم الجمال التجريبي، وقد تعترض أن هذا الاتجاه (مثلما يحاوله الجشطالتيون فيما يحتمل) يكمن الأمل الذي نحمله في أنفسنا للحصول على مجموعة من المعلومات العلمية عن ردود العقل عند الجمهور، ولعله علم الجمال الموضوعي الوحيد الأصيل الذي قد نبلغه ذات يوم، هذا على الرغم من ضروب من الإهمال في المعالجة كالحديث الدارج عن ردود فعل " أحشائية " نحو الصور وجنون " عرض الذات ".

ومثل هذه الحركة تطور في فرنسا على مدى أضيق. ففي 1888 نشر أميل هنكن " النقد العلمي " La Critique Scientifique فأسس به علم " السيكولوجيا الجمالية "، وعرف الأدب بأنه " مجموعة رموز مكتوبة يقصد منها أن تنتج عواطف غير فعالة "، ثم طور جهازاً مدهشاً من المصطلحات ونظم التصنيف، استمده من العلوم الطبيعية، من أجل أن يعالج الأثر الفني، على أنه أولا تعبير عن مؤلفه، وثانياً من حيث أثره في القارئ، وقد كانت أهدافه وأساليبه رصينة إلا أنها، نوعاً ما، نشأت قبل أوانها، غير أن النتائج التي حصلها في تطبيق المبنى على الأدب في مجلدين بعنوان " دراسات في النقد العلمي " Etudes de Critique Scientifique في السنتين التاليتين لم تكن ناجحة تماماً. وواضح إن كثيرا مما أداه هنكن يعد سلفاً لما أداه رتشاردز، وكان له اثر عظيم في نقاد يذهبون مذهب التحليل النفسي مثل شارل بودوان. بل يبدو انه أثر في أناس لم يكن تأثير النقد العلمي ليبلغهم مثل ريميه دي غورمونت فهذا الناقد على الرغم

ص: 151

من الاتجاه الجمالي الخالص في نظرياته، قد استمد كثيراً من كل من الطبيعيات والفيزيولوجيا، وكان على وشك أن يكتب ذات يوم كتاباً اسمه " عالم الكلمات " The World of Words " ليجزم أن كان للكلمات معنى - أي قيمة ثابتة) وهذا ما يوحي كأنه ذو علاقة " بمعنى المعنى " في القصد، على أقل تقدير.

وتناول عدد من النقاد المعاصرين - إلى جانب رتشاردز - واحداً أو آخر من مظاهر هذا الموروث، أما محاولين أشكالا من تجاريب المختبر في ميدان النقد، أو دارسين لعملية النقل وردود الفعل عند القراء، بعون من وسائل فنية أخرى. وقد تقدم البحث (انظر الفصل عن مود بودكين) في تجارب مود بودكين في الاستبطان عند القارئ وحديثها عن الاستجابات الاستبطانية عند نفسها، وفي تجارب الدكتور ورتام عن استبطان الأديب. ولعل أكثر تجربة على طريقة تجارب المختبر، مدهشة في عالم الأدب، قام بها سيكولوجي من جامعة كولومبيا اسمه فردريك ليمان ويلز وكتبت في " محفوظات السيكولوجيا " Archives of Psychology آب (أغسطس) 1907 بعنوان " دراسة إحصائية في الجدارة الأدبية " فقد جمع الأستاذ ويلز عشرة من الطلبة الخريجين في الأدب الإنجليزي بكولومبيا وسألهم أن يرتبوا عشرة أدباء أميركيين حسب جدارتهم - وهم: بريانت وكوبر وإمرسون وهوثورن وهولمز وآيرفنج ولونجفلو ولوول وبو وثورو - على أساس عشر صفات وهي: السحر والوضوح والرخامة والصق والقوة والخيال والأصالة والتناسب والتعاطف والسلامة، وعلى حسب ترتيبهم قدر المنازل الأدبي الأميركية، فكان الترتيب: هوثورن في المنزلة الأولى ويليه بالترتيب: بو وإمرسون ولوول ولونجفلو وآيرفنغ وبربانت وثورو وهولمز وكوبر.

وقد مضت كلية المعلمين بكولومبيا قدماً بموروث التجريب والقياس

ص: 152

الأدبي، دون أن تساوي ويلز في تفرده وشذوذه؛ ونذكر هنا بضعة أمثلة من الكتب الكثيرة التي الفت في هذا المضمار ومنها مونوغراف أصدرها الآن ابوت وم. ر. ترابو سنة 1922 قبل صدور " النقد التطبيقي " بعنوان " مقياس القدرة في الحكم على الشعر " A Measure of Ability to Judge Poetry؛ وتتألف تجربتهما - وهي متفردة في براعتها - من إعطاء كل واحد من المختبرين، قصيدة مع ثلاث صور نثرية على النحو الآتي: واحدة مشمولة بالعاطفية، وواحدة مطبوعة بطابع نثري بعيد عن الشعر، وثالثة تعمد ناثرها أن يضع فيها أخطاء، ثم عمل جداول من المفاضلة التي اجروها، وجاءت هذه قائمة إلى حد ما. وقد قام مورتمر أدلر في أطروحته للدكتوراه بتجربة شبيهة بهذه مستعملا موسيقى كان قد هجنها في عينيه، بطرق لبيقة، موسيقي محترف. ونشرت هيلين هارتلي سنة 1930 سجلا عن تجربة أخرى على هذه الخطوط نفسها في مونوغراف عنوانه:" تجارب في القراءة التفسيرية للشعر من أجل مدرسي الإنجليزية ".

وفي سنة 1931 ظهر بالألمانية كتاب " بناء علم اجتماع للذوق الأدبي " The Sociology of Literary Taste للفن ل. شكلنغ ونشر بالإنجليزية سنة 1944 وهو محاولة في نوع آخر من المعالجة العلمية. وهذا الكتاب موجز جداً وهو أكثر بقليل من تاريخ أدبي مختصر يعمم القول في تغير الدرجة الاجتماعية للفنان ومعايير الفن والذوق في العصور الحديثة. وقد يوحي ببعض خطوط البحث التي تجعل من الممكن حقاً إيجاد علم اجتماع للذوق الأدبي لأن فيه دراسة تفصيلية للتغيرات في الجرائد والمجلات، " وبحثاً في آراء جماعات خاصة ومهن خاصة " واختباراً للإحصاءات عن بيع الكتب بما في ذلك أرقام عن إعادة الطبع لنماذج الأدب القديم، واستطلاع لشؤون الإعارة في المكتبات ونوادي الكتب والجماعات القارئة. وقد هيأ شكلنغ مثل هذه الدراسة أو السلسلة من الدراسات في خياله، على نحو

ص: 153

غير علمي، ثم أعلن عما " تدل عليه " والحق أن كتابه ليس أكثر من مخطط لعلم مقترح، وهو مفيد وأن كان نزراً يسيراً؛ وبعض استبصاراته وحدسياته فذة إطلاقاً، غير أن شكلنغ لا يملك مجموعات من المعلومات، ولا سجلات تجريبية تسنده في عمله، فان كان قد صدر مؤلف في هذا المجال منذ عهدئذ فلا علم لي به (دون أحتقاب زخارف علم الاجتماع قامت السيدة ليفز بدراسة للذوق الأدبي أعلى شأناً، معتمدة كثيراً على رتشاردز، في كتابها " القصص والجمهور القارئ ".)

وهناك محاولة معاصرة أخرى لدراسة مظاهر النقل في الأدب علمياً وميدانها هو حقل السمانتيات الواسع (علم أسسه في شكله الحديث رتشاردز وأوغدن) ، وتظهر على شكل خاص في الجهود الطامحة عند أصحاب المنطق الوضعي، وهي جماعة يصر رانسوم وتيت وويلرايت على أنها تحمل أفكار رتشاردز الأولى حتى تبلغ بها نتائجها المتضمنة، وان لم يكن ذلك عن رضى رتشاردز. ويتزعم هؤلاء المناطقة الوضعيين كل من رودلف كرمب وشارلس و. موريس وهم بسبيل خلق " موسوعة أممية في العلم الموحد " متسلسلة (أي يحاولون كما يقول رتشاردز ان " يحوروا بالمنطق إلى القواعد الأساسية للغة كاملة ") وقد طوروا " سمانتيات " في ميدان " لغات الدلالات والرموز " الأرحب، أي العلم الشامل للدلالات وتفسير الدلالات. وطبيعة هذا العلم ومشتملاته بعامة خارجة عن حدود أهدافنا في هذا الكتاب، وعلى أية حال أكاد لا أجدني كفؤاً لشرحها، ولكني أقول أن مؤلفي هذه الموسوعات الجديدة، في سياق محاولتهم أن يستغرقوا ويشكلوا المعرفة الإنسانية من جديد، قد وقفوا حتماً ضد الشعر وقد ألمع آرثر ميزنر، بظرف لا يخلو من جور، إلى أن مشتملات بحث موريس في " الدلالة الجمالية " في كتابه " أسس نظرية الدلالات " Foundations of the Theory of Sign إنما هي معالجة للشعر على انه

ص: 154

" نوع لطيف من الجنون " ثم حاول موريس في مقالين آخرين متأخرين وهما: " علم الجمال ونظرية الدلالات " المنشور في مجلة " العلم الموحد " Journal of Unified Science العدد الثامن 1 - 3 و " العلم والفن والتقنولوجيا " المنشور بمجلة كينيون خريف 1939 - حاول موريس فيهما ان يوجد زاوية يمكن للشعر أن يأوي إليها شرعاً. ويذهب موريس إلى أن المقال الجمالي هو شكل أولي من المقال، وأنه يتضمن، في المقام الأول، الوظيفية التركيبية للغة، وإنه مخصص أولا وقبل كل شيء " لإبراز القيم بشكل حيوي " ثم " ما دام الأثر الفني إيقونة [صورة] لا تقرياً، فالمقال الجمالي غير قاصر على الدلالات التي يمكن التأكد من صدقها ". أي انه لا يدرس إلا من طريق الثبات الداخلي لا من طريق الدلالة. ويبدو أن هذا الموقف لا يتغير في كتابه الأخير " الدلالات واللغة والسلوك " Signs، Language an Behaviour ويبدو أن كرنب أيضاً لم يراجع موقفه الذي اتخذه عام 1934، في كتابه " الفلسفة والتركيب المنطقي " Philosophy and Logical Syntax، وذهب فيه إلى ان الشعر الغنائي مضارع للضحك، أي أنه شكل من التعبير العاطفي. ولما كان المناطقة الوضعيون حتى اليوم قد تركوا أمثلة معينة في المقال الجمالي دون أن يدرسوها، فليس لنا إلا ان ننتظر بصبر، لنرى المشتملات النقدية في هذه النظرة الممتعة. أما السمانتيون الذين يدرسون المسائل العامة تحت توجيه كورزبسكي فيبدو انهم، من الناحية الأخرى، قد اسقطوا الشعر عموماً من كيان دراستهم، مع أن كورزبسكي يلحظ في أحد المواضع في كتابه " العلم والرشد " Science and Sanity أن الشعر قد " ينقل من القيم الخالدة اكثر مما يستطيعه مجلد كامل من التحليل العلمي ".

فإذا مضينا في عرض الشعر موضوعياً توصلنا إلى الآلية بمفهومها الحرفي، وهي أيضا موجودة، فقد أشار عدد من النقاد، ومن بينهم

ص: 155

عزرا بوند، إشارات غريبة إلى آلة اخترعها الحبر روسيلو لقياس فترات الأصوات المنطوقة. وسواء أكانت هذه الآلة هي " الكيموغراف "، وهي آلة للغاية نفسها تستعمل في مختبر الصوتيات بالكلية الجامعية بلندن، او لم تكن، فأمر لا أدريه. وعلى أية حال لا معرفة لي بأي مؤلف منشور، مؤسس على آلة روسيلو ولكني اعلم أن إ. أ. زوتنشاين وهو أستاذ كلاسيكيات نشر " ما الإيقاع؟ " What is Rhythm سنة 1925 على أساس النتائج التي استنبطها من الكيموغراف، وتشمل فهرستا يعطي نتائج كمية توصل إليها في قياس تجريبي للمقاطع، وكان يعمل بالاشتراك مع علماء في الأصوات محترفين. ونظريات الأستاذ روزنشاين مشتقة تجريبياً من هذه النتائج وهو يقدم التعريف التالي أساساً لعلم موضوعي في الأوزان إذ يقول " الإيقاع هو خاصية التتابع لأحداث، في زمان، تنتج في عقل المشاهد انطباعاً عن التناسب بين فترات الأحداث الكثيرة أو مجموعات الأحداث، التي تتألف منها المتوالية المتسلسلة ". وقد نقد رتشاردز هذا التعريف نقداً معقولا في ملحق على " النقد التطبيق " من حيث أن زوتنشاين قد عالج هذه العناصر وكأنها أمور في النظم نفسه لا أنها أعمال في الإنسان الذي يقرأ النظم أو الذي يلقيه أمام الكيموغراف، ومن حيث أنه أدرك انه ظواهر سيكولوجية لا طبيعية ثم لم يعالجها المعالجة الكافية لشيء سيكولوجي، فيوضح كيف إنها مرتبطة ارتباطاً لا انفصام له، المعنى الشعري. وعلى الرغم من هذا الميل الميسر لمعالجة كل شيء مسجل على الآلة، وكأنه في النتيجة موضوعي، وقيامه ممكن تماماً، فان كفاءة الكيموغراف وما شابهه من آلات لدراسة الأوزان كما هي في حالي الشعر والنثر، تبدو أساسية جداً (1) .

(1) في مجال آخر نجد المضياع طليعة في القياسات الآلية لرد الفعل عند الجمهور بمبتدعات مثل الأوريميتر أو آلة قياس الصوت Gag Meter، Program Analyzer، Reactocaster ومن كان من القراء ذا صبر على تعلم هذه لتسجيل وإحصاء وتقييم الاستجابات الدقيقة عند المستمعين لتجاربهم الجمالية فانه يحال إلى مقال بقلم توماس وايدسايد في الموضوع منشور بمجلة " الجمهورية الجدية " أيار (مايو)1947.

ص: 156

بقيت وسيلة أخيرة لدراسة رد الفعل عند القراء تستحق الذكر لأنها على الطرف الثاني من الكيموغراف وهي حدس جورج اورول اللبيق الذاتي عن الثقافة الشعبية، في مقالين نشرهما في " ديكنز ودالي وغيرهما " Dickens، Dali Others وهما " أسبوعيات الأولاد " و " فن دونالد مكجل ". ويطور أورول وسيلة من الحدس الصرف لدراسة الآثار الاجتماعية لكل من المجلات التافهة المخصصة للمراهقين والبطائق الهزلية. وطريقته تكاد تكون عكساً مباشراً لطريقة رتشاردز؛ كلا الرجلين مهتم بآثار العمل الفني في القارئ، ولكن رتشاردز يتجه بالتالي نحو القارئ، ويتجه أورول إلى الأثر الفني. ويبدأ أورول في " أسبوعيات الأولاد " بالحديث عن محتويات الدكان الصغير الذي يملكه بائع الصحف في أي مدينة إنجليزية كبرى ويلحظ أن " محتويات هذه الدكاكين لعلها خير شيء قريب المتناول لبيان ما يشعر به جمهور الشعب الإنجليزي وما يفكرون فيه " ثم يركز الحديث على " أسبوعيات " الأولاد التي تباع ببنسين و " المصورات المفزعة " ذات البنس ويؤرخ لها ويتحدث عن توزيعها وآثرها وعن محتوياتها بإسهاب، ويطلق يده في الاقتباس. ثم يصنع تخمينات بارعة عن القراء وحياتهم وعقولهم، وما تصنعه المجلات من أجلهم، وما الدوافع والحاجات التي ترضيها لديهم، لكي تكفل لنفسها انتشاراً وقبولاً، كل ذلك بدراسة متأنية لأعمدة المراسلات والإعلانات والمحتويات الأصيلة للمجلات. ويجد عالماً كاملاً من الأوهام ويستكشف مضموناتها الاجتماعية والسياسية بتفصيل، والقطعة حقاً مؤيدة بالوثائق بعناية واسعة الاطلاع، وهي دراسة جد قيمة سيكولوجية اجتماعية لنموذج من الأدب التجاري كما ينظر إليه من زاوية القارئ.

ص: 157

وتشبهها في هذا مقالته " فن دونالد مكجل " وان كانت دراسة - اقل طموحاً - للبطائق الهزلية؛ ويصنع فيها أورول جداول بموضوعات البطاقات ثم يدرس النزعات الاجتماعية وانعكاسات الواقع الاجتماعي وراءها. ومن الصعب أن نقول اعتماداً على هاتين القطعتين الممتازتين أن كان هذا المنحى النقدي يمكن أن يطبق على الأدب الرفيع والفن ولكن لا ريب في أنه قيم في هذا المجال الأدنى الذي اختاره اورول.

4

- يبدو أن رتشاردز قد وجه التفاتاً ضئيلا إلى من سبقه في الموروث التجريب ودراسة الجمهور، ويبدو أن بحوثه، حتى حين تعيد في أساسها دراسات سابقة، لا تكترث بالسوابق وإنما هي تولدت عن منطق التطور في تأليفه. إذن فان دينه المعين الذي استمده واعياً عامداً، يعود إلى عدد قليل من المفكرين السابقين، وأكثرهم نسبياً فلاسفة متفردون في آرائهم أو أدباء متفلسفون، وأهم هؤلاء صمويل تيلور كولردج، فتأثيره في رتشاردز مثل ساطع على لقاء فكرين عبر قرن من الزمان وعلاقتهما شاملة معقدة، دقيقة أحياناً إلى حد أن تغرينا هنا بالمرور بها عابرين، ولكن على أية حال هنالك كتاب ممتاز يوضحها، أعني كتاب رتشاردز " رأي كولردج في الخيال "؛ وتطور كتب رتشاردز من حيث علاقته بكولردج يشبه أن يكون سجلا لقصة حب، ففي أول كتابه " أسس علم الجمال " لا يذكر كولردج إلا باقتباس رأي له " صوفي " في الجمال، بشيء من الاحتقار، وفي " معنى المعنى " لا يبدو كولردج غلا صاحب تقرير، بعيد التحليق، عن الفن. أما في " المبادئ " فبعد عدد من المرات يذكر فيها شعر كولردج يروع القارئ فجأة حين يجد إشارة إلى " الفصل الرابع عشر " في " السيرة الأدبية ": " تلك الحجرة المفعمة بحكمة مهملة والتي تحتوي الماعات نحو نظرية شعرية

ص: 158

أكثر من سائر ما كتب في ذلك الموضوع "؛ وخلال باقي الكتاب يلتقط رتشاردز " لمحات لا تقدر بثمن " " لمحات مضوئة " وما أشبه من " السيرة الذاتية " وبخاصة فكرة كولردج عن الخيال وهي " اعظم يد لكولردج في النظرية النقدية " و " من الصعب أن نضيف إليها شيئاً ". وفي الوقت نفسه يؤكد رتشاردز أخذه بأسباب الحيطة فيقول:

أن لام وكولردج - كناقدين - بعيدان جداً عن أن يعدا عاديين؛ ومع ذلك فهما ذوا خصب شاذ في كثرة ما يوحيان به؛ واستجابتهما كثيراً ما تكون خاطئة، حتى حين تكون ذات طابع الهامي؛ وفي مثل هذه الأحوال لا نتخذهما مقاييس نسعى لبلوغها، ولا نحاول أن نرى باعينهما، بل نتخذهما بدلا من ذلك وسيلة تؤدي بنا إلى طرق مباينة في معالجة الآثار الفنية التي تميزا واغربا معاً في معالجتها.

ثم تطور في كتب رتشاردز اللاحقة احترام متزايد لكولردج (بلغ حداً ما جاء في الاقتباسة السابقة) مع استغلال متزايد لآرائه. فيبدأ كتاب " القواعد الأساسية في التفكير " وينتهي باقتباسات من كولردج. حتى إذا كان كتاب " رأي كولردج في الخيال " وهو دراسته المطولة عن هذا الناقد، كان تقدير رتشاردز قد ارتفع إلى حد أن يرى في كولردج مؤسس " علم تطور معاني الكلمات " وعبقرية شاسعة الأبعاد حتى لو أن أفكاره في الشعر والتفسير واللغة والعقل، " استخلصت " ووسعت وترجمت إلى مصطلح حديث ولو انه " أعيد تفسير " آرائه الميتافيزيقية إذن لهان قسم كبير من مصاعب رتشاردز ومصاعبنا. وفي الكتب التالية اصبح يقتبس من كولردج وكأنه " المعلم الأول " نفسه. وقد زعم رانسوم في كتابه " النقد الجديد " أن كولردج " الناصح الأمين " لرتشاردز قد " تمثل " رتشاردز " مثلما يقال عن الصينيين انهم يتمثلون

ص: 159

الفاتحين " لا العكس، فحوله من المنطق الوضعي إلى إيمان بالوظيفة العرفانية للشعر، وهكذا. وربما كان الاصوب أن يقال أن رتشاردز حين ابتعد عن فلسفته الوضعية الصارمة الأولى وجد أن كولردج عن لسانه ينطق.

ولعل المصدر العظيم الوحيد بعد كولردج لأفكار رتشاردز هو جرمي بنثام وقد يكون هذا من اثر ارغدن الذي كتب كتاباً واحداً عاماً عن بنثام وحقق نظريته في الأدب التخيلي ولكن لعل الاشبه برتشاردز انه انجذب شخصيا إلى بانثام لامرين أولا لكون بنثام رائداً في التحليل اللغوي وثانياً لان الفلسفة النفعية قريبة الشبه من نظرية رتشاردز السيكولوجية في القيم، كما يوضح ذلك رتشاردز نفسه في " المبادئ ". ويسمي رتشاردز نفسه في " رأي كولردج في الخيال "، " بنثامي " الاتجاه ويقوم بمحاولة بارعة، متتبعاً مقال جون ستيوارت مل " مقال عن كولردج " ليوفق بين الفلسفتين، ويعيد تفسير مثالية كولردج من زاوية مادية بنثام محاولا ان يجد كما المح مل " حاجة طبيعي أو شيئاً تحتاجه الطبيعة الانسانية، بحيث يكون هذا المبدأ، الذي هو محط البحث، مناسباً لإشباعه ". وينقل رتشاردز عن مل قوله:

من استطاع أن يحكم مبادئ الاثنين ويجمع بين أساليبهما تملك ناصية الفلسفة الإنجليزية كلها في عصره. كان كولردج يقول ان كل شخص فأما أن يولد أفلاطونيا أو أرسطوطاليسياً؛ وقد نؤكد القول، على طريق المشابهة، بأن كل إنجليزي في العصر الحاضر هو في حقيقته، إما أن يكون بنثامياً أو كولردجياً، وانه يؤمن بآراء في الأحداث الإنسانية لا تثبت صحتها بالبرهان غلا على أساس من مبادئ بنثام أو كولردج.

ص: 160

ثم يضيف قوله:

إن ما قاله مل لا يزال صائباً وإن كنا نستطيع أن نغير التسمية فنقول " إما أن يولد مادياً أو مثالياً " وقد تجد من يقول أن هذين النموذجين لنظرتين تبدوان متعارضتين، يكمل أحدهما الآخر، أي أنهما في تاريخ الفكر كان أحدهما يعتمد على الآخر، حتى أن موت أحدهما كان يؤدي إلى موت الثاني لعجزه عن التمثل وحده. وأنه مثلما أن الزفير ليس إلا وجهاً واحداً من شقي عملية النفس، فكذلك هاتان الفلسفتان في عدائهما الأزلي هما عملية من النقد الذاتي ضرورية بشقيها. ولكن بما أن التخلي عنهما معاً معناه العقم عن تأدية أية نظرة أو فكرة فان التعارض يستدعي اختياراً موقتاً فيما بينهما. فأنا اكتب كمادي يحاول أن يفسر لكم منطوقات مثالي متطرف، أما انتم، فمهما يكن مذهبكم، بالفطرة أو اكتساباً، ارسطوطاليسيين كنتم أو افلاطونيين، بنثاميين أوكولردجيين، ماديين أو مثاليين، فعليكم أن تعيدوا تفسير ملاحظي بدوركم مرة أخرى.

وهناك مفكران آخران طبعاً أثرهما أساساً على رتشاردز وان لم يشر إليهما إلا قليلا منذ " معنى المعنى " وهما الفيلسوف الأميركي المهمل شارلس ساندرز بيرس والأنثروبولوجي برونسلاف مالينووسكي. ففي " معنى المعنى " يلحظ المؤلفان انه كان في مقدور بيرس أن يحل قبلهما مشكلة المعنى لو لم يصده " الفقر " عن ذلك، ويلخصان في الملحق ما استغنى رتشاردز عن مصطلحات بيرس في تصنيفه للدلالات، ولكنه استفاد كثيراً من التفكير الكامن وراءها (كما فعل بعض أصحاب المنطق

ص: 161

الوضعي أيضاً، الذين استعاروا مع هذا شيئاً من المصطلحات) ، وعرف بيرس في " القواعد الأساسية في التفكير " بأنه " حجة عظيم جداً ".

وأقتبس المؤلفان في " معنى المعنى " أيضاً من مؤلف مالينووسكي عن السحر الكلامي بين قبائل التروبرياند وجعلا ذيلا لكتابهما مقالة لمالينوسكي في " مشكلة المعنى في اللغات البدائية " وكتبا عنها هذا التوضيح (1) .

المؤلفان مدينان للدكتور مالينووسكي ديناً جد خاص، فعودته إلى إنجلترة بينا كان كتابهما في المطبعة، مكنتهما من أن يستمعا بتأملاته التي قضى فيها السنين الطوال كمشتغل في الاثنولوجيا، في المنطقة الصعبة الواقعة بين اللغويات والسكولوجيا. هذا وأن جمعه المتفرد بين التجربة العملية وتمكنه التام من المبادئ النظرية، يجعل موافقته على كثير من النتائج الثورية التي توصلا إليها مشجعاً بوجه خاص. أما الإسهام الذي جاد به قلمه وأرفق بالكتاب ذير عليه فسوف يكون، حسبما يشعر المؤلفان، قيماً لا للأثنولوجيين، فحسب، بل لكل من لديه اهتمام حي بالكلمات وأوجهها.

ومقالة مالينووسكي نفسها وثيقة بعيدة الشان وكان لإحدى الأفكار التي قدمتها أعني " المشاركة الاجتماعية " Phatic Communion (أي ذلك المظهر من اللغة الذي لا يتميز بشيء إلا أنه يشد أواصر العلاقة بين

(1) ذكرا ذلك في تصديرهما على كتاب " معنى المعنى " ص:9.

ص: 162

المتكلم والسامع) (1) أثراً بعيد المدى. حتى إن الرأي النقدي الذي عرضه رتشاردز في " رأي كولردج في الخيال " ناظراً إلى أن التقييم النقدي هو في أوسع حدوده " مشاركة اجتماعية " ليس إلا فكرة مالينووسكي في صورة جديدة من السبك.

أما العلاقة بين رتشاردز وديوي فأنها تمثل مشكلة واقعية، فهو يقتبس من ديوي - عابراً - مرة اخرى، حسبما يتأدى إليه علمي، في " معنى المعنى " ويذكره باحتقار في " الأساسي في التعليم " ولم يقدم أي اعتراف يدل انه على معرفة بمؤلفات ديوي وآرائه (وإذا كان غير عارف به فذلك شاهد مخزن أخر على ميل عند اكثر المقروئين من النقاد الإنجليز - وكودول مثل آخر - ميل الاستخفاف بالفكر الأميركي المتميز) . أما اوغدن من الناحية الأخرى فقد كان جاداً في الاقتباس من ديوي منذ عهد مبكر يعود إلى عام 1926 في " معنى السيكولوجيا " ومن المشكوك فيه إلى حد بعيد ان يكون رتشاردز قد جانب الاحتكاك بأفكار ديوي، وهو الذي عاش سنوات في اميركة، وله اهتمام خاص بالفلسفة، كما أن ديوي ألقى حينئذ محاضرات جفورد في ادنبره. وعلى أية حال فقد تقدم القول بان اكبر إسهام أساسي لرتشاردز في كتاب " مبادئ النقد "، أي النظرة التي أحدثت ثورة نقدية وبها بدأت الحركة الجديدة، وهي ان التجربة الجمالية مثل أية تجربة إنسانية أخرى - إنما هي إعادة - في قالب جديد - لنظرة تميز بها ديوي في الفكر الحديث. فمنذ سنة 1903

(1) يعني مالينووسكي بهذا إن شخصاً ما قد يتحدث إلى آخر في نوع من الثرثرة ويوافق على هذا بداهة ويرفض ذاك ويقضي بآراء خاصة عن حياته وتجاربه والآخر مستمع له ينتظر دوره حتى يقول شيئاً في هذا المضمار، وهذا يرضي المتكلم ويشبع عنده رغبة خاصة، بدائياً كان أم غير بدائي، ففي مثل هذه المواقف يتم الترابط الاجتماعي بين اثنين بمجرد تبادل الكلمات. ولكن أحقا إن الكلمات في هذه المشاركة الاجتماعية ذات معان، ينكر مالينووسكي هذا ويقول: في هذه الحالة تؤدي الكلمات مهمة اجتماعية ولكنها ليست نتيجة تأمل فكري ولا تثير تأملا فكرياً عند السامع.

ص: 163

غزا ديوي بكتابه " دراسات في النظرية المنطقية " Studies in Logical Theory عالم النشاط الفكري، بما ذلك في ميدان الجماليات، بالمبدأ العلمي الأساسي، مبدأ " الاستمرار " إذ قال:

هذه النظرة لا تعرف تمييزاً ثابتاً بين القيم التجريبية للحياة غير التأملية، وأشد أعمال العقل العقلاني تجريدية. وهي لا تعرف فجوة ثابتة لتفصل بين أعلى تحليقات النظرية وانضباط جزئيات البناء والسلوك العملي، بل هي تمضي، حسب المناسبة والفرصة التي تهيئها إحدى اللحظات، من نزعة الحب والكفاح والعمل إلى نزعة التفكير والعكس بالعكس. وتغير محتوياتها أو مادتها ما فيها من تقيم ذهاباً وإياباً من حالة صناعية أو نفعية إلى حالة جمالية أو أخلاقية أو عاطفية أما المبدأ الأساسي فيها فهو الاستمرار في التجربة واستمرار التجربة.

(ذهب ديوي في كتابه " المنطق - نظرية البحث " المنشور سنة 1938 إلى أن بيرس قد سبقه إلى لفت الانتباه " نحو مبدا استمرار البحث " ولكن أين ذكر بيرس هذا؟ الكشف عن هذا يحتاج إلى مستكشف أجراً مني ليعرف موضعه في كتابات بيرس، ولا يستبعد يكون رتشاردز قد عثر عليه عند بيرس، فقصر مسافة التأثير الصادر عن ديوي) .

أما الأثر الرئيس في رتشاردز فهو أثر زميله شارلس كاي ارغدن (مثل هذا الأثر يخلق رابطة معقدة لأنه يصعب علينا بأي حال أن تعرف من أيهما يتجه الأثر) أما أوغدن فأنه سيكولوجي - أو كان ذلك - ذو أثر عظيم واطلاع متنوع قل أن يتحلى به أحد في هذه البلاد، وهو مثل رتشاردز أحد العقول " الموسوعية " الكبرى، وأما مذهبه السيكولوجي

ص: 164

كما يدل عليه " معنى السيكولوجيا "(أو " أبجدية السيكولوجيا ") - فأنه " حيادي " توسطي يقوم على التركيب الانتقائي الكثير من أكثر النظريات والمعلومات الحديثة فائدة وجدوى. وكثير من كتاباته تركيبي تمهيدي على هذه الطريقة وكان رئيس تحرير " للمكتبة الأممية في السيكولوجيا والفلسفة والمنهج العلمي " المشهورة، وهي التي جعلت بعضاً من خير الكتب التي تمثل كل المذاهب في هذه الميادين وغيرها في متناول القراء وتضمنت مؤلفات هامة في النقد الأدبي، ثم أشرف في الوقت نفسه على سلسلة " تاريخ الحضارة " المسماة (النفس - مجلة سنوية للسيكولوجيا العامة والتطبيقية " وعلى منشورات " دار النفس " المبسطة Psyche Mineatures وهي سلسلة رخيصة (تباع الواحدة بشلنين ونصف) قيمة من الكتيبات شبيهة بالكتب الكبرى التي تصدر عن " المكتبة الأممية "، سلسلة اختصت في سنواتها الأولى بالطب وفي سنواتها الأخيرة بالكتب التي تتصل بالإنجليزية الأساسية. ومن هذه الأربعة هيأ أوغدن، بسعة خيال وعدم تحيز، ميدانا لكل نظرة جادة علمية أو مشارفة للعلم. وفي الوقت ذاته كتب أثني عشر كتاباً أما منفرداً أو بالاشتراك، بما في ذلك تاريخ موجز للعالم، بالتعاون مع إ. هـ. كارتر، ونشره في سلسلة " كلاسيكيات نلسون ". وظلت له دائماً رغبته الحية في الأدب، وبخاصة في جيمس جويس (كتب أوغدن مقدمة لقطعة من " يقظة فينيغان " نشرت بعنوان " حكايات تحكى عن سام وساءون "، وترجم Anna Livia Plurabelle إلى الإنجليزية في مجلة " فترة الانتقال " Transition) وهو مؤسس ومحرر مجلة كمبردج Cambridge Magazine التي يسميها رتشاردز " أكثر المجلات الأسبوعية إثارة بإنجلترة، في أيامها " ويخبرنا رتشاردز أيضاً في " الإنجليزية الأساسية وفوائدها " إن أوغدن " رجل أعمال حيوي وله مناحي متعددة ليس هناك أحد يعرفها أكثر منه " وإنه " خبير في نطاق واسع " وإنه " ذو

ص: 165

قريحة مشهور حق الشهرة بحدة خطراته الذهنية ومغالاتها وإحالتها ". فلا عجب إذن من أن هذا العلامة حين سلط علمه ومواهبه المتنوعة على الطبعة الجديدة من " الموسوعة البريطانية " عام 1925 في مراجعة كتبها في Saturday Review of Literature قد استطاع أن يمزقها صفحة إثر صفحة.

وبينا كان أوغدن منهمكاً في صور هذا النشاط منذ سنة 1920 فصاعداً، وجه طاقته الرئيسية، في الوقت نفسه، إلى الإنجليزية الأساسية وبين عامي 1920 - 1929 أي منذ أن أدرك هو ورتشاردز إمكانات قاموس إنجليزي محدود أثناء كتابتهما للتعريفات في " معنى المعنى " حتى نشر أوغدن أول جريدة بالكلمات الأساسية في " Psyche " استطاع أن يوجد المبنى النظري للغة، وان يختار ألفاظ معجمه. وفي سنة 1930 نشر في كتاب " الإنجليزية الأساسية " كل هذا الهيكل، مجرباً بضعة تغييرات على جريدة الكلمات الأولى. وحقق خلال العقد الرابع من القرن " المعجم الأساسي "، ونشر من خلال معهده الاورتولوجي بلندن سلسلة من الكلاسيكيات مترجمة في الإنجليزية الأساسية، تشمل، مادة متباينة كالتوراة و " الجمال الأسود " Black Beauty ونشر مؤلفات مختلفة تدعو للإنجليزية الأساسية وتشيعها وتوسعها مثل " الإنجليزية الأساسية الأشد لمعاناً " Brighter Basic و " الإنجليزية الأساسية للأمور العملية " Basic For Business و " الفلك الأساسي " A Basic Astronomy وغيرها. وقد كان رتشاردز زميلا له في أكثر هذه المؤلفات وإن كان رتشاردز يميز أوغدن بأنه وحده في " كيف نقرأ صفحة " وضع المشكلة وقام بالبحوث وأبتكر اللغة. وفي كل ما اشتركا فيه ابتداء من " أسس علم الجمال " حتى آخر مؤلف في الإنجليزية الأساسية، على مدى ربع قرن، ليست ثمة طريقة تنبئنا أي الأفكار والمقررات، أو أي أجزاء من المادة، قد صدرت عن هذا

ص: 166

أو ذاك. وقد نفترض دون شاهد حقيقي أن أوغدن أثر في رتشاردز فوجهه نحو السيكولوجيا وبنثام والإنجليزية الأساسية، وإن رتشاردز أثر في أوغدن فوجهه نحو الأدب وكولردج والإنجليزية الأساسية في التعليم. أما الاستنتاج المحسوس الوحيد الذي قد يبلغه المرء في دراسته لرتشاردز فهو إن إسهام رتشاردز في النقد كان يكون غير ما هو وربما كان أقل لو لم يلتق بأوغدن، وإن كان من المستحيل علينا أن نقول أين كان يختلف وكم كان يقل.

أما تأثير رتشاردز في الآخرين فمشكلة اسهل بكثير، إذ انه في ميدان النقد قد أثر في كل واحد وقد تحدثنا قبل عن دوره في خلق النقد الحديث. ومن أول من أولوه عناية وقرأوه قراءة متعاطفة، في هذا اللبد، ووقعوا تحت تأثيره، الشاعر كونراد ايكن الذي قرر نفس التقرير الثوري الوارد في " مبادئ النقد الأدبي "، وذلك في كتابه " شيكات " قبل رتشاردز بخمس سنوات " 1919) وهو ناقد لو قيض له جمهور مماثل وتأثير ووثائق لكان هو الذي ابتدأ حركة النقد الحديث، بلا ريب؛ أما كتابه " شكيات " فعنوانه الفرعي " ملاحظ على الشعر المعاصر " ويتألف من سلسلة من قطع نشرت في المجلات عن شعراء بأعيانهم في الغالب، وفيه يقول ايكن في كتابات فرويد (وكان على معرفة دقيقة مبكرة به، أن الشعر بعد كل هذا نتاج أنساني خالص، وانه من ثم لابد من أن يلعب دوراً محدداً في الحاجات الوظيفية الحيوانية عند الإنسان ". ثم يقول في موضع آخر قولا أكمل مما تقدم " ألن نتعلم أبداً انه ليس حول الشعر شيء غيبي أو فوق الطبيعي، وأنه نتاج طبيعي عضوي ذو وظائف يمكن الكشف عنها وانه محط التحليل؟ وقد يكون من المؤسف أن يترك نقادنا وشعراؤنا هذه المهمة للعلماء بدلا من أن يباشروها

ص: 167

هم أنفسهم ". فلما ظهر " مبادئ " رتشاردز سنة 1924 راجعه ايكن بحماسة، وهو ذو إحساس نادر المثال بأهميته، وقد اثر ذلك في رتشاردز فيما يظهر حتى انه عندما ظهرت الطبعة الثانية سنة 1936 زودت بملحقين، وكان أولهما - " في القيم " - نقاشاً " لمراجع صديق هو المستر كونراد ايكن " وهي الإلتفاتة الوحيدة التي وجهها رتشاردز نحو أي من زملائه النقاد بأميركة.

وأما أثر رتشاردز في تلميذه ومريده الأكبر، وليم إمبسون وفي ر. ب. بلاكمور فقد تحدثنا عنه فيما سبق (انظر الفصلين الخاصين بهما) . وكان تأثيره الآخر الكبير في كنث بيرك إذ أثر فيه إلى حد بالغ بمصادره الأساسية اعني بنثام وبيرس وكولردج لكن منذ ظهور " مبادئ النقد " اصبح اكثر التأثير هو انحياز بيرك ليعمل كل ما يخالف فيه رتشاردز ويهاجم بيرك في كتابه " مقولة مضادة " Counter Statement رفض رتشاردز - دون أن يذكر اسمه - للمثل الأفلاطونية، واعتبارها مصطلحاً لفظياً لا يشير إلى حقائق. أما في كتابه التالي " الثبات والتغير " Permanence and Change فيقر بدينه المعين لكتاب " معنى المعنى " ويقتبس من كتاب " آراء منشيوس في العقل " ليعزز نقطة يتحدث عنها ويخطئ بإسهاب فكرة رتشاردز في " التقرير الكاذب " في كتاباه " العلم والشعر "(ويقتبس من كتاب " المبادئ " ما يقوي وجهة نظره) ويستعمل آراء رتشاردز، بعامة، نقطة اندفاع ينطلق منها إلى ملحوظاته الخاصة. وكذلك يهاجم في كتابه " نزعات نحو التاريخ " كتاب رتشاردز " فلسفة البلاغة " من حيث إنه أستخف فيه بقدر " العنصر " والوظيفة الاجتماعية للكلمات، مقتبساً من كتاب آخر لرتشاردز ما يقوي به حجته أيضاً. وفي كتابيه:" فلسفة الشكل الأدبي " و " نحو الدوافع " يقتبس عدداً من استبصارات رتشاردز، وينتقد بحدة كتاب " كيف نقرأ صفحة "

ص: 168

في فصل عنوانه: " الاصطلاحات الخمسة الكبرى " ويتهمه بأنه يفتقر إلى أي نوع من " اللب ".

وأما الكتاب الذي أثر في بيرك، في الدرجة الأولى، وهو يقتبس منه باستمرار، وكثيراً ما قال فيه أنه أحد كتابين أو أحد الثلاثة الكتب التي تعد اخصب مؤلفات حديثة كتبت عن الادب، فذلك هو " مبادئ النقد الأدبي "، إذ منه استقى عدداً من أفكاره وخاصة فكرته عن العمل البدائي الملازم للنزعات. وأهم نقد لبيرك على رتشاردز هو، بعامة، ميله للتهوين من شان العناصر " الرمزية " و " الواقعية " في اللغة والفن، وهي الخصائص التي يسميها بيرك " الحلم " و " اللوحة " في ثالوثه المكون من الحلم والصلاة واللوحة بينا هو بخاصة ينص على قيمة " الصلاة " أو عناصر النقل. وموقفه هذا أدى عملياً إلى توزيع للجهد مؤثر، وذلك إن بيرك نفسه نزع بخاصة إلى النص على العناصر الواقعية والرمزية وميز الأخيرة منهما بالاهتمام حتى أن الرجلين اللذين " فيما اعتقده على الأقل) هما اعظم ناقدين أدبيين معاصرين، قد تخصصا على الترتيب في الفن من حيث هو نقل وفي الفن من حيث هو تعبير وتركا ما بينهما خلاء كراحة اليد.

وهناك ناقد آخر تأثر رتشاردز يستحق أن نتحدث عنه، وهو مجهول في هذه البلاد؛ ذلك هو جورج هـ. و. رايلاندز وهو مثل إمبسون متخرج في كمبردج، ونشر كتاب " الكلمات والشعر " سنة 1928 توسيعاً لمبحثه الذي قدمه لنيل الشهادة. واثر رتشاردز فيه بارز ملحوظ وان لم يذكر في الكتاب إلا مرة واحدة من حيث انه حرم على كلمة " جميل " أن تدخل حمى النقد، وأذن فأن رايلاندز فيما اقدر تلميذ آخر من تلامذة رتشاردز. وكتابه " الكلمات والشعر " دراسة للعبارة الشعرية كمظهر من مظاهر الأسلوب يكشف القسم الأول منه الطبيعة العامة للعبارة الشعرية

ص: 169

ويدرس الثاني استعمالات شيكسبير بإسهاب. وكل ما فيه من فرضيات عامة فإنما هي " رتشاردية " حتى في قوله انه " يستعمل المجهر " في دراسة الشعر، وان النقد " تمزيق للدمية " وطريقته تنزع إلى أن تكون سبقاً لامبسون باكتشافها المحدود لنواحي الغموض. والكتاب مثير موح بقدر غير بسيط، وقد سبق إلى الكشف عن عدد من الوسائل الفنية التي توسعت من بعده: ومنها فهرسة بلاكمور لاستعمال الكلمة وتتبع سبيرجن للصور واستكشاف بيرك للموسيقية المتناسبة. أما إذا نظرنا إليه نظرتنا إلى عمل تام مصقول فأنا نجده شذرات مخيبة للأمل لا يقارن بمؤلفات إمبسون أو رتشاردز نفسه وهو شاهد قيم، مع ذلك، على أن الغرس النقدي الذي غرسه رتشاردز إذا ركز على النص آتى أكله في أي مجال من البحث اختاره باحث، وانه إذا كان مجاله شيكسبير بخاصة أثمر من المادة دائماً ما عجزت الدراسة التقليدية عن جنيه واستثماره.

ويكاد كل ناقد معاصر بإنجلترة أن يكون قد قبس قبسة من أثر رتشاردز، وقد نحتاج أن نشير إلى شيء من هذه المؤثرات بالإضافة إلى ما ذكراناه عن كل من إمبسون ورايلاندز. فهناك ت. س. اليوت وهو يخالف رتشاردز بعامة، ولكنه قد قبل بعض آرائه ومنها نظرته إلى عدم مناسبة " المعتقد " للشعر، وقد علق في حاشية مقاله عن " دانتي " تعليقه طويلة في كتاب " مقالات مختارة "، عبر فيها عن موافقته المعدلة على هذه النظرة كما عبر عن مخالفته المعدلة لفكرة " التقرير الكاذب " في " العلم والشعر ". وخصص في كتابه " فائدة الشعر وفائدة النقد " فصلا عنوانه مقراً أثناء ذلك بقيمته العظيمة لأنه كان في الدرجة الأولى، باحثاً في " سوء الفهم المنظم ". وتقبل هربت ريد، وهو في موقفه الرومانتيكي المباين يحارب القيم التي وجدها رتشاردز في الشعر، كثيراً من أفكاره

ص: 170

واستطلاعاته بأعيانها. وتأثره ف. ر. ليفز كسائر عصبة Scrutiny إلى حد كبير، وأثرت فيه مؤلفاته حتى إنه في كتبه الأولى يقتبس منه، ويستغل آراءه، ويثني عليه دائماً ولا يعبر عن أية مخالفة له. غير إن مراجعته على " رأي كولردج في الخيال " المنشورة في Scrutiny آذار (مارس) 1935 هجمة مريرة على رتشاردز، لهربه الاجتماعي والسياسي في نقده؛ ومنذ ذلك الحين تحرر ليفز من سحر رتشاردز إلى حد ما (1) .

أما ل. ك. نايتس وهو من عصبة Scrutiny أيضاً فلم يبعد في تسلقه هذا الغصن بل أحس إنه لا حاجة له أن يتسلقه واستمر يقطف من ثمراته، أعني يقتبس من رتشاردز، ويستغل آراءه بهدوء، دون أن يرتهن أساساً يقيمه. ويعترف ستيفن سبند في المقدمة عن كتابه " العنصر الهدام " The Destructive Element إنه استوحاه (واقتبس عنوانه) من تعليقه لرتشاردز على إليوت، وفي البحث الذي هو لب الكتاب في العلاقة بين الشعر والمعتقد، يعود بين الحين والحين إلى اهتصار نتف من آراء رتشاردز. وتقر إلزي إليزابث فير التي بدأت كتابها " شعر جرارد مانلي هوبكنز " حين كانت طالبة بكمبردج، " بمساعدة رتشاردز وتشجيعه "، وتقتبس منه ومن إمبسون على نطاق واسع.

ولقد انصفه وهاجمه على التوالي اثنان من النقاد الإنجليز الذين يقطنون اميركة اليوم، وهما دافيد ديشز واريك بنتلي وكلاهما مدين كثيراً لمؤلفات رتشاردز الأولى؛ فانصفه ديشز في مقال له حماسي تحدث فيه عن ميزته وأثره في كتابة " الكتب التي غيرت عقولنا " وهاجمه بنتلي هجوماً جائراً

(1) كتب ليفز " التعليم والجامعة " ونشره عام 1943 وبعد أن حذر فيه من كتاب إمبسون " المختلط غير المستوي إلى حد بالغ " أي كتاب " سبعة نماذج من الغموض " وصف كتاب رتشاردز بأنه " نص مختلط آخر من النوع المثير المضلل الذي قد يقع حتماً في يد الطالب ومن الفائدة إن يعان على أن ينظر فيه بعيين الناقد ".

ص: 171

جاز حد الاعتدال في " مجلة جبال روكي " شتاء 1944. غير أن أحد هجوم تلقاه رتشاردز، عدا سورة بنتلي، صدر عن الناقد الإنجليزي الماركسي اللامع إليك وست، إذ خصص فصلاً في كتابه " الأزمة والنقد " Crisis and Criticism ليثبت أن كتابات رتشاردز قد أفسدها بمحاولته أن ينتزع الشعر من العمل الاجتماعي وان قراءاته للشعر مكبوحة " بأردأ أنواع الإرجاع المخزونة " يعني روح المحافظة الاجتماعية. (من الممتع ان نلحظ أن النقاد الماركسيين الشياي، مترسمين خطى كودول، يدعون اليوم إلى التقارب بينهم وبين رتشاردز. كتب شاعر شاب اسمه هوبرت نيكلسون إلى مجلة " عصرنا " Our Time أيار (مايو) 1944 يهاجم بلاهة ف. ج. كلينجدر، وقال ان الماركسيين يحسنون صنعاً لو زادوا من التفاتهم إلى آراء رتشاردز عن طبيعة التجربة الفنية وقيمها، ويبدو أن عدداً من المسهمين في مجلة Modern Quarterly قد اخذوا بنصيحته) . ولعل الناقد البريطاني المعاصر الوحيد - من المشهورين - الذي لم يتأثر في الحقيقة بآراء رتشاردز هو ج. ولسون نايت، الناقد الانتقائي المتحمس لمذهبه فانه لم يذكره إلا مرة، عابراً، حسبما أعلم. (قد يفسر هذا الموقف قول رتشاردز مرة في نايت أنه مثل على من يبني نظريات محكمة على أسس خادعة) .

وكان تأثيره رتشاردز على النقاد الأميركيين، إلى جانب بيرك وبلاكمور وايكن شاملا. فيعترف ف. أ. ماثيسون في كتابه " ما حققه ت. س. اليوت " بفضل خاص لرتشاردز (ولادموند ولسن!!)" في الإثارة والتحدي خلال السنوات الأخيرة الماضية " وكتابه حافل باستطلاعات رتشاردز مستمدة بخاصة من " النقد التطبيقي " الذي يسميه ماثيسون " أنضج حديث له عن الشعر والمعتقد ". وفي " النهضة الأميركية " American Renaissance يمضي ماثيسون في استغلاله له ولغيره من كتب

ص: 172

رتشاردز وتلقت كل جماعة الجنوب تأثير آراء رتشاردز بقوة، فيعتمدها كلينث بروكس خلال كتابه " الشعر الحديث والاتباعية " ويزيد اعتماده لها في " الزهرية المحكمة صنع " ويستغلها ورن في دراسته عن كولردج وفي غيرها. أما رانسوم وتيت اللذان أكثرا الكتابة عن رتشاردز (كتب عنه رانسوم في مقال له في The World " s Body وفصلا طويلا في " النقد الجديد " وكتب تيت عنه في مقالاين في " العقل في جنون ") فقد اتفقا على مهاجمة انحيازه المبكر إلى المنطق الوضعي، بقوة وعنف، بينا تقبلا بحماسة كثيراً من مناهجه ونتائجه (استعمل تيت في هجومه ألفاظاً مثل " يخدع ") .

وما كتاب " القصص الحديث " Modern Fiction لهربرت مللر إلا تطبيقاً ضحلاً لبعض أفكار رتشاردز الواردة في كتابيه " معنى المعنى "، و " المبادئ "؛ إلا أن المؤلف أيضاً مروع من اصطلاح " التقرير الكاذب "(من بين كل النقاد الذين أفادوا من رتشاردز ومن مؤلفاته الأخيرة أيضاً لم يستطع ان يزدرد هذا المصطلح دون غصص إلا كلينث بروكس وف. ر. ليفز) ويكبح مللر من جما الاعتماد على رتشاردز في كتابه " العلم والنقد " وان كان اعتماده ما يزال أساسياً، ويثني على رتشاردز على وجه العموم، بحماسة بينا يتهمه، على التعيين، بضيق شديد في السيكولوجيا وبإغفال القرائن الاجتماعية في الشعر و " بفقدان المضاء والإيحاء " في مؤلفاته المتأخرة. ويفيد ليونل ترلنغ في كتابه " ماثيو آرنولد " من رتشاردز كما يفيد من كل مظهر - تقريباً - من مظاهر النقد الحديث، في حذر بالغ، حتى إننا حين نجده يتحدث عن مصطلح " التقرير الكاذب "، مثلاً، يستحيل علينا أن نقول انه يقبله أو ينكره، ويقتبس في كتابه " إ. م. فورستر " E.M. Forester بعض تقريرات رتشاردز عن فورستر،، دون أي تحديد لموقفه منها.

ص: 173

وقد أفاد مارك شورر إفادة جوهرية مشمولة بالإدراك من رتشاردز وبخاصة في كتبه الثلاثة: " العلم والشعر " و " كولردج " و " وليم بليك ". وقد نضيف إلى هذا الثبت زيادات لا حد لها، ومن النقاد الأميركيين الكبار واحد يشبه نايت في إنجلترة من حيث انه لم يتأثر برتشاردز مطلقاً، ذلك هو أيفور ونترز.

أن الصورة العامة التي تبرز من وراء ذلك كله هي صورة رتشاردز مؤثراً في كل ناقد جاد معاصر - على وجه التقريب - ونكاد لا نجد فيهم واحداً، إلا أن يكون مريداً مأخوذاً بسحر أستاذه مثل إمبسون، يرافقه موافقة مطلقة، بل أكثرهم يهاجمه بمرارة من اجل مسائل محددة أو عامة. والناس فريقان في الأنظار إليه فأما الدوائر الشعبية - في أحد الطرفين - فترى فيه امرءاً " صعب المكسر "(يذكر هو في " فلسفة البلاغة " كيف وصله سيل من رسائل الإعجاب من ملتاثين لا شبهة في لوثتهم حول كتابه " معنى المعنى ") وهو في أقصى الطرف الثاني أي في نظر خير نقادنا مصدر كثير من الاستطلاعات العظمى والأخطاء الفذة. ولكن يبدو انه من غير المعقول أن يقول رتشاردز بهذا القدر من الأثمار ثم يكون خاطئاً بالقدر الذي يحسبونه؛ والرجال الذين استغلوا مصطلحاته ورسائله الفنية وهم يعتقدون انهم في الوقت نفسه يستطيعون أن يطرحوا أفكاره عن الأدب جانباً، إنما هم ضحايا مغالطة منطقية، ذلك لان مصطلحاته ووسائله الفنية هي نفسها أفكاره عن الادب، وشجرة التفاح الخاوية لا تستطيع أن تعطي ثمراً صالحاً كهذا الذي اعطته، فيما يبدو.

بقيت بضعة مظاهر من إنتاج رتشاردز في حاجة إلى جلاء. وأبعدها عن مجال التكهن اهتمامه الكبير بالشرق، فقد كان أستاذاً زائراً بجامعة شنج هوا في بكين، بالصين خلال سنتي 1929، 1930 يدرس الإنجليزية الأساسية ويدرس الفكر الصيني، ويعمل في إنجاز كتابه عن منشيوس

ص: 174

ثم كان في بكين مرة أخرى عام 1937. وفيما بين هذه التواريخ كان مسؤولا، فيما يبدو، عن إغراء إمبسون بالتعليم في الشرق. وقد اهتم رتشاردز كثيراً بالفكر الصيني، وبخاصة فلسفة كونفوشيوس، منذ البدء. ويسجل اليوت في " فائدة الشعر وفائدة النقد " ان كونفوشيوس نجح في الجمع بين زملاء غير متجانسين ويقول:

مما يستحق أن انوه به عابراً أن المستر رتشاردز يشارك في اهتمامه بالفلسفة الصينية كلا من عزرا بوند والمرحوم أيرفنج بايت. هذا وان البحث في محط اهتمام مشترك بين ثلاثة مفكرين، يبدون غير متقاربين، أمر يستحق الجهد فيما اعتقد. وهذا مظهر يشير، على الأقل، إلى محاولة انتزاع النفس من الموروث المسيحي، ويبدو لي أن بين أفكار هؤلاء الرجال الثلاثة تشابها طريفاً.

وأول كتاب من كتب رتشاردز " أسس علم الجمال " يفتتح ويختتم باقتباسات من " تشنج يونج " أي مبدأ التوازن والانسجام، وهذه الاقتباسات هي في الحقيقة عظم نظريات المؤلف ومحور الكتاب. واقتبس رتشاردز في كتبه التالية من كونفوشيوس ومنشيوس وتشوانج تزو وغيرهم بانتظام، وعالج في كتابه " آراء منشيوس في العقل " - بطبيعة الحال - الفكر الصيني على نطاق واسع وأرفق بالكتاب ملحقاً من أربع وأربعين صفحة مكتوبة بالحروف الأصلية. لكن إلى أي مدى يبدو لديه الفكر الصيني هاماً؟ يمكن أن نتصور ذلك من إحدى رسالاته إلى مجلة " بارتزان "، وهي في مقدار صفحة ونصف صفحة وقد صدرها بعبارة مقتبسة من تشوانج تزو ولعلها الرسالة الوحيدة التي نشرتها مجلة أميركية مصدرة على هذا النحو.

وقد يلحظ المرء عابراً، دون أن يغوص متعمقاً الأسباب في تعلق

ص: 175

رتشاردز بالفكر الصيني، أن اعتدال الفكر الصيني واتزانه قد يكونان سبباً وجيهاً في اجتذاب مفكر وقف جهده على التوفيق بين أرسطوطاليس وأفلاطون، وبنثام وكولردج، والمادية والمثالية، والواقعية والظاهرية، والوضعية واللاوضعية، والطبيعية وما وراء الطبيعية (وهو نفسه قد أقر مرة أثر مرة انه يقوم بهذا العمل) .

أن هذا الإخلاص للتوفيق بين المتناقضات الجدلية وللمبدأ المبين في " النقد التطبيقي " حيث تنبثق الحقيقة من بين الأخطاء المتعارضة هو الذي صنع طريقة رتشاردز المتميزة، تلك الطريقة التي يسميها أحياناً كثيرة باسم التعريف المتعدد، والترجمة المتعددة، والتفسير المتعدد (ونسميها نحن " المعنى المكثر ") . وكل كتاب من كتبه يمثل " مائدة) فكرية تجلس إليها كثير من الآراء المتعارضة. فأما " أسس الجمال " فيرتكز على فهرسة مصنفة مفسرة لكل تعريف قيم من تعريفات " الجمال ". وأما " معنى المعنى " فيعيد في أساسه هذا الشكل المفهرس من التصنيف ويقوم بنفس المهمة حول كلمة " معنى " كما يوجد كل مصطلح ضروري عن طريق التعريف المتعدد، في ترجمة من الإنجليزية إلى الإنجليزية. ويعتمد " مبادئ النقد الأدبي " بقوة على جمع تعريفات الآخرين للمسائل التي يبحثها رتشاردز، ومنها يستنبط تعريفه، فثلما فعل في تعريفه المشهور " للقصيدة ". ويورد " آراء منشيوس في العقل " تفسيرات متعددة لعبارات مستمدة من منشيوس حتى هربرت ريد، ويجمع القرارات المتعددة لمصطلحات مثل " جمال " و " معرفة " و " صدق " و " نظام "، ويقوم " رأي كولردج في الخيال " بأداء الشيء نفسه في كلمة " خيال ".

وكل كتبه، بما في ذلك مؤلفاته في الإنجليزية الأساسية، ترتكز على التمييزات المتعددة أو التعريفات للكلمات الرئيسية بالإنجليزية الأساسية، فمثلا ليس " التفسير في التعليم " مشبهاً " للنقد التطبيقي " من حيث انه " مائدة "

ص: 176

للمسودات فحسب، بل أن رتشاردز نفسه يملؤه بالترجمات المتعددة لجمل تبدو بسيطة. وقد يلحظ المرء هذه الظاهرة نفسها في شكل أوضح وهو غرام رتشاردز في استعمال المقتبسات التصديرية (هذا المظهر مبالغ فيه بعض الشيء في الرسالة التي كتبها إلى مجلة بارتزان) فكتاب " معنى المعنى " يبتدئ بإحدى عشرة اقتباسه تصديرية على الصفحة المواجهة للصفحة الأولى. وكل فصل يفتتح باقتباستين أخريين أو بثلاث. ويكاد كل فصل في كل كتاب ألفه يكون مفتتحاً باقتباسه جديدة أو اثنتين أو ثلاث وينتج عن هذا كله أن يحوي الكتاب من كتبه مجموعة مختارة من أفكار هذا أو ذاك. وإذا أدرك المرء أن هذا، على وجه الدقة، هو ما عمله أوغدن بانتظام من اجل الفكر الحديث - على الأقل - في السيكولوجيا التركيبية وفي " المكتبة الأممية للسيكولوجيا والفلسفة والمنهج العلمي " وفي سلسلة " تاريخ الحضارة " وفي مجلة " نفس " وفي النشرات النفسية المبسطة Psyche Miniatures وفي مكتبة الإنجليزية الأساسية وفي غير هذه كلها - إذا أدرك المرء ذلك كله أحس بمعنى توحيد الجهود بين الرجلين وأثره في الإكثار من المقتبسات التي تتسرب من خلال " المنفذ الضيق " - نسبياً - في الإنجليزية الأساسية. لقد كان دستور كل من رتشاردز وأوغدن، دائماً هو: من صراع الأفكار المتضاربة تنبثق الحقيقة. وهذا الدستور مقنع أكثر من أن يقال: من صراع الأفكار المتضاربة تنبثق الحقيقة إذا كانت تترجم بسهولة في 850 كلمة عظيمة.

وهذا يقودنا إلى مشكلة انشغاله بالإنجليزية الأساسية، وهو ناقد أدبي. ولنقل دون تذرع باللطف: يبدو انه ليس ثمة من وجه للتوفيق بين الاثنين، فإذا استمر يعمل بالإنجليزية الأساسية طرح النقد جانباً، وتنازل عن مكانته، مكانة خير نقادنا الأحياء. ويبدو أن مبدأ الإنجليزية الأساسية في النقد، كما لحظنا في الفصل السبق من إمبسون، سطحي

ص: 177

في خير أحواله؛ وهو خداع في شر أحواله، وهو حتى في يدي رتشاردز وإمبسون عقيم لم ينجب استبصارات نقدية ذات قيمة خاصة. وقد أقر إمبسون - متكرهاً - أن الشعر لا يمكن أن يكتب بالإنجليزية الأساسية لأنه بحاجة إلى أفعال مركبة، وبالمثل يمكننا أن نقول أن النقد بحاجة أيضاً إلى أفعال مركبة. الفن " عمل " جدلي ديالكتيكي كما عرف كل امرئ منذ أرسطوطاليس حتى رتشاردز، والنقد أيضاً " عمل " جدلي ديالكتيكي كما عرف كل امرئ منذ أرسطوطاليس حتى رتشاردز، حتى أن رتشاردز بخاصة قد كرس كل مؤلفاته لتأثيل هذه الحقيقة. و " الأعمال " أفعال وتحتاج أفعالا لتصفها وتخبر عنها، أما الإنجليزية الأساسية من الناحية الأخرى فإنها لغة الأسماء، لغة " الحالات " أو " المواقف " تحمل فيها الأسماء كل المعاني، ويحاول المعبر بها أن يقتر في استعمال الأفعال ما أمكنه (نستطيع أن نرى الآن أن بذور هذا الصراع كانت موجودة منذ ان صدر " أسس علم الجمال " وبعد أن عرف أوغدن ورتشاردز الجمال في مصطلح التجربة كله بأنه توازن عضوي " للأعمال " الضمنية انتهيا إلى انه يؤدي إلى " حال " من التوازن العضوي) ولما تطور هذا الميل الجديد في مرحلة الإنجليزية الأساسية كان مصحوباً بانتقالة من أرسطوطاليس إلى إفلاطون، من العمل الواقعي إلى الحال المثالية ومن ثم أيضاً انتقلا من الأخذ بتقييم أرسطوطاليس للشعر إلى تقييم أفلاطون. هل أدرك رتشاردز أي شيء من هذا، من المستحيل لينا أن نعرف مدى ذلك؛ نعم انه خطا خطوة ملموسة واحدة على الأقل لإنهاء هذا الصراع، وتلك الخطوة هي أنه قضى حقبة من الزمن تخلى فيها عن كتابة أي نقد أدبي، ولم ينحرف عن هذه الخطة إلا مرتين صغيرتين.

وتبقى لرتشاردز مهنة التعليم وكانت من قبل غلافاً في إنتاجه فأصبحت

ص: 178

لباً. كان " خلاصنا " من قبل في يد الشعر، فاصبح اليوم في عهدة " التعليم "" اعظم الجهود الإنسانية ". كان " معنى المعنى " يصوب إلى مهنة التعليم نظرة قاصمة، مهيئاً مادة تجعل افراد هذه المهنة " يفكرون " (كان بمعنى من المعاني نكتة " عملية " طالما أحتبسها الأستاذ في صدره حتى طبقها على تلامذته) أما " التفسير في التعليم " فانه إسهام في " مكتبة أصول التدريس " وهناك نوع من الكتابة غير موجودة في تلك المكتبة "؛ يقول رتشاردز:

أنه هو ذلك الوصف الذي قد يتناول بصراحة ونزاهة طرق الأساتذة في تصحيح إنشاء طلبتهم ومناقشتهم فيه، ويفصل في التفسير الذي يقدمانه حول تلك التصحيحات؛ ولو انك قارنت المجلات التربوية الفنية بالمجلات التي تتحدث عن طب الأسنان، في هذه الناحية، لوجدت الأولى هزيلة رديئة. ذلك لأنها تزخر بالتفسيرات المكرورة للمبادئ، ولكن أين نستطيع ان نجد تاريخ القضية الذي يفصل العلاج الموصوف لفقرة مضطربة؟ ان طبيب الإنسان قادر على أن يدل زملاءه كيف يعالج سناً متعفنة، أما المدرس فانه فيما يبدو لا يرضى أن يعترف في إسهاب، بكيفية نقده لمقال رديء. ذلك لأنه إن فعل ذلك، أثار من حوله تعليقات قد تكون مربكة، ولكن الرجل المؤمن بمبدأه لا يجفل من ذلك. والمعلومات التي قد تنتج من تنظيم دراسة الاضطرابات الهامة وسوء الفهم - بحيث تصبح مظاهر منظمة في الأدب المحترف، كما ينظم وصف الإجراءات في المجلات المتصلة بطب الأسنان، - أقول أن تلك المعلومات قد تحدث ثورة في التطبيق. وإذا تم هذا، صح لنا حينئذ ان نفيد من أخطاء بعضنا البعض، مثلما كان

ص: 179

أطباء الأسنان - وما زالوا - يفيدون.

حقاً عن هذا نوع من الانحدار نزل فيه رتشاردز من ناقد جرئ يريد " أن يبعث في الشعر إنعاشاً عاماً " إلى رجل يقارن، الطرق " الهامة " التي تستعمل في تثبيت سن متعفنة. ثم مضى ينزل في سلمه الجديد، بعد ما تغير ميزانه حتماً، فإذا به ينتهي في النهاية إلى رجل يسهم (1940) في المونوغرافات التربوية عن " القراءة وتطور الطالب " أو ينافس مورتمر أدلر، والتفاهة التي تسمى " مائة كتاب عظيم " و " كيف نقرا كتاباً " How To Read a Book (وقد زينت هذه قراءة كتابه نفسه، مع تحفظ واحد هو انه لم يدلنا " كيف نقرا كتاباً ") فيقدم في الرد على هذه التفاهة، تفاهة جديدة سماها " مائة كلمة عظيمة " و " كيف تقرا صفحة "(وهو يوحي بان " وصفات " عصبة أدلر قد لا تتعمق جذور المشكلة) .

أن رتشاردز ذو نصيب من سعة الإطلاع هائل يكاد لا يساويه فيه احد، فليس هو فحسب ملماً بالأثني عشر ميداناً التي أشرنا إليها قبلا، وجعلها ملكاً له، بل انه يكاد أن يكون قد غزا كل مجال آخر من مجالات المعرفة. ولنمثل على ذلك بنقطة صغرى فنقول أنه ليس كفئاً فحسب ليقتبس من الطبيعيات النظرية بثقة نفسية، ولكنه قادر أيضا على أن يقتبس " المادية والنقد التجريبي " بنفس تلك الثقة. غير إن اتساع معرفته قد تمخض، في الوقت نفسه، عن عجز يحول بينه وبين أن يتمسك بوجهة من وجهات النظر في وقت ما، ذلك لأن نسبية الفكرة التي ترى أن كل وجهة نظر فهي صحيحة نوعاً ما، تستتبع حتماً إن أية وجهة نظر لا يمكن أن تكون تماماً صحيحة.

وقد كان لدى رتشاردز دائماً نوع من التهاون الغريب الولوع نحو الأفكار (وهو هذا المظهر من التهاون الذي قد يحشي هوامش " معنى

ص: 180

المعنى " " بحكايات احتقارية " عن الذوق المشبوه) وهذا بمعناه الواسع عدم تقدير للمسؤولية الاجتماعية لا تلمسه ولا تلطفه المسؤولية الاجتماعية، بل تكريس الجهود التي نراها في تهيئة الثقافة والحكومة العالمية والسلم للعالم، وذلك بوقف حياته كلها على التعليم والإنجليزية الأساسية. فبهذا المعنى الواسع يصبح " الإكسير " الشافي الذي يصور أقصى المسؤولية لا مسؤولا لأنه في الحقيقة يحتقر هذا العالم الكبير المعقد إذ يفترض يمكن أن يعالج " بدواء " واحد.

أما الشعر الذي كان طريق " خلاصنا " فلم يكن ذلك النوع من الإكسير عند رتشاردز، لأنه يتضمن كل تعقيدات العالم ومتناقضاته، وكانت مهمة الناقد، أن يزيد، من خلال الحب والجهد. القدرة العامة على تحقيق التجربة الشعرية في شكلها الكامل لا أن يبسطها أو أن يترجمها ميسراً. وقد ظل رتشاردز حتى في أشد أحواله تعلقاً لالعلم، المثل الأعلى للرجل الذي نجته خصائصه الشخصية من صرامة طريقته نفسها (ظاهرة إنجليزية يمثلها على نحو اقل كل من مود بودكين وكودول) فكانت النتيجة النهائية من كل آلية معنى المعنى "، كما تقدم القول، إعادة الأحوال والظروف " التي يمكن في ظلها إنعاش الشعر " وهدف كتاب " المبادئ " إلى شعر أحسن، وتجربة أحسن، يجعل الشعر " اقدر "، وبتعميق المتعة فيه " في مناسيب كثيرة ". وألح كتاب " العلم والشعر " على " معرفة حارة بالشعر " فتلك هي ما يحتاجه الناقد بالإضافة " إلى قدرته على تحليل سيكولوجي هادئ ". ولما طبعت مجلة فوريوزو (ربيع 1940) رسالة من رتشاردز إلى تلميذه السابق رتشاردز إبرهارت عن قصيدة لإبرهارت عنوانها " تأمل " كانت تلك الرسالة نقداً بانياً فنياً مباشراً، من النوع الذي قد يكتبه شاعر لآخر، وهي مليئة بمعرفة " حارة " في الشعر واهتمام بالغ به. أما الانطباع الذي قد تتركه محاضرة

ص: 181

برنستون " تفاعل الكلمات " في نفس القارئ (وهي آخر نقد نصي لرتشاردز يتناول قصيدة، فيما أعلن) فهو إلى أي درجة كانت " الذكرى السنوية الأولى " للشاعر دن عجيبة مدهشة بالغة القيمة في نفس رتشاردز.

أن الذين نقدوا رتشاردز بحدة (إلا القليل النادر منهم) قد كانوا ينهون نقدهم دائماً بتقديرهم بكفاءاته الشخصية ودقة إحساسه بالشعر. فكتب بلاكمور يقول: " ناقد محبوب لا ينافسه أحد في حبه للشعر ومعرفته به ". ويقول تيت: " أما قواه العقلية الكبرى وعلمه واحتفاله بالشعر - وهو احتفال معوق بعض الشيء، وأن كان متميزاً اليوم مثلما كان قبل خمسة عشر عاماً - إنها كلها خصائص من النزاهة الفكرية التي قلما تقع عليها في أي عصر ". وينتهي هربرت مللر إلى هذا القول: " كانت النزعة الكبرى في تفكيره أن يقيم بين الفن والرغبات الكبرى الأخرى علاقة حية، ويحقق بذلك حرية أكثر وكمالا أزيد في الحياة ". أما آرثر ميزنر فانه يقول عنه في سياق هجومه الحاد (المجلة الجنوبية، خريف 1939) : " لقد حاول المستر رتشاردز، كأي امرئ في عصرنا يبذل من الجهد ما وسعه، أن يثير نحو الشعر رغبة واضحة نبيلة ". وينتهي إلى قوله: " أن المستر رتشاردز في خير أحواله عزيز القرين ". ومن ثم ترى ان هناك إطراء عاماً للرجل نفسه، مثلما وجدنا استفادة عامة من نقده وهجوماً عاماً على أفكاره. ومن المجمع عليه أن شخصيته وذكاءه وإحساسه وظرفه، أمور قد خلصت نقده من أي خطر واجهه، وكل ما نرجوه أن تنجيه الآن من آخر الأخطار وأشدها ضرراً، اعني التضحية بالنقد من اجل " الإكسير " الذي يخلص العالم، وإذا عجزت تلك الخصائص، وإذا لم يعد رتشاردز إلى نقد الأدب، فما يزال لدينا في كتبه الأولى إنتاج يضاهي اجمل ما أنتجه عصرنا، وإنتاج آخر يخطف البصر، فائضاً عنه. وهذان الاثنان ليسا في خطر.

ص: 182