المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الحادي عشر - النقد الأدبي ومدارسه الحديثة - جـ ٢

[ستانلي هايمن]

الفصل: ‌الفصل الحادي عشر

‌الفصل الحادي عشر

كنث بيرك

والنقد المتصل بالعمل الرمزي

1

- كان كنث بيرك يصر أحياناً على أن الكتاب جملة واحدة امتدت واستطالت، فان صح هذا كانت الطريقة النقدية تهيئة للمادة التي تتناول تلك الجملة. وفي الحق أن لدى بيرك عدداً من الجمل أي لديه عدد من الطرق النقدية في كل كتاب من كتبه ولكنا لو اخترنا جملة واحدة منها نحدد بها طريقته لكانت هي قولة: إن الأدب عمل رمزي: كلمتان اثنتان تطور بينهما فكان في البدء يؤكد " الرمز " وكان في أواخر أيامه يؤكد " العمل " وقد استعان بما قيض له من غنى وخصب على أن يستغل كل " الحيل " النقدية، فأما أن نجعله ممثلا لكل مظهر من مظاهر النقد الحديث وأما أن نحده إعتسافاً باتجاه واحد فنتخذه ممثلا للتعبير الرمزي الذي كان خير ميادينه وفيه بز من عداه من النقاد فلم يدرك أحد منهم شأوه. ولقد كتاب ذات يوم مقالا بعنوان " مشكلة القيمة الذاتية " ثم جعله ملحقاً بكتابه " نحو الدوافع " وفيه يقول دون حيطة أو تهيب: " بدأت الحديث عن

ص: 183

ثلاثة ميادين هي: النحو والبلاغة والرمز وأنا أرى إن النقد الحديث ربما لم يستطع ان يقدم شيئاً جديداً حياً لدارس الأدب إلا في الميدان الثالث ". بيد أن هذا القول غير صحيح - وأن استغل معنى الحيوية في عبارته هذه - ويشهد كتابه على عدم صحته، ولكن مهما يكن من شيء فهو يشير إلى الجدة المدهشة التي تبدت في دراساته للعمل الرمزي حتى أن من يقرؤه لأول مرة يحس إحساس من استكشف أرضاً جديدة لم يكن رآها من قبل خلف منزله.

وأول كتاب نقدي أصدره بيرك سنة 1931، عنوانه " مقولة مضادة " Counter Statement وفيه وضع أكثر المبادئ والاتجاهات التي طورها من بعد وسماها " مضادة " لأنها كانت حينئذ (وما تزال) تمثل رأي الأقلية. وهذا الكتاب مجموعة من المقالات: بعضها مما نشره في المجلات ثم أعاد فيه النظر، وهي بعامة تتناول مشكلات أدبية عامة وتشتمل المنهج السياسي المتضمن في مبادئه النقدية، وتدور حول أدباء بأعيانهم وهم فلوبير وباتر ودي غورمونت ومان وجيد. ولا يزال مبدأ " العمل الرمزي " فيها في بدايته إلا أن بيرك دائم التلميح غليه كأن يقول: أن اهتمام جيد بالشذوذ الجنسي جعله من السياسيين الأحرار لأنه درب لديه إحساسه بالمفارقة والتفرد. أما غورمونت فان مجاوزته الحد فيما يكتب غنما نجمت عن عزلته وكونه مصاباً بالجذام. ويقول أيضاً: أن كاتب السيرة يستقطب مشكلاته الذاتية حين يختار أن يكتب عن نابوليون، وهلم جرا. كذلك فان بيرك يلمح إلى بعض الطرق والوسائل التي سيطورها من بعد في دراسة العمل الرمزي ومن أبرز تلك الطريق جمع الصور في قرائنها، كأن يلحظ كيف تعبر كلمة " المستقبل " عند شيكسبير عن نذر الشر - أي توحي بقرائن سيئة - بينا هي توحي بالثقة عند براوننج، وكيف تكون كلمة " العفريت " عند كيتس موحية بالغلبة والسيطرة بينا هي عند

ص: 184

تنيسون مقترنة بالأمان وانعدام الأذى.

غير أن اهتمام الكتاب متوفر على البلاغة، واصطلاحاته متوجهة إلى التفرقة بينها وبين النحو: فهناك التفرقة بين " خطابي " و " واقعي "، وبين " سيكولوجية الشكل " و (سيكولوجية الخبر " وهكذا. ولست تجد في الكتاب حديثاً صريحاً عن " الرمز " بل أن بيرك ليقول ان الفن ليس تجربة وإنما هو شيء مضاف إلى التجربة، وحين يقول ذلك يؤكد مبدأ معارضاً لمبدأ العمل الرمزي، لكنه حين يعود فيهاجم العلية القاتصادية، يعود فيضع نواة المبدأ الثاني هذا - مبدأ العمل الرمزي - فيقول:

" إن الفن أو الأفكار فيه " تعكس " موقفاً ما لأنها - بمعنى من المعاني - تعالج موقفاً ما. فإذا حل امرؤ مشكلة لم يجز لنا ان نقول إن حله لها " مسبب " عن تلك المشكلة. نعم إن المشكلة نفسها قد تحدد طبيعة حله ذاك، ولكنها تستغلق على الحل إلى الأبد إلا إن " أضاف " شيئاً إلى الحل. ومثل ذلك يقال في طرق المشاعر أو طرق النظر التي يستغلها المفكر أو الفنان في معالجة موقف ما. فان كلا منهما يستغل مجموعة من الألفاظ ويكشفان عن رموز يحاولان من خلالها الإحاطة بالموقف، ويظهران نحو الموقف نزعات تكيف أنواعاً من العمل، وكل هذه الأمور ليست " مسببة " عن الموقف الذي يضطلعان بمعالجته ".

ماذا هنا في هذه العبارة سوى الإيمان بان الآثار الفنية " خطط عسكرية " للإحاطة بالمواقف المختلفة - أي أنها عمل رمزي.

ولهذا الكتاب الذي نتحدث عنه أهمية أخرى سوى إشادته بدور البلاغة في الفن وتلميحه إلى الرمز، وتلك هي انه يدافع عن الشعر ضد من ينتقصونه على نحو لم يضطلع به سدني وشللي لان خصومهما المتنقصين للشعر كانوا اقل حذاقة ودراية. عشر صفحات كاملات يدبجها بيرك ليميز أخلاقياً بين توماس ومان وأندريه جيد ثم ينتهي من ذلك إلى

ص: 185

تحكيم الحد الفاصل بينهما استهانة بقيمته. ويسود صفحات أخرى يظهر فيها من خلال النغمة الساخرة الغايات التي يراها مرامي للحياة الفاضلة.

ذلك هو الكتاب الأول. أما الكتاب الثاني فعنوانه الرئيسي هو " الثبات والتغير " وعنوانه الفرعي: " تشريح للغايات ". وقد ظهر عام 1935، وهو أقل كتبه حظاً من الصبغة الأدبية. ومن العسير أن ننسبه إلى فرع من فروع الأدب والعلم: أتراه سيكولوجيا اجتماعية او تاريخياً اجتماعياً أو فلسفة أو اتجاهاً أخلاقياً أو نزعة دنيوية أو ماذا؟ فهو يدور حول " الغايات " أو " الدوافع " المستكنة خلف " النزعات " أو " الخطط ". وهو مؤلف من أقسام ثلاثة: عنوان القسم الأول منها " في التفسير " ويشمل نقداً لمجالات من الحياة لا من الفن، وعنوان الثاني " منظورات من خلال التباين "، وهو كشف عن الطبيعة المجازية للنزعات والخطط وعن مراتب المعاني. والثالث هو " أسس التبسيط " وهو منهج نقدي وضعه بيرك ليوضح الفوضى التي تعرض لها في القسمين السابقين، ويضع لها حداً. فهو إذن كتاب عن المجتمع والعلائق الاجتماعية ولكن محوره " الإنسان الفنان " ولذلك فهو يعالج المشكلات الاجتماعية بمصطلح نقدي شعري فكان الجملة التي أبتدأ بها حتى امتدت واستطالت هي " كل الأحياء نقاد " وكأن القسم الأخير منه يعود فيقول:" كل الناس شعراء ". وفي القسم الثاني منه تعرض بيرك لكل ما يريد أن يقوله عن العمل الرمزي فنبه إلى أن قطع شجرة سامقة - وهو موضوع من احب الموضوعات إلى نفسه - قد يكون تعبيراً رمزياً عن قتل الأب. وان نوبات الدوار الحادة التي كانت تهاجم دارون - مثلها مثل عمى جويس - قد تكون تعبيراً رمزياً عن العذاب النفسي على ما في كتابه من " زندقة " وأن عمالا مثل تسلق الجبال ومصارعة الثيران وبناء الإمبراطوريات كلها تحتوي عناصر رمزية أساسية، وأن مذهب مكدوغل النفسي القائم على:

ص: 186

التكامل - والانفصام إذا ما قسته إلى طبيعة تكوين الإمبراطورية البريطانية بدا لك تمثيلا لها، ومن ثم فأنه مذهب ناجع في علاج المرضى من البريطانيين. وعلى الرغم من هذه التفسيرات الرمزية في الكتاب تجد أن بيرك لم يفارق بعد القول بان الآثار الفنية " خطط عسكرية " بل أن الكتاب لينحو إلى أن يستعمل لفظة خطة بمعنى " حيلة ".

غير أن أهم مبدأ يدور عليه هذا الكتاب هو مبدأ " المنظورات من خلال التباين " وتفسير هذا ان ترى شيئاً ما من خلال شيء آخر ليس هو الأول، وهذا هو المجاز - أو هذه هي العلاقة المجازية - يقول بيرك:

ما دامت وثائق العلوم تتراكم على مر الزمن أليس من حقنا ان نرى كل آثار البحث العلمي بل كل المذاهب العلمية ترديداً مثابراً لمجاز خصب غني - مهما تتعدد تشعباته -. ألم نعتبر حيواناً وثالثة لبنة سياسية أو اقتصادية ثم قلنا انه آلة، وهكذا اتخذنا مثل هذا المجاز بل اتخذنا مئات المجازات رمزاً لصف لا ينتهي من المعلومات والتعميمات.

ويقول بيرك انه لحظ نقل هذه العلاقات المجازية أولا عند نيتشه ثم عند تلميذه اشببنجلر إذ وجدهما يحوران مصطلحاً من قرينته الطبيعية إلى قرينة أخرى، فيتضح مفهومه ولكنه يكون مع ذلك تحويراً جريئاً، كالحديث عما يسمى " التقشف والتبرر العربي " أو ما يسميه اليوت " الروح الرياضية المنحلة " أو ما يسميه فبلن " العجز المدرب ". ويمط بيرك من هذا المصطلح في كتابه أثناء التطبيق حتى ليشمل لديه مبادئ مثل " الولادة الجديدة " وهي العمل الرمزي الأكبر في كتبه الأخيرة، فيقول:

" حين نقيم مجموعة من المعاني الجديدة نرى في الفن نوعاً آخر من

ص: 187

التقاعس والتراجع، ذلك أن الفنان يعود فجأة فيراجع ذكريات شبابه لان هذه الذكريات تجمع في ذاتها عنصري الألفة والغرابة، وربما كانت لحظات هذه الولادة موجودة عند كل إنسان، فهي زاوية جديدة من الرؤى ينجلي لديه فيها ما كان منسياً ويصبح مفيداً ملائماً ومن ثم يعود فيحيا في ذاكرته. ومن ثم ارى أن الولادة الجديدة والنظر من خلال التباين أمران مترادفان لأنهما يمثلان عملية من التحول أو الانبعاث ".

وفي كتاب " الثبات والتغير " أيضاً قسط واف من البحث الأدبي العام أما الإشارات الأدبية الخاصة فإنها تكاد تكون عارضة، لا ترد إلا للتمثيل أو المقايسة، ولا يدور حولها بحث مستفيض. فمثلا يشير بيرك إشارة عارضة إلى رمز الجبل عند نيتشه في " الجبل السحري "، ويلمع إلماعاً إلى بعض ما يستخدمه شيكسبير من وسائل أسلوبية، وإلى أن همنغواي يعمد عمداً إلى وصف العرف بأسلوب جين أوستن الرقيق المرهف ويشير أيضاً إلى عدم جدوى التعاويذ والرقى التي يطلقها كل من سويفت ونيتشه ليطردا " العفاريت " التي تسيطر على نفسيهما، ويلمح إلى موضوع " الهوة الفاغرة " الذي يتردد عند كل من اليوت وملتن وهارت كرين وينبه إلى سعي لورنس لإقامة " البناء الكوني الأخلاقي ". ولا يقتبس بيرك شيئاً من نثر أو شعر اللهم إلا اقتباساً من قصة عنوانها " الأصحاب " من تأليف أدوين سيفر ومن عجب انه يقف عند هذه القصة الاجتماعية ويناقشها في شيء من الإسهاب.

وحسبنا هذا التعريف بالكتاب الثاني. أما الكتاب الثالث فعنوانه " نزعات نحو التاريخ " Attitudes Towards History - وقد نشر عام 1937 وهو احفل كتبه بمصطلح العمل الرمزي وسنتحدث عنه فيما يلي بشيء من الإسهاب. ويليه من حيث الزمن كتاب رابع عنوانه " فلسفة الشكل الأدبي " The Philosophy of Literary Form وقد ظهر في عام

ص: 188

1941 -

وعنوانه الفرعي " دراسات في العمل الرمزي " وقد نعده ملحقاً للكتاب الثالث يوضح مبادئه النظرية ويضعها في مجال التطبيق العملي. وإذا استثنينا منه المقال الذي يحمل عنوان الكتاب نفسه، فانه لا يعدو ان يكون مجموعة من المقالات والمراجعات التي نشرها صاحبها في حقبة سابقة. أما الوشيجة التي تربط بين تلك المقالات فهي دورانها جميعاً " حول العمل اللغوي أو الرمزي أو الأدبي ومحاولتها إيجاد طرق أدق لتحديد مثل ذلك العمل " وبعبارة أعم " تحديد العمل الأدبي المفرد بعون من نظرية تفسر العمل الأدبي العام ". ولا تزال همة بيرك معلقة بما يسميه " الخطط) أو " النزعات ". إلا أن هناك تطوراً في طبيعة المجاز الذي يستعمله فقد كان يقول في الكتاب الأول أن " الإنسان خطابي " وقال في الثاني: (الإنسان فنان " وفي الثالث " الإنسان ذو رموز " في الرابع: " الإنسان محارب ". وأول صفحة في كتابه الرابع هذا تحاول أن تفرق بين ما يسمى " خططاً " وما يسمى " مواقف " وقد جاء فيها:

" أريد بادئ ذي بدء لا فرق بين " الخطط " و " المواقف " لأني أرى الشعر (والشعر هنا كل اتجاه تخيلي أو نقدي) اتخاذا لمختلف الخطط من اجل الإطاحة بشتى المواقف. وتلك الخطط هي التي تعين قيمة المواقف وتسمي بناءها وتعدد عناصرها البارزة. وهي حين تسميها أو تعددها تنطوي على نزعة ما نحوها.

وهذه النظرة لا تلمنا بأي وجه إلى الذاتية الشخصية أو التاريخية، ذلك لأن المواقف أمور واقعية والخطط التي تعالجها تتضمن محتوى عاماً، ومهما تتداخل المواقف بين فرد وفرد وبين حقبة تاريخية وأخرى فذلك لا يؤثر على طبيعة الخطط نفسها لأنها تتمتع بعمومية تجعلها صالحة لكل فرد وكل زمان ".

ص: 189

وفي ذلك الكتاب مقال عنوانه " الأدب حين يكون عدة للعيش "، وهو يتضمن محاولة لتحديد النقد الاجتماعي - أي النقد المعتمد على علم الاجتماع - وفيه يقترح بيرك أن يصنف الآثار الفنية حسب مصطلح الخطط الأساسية التي يجدها في الأمثال: فهي " خطط لاختيار الأعداء والأصدقاء، والتجنب العين - عين الحسود - وللتطهر والتكفير وللتقديس وللتبصر والانتقام وللوعظ والإنذار ولهذا أو ذاك من التعليمات والأوامر ".

وهذه الخطط وغيرها هي الأعمال الرمزية الأساسية في الفن، ويعرف بيرك العمل الرمزي بأنه " رقص النزعات والميول " ويحاول أن يميز بعناية بين هذا العمل الرمزي وما هو عمل " واقعي "، فيقول:

ثمة فرق - فرق جوهري - بين بناء بيت وكتابة قصيدة عن بناء بيت، ثمة فرق بين كتابة قصيدة عن إنجاب الأطفال، وإنجاب الأطفال، فهناك أعمال عملية واقعية وهناك أعمال رمزية، (وفي هذين الطرفين المتباعدين يتضح الفرق بينها دون عناء، ولكنا يجب ألا نغفل عن هذا الفرق في المنطقة المتوسطة حيث تتخذ بعض الأمور العملية لنفسها عنصراً رمزياً كأن يشتري شخص شيئاً لا ليستعمله فحسب بل ليكون ما اشتراه شاهداً على انتسابه إلى طبقة اجتماعية معينة) .

ويصنف بيرك العمل الرمزي في ثلاث مراتب: المرتبة الأولى هي الجسدية أو البيولوجية وتشمل نطاقاً واسعاً يمتد من الأرق إلى التجربة الحسية الكاملة التي يمارسها المرء نحو قصيدة ما كالإحساس بالظمأ عند قراءة قصيدة " الملاح القديم "؛ والمرتبة الثانية هي الشخصية أو العائلية وتتضمن العلاقات بالأبوين وغيرهما من الأشخاص الأقرباء؛ والمرتبة الثالثة هي مرتبة المجرد كالانضواء القائم حول رمز الولادة الجديدة. غير إن مصطلح " رمز " هذا موشح بالغموض ولذلك يقترح بيرك أن يضع

ص: 190

بدله لفظة " تعدادي " أو إحصائي بمعنى إن النظرة الإحصائية لعدد من الصور أو لعدد من الآثار تكشف عما فيها من قيمة رمزية بينما يكون الأثر الواحد أو الصورة الواحدة شيئاً " عملياً " لا رمزياً. فإذا درسنا مجموعة من الصور المتداعية أو المتكاتفة، تبينا من ورائها مبنى الدوافع وهي فعالة فيها. وفي آخر هذا المقال نفسه يعدد بيرك الوسائل السريعة التي تعين على دراسة الخطط الشعرية التي يستعملها في كتابه كله. وتشمل هذه الوسائل فيما تشمل " أفراد الخطة الدرامية " والحصول على " المعادلات " المكملة لها في الأثر الفني؛ والتنبه " للنقاط الحساسة " أو " اللحظات الفاصلة " وبخاصة البدء والختام والحل والتعسر وضعف الدوافع والقوة في التنظيم الدرامي؛ وإدراك صور " المخاض " أو الولادة الجديدة، وأخيراً إيجاد " الميزة الفارقة " التي تسم كل عمل رمزي في الأدب بسماته المتفردة.

ويستحدث بيرك في كتابه " فلسفة الشكل الأدبي " مصطلحات جديدة أهمها ما يدور حول مبدأ " القوة " حيث يربط بين كل أنواع القوى في مختلف الميادين حتى ليستطيع كل مصطلح منها أن يقدم للآخر خدمة رمزية. ومن أهمها أيضاً تسمية العناصر الثلاثة في الفن، وهذه العناصر هي: الحلم الذي يمثل العوامل الرمزية؛ والصلاة التي تمثل العوامل الخطابية؛ والمخطط أو عوامل التقويم الواقعي (وربما كان هذا العنصر موافقاً لما يسميه العنصر النحوي) . ومن خلال المصطلح الذي يدور حول " القدوة " استطاع بيرك أن يتنقل من الميدان الأدبي إلى الميدان غير الأدبي مستغلا العمل الرمزي حتى إن المرء - حسب تعبيره ليستطيع: " أن يتزوج أو يغتصب بفن السياسة، ويعلن الحرب بالجدال، ويتفوق عقلياً على غيره إذا استطاع الحصول على مميزات اجتماعية، ويحل ويربط بالمعرفة، ويبرز عضلاته بدخله الاقتصادي؟ الخ "، أما في تلوث الحلم والصلاة والمصور

ص: 191

فإنه يستطيع أن يقيم التوازن بين الرمزي والخطابي والنحوي حين يعالج أي أثر فني.

ثم يغفل بيرك كيف يكون الأثر الفني مؤثراً في القارئ أو كيف يكون معبراً عن منشئه ويكتفي بالنظر إليه في ذاته، في ماهيته، في كيفية تكونه، أي يتجه إلى استغلال وسائل التحليل النحوي دون ما عداها. ومن أمثلة هذا النوع دراسة له عنوانها " في موسيقية الشعر " وفيها كشف حاذق للآثار الصوتية في الشعر، كشف لا يتنبه له الناس ولا يلحظونه ويتضمن أشياء مثل الإشباع والتصغير والتفريغ النوعي وما أشبه. وأكمل قطعة يوردها بيرك مثلا على تحليل كتاب مفرد هي القطعة التي حلل فيها كتابه " كفاحي " Mein Kampf لهتلر وبنى تحليله هذا على ثالوث: المخطط والحلم والصلاة، وقد أبان هنالك بمصطلح نحوي خالص إلى أي حد كان ذلك الكتاب يعكس وقائع الحال في ألمانية وفي الموقف الدولي، ووضع بمصطلح رمزي إلى أي حد كان هذا الكتاب هو قصيدة هتلر الشريرة الكبرى، ووضح بمصطلح بلاغي إلى أي مدى وبأي أسلوب خلب هذا الكتاب الشعب الألماني حتى إنه تحول بالعمل الرمزي الذي كان يخيل لهتلر إنه سيسيطر على العالم إلى شيء كاد أن يكون واقعياً. ويكشف بيرك عن العلاقات بين هذه المصطلحات وبين كيف إن العامل الرمزي عند هتلر - مثل اتخاذه اليهود كبش الفداء - دخل في صميم هذا الأثر ومن ثم أحدث عند القارئ عملاً رمزياً وإنه خلبه حتى استطاع أن " يتحول " به إلى هذا المعتقد. ويمضي بيرك الفاهم لطبيعة هتلر في هذا حتى يعود المشكلة من صعيدها الرمزي إلى صعيدها الواقعي.

وهذا الذي تقدم مثل من تطبيقه الذي يتمرس بأدب غير صالح، غير إن أكثر دراساته الأخرى تعالج أدباً خالصاً، وليست دراساته الأدبية هنا عارضة وإنما هي من صميم غاياته. فهو يحلل أدب كولردج

ص: 192

مسهباً، بوجه خاص، في تحليل قصيدة " الملاح القديم " متخذاً منها شعيرة درامية ذات أهمية كبرى، ويحلل " ربات الغضب " لأسخيلوس بتفصيل ليصور نوع المعنى الشعري الذي يناقض به المعنى " السمانتي "؛ وهو يدرس بلاغة أياجو متمثلا فيها صورة كاريكاتورية للفن الروائي مثلما يتمثل في بلاغة أنطونيو انتصاراً بارعا لهذا الفن. ثم يعالج قصتين معاصرتين إحداهما " الراكب المدلج " Night Rider من تأليف روبرت بن ورن والثانية " عناقيد الغضب " The Grapes of Wrath لجون شتاينبك ليمثل بهما على الوسائل التحليلية السريعة التي يسميها هو " البصمات "؛ ثم هو يحلل الأدباء ابتداء من هوميرس ولكريتس حتى فلوبير ولويس كارول في سبيل الكشف عن مشكلات نقدية أخرى ثم يجعل للكاتب ملحقاً يضمنه مراجعات ليوضح بعض تطبيقه النقدي في مجال القصص والشعر والرواية، بل والرسوم، في هذا العصر.

وآخر كتبه هو " نحو الدوافع) ، صدر عام 1945 وهو أول ثلاثة كتب تتناول العلاقات الإنسانية ويسمى الثاني منها " بلاغة الدوافع " كما يسمى الثالث " رمزية الدوافع " وغاية هذه المجموعة هي الكشف الشامل عن الدوافع الإنسانية وعن أشكال الفكر والتعبير التي تقوم من حول تلك الدوافع وعن غاياتها القصوى التي تتلخص في تخليص العالم من الحرب أي الوصول من طريق الفهم والتفاهم إلى إقصاء كل أنواع الصراع. ومفتاح هذه الدراسة هو " الدراما " أو " النزعة الدرامية "، والمصطلح الذي يستعمله في التحليل هو مصطلح الدراما ويشمل الأركان الروائية الخمسة أي: الفصل والمشهد والممثل والمكان والغاية. أما " النحو " الذي يشمل في المقدمة بضع مئات من الكلمات، تزايدت من بعد حتى بلغت مائتي ألف كلمة - أما ذلك النحو فانه وقوف عند العلاقات الداخلية القائمة بين هذه الاصطلاحات الخمسة و " إمكان تحولها وتنقلها، والمدى الذي

ص: 193

تستطيع فيه أن تتبادل فيما بينها أو تتجمع مترابطة "، حسبما تتمثل فيما يقال عن الدوافع الإنسانية وبخاصة في مجالات المبادئ " اللاهوتية والميتافيزيقية والتشريعية ". أما البلاغي الخطابي فيعالج أثر القول في الجمهور ويستمد مادته من المقامات البرلمانية والسياسية ومنافسات المحررين وأساليب البيع والمزايدة وأحداث " المناوشات الاجتماعية "، أما الرمزية فيتناول مظاهر التعبير النفسي ويستمد مادته من " أشكال الفن وأساليبه ".

وليس من أهداف هذا الموضوع بل ليس في طوقي أنا أن اعرض معالجة بيرك لكبريات النظريات الفلسفية التي استحدثها الإنسان، وحسبي أن أقول هنا أن غايته لم تكن استخلاصاً لخير ما في تلك النظرات أو دفاعاً عنها بل كانت تشيخصاً لها أو " وضعاً " لها في مواضعها، ليستمد من كل فلسفة مفتاحها. كتب يقول:" ليست غايتي في هذا العصر أن ألخص الفلسفات القديمة أو أتحدث عنها ولكني أحاول أن أجد مصطلحات تعد مفاتيح لها جميعاً ". وكانت محاولته في أن يضعها جديداً تتطلب منه أن يبحث عن المجاز الذي يفتح أمامه سر كل نوع من أنواع الفلسفة فافتتح كتابه بالمجاز الذي يفضي إلى مسالة الخلق " الله خالق) ، وانتهى إلى الدساتير السياسية (الإنسان مشرع) بينا كان عظم الكتاب يدور حول الدراما باعتبارها مفتاحاً (أي الإنسان ممثل، وهذا خير من المجاز القديم الذي كان يقول فيه: الإنسان محارب) . وباتخاذه الدراما مفتاحاً فلسفياً استطاع بيرك أن يدرس الأحوال الإنسانية من أتفه صورها حتى يبلغ أقصاها في دراما الخلق والتكوين.

ولم يتهيب بيرك اتساع الفكر الفلسفي بل ذهب يستمد مادته التحليلية من جميع المصادر حتى انه لم يتورع ان يستشهد بذكريات من سلوكه الفردي فهو يذكر مثلا كيف قرأ سانتيانا ورأى في المنام انه سائح يلبس الملابس البيض على شاطئ المتوسطة، ولم يستكبر ان ينقل ظنونه والخطرات اللاشعورية التي كانت تعتريه، وأن يقتبس ملاحظ وأسئلة

ص: 194

وأحلاماً مما كان يطالعه به أطفاله ليوضح مشكلات الفلاسفة. وكثيراً ما كان يوضح اللفظة بالنظر في أصلها القديم وجذرها.

وبالرغم من أن كتابه هذا مخصص " لوضع " الفلسفات في مواضعها فانه ضمنه قدراً مدهشاً من الحديث عن الأدب وبدأه وختمه بالحديث عن إبسن، فتناول في أوله مسرحية " عدو الشعب " لإبسن وحلل في آخره " بير غنت ". وفي سياق الكتاب اقتبس أمثلة من شعر بوب ووردزوث، وأدب كودول وهمنجوي ورتشارد رايت، ودرس حوار " الفيدروس " ليصور قيمة الديالكتيك.

وبعد أن صدر كتاب " فلسفة الشكل الأدبي " أنتقده رانسوم وأبدى ارتيابه في أن تكون الطريقة المسرحية صالحة لتناول الشعر الغنائي. وتلقى بيرك هذا التحدي فحلل قصيدة شللي " أغنية إلى الريح الغربية " وقصيدة وردزورث " على جسر وستمنستر " وألحق بالكتاب ثلاث ملاحق ليصور كيف يمكن تطبيق الطريقة المسرحية على الشكل الغنائي فكان الملحق الأول " مشكلة القيمة الذاتية " وفيه حديث عام على استغلال الطريقة المسرحية في تحليل القصائد الغنائية، والملحق الثاني هو " الدوافع والموضوعات في شعر ماريان مور " وقد طبق فيه مبادئ تلك الطريقة على مجموعة معينة من القصائد الغنائية. أما الملحق الثالث فعنوانه العمل الرمزي في قصيدة لكيتس وفيه عرض لتطور العمل في قصيدة عنوانها " قصيدة في زهرية إغريقية " وهي خير تطبيق مسهب لطريقة بيرك ".

وفي كتاب " نحو الدوافع " بعض القراءات البلاغية والرمزية، فمن أمثلة القراءات البلاغية الخطابية قولهم أن المشرعين يختارون خطة التردد - كتردد هاملت - فيبحثون ويبحثون لكي يتهربوا من الوصول إلى أحكام حاسمة. وإن المنصات السياسية قد تحلل خير تحليل على الصعيد الخطابي لأنها لا تعبأ كثيراً بالنحو. أما الإشارات إلى النواحي الرمزية فمنها قوله:

ص: 195

إن نظريات فلسفة القوة قد تستوحى من " مشكلات الفرد نفسه حين يحس بالفحولة ". وإن رواية " قتل في الكاتدرائية " شعيرة من شعائر التطهير؛ وإن قصيدة سهراب ورستم التي نظمها آرنولد تعكس الوضع المألوف فتجعل الابن يموت بسيف أبه (لأسباب لا تخفى موجودة في ابن توماس آرنولد نفسه) . وأن تساؤل هيوم حول مسألة " النسب " وهو يهاجم مبدأ العلية وإن العقم في ما يستعمله بنثام من ألفاظ إنما يدلان على نظريات " عازبين "؛ وإن فلسفة الذرائعية وما شابهها من فلسفات تتضمن عقدة الميل إلى الأم. أما الفلسفات الغائية فتمثل المرأة الشهوية الناضجة. وإن الانتقال من الشعر إلى النثر في كتاب ما قد يمثل الانتقال من الدور الأمومي إلى الدور العائلي وهكذا.

وقد نشر بيرك بعض المقالات ولم يكن يشد فيها عن مقاله في كتبه. وفي المقالات التي كتبها قبل 1941 يعيد بعض ما قاله في أمكنة أخرى. إلى مقالة واحدة عن السريانية. وهنالك مراجعات لم يجمعها وهي تتناول النقاد على اختلاف طبقاتهم ومن أهمها مراجعة دراستين صدرتا عن كولردج 1939 وفيها استغل بيرك قراءاته الرمزية لكي يظهر التفاهة في تينك الدراستين، وقد هاجم شذوذ كل من كافكا وكيركجرد ورأى إنهما يمثلان " مرحلة المراهقة التي تعيش على جلد عميرة " و " الثورة على الأب " وقال إن هذا شيء تافه إذا قارناه بما لدى كولردج من عمل رمزي.

وله مقالات وقطع أخرى نشرت بعد ذلك منها " طبيعة ثقافتنا " وقد نشرنا في ربيع 1941 بمجلة Southern Review ومقالة أخرى 1942 في المجلة نفسها بعنوان " فعالية الدوافع عند ييتس " وفيها تحليل للشعر الغنائي بطريقة درامية. أما أحدث مراجعاته فإنها تدور حول النقد المعاصر فهو يراجع كتب رانسوم وتيت وورن وغيرهم مع بعض الالتفات إلى المؤلفات التاريخية واللغوية والفلسفية.

ص: 196

2 -

قد يتوهم من يسمع عنوان " نزعات نحو التاريخ "(937) أن موضوعه الأساسي هو التاريخ، ولكن الأمر ليس كذلك، بل الأدب هو محور ما فيه، إذ هو دراسة للنزعات الأدبية من حيث هي عمل رمزي أو شعائري. أما كلمة " التاريخ " في العنوان فلا تشير إلا إلى موضع الأدب في المجتمع ولا تدل إلا على تداخل العلاقات في نزعات الأدب نحو " تحول التاريخ " والسياسية والاقتصاد. وتنقسم تلك النزعات في فئتين: نزعات القبول ونزعات الرفض، ومنها ينبثق شيء ثالث يجمع بين خير ما في كليهما، وهذا ما يسميه بيرك:" الهزلي) ، فأما فئة القبول فإنها " سنية المنزع " وتضم كل الفلسفات التي على شاكلة فلسفة وليم جيمس ووتمان وامرسون، والأشكال الأدبية مثل الملحمة والمأساة والمهزلة والشعر الغنائي والأشكال الشعائرية التي يرتكز حول مبدأ " الخوف من الزنا بالمحرمات " والخصاء الرمزي. وأما فئة الرفض فإنها " إلحادية المنزع " وتضم فلسفات مثل فلسفة ميكافللي وماركس ونيتشه، والأشكال الأدبية مثل المرثية والنقد التهكمي والمحاكاة الساخرة والتهجين الساخر والأشكال الشعائرية التي ترتكز حول عقدة " الثورة على الأب ". وأما الفئة التي هي بين بين - أي فئة " الهزلي " فإنها تتضمن تشابك العواطف المتناقضة المتصارعة، وهذه لا تكون خالصة للفئة الأولى ولا تكون خالصة للفئة الثانية. يقول بيرك:

" إن الشكل " الهزلي " ليتجنب كل هذه الصعوبات ويرينا كيف ان كل عمل تزدوج فيه المادة والتجريدية والخيال والمحسوسات المجسدة والتضحية والأثرة، وهو أيضاً يهف إحساسنا حي يصبح بعض هذه العناصر متمدداً متضخماً على حساب بعضها الآخر الذي يذهب منكمشاً متقلصاً. ولا ريب في انه حين يتوازن اثر البيئة يتوازن جانباً هذه العناصر المتضاربة ".

ص: 197

غير إن إطلاق كلمة " الهزلي " على ازدواج ذينك النوعين من النزعات - أو اتحاد القبول والرفض - قد ضلل كثيراً من القراء لان كلمة هزلي تلتبس لديهم بالرواية " الهزلية ". وإنما أوحى إلى بيرك باستعمال هذا المصطلح انه موقف هزلي حقاً حين تجتمع عناصر القبول والرفض في عالم مقسوم إلى فئتين: إحداهما مجموعة مخلوبة بقول: نعم، والأخرى محمومة مخلوبة بقول: لا، وقد كان في مقدور بيرك أن يتنازل عن هذا المصطلح ويتخذ مصطلحاً غيره ولكنه آثره لجرسه، فيما يقول. وأياً كان مصدر هذا المصطلح فانه يمثل القيم التي يؤمن بها بيرك، ويبدو انه لا يشمل فحسب ما هو تهكمي أو إنساني النزعة أو شكي وإنما يشمل أيضاً ما يتمخض عنه مخاض الأمور الدرامية والديالكتيكية.

وتحت هذا الفئات الثلاث من تلك العناصر، مبدأ واحد هو ما يسميه العمل الرمزي وهو العمل الذي يؤديه الإنسان لان له لذة في أدائه على ذلك النحو. وتتركز تلك الأعمال الرمزية في التبريك وتغيير الهوية والولادة الجديدة والتطهير وما أشبه من طقوس سحرية. ويقول بيرك:

" مبدأنا الأساسي هو إصرارنا على أن الرمزية قد تعالج على إنها نوع من التسمية الشعائرية أو تغيير الهوية. أي أن الإنسان بها يكيف نفسه ليتلاءم مع أحداث متلائمة - قائمة فعلا - أو يغير في نفسه ليتكيف مع أحداث جديدة تفرضها عليه الضرورة، دعنا نوضح هذا على نحو آخر فنقول:

أن شعائر التغير أو التطهير تتركز حول ثلاثة أنواع من الصور هي: التطهر بالثلج والنار والتحلل. أما الثلج فيرمز إلى الخصاء والعقم، وأما النار فتوحي بالخوف من " الزنا بالمحرمات " وأما التحلل فيدور حول انبثاق البذرة مرة أخرى من العفونة والسباخ؟ وقد نلحظ أيضاً رمزين للمنظور القائم وهما الجبل والهوة (وقد يختلط هذان أحياناً برموز الجسور

ص: 198

والعبور والترحل والطيران) ويتضمن الجبل عناصر من الزنا بالمحرمات لأنه يرمز أحياناً إلى الأم كما يرمز الثلج على الجبل إلى العنة وإنها عقاب ينزل بمن يقترف ذلك الإثم. وكذلك هو رمز الهوة فإنها تجمع بين الرحم والشرج، والثاني يجمع كل عناصر التطهر عن طريق التحلل والتعفن ".

إذن فعلى هذا ينزع كل عمل فني إلى أن يكون شعيرة موت أو ولادة جديدة مع تغيير في الهوية، وهو تنظيم على هذا النحو أو ذاك بحسب ما يقلبه الفنان أو يرفضه من رموز التسلط. وبهذا الفهم يحلل بيرك ما لا يحصر من الأعمال الأدبية، ومن أكثرها توضيحاً لمبدأه هذا تحليلاته للرموز في أدب توماس مان (وكان مان من احب الأدباء إلى نفسه في كل مراحل حياته) . مثال ذلك انه يرى في " الجبل السحري " شعيرة ولادة جديدة، ويرى هانز كاستروب مهيئاً للعودة إلى المجتمع في النهاية بعد ان قضى سبع سنوات على جبل الأمومة وكان عقابه على ذلك الخصاء الرمزي والموت والولادة الجديدة، إذ قدر له وجود جديد في منظر الثلج - وهذه هي الشعيرة التي عاش فيها مان نفسه وانتحل وجوداً جديداً فاصبح من مشايعي القضية الألمانية في الحرب العالمية الأولى بعد أن كان مسالماً حر الاتجاه. أما " موت في البندقية " و " ماريو والساحر " فإنهما شعيرتان من شعائر الفداء والتطهر لنفس مان الفنان؛ ففي القصة الأولى كان عقاب الأثم الشهواني الذي يمثله آشنباخ هو الموت وفي الثانية قسم مان وجود الفنان شطرين شطر يمثله سيبولا وهو الفنان الردئ، شهوي ومجرم ورمز فاشي وعقابه الموت، وشطر يمثله سارد القصة وهو الفنان الطيب وقد تخلص من الإجرام بسبب موت سيبولا، ولذلك سحره القاص في النهاية مبرأ من العقاب. وأما القصص التي تتناول " يوسف " فإنها ولادة جديدة في الهوة كما إن " الجبل السحري " كان رمز ولادة جديدة على الجبل. وفي هذه القصص انتقل مان إلى جماعية أرحب من

ص: 199

القومية الألمانية السابقة وتطهر من إجرامية الفنان وتخلص منها فاحتقب إجرامية أوسع وهي ازدواج الجنس عند النبي صاحب الفيض والإمداد، ومن هذه النزعة تخلص أيضاً في النهاية.

ويجمل بيرك رأيه في طبيعة الشعائر الأدبية عند الأديب بقوله:

إن تغيير الهوية، وهو العمل الذي يجعل من الأديب شخصاً آخر، ويحفظ له ذاته في الوقت نفسه يمنحه تعقيداً كثيراً في الأحداث، أي يجعله يراها كذلك حتى إنه ليرى " الخبايا التي في الزوايا " ويوشحه بشيء من استكناه الغيب ويمنحه قوة البصيرة، ولا يعنينا هنا أن تكون بصيرته هنا على صواب أو خطأ وإنما الذي يعنينا إنها موجودة هنالك. وهذه البصيرة إما أن تجعله أحكم مما هو أو أشد حمقاً ولكنها في الحالتين تمثل القاعدة التي تنبني عليها فروع عمله وتشعباته ولذلك ترى إن يوسف في قصص مان لم يكن مهيأ النفس للنبوة - أي لارتفاع درجة البصيرة والكهانة عنده - إلا بعد أن ولد من جديد في الهوة.

والولادة الجديدة تعني التكيف للتواؤم مع المجتمع لأنها شعيرة تمكن الشاعر من أن يقبل الضرورات التي خلقتها في طريقه مشكلات العرب والتشاريع. وفي الولادة الجديدة عنصر من التراجع يسبق الانبثاق، وهذا التراجع يشمل معنى عودة الجنين إلى الرحم، و " الثورة الأولى " التي أحدثها الجنين حين أحس أن كهفه أصبح له سجنا ومن ثم فإنك حين تختبر هذه الشعيرة تجد رموزاً مثل " الهوة " ممثلة للعودة إلى الرحم والعودة من الرحم.

وهذا يشمل أيضاً الرهبة والخوف من " الزنا بالمحرمات " لأن الذي كبر في السن يستطيع أن يعود إلى أمه عودة المحب لا عودة طفل لم يخبر بعد النواحي الجنسية؛ وهو أيضاً يشمل الشذوذ الجنسي، رمزياً كان ذلك الشذوذ أو حقيقياً، لأنه يمثل ثورة على " قطبي " العلاقة بين الأب

ص: 200

والأم، ولأن طرح نير الرموز المتعلقة بالتسلط يساوي الذبح الرمزي للأب؛ وكذلك يشمل أيضاً رمزية الخصاء ومشمولات من العنة عقاباً على الأثم الرمزي؛ وقد تشمل العنة أيضاً شيئاً من صور " الخنثوية " لتغير في الهوية أحدثته تلك الشعيرة. والأشكال الأدبية نفسها أعمال رمزية فالتراجيديا شعيرة من شعائر التكفير والفكاهة شعيرة لتخفف من عبء الموقف والهجاء تفريغ لرذائل اللذات على " كبش فداء " ثم التضحية به للتخلص منها. بل إن الأديب ليعبر عن نفسه رمزياً بما يختاره من موضوع فيعبر عن عمق التعاطف في نفسه حين يقتبس من أدباء آخرين ولو كان هو يهاجم، وهو يكتب ما " يسند وجوده ". بل أن أشد المظاهر مسحة عقيلة تتضمن عناصر رمزية كالذي يلحظه بيرك في فلسفة هيوم وبنثام وإنما فلسفة " عازبين " أو قوله إن جهود باستير في التعقيم تتضمن رموزاً من التطهر والخصاء. بل إن أسوأ أي الآثار الأدبية وأتفهها تتضمن مثل تلك العناصر الرمزية فتنبئ عن الحقيقة رغماً عن أنف كاتبيها. ويقول بيرك، كأنما يردد فيما يقوله رأى بليك في ملتن وأن ملتن كان من حزب الشيطان حسبما صوره في الفردوس المفقود - يقول:

قد يعلن الكاتب إنه يساند هذا الرأي أو ذاك فإذا قرأت آثاره وجدته يعلي من شأن العاندين المعادين لذلك الرأي يصورهم بأحسن مما يصور معتنقيه. وهنا تمكن حقيقة موقفه في ذاك الرأي.

ويقول في موضع آخر:

إذا عددنا مجموعات الصور وجمعناها معاً اهتدينا إلى العناصر الهامة المختفية في اللجج الرمزية، وعندئذ استطعنا أن نكشف عن " الموقف الحقيقي " للمؤلف، حيث يفتضح الكذب ولا ينطلي على أحد. فإذا جعل الكاتب شخصياته الفاضلة

ص: 201

بليدة وصور شخصياته الشريرة بقوة فإن فنه قد انحاز إلى جانب الأشرار بالرغم من " موقفه المزور " الذي يعلنه على الناس. وإذا تحدث كاتب عن " المجد " واستخدم في ذلك صور " الدمار " حكمنا إن موضوعه الحق هو " الدمار ".

كيف نهتدي إلى الكشف عن العمل الرمزي في آثار هذا الفنان أو ذاك؟ يقول بيرك:

نهتدي إلى ذلك بطريقتين: الأولى، أن نختبر النظام الداخلي ونرى السياق فيه، وأي تابع لأي متبوع بذلك نكشف عن محتوى الرمز بكشفنا عن الوظيفة التي يؤديها وذلك يكون بالتحليل المجاري كأن نلحظ طبيعة الصور التي يستعملها الأديب؛ والثانية: أن نفسر المضمون الرمزي في أحد الكتب بمقارنته إلى الرموز المشابهة في كتب أخرى.

وأوضح الدلائل الهادية هي مجموعات الصور أو الرموز وبخاصة في التداعي، الذي يقود حتماً من صورة إلى أخرى - وهذا يشبه ما فعلته كارولاين سبيرجن في دراسة شيكسبير وما قام به آرمسترونغ في دراسة في هذا الميدان نفسه - وقد يلج الإنسان إلى ربط الرموز على خط غير مستقيم، وهناك أمور هامة لابد من ممارستها، منها عناوين المؤلف، فقد لحظ بيرك مثلاً أن هويسمان حين انتقل من المذهب الطبيعي إلى الكاثوليكي كانت كل عناوينه أثناء اعتناق المذهب الأول والثاني " أسماء ". أما عناوين كتبه في فترة الانتقال فكانت " حروف جر ". ومن الأمور الهامة أيضاً البدء والختام، وتوقف الاستمرار على نهج واحد كالانتقال من الشعر إلى النثر أو عدم استيفاء المجاز أو عدم استيفاء المادة نفسها بل إن التوريات والعلاقات الصوتية ذات أهمية رمزية [كالذي يجد في كلمة حضرموت إيحاء بمعنى الموت فلا يسافر إليها] . بل يغالي

ص: 202

بيرك في هذا فيرى في ترديد حرف مثل " م " معاني، ويرى في ترديد حرف مثل " ك " معاني أخرى وهكذا سائر الحروف. ثم أن التاريخ نفسه هام في الهداية إلى العمل الرمزي ولذلك يتحدث بيرك عن تنقل شيكسبير من مجموعة صور إلى أخرى ويحاول أن يقرن ذلك إلى نقطة تحول في التاريخ نفسه.

وفي آخر الكتاب ثبت بالمصطلحات التي استعملها بيرك وتفسير لها. وقد عمد عمداً إلى وضعها حيث وضعها لأنه يرى أن الترتيب المعجمي معكوس فلابد لك لكي تدرك معاني الكلمات التي تبدأ بالهمز من إدراك معاني الكلمات التي تبدأ بالحروف المتأخرة، ولذلك فهو لا يعرف مصطلحاته إلا بعد ان يجريها في الاستعمال. ويقول في هذا:

" لقد رأيت في هذا المقام ان أدع للقارئ ان يلتقط ما استطاع التقاطه من معاني المصطلحات، فأجريتها في الاستعمال لتكشف هي بذاتها عما أردته لها. أي إنني أريد لها أن تشف وتوحي وان تزداد دلالة على المعنى كلما كثرت صفحات الكتاب، ولذلك عمدت إلى وضعها في قرائن مختلفة. ومن ثم أخرى التعريفات حتى النهاية لان كل مصطلح حينئذ قد ينكشف لعيني القارئ من خلا معرفته للمصطلحات كلها على ذلك النحو المتدرج ".

وهذا عمل إليه بيرك كثيراً أي أنه يضع معجماً من المصطلحات ويلحقه بكل كتاب من كتبه ليجمل فيه فحوى ذلك الكتاب إذ أنه يعتقد أن آراءه مصطلحات. وقد وضع في كتابه " التغير والثبات " معجماً يضم كل الأفكار والمبادئ التي استحدثها حتى عام 1937 مثل: الهوية. طقوس الولادة الجديدة، الصلاة الدنيوية، التجريد، العناقيد، الجوهر. الصور. حياة الخير. مشكلة الشر. المنظور من خلال التباين. ومن هذا ترى ان بعضها رمزي وبعضها مصطلح نقدي وبعضها يعبر عن نظرات اجتماعية

ص: 203

ومنها ما هو عام لا يحد بصفة واحدة. وليس لدينا من طريقة نعرض بها هذه المصطلحات أو نلخصها وخير ما يستطيعه القارئ ان يرجع إليها مصحوبة بقرائنها في كتبه. ولنمثل على مصطلح واحد منها هو مصطلح " الطائفة ": يقول بيرك:

" أن من يهديهم خطر التعقب والإحراج والمطاردة يردون على هذا الخطر بتكوين تجمع جديد، ويمدهم تعاونهم بقاعدة جديدة يتمركزون فيها، ومنها يهجمون على أعدائهم ليسرقوا منهم رموز السلطة المقررة. والطائفة مهددة دائماً بالتقسيم السلبي ما دامت تعيش على عناصر الرفض. وقد وضح ترولتش الدور الذي لعبه تعلم القراءة والكتابة في الطائفية لان الطائفية تفكير " عصبة محدودة " ولا يتم لها التعبير الكامل عن ذاتها إلا حين تنضم إليها مثيلاتها. أما انتشار القراءة والكتابة فأنه خلق عصبة جديدة ذات تفكير جديد لان المرء يجمع " عصبة " من خلال القراءة ولو كان أفرادها موزعين في كل أرجاء المعمورة وفي كل فترات التاريخ. وقد كان القرن التاسع عشر زاخراً بعصب الطائفية من فئتي الماديين والروحانيين وكانت هنالك أيضاً عصائب النظم العلمية، وكان الرجل يكيف ذاته بالانتساب إلى عصبة أو أخرى من تلك العصائب المتعاونة على أهداف غامضة غير محددة ".

وبين المصطلحات والأمثلة عند بيرك فرق واضح. فمصطلحاته تذهب في التجريد إلى حد بعيد حتى إنها تعجز عن أن تطيف بالسلوك الأدبي أو الاجتماعي، أما أمثلته فإنها دائماً أدبية، وهي مستمدة من القديم والحديث على السواء.

وكتاب " نزعات نحو التاريخ " مهتم كثيراً بتصنيف النزعات ووضع مصطلحات - أو معجم - للدوافع، أي انه مهتم بالمادة الأدبية والبلاغية الجدلية ويعتمد في المادة البلاغية الجدلية على بنثام وماركس وبيرس وفبلن

ص: 204

ومالينووسكي. وقد وضح بيرك في الوقت نفسه انه ليس هناك أي تقرير عن الدوافع إلا وهو نفسه عمل رمزي، ولذلك مضى في الكتاب يتحدث كيف ان نظرياته ومصطلحاته تعبر عنه أيضاً بطريقة رمزية فقال إن شغفه بالحديث عن البيروقراطية إنما يصدر عنه لان فيه ترديداً لاسمه - بيرك -. وعد ألفاظاً كثيرة يؤثرها لأنها تبدأ بحرف P -[الشعر] متكأه للرفض بل يراه مرادفاً لمبدأ الرفض. وينبه إلى شغفه بكلمة " تحول " وأنها تعبير رمزي عن معاني التغير والأثم والموت والشهوة. وهو يؤمن أن اتخاذه تعبير " المنظور من خلال التباين " يرمز إلى الخصاء الرمزي بل يرى بيرك أيضاً معاني رمزية في الألقاب التي اسبغها على أطفاله، ويقول:

حقاً أن مثل هذه الأمور ترسل إشعاعاتها في اتجاهات عدة؟ فنحن نستطيع أن نعتبر المبادئ النقدية رموزاً؟

وقد استغل بيرك دوافعه وتجاربه الماضية واعمل فيها النظر الممعن فلحظ في " الثبات والتغير " كيف غضب وهو طفل حين سمع أن الأسود من فصيلة القطط لأنه كان يظنها أنقى واكبر نوعاً من الكلاب، واتخذ في (فلسفة الشكل الأدبي " اسماً لإحدى شخصيات قصصه وكان ذلك الاسم يذكر بكلمة نابية. وهذه حيلة بل خدعة نقدية استعملها بيرك، اعني انه بالكشف عن المعاني الدقيقة في آثاره وكتاباته يستطيع أن يزاول هذا نفسه في آثار غيره دون ان يتهم بمجاوزة الحد، بل يجد عمله ما يبرره ويقويه. ولا ريب في أن بيرك لا يبرهن على شيء جازماً فهو يوحي ولا يقرر، ومع الزمن تصبح كشوفه قيمة لأنها استبصار ونفاذ في آثار هذا أو ذاك من الشعراء والنقاد ولكنها لا تصلح أن تتخذ مقياساً عاماً. ويقول بيرك في الحديث عما وراء دوافعه الذاتية هو من عوامل وتيارات:

ص: 205

" كأنما نحن نبيح الناس أن يسلطوا العيون على المكنونات ليثيروها من مكامنها؟ ونحن نؤمن أن آثار كل امرئ يمكن جلاء مخبآتها أن اشتملت إخلاصاً في التنظيم؟ بل أنا لنرضى ان نكشف عن ما فيها إذا تقدم إلينا صاحبها وقال لنا أتحداكم لأن كتاباتي ليست غلا محض هراء ببغاوي. وأقول: ان كل شخص يستطيع أن ينتحل الزيف والدعوى في الظاهر. أما في أعماق صدره فليس ثمة مسرب للكذب لأن الفيلسوف أو الأديب الغارق في حومة الموضوع لابد له من تنظيم تعبيره عنه، ولا بد لتعبيره ذاك من أن يحتقب هذه العمليات النفسية، ذلك حتم لا مفر منه إلا أن كان للأديب جسم من نوع آخر يخالف أجسام الناس الآخرين فان شاء فيلسوف أو ناقد مستنير أن يتحدانا وزعم ان ما ينشئه لا يتموج من تحته تيار، قلنا له رضينا ان ندلك عليه وأخذنا في تتبع المعالم والدلالات ".

وما أظن أحداً تحدى بيرك في هذه الناحية ولذلك فنحن قد خسرنا البرهان الذي يقنع المتشكك، وحصلنا على البرهان السلبي الذي يقدمه إحجام المحجمين عن التحدي.

3

- في أساليب بيرك إثارة وطرافة ولكن لا يحسبن أحد أن دراسة الأدب من طريق العمل الرمزي حديثة خالصة، فهي ذات أصول قديمة. فمثلا موقف أفلاطون من الشعر وانه يحدث أثراً سيئاً في الجمهور، يعتمد في معظمه على العمل الرمزي في ذلك الجمهور. ويقول أفلاطون في الجمهورية على لسان سقراط:" في المصائب نشعر بجوع طبيعي ونرغب في أن نتخلص من أحزاننا بالبكاء والنواح، وهذا الشعور الذي قد نضبطه عند المصائب يغذيه الشعراء ويثيرونه ". أما أرسطوطاليس فانه مفترع هذا

ص: 206

اللون من النقد أيضاً فقد أكد قيمة العمل في المسرحية ونص في كتاب الشعر على ان " السعادة والشقاء ليسا حالين موجودين معنا وإنما هما شكلان من أشكال الفعالية وأن كون المرء خيراً يتمثل في أنه يعمل خيراً " وبذلك جلنا أرسطوطاليس نرى في الشفقة والخوف عملين رمزيين في الجمهور لا حالتين من حالاته، يستثيرهما العمل الرمزي في المسرحية. وقد شارف كولردج حدود هذا الاتجاه أيضاً حتى ان قصيدته " الملاح القديم " و " قبلاي خان " عملان رمزيان كاملان، ولم يتعد كولردج وقفته عند الحد وربما كان ذلك ناجماً عن بعض كبحه لنفسه عن الإيغال فيه إلا انه في الحق قد وضع القاعدة النظرية لهذا المذهب حين تحدث عن المجالات العقلية اللاشعورية. وقد لحظ في " محاضرات عن شيكسبير " أن العناوين والمشاهد الأولى في روايات شيكسبير ذات أهمية متميزة، ولكنه يعزو أهميتها إلى التفنن الواعي لا إلى عمليات اللاشعور. وقد مضى رسكن في هذا الاتجاه شوطاً آخر حين حلل المعاني المستكنة في أسماء الشخصيات عند شيكسبير على نحو مشبه لطريقة بيرك، وهو يقول في هذه الناحية:

أما عن الأسماء التي يستعملها فإني سأتحدث من بعد حديثاً مسهباً. ولكني اقرر هنا أنها مزيج من عدة لغات، وقد سبق أن استبانت معاني ثلاثة منها؛ فمثلا: دزديمونه اسم يعني في الأصل " الحظ التعس " وعطيل يعني " الحريص " فيما اعتقد وكل ما في الرواية من نكبات ومآس ناجم من تعنته الحريص، وأوفيليا، معناه " التفاني في الخدمة "؟ أما هاملت فربما اقترن اسمه بكلمة Homely الدالة لى الحياة البيتية، إذ تقوم فكرة المسرحية على الإخلال بواجبات الحياة البيتية وعلاقات الأسرة؛ وأما تاتيانا فأنها مشتقة من لفظة تعني " الكلمة "؛ والاسمان بنديك وباتريس مأخوذان من

ص: 207

لفظتين تعنيان " مبارك وبركة " واياجو ربما كانت مأخوذة من يعقوب [ياجوب] أي الذي يخلف ويعقب.

وهناك ملاحظ منثورة عن العمل الرمزي تنبه لها دارسو الطبيعة الإنسانية في الماضي ولنذكر بعضها على سبيل التمثيل العابر: لحظ غوته؟ حسبما يقول اكرمان - أن مواهب النساء تخمد بعد الزواج وإنجاب الأطفال وهذا مما قد يحمل على الظن بأن آثارهن الفنية غنما هي نوع من تسامي الدوافع الجنسية أو دوافع الأمومة (أي عمل رمزي) . وفي مطلع هذا القرن أصر برونتير في مقال عنوانه " فلسفة موليير " على أن طرطوف يمثل روح الصراع والتحدي، كما انه يرمز إلى العداء المستعلن (أي انه عمل ورمز معاً) . ولحظ برنارد شو في " جوهر الابسنية " أن اقتباس الكاتب من الكتاب المقدس يشير إلى عدم ارتياحه لهذه الأمور الموشحة بالتوثيق (فهو عمل رفض من خلا المغالاة في القبول والتوثيق) . ومنذ أن ظهر فرويد أصبحت هذه الملاحظ أموراً عادية مألوفة وأخذ المحللون يعنون دائماً بمشكلات العمل الرمزي. فمثلا ذهب اريك فروم إلى ان المبادئ الدينية والسياسية تعبيرات رمزية عن مبنى الشخصية عند من يعتنقونها.

وقد سبق أن اهتدى كثير من الكتاب إلى بعض الأفكار والمبادئ التي يقول بها بيرك. فمثلا اهتدى تولستوي في كتابه " ما الفن " إلى ما سماه " نزع الملكية سيكولوجياً " وهذا ما سماه بيرك: " تحويل الملكية " يقول تولستوي: (أما في الدين فأن الطبقات العليا في العصور الوسطى وجدت نفسها في موقف كالذي كان عليه المثقفون الرومانيون قبل ان تظهر المسيحية أي أنهم لم يعودوا يؤمنون بدين الجماهير ولكنهم لم يكن لديهم معتقدات الكنيسة البالية التي كانت قد فقدت

ص: 208

معناها في نفوسهم ". ولدى بيرك ما يسميه " الإحراج والمضايقة " وشبيه بهذه الفكرة قول تولستوي: ان مبدأ الكنيسة نظام متكامل حتى إنك لا تستطيع تغييره أو تصحيحه إلا وتحطمه جملة ". وايرفنج بابت سبق بيرك في كتاب " روسو والرومانتيكية " إلى أن " تحويل الملكية نفسياً " يؤدي إلى حركات من السلبية والشيطانية والبريونية. وتوصل رتشاردز إلى الكشف عن جانب من العمل الرمزي في بعض الدوافع مع ان اهتمامه موجه إلى قدرة بالغة على النقل والتوصيل لا على التعبير؛ يقول رتشاردز في كتابه " رأي كولردج في الخيال ".

أن الأساطير العظيمة ليست أوهاماً بل هي منطوق النفس الإنسانية كلها وهي من ثم لا يحيط بها التأمل ولا نأتي على كل ما فيها وهي ليست متعة أو معاذاً للهرب حتى يتطلبها من يتطلبها للراحة والفرار من حقائق الحياة القاسية ولكنها هي تلك الحقائق القاسية نفسها معروضة ممثلة، هي الإدراك الرمزي لتلك الحقائق ومحاولة لخلق الانسجام فيما بينها وتقبلها بالرضى. ومن خلال تلك الأساطير تستجمع إرادتنا وتتوحد قوانا وينضبط نمونا ومن خلالها أيضاً يتزن كياننا المضطرب ويلتئم وجودنا المشعث. وبهذه الأساطير يطمئن التناقض وينسجم النشاز في الأشياء ومن خلالها حصلنا على التكامل الذي يجعل منا أناساً " متمدنين ".

وأخيراً أشير إلى قولة لورنس " أن المرء ليسكب أدواءه في الكتب " وهي عبارة تشير إلى ما يسمى العمل الرمزي في آثار الفنانين على مر العصور.

أم بيرك لا يعتمد في مذهبه الذي اختاره على من سبقه في حقل

ص: 209

العمل الرمزي باستثناء كولردج وغنما يعتمد في ذلك على مجموعة من الفلاسفة والمتفلسفين يشبهونه شبهاً غريباً في منحاهم الشاذ المتفرد: وهؤلاء هم أهم من يستمد منهم:

1 -

جرمي بنثام الذي ذكره هازلت في كتابه " روح العصر " وإذا قرأت ما كتبه هازلت عنه وجدته ينطبق على بيرك نفسه - إذا شئت أن تهاجمه لا ان تترفق في الحكم عليه - حتى لتقول إنهما في المصطلح الفلسفي الشاذ الذي يشتمل على حدة وعلى معنى بعيد يتمنى المرء لو استطاع أن يفقهه. وقد رأينا كيف أن بنثام حاز إعجاب رتشاردز ايضاً، مثلما حاز إعجاب بيرك الذي يعده مؤسساً للدراسة اللغوية الجادة، ويضعه في كتابه " الثبات والغير " على مستوى دارون ويقول أن كلا منهما قد تقسم في " آلاف من الذوات والنفوس ". غير انه لا يؤمن بمذهب بنثام الذي يرمي إلى تجريد اللغة من المجاز للتخلص من الشعر والخطابة ويرى في هذا المذهب رمزاً عن الخصاء. إما المذهب النفعي اللاديني الذي قال به بنثام فأن بيرك يعده مذهباً دينياً دنيوياً أو نوعاً آخر من نظرية " القاعدة الذهبية ". ويعد تحليلات بنثام للكلام وتصنيف أنواعه كشفا بالغ القيمة مفيداً إن أنت حذفت منه فكرة التخلص من المجاز. ويصرخ في كتاب " النزعات " بان " خير ما في بنثام وماركس وفبلن هو الهزلية الرفيعة " ويعزو إلى بنثام الفضل في تجريد الأمور من الحواشي والمبالغات، حتى عن كثيراً من المتطفلين لم يصنعوا شيئاً سوى التحلق حول مائدته العبقرية. ويستغل بيرك آراء بنثام في كتابه " نحو الدوافع " عدة مرات، غير أنه في الكتاب ذاته ينصب لتجريد نفسه بعض آرائه التي يجرد فيها آراء الناس من الحواشي والتافه والمغرق ويصف آراء بنثام بأنها " رمز خصاء لرجل عازب " ويفسر تلك الآراء تفسيراً رمزياً مستمداً من بنثام نفسه، ويقول ان تلك الآراء منبثقة من طفولة بنثام الذي يخاف الأشباح خوفاً شاذاً فلما كبر أصبح يخاف " عملية التخيل " في اللغة.

2 -

كولردج: وبينه وبين بيرك شبه قوي جداً ولا يستطيع أحد

ص: 210

أن يقرأ كتابات كولردج وبخاصة " السيرة الأدبية " دون أن يفطن إلى هذه المشابه في الأفكار والأساليب وفي الشذوذات أيضاً. وقد أعجب بيرك بكولردج وكتاباته من حيث هما دراسة للعمل الرمزي ولذلك فان نواة مقالته " فلسفة الشكل الأدبي) غنما هي تحليل لقصيدة " الملاح القديم " كما أن إحساس كولردج بدقائق الجرس جعله يقتبسه كثيراً لإثبات فكرته عن موسيقية الشعر، كما ان اهتمام كولردج بالنواحي اللغوية جعل بيرك يكثر من اقتباس آرائه. وقد عده بيرك بين " اعظم النقاد في أدب العالم ". وهو في نظره يقف على النقيض من بنثام، لأنه لا يحط من قيم الأمور او يعمد إلى إظهار ما فيها من زيف وإنما يتجه إلى الرفع من شانها، ويرى في المصالح المادية خطوة أولية نحو المصالح العلوية. وقد ذكر بيرك في إحدى مقالاته بأنه يعد كلمة عن طريقة كولردج ولكن تلك الكلمة لم تر النور، فيما يبدو، أو لعلها دخلت في غمار المحاضرات التي ألقاها عن كولردج في صيف 1938 بجامعة شيكاغو. وقد نبه في تلك المحاضرات إلى ما في موضوعه من مشكلات وإلى ما يمكن أن يجنبه من يتمرس به من ثمرات، فقال:

أحاول في هذه الآونة ان أقوم بتحليل لكتابات كولردج لأبرز فيها العمل الرمزي ولكن فكره المعقد يجعل عملية الفرز والتصنيف عسرة؟ غير أن هذه المحاولة تستاهل ما يبذل فيها من جهد لان من يحاولها يستطيع أن يستعمل أمرين هامين: الأول: أن كولردج كان كثير التقييد فخلف لنا سجلا كاملا يعين على دراسته وكان يستعمل نفس الصور في قصائده ونقده الأدبي ورسائله السياسية والدينية ورسائله الاخوانية ومحاضراته وتقييداته التاملية. ومن ثم كانت لدينا جسور ننتقل عليها من مجال إلى آخر لأن الصورة لديه تمكنا من أن

ص: 211

ندرك نفسيته عن طريق موضوعي أو تشريحي. وأما الثاني: فان لديه مع ذلك الفكر المعقد تيسيراً يسهل الدراسة، وأنا أشير بهذا إلى إدمانه المكيفات.

ولم يكن الحديث عن كولردج احب الموضوعات إلى بريك فحسب، بل كان هو الراية التي ينضوي تحتها. ولذلك اعتبر كولردج خالقاً موجداً للسريالية، في مقال كتبه عن هذا المذهب، وذهب إلى أن قصيدة " قبلاي خان " ابرز أثر سريالي، وإلى أن تفرقة كولردج بين الخيال والوهم هي أساس ذلك المذهب، وأكد أن بدعة كيركجرد وكافكا يجب أن تسمى بدعة كولردج. وفي مقاله " مشكلة القيمة الذاتية " تناول التهمة التي يرددها الأرسطوطاليسيون المحدثون من النقاد ضد خصومهم حين يصفونهم بأنهم كولردجيون أي أفلاطونيون أي ينظرون إلى الشعر بطريقة استنتاجية لا استقرائية - تناول بيرك هذا الاتهام فوقف في صفه وقال إن الأرسطوطاليسيين المحدثين في أحسن أحوالهم النقدية وأقيم دراساتهم، كولردجيون في حقيقتهم.

3 -

ثورشتين فبلن الأميركي الوحيد بين هؤلاء الثلاثة. ويستقل بيرك عن رتشاردز في الاعتماد على هذا المفكر. إلا إن أثر فبلن فيما يبدو آخذ بالتلاشي، إذ يعتمد بيرك في " الثبات والتغير " على مبدأ فبلن: (العجز المدرب " اعتماداً قوياً ويتخذه المجاز الذي يفهم الأشياء من خلاله ويمط فيه حتى يجعل منه ظاهرة اجتماعية وسيكولوجية وأدبية كالذي يسميه الجشطالتيون " الجشطالت الردئ ". ولفبلن نظرية اقتصادية عبر عنها بكتابه " نظرية الطبقة الفارغة " وهي نظرية جعلته موضع التقدير الكثير إلا من الاقتصاديين أنفسهم، ويقف بيرك أيضاً من هذا الكتاب في صف الاقتصاديين، فلا يقول فيه ما يقوله الآخرون " انه اعظم إسهام في ميدان الفكر ". ويفضل على النظرية السابقة نظرية أخرى لفبلن هي:

ص: 212

" نظرية العمل "، ويرى فيها خير تحليل لفلسفة الرأسمالية. ويفيد بيرك من مبادئ أخرى لفبلن ويستغلها في كتابه " الثبات والتغير " وبخاصة فكرة فبلن التي ترمي إلى رفض الثنوية المانوية ووضع الغرائز المتعارضة في مكانها ثم يقل اعتماد بيرك على فبلن في " نزعات نحو التاريخ " إلا أنه يلحظ ان فبلن يمثل " الهزلية الرفيعة " مثل ماركس وبنثام، ويقتبس مصطلحه " العجز المرتب " ويحوله إلى ما يسميه " التباين المرتب ". ويعود في " فلسفة الشكل الأدبي " فيكثر الاقتباس من فبلن إلا أنه لا يقتبس منه إلا آراء في الميدان الاجتماعي، ولم يعد فبلن في نظر بيرك ناقداً مجازياً لكل حضارتنا، ثم يسكت عنه في " نحو الدوافع " فلا يشير إليه أبداً.

4 -

5 -: وهناك اثنان من المفكرين اعتمد عليهما بيرك بعض اعتماد وهما ستورات مل وبيرس، وبينهما وبين بيرك بعض المشابه، وقد أشار بلاكمور إلى شبه بيرك بالثاني في تفرد التأمل الفكري عند كليهما، لا في المصطلح.

وبالجملة: استمد بيرك من كثير من المفكرين. وهو من تلك القلة التي أدت في النقد من كتاب لفجوي " السلسلة العظمى للحدوث "، كما انه أفاد جيمس وديوي وبرغسون ومن عدد غيرهم من المحدثين. ولا تتجاوز استفادته من أحدهم - أحياناً - اخذ فكرة أو اثنتين يجمع بينهما بيرك مهاجماً أو متناقصاً، وأخيراً كان أرسطوطاليس في آخر كتبه هو المؤثر الأكبر في فكره، فهو أستاذه الذي اعترف له بتلك الأستاذية ولم يعترف بها لأحد قبله.

أولئك هم الذين اثروا في بيرك فمن هم الذين تأثروا به في النقد المعاصر؟ تستطيع القول انه مثل رتشاردز ذو اثر شامل - على الأقل

ص: 213

في اميركة - أما الرجال الذين يعملون متأثرين به من الأميركيين فهم بلاكمور ومالكولم كولي وفرنسيسي فرغسون وهاري سلوشور. وقد تحدثنا من قبل عن علاقة الأول به. أما كولي فانه لم ينشر كتاباً في النقد ولكنه يزمع اصدرا كتاب عن الأدب الأميركي من مجموعة من المقالات ظهرت في المجلات ويبدو أن الكتاب سيكون هاماً ضخماً. أما القطع التي نشرها في المجلات خلال الحقبتين الماضيتين فقد أفاد فيها كثيراً من مبادئ واصطلاحاته واستطلاعاته، وحولها إلى ما يفيده في غاياته وبسطها بعض التبسيط وطبقها على أدباء لم يعن بهم بيرك. كما أن الدراسات التمهيدية التي قام بها عن همنجوي وفولكنر لإحدى دور النشر تعد دراسات من الطراز الأول في مجال العمل الرمزي، وهما أول فحص جاد يطبق على كل من الأديبين المذكورين.

وأما فرغسون فهو أيضاً مثل كولي، مشغول في هذه الأيام بكتابة أول كتاب له في النقد بعد سنوات كثيرة قضاها وهو ينشر في المجلات غير أنه تأثر بآراء بيرك أخيراً وتحول بهذه الآراء لخدمة غاياته. فمثلا تناول مصطلح (ناقد مسرحي " وحط منه حتى اصبح يعني مراجعاً شبه متعلم يراجع الروايات ويكتب عنها للجرائد إلا أن فرغسون أمضى حقبتين وهو ناقد مسرحي أصيل، ناقد للأدب المسرحي وللتمثيل، وهو خير ناقد لهذين في أميركة. ولنقده ثلاثة اتجاهات الأول: مبدأ جمالي أخلاقي يرى الفن غاية فهو - أي الفن - لا يهتم بالعلاقات الخارجية وهو شيء يستساغ ويقاس وينظم وهذا المبدأ مستمد من الكلاسيكيين المحدثين وذوي النزعة الإنسانية المحدثة ومن نقاد اتباعيين مثل ماريتان وبندا وفرناندز وبابت واليوت ومن كلاسيكيين قدماء مثل دانتي. وبهذا المبدأ كشف فرغسون عن زيف الزائفين وفجاجة غير الناضجين من يوجين أونيل حتى سلدن ردمان، (يرى فرغسون ان المحدثين يمسخون الروح ويحطون

ص: 214

الخلق ولكن هذه النظرة التحقيرية لم تحل بينه وبين تقدير أدباء غير كلاسيكيين مثل لورنس) . الثاني: اتجاه مستمد من الدراما الإغريقية الشعائرية كما فسرها أرسطوطاليس، وبلغ بها سوفوكليس درجة الكمال في " أوديب الملك "، وهو يطبق هذا الاتجاه على الدراما الحديثة الرصينة من ابسن وتشيخوف حتى لوركا وكوكتو. الثالث: تطبيق الاتجاه الثاني الدرامي على الأدب غير الدرامي وهذا اتجاه قد عبر عنه بمجلة " الكلب والنفير " عدد تموز - أيلول 1933 عندما راجع كتاباً لبولسلافسكي عنوانه " التمثيل: اول دروس ستة " فاقترح اتخاذ المقاييس الدرامية لدراسة الشعر الغنائي. ثم طبق هذا المبدأ في عدد آخر من تلك المجلة خاص بدراسة جيمس، حين تناول دراسة العناصر المسرحية في قصيدة " القعب الذهبي ". وهذا الاتجاه هو الذي ربط بين فرغسون وبيرك، وبما أن بيرك انتهى في مذهبه إلى تحكيم النقد المسرحي وإلى العناصر المسرحية الخمسة فقد استمد فرغسون كثيراً من مبادئه مثل فكرة الثالوث المكون من " الغاية والعاطفة والإدراك " وهي المراحل الثلاث الكبرى في الدراما الشعائرية، وجعلها فرغسون حجر الزاوية في نقده. وراجع فرغسون أيضاً كتاب " نحو الدوافع " وكانت خير مراجعة له، وفيها أعلن من خلال الثناء عن اتفاقهما في كثير من الأمور واختلافهما في مجالات محدودة. ومما خالفه فيه موقفه من الواقعية في روايات القرون الوسطى، فقد استخف بيرك بهذه الواقعية برحي من نظرته العقلانية الخالصة. ويزمع فرغسون إصدار كتاب في النقد، أتيح لي قراءة بعض فصوله المخطوطة ومنها فصل ظهر بمجلة كينيون ربيع 1947 ويشمل الكتاب دراسة للمسرحية بعد شيكسبير من حيث هي تطور جزئي لمبدأ " الغاية " أو " العاطفة " أو " الإدراك " لا من حيث هي شعائرية كما كانت في حال سوفوكليس، وتشهد هذه الدراسة على أنه سيكون للكتاب شأن أدبي هام.

ص: 215

وأكثر من ذكرتهم تأثراً ببيرك واستمداداً لآرائه هو هاري سلوخور، فقد جمع هذا الناقد بين آراء ماركس وفرويد والجشطالتية مثلما جمع بيرك بين التكامل الاجتماعي النفساني، غلا أن سلوخور يتكئ أكثر من بيرك على الماركسية والموروث الفلسفي الألماني. وقبل ان يدر بالإنجليزية كتابه الأول بعنوان:" ثلاث طرق أمام الإنسان الحديث " Three Ways of Modern Man سنة 1937 (اصدر بالألمانية أول كتاب له بعنوان رتشاردز ديهمل ولكني لم أقرأه) كان قد اطلع على مصطلح بيرك ووجد فيه معواناً على التعبير عن أفكاره. وقد ظهر الكتاب مصدراً بكلمة من بيرك وهو ينم عن كثير من مصطلحات بيرك ومبادئه واستطلاعاته ومقتبسات منه. إلا أن سلوخور يتجه فيه إلى إبراز دور القصة الطويلة في التعبير عن " أيديولوجيات " فلسفية، وهذا يخالف اتجاه بيرك إلى إبراز العمل الرمزي الفردي. ويعتمد سلوخور على ثالوث مكون من الشيوعية الإقطاعية والحرية البرجوازية والنزعة الإنسانية الاجتماعية ثم يسمي هذا ثالوث: الوحدانية والثنوية والجدلية بل يسميه أحياناً الأب والابن والروح والقدس. أما الكتاب الثاني الذي أصدره سلوخور فعنوانه " قصة يوسف لتوماس مان "(1938) وهو يشبه مؤلفات بيرك في انه تحليل مطول لأثر فني مفرد معقد وتحليله على غير صعيد واحد وترجمته إلى معجمات متعددة، غير ان سلوخور لا يفارق فيه النص على الأيديولوجية الجماعية، وأكثر كتبه طموحاً هو ثالثها وعنوانه " لا صوت يضيع بالكلية " No Voice is Wholly Lost (1945) وهو محاولة للنظر في كل الأدب المعاصر بدلا من دراسة بضعة نصوص تفصيلاً. وفي الكتاب بصر نافذ ولكن استطلاعات المؤلف غير متكاملة لان الميدان الذي يجوبه رحب مترامي الأطراف كما أن معالجته للأميركيين المعاصرين ضعيفة فهو يضع البراذين من أمثال شتاينبك إلى جانب مارلو ومان والثقلاء المجوفين مثل ولف

ص: 216

إلى جانب كافكا وريلكه وربما نزع إلى التهوين من شأن أدباء كبار أمثال همنجوي وفولكنر، ومن ثم كان كتابه في جملته مخيباً للآمال. غير أن توسيعه وتطبيقه لاصطلاحات بيرك، في مجال نغاير، يدل على سداد وتوفيق وهو على وجه العموم مطلع جيد الإدراك ذو أسلوب ومنهج مرسوم، ولديه من العدة ما يعينه على أن يبلغ شأواً طيباً إذا هو تخلى عن النظرة العامة العابرة وذهب يعمق نظرته في الأغوار.

وهناك شخص لعله آخر من يقدر فيه التأثر بآراء بيرك، وهو أيفور ونترز الذي كان من اقدم من استمدوا من آراء بيرك وطبقوها، وقد أشار ونترز إلى هذا في كتابه الأول " البدائية والانحطاط " الذي ظهر عام 1937، فقال في فاتحة الكتاب بنغمته الفذة المميزة:

استعملت مصطلح بيرك حيث وجدت إلى ذلك سبيلا واعترفت بذلك لكي أتجنب تكثير المصطلحات. وقد بدأت تحليلات الأمور البلاغية في نفس التاريخ الذي بدأ فيه بيرك غير أني تخليت عن هذا الاتجاه، واستمر هو فيه، لأني لم أكن أراه اتجاهاً مثمراً. ثم عدت إلى هذا النهج حين استكشفت سر القيمة البلاغية وإمكان خلق مبادئ جمالية تقوم على مثل هذا التحليل. والفرق بيني وبين بيرك غني نجحت في هذا السبيل واخفق هو، وسيجد القارئ في كتابي هذا صورة النزاع القائم بيننا.

ومضى ونترز في هذا الكتاب يفيد من مصطلح بيرك الموجود في كتابه " مقولة مضادة " وكان اشد المصطلحات اجتذاباً له هو " التقدم الكيفي " المستعمل للدلالة على نوع من المبنى الشعري ولكن اقتباس المصطلح وطرح الأفكار التي يعبر عنها محاولة مقضي عليها بالإخفاق، ولذلك كف عنها ونترز وخلق لنفسه معجماً آخر.

ص: 217

ولقد أقر ونترز بدينه لبيرك وهو ينازعه وهو ينازعه ويخاصمه ومع ذلك فانه أكرم خلقاً من بعض النقاد الآخرين - أمثال أدموند ولسن وفيليب راو - الذين استمدوا مبادئ بيرك ولم يعترفوا له بالفضل. وهناك كثيرون من الشعراء والنقاد بانجلترة منهم فرنسيسسكارف وكرستوفر هل يعرفون آثار بيرك أو اهتدوا مستقلين إلى كثير من مبادئ العمل الرمزي التي اهتدى إليها. ويكاد كل ناقد في أميركة أن يكون متأثراً به، فاستمد منه رانسوم وتيت وورن وبروكس واثنوا عليه ثناء جزيلا بينما كانوا يخالفونه في الاتجاه كما أن بيرك اعتمد على استطلاعاتهم ومدحهم واشتباك مع رانسوم من بينهم في جدل أدبي مسهب طويل. ولما درس ورن قصيدة " الملاح القديم " استفاد من آراء بيرك في هذه القصيدة ومن المبنى العام لطريقته بينا نازعه بشدة حول آرائه في تناول كولردج للمكيفات ومشكلاته الزوجية. وقد راجع بيرك كتاب ورن هذا في مقال نشره بمجلة شعر في نيسان 1947 فأثنى على دراسة ورن وقال إنها ذات " قيمة فذة " ثم ذهب يقاوم الآراء المخالفة فيها متجهاً الاتجاه " الشخصي " الذي عابه عليه ورن في مقاله ملحاً عليه أكثر من ذي قبل واصلاً به كل كتابات كولردج الأخرى.

وهناك راندل جرل وقد كتب دراسة تحليلية واحدة - على الأقل - تحمل طابع بيرك، وعنوانها " التغير في النزعات والبلاغة في شعر أودن " ونشرها في المجلة الجنوبية، خريف 1941 وصرح في فاتحتها قائلا:" لقد استعرت عدة اصطلاحات من كتاب بالغ الجودة اعني كتاب " نزعات نحو التاريخ " لكنث بيرك، وأحب ان اعترف بذلك في هذا المقام ". وقد طبق جرل تلك الاصطلاحات بلباقة في الكشف عن العمل الرمزي والبلاغي في شعر أودن. كما أن دلمور شفارتز وعدداً من الشعراء الشبان أفادوا من بيرك في نقدهم، واستغلت موريل روكيزر مبادئه في شعرها

ص: 218

واعترفت بان قصيدتها " النكباء " استمدت بعض مادتها من تاب " نزعات ". أما هربت مللر فأنه من أشدهم اتكاء على مبادئ بيرك في كتابه " القصص الحديث " وفي كتابه " العلم والنقد " بل يعتمد عليه أكثر من اعتماده على آراء رتشاردز ومبادئه، ويصف بيرك بقوله:" لعل أحد ناقد في اميركة اليوم ". ويستطيع القارئ أن يتمثل مدى تأثير بيرك في اميركة إذا طالع كتب مختلف النقاد ووجد كيف يعترفون بالفضل له، على نحو أو آخر. وفي القائمة عدا من ذكرنا أسماءهم: فيليب ويلرايت ونيوتن آرفن وآرثر ميزنر وليوتل ترلنج ودافيد ديشز وجون سويني وجوزف وارن بيتش ورالف السون ومورتن دوين زابل وكثير غيرهم.

أما النقد الذي ووجه به جهد بيرك نفسه فيدل على حقيقة محزنة كما هو الأمر في حال رتشاردز لان كثيراً من الذين أفادوا منه تأثروا به هاجموه بعنف، وقد كان له شرف تلقي الهجوم ممن تخصصوا في الهجوم على خير النقاد المعاصرين - ومن هؤلاء الذين وقفوا همتهم على هذه الناحية هنري بير والفرد كازين ودونالد آدمز ومن لف لفهم. وأشدهم مرارة في هجومه هو سدني هوك في مقال نشره بمجلة بارتزان، فقد وصف بيرك بأنه " يقدم العذر دون أخطاء ستالين وأنه رجل ضعيف ذو موهبة صغيرة ". ورد عليه بيرك في عدد كانون الثاني 1938 من تلك المجلة وقصر همه على اقتباس الفصول التي شوهها هوك فرد عليه هوك في العدد نفسه مشيراً إلى أن التشويه في هذا المقام كان أمراً لازماً. ويناقض هؤلاء دارسون يتعاطفون مع بيرك كتبوا عنه سلسلة من الدراسات الجيدة منهم غورهام منسون واوستن ورن ووضعه هـ. ب باركس في مصاف جيمس وديوي ونيتشه وبرغسون واليوت وقال آخر: من الشاق أن يحيط المرء في مقال صغير بذلك الشمول في كتابات بيرك.

ص: 219

وبين هذين الطرفين نقاد لم يفلح أحد منهم في أن يتجاوز التعليق على مظهر واحد في كتاب من كتب بيرك كأن يكون المراجع سمانتياً أو لغوياً أو نفسياً أو فيلسوفاً أو ناقداً أو عالماً اجتماعياً أو مراجعاً بسيطاً حائراً، فهو يختار المظهر الذي يناسبه في مؤلف بيرك وبيدي فيه رأياً.

4

- كان السر في اختلاف المراجعين والناشرين حول الميدان الذي يعمل فيه بيرك يكمن في أنه لا ميدان له، حتى لقد تسمع في السنوات الأخيرة من يرددون القول بأنه ليس ناقداً أدبياً وإنما هو عالم سمانتي أو نفساني اجتماعي أو فيلسوف وأدق من هذا أن يقال: إنه ليس ناقداً أدبياً فحسب وإنما هو هذا الناقد والسمانتي والنفساني الاجتماعي والفيلسوف وغير ذلك، وقد أبان في بعض مقالاته كيف أن ميداناً واحداً ليس كفاء بمشكلة التركيب العامة التي تتضافر فيها جهود شتى الميادين، إذ يقول:

ولو أن امرأ قدم " تركيباً " يؤلف به بين الميادين التي تشملها الأنظمة المتنوعة، فأي الأنظمة تلك كفاء بتقويم ذلك التركيب؟ إن كل تخصص يكتسب قيمته من توجهه نحو التنوع فكيف يمكن لنا أن نحكم تخصصاً واحداً ليعكس لنا " توحداً " بين المتنوعات أو لنضع الأمر وضعاً آخر فنقول: لو أراد امرؤ أن يكتب عن التواشج بين عشرة تخصصات، لكان يكتب عن شيء يقع خارج نطاقها جميعاً.

ولقد كانت الغاية القصوى في نقد بيرك هي ذلك التأليف التركيبي لكل نظام أو مجموعة من المعرفة يمكنها أن تلقي ضوءاً على الادب، وجمعها معاً في إطار نقدي متناسب. وقد وقف بيرك يقاوم كل نظرة محافظة أو متدينة تنادي بإقصاء هذه الأداة النقدية أو تلك وتقول إنها " نابية " غير ملائمة، حتى قال: " إن المثل الأعلى من النقد حسب ما

ص: 220

اعتقده هو استغلال كل ما يمكن استغلاله ". وكتب يدافع عن استغلال معلومات من سيرة الشاعر لفهم شعره فقال: " يجب علينا أن نستغل كل معرفة نستطيع الحصول عليها " ومضى يوضح هذا الرأي فقال:

النقد لعبة وهي خير ما يمكن أن يشهد حين يقصر المرء نفسه على الوحدة الفنية ويتحدث عنها وعن حركاتها مثلما يتحدث المذيع عن لعبة الكرة أو مشهد المصارعة. وأنا اقر بان هذه الاصطلاحات الخارجية قد تتدخل في اتساق النقد نفسه من حيث هو لعبة بالمعنى المتقدم. غير أن التحليل اللغوي قد هيأ إمكانات جديدة للربط بين النتاج والمنتج، ولهذا كله أثره في أمور الحضارة والسلوك بعامة حتى إننا يجب إلا نسمح للعرف النقدي او للمثل العليا في النقد بان تتدخل في تطورها.

ويرى بيرك ان النقد الحديث شيء يشبه العلم الذي كان قبل عهد بيكون حسبما وصفه تين في كتابه " تاريخ الأدب الإنجليزي " إذ يقول:

ما دام العلم قد قصر جهوده على إرضاء حب الاستطلاع وفتح آفاق جديدة من التأمل فانه كان في مقدوره في أي لحظة ان يتحول إلى تجريد ميتافيزيقي، وكان يكفيه ان يتجاوز التجربة، فتجاوزها وتعلق بالكلمات الكبرى والماهيات واشتقاق الجزئي من الكلي والعلية الكبرى، فلم يعد بحاجة إلى براهين كاملة بل أصبحت تغنيه أنصاف البراهين ولم يعد في أساسه يهتم بإقامة حقيقة وإنما يهتم بالحصول على رأي.

ومضى بيرك يحاول مثل بيكون أن ينشئ تكاملا بين فروع المعرفة الإنسانية ليخلق من ذلك كياناً نقدياً فعالا يمكن الإفادة منه في التطبيق. وفي سياق تلك المحاولة سلط السيكولوجيا على الأدب فاكتشف انه لابد له

ص: 221

من التوفيق بين المدارس السيكولوجية المتصارعة وتركيبها جميعاً في سيكولوجية ثابتة فتبين له أنه لابد من ان يخلق تكاملا بين فروع علم الاجتماع ثم يؤلف بين السيكولوجيا وعلم الاجتماع فيما يسمى السيكولوجيا الاجتماعية، ثم يضيف إلى هذا التركيب اللغويات والسمانتيات ويضيف في النهاية الفلسفات واللاهوتيات وفي النهاية يسلط هذا التركيب الهائل على قصيدة من القصائد. وكانت غايته التي بر عنها في ختام " الثابت والتغير " هي:" ان يدل على علاقة تكاملية قائمة بين المظاهر الحضارية المتنوعة التي يظنها الناس منعزلة بعضها عن بعض ". وكان أظهر جانب في محاولة بيرك، مهمته الضرورية في التوفيق بين ماركس وفرويد أي بين الاقتصاد وعلم النفس. ولذلك قدم لنا " نظرية للعمليات النفسية التي تتساوق والعمليات الاقتصادية " أو أقترح التوفيق بين ماركس وفرويد على أساس مبدأ سماه " رموز التسلط " أو عدد مكيافللي وهوبز وفولتير وبنثام وماركس وفلبن " أعظم مكونين للتحليل النفسي الاقتصادي ".

وقد استمد بيرك من الماركسية كثيراً في كتبه بينا كان ينتقد بسائطها الميكانيكية في كتابه " مقولة مضادة " ويتجه كل تحليله في أبعاد اجتماعية إلا قليلا. وهو يرى في ماركس " درامياً عظيماً وشاعراً كبيراً بليغاً استطاع أن يكتب " البيان الشيوعي "، تلك " القطعة الرائعة ". وقد استمد بيرك أيضاً بحماسة من مدارس اجتماعية أخرى فأفاد من فلسفة اشبنجلر التشاؤمية ومن علم النفس الاجتماعي الفلسفي كما يتمثل عند جورج هربرت ميد.

أما علم النفس عند بيرك فيتجه إلى الوجهة التكاملية التأملية أي هو من نوع ما يسميه رتشاردز " وسطي "، ومن أهم أعمدته علم التحليل النفسي شرط ان لا يكون فردياً خالصاً بل مما يصطبغ بصبغة اجتماعية لأن أصحاب الاتجاه الفردي يخطئون في طريقة النص على العمل الرمزي.

ص: 222

وقد اخذ بيرك قدراً كبيراً من النظرية الفرويدية والمصطلح الفرويدي منذ أول كتاب أصدره واتخذ المصطلحات الفرويدية مصطلحات ثابتة للمبادئ النقدية مثل " التعويض " و " النقل " و " الضبط " كما انه كتب مقالين طويلين في تبيان قيمة التحليل النفسي أحدهما في " الثبات والتغير " والثاني في " فلسفة الشكل الأدبي ". ويحاول المقال الأول أن " يجعل " من المعالجة النفسية نوعاً من " التحول " بالفرد عن حالته الراهنة؛ ويحاول الثاني ان يطبق النظرية على الأدب أي أنه يبين للقارئ " إلى أي حد يستطيع الناقد الأدبي أن يستفيد من فرويد وما الذي يجب أن يضيفه من مادة ليست موجودة عند فرويد ". وينتهي بيرك في هذا المقال إلى القول بان آليات الحلم من مثل " التركيز " و " النقل المكاني " هي نفس الآليات التي تتم في الشعر، ويتخذ منها مفاتيح في التحليل الشعري، ويقول أن علم التحليل النفسي ذو قيمة بالغة في تحليل " القصيدة " من حيث هي حلم. بل يبعد أكثر من ذلك فيقول:

أرى أننا في سبيل تحقيق غايات النقد الأدبي محتاجون إلى ما هو أكثر من البناء الذي أقامه فرويد، أولا: لإقامة التناسب بدلا من الانحياز إلى ناحية وثانياً لإيجاد الرمز الأمومي في مقابل الرمز الأبوي الذي يؤكده فرويد وثالثاً لنرى في القصيدة صلاة ومخططاً وهو شيء زائد بيرك عند حد الإفادة من فرويد بلى يستمد من تلامذته المنشقين عنه مثل يونج وأدلر ومكدوغل ورفرز وشتكل ورانك. ويخالف الاثنين الأخيرين فيفضل التداعي الحر عند فرويد على ما يسميه شتكل تعسفاً " سطور الحلم " ويرفض فكرة رانك عن مبدأ " رغبة الموت " ويفضل عليها فكرة " الموت والولادة الجديدة " في فهمه للفن. وهو في الوقت نفسه يعتقد أن فرويد مثل ماركس

ص: 223

جبار شاعر تراجيدي عظيم يستحق من الإنسانية الاحترام الخالد لعمق خياله ومهارته المنهجية، ولأنه عن طريق خياله ومهارته قد وضعنا وجهاً لوجه أمام التيارات الخفية.

كذلك يفيد بيرك من المذهب الجشطالتي، مع إنه يرى في آثار علماء هذا المذهب امتداداً لمذهب السلوكيين أمثال واتسن وبافلوف، لا أنها مفارقة لمذهب السلوكيين وخروج عليه، ومن ثم فهو أقرب إلى التجريبيين من الجشطالتيين مثل كوهلر وكوفكا بعيد من النظريين مثل فرتايمر. وقد كانت محاولاته في خلق التكامل بين فروع السيكولوجيا تنقلا بين معجم السلوكيين والجشطالتيين والفرويديين وترجمة من هذا المذهب إلى ذاك ليوجد بين المصطلحات اتفاقاً. وتستطيع ان تقول أن مذهبه النفسي جشطالتي في هيكله العام مع إضافات كثيرة مستمدة من فرويد. وقد أفاد في الوقت نفسه من شتى فروع السيكولوجيا وأستعان بنظرية يانش في " الصور الأبدية " وتجارب شرنغتون على الحيوانات وتجارب باجت في عالم الأطفال، وقد أطلع على كتاب لهذا الأخير عنوانه " اللغة والفكر عند الطفل " وكان يعده بالغ الأهمية.

وكانت روحه النقدية أقوى فيما يستمده من أصحاب النظريات اللغوية وإن نزع أيضاً في هذا الميدان إلى خلق التكامل بين عدة مذاهب. غير إن هناك نظرية لغوية واحدة تقبلها دون نقد. وهي التي تقول إن الإشارات هي اصل الكلام - نظرية نادى بها سير رتشاردز باجت فحولها بيرك إلى القول بان الإشارات هي جوهر الكلام. واستغلها أول مرة في كتاب " نزعات ". وقد هاجمته مارغريت شلوش وبعض فقهاء اللغة لأنه أخذ بنظرية لا تفترق شيئاً عن " المثل الأفلاطونية " ولا تحقق غاية منها فدافع بيرك عن نظرية باجت هذه في " فلسفة الشكل الأدبي " وقال أنها ليست نظرية في فقه اللغة بل النظرية في فن الشعر.

ص: 224

أما السمانتيات الحديثة فان بيرك لم يطف بها إلا لماماً وقد كتب في " فلسفة الشكل الأدبي " مقالا بعنوان " المعنى السمانتي والشعري " فوضح فيه أن ميدان السمانتيات قاحل لا يحتوي على مصطلح " توفيقي ". ويرى بيرك أن مثله الأعلى كالمثل الأعلى عند السمانتيين هو " تطهير الحرب " ولكنه يحقق هذه الغاية بالتفتيش عن " مصطلحات تفصح عن المواقف التي قد ينشأ عندها الغموض " لا بتقصي المصطلحات التي تتجنب الغموض كما يفعلون هم. وقد قال في " نحو الدوافع " - وهو كتاب كتب في سنوات الحرب -:

وهكذا قد يتوجه فكر المرء نحو " تطهير الحرب " لا من أجل أن تستأصل الحرب من كل نظام تكمن فيه الدوافع نحو العراك - كما هو حال نظام الإنسان نفسه - بل من أجل أن ترهف الحرب إلى حد أن تصبح سلاماً، هو السلام الحق لا ما نسميه اليوم سلاماً.

ويستمد بيرك أيضاً عدداً من المبادئ والاستطلاعات من مدرستين سمانتيتين هما مدرسة كورزبسكي وأتباعه ومدرسة كرناب وموريس وإن لم يسلم لعلماء هاتين المدرستين بكل آرائهم. غير إنه إذا أستمد من أوغدن ورتشاردز أخذ آراءهما بكل تسليم، وعلى النقيض من ذلك موقفه من ثورمان آرنولد وستوارت تشيز فإنه يهاجمهما بعنف ويأبى أن يسلم لهما برأي. اللهم إلا مرة واحدة أثنى فيها على ثورمان لتفرقته بين " الحكومة السياسية " و " حكومة العمل ".

وفي الأيام الأخيرة أضاف بيرك إلى هذا " المركب " المؤلف من العلوم الاجتماعية والنفسية واللغوية والسمانتية وبعض العلم الطبيعي والبيولوجي - أضاف شيئاً من الفلسفات واللاهوتيات. وقد كان في البدء بعيداً عن نطاق الفلسفة حتى إنه يستعمل صور " المساومة " في " نحو الدوافع " أثناء

ص: 225

حديثه عن الفلاسفة فيقول: " هذه نقطة تستحق المساومة فيها والمماكسة إن شئت أن تساوم أو تماكس لأنك إن مررت بها عابراً دون أن تثير التساؤل من حولها فإنك تتيح لكانت فرصة كبيرة ". ويبدو إن بيرك " أصفق " في هذه المساومة أخيراً وتنازل عن تأبيه وأخذ يستمد كثيراً من توما الإكويني وأوغسطين ومن عدد آخر من القديسين ومن الفلاسفة ابتداء من أفلاطون وأرسطو حتى ني تشه وبرغسون وسانتيانا وكون لنفسه فلسفة ميتافيزيقية، حددها بمصطلح وضعي كان من قبل ينكره. كما أخذ لنفسه نوعاً من اللاهوت استغل فيه المصطلحات التي تدور حول الألوهية لا حول الآلهة لأن الآلهة في رأيه " أسماء للدوافع أو لمجموعات من الدوافع " يشترك فيها جماعة من الناس ولكل إنسان أن يعبد الله " حسب المجاز الذي يناسبه " وفي الجملة فإن بيرك قد أتخذ آلهته من المجازات والاصطلاحات والكلمات، حتى إنه حين يشير إلى الكتاب لمقدس فإنه يعني " المعجم ".

وهناك فكرة واحدة حقق فيها بيرك التكامل التام من بين هذه الاتجاهات جميعاً وتلك هي فكرته في " المسرحة " وهي ناجمة من كل أثر سابق ومن كل الأساليب والطرق التي نشبت فيها من قبل. وقد كتب في " المصطلحات الخمسة الكبرى " يقول إن " المسرحة " اصطلاح ليس من وضعنا وكل ما ندعيه لأنفسنا إننا نظرنا إلى المسألة بشيء من الاستغراب أكثر من ذي قبل حتى طلع التأمل ببعض الثمرات. وبدلا من أن نقول " الحياة رواية مسرحها هذا الكون " ونمضي عن هذا القول عابرين وقفنا عنده نتأمله طويلا، تأملا شاقا مضنياً ". وإن من يقرأ كتب بيرك بالترتيب يجد فكرة " المسرحة " قد تطورت عنده بالتدريج، من مبادئ معينة، إذ بدأ بيرك يرى إن هناك انقساماً دائماً في المبادئ المتناقضة ثم أخذ بالفكرة التي ترى إن النزعات " أعمال "

ص: 226

أولية، ثم إلى القول بالديالكتيك في جميع مراحل التأليف عنده وأحياناً كان بيرك يسوي بين هذه جميعاً ولكنك إن نظرت إليها بالترتيب وجدت فيها تطوراً وتعميقاً ينتهي بالمسرحة. وقد تعد هذه المسرحة - إلى حد ما - الديالكتيك المثالي عند كولردج وهجل، ولكنك إن أبعدت في فهمها وجدتها هي الديالكتيك العقلي عند " سيجموند فرويد ذلك الديالكتيكي المحدث العظيم "(تذكر أن بيرك قال في موضع آخر إن فرويد ليس ديالكتيكياً بالمعنى الصحيح) فإذا جمع بيرك بيم ماركس وفرويد تجاوز حدود الديالكتيك إلى ما يسميه هو المسرحة، وهو يحاول التوحيد بين ماركس وفرويد والجمع بينهما تحت شعار واحد وهو نظرية الدراما لأن فرويد يقدم لنا مادة المسرحية الفردية وماركس يقدم لنا مادة المسرحية القائمة على المشكلة الكبرى والأولى يتمثل فيها الصراع الفردي والثانية يتمثل فيها الصراع الجماعي. وإذا أمعنت النظر كرة أخرى وجدت مسرحة بيرك هي الديالكتيك السقراطي أي شفف سقراط بالتعريفات في محاوراته وذلك هو أيضاً ما ورثه أرسطوطاليس من أستاذه.

وإذا نظرنا من الزاوية الفلسفية وجدنا مسرحة بيرك مشتقة كلها من أرسطوطاليس ومن الواقعية الأرسطوطاليسية التي تتجلى عند مفكرين مثل توما الأكويني في نظرياتهم عن " العمل "(1) . أما في المصطلح الأدبي فيبدو إنه متأثر بمقدمات هنري جيمس وقد أطلع عليها بيرك في دور مبكر حتى

(1) هناك كاتب فذ متقن البحث من تأليف سكوت بوخاتان عنوانه " الشعر والرياضيات " 1929 ولعل لهذا الكتاب أثراً في توجه بيرك نحو فكرة " المسرحة " وإذا كان بيرك قد أطلع على هذا الكتاب فإنه استوحى منه بعض المجازات من مثل: الإنسان آلة - الإنسان حيوان الخ؟ ذلك لأن الكتاب المذكور معالجة للأدب التخيلي من خلال المجازات الرياضية ومعالجة للرياضيات والعلوم من حيث هي تعبير عصري يشبه الدراما التراجيدية اليونانية في عصرها.

ص: 227

إنه حين نشر مقالا عن جيمس في المجلة الجنوبية شتاء 1942 كتب يقول: " إن ما نقرؤه من مقدمات هنري جيمس هو فكرة مسرحية فهنالك يقدم جيمس لنا تحليلا لدوافع القصص بمصطلحات يستعملها المسرحي ". وفي مقالة " الدوافع والموضوعات في شعر ماريان مور " المنشور بمجلة Accent ربيع 1942 استعمل لأول مرة هذه المصطلحات الثلاثة: " الفعل " و " المشهد " و " الفاعل " وقال فيها: " إنها المصطلحات التي تدور عليها فلسفة المسرحية المشمولة في مقدمات هنري جيمس ". ثم يعود فيشير إلى هنري جيمس في مقال آخر ويقول:

إن مقدمات هنري جيمس في جملتها لتصور مدى أوسع من هذا في استعمال المتلائمات " المسرحية " وكثير من ملاحظه يتعلق بأمر العلاقة بين الفاعل والمشهد. وكثير غيرها يتعلق بفكر المؤلف من حيث هو مصدر للعمل أي العلاقة بين الفاعل والفعل وكثير منها يدور حول مجرد العلاقات الداخلية القائمة بين العمل والمشهد والفاعل في أية قصة معطاة غير إنه في المقدمات يعالج القصة بمصطلح مسرحي، عامداً وعلى نحو منظم.

وهذا بعينه هو الإلحاح على جعل " الدراما الشعائرية " موثلاً تنضوي تحته كل أفكار بيرك وتتلاءم معه حتى نظرية باجت في أن الكلام إشارات تتلاءم وهذه النظرة الشاملة. ويقول بيرك: " بما أن الأحداث الإنسانية درامية. فالحديث عن الأحداث الإنسانية يصبح نقداً درامياً ". وهذه الدراما الشعائرية ذات مراحل ثلاثة هي الغاية فالعاطفة فالإدراك ويقول بيرك: " من فعل الفاعل تنجم العاطفة ومن معاناة العاطفة تنشأ معرفته للفعل الذي يؤديه وهي معرفة تستعلي إلى حد ما فوق فعله ".

وعلى هذا تقوم شعيرة " العمل الرمزي " على أساس من شعيرة

ص: 228

جماعية قديمة. وشعيرة العمل الرمزي هي البديل الذي قدمه المجتمع الحديث في مقام الشعيرة الجماعية. حتى أن اشتداد الناحية الجنسية ليعد بهذا المعنى رقصة شوة فردية تحل محل الراقصة الشهوية القبلية التي تلاشت. ومن ثم اعتمد قسط كبير من مسرحة بيرك على الانثروبولوجيا وعلم أصول السلالات " الانثولوجيا ". وقد كتب رانسوم يصف مذهبه فقال: " يبدأ بيرك بأن يعد الشاعر طبيباً والقصيدة دواء. وهو مرهف الحس على بقايا الشعائر: كالحرام والعناصر الفتيشية، واطلاق الأسماء وما أشبه ". والحق أن بيرك عني كثيراً بسلوك الجماعات البدائية مستمداً على نطاق واسع تعميمات علماء نظريين مثل فريزر وتقريرات علماء تجريبيين مثل مالينووسكي. وقد أعجب بكتاب " الغصن الذهبي " لفريزر وقال إنه " هزلي " وهي أرفع كلمة تقريظ يستعملها وإنما استحق الكتاب ثناءه لأنه " يدلنا على طقوس التطهر السحري عند الشعوب البدائية وبهذا يقدم لنا التلميحات الضرورية التي تعيننا على كشف عمليات مشابهة في أعمال الشعوب المتحضرة التي انقطعت صلتها بالشعائر ". ولا أعرف أن بيرك أشار إشارة مباشرة إلى مدرسة كمبردج أعني إلى أولئك الدارسين الذين طبقوا نظريات فريزر في الكشف عن نماذج الشعائر الدرامية القديمة الكامنة في أساس الفن والفكر الإغريقي أمثال مري وجين هاريسون وكورتفورد وكوك؟ الخ. ويبدو إنه لم يقرأ شيئاً مما كتبوه ولكن كثيراً من آرائه وبخاصة في كتاب " البطل " لراجلان وتحدث عن استحسانه له، وكان لا يرى بأساً في تسمية نقده " النقد الشعبي " وهذا قد يشير " لى معرفته بآراء فلاسفة تلك المدرسة أو يدل على توارد عجيب في التفكير.

ويحتاج مصطلح بيرك منا بعض التوقف والتقدير. وهو مكثر من

ص: 229

تفريع المصطلحات مثل بنثام وبيرس وفبلن، وقد عبر بيرس بسخرية عن رأي بيرك ووصفها بالصرامة المتعبة، وقد جاء فيها:

من طبيعة العلم أنه لابد له من معجم فني معترف به، مؤلف من كلمات لا تجذب المتهاونين من المفكرين لاستعمالها ومن طبيعته أيضاً إنه بحاجة إلى كلمات جديدة كلما جد فيه مبدأ من المبادئ على أن تصاغ في نهج مسلم به مشروع. ومن الهام الحيوي للعلم أن كل من يضع فكرة جديدة وجب عليه أن يأخذ على عاتقه اختراع سلسلة من الكلمات المنفرة للتعبير عنها، وأني لأرجو أن تفكر بجد في المظهر الأخلاقي لوضع المصطلحات.

ولم يكن من مبدأ بيرك أن يخترع كلمات جديدة دائماً كما كان يفعل بيرس بل إنه كان مثل فبلن يبعث الحياة في الكلمات القديمة أو يعيد تحديدها حيث أمكنه ذلك. (يخبرنا رتشاردز إن المشرعين الصينيين يستحسنون أن يعاقب بالموت كل من يخترع مصطلحات جديدة (، وفي استعمال الكلمات القديمة لتعبر عن معنى دقيق جديد خسارة وربح معاً. أما الربح فقد لحظه جوبير الذي كان يلح على استعمال الكلمات الشائعة اليومية حتى في موضوع مثل الميتافيزيقا إذ قال: بذلك يتجلى للناس ما يفكرون فيه بمصطلحاتهم وبذلك يوحي الأديب لهم بأنه يوفق بين الحياة ومصالحها. وأما الخسارة فقد لحظها كولردج الذي صنع كثيراً من الألفاظ إذ قال:

" في مثل هذا المجال العلمي ليس أمام المعلم المرشد إلا أحد طريقين: إما أن يستعمل الكلمات القديمة بمعاني جديدة كما يفعل لنايوس وواضعوا المصطلح

ص: 230

الكيميائي. وأنا أفضل الطريقة الثانية لأن الجولة الأولى تستنزف جهداً مضاعفاً من الفكر، في عمل واحد، لأن على القارئ أن يتعلم المعنى الجديد، وأن ينسي نفسه المعنى القديم الذي ألفه وهي عملية عسيرة محيرة، فإذا كره أحد الطريقة الثانية وتجنبها تجنباً للتصافح فإني أرى التفاصح أقل كلفة من الطريقة الأولى ".

وقد سلم بيرك بأنه " إن كان في مقدورنا أن نستعيد مصطلحاً غير ملائم قد مات دون أن ينكر لموته أسباب كافية فإن بعثه إلى الحياة يحمل شراً أقل من الشر الذي يصاحب الصياغة المخترعة ". ولذلك فإن بيرك يكسب عدداً من القيم الحقة كلما استعمل الكلمات المألوفة بشيء من التحوير في المعنى أو أعاد لها المعنى الذي مات ولم يكن مألوفاً. أما أن الناس لا يرون في كلمة " هزلي " نفس المعنى الذي يراه ولا يرون في " الصلاة " ذلك المعنى الذي يريده فذلك هو المسؤول عن الاضطراب الذي يقع فيه قراؤه وربما كان هو السبب أيضاً في قلة من يقبل عليه من جمهور.

غير إن مصطلح بيرك من الناحية الأخرى كان يتدرج دائماً نحو مزيد من الوضوح وكل مجموعة خالفة فيه تتطور من مجموعة سالفة حتى إن الحماسي المسرحي: الفعل والمشهد والفاعل والأداة والغاية قد يرضي جوبير نفسه لأنه مستمد من الكلام الشائع المألوف. ويقول بيرك:

" يجب أن تكون غايتنا دائماً هي أن نسير بمصطلحنا نحو الكمال لأن المصطلح الملائم يتضمن تنبيهات وتحذيرات ملائمة، ومما هو أساسي في المبنى المصطلح حاجته لى التركيب أو المرونة لا أعني التركيب الناشئ من تعدد المصطلحات وإنما أعني تركيباً منذ البدء فيها ".

وقد كانت فكرة " المسرحة " وما يدور حولها من مصطلح من المجازات التي ثابر عليها بيرك من البداية إلى النهاية وطورها بالتدريج

ص: 231

ولما كتب " فلسفة الشكل الأدبي " عام 1941 كان قد وضع مصطلحين من خماسي الدراما وهما الفعل والمشهد؛ وفي بعض هوامش ذلك الكتاب شرح المصطلحات الخمسة ونبه إلى أنه سيتناولها من بعد بالتفصيل، وفي الوقت نفسه نشر مقاله " المعنى السمانتي والشعري " وميز فيه المثل الأعلى الشعري وقال إنه تغلغل في الدراما لا دوران حولها، وقال في مقال آخر:" إن العلاقات الإنسانية يجب أن تحلل بالنظر إلى الإرشادات التي استبانت بعد دراسة الدراما ".

وهناك مصطلح آخر - مجاز - حافظ عليه بيرك أيضاً في كل كتبه وذلك هو استغلاله اصطلاحات العمل وشئون المال للتعبير عن أمور غير مالية، وهي خطة يشاركه فيها ثورو. وفي هذا المجال استعمل بيرك ألفاظاً مثل: الاستثمار وتعميم الخسائر " والتجيير " والحطيطة وغيرها في أمور الفن والفكر، وقد قال في الدفاع عن هذه الطريقة:" إن المصطلح الرأسمالي فذ لأنه يبسط العمليات الاجتماعية على شرط أن تضيف إليه البند الهزلي ". ويسمى بيرك طريقته هذه " تأملية - مالية " في مقال كتبه بالمجلة الجنوبية ربيع 1941 ويضيف إلى ذلك هذه العبارة التأسفية:

" إنني استعمل هذا المصطلح المزدوج المعنى " Speculative " (1) وأنا على وعي بازدواج معناه لأني حين أسمي نفسي " Speculator " أعتقد اعتقاداً تاماً إنني أوضح قيمة اجتماعية تأثرت بهذا الازدواج مع إنني يجب واأسفاه أن أتحدث كأنني شخص ليس له مجال في هذا الموضوع، شخص لا ينال المعرفة فيه إلا حين يشرحها له المختصون أصحاب الشأن، شخص يملك المال في عقله [أي التأمل] لا المال الذي في كيسه ".

(1) هذه الكلمة تحمل معنى " التأمل " ومعنى الدخول في المضاربات المالية.

ص: 232

أما المصطلح الخماسي الدرامي الذي أوجده بيرك فهو ثمرة لمجموعات من الثنائيات والثلاثيات التي حاولها قبله كثيرون. وبه أراد أن يوجد مصطلحاً شاملا يطبق على أي مجال. وهو كما وضح بيرك نفسه ذو صلة بالعلل الأربع التي سماها أرسطوطاليس: الصورية والمادية والفاعلة والغائية: وفي مقابلها وضع بيرك - على التوالي - الفعل والمشهد والفاعل والغاية على أن تكون الخامسة وهي " الأداة " داخلة في العلة الغائية. وكذلك سوى بيرك بين خماسيه والعناصر الست التي ذكرها أرسطوطاليس في المأساة وهي: العقدة الفعل، والشخصية الفاعل، والفكرة الغاية، والموسيقى والكلام الأداة، والمنظر المشهد. وقد أوجد بن جونسون بعد ارسطوطاليس ثالوثاً مكوناً من القصيدة والشعر والشاعر وهذه الثلاثة تقابل الأداة والفعل والفاعل عند بيرك. أما ثنائية لسنج في اللاوكون: أي " الأشخاص - والأعمال " فإنها تقابل المشهد والفعل عند بيرك. وأما ثالوث أمرسون المكون من العلة والعمل والنتيجة أو ما يسميه بلغة الشعر جوبتر وبلوتو ونبتون ويسميه باسم الثالوث المسيحي أو ما يسميه: العارف والفاعل والقاتل - هذا الثالوث يقابل الغاية والفعل والمشهد أو الفاعل عند بيرك؛ ولدى آرنست فنولوزا في مقال عنوانه " الكتابة الصيني من حيث هي وسيلة لنقل الشعر " - لديه ثالوث مكون من الفاعل والفعل والغاية وهو مقارب لخماسي بيرك.

وهناك مظهر هام عند بيرك لم يقدر حق قدره أعني العلاقة بين القصيدة والجمهور أو ما يسميه بيرك " البلاغي " أو " الخطابي "، وقد خصصه الناس متعسفين برتشاردز وعدوه ميدانه المطلق. غير إن بيرك عني به أيضاً عنايته بالعمل الرمزي بل زادت عنايته به على العمل

ص: 233

الرمزي في كتابيه " مقولة مضادة " و " الثبات والتغير ". وفي " فلسفة الشكل الأدبي " يقترح بيرك علاقة بين الشاعر والقصيدة وبين القصيدة والجمهور - علاقة تمزج العمل البلاغي بالعمل الرمزي في الجمهور فيقول:

إن ما يؤديه العمل الفني للفنان نفسه من أمور ليست هي نفس الأشياء التي يؤديها ذلك العمل لنا لأن هناك فرقاً بين القصيدة مكتوبة والقصيدة مسموعة. وبعض هذه الأمور مشترك بيننا وبين الفنان نفسه وبعضها غير مشترك.

ولكن هذا هو رأيي: إذا جربنا ن نكشف عما تؤديه القصيدة للشاعر استطعنا أن نكشف مجموعات من التعميمات التي تدلنا على ما تؤديه القصيدة لكل إنسان أيضاً فإذا تذكرنا هذه الأمور أصبحت لدينا دلالات تمكننا من تحليل نوع " الحدث " الذي تحتويه القصيدة وبتحليل هذا النوع المذكور نستطيع أن نكشف عن مبنى العمل الفني نفسه.

إذن فإن القصيدة تؤدي شيئاً للشاعر وقرئه وهذا الذي يبثه الشاعر في القراء هو " البلاغي " أو هو " النقل " وإنما يسمى بهذا الاسم تمييزاً له عن " التعبير " ويسميه بيرك " الصلاة " حيث يتحدث عن ثالوثه: الحلم والصلاة والمخطط وأحياناً يسميه " اختيار الإشارة " ليصور نزعة الشاعر وهو يحاول أن " يغري النزعات الأخرى ويجتذبها " فالقصيدة على هذا عمل رمزي من الشاعر ولكنها تتخذ لها مبنى ولذلك تمكننا نحن معشر القراء من أن نعيد وجودها وبذلك تكون القراءة نفسها تمثيلا للشعائر الرمزية.

وقد درس بيرك هذا الجانب التأثيري " البلاغي " في مقالين مسهبين، أدرجهما في " فلسفة الشكل الأدبي " أحدهما عنوانه " أنطونيو يدافع عن الرواية " وهو حديث ذاتي (مونولوج) طويل يوجهه أنطونيو إلى الجمهور

ص: 234

ليشرح لهم وسائل شيكسبير كما تتمثل في خطاب التأبين عند مقتل قيصر والثاني عنوانه " ترجمة المحاكمة " من (رواية الليلة الثانية عشرة) وهو تفسير آخر أقل شأناً منه الأول يوجهه الدوق. وقد عد بيرك هاتين الدراستين تفسيراً للعلاقة القائمة بين القارئ والكاتب والأصح أن تعدا دراستين للعلاقة بين القارئ والقصيدة. أما دراسته الأتم فهي " بلاغي معركة هتلر ". وهي حقاً دراسة للعلاقة بين القارئ والكاتب لأنها تتناول تعبير هتلر الرمزي في الكتاب والعمل الرمزي عند الجمهور الذي يقرؤه والعلاقة البلاغية بين الاثنين. وهذه الدراسة توحد بين الخاص والعام وبين الدراسة النفسية الموجهة لتعمق ما تستطيع بلاغة التعبير نقله إلى الجمهور.

ويحاول بيرك في " مقولة مضادة " أن يطور فكرة البلاغة أولا بالتمييز بين المعالجة الشخصية والنغمية ثم بين الواقعي والخطابي؟ ثم بالتمييز بين المعالجة الشخصية والنغمية ثم بين الواقعي والخطابي؟ ثم بالتمييز بين سيكولوجية الخبر وسيكولوجية الشكل، أما الشكل فإنه " سيكولوجية الجمهور " أي " هـ إثارة الشهوة إلى الاستماع في فكر المستمع وإشباع تلك الشهوة أو هو إثارة الرغبات وإرضاؤها " - وهذا يساوي ما يسميه " البلاغة " وليس ذلك كله إلا الأدب التأثيري.

ويتسع مبدأ " العمل الرمزي " عند بيرك وفكرة " البلاغة " حتى يشمل كل التوافه من كل نوع حتى إن بيرك ليستمد أمثلته من السينما ومن الأحاجي التي تقدمها الإذاعة ومن أخبار تنقلها إحدى الجرائد من الجمعية العامة للصناع عن كل ما هب ودب. وهذه الأمور كلها أنواع من الشعر مليئة بالعناصر الرمزية والبلاغية وإن كان شعراً رديئاً فإنه شعر رديء ذو أهمية حية في حياتنا وحين يغمس بيرك نفسه في هذه " البؤرة " الرخيصة يتبدى لنا كأنما هو ملك يضحي بنفسه من أجل أن تنمو مزروعات القبيلة.

ص: 235

5 -

لقد عرضنا فيما تقدم رأي بيرك في المواقف والخطط والنزعات والدوافع والعمل الرمزي والغايات، فلنقل كلمة في الأمور حسبما تنطبق عليه لا على غيره.

1 -

ولنبدأ الحديث عن آثاره خارج المجال النقدي الحق، وهذه الآثار نوعان:

(أ) القصص: وقد نشر بيرك مجموعتين هما " الثيران البيض " وهي مجموعة من القصص القصيرة، عام 1924 و " نحو حياة أفضل " وهي سلسلة من الرسائل أو الخطب عام 1932 وكلا الكتابين دقيق معقد غامض رصين الأسلوب جزل، والأول يتدرج من قصص واقعية إلى قصص محيرة برموزها وخطابتها وكأنها " مقولة مضادة " تعلي من شأن الأسلوب الخطابي حين كان هذا الأسلوب مشنوءاً محتقراً. وأما الثاني فهو عودة إلى أساليب " ديوانية " في الكتابة ولا يهتم بالحبكة إلا اهتماماً عارضاً ولكنه يهتم كثيراً بما يسميه بيرك " الأقطاب الستة " وهي " الندب والحبور والترجي والتحذير والتقرير والتعزير ". ولم يكسب هذان الكاتبان رواجاً وقل من قرأهما أو أعترف بهما ولكنهما أثرا في بعض الكتاب وأثنى عليهما وليم كارلوس وليمز وهاجمهما أيفور ونترز وقال إنهما " أبلد من قصص تاكري " والثاني منهما يتراءى لي من خير القصص في عصرنا. وهما من حيث صلتهما بنقده يعكسان كثيراً من أفكاره ويطبقان كثيراً من نظرياته ويعملان على " وضع " الدوافع الإنسانية مواضعها من زاوية جديدة. وقد كتبهما مطبقاً فكرته البلاغية ولكنهما من بعد أعاناه كثيراً

ص: 236

في التعريف بالعمل الرمزي والتمثيل عليه.

(ب) المراجعات والترجمات والقصائد: تعلم بيرك كثيراً من المراجعة. وكان موضوع المراجعة في هذا العام مثلا يصبح مرجعاً لمراجعة تالية في العام التالي وقد أبعد عن نطاق الأدب التخيلي في مراجعته فوسع من آفاق إنتاجه وكان يستخرج الأفكار النقدية من مشكلات تنشأ من مراجعاته وكثيراً ما أدرج تلك المراجعات في خلال أعماله النقدية، وقد كتب بيرك أيضاً نقداً في الموسيقى ونقداً في التصوير وفي كتابه " مقولة مضادة " إشارات إلى النواحي الموسيقية والتصويرية، كما إنه ترجم كثيراً من الألمانية من ذلك أقاصيص لتوماس مان وكتابات من اشبلنجر واشتتزلر واميل لدفغ وغيرهم ونشر عدداً من القصائد أكثرها طليق من الوزن خطابي الأسلوب ينص على السخرية والنقد الاجتماعي ولكنها لم تجمع في كتاب.

2 -

آراؤه الاجتماعية: توجد هذه الآراء في شعره، وعلى نحو أغمض في نقده وكلها معقدة غامضة. وأبرز العناصر فيها مقته للتقنولوجيا والحضارة الآلية ومذهب " الكفاءة " و " المستوى العالي من المعيشة " وما أشبه، ولذلك قاوم هذه الاتجاهات في كتبه منذ البداية حتى النهاية. وقال:" إن المبدأ الجمالي يحاول أن يحط من القيم الموجودة في الاتجاه العملي ويحاول بالذكاء أبالخيال أن يحدث اضطراباً في القانون القائم في العمل التجاري والتنافسي الصناعي وبطولة الحرب الاقتصادية ويعمد إلى أن يزعزع أعمدة الصناعة ". هذا هو ما قاله في البيان الجمالي الذي نشره في " مقولة مضادة " ثم استمر يعتنق هذا في ختام كتابه " الثبات والتغير " وعنف لديه هذا الإيمان في " فلسفة الشكل

ص: 237

الأدبي " فوصف البناء الاقتصادي بأنه مهين يدفعنا إلى عمل أمور مهينة. وجعله تشاؤمه يرى إننا مقبلون على " فصل سياسي عابس مكفهر " وإنه لا ينقذنا منه إلا الدعوة إلى التكامل الذاتي. ثم تخف مرارة هذه النظرة الاجتماعية في كتاب " نحو الدوافع " ويقل فيها التشاؤم ولكنه لا يزال يعادي الاتجاه نحو الآلة والمستوى العالي من العيش (1) ، والمصاعب الهائلة التي يقع الناس تحت وطأتها من أجل الحصول على فوائد تقنولوجية ولا يقول ثمة أن النظام الصناعي والدافع المالي " مهينان " بل يقول إنهما " اليمان قاسيان " ويستشف أملاً ما حين يقول:

حين يسيطر على سياسة المجتمع الكذابون والأغبياء والجشعون فإن فلسفات التقشف المادي قد تبعث في نفوسنا بعض العزاء لأنها تذكرنا أن تلك المواد عينها التي تتكون منها مدينتنا أو التي نبتت مدينتنا فيها لن نسمح للكذب والغباء والجشع أن تسيطر على النفوس حين يسيطر بعض الناس أن وجدوا إلى ذلك سبيلا.

ويقترح بيرك في النهاية أن يأخذ الناس بشيء من " الزهد الرواقي " لأن الناس لن يقفوا عن تطوير التقنولوجيا سواء أكان ذلك لخيرهم أو لشرهم.

وفي هذه النزعة نغمتان افترقتا بعد زمن. الأولى رفض الآلة والتقنولوجيا والتصنيع في كل مجتمع، ويقاوم بيرك هذه الأمور بالتقليل من " شد الأحزمة " والتقليل من الحركة والتكثير من العمل وتكييف الكفاءات مع حال البيئة. وهذا هو أشد آرائه رجعية ويشاركه فيه أمثال

(1) نشر بيرك مقالا سنة 1947 بعنوان " الطريقة الأميركية " فوصف الحضارة الأميركية بأنها مشتقة من ذلك المبدأ التعميمي " المستوى العالي من العيش " الذي أنتج مبادئ فلسفية وجمالية تعبيراً عنه أو رد فعل له.

ص: 238

ثورو وأتباع جفرسون وهذا ما دعا هنري بمفورد باركس أن يقول " كم كا يتمنى لو عاش في الصين في أيام كونفوشيوس " وهذه النغمة في أقصى الطرفين تمثل كرهاً للعلم نفسه، وصدق المراجع الذي قال إن بيرك، كالعجائز في مجتمع يكره التشريح، ينزع إلى أن يرى العلماء التجريبيين " ساديين يتلذذون بتعذيب الفيران ". أما الطرف الثاني فإنه قد يجد خيراً في التقنولوجيا بل يدافع عنها ضد عالم آثار اسمه كدر في مقالة له عنوانها " طابع حضارتنا " واجداً أن القيم الحقة فيها - وإن كانت سلبية - تخفف من فساد المحاصيل والأوبئة والكوارث الطبيعية الأخرى وفي الوسط بين الطرفين يعيش هو - جاعلا من حياته مثلا - جامعاً بين البسيط والبطيء والحياة الزراعية والتقنولوجيا اللازمة له من عربة وقطار ونفق لتوصله إلى المكتبة العامة في نيويورك.

أما النغمة الأخرى في نزعته الاجتماعية فليست هي اعتراضه على التصنيع في ذاته بل على مظاهر معينة في النظام الرأسمالي. فهو في " الثبات والتغير " يؤمن بالشيوعية ويقترح مادية ديالكتيكية معدلة تسمى " بيولوجيا ديالكتيكية " وحياة " شاعرية " منهجية تتحقق من خلال المجتمع الشيعي ومن وراء فاقه وهو يقول: إن الشيوعية " هي الحركة الوحيدة المنظمة المنسجمة التي تعمد لإخضاع العبقرية التقنولوجية للغايات الانسانية " وهي تستقطب كل الكلمات التي تبدأ بحرف " C " مثل: Co - operation، Communication، Communion، Collectivism، Communicant. ويستكشف في " نزعات نحو التاريخ " أن الجماعية أمر لا معدى عنه ولكنه يقترح الشيوعية الجماعية مضيفاً إليها بعض التحسينات " الهزلية " ثم تبدى في مقال " الحياة الطيبة " أن مثله الاجتماعي الأعلى هو العالم الكونفوشي. وظل يشير من بعد باستحسان إلى المادية الديالكتيكية ولكنه ابتعد عنها كثيراً في كتبه الأخيرة ولم يعد يسمي مثله الاجتماعي الأعلى

ص: 239

- وهو زراعي لا مركزي - باسم شيوعي.

3 -

أفكاره في النقد وعلاقتها بآرائه في الحياة: مرتبطان ارتباطاً لا انفصام له. وهو يضعهما على صعيد واحد من التجريد حتى إنهما يتلاحمان. ومفتاح آرائه في النقد: " كل الأحياء نقاد " ويمثل على هذا بسمك السلمون فانه يصبح ناقداً بعد أن ينشرط فكه ويصبح قادراً على التمييز بين العم والطعام. والناقد في رأيه ناقد للحياة مثلما هو عند ماثيو آرنولد ومهمته ان يقدم مؤثرات مضادة ما استطاع إلى ذلك سبيلا وان يوجد التكامل بين النقد التقني والنقد الاجتماعي وأن يختبر الأشياء دون تهيب والشاعر ساحر " منوم " ومهمة النقد هي رفع العقيرة لإيقاظ النائم ومهما يكن من أمر الشعر فالنقد في خير أحواله " هزلي ".

وهذه النظرة ليست تحقيراً للشعر لان بيرك يؤمن أن الشعر قريب إلى القيم المركزية في وجودنا إيماناً لم يفارقه أبداً، سواء أكان الشعر غنائياً أو فلسفياً أو منهجاً من منهاج العيش. وهو يرى الشعر عدة للعيش يريحنا ويحمينا ويزودنا بالسلاح. وهو في الوقت نفسه يؤكد الإحساس الشعري أو ما يسميه بلاكمور " الخيال الرمزي " ويراه المظهر النقدي الذي لا مظهر وراءه، ويقول:

ينشأ الاعتراض حين يزور فلاسفة العلم وينكرون ان المقدرة العلمية تتطلب صنواً مناقضاً يسمى أحياناً البصيرة أو الخيال أو البداهة أو الإلهام؟ ومع أن المرء يستطيع أن يجزئ العمل الفني في عناصر عدة ويصل بالاختبار إلى تفرقة عادلة حقة بين تلك العناصر فان الطريقة العلمية لتعجز عن ان تواجه هذه العناصر في حال " التركيب " لا في حال التجزئة.

وهناك عنصر هام في منهج بيرك هو العنصر الموجود في التهكم أي الفكاهة أو ما يسميه " الهزلي " فهو يقول في تعريف الفكاهة: " إنها

ص: 240

" الصبغة الإنسانية " التي تمكننا من قبول معضلاتنا. ويعرف التهكم بأنه: " الصنعة " التي تنشأ عن إحساس برابطة بيننا وبين العدو. أما " الهزلي " فانه النزعة " الخيرة " السمحة التي تشمل التناقض الناشئ من ازدواج القبول والرفض والأخذ والإعطاء. وهذه الأمور في أساسها مظاهر لشيء واحد وهي معاص تمثل نزعة التشكك والمحافظة " والتخلي عن السير قبل الوصول إلى نهاية الشوط " والمناقضة والخصم. فالحياة الخيرة لا تكون في نظر بيرك خيرة بل هي هزلية تهكمية وربما كانت أيضاً مضحكة - حياة لا توصف بالجلال والعزة. ولقد قال بيرك في إحدى مقالاته الأولى:

" العزة النفسية؟ أجل يبدو أن هناك توقاناً في النفوس للعزة النفسية بل هناك إثارة من مظهر هستيري شاذ في هذه الحاجة إلى العزة. ان العزة من صفات المغلوب فالمرء يغادر الغرفة حفاظاً على عزته لان كان مقهوراً أما المنتصر فانه يستطيع ان يمرح ويهارش الآخرين. فالعزة أذن محاولة ذاتية لتصحيح الوضع أما من الناحية الموضوعية فأنها لا تنطوي على شيء من الدماثة، وهي ظاهرة غير بيولوجية فأن العزيز لا يستطيع ان يهرب إذا قابله الأسد غير أن المرء يواجه الحقائق - مواجهة موضوعية - دون عزة ويضحي المرء بسلطته حين يسأل ما هي الحطة التي يريد ان يوقعه فيها هذا الشيء الخارجي. العزة بطليموسية وفقدانها كوبرنيكي. لقد قال أحدهم: أن تطور الإنسان في أوروبا قد افقده عزته النفسية بمقدار ما منحه من السيطرة على الطبيعة ".

4 -

أسلوبه الكتابي في النقد: لقد كان الجمهور الذي يقرا بيرك قليلا دائماً وان كان يزداد مع الزمن وقد راج كتابه " نحو الدوافع " رواجاً دل على نجاح واعتراف عام، يناله بعض الفنانين - ومارتا غراهام مثل آخر - الذين يستعصي فهم التكامل في آثارهم - ينالونه في أواخر حياتهم

ص: 241

بعد أن ينزاح من أمامهم جيل رائج الكتب، قصير عمر الشهرة. أما السبب في عدم إقبال القراء عليه أو عزهم عن قراءته فانه يرجع إلى تهمة " الغموض " أو " الرطانة " التي يستعملها. ولقد قال في " مقولة مضادة " دون أن يهدف إلى الدفاع عن نفسه:" هناك أشكال من البراعة كالتعقيد والحذاقة والعمق والصرامة في الأسلوب تحدد من رواج الكتاب حتى يصبح كأنما هو كتاب في الرياضيات العالية ". والحق في كتابة بيرك في ذاتها واضحة مستقيمة غير ملتوية أما الغموض فمرجعه إلى المبادئ والمصطلحات حتى أن كرو رانسوم أقصى ناقديه لم ينكر عليه أبداً جمال الأسلوب الأدبي. أما اتهامه بالرطانة فانه اتهام صائب لأنه منجذب أحياناً إلى الأسلوب الفلسفي الألماني ويدافع عن " تسمياته المحيرة " ويعدها " نوعاً من الشعر " وهو يقترب من رطانة تلك الفلسفة في مصلحات استعملها مثل المبدأ الملثوسي الجديد - المنظورات من خلال التباين، وهكذا.

وليبرك أيضاً انتحاءات أسلوبية مزعجة لقرائه منها استعماله الكلمات حسب المعاني التي يريدها، ووضعها بين معقفين " " وتذييل متنه بالشرح والتعليق وقد تكاثرت هذه التعليقات في كتبه على شكل قوس فكانت قليلة في " مقولة مضادة " وكثرت في " الثبات والتغير " وازدادت في " النزعات " وعادت تقل في " فلسفة الشكل الأدبي " وانعدمت في " نحو الدوافع ". وقد بلغت التعليقات بقدر المتن في " النزعات " وتوازت معه توازي الخاص والعام، والعارض والعمد، والإيحائي والساطع. وقد نثر في الحواشي إيحاءات بأشياء لم يسعفه الزمن على مزاولتها مما قد يحتاج " فيلقاً " من النقاد يعملون فيه طوال حياتهم. كذلك فان إدراج مادة في الحاشية مغايرة للمادة التي في المتن تصيب القارئ بالشيزوفرانيا، ولعل هذا الازدواج نفسه يوحي بانفصام في عقل بيرك نفسه لكنه استطاع أن

ص: 242

يتغلب عليه مع الزمن. وأخيراً يبدو أن أسلوب بيرك مبني على التكرار الكثير كان يقرر الشيء نفسه ثلاث مرات مستعملاً وجهاً من المجاز في كل مرة، بدلا من ان يقرر الشيء مرة واحدة وينتهي منه. وهو يمزج بين المجازات بخبث ومكر.

ومن المظاهر البارزة في أسلوب بيرك اعتماده الكثير على النادرة والتورية والتلاعب اللفظي غير أن نوادره الموفقة رائعة لأنها تحتوي فكاهة ساخرة لاذعة. وللتورية مكانة أهم في كتاباته، فهو يضع فيها لب ما يريد أن يقوله وتوريات بيرك مثل توريات شيكسبير مجازات خاطفة أو تعقيدات إمبسونية أو منظورات من خلال التباين يقويها بشغفه في الاشتقاق ومعرفته بدلالات اللغة في المقامات المختلفة بما في ذلك دلالتها في المقام السيكولوجي.

ومظهر آخر في أسلوب بيرك زاد اهتمامه به في الكتب الأخيرة، وذلك هو عدم تورعه عن استعمال الألفاظ المكشوفة والفحش. فهو يرى ضرورة المهادنة بين " التراب " و " السماد " ويسمي إنتاج فرويد " تفسيراً للبراز " ويسمي الرواقية " استعلاء فوق الغائط " ويقول في رواية إليوت " حادثة قتل في الكاتدرائية " أنها " معبد فوق مرحاض " وفي كتاب " نحو الدوافع " يفسر ما يسميه " الثالوث الشيطاني " أي العلاقة بين المنوي والبولي والبرازي (1) .

5 -

ما هي حصيلة إنتاج بيرك؟ يبدو أنه إنتاج مشعث مترام الأطراف لا يدور حول مركز ولكنه خصب شديد الإيحاء واري الزناد والدليل على هذا انك تستطيع أن تحول كلام بيرك إلى أمثال سائرة مثل قوله: أميركة بلد يتمت فيه الموت بسمعة سيئة - انك لم تقارف

(1) لقد استطيع ان أجد هنا تفسيراً آخر لاهتمام بيرك بالمواد السينمائية والإذاعية وما ينشر في الصحف - استطيع ان أقول انها مظهر آخر من مظاهر هذا الشغف بالنواحي المفحشة المكشوفة.

ص: 243

الإفساد - لكل إنسان الحق في ان يعبد الله على حسب مجازه - مت مثلما يموت الزنبار المشوه - لقد قدم هذا الرجل خيراً للمظلومين ثم جعلهم ظالمين؛ وهكذا.

ومع كل ذلك نستطيع أن نقول أن إنتاج بيرك دقيق التنظيم وأن منهجه النقدي شامل شمولا عجيباً بل هو اشمل منهج تسلطه على قصيدة بمفردها. وكلما سلط بيرك واتباعه هذه الطريقة على قصيدة إثر قصيدة توقعنا أخصب فترة من فترات النقد لا تدانيها فترة أخرى. وكم يتمنى المرء لو أن بيرك تناول بالدراسة المسهبة قصة مثل " موبي ديك " إذن لحصلنا على ثروة لا حد لها في مجال التحليل. وهنا اعتراض قد يثور تواً وهو: هب ان القصيدة تحطمت تحت وطأة هذه " المدفعية " الضخمة من النقد. في مثل هذا الموقف نظل نحسن الظن بميل بيرك إلى التواضع والروح الفكاهية التهكمية التي تكف يده في الوقت المناسب عن الإطاحة والتشفي.

وقد هاجم بلاكمور طريقة بيرك واتهمها بأنها قد تطبق؟ على شيكسبير وداشيل هامت وماري كوريللي على السواء وتثمر بنفس المقدار ورد بيرك في " فلسفة الشكل الأدبي " على هذه التهمة فسلم بها أولا ثم قال: " إنك لا تستطيع أن تفصل بين شيكسبير وماري كوريللي الأبعد أن تضعهما أولا جنباً إلى جنب. قرر النوع ثم قرر الفصل. - كلاهما أديب، هذا هو النوع، أما الذي يحدد مجال كل منهما فهو الفصل - أي الخصائص الفارقة ". وهذا هو الذي نستفيده من نقد بيرك - هو الفصل - ومن دراستنا للنماذج التي يعرضها في تطبيق منهجه نستطع ان نطمئن إلى أن هنا نقداً لا يدانيه نقد آخر في القوة والصفاء والعمق وألمعية الإدراك.

ص: 244

خاتمة

هل يمكن إيجاد مذهب نقدي متكامل

1 -

الناقد المثالي

لو كان في مقداورنا، وهذا مجرد افتراض، أن نصنع ناقداً حديثاً مثالياً لما كانت طريقته إلا تركيباً لكل طرق والأساليب العملية التي استغلها رفاقه الأحياء، وإذن لاستعار من جميع تلك الوسائل المتضاربة المتنافسة، وركب منها خلقاً سوياً لا تشويه فيه، فوازن التقصير في جانب بالمغالاة في آخر، وحد من الإغراق بمثله حتى يتم له التعادل، واستبقى العناصر الملائمة لتحقيق غاياته. وإذن لأخذ ادموند ولسن مهمة التفسير او التوضيح لمحتوى الأثر الفني، وأضاف إلى ذلك الاهتمام بالقيم الشعرية والشكلية التي قد يجدها في بعض النقد التفسيري عند عزرا بوند؛ واستعار من إيفور ونترز الاهتمام بالتقويم والحكم المقارن وشجاعة ونترز إزاء الآراء التقليدية في أحكامه لا تلك الأحكام نفسها، واستغل اهتمام اليوت بان يخلق للأدب موروثاً، ونحا في طبيعة الموروث نحو بارنغتون - مثلا - وأفاد من موقف اليوت الذي يجمع بين الشعر والنقد في يده. أما من فان ويك بروكس فان ناقدنا المثالي قد يستمد

ص: 245

الطريقة القائمة على كتابة السيرة والاهتمام بالجو الثقافي العام من حول الأديب، وسيكون من نصيب كونستانس رورك أن تسهم بالنص على الفولكلور المتصل بالأثر الفني وبتأكيدها أن هذا النوع من الموروث متعلق بالشكل لا بالمحتوى وانه تجريدي لا واقعي. وسيدخل في هذا " المركب " طريقة مود بودكين في التحليل النفسي موشحة بنظريات وأساليب جشطالتية وفرويدية وغير ذلك من فروع المعرفة النفسية؛ وسنضاف إليه أيضاً طريقة كودول الماركسية ملطفة بآراء بليخانوف في النسبية التاريخية وسيحشد فيه اهتمام أليك وست بالنصوص المعينة مشفوعاً بكثير من الكشوف المستمدة من سائر العلوم الاجتماعية.

وسيختار ناقدنا المثالي التخصص الواعي الذي تميزت به كارولاين سبيرجن، ذاهباً إلى أعماق ذلك ذهاب جون لفنغستون لويس، مكبراً النتائج بحماسة مندفعة تشبه حماسة ج. ولسون نايت، متوفراً على إيجاد عناقيد الصور متخذاً منها وحدة شعرية ذات مغزى شعري هام كما يفعل آرمسترونغ. وسيستمد من بلاكمور أسلوبه الجاد في البحث واهتمامه باللغة والألفاظ وتأكيده أهمية الفن والخيال الرمزي؛ وسيعينه وليم امبسون في الكشف عن أنواع الغموض ويمده بطريقته الفذة الدقيقة في قراءة النصوص وباهتمامه العام بقيمة الأشكال الأدبية. وسيستعير ناقدنا المثالي من رتشاردز الاهتمام بأمر النقل والتوصيل ووسائل التفسير والمذهب التجريبي؛ وسيستمد من كنث بيرك العناية بالعمل الرمزي والشكل الدرامي وطريقة الاستبطان والكشف. وثمة نقاد آخرون قد يضيفون بعض العناصر إلى هذا " المركب " فتضيف إليه جين هاريسون الأنثروبولوجيا الشعائرية، وتمده مارغريت شلوش باللغويات، ويتحفه هربرت ريد بالتنبه الحادب على كل اتجاه فكري جديد وعلى كل فنان ناشيء، وتمده عصبة Scrutiny باهتمامها الموزون بكلية الأثر الفني، ويعطيه ماثيسون شيئاً من تردده بين الناحية

ص: 246

الاجتماعية والجمالية، ويمنحه فرنسيس فرغسون طريقته في النظر إلى الدراما الشعائرية، ويمده تروي باستغلاله للأسطورة الشعائرية. أما جون كرو رانسوم وآلان تيت وكلينث بروكس وروبرت بن ورن فانهم يزودونه بالتركيز على البناء الشعري؛ وسيمده آخرون بأشياء أخر. وبالجملة سيكون هذا الناقد المثالي أرسطوطاليسيياً محدثاً يستقرئ من الآثار الشعرية أحكاماً، وسيكون كولردجياً محدثاً يستنتج ما يريد من الأفكار الفلسفية.

فإذا أخذ ناقدنا المثالي كل ذلك، طرح في الوقت نفسه كل تافه محدود غير ملائم من أعمال أولئك النقاد واستصفى النواحي الموضوعية لديهم بعد أن ينزع عنها ما يحيطها من مظاهر ضعفهم ومماحكاتهم وفرديتهم. وإذن فلا شان له بسطحية ولسن واستغلاله لأفكار سبقه إليها غيره وقلة صبره على الشكل الشعري؛ ولا حاجة به إلى خلقية ونترز المتسلطة أو تعسفه في الحكم دون علة واضحة أو سوء طبعه أو كثرة أخطائه. وهو في غنى عما يحيط اتباعية إليوت من تحيز مذهبي وسياسي، وإذا استمد طبيعة التكامل بين النقد والشعر عند إليوت فلا ريب في انه سيحرص على استقلال النقد وتكامله وسيرفض افتراضات بروكس " المسبقة " واحتقاره بالأدب الخالق ولن يستعمل طريقته كما يستعملها صاحبها بمطها أو تقصيرها حسب مقتضيات الحال ولن يتخذ من دراسة الشخص عذراً للهرب من دراسة آثاره أو ليجعلها ملحة شهية وحسب. فإذا انتحل طريقة الآنسة رورك تجافى عن سطحيتها وتزود بعلم أوسع من علمها، وإذا مارس طريقة الآنسة بودكين تجنب نزعتها الدينية الصوفية واطرح ما تجنبته هي من مذهب يونج في شئون التميز العرقي والدموي كما نفى عن نفسه تحيز كودول ضد التحليل النفسي وضد الشعر نفسه ونفى عنه التعلق بالطبقية والحتمية وإيثار التعميمات على دراسة نصوص بأعيانها، واستعمل مبادئ فرويد وماركس بحدة ومضاء كحدتهما ومضائهما لا

ص: 247

بكلال وفتور ككلال اتباعهما وفتورهم. وسيكون ناقدنا المثالي على وعي حاد بنقائص التخصص وأين يقف التخصص من النقد وأين ينماث فيه، فيحايد إحجام الآنسة سبيرجن عن تتبع النتائج واستقصائها ويتجنب صوفيتها الذاتية. غير انه لن يجد كثيراً مما يرفضه في مذهب بلاكمور وإمبسون ورتشاردز وبيرك ولكنه قد يتقدم دون أي أثر عالق به من فجاجة الأول ودون الإغراق المضني لدى الثاني ودون ذلك المسرب المقفل الذي يسميه الثالث " الإنجليزية الأساسية " ودون الوقوف السابق لأوانه في وجه التقدم عند الرابع. أما حين يستمد من النقاد الآخرين فسوف يسير على الخطة نفسها من رفض وطرح ولكنه سيطرح اكثر مما يأخذ في كثير من الأحوال، بل أن كل من ارسطوطاليس وكولردج لن يفيا بحاجاته تمام الوفاء.

وهذا التكامل المثالي الذي نريد أن ننشأ منه طريقة نقدية سامية لا يتم بطرح كل العناصر الجيدة في قدر واحدة وخلطها معاً كيفما اتفق ولكنه عمل يشبه البناء على أن يتم حسب خطة منظمة ذات أساس وذات هيكل مرسوم. فما هو ذلك الأساس أو ما هو ذلك الهيكل؟ أشد المبادئ حماسة لإنجاز هذه المهمة هي الماركسية التي يلح المدافعون عنها على القول بأن المادية الديالكتيكية إطار متكامل يستطيع أن يختص ويستغل أحدث ضروب التقدم في كل ميادين المعرفة وهي في الحقيقة لابد أن تفعل ذلك لتستمر في تأدية مهمتها. وهذا بلا ريب كان يصدق على ماركس وإنجلز اللذين كانا يستمدان بحماسة من رصيد غزير من المعرفة في كل علم، وكانا ينتحلان تطورات جديدة بمرونة بالغة، حتى قال إنجلز:" لدى كل كشف بارز هام في ميدان العلم الطبيعي كان على المادية دائماً أن تغير من شكلها "، وهذا إلى حد أيضاً يصدق على كودول الذي يؤكد في مقدمة كتابه " الوهم والحقيقة ": " إن الطبيعيات

ص: 248

والأنثروبولوجيا والتاريخ والبيولوجيا والفلسفة وعلم النفس كلها نتاج الهيئة الاجتماعية، ومن ثم فإن علم الاجتماع الرصين يمكن ناقد الفنون من ن يستعمل معايير مستمدة من كل هذه الحقول والميادين، دون أن يتردد في حومة التخير والانتقاء، أو يخلط بين الفن وعلم النفس والسياسيات ". غير إن الماركسيين المتأخرين باستثناء قلة منهم مثل كودول يفتقرون إلى المرونة والدقة اللتين كان يتمتع بهما كل من ماركس وإنجلز كما يفتقرون إلى مثل علمهما وألمعيتهما، حتى إن الماركسية لا تصلح من الناحية العملية لتكون نظاماً تكاملياً يحتضن كل مظاهر التقدم. ولعل أكثر المفكرين الماركسيين المعاصرين سيقذفون معظم طريقتنا النقدية المثالية هذه من أقرب نافذة لأنها في نظرهم سقط تافه " منحط " من المتاع.

وهناك طرق فردية أخرى يمكنها أن تحتضن بعض الأساليب والمذاهب الأخرى ولكنها إن كانت علوماً أو شبيهة بالعلوم كالسيلوجيا والأنثروبولوجيا أو كانت ميادين متميزة محددة كميدان التخصص أو دراسة السير - إن كانت هذه أو تلك فإنها إذا احتضنت غيرها من المذاهب وتجاوزت محيطها الخاص بها فقدت طابعها المميز لها. ومن الواضح إذن إن الأساس للتكامل النقدي المثالي لابد من أن يكون فكرة أدبية أو فلسفية (حتى الماركسية حين تتقدم لتقوم بتحقيق هذا التكامل لا تتقدم من حيث هي نزعة اجتماعية بل من حيث هي نظرة فلسفية) . وقد نلحظ بعض الأسس التي تصلح لذلك التكامل التركيبي دون أن نطمح بأبصارنا إلى حل هذه المشكلة، فأحد تلك الأسس قد يكون هو " مبدأ العضوانية " أي إن الذات الإنسانية وحدة عضوية، وهو مبدأ رتشاردز في " استمرار التجربة " وتحت جناح هذه الفكرة يمكن أن ينضوي جميع هذه الأساليب النقدية وتتوحد لأنها جميعاً تعالج جوانب متصلة من السلوك الإنساني، أي تعالج: الإنسان شاعراً والإنسان قارئاً والإنسان في أسرته

ص: 249

والإنسان في المجتمع والإنسان وهو ينقل مشاعره لإنسان آخر وهكذا وقد نجعل أحد تلك الأسس " الفعالية الاجتماعية " التي تنظم مختلف الأساليب النقدية من حيث هي مظاهر متصل بعضها ببعض في جماعات مختلفة، أو قد نتخذ " درامية " بيرك أساساً فنستغل دعائمها الخمس، ونطبقها على الأساليب المتنوعة مستغلين دعامة دون أخرى حسب المقام، كأنما بينها صراع أو تعاون كصراع الشخصيات وتعاونها في داخل الرواية. أو قد نوسع فكرة " الغموض " عند إمبسون أو نستغل فكرة " الجهد الجاهد " عند بلاكمور ونعادل بينها وبين " استغل كل ما يمكن استغلاله " وهي فكرة بيرك.

وناقدنا المثالي هذا لن يكتفي بأن يستغل كل الطرق المثمرة في النقد الحديث ويقيمها على أساس منظم ولكنه سيحتقب كل المقدرة وكل ضروب الكفاءة الكامنة وراء تلك الطرق، فتكون لديه كفاءة ذاتية فذة وعلم واسع كاف في كل هذه الميادين، وقدرة على انتحال الوضع الملائم كلما تغير الموقف، وليس على ناقدنا المثالي أن يؤدي أكثر مما يؤديه الناقد العملي فحسب بل عليه أكثر منه وان يتجاوزه مدى وبعداً وكياناً (وان يكتب خيراً منه بطبيعة الحال) . ولقد كان تصنيف النقاد في هذا الكتاب قائماً على أساس من الطرق النقدية نفسها، فإذا ميزناهم من حيث المجال التخصيصي قلنا: بلاكمور هو المتخصص في الكلمات وسبيرجن في الصور وإمبسون في الأشكال وبيرك في كلية الأثر الفني وهكذا، أما لو ميزناهم من زاوية المعرفة فإننا نقول: اليوت هو الذي يعرف الأدب إذا كان له حظ من القدم، وكودول هو الذي يعرف العلم الحديث، وبروكس هو الذي يعرف الأدباء الصغار في عصره، والآنسة بودكين هي التي تعرف الآداب القديمة وهكذا؛ فلو شئنا ان نصفهم حسب خلائقهم فقلنا: إمبسون قارئ حاذق، وبيرك

ص: 250

صاحب ومضات الذكاء، ورتشاردز معلم صبور، وبلاكمور والآنسة سبيرجن عاملان مجتهدان (كل في ميدانه) .

أما المشكلة الأخيرة التي لابد لناقدنا المثالي من أن يواجهها - وهي اشد المشكلات هيمنة - فإنها تتلخص في أن طريقة من الطرق التي طورها النقاد المحدثون لا تزال في مرحلة أولية من الكشف ولابد لمنشئي هذه الطرق من أن يتبينوا ذات يوم انهم لم يفعلوا شيئاً أكثر من خدش السطح الخارجي وأن أعمارهم لن تمكنهم من الذهاب وراء ذلك. غير أن كل طريقة يمكن امتداها إلى ما لا نهاية؛ وليس لناقدنا المثالي الهجام أن يستعمل تلك الطرق فحسب بل عليه أن ينمي كل واحدة منها تنمية بالغة فيحل مشكلات كل طريقة ويسوي بينها وبين نتائجها؛ وعليه أن يقوم بذلك كله وحده أيضا. وكل ناقد حديث من نقادنا يحتاج تلامذة ومدرسة تستمر في تطبيق طريقته وتوسيعها ولكن أن كان الطلبة لامعين خلاقين فالمشكلة انهم حتماً يشتقون لنفسهم طرقاً جديدة، مثلما فعل امبسون تلميذ رتشاردز، ويتطلبون تلامذة لانفسهم (فان لم يكونوا لامعين خلاقين فالمشكلة واضحة) . ونجد أن بلاكمور وفرغسون وسلوخور وكولي يطبقون جميعاً طريقة بيرك على مشكلات ونصوص أدبية أخرى وسيعدون تلامذة أكفاء بمقدار ما يبدونه من أصالة وخلق في ميدان النقد لا بالمقدار اتباعهم لأستاذهم وإذن فان الناس لا يستعملون نفس الطريقة بكل ما لها من أهداف وبكل ما فيها من طاقات غلا في العالم الذي يعيش فيه ناقدنا المثالي. أما في العالم الواقعي للنقد فذلك شيء لا نطيقه ولا نريده.

دعنا نجمل ما بسطناه: سيمد ناقدنا المثالي طريقته المتكاملة كلها على مدى ما تبلغه الطرق النقدية الحديثة كل على حدتها، فيؤدي في الأثر الأدبي كل ما يمكن تأديته: فإذا تحدث عن قصيدة غنائية قصيرة كتب

ص: 251

عدة مجلدات، وإذا تناول أثراً طويلا كالقصيدة المطولة أو المسرحية أو القصة انفق عمراً في درسها ولكن ناقدنا المثالي غير محدود العمر فدعنا نستغل صبره لنقيد بعض الأشياء التي يتناولها في القصيدة: سيحدثنا عم هي القصيدة أي يترجم لنا محتواها قدر الإمكان (وإذا قدرنا الإيجاز في العمل الفني عرفنا أن ترجمته إلى لغة النثر أكبر بكثير من العمل نفسه) وسيردها إلى مصادرها ومشابهاتها في آداب قديمة ويوجد لها مكاناً في الموروث الأدبي ويقارن بإسهاب بينها وبين آثار معاصرة وسابقة داخلة في الموروث أو خارجة عنه، ويحللها تحليلا وافياً بنسبة ما يتوفر لديه من أخبار عن صاحبها. فيصل بينها وبين ما يعرف من فكره وحياته وشخصيته وأسرته وما يهواه وما له من علاقات زوجية، وما يهتم به، وطفولته وعلاقاته الاجتماعية ومظهره الجسماني وعاداته. وسيجد مصادرها الشعبية ومثيلاتها ويبحث عن اعتماد صاحبها على الموروث الشعبي وما في نسيج القصيدة من تعابير شعبية وخصائص شعبية، ويكشف عن استقطابها العميق في نماذج من الشعائر البدائية المتأبدة ويفسرها نفسياً من حيث هي تعبير عن اعمق رغبات صاحبها ومخاوفه تحت مصطلح العقدة والكبت والتسامي والتعويض، وسيرى فيها تعبيراً عن " نموذج أعلى " يمثل التجربة الجماعية وتعبيراً عن ظواهر سلوكية أو عصبية أو غددية، وتعبيراً عن شخصية مؤلفها وكيانه الخلقي في سلك الجماعة، وسيصل بينها وبين أنواع من التعبير لدى البدائيين والعصابيين والأطفال والحيوانات وسيكتشف نظامها من خلال عناقيد الصور المتصلة اتصال تداعي الخواطر لا شعورياً ومن خلال مبناها الذي يمثل شعيرة نفسية ومن خلال الكليات الجشطاليتية المتصلة بكليتها ومن علاقاتها بكليات أخرى.

وسيفسر القصيدة من حيث إنها مظهر اجتماعي، تنعكس فيه طبقة صاحبها ومنزلته الاجتماعية وحرفته ويحللها بالنظر إلى العلاقات الإنتاجية في

ص: 252

عصره وبيئته وجو الأفكار التي تعيش ثمة، وجو الأفكار التي تتجاوز العلاقات الإنتاجية فتتقدم عنها أو تتأخر وسيتحدث عن النزعات الاجتماعية والسياسية التي تدعو القصيدة لها أو تقررها أو تشمل عليها وسيسلط عليها كل معدات التخصص الكبيرة أو يستغل كل ما أدي في هذا المجال، ويتابع النتائج بشجاعة غير المتخصص وخياله وسيكتشف على أوسع مدى ممكن ألفاظها والغموض في المعاني والعلاقات بين الألفاظ الهامة وصورها ورموزها وكل إيحاءاتها الملائمة وشكلها أو أشكالها ومهمة تلك الأشكال وآثارها، وما فيها من ضروب الجرس والبناء الإيقاعي وغير ذلك من التأثيرات الموسيقية وطبيعة الحركة والتناسق فيها وكل العلاقات الداخلية لكل ما تقدم من مظاهر، وسيدرس كل الأمور الواقعة خارج القصيدة مما يشير غليه القصيدة ويفسرها على ضوء تلك الأمور، وسيكتشف النزعة الموجهة - مفتاح القصيدة - الناشئة عن العلاقات المتداخلة بين الشكل والمحتوى ويلحظ مشتملات ذلك ويتحدث عن القصيدة مجرياً المقارنة بينها وبين تعبيرات أدبية معاصرة وسابقة من نفس نمطها إلا أنها وجدت على نحو آخر. وسيبحث ناقدنا المثالي المشكلة التي تدور حول ماهية الشيء الذي تحاول القصيدة نقله، كيف تنقله ولمن تنقله، مستغلا كل مصدر من الخبر ليجد ما هو ذلك الشيء الذي عمدت القصيدة إلى نقله ويختبر كل وسيلة فنية في الصنعة حتى لو أدى به ذلك إلى اختبارات المعمل ليرى حقاً ما هو الشيء الذي تنقله في واقع الأمر إلى نفوس أفراد مختلفين وإلى جماعات في أزمنة مختلفة، وسيكتشف مشكلة العمل الرمزي في القصيدة، ماذا أدت رمزياً للشاعر وماذا تؤدي رمزياً للقارئ وما العلاقة بين هذين العملين، وكيف تقوم بمهمتها داخل المبنى الرمزي الكبير الذي يمثل تطور كتابة الشاعر، داخل مبنى رمزي أكبر يمثل عصراً أدبياً كاملا. وقد يتحدث عن عديد

ص: 253

من مشكلات أخرى تشملها القصيدة، عديدة حتى إنها لتعز على الحصر وتشمل مسائل فلسفية وأخلاقية كالمعتقدات والأفكار التي تعكسها القصيدة والقيم التي تؤكدها وعلاقتها بالمعتقدات والقيم لدى القارئ وعلاقاتها بالقرائن الحضارية كما تشمل أمورا صعيرة مثل عنوان القصيدة أو بعض ملامح الكتابة والتهجئة والترقيم. وسيضع القصيدة في مكانها من آثار صاحبها من كل زاوية (ولذلك عليه ان يعرف كل ما ألفه صاحبها) ، ويواجه مشكلة الظروف التي ولدت فيها القصيدة ويتحدث عن الملامح المتفردة في أسلوبها وما تعكسه من فكر وشخصية عكساً متفرداً. وفي النهاية يعمد ناقدنا المثالي فيقدر القصيدة من الناحية الذاتية على أساس من كل ما وصفناه، ويقوم أجزاءها من الناحية الجمالية من حيث علاقتها بالغاية والمجال وقوة الغاية نفسها، ودرجة استكمالها لعناصرها، ويضع قيمتها إزاء قيم مثيلاتها مما نظمه صاحبها نفسه أو نظمه غيره، ويقدر ميزتها في الحال وفي الاستقبال ومقدار سيرورتها ويحدد جانب التقريظ وجانب الذم وإذا شاء فان له أن يقدم نصيحة حول القصيدة للقارئ أو للشاعر. وإذا شاء أيضاً فله أن يتحدث عن معلوماته التي جمعها وآرائه التي كونها من حيث علاقتها بالمعلومات والآراء لدى غيره من النقاد مثاليين كانوا أو غير ذلك. وبعد ذلك يحق له أن يمسح العرق عن جبينه ويتنفس الصعداء ويتقدم لمعالجة قصيدة أخرى.

2 -

الناقد الواقعي

إن صورة ناقدنا المثالي هذه شقشقة لسانية فحسب ولكنها شقشقة مفيدة فيها سمو المثل الأفلاطونية واستحالتها معاً، فلنحطم هذه الصورة ولنعد إلى عالم الحقائق ومجال الإمكانات العملية التي هي في طوق الفرد

ص: 254

من بني الإنسان؛ ونحن إنما نريد طريقة متكاملة فلنقل أن قسطاً صالحاً كبيراً من التكامل ممكن وإنه في طوق إنسان واحد أن يستعمل عدداً من الطرق والمذاهب. خذ مثلاً كنث بيرك، تجد أن هذا النقد قد أدى بين الحين والحين كل " الأدوار " التي يشملها النقد الحديث كما أدى إلى جانبها عدداً من الأشياء الأخرى المتصلة بها، وقد كان نصيب رتشاردز وإمبسون وبلاكمور أقل من ذلك لأنهم لم يكثروا من التركيب بين الطرق النقدية، وجنحوا وبخاصة بلاكمور إلى أداء شيء واحد في وقت واحد حسبما يتطلبه الأثر الذي ينقدونه، وهؤلاء هم خيرة نقادنا، وقد كان التكامل في أعمالهم موفقاً ناجحاً ولكنهم حادوا عن التكامل الكلي النظري الذي يحتاج جهوداً لا حد لها، وكانت قاعدتهم في ذلك: 1) ألا يتابعوا باستقصاء كل وسيلة من وسائلهم إلى آخرها وإنما يتابعونها إلى حد ما يقفون عنده إذ يجدونها توحي بإمكانات جديدة وراء ذلك، 2) وأن يلحوا على تلك الوسائل التي تبدو مثمرة في معالجة أثر معين دون غيرها، ويهملوا أو يقللوا من شأن الوسائل الأخرى - مؤقتاً - لأنها أقل ثمرة ولكنه قد يستغلون ما أهملوه أو قللوا من شأنه في مناسبة أخرى. غير أن خيرة نقادنا هؤلاء لم يستطيعوا حتى في ضمن هذه الحدود أن يجدوا ندحة في الزمان والمكان تمكنه من أن يتعمقوا حسبما يرغبون لأن باعهم في العلم والمعرفة مهما اتسع لا في بما يريدون، وسيغدوا من العسير في المستقبل أن يتقن الناقد كل فرع من فروع المعرفة يفيد في ميدان النقد الأدبي بل انه سيغدو حتماً أمراً مستحيلا، وستنمو العلوم الاجتماعية نمواً كبيراً في عاجل الأيام أو آجلها حتى أن دراسة فرع واحد منها تستنزف العمر كله إذا أريد تسليطها على النقد الأدبي ولن يبقى لدى الناقد إلا وقت قليل للتعرف على الأدب نفسه، ولا ريب في أن الناقد البيكوني الذي يحيط بكل أنواع المعارف هو الأثير المفضل

ص: 255

لدينا، غير أن الناقد البيكوني لا يستطيع أن يعيش في عصر يدق فيه التخصص على مر الأيام.

إذن فلنقل أن الناقد المتخصص هو الذي يستطيع أن يستغل طريقة واحدة مطورة موسعة. ولكن نقادنا المعاصرين لا يشأون شأو النقاد البيكونيين، ونحن نحس أن ضيق التخصص لديهم يجعلهم مشوهين للأدب لا سداد في أيديهم. وهم أحد اثنين في الغالب: محدود الآفاق يستطيع أن يؤدي شيئاً واحداً أداء جيداً ويعجز عما عداه مثل أدموند ولسن في التفسير وفان ويك بروكس في كتاب التراجم؛ أو متخصص في ميدان خارج عن ميدان الأدب مثل تخصص مود بودكين في التحليل النفسي وكودول في الماركسية والآنسة رورك في أمور الفولكلور. ومثل هؤلاء النقاد الذين يحسنون طريقة واحدة مطورة يفيدون أشد الإفادة في حالين، أما حين يتخصصون في الأدب الذي تلائمه طريقتهم ومعارفهم كتخصص مدرسة كمبردج في دراسة الأدب الإغريقي، لأن الصلة بين هذا الأدب وبين التفسيرات الشعائرية وثيقة قوية؛ وأما حين يتخصصون في تلك الجوانب من الآداب التي أن سلطوا عليها مبادئهم وأفكارهم وضحتها وجلتها كما يفعل النقاد النفسيون والماركسيون (أو كما يجب أن يفعلوا) .

غير أن هذين النوعين من التخصص النقدي في حاجة إلى شيء آخر ليجعلهما مثمرين، وهذا الشيء هو العمل التعاوني في النقد أو سمه النقد الجماعي، وهذا هو الأمل الذي داعب اليوت في عهد مبكر، فعبر عنه في مقال " تجربة في النقد " بمجلة Bookman، تشرين الثاني 1929 إذ قال أنه " تعاون النقاد ذوي الدربة المختلفة ثم قيام أناس لا هم مختصون ولا هواة باستخلاص ما يسهمون به وتكديسه وتصنيفه ". وقد نسمي هذا النقد الجماعي باسم " مأدبة " Symposium وهي لفظة لا تزال تحمل في تركيبها حروف " أد ب " مهما تبتعد إيحاءاتها. ولدينا أمثلة من هذه

ص: 256

" الموائد " النقدية في كتب نشرت بعضها قام به متخصصون وبعضها يتناول موضوعات خاصة ومنها ما يدور حول بلد أو فترة من الفترات ومنها ما يتعلق بشخص واحد في عيد ذكراه، ومنها عدد من أعداد إحدى المجلات يخصص لدراسة أديب واحد أو يخصص لدراسة أثر واحد لأحد الأدباء، وهناك " المآدب " الغنية الحافلة و " المآدب " الفقيرة الخادعة.

واكبر خطأ يعتور هذه الأنواع جميعاً وبخاصة الأخيرة منها أنها لا تحفل بالتخصص الكافي ذلك لأن اختيار الناقدين المسهمين في مثل هذه المجموعات إنما يكون عرضاً واتفاقاً فيجيء التداخل في مقالاتهم ولا تتمثل فيها جميع المذاهب ووجهات النظر وفي بعض الحالات تجدهم يحاولون أن يحشدوا في المجموعة كل ما يمكن حشده فلا يلتقي النقاد حول الموضوع نفسه أبداً فتفقد المجموعة قيمتها الحقيقية، إذ ليست قيمتها في اختلاف المادة وغنما في اختلاف أساليب التناول للمادة نفسها. فالمجموعة الناجحة نجاحاً تاماً هي التي تتضافر فيها أقلام المتخصصين، على نحو مخطط منظم، ثم بأن ينشئوا خطوط تخصصهم على أساس من الطريقة لا الموضوع. وفي الوقت نفسه تشجع مثل هذه المجموعة المسهمين فيها على اقتسام العمل وتوزيعه لان كل واحد يلتزم الاتجاه النقدي الذي يسير فيه فيؤدي شيئاً واحداً دون ما عداه. حقاً أنها قد تجعل النقاد المحدثين اشد تحيزاً ومحدودية وتخصصاً وأقل اكتمالا ولكنهم يكسبون في جانب العمق ويعوض أحدهم ما لدى الآخر من نقص فيتوفر لدى المهمة النقدية فضائل المجال الوسيع والاكتمال وهي فضائل لا يقوم بها واحد من النقاد إلا تلبست به السطحية.

هل يمكن أن يتحقق هذا عملياً؟ نعم في ناحيتين: أولا: المجلة فإنها قد تخصص بعض أعدادها لدراسة شخص واحد أو موضوع واحد، ولو

ص: 257

سلمنا بان التنظيم والتخطيط شيئان مثاليان فأن نقص المجلات أنها لا تستطيع أن تسيطر على هذا الأمر سيطرة تامة لان بصحابها لا يستطيعون أن يضمنوا اكتتاب كل ناقد، فهم يرضون بما يحصلون عليه وهم لا يستطيعون أن يفرضوا حدوداً صارمة في الموضوع أو الطريقة على النقاد المحترفين الذين قد يخرجون عن تلك الحدود استطراداً، وليس لديهم المال الذي يغرون به الناقد على التزام الحدود، ثم أنهم لا يعرفون على وجه الدقة مَن من النقاد يحسن هذا خيراً من سواه، وهم مقيدون بالقدر الذي يتقبله قراؤهم من النقد وهم أحياناً يملأون الفراغ ليخرجوا بمجموع كامل وإذن فالحاجة ملحة إلى مجلة جديدة تسمي نفسها " الناقد " أو " مأدبة " النقاد تكرس نفسها لدراسة جماعية حول رجل أو كتاب أو قصيدة في كل عدد وتحصل على نقاد مختصين وتدرب بعض النقاد وتفوز بإيجاد نقاد مستقلين يوجهون أعمالهم لخدمة أغراضها، وقراء يحبونها، فمثل هذه المجلة يحل بعض المشكلات ويبقي بعضها الآخر دون حل (1) .

وثانياً: هناك الجامعات التي تملك المال والرجال لتحقيق مثل هذا الهدف وهي معتادة لشئون التخصص من كل نوع. أما هل تقبل الجامعات أن تشغل نفسها بنشاط كالنقد على شكل مجلة أو سلسلة من الكتب أو حتى بتنظيم دراسة الأدب فيها على هذا النحو فذلك شيء آخر. ومن الدلالات المشجعة في هذا المجال نشر مطبعة برتسون لعدة سلاسل من البحوث في الأدب والعلوم الإنسانية منها: " غاية الفنان " و " غاية الناقد " و " لغة الشعر " وكل نشرة منها مجموعة طبية تعاون على إخراجها أربعة أو خمسة من الثقات المختصين. ومن المشجعات أيضاً ما

(1) خير مثل موجود وأقربه إلى النوع المثالي الذي نتطلبه هنا هو مجلة Scrutiny إذ فيها مجموعة من المواهب المتعاونة. غير أن مجالها محدود وهي تهتم بإصدار أعداد خاصة في المسائل التربوية والثقافية اكثر من اهتمامها بتخصيص أعداد للأدباء والآثار الأدبية.

ص: 258

قام به المعهد الإنجليزي من إنفاق على محاولة في النقد التعاوني الجماعي، ففي خلال أسبوع من أيلول 1941 عقد فصل دراسي بجامعة كولمبية تحت إشراف نورمان هولمز بيرسون الأستاذ في ييل وتحدث فيه أربعة من النقاد إشراف نورمان هولمز يرسون الأستاذ في ييل وتحدث فيه أربعة من النقاد كل لمدة ساعة عن قصيدة واحدة في أربعة أيام متعاقبة وهم هوراس غرغوري وليونل ترلنج وكلينث بروكس وفردريك بوتل (ودعي ناقد خامس هو مورتن داون زابل فلم يستطيع الحضور) وكانت القصيدة هي Ode on Intimations of Immortality لوردزورث وكان الحاضرون مائة أو نحوها ولم أكن أنا شاهد تلك المحاضرات ولكني اقدر أن الإخفاق كان نصيب هذه المحاولة لضيق في مجال الموضوع مستنتجاً ذلك مما كتبه عن هذه المحاضرات دونالد ستوفر في رسالة بعث بها إلى مجلة كينيون، شتاء 1942. ومن المشجعات أيضاً على نطاق أوسع وجود عدد من أساتذة الجامعات الأميركية ومنهم الأستاذ ليونارد براون بجامعة سرقوسة وهو الذي تتلمذ عليه المؤلف) يدرسون طلبة الآداب في المراحل العليا على طريقة " المأدبة " فيعالج كل تلميذ موضوعه مدة طويلة من الزمن من زاوية مختلفة وعلى نهج مخالف ثم ينظم الأستاذ ما صنعه تلامذته ويجمعه. وليس يخطر لي مجال آخر سوى المجلات والجامعات لتحقيق هذه الفكرة. نعم هناك الراديو والأحاديث التي قد تدور فيه حول موضوع معين ولكن الجماهير تميل إلى التبسيط فيخرج أمثال هذه البرامج ضحلة تافهة.

ومن الآمال الكبرى التي تعلق على النقد التعاوني الجماعي انه سيعد لمباشرة الآثار المعقدة التي لم يوفق الفرد الناقد في معالجتها وأبرز أمثلتها موبي ديك. وقد قال ماثيسون في مقدمته على كتاب " النهضة الأميركية ": " لم أر عن موبي ديك شيئاً مطبوعاً ذا حظ من النفاذ والإسهاب "، وهذا اقل من الحقيقة بكثير إذ كان من حقه أن يقول انه ليس لدينا عن هذه القصة إلا ما هو سطحي محدود. وبنسبة اقل يصدق هذا الحكم على كل

ص: 259

الآثار الأدبية العظيمة، فكل النقد من حولها متخلف.

وكل الأعمال الأدبية العظيمة وكل الروائع في الأثر الأدبي العظيم وكل الأدب الحديث الجاد - كل هذه ذات مستويات متعددة، ولذلك يجب أن يكون لدينا نقد متعدد المستويات ليستطيع معالجتها، وهذا معناه ان الناقد الذي يتمرس بأي اثر منها مستعملاً أي معجم من الألفاظ لابد من أن يعود لنا بمعنى يمكن نثره وبسطه بعون من ذلك المعجم، وقد ازداد إدراك هذه الحقيقة في أيامنا هذه سماها شارل بودوان " التوازي المتكثر " وسماها رتشاردز " التعريف المتكثر " أو " التفسير المتكثر " وهي موضوع كل ما كتبه رتشادرز، وسماها بيرك " العلية المتكثرة "، وقال إنها " مجموعة من الدوائر المنداحة تبدأ من أخص الخصوص وتبلغ حتى المبادئ المطلقة في العلاقات ". ويعمل إرك فورم على هذا المبدأ نفسه وهو يفسر كافكا بمصطلح نفسي واجتماعي وديني مثلما يحاول هاري سلوخور أن يقرأ مان وغيره بمصطلح نفسي واجتماعي وفلسفي، وكذل يحاول تروي الشيء نفسه وهو يقرأ بعض الأدباء قراءات ميثولوجية ونفسية واجتماعية، مثلما يحاول أيضاً أن يستعيد " المستويات الأربعة " للمعنى، وهي مما لدى أهل القرون الوسطى، ومثله في ذلك أيضاً جاك لندسي في قراءاته الماركسية والنفسية والانثروبولوجية، وغير هؤلاء كثيرون يباشرون الأثر الفني على مستويات متعددة ويقرأونه قراءات متكثرة.

وسواء أسميت هذا النوع من النقد مجمعاً أو مكثراً أو متعدد المستويات فمن الواضح انه لا يفتأ يزاد قيمة وأهمية. وقد نسميه إذا شئنا " النقد الاستمراري " ونترك مجالاً لكل مستوى ممكن ان ينضوي تحته سواء أكان مستوى فردياً ذاتياً أو اجتماعياً موضوعياً غير ذاتي (وهذان هما الطرفان المتباعدان لمختلف المستويات) ، فإذا أضفنا إلى ذلك اللاوعي

ص: 260

الجماعي الذي يقول به يونج ربطنا بين طرفي هذا الاستمرار ربطاً دائرياً. فمثلا نتخذ رمز اليوت في " اليباب " رمزاً للعمق البعيد والتركيب الشديد. ونقرأ هذه القصيدة على أي مستوى مستغلين أي معجم: ففي المستوى القريب يراها الفرويدي رمزاً للخصاء والعنة، وعلى مستوى أعلى يراها النفسيون بعد فرويد رمزاً للخوف من العقم الفني، وفي المستوى العادي للحياة اليومية يراها من يكتبون التراجم مثل بروكس رمزاً لأليوت نفسه قبل أن يتحول للمذهب الكاثوليكي، وعلى مستوى اجتماعي أعلى يراها ناقد مثل بارنغتون رمزاً لحياة الفنان الخاوية، أو صورة من حيرة الطبقة العليا؛ ويراها اليوت نفسه ممثلة للادينية الطاغية على هذا العصر، أما في المستوى التاريخي الواسع فإن الماركسي يبصر فيها انحطاط الرأسمالية؛ ويراها الآخذ بمصطلحات يونج الرمز الشعائري الأعلى للولادة الجديدة. كذلك هي أيضاً حال رمز مينهير بيبركورن في " الجبل السحري " من تأليف مان فإنه قد يرمز لأشياء كثيرة ابتداء من الأب الأوديبي خلال الشخصية المنافسة القوية إلى رب الزرع. ثم إن فكرة هتلر عن الوحدة الألمانية في " كفاحي " قد ترمز إلى أمور كثيرة أيضاً أدناها الأم الأوديبية وآخرها أحداث تاريخية مثل ابتلاع النمسة وتشيكوسلوفاكية وغير ذلك. ففي الرمز أو الأثر ذي العمق معان كثيرة بعدد ما يستطيع النقاد أن يجدوه من مستويات أو معجمات يعبرون بها.

ولهذا النقد المتعدد الجوانب والمستويات فائدة أخرى نوضحها على النحو التالي: إن النقد الإيطالي قد أهمل جانب الملهاة ذات يوم، وإن النقد الذي يتناول عصر اليزابث، قد تغافل عن شيكسبير والدراما الاليزابيثية في وقت من الأوقات، هذان مثلان اثنان فقط وهما نقد يوحيان للناقد أننا أيضاً نهمل بالمثل آثاراً أدبية وأشكالا أدبية كاملة وأن

ص: 261

ما نهمله قد يكون أعظم قيمة مما نعالجه، ويدرك الناقد فزع شديد لهذه الحقيقة ثم ينظر إلى السينما والقصة البوليسية والمذياع والكتاب الهزلي وهي الميادين التي تصلح لهذا الشكل الفني الذي توهم إغفاله، فيخف فزعه ويتسهل جزعه إلا أن لهذا الفزع مغزاه، فإن الذي يزعج طمأنينة الناقد هو اتساع مسؤوليته وضخامتها فهو وحده، ولا عون له إلا معرفته الحارس الوحيد للفن وأبوابه السحرية. فماذا يفعل الناقد التعاوني الجماعي؟ إنه لا ينشئ قراءات ومعاني متعددة فحسب ولكنه أيضاً يكسب لها جميعاً جمهوراً محباً لتلقيها قادراً على محاكمتها، أي أنه يكثر المعاني والقراءات وفي الوقت نفسه يجعلها محطاً للجدل والحوار وتتعاورها الأفكار المتعددة ومن تعدد الأفكار بل من كثرة الأخطاء ينبثق الصدق وهذا شيء قد أدركه العقلاء منذ عهد أفلاطون وحوارياته. فتركيب هذه الطريقة النقدية ليس تكثيراً بسيطاً أو تعدداً في الجوانب أو خلطاً فوضوياً وإنما هو صراع ديالكتيكي أصيل ومن هذا ينبثق الصواب وتتبلج الحقيقة. وقد نحصل على هذا التركيب لدى ناقد واحد أو في جماعة من النقاد ولكن يجب أن نحصل عليه على نحو حال. أما " نحصل " هذه بصيغة الجمع فإنها تعني العالم كله، إذ حيثما كانت الحقيقة ممكنة الظهور فنحن جميعاً نقاد بالضرورة.

ص: 262