الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: عناية الأمة بالأخذ بالتجويد
قدمت في المبحث السابق أن القرآن نزل مرتلاً مجوداً وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تلقاه كذلك وبلّغ أمته ما نزل عليه بحروفه وهيئاته. بقي أن نعرف ما المراد بالترتيل المأمور به في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
الرتل: حسن تناسق الشيء.
وثغر رتَل ورتِل حسن التنضيد مستو النبات.
وقيل المفلج وقيل بين أسنانه فروج لا يركب بعضه على بعض.
ورتّل الكلام: أحسن تأليفه وأبانه وتمهل فيه.
والترتيل في القراءة: الترسل فيها والتبيين من غير بغي.
قال علي رضي الله عنه حينما سئل عن معنى الترتيل: (هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف)1.
قال أبو العباس: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق والتبيين والتمكين أراد في قراءة القرآن.
وقال مجاهد: الترتيل الترسل.
قال: ورتله ترتيلا بعضه على إثر بعض.
قال أبو منصور: ذهب به إلى قولهم ثغر رتل إذا كان حسن التنضيد.
وقال ابن عباس في معنى الآية: قال: بينه تبييناً.
قال أبو إسحاق: والتبيين بأن يجعل في القراءة وإنما يتم التبيين بأن يبين جميع الحروف ويوفيها حقها من الإشباع.
وقال الضحاك: انبذه حرفاً حرفاً.
1 الكامل للهذلي: لوحة: 19/ب، النشر: 1/209
وقال الفراء: اقرأه على هينتك ترسلاً1.
وقال الراغب: الرتل اتساق الشيء وانتظامه على استقامة يقال رجل رتَل الأسنان، والترتيل إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة2.
وقال الخازن في تفسيره: وقيل الترتيل هو التوقف والترسل والتمهل والإفهام وتبيين القراءة حرفاً حرفاً إثره في إثر بعض بالمد والإشباع والتحقيق3.
وقال القرطبي في تفسيره: الترتيل في القراءة هو التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثغر المرتل وهو المشبه بنَوْرِ الأقحوان وهو المطلوب في قراءة القرآن4.
وقال الزمخشري في الكشاف: ترتيل القرآن قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات حتى يجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنَوْرِ الأقحوان وأن لا يهذّه هذّاً ولا يسرده سرداً5.
وقال الشيرازي6 في كتابه الموضح: الترتيل هو من قولهم ثغر رتَل إذا كان مفلجاً وذلك إذا انفرج ما بين الأسنان على استواء فيها، وترتل في مسيره إذا
1 لسان العرب: 11/265 مادة (ر ت ل)، معاني القرآن للزجاج: 5/239، معاني القرآن للفراء: 3/197، جامع البيان عن تأويل القرآن للطبري: 29/126
2 المفردات للراغب: 187
3 لباب التأويل في معاني التنزيل: 4/321
4 الجامع لأحكام القرآن: 1/17
5 الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري: 4/175
6 هو الإمام نصر بن علي بن محمد أبو عبد الله الشيرازي الفارسي المعروف بابن أبي مريم قرأ على محمود بن حمزة بن نصر. قال عنه ابن الجزري: إمام كبير المحل. توفي بعد سنة (565هـ) .
غاية النهاية: 2/337، انباه الرواة على أبناء النحاة للقفطي: 3/344
تتابعت خطاه من غير سرعة، فكذلك الترتيل هو التأني في القراءة مع تفصيل الكلم بعضها من بعض جامع لشرائط التجويد والتقويم1.
وقال ابن الجزري: وقال علماؤنا: أي تلبث في قراءته وافصل الحرف من الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فتدخل بعض الحروف في بعض2.
بعد هذا العرض تبين لنا معنى الترتيل المأمور به، وأنه تبيين القراءة وإتباع بعضها بعضاً على تأن وتؤدة مع تجويد اللفظ وحسن تأديته وتقويمه وإخراجه من مخرجه، فهو الأصل ولذلك نوه الله بشأنه حينما أكد الفعل بالمصدر تعظيما لشأنه وترغيباً في ثوابه، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} 3، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} 4.
وعلى هذا جاءت قراءته صلى الله عليه وسلم.
كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مدّاً، ثم قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم. 5
قال الداني مبيناً وجه الاستدلال من هذا الحديث على وجوب الأخذ بالتجويد: وهذا حديث مخرّج من الصحيح، وهو أصل في تحقيق القراءة، وتجويد الألفاظ، وإخراج الحروف من مواضعها، والنطق بها على مراتبها، وإيفائها صيغتها، وكل حق هو لها، من تلخيص وتبيين ومدّ وتمكين وإطباق وتفش وصفير وغنة وتكرير واستطالة وغير ذلك، على مقدار الصيغة وطبع الخلقة، من
1 الموضح في وجوه القراءات للشيرازي: 1/154
2 التمهيد لابن الجزري: 61
3 سورة المزمل آية: 4
4 سورة الفرقان آية: 32
5 فتح الباري شرح صحيح البخاري: 9/91
غير زيادة ولا نقصان1.
رحم الله الداني ما أوسع علمه، وأجزل لفظه، وأحكم عبارته كيف لا وهو حصن حصين وسند في القراءة متين.
فقد رأيت من تخبط في فهم هذا الحديث فلم يعرف المراد بالمد فيه فقال: القراء لا يثبتون مداً في هذه المواضع الثلاثة
…
ومن قائل: إذا كان أداء القرآن - تجويده - متلقى بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أين دليله النصي؟
وهل مقدار الحركة منضبط أو هو مختلف باختلاف سرعة القارئ وبطئه
…
الخ
ولست هنا في مقام تتبع الأخطاء والهفوات بل هي وقفة تأمل وإنعام نظر فقد كفانا صاحب المنجد2 في هذه المسائل شر الانقسام.
وأقول لهؤلاء جميعاً لابد من مراجعة علماء القراءات وما دونوه قديماً وحديثاً فما أشكل عليكم حله وصعب عليكم فهمه فإن لديهم الدواء النافع والبيان الساطع، والحكم القاطع، وكل علم يسأل عنه أهله.
ومن ذلك ما روي عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في سبحته قاعداً قط حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعداً، ويقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها» 3.
1 التحديد للداني: 80
2 منجد المقرئين لابن الجزري: الباب السادس، الفصل الثاني: في أن القراءات العشر متواترة فرشاً وأصولاً حال اجتماعهم وافتراقهم: 57
3 موطأ الإمام مالك. ما جاء في صلاة القاعد: 98، سنن الدرامي: 1/262
وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة حرفاً حرفاً. 1
قال ابن القيم: وكانت قراءته ترتيلاً لا هذّا ولا عجلة بل قراءة مفسرة حرفاً حرفاً، وكان يقطع قراءته آية آية وكان يمد عند حروف المد فيمد الرحمن ويمد الرحيم. 2
أقول: لقد تلقت الأمة القرآن الكريم بحروفه وقراءته وكيفية النطق بتلك الحروف والهيئات والصيغ التي جاءت بها على أنها سنة متبعة يجب الحفاظ عليها والالتزام بها وتعليمها كما جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه واتباع هديه في ذلك.
أورد ابن مجاهد بأسانيده جملة من الأحاديث والآثار الدالة على وجوب الاتباع في نقل القراءة وترك الابتداع.
من ذلك ما رواه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «قال لنا علي بن أبي طالب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كلما علمتم» 3.
وأورد بسنده عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: القراءة سنة4. وفي رواية أخرى عن خارجة قال: القراءة سنة فاقرءوا كما تجدونه5.
وبسنده عن عروة بن الزبير قال: إنما القراءة سنة من السنن فاقرءوه كما
1 الترمذي: 4/254، سنن أبي داود: 2/73، المصنف لابن أبي شيبة: 10/552
2 زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/482
3 كتاب السبعة لابن مجاهد: 47
4 كتاب السبعة لابن مجاهد: 49
5 كتاب السبعة لابن مجاهد: 50
علمتموه1. وفي رواية: فاقرءوه كما أقرئتموه2.
وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرئ رجلاً فقرأ الرجل {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} 3 مرسلة فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وكيف أقرأكها؟ قال: أقرأنيها: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} 4 فمدها.
فابن مسعود وهو مَن علمنا إتقانا وضبطا وحسن أداء، مَنْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه:"من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"5.
أنكر رضي الله عنه على هذا الرجل أن يقرأ كلمة (الفقراء) من غير مد ولم يرخص له في ذلك6 مع أن فعله وتركه سواء في عدم التأثير على دلالة الكلمة ومعناها ولكن لما كانت القراءة سنة متبعة وكيفياتها كذلك لم يقبل ابن مسعود من هذا الرجل أن يقرأ بغير ما قرأ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون غاشا له موافقا له على ما لم يقرأ به.
ويؤكد ابن مسعود رضي الله عنه الحض على الأخذ بالتجويد وأنه زينة
1 كتاب السبعة لابن مجاهد: 52
2 كتاب السبعة لابن مجاهد: 52
3 سورة التوبة آية: 60
4 الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي: 4/221، النشر: 1/315
5 المسند بتحقيق أحمد شاكر: 1/230، 270
6 قال ابن الجزري مبينا أن قصر المتصل لم يصح عن أحد من القراء: وقد تتبعته فلم أجده في قراءة صحيحة ولا شاذة بل رأيت النص بمده.
النشر: 1/315
التلاوة فيقول فيما رواه عنه الضحاك قال: قال عبد الله بن مسعود: جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات وأعربوه فإنه عربي والله يحب أن يعرب به1.
وعن زر بن حبيش رحمه الله تعالى قال: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود (طه) ولم يكسر -أي لم يمل- فقال عبد الله بن مسعود (طه) وكسر ثم قال: والله هكذا علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
وجاء رجل إلى الإمام نافع3 ليقرأ عليه بالحدر4 فوجهه نافع إلى ما هو أنفع له من الحدر وهو بيان الكيفية التي يجب أن يقرأ بها كتاب الله عز وجل والمنهج القويم الذي سلكه الصحابة والتابعون في الأخذ والأداء.
أورد الداني بسنده قال: جاء رجل إلى نافع فقال: تأخذ على الحدر، فقال نافع ما الحدر؟ ما أعرفها أسمعنا قال فقرأ الرجل فقال نافع: الحدر، أو قال حدرنا، أن لا نسقط الإعراب، ولا ننفي الحروف، ولا نخفف مشددا، ولا نشدد مخففا، ولا نقصر ممدودا، ولا نمد مقصورا، قراءتنا قراءة أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل جزل، لا نمضغ ولا نلوك، ننبر ولا نبتهر، نسهل ولا نشدد، نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها، ولا نلتفت إلى أقاويل الشعراء وأصحاب اللغات، أصاغر عن أكابر مليّ عن وفيّ، ديننا دين العجائز، وقراءتنا
1 النشر: 1/210
2 جمال القراء: 2/498، النشر: 2/31
3 نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أبو رويم، ويقال أبو نعيم مولى جعونة بن شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب قرأ على سبعين من التابعين وهو أحد القراء السبعة توفي سنة 169هـ
غاية النهاية: 2/230، التيسير لأبي عمرو الداني: 4، السبعة لابن مجاهد: 53
4 يأتي تعريفه ص: 40، 42، 43.
قراءة المشايخ، نسمع في القرآن، ولا نستعمل فيه بالرأي، ثم تلا نافع1:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 2.
قال الداني معقبا على هذه الرواية: «وهذا كلام من أيّد ووفّق ونُصر وفُهّم وجُعل إماماً عالماً وعلماً يُقْتفى أثره ويُتّبع سننه» .
وهذه الطريقة التي وصفها وبينها وأوضحها وعرّف أن الصحابة رضوان الله عليهم احتذوها هي التي يجب على قراء القرآن أن يمتثلوها في التحقيق، ويسلكوها في التجويد وينبذوا ما سواها مما هو مخالف لها وخارج عنها وعلى ذلك وجدنا الأئمة من القراء والأكابر من أهل الأداء. 3
نعم لقد عمل أئمة الإقراء الذين خصهم الله بحمل كتابه وشرفهم بالذب عن حياضه في كل عصر ومصر بهذه العبارات النيرة والتوجيهات الخيرة الصادرة من إمام دار الهجرة ورأس القراء السبعة الإمام نافع فجاءت مؤلفاتهم وأقوالهم شارحة وموضحة لذلك المنهج القويم والمسلك السليم ولا يشذ عنهم إلا من لا يعتد بقوله، فهم الحفظة الناقلون، والقراء المجودون.
ولعلي في هذه العجالة أن أقتبس بعض الشواهد على ما ذكرت من حضهم على الأخذ بالتجويد قولاً وعملاً، وعلى أي صفة كانت القراءة ترتيلاً أو تحقيقاً أو حدراً.
قال مكي4 رحمه الله تعالى في باب صفة من يجب أن يقرأ عليه وينقل عنه:
1 التحديد للداني: 93
2 سورة الإسراء آية: 88
3 التحديد للداني: 94
4 مكي بن أبي طالب أبو محمد القيسي القيرواني الأندلسي إمام علامة محقق أستاذ القراء =
يجب على طالب القرآن أن يتخير لقراءته ونقله وضبطه أهل الديانة والصيانة والفهم في علوم القرآن والنفاذ في علم العربية والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن وصحة النقل عن الأئمة المشهورين بالعلم.
فإذا اجتمع للمقرئ صحة الدين والسلامة في النقل والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في علوم العربية والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن كملت حالته ووجبت إمامته، وقد وصف من تقدمنا من العلماء المقرئين القراء فقال: القراء يتفاضلون في علم التجويد فمنهم من يعلمه رواية وقياساً وتمييزاً فذلك الحاذق الفطن، ومنهم من يعرفه سماعاً وتقليداً فذلك الوهن الضعيف لا يلبث أن يشك ويدخله التحريف والتصحيف إذا لم يبن على أصل ولا نقل عن فهم. 1
وقال في موضع آخر بعد فراغه من أبواب التجويد والفصول التي أوضح فيها القواعد اللازمة لذلك: والمقرئ إلى جميع ما ذكرناه في كتابنا هذا أحوج من القارئ لأنه إذا علِمَه علَّمه، وإذا لم يعلَمْه لم يعلّمه فاستوى في الجهل بالصواب في ذلك القارئ والمقرئ ويضل القارئ بضلال المقرئ فلا فضل لأحدهما على الآخر. 2
وقال الداني مبيناً الطريقة التي ينبغي للقارئ أن يسلكها حال القراءة قال: ينبغي للقارئ أن يأخذ نفسه بتفقد الحروف التي لا يوصل إلى حقيقة اللفظ
= والمجودين. قرأ القراءات على أبي الطيب عبد المنعم بن غلبون، وسمع من أبي بكر محمد بن علي الأذفوي، قرأ عليه يحيى بن إبراهيم البياز وموسى بن سليمان اللخمي، ومحمد بن محمد بن أصبغ وغيرهم. توفي سنة (437هـ) .
غاية النهاية: 2/309، معرفة القراء الكبار للحافظ الذهبي: 2/316
1 الرعاية: 89
2 الرعاية: 153
بها إلا بالرياضة الشديدة والتلاوة الكثيرة مع العلم بحقائقها والمعرفة بمنازلها فيعطي كل حرف منها حقه من المد إن كان ممدودا ومن التمكين إن كان مُمكّنا ومن الهمز إن كان مهموزا ومن الإدغام إن كان مدغما، ومن الإظهار إن كان مظهرا ومن الإخفاء إن كان مخفيا، ومن الحركة إن كان محركا ومن السكون إن كان مسكنا.
ومتى لم يفعل ذلك القارئ ولم يستعمل اللفظ به كذلك صار عند علماء هذه الصناعة لاحناً. 1
ويوجه الهذلي قارئ كتاب الله إلى الأخذ بأسباب التجويد مبينا له القواعد التي يجب عليه الاهتمام بها حتى يصير قارئا مصدرا ومتى أخل بشيء من تلك التوجيهات لم يجز له أن يقرئ أحداً من الناس.
قال رحمه الله: والأصل أن يتفقد الإنسان لفظه ويعتبر النظم والترتيل والتحقيق والحدر.
والترتيل: القراءة بتفكر.
والتحقيق إعطاء الحروف حقوقها من غير زيادة ولا نقصان ولا تكلف، وإتعاب نفس برفع صوت، ولا مبالغة في النفس فينقطع.
ولا يخلط آية رحمة بعذاب إذا لم يكن موضع الوقف.
والحدر: أن يقرأ بغير تفكر في المعاني ولا يمضغ، ولا يزيد ولا ينقص، وليكن صوته على وتيرة واحدة، ويجتهد في مخارج الحروف وذلك بعد أن يعرف مخارجها على اختلاف أقاويل العرب، ويعلم مجهورها من مهموسها وزائدها من أصليها، ومبدلها مما لا يثبت فيه البدل، ومطبقها من المنخفض منها، ونطعيها من لثويها، وذلقيها من أسليها، وحلقيها من حنكيها، وأشباه ذلك مما فيه طول
1 التحديد للداني: لوحة: 98/أ
فمن لم يعلم مثل هذا ولم يفهمه لم يجز له أن يقرئ أحداً من الناس ولا يأخذ على أحد حرفا، ويحرم عليه ذلك في هذه الصناعة. 1
وقال الشهرزوري2 في المصباح الزاهر: إن من لم يعط الحرف حقه من الصفات اللازمة والعارضة، ويخرجه من مخرجه المحدد له فقد صرفه عن مبناه وحاد به عن معناه.
قال: اعلم أن التجويد حلية التلاوة وزينة الأداء والقراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها، وترتيبها مراتبها، ورد الحرف من حروف المعجم إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وإشباع لفظه ولفظ النطق به؛ لأنه متى ما تغير عما ذكرته لك من وصفه زال عن وضعه ورصفه. 3
ويقول الشيرازي إن حسن الأداء فرض واجب على من رام قراءة شيء من كتاب الله سواء رتل، أو حقق أو حدر.
قال: وأما الحدر فهو تسهيل القراءة وهو يراد للتحفظ والاستكثار من الدرس، وهو أيضا يرتضى إذا لم يفارق التجويد وذلك بأن تعطى الحروف
1 الكامل للهذلي: لوحة: 24/ب، 31/أ
2 المبارك بن الحسن بن أحمد أبو الكرم الشهرزوري إمام كبير، ثقة محقق، قرأ على أحمد بن الحسن بن خيرون، وأحمد بن على الهاشمي، وأحمد بن على بن سوار، وغيرهم. قرأ عليه هبة الله بن يحيى الشيرازي، وعبد الوهاب بن سكينة وغيرهما، وكتابه المصباح من أحسن ما ألف في القراءات. توفي رحمه الله تعالى سنة (550هـ) .
غاية النهاية: 2/38.
3 المصباح الزاهر: 4/1469.
حقوقها من مخارجها ومسالكها ويوفر عليها حظوظها من حركاتها وسكناتها من غير زيادة مجاوزة للحد، ولا نقصان مؤد للقدح، فإن حسن الأداء فرض في القراءة، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حق تلاوته صيانة للقرآن من أن يجد التغيير واللحن إليه سبيلا. 1
ويوضح ابن أم قاسم المرادي2 أن الأخذ بالتجويد هو منهج القراء جميعا لا خلاف بينهم في ذلك، والقارئ مطالب به في كل الأحوال.
قال: اعلم وفقنا الله وإياك أن التجويد هو إعطاء كل حرف حقه من مخرجه وصفته، والقراء مجمعون على التزام التجويد في جميع أحوال القراءة من ترتيل وحدر وتوسط، وربما توهم قوم أن التجويد إنما يكون مع الترتيل لاعتقادهم أن التجويد إنما هو الإفراط في المد وإشباع الحركات ونحو ذلك مما لا يتأتى مع الحدر وليس كما توهموه وإنما حقيقة تجويد القرآن ما قدمته لك، وذلك متأت مع الحدر كما يتأتى مع الترتيل، ولا يُنكر أن الأخذ بالترتيل أتم مدا وتحريكا وإسكانا من الأخذ بالحدر، ولكن لابد في جميع ذلك من إقامة مخارج الحروف وصفاتها. 3
ثم نقل عن الأهوازي قوله: وأما الحدر فإنه القراءة السهلة السمحة العذبة الألفاظ التي لا تخرج القارئ عن طباع العرب وعما تكلمت به الفصحاء بعد أن يأتي بالرواية عن الإمام من أئمة القراءة على ما نقل عنه من المد والهمز والقطع
1 الموضح في وجوه القراءات للشيرازي: 1/156
2 الحسن بن قاسم بن عبد الله بن علي المرادي المالكي المشهور بابن أم قاسم نسبة إلى جدته أم أبيه. قرأ القراءات على مجد الدين إسماعيل، وأخذ عن أبي حيان. توفي سنة (749هـ)
غاية النهاية: 1/227، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ بن حجر: 2/116
3 المفيد في شرح عمدة المجيد، الحسن بن قاسم المرادي: 38
والوصل والتشديد والتخفيف والإمالة والتفخيم والاختلاس والإشباع فإن خالف شيئا من ذلك كان مخطئا. 1
ثم يأتي خاتمة المحققين من فاق أقرانه وساوى بعض المتقدمين في الأسانيد المتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله رب العالمين فيعلن وجوب الأخذ بالتجويد وإثم التارك له تهاوناً استناداً إلى أقوال الأئمة وسلف هذه الأمة من القراء الذي عليهم مدار أسانيد القراءات وإليهم يعزى اختلاف الطرق والروايات فالقول الفصل قولهم والخارق لإجماعهم لا يضرهم.
فقال في المقدمة2:
والأخذ بالتجويد حتم لازم
…
من لم يجود القرآن آثم
لأنه به الإله أنزلا
…
وهكذا منه إلينا وصلا
ثم بين ذلك أوضح بيان في النشر فقال:
ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية التي لا يجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها، والناس في ذلك بين محسن مأجور ومسيء آثم، أو معذور.
فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح العربي الفصيح وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح استغناء بنفسه واستبدادا برأيه وحدسه واتكالا على ما ألف من حفظه، واستكبارا عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه فإنه مقصر بلا شك، وآثم بلا ريب وغاش بلا مرية
1 المفيد في شرح عمدة المجيد، الحسن بن قاسم المرادي: 39
2 المقدمة الجزرية ضمن كتاب: مجموعة في فن التجويد: 9
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسول ولأئمة المسلمين وعامتهم"1.
أما من كان لا يطاوعه لسانه أو كان لا يجد من يهديه إلى الصواب بيانه فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها2.
أقول: لم يكن ابن الجزري بدعا من الناس فيما صرح به من وجوب الأخذ بالتجويد لكتاب الله وتأثيم المتهاون بتطبيق قواعده الموافقة للغة العرب لمن استطاع إليها سبيلا فقد سبقه إلى ذلك علماء القراءات العالمون بحقائقها ودقائقها وقد تقدم عن الداني ومكي والهذلي والشهرزوري والشيرازي ما يفيد ذلك فأئمة الإقراء كلهم مجمعون على وجوب الأخذ به.
قال الداني مبيناً أن الأخذ بالتجويد من ألزم الأشياء للقارئ وأنه منهج السلف:
من ألزم الأشياء للقراء
…
تجويد لفظ الحرف في الأداء
وكل حرف من حروف الذكر
…
مما جرى قبل ولم يجر
فحقه التفكيك والتمكين
…
وحكمه التحقيق والتبيين
فاستعمل التجويد عند لفظكا
…
بكل حرف من كلام ربكا
فعن قريب بالجزيل تجزى
…
وبنعيم الخلد سوف تحظى
قد جاء في الماهر بالقرآن
…
من الشفاء ومن البيان
ما فيه مقنع لمن تدبره
…
بأنه مع الكرام السفره
هذا مقال الصادق المصدوق
…
فليرغب القراء في التحقيق
وليسلكوا فيه طريق من مضى
…
من الأئمة مصابيح الدجى3
1 صحيح مسلم بشرح النووي: 2/37
2 النشر: 1/210
3 الأرجوزة المنبهة: للداني: 297