الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: كيف يتلقى القرآن
مما تقدم تبين لنا أن أخذ القراءة سنة متبعة يجب على الآخذ أن يتلقاها من أفواه الشيوخ الضابطين ويؤديها كما أديت إليه سنة الله في حفظه لهذا الكتاب العظيم وصونا له عن التحريف واللحن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1
فهذا سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدارس جبريل بالقرآن ويعارضه به في كل رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه القرآن مرتين. 2
ولا شك أن تلك المعارضة لم تكن قاصرة على الحفظ فقط بل كانت شاملة له وللكيفية التي تتلى بها حروف القرآن وتؤدى بها على أكمل وجه وأحسنه.
قال الكرماني: وفائدة درس جبريل تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم تجويد لفظه وتصحيح الحروف من مخارجها وليكون سنة في حق الأمة لتجويد التلامذة على الشيوخ في قراءاتهم3.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم تأكيداً لقاعدة أخذ القرآن مشافهة قرأ على أبيّ بن كعب كما في الحديث المتقدم ليعلمه طريقة التلاوة وترتيلها وعلى أي صفة تكون قراءة القرآن ليكون ذلك سنة في الإقراء والتعليم ولتكون المشافهة هي الوسيلة لنقل كتاب رب العالمين لما فيها من الضبط والإتقان لا غيرها من الوسائل.
قال الداني مبينا الحكمة من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي:
1 سورة الحجر آية: 9
2 فتح الباري: 1/30
3 لطائف الإشارات للقسطلاني: 209
في هذا الحديث أيضا أصل كبير في وجوب معرفة تجويد الألفاظ وكيفية النطق بالحروف على هيئتها وصيغتها وأن ذلك لازم لكل قراء القرآن أن يطلبوه ويتعلموه
وواجب على جميع المتصدرين أن يأخذوه ويعلموه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به واتباعا له على ما أكده بفعله ليكون سنة يتبعها القراء ويقتدي بها العلماء. 1
وبالمشافهة تلقى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعرضوا عليه وسمعوا منه.
فهذا ابن مسعود يقول: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة. 2
وبالمشافهة تلقى التابعون عن الصحابة وهكذا تناقلت الأمة القرآن وأخذته بالمشافهة جيلا بعد جيل حتى وصل إلينا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ونبه ابن الجزري إلى أن من أراد أن يحكم القراءة والتجويد ويتلو كتاب ربه كما نزل فعليه بترويض اللسان وتعويده النطق الصحيح المتلقى من فم المحسن المتقن.
قال: ولا أعلم سببا لبلوغ نهاية الإتقان والتجويد ووصول غاية التصحيح والتسديد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ المتلقى من فم المحسن. 3
وينظم ذلك المعنى في المقدمة فيقول:
1 التحديد للداني: 81
2 فتح الباري: 9/64
3 النشر: 1/213
وليس بينه وبين تركه
…
إلا رياضة امرئ بفكه1
فمن أراد قراءة شيء من كتاب الله سواء كان ذلك المقروء للحفظ أو لمجرد القراءة وجب عليه تصحيح ذلك القدر المقروء.
ولا يتأتى تصحيحه إلا بعرضه وأخذه من أفواه الشيوخ الضابطين، ومتى استنكف عن ذلك استكبارا واعتدادا بالنفس فقد وقع في الخطأ لا محالة ومن هنا لحقه الإثم الذي ذكره العلماء:
من لم يجود القرآن آثم
فإن لرسم المصحف قواعده وضوابطه، ولكل حرف منه مخرجه وصفاته، ولكل لفظ منه كيفيته وأداءه.
وقد قيل في حال من يأخذ العلم عن الشيوخ ومن لم يأخذه عنهم:
من يأخذ العلم عن شيخه مشافهة
…
يكن عن الزيغ والتصحيف في حرم
ومن يكن آخذاً للعلم من صُحف
…
فعلمه عند أهل العلم كالعدم2
وقيل: لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي. 3
وإن تعجب فعجب قول البعض إن القرآن نزل بلغة العرب والعربي يستطيع قراءته بطبعه فلا يحتاج إلى من يعلمه كيفية النطق به.
وهذا القول لا يصدر إلا ممن خانه فهمه، ولم يكن عن أهل الذكر آخذا علمه فإن أصاب فعلى غير هدى، وإن أخطأ فهو به أجدى {أَفَمَنْ يَمْشِي
1 المقدمة الجزرية: 8
2 القول السديد: 7
3 شرح ما يقع فيه التصحيف للعسكري: 10
مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح من نطق بالضاد قد تلقى القرآن من جبريل عرضا وسماعا وأمر بالإنصات والإصغاء التام حتى يفرغ جبريل من القراءة ثم يقرأ هو بعد ذلك حسب ما سمع وتلقى كما في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 2
وقال تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 3
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}
قال: فاستمع له وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثم إن علينا أن تقرأه.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه. 4
ويستفاد من هذه الآيات ما يأتي:
أولا: حفظ النص القرآني وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي في صدرك فتحفظ نصه.
ثانياً: القراءة وكيفيتها وصفة أدائها وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَقُرْآنَهُ}
1 سورة الملك آية: 22
2 سورة القيامة آية: 16، 17، 18
3 سورة طه آية: 114
4 فتح الباري: 1/29
أي وعلينا تعليمك قراءته، فالقرآن هنا مصدر بمعنى القراءة وليس علماً.
ثالثاً: معرفة ما في القرآن من العلم والعمل وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي علينا تعليمك حلاله وحرامه كما علمناك قراءته. 1
وأحاديث مدارسة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل رمضان واعتبار الصحابة القراءة سنة متبعة يجب العمل بها والمصير إليها مما تقدم بيانه كل ذلك يستفاد منه أن الأخذ والتلقي والعرض والسماع أمور لابد منها لطالب القرآن مهما بلغت منزلته وعلا كعبه أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده والتابعين لهم بإحسان.
روى الداني بسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا يقرأ في سورة يوسف (ليسجننه عتى حين) فقال له عمر: من أقرأكها؟ قال أقرأنيها ابن مسعود.
فكتب عمر إلى ابن مسعود رضي الله عنه: سلام عليك أما بعد فإن الله أنزل هذا القرآن فجعله قرآناً عربياً مبيناً، وأنزله بلغة هذا الحي من قريش، فإذا جاءك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل والسلام. 2
قال الداني معقباً على هذه الرواية: وهذا الخبر أصل كبير ومعناه تعليم عمر عبد الله رضي الله عنهما رياضة الألسنة، وأمره إياه أن يأخذ من يقرئه بالتفرقة بين الحروف المتشابهة في اللفظ المتقاربة في المخرج، حتى يؤدى القرآن على ما أنزل عليه من القراءات واللغات دون ما يجوز من ذلك من كلام العرب
1 سنن القراء د. عبد العزيز قاري: 244
2 التحديد: 82، المحتسب: 1/343، الكشاف: 2/317، والعرب تبدل أحد هذين الحرفين من صاحبه لتقاربهما في المخرج.
ولغاتها إذا كان مخالفا لما أنزل عليه من الأحرف، ألا ترى أن الفرق بين العين والحاء بحَّة الحاء، ولولا هي لكانت عيناً.
وإنما كانت ذات بحة لهمسها وجهر العين، فميز عمر رضي الله عنه الفرق بينها، وأمر عبد الله رضي الله عنه بتتبع ذلك على القارئين وتلخيص بيانه للتالين فيلزم سائر القراء وجميع أهل الأداء استعمال ذلك وتفقده حتى يلفظ بالحروف على هيئتها وينطق بها على مراتبها. 1
ومن تتبع كلام الأئمة في المحاذير التي تعرض لكل حرف من حروف الهجاء وسلامة النطق به حال القراءة واجتماعه مع غيره علم علم اليقين أن الطريق ليس سالكا لكل من رامه ولو كان من أرباب الفصاحة والبلاغة بل لابد فيه من القائد الخبير ورياضة باللسان تذلل العسير.
قال في النشر: أول ما يجب على مريد إتقان قراءة القرآن تصحيح إخراج كل حرف من مخرجه المختص به تصحيحا يمتاز به عن مقاربه، وتوفية كل حرف صفته المعروفة به توفية تخرجه عن مجانسه، يعمل لسانه وفمه بالرياضة في ذلك إعمالا يصير ذلك له طبعا وسليقة.
فكل حرف شارك غيره في مخرج فإنه لا يمتاز عن مشاركه إلا بالصفات، وكل حرف شارك غيره في صفاته فإنه لا يمتاز عنه إلا بالمخرج.
كالهمزة والهاء: اشتركا مخرجا وانفتاحا واستفالا وانفردت الهمزة بالجهر والشدة.
والعين والحاء: اشتركا مخرجا واستفالا وانفتاحا وانفردت الحاء بالهمس والرخاوة الخالصة.
والغين والخاء: اشتركا مخرجا ورخاوة واستعلاء وانفتاحا وانفردت الغين
1 التحديد: 83
بالجهر.
والجيم والشين والياء اشتركت مخرجا وانفتاحا واستفالا، وانفردت الجيم بالشدة واشتركت مع الياء في الجهر، وانفردت الشين بالهمس، والتفشي، واشتركت مع الياء في الرخاوة.
والضاد والظاء: اشتركا صفة وجهراً ورخاوة واستعلاء وإطباقاً، وافترقا مخرجاً، وانفردت الضاد بالاستطالة.
والطاء والدال والتاء: اشتركت مخرجاً وشدة، وانفردت الطاء بالإطباق والاستعلاء، واشتركت مع الدال في الجهر، وانفردت التاء بالهمس واشتركت مع الدال في الانفتاح والاستفال.
والظاء والذال والثاء: اشتركت مخرجاً ورخاوة وانفردت الظاء بالاستعلاء والإطباق واشتركت مع الذال في الجهر، وانفردت التاء بالهمس واشتركت مع الذال استفالا وانفتاحا.
والصاد والزاي والسين: اشتركت مخرجاً ورخاوة وصفيرا وانفردت الصاد بالإطباق والاستعلاء واشتركت مع السين في الهمس، وانفردت الزاي بالجهر، واشتركت مع السين في الانفتاح والاستفال.
قال: فإذا أحكم القارئ النطق بكل حرف على حدته موف حقه فليعمل نفسه بإحكامه حالة التركيب؛ لأنه ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد وذلك ظاهر فكم ممن يحسن الحروف مفردة ولا يحسنها مركبة بحسب ما يجاورها من مجانس ومقارب، وقوي وضعيف، ومفخم ومرقق، فيجذب القوي الضعيف، ويغلب المفخم المرقق فيصعب على اللسان النطق بذلك على حقه إلا بالرياضة الشديدة حالة التركيب.
فمن أحكم صحة اللفظ حالة التركيب حصّل حقيقة التجويد بالإتقان والتدريب. 1
وتوضيحا لما ذكر ابن الجزري نورد بعض الأمثلة ليُعلم أن قراءة القرآن تحتاج إلى دربة ورياضة على أهل الخبرة والدراية.
فالهمز مثلا له أحكامه التي يجب مراعاتها سواء كان مبدوءاً به أو موقوفا عليه.
قال في النشر: الهمزة إذا ابتدأ بها القارئ من كلمة فليلفظ بها سلسة في النطق سهلة في الذوق، وليتحفظ من تغليظ النطق بها نحو:(الحمد)(الذين)(أءنذرتهم) ولا سيما إذا أتى بعدها ألف نحو (آتى) و (آيات) و (آمّين)
فإن جاء حرف مغلظ كان التحفظ آكد نحو: (الله)(اللهم) أو مفخم نحو (الطلاق)(اصطفى) و (أصلح)
فإن كان حرفا مجانسها أو مقاربها كان التحفظ بسهولتها أشد وبترقيقها أوكد نحو: (اهدنا)(أعوذ)(أعطى)(أحطت)(أحق) فكثير من الناس ينطق بها في ذلك كالمتهوع. 2
قال مكي: ويجب على القارئ إذا وقف على الهمزة وهي متطرفة بالسكون أن يطلب اللفظ بها وإظهارها في وقفه لأنها لما بعد مخرجها وضعفت وأتت في آخر الكلمة وذهبت حركتها للوقف وضعفت بالسكون صعب إظهارها في الوقف وخيف عليها النقص فلابدّ من إظهارها عند الوقف والتكلف لذلك نحو (أسوأ) و (يستهزئ) فإن كان قبلها ساكن من حروف المد واللين صعب اللفظ بها في الوقف أشد مما قبله فيجب أن تظهرها بالوقف وتتطلب باللفظ نحو الوقف
1 النشر: 1/214، 215
2 النشر: 1/216
على (السراء) و (الضراء) و (سوء) و (شيء) و (يضيء) و (شاء) و (جاء) و (يشاء) فإن كنت تروم الحركة كان ذلك أسهل قليلا من وقوفك بالسكون.
وإن كان الساكن قبل الهمزة غير حرف مد ولين فهو أصعب في طلب الهمزة في الوقف إذا كنت لا تروم الحركة نحو قوله تعالى: (دفء) و (ملء) و (سَوء)
فاعرف هذا كله وتحفظ منه في وقفك وإن لم تتحفظ من إظهار الهمزة في هذا في وقفك كنت حاذفا حرفا ولاحنا في ذلك. 1
ومن ذلك (التاء) يتحفظ بما فيها من الشدة لئلا تصير رخوة وربما جعلت سينا لاسيما إذا كانت ساكنة نحو (فتنة) و (فترة) وليكن التحفظ بها آكد إذا تكررت نحو: (تتوفاهم) و (تتلوا)
وكذا كل ما تكرر من مثلين نحو (ثالث ثلاثة) و (حاججتم) و (لا أبرح حتى) ونحو ذلك.
قال في الرعاية: فبيان هذا الحرف المكرر لازم لأن في اللفظ به صعوبة لأنه بمنزلة الماشي يرفع رجله مرتين أو ثلاث مرات ويردها في كل مرة إلى الموضع الذي رفعها منه.
وقد مثله بعض العلماء بمشي المقيد فالتحفظ ببيانه لازم للقارئ ومعرفته لذلك زيادة في فهمه وعلمه بحقيقة لفظه. 2
قال ابن الجزري: وإذا سبقت الطاء التاء لخصت صوت الطاء مع الإتيان بصوت الإطباق ثم تأتي بالتاء مرققة على أصلها وهذا قليل في زماننا ولا يقدر
1 الرعاية: 151
2 الرعاية: 205، النشر: 1/217
عليه إلا الماهر المجود. 1
ومن ذلك (السين) إذا جاورت حرفاً من حروف الإطباق سواء كانت ساكنة أو متحركة وجب بيانها في رفق وتؤدة وإلا صارت صادا بسبب المجاورة لأن مخرجهما واحد ولولا التسفل والانفتاح اللذان في السين لكانت صادا، ولولا الاستعلاء والإطباق اللذان في الصاد لكانت سيناً.
وينبغي أن يبين صفيرها أكثر من الصاد لأن الصاد بين الإطباق نحو (بسطة) و (مسطورا) و (تسطع) و (أقسط) فتلفظ بها في حالي سكونها وتحريكها برفق ورقة.
وإذا سكنت وأتى بعده جيم أو تاء فبينها نحو (مستقيم) و (مسجد) ونحو ذلك.
ولولا تبيينها لالتبست بالزاي للمجاورة.
واحذر أن تحركها عند بيانك صفيرها. 2
ومن ذلك الضاد فإنه حرف عسير على اللسان والناس يتفاضلون في النطق به
قال ابن الجزري: فمنهم من يجعله (ظاء) مطلقا، لأنه يشارك الظاء في صفاتها كلها ويزيد عليها بالاستطالة، فلولا الاستطالة واختلاف المخرجين لكانت ظاء.
وإبدالها ظاء لا يجوز في كلام الله تعالى لمخالفته المعنى الذي أراد الله تعالى إذ لو قلنا (الضالين) بالظاء كان معناه الدائمين وهذا خلاف مراد الله تعالى وهو مبطل للصلاة، لأن الضلال بالضاد هو ضد الهدى كقوله {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} {وَلا الضَّالِّينَ} ونحوه وبالظاء هو الدوام كقوله {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً}
1 التمهيد: 121
2 التمهيد: 137
ومنهم من لا يوصلها إلى مخرجها بل يخرجها من دونه ممزوجة بالطاء المهملة لا يقدرون على غير ذلك ومنهم من يخرجها لاماً مفخمة.
وإذا أتى بعد الضاد حرف إطباق وجب التحفظ بلفظ الضاد لئلا يسبق اللسان إلى ما هو أخف عليه وهو الإدغام كقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ}
وإذا سكنت الضاد وأتى بعدها حرف من حروف المعجم فلا بدّ من المحافظة على بيانها وإلا بادر اللسان إلى ما هو أخف منها نحو: (أفضتم) و (خضتم) و (واخفض جناحك) و (قيضنا) و (فرضنا) ونحو ذلك. 1
وهكذا تناول العلماء كل حرف من حروف الهجاء مبينين خصائصه ومميزاته وكيفية النطق به وما يجب له
سواء كان مبدوء به أو موقوفا عليه وسواء كان مفردا أو اقترن بغيره ولو تتبعنا ذلك لخرجنا عن الاختصار
وإنما ذكر العلماء ذلك وبينوه أوضح بيان لما رأوا من وقوع الطلاب في الخطأ واللحن فيه
قال مكي في الرعاية بعد بيانه للمباحث والأبواب التي عقدها لأحكام التجويد:
كل ما ذكرته لك من هذه الحروف وما نذكره لم أزل أجد الطلبة تزل بهم ألسنتهم إلى ما نبهت عليه وتميل بهم طباعهم إلى الخطأ فيما حذرت منه فبكثرة تتبعي لألفاظ الطلبة بالمشرق والمغرب وقفت على ما حذرت منه، ووصيت به من هذه الألفاظ كلها وأنت تجد ذلك من نفسك وطبعك. 2
1 التمهيد: 140-142
2 الرعاية: 170
فإذا كان هذا حال الطلاب في تلك القرون المتقدمة فماذا عسى أن نقوله عمن طغت عليه العجمة وفشي فيه اللحن وغلب عليه اعوجاج اللسان من أهل زماننا هل يُتْرك يقرأ بحسب طبعه ولهجته وما سهل على لسانه؟
ولقد رد العلماء هذه المقولة ووصفوا قائلها بالنقص والجهالة.
قال مكي رحمه الله تعالى: وليس قول المقرئ والقارئ أنا أقرأ بطبعي وأجد الصواب بعادتي في القراءة لهذه الحروف من غير أن أعرف شيئاً مما ذكرته بحجة بل ذلك نقص ظاهر فيهما.
لأن من كانت هذه حجته يصيب ولا يدري، ويخطئ ولا يدري؛ إذ علمه واعتماده على طبعه وعادة لسانه، يمضي معه أينما مضى به من اللفظ، ويذهب معه أين ما ذهب، ولا يبنى على أصل ولا يقرأ على علم ولا يقرئ عن فهم فما أقربه من أن يذهب عنه طبعه، أو تتغير عليه عادته وتستحيل عليه طريقته؛ إذ هو بمنزلة من يمشي في ظلام في طريق مشتبه فالخطأ والزلل منه قريب.
والآخر بمنزلة من يمشي على طريق واضح معه ضياء لأنه يبني على أصل، وينقل عن فهم، ويلفظ عن فرع مستقيم وعلة واضحة فالخطأ منه بعيد.
فلا يرضى امرؤ لنفسه في كتاب الله جل ذكره وتجويد ألفاظه إلا بأعلى الأمور وأسلمها من الخطأ والزلل1.
وإلى وجوب عرض القرآن وأخذه عن أهل الضبط والإتقان نبه الداني في منظومته المنبهة فقال:
1 الرعاية: 153
واعلم بأن العرض للقرآن
…
على الإمام الفاضل الديّان
من سنة النبي والصحابة
…
ذوي المحل وذوي القرابة
والتابعون بعد لم يعدوه
…
بل من وكيد الأمر قد عدّوه
إذ كان قد صح عن الرسول
…
بأنه قرا على جبريل
وقد قرا بالوحي إذ أتاه
…
على أبيّ ثم قد أقراه
فأي شيء بعد هذا يتبع
…
وهل يردُّ الحق إلا مبتدع
أو جاهل لقوله لا ينظر
…
إذ هو في الورى كمن لا يبصر1
1 الأرجوزة المنبهة: للداني: 166