الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم مودة المؤمن للكافر التفصيلي:
يثير البعض شبهة مفادها أن موالاة الكفار غير محرمة بالصورة التي ذكرها العلماء في مباحث الولاء والبراء حيث إن الكتابية سواء كانت ذمية أو محاربة مندرجة تحت ما نهى الله عن مودتهم ومحبتهم، قال تعالى:(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وفي الدعاء المأثور (اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد .... الحديث) وفيه (ونخلع من يكفرك) أي نطرح مودة العابد لغيرك ولا نحب دينه ولا نميل إليه علمًا بأن الزواج من الكتابية فيه مودة، قال تعالى:(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، فكيف يحل التزوج بها عملاً بقوله تعالى:(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) مع النهي عن مودة من حاد الله ورسوله؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
في البداية قبل أن نشرع في الجواب لا بد لنا من
تحقيق مسألة الإذن من الزواج من الكتابية المحصنة العفيفة
، والجواب على ذلك أن للعلماء في الزواج من الكتابية حربية كانت أو ذمية قولين:
القول الأول: هو قول ابن عباس رضي الله عنه حيث يقول بحرمة نكاح نساء أهل الكتاب ويوافقه على ذلك بعض الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب والمالكية فيما هو المشهور عندهم ، ويستدلون على ذلك بأدلة هي كما يلي:
1 -
قول الله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) ووجه الدلالة أن الآية أفادت بعمومها تحريم نكاح المشركات والكتابيات من المشركات، سواء كانت ذمية أو محاربة.
2 -
قول الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) فقد دلت الآية على أن حل التزوج بالإماء، يشترط له إيمانهن وعدم قدرة المتزوج بهن على طول الحرة، فإذا انتفى الإيمان منهن بأن كن كتابيات مثلاً انتفى الحكم وهو الحل، فيحرم نكاحهن بناء على أن الحكم متى علق بشرط أوجب ذلك نفي الحكم عند عدم توفر الشرط.
فانتفاء الإيمان في الإماء، يستلزم تحريم الزواج بهن.
3 -
قول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
فقد دلت الآية على أن من لم يؤد الجزية من الكفار للمسلمين، ويكون في حرب معهم مطلوب قتاله، منهي عن محبته ومودته، فلا يحل للمسلم التزوج بنسائهم، لأن الزواج مودة ومحبة ونصرة.
4 -
قول الله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) فقد حرم الله على المؤمنين تمسكهم بالزوجات الكافرات، وحرم عليهم أن يجعلوهن في عصمتهم بنهيه الوارد في هذه
الآية، فكان دليلاً على تحريم ابتداء نكاحهن، لأنه طريق إلى المنهي عنه المحرم، وهو الإمساك بعصم الكوافر، وما يؤدي إلى المحرم فهو محرم.
5 -
ما روي بسند صحيح عن الليث عن نافع عن ابن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل للنصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعلم شيئًا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله
…
انتهى. وقد توفرت فيها علة النهي المقتضية للتحريم في قوله تعالى: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ونص الآية الكريمة كاملة (وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
6 -
ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرق بين من تزوجوا بكتابيات وأزواجهم ، فحين تزوج طلحة بن عبيد الله بيهودية وحذيفة بن اليمان بنصرانية، غضب عمر غضبًا شديدًا، فقالوا: نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب، فقال:«إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن، ولكن أنزعهن منكم انتزاعًا» ، فدل هذا على عدم جواز نكاح المسلمين للكتابيات، لأنه لو كان حلالاً جائزًا لما غضب عمر رضي الله عنه ولأنكر عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- ولصح إيقاع الطلاق، فكان تفريقه وعدم إجازته الطلاق دليلاً على حرمتهن.
ومن الأدلة العقلية على حرمة الزواج بالكتابيات ما يلي:
1 -
إن المرأة الكتابية تعارض دليل حلها وهو قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وتعارض دليل حرمتها وهو قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) وفي مثل تلك الحال يلزم الرجوع إلى الأصل وهو التحريم، لأن الابضاع مما يلزم الاحتياط فيها فيحرم على المسلمين الزواج من الكتابيات.
2 -
إن الكتابية مستمسكة بكتاب دار القول فيه بين حالين هما: التغيير أو النسخ، والمغير تزول صفة الكتاب عنه، وكذلك المنسوخ، ترتفع أحكامه، وحينئذ يكون لا فرق بينه وبين ما لم يكن، وعليه، تكون الكتابية في حكم من لا كتاب لها، ومن هذا شأنها لا يحل نكاحها لتحقق النقص الفاحش فيها فساوت عابدة الوثن.
القول الثاني: مذهب الجمهور وهو قول من يقول بجواز نكاح الكتابيات وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية:
قال تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فقد عطف الله المحصنات في الآية على الطيبات المصرح بحلها في صدر الآية، والمحصنات معناها الحرائر أو العفيفات فتكون الآية دليلاً على حل الحرائر أو العفائف من أهل الكتاب، لأن قضية العطف تقتضي التشريك في الحكم وعلى هذا فالآية محكمة وليس حكمها بمنسوخ على القول بعدم تناول آية البقرة وهي قوله تعالى:(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) لأهل الكتاب، فتكون كل من الآيتين متناولة لأفرادها، وعليه فلا نسخ ولا تخصيص، وعلى القول الثاني وهو أن آية تحريم المشركات متناولة للكتابيات، تكون آية المائدة وهي قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) مخصصة للعموم في قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) أو ناسخة لها على الخلاف المعروف في علم الأصول.
ويرد القائلون بجواز نكاح الكتابيات على أدلة المانعين بما يلي:
1 -
يجيب القائلون بجواز الزواج من الكتابية عن قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أن هذه الآية لم تتعرض بصريح اللفظ لتحريم الزواج، بل اقتضت النهي عن موادة أهل الحرب عمومًا، فلا يثبت التحريم بالقياس مع وجود النص، إذ لا يلزم من كون عقد الزواج طريقًا من طرق المودة والمحبة، أن يحرم التزوج فغاية ما تدل عليه الآية الكراهية لا التحريم حيث وردت آيات في صلة ذوي الرحم من غير المسلمين مثل قوله تعالى:(وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فالزوجة بعد عقد الزوجية تصبح من ذوي القرابة ومصاحبتها بالمعروف أمر واجب حتى لو كانت غير مسلمة لأن ذلك من حسن المعاشرة الواجبة على الزوج لزوجته.
2 -
أجاب من يرى إباحة الزواج من الكتابيات عن قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) إن هذه الآية قد ورد ما يدل على إلغاء هذا الشرط حيث إن الآية في قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) شاملة للحرائر والإماء ثم أن الأمة الكتابية يجوز قياسها على الأمة المسلمة بجامع جواز الوطء في كل منهما بملك اليمين، فحيث جاز نكاح الأمة المسلمة اتفاقًا، يجوز كذلك نكاح الأمة الكتابية.
3 -
وأجاب القائلون بإباحة الزواج من الكتابيات عن قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ) الآية: إن الآية دعت إلى قتال من يمتنع عن دفع الجزية للمسلمين وعدم قتال من يدفعها من الصغار والذلة، وحيث لا علاقة بين دفع الجزية وحِل الزواج، ولا علاقة بين عدم دفعها وحرمته، فلا دلالة في الآية على تحريم الزواج بالكتابية الحربية أو حلها.
4 -
وأجاب من يرى الإباحة في زواج المسلم بالكتابية عن قوله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) بأن اللام في الكوافر لتعريف العهد والكوافر المعهودات كن مشركات عبدة أوثان، إذ الآية وردت في مشركات الحديبية وهن كذلك، وعليه فلا تتناول الآية الكتابيات، وعلى أن الخطاب متوجه لمن كانت في عصمته كافرة مشركة تركها بدار الحرب، أما الكتابيات فإن دلالة الآية لا تشملهن من هذا الوجه ولذلك فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ذلك، فطلق عمر امرأتين له كانتا مشركتين بمكة حين نزلت الآية بالحديبية.
5 -
وأجاب القائلون بالإباحة في زواج الكتابية من المسلم، بأن ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الأمر لطلحة وحذيفة بترك زوجتيهما من الكفار، غير جيد السند، قال ذلك ابن عطية، بل قيل في هذا الأثر: إنه غريب، ثم قالوا: والذي نقل عن عمر أنه قال لمن تزوج من الكتابيات: طلق، فطلقوهن ما عدا حذيفة رضي الله عنه فقال هي خمرة فطلقها، فهذا الأثر يدل على عدم التحريم في نهاية الكلام حيث لولا أن العقد صحيح لم يطلب عمر الطلاق من المتزوج، ويؤيد ذلك ما
نقل ابن وهب وابن المنذر- نقلاً صحيحًا عن عمر رضي الله عنه قوله بجواز نكاح الكتابيات.
6 -
ورد القائلون بالإباحة على المعقول الأول وهو أن الأصل في الإبضاع التحريم ولذلك فهي مما يلزم الاحتياط فيها فيحرم على المسلمين لهذا الزواج من الكتابيات.
فقال من يرى الإباحة أن هذا القول ليس على إطلاقه، وغير مسلم به حيث إن قوله تعالى:(وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) يفيد بعد تعداد محرمات النكاح، أن الكتابيات داخلات في عموم آية الحل غير مخرجات منها، حيث إن آية النهي عن نكاح المشركات غير متناولة للكتابيات، وتكون آية المائدة وهي قوله تعالى:(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) جاءت مؤكدة للحل الوارد في العموم دفعًا لتوهم حرمتهن، كما فهم بعض الصحابة ذلك.
7 -
ثم رد القائلون بالإباحة على المعقول الثاني، بأن من لها كتاب مبدل أو منسوخ يصح أن تندرج تحت من لها شبهة كتاب، نظرًا لكتابها المغير وصحة دينها في أصله، وبذلك لا مساواة بينها وبين من لا كتاب لها أصلاً، وتفرقة الشارع الحكيم بينهما في الأحكام دليل ناطق على ذلك، فقد حقن دماء أهل الكتاب دون أهل الشرك، وأحل ذبيحة أهل الكتاب دون أهل الشرك فناسب أن تفارق الكتابية المشركة في حكم النكاح بها فلا تساويها في حرمة التزوج بها.
8 -
بالنسبة للرد على من قال بحرمة الزواج من الكتابيات مستنداً على أن علة النهي المقتضية لتحريم المشركات غير الكتابيات في قوله تعالى: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) تشمل الكتابيات، قال الجصاص: فإن قيل: لما قال عقيب تحريم نكاح المشركات: {أولئك يدعون إلى النار} دل على أنه لهذه العلة حرم نكاحهن، وذلك موجود في نكاح الكتابيات الذميات، والحربيات منهن، فوجب تحريم نكاحهن لهذه العلة كتحريم نكاح المشركات. قيل له: معلوم أن هذه ليست علة موجبة لتحريم النكاح; لأنها لو كانت كذلك لكان غير جائز إباحتهن بحال، فلما وجدنا نكاح المشركات قد كان مباحا في أول الإسلام إلى أن نزل تحريمهن مع وجود هذا المعنى وهو دعاء الكافرين لنا إلى النار، دل على أن هذا المعنى ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح; وقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين تحت نبيين من أنبياء الله تعالى، قال الله تعالى {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} فأخبر بصحة نكاحهما مع وجود الكفر منهما، فثبت بذلك أن الكفر ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح; وإن كان الله تعالى قد قال في سياق تحريم المشركات:{أولئك يدعون إلى النار} فجعله علماً لبطلان نكاحهن، وما كان كذلك من المعاني التي تجري مجرى العلل الشرعية، فليس فيه تأكيد فيما يتعلق به الحكم من الاسم فيجوز تخصيصه كتخصيص الاسم ، وإذا كان قوله:{والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} يجوز به تخصيص التحريم الذي علق بالاسم، جاز أيضاً تخصيص الحكم المنصوب على المعنى الذي أجري مجرى العلل الشرعية، ونظير ذلك قوله:{إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله} فذكر ما يحدث عن شرب الخمر من هذه الأمور المحظورة وأجراها مجرى العلة; وليس
بواجب إجراؤها في معلولاتها لأنه لو كان كذلك لوجب أن يحرم سائر البياعات والمناكحات وعقود المداينات لإرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في سائرها وأن يصدنا بها عن ذكر الله، فلما لم يجب اعتبار المعنى في سائر ما وجد فيه بل كان مقصور الحكم على المذكور دون غيره كان كذلك حكم سائر العلل الشرعية المنصوص عليها منها والمقتضية والمستدل عليها، وهذا مما يستدل به على تخصيص العلل الشرعية، فوجب بما وصفنا أن يكون حكم التحريم مقصوراً فيما وصفنا على المشركات منهن دون غيرهن، ويكون ذكر دعائهم إيانا إلى النار تأكيداً للحظر في المشركات غير متعد به إلى سواهن; لأن الشرك والدعاء إلى النار هما علما تحريم النكاح وذلك غير موجود في الكتابيات
…
انتهى.
وقال ابن العربي: فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا كَمَا قُلْتُمْ فَالْعِلَّةُ تَجْمَعُهُمْ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى:{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ} ؛ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ. قُلْنَا: لَا نَمْنَعُ فِي الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَامَّةً وَالْحُكْمُ خَاصًّا أَوْ أَزَيْدُ مِنْ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ وَأَمَارَاتٌ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى:{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ} يَرْجِعُ إلَى الرِّجَالِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} لَا إلَى النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ كَافِرًا حُكِمَ عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا وَدَعَاهَا إلَى الْكُفْرِ، وَلَا حُكْمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؛ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
خلاصة القول في هذه المسألة:
الذي يظهر من هذه المسألة أن الزواج بالكتابية مكروه في أقرب الأقوال إلى الاعتدال، وهو قول جمهور العلماء قال ابن قدامة:(ليس بين أهل العلم اختلاف في حل نساء أهل الكتاب، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل) ، وقد قال بكراهية الزواج بالكتابية كل من الحنفية والمالكية والشافعية وإن اختلفوا في درجة الكراهية من كراهية التنزيه إلى كراهية التحريم تبعًا إلى نوع الكتابية إذا كانت ذمية أو حربية مقيمة في دار الإسلام أو خارج دار الإسلام.
وخالفهم في ذلك الحنابلة فقالوا بجواز نكاح الكتابية مطلقًا بلا كراهية، وهو خلاف رأي الجمهور، ومخالف لما يُفهم من قوله تعالى:(وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) حيث فضل الله عز وجل المرأة المسلمة المؤمنة على الكافرة، ولا جدال في أن الزواج بالكتابية ليس على درجة الإباحة والمساواة بالنسبة إلى المرأة المسلمة ولهذا يترجح لدي أن الزواج بالكتابية مكروه، وإن كانت المسألة تدور وراء المصلحة والمفسدة، فإذا غلب على الظن أن الزواج بالكتابية فيه مصلحة شرعية في حق الزوج أو حق الزوجة أو حق المسلمين عامة فهو مباح وقد يكون مستحباً، وإذا ترتب على الزواج أو غلب على الظن أن هذا الزواج فيه مضرة على المسلم في دينه ودين أولاده، وعلى المسلمين من حوله فإنه محرم لما يترتب عليه من مفاسد، حيث إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وننبه هنا على أن الإسلام اشترط على قول من يقول بجواز النكاح بالكتابيات، شروطًا: الأول أن تكون كتابية، ومن لا تؤمن بكتاب لا ينطبق عليها هذا الوصف، والشرط الثاني
الإحصان ، وانعدام هذين الشرطين يجعل الزواج بالكتابية باطلاً باتفاق المسلمين وبنص القرآن الكريم على ذلك.
وهنا يبقى السؤال المُشكل هل هنالك تعارض بين الولاء والبراء الشرعي بالصورة التي ذكرها العلماء من تحريم مودة الكفار وبين الإذن بالزواج من الكتابية ومعاشرتها بالمعروف والأمر ببر الوالدين المشركين وصلة الرحم الكافرة؟
أقول بدايةً لا يخفى على المسلم أن الشارع أوجب البر بالوالدين الكافرين وأمر بصلة الرحم الكافرة استحباباً وقيل رخَص فيها وأذن بالزواج من الكتابية المُحصنة العفيفة ، وأهل العلم قد اتفقوا على أن الصلة والبر والإحسان الذي لا يستلزم التحابب والتوادد للأرحام الكفار وغيرهم مشروع باتفاق أهل العلم كالصلة بالمال وتفقد أحوالهم والنفقة عليهم والإعانة على نوائب الحق ومساعدة فقرائهم والمحتاجين منهم، وعيادة مرضاهم ، واتباع جنائزهم، وقبول هداياهم، والإهداء لهم، وتهنئتهم في الأفراح، وتعزيتهم في الأحزان، وزيارتهم في منازلهم، وقبول دعوتهم، والدعاء لهم بالهداية، ومعاملتهم بالتي هي أحسن، وكل صلة ظاهرة تدل على الرحمة والإحسان لا المودة مشروعة وخاصة ما كان يُراد به وجه الله ، وهذا مما أجمع عليه المسلمون ولا مخالف لذلك ممن لهم رأيٌ يُعتد به.
وعلى هذا فالبر بالوالدين الكافرين وصحبتهم في الدنيا معروفاً وصلة الرحم الكافرة والإحسان إليها والزواج من الكتابية المُحصنة العفيفة ومعاشرتها بالمعروف لا إشكال فيه شرعاً ألبته إلا أنه ينبغي أن يُعلم بأن مشروعية ما قررناه من التعامل بالإحسان والبر بالوالدين الكافرين وصحبتهما بالمعروف وصلة الرحم الكافرة والزواج من الكتابية المُحصنة العفيفة يكون دون موالاتهم الموالاة المطلقة وطاعتهم فيما يريدون من الشرك ومعصية الله تعالى أو شهودهم وهم على منكراتهم أو تعظيمهم على النحو المنهي عنه ويجب أن تكون الصلة والإحسان إليهم مع البراءة منهم على الوجه الشرعي لا سيما إذا تلبسوا بكفرهم ، وقد أوجب الشرع البراء من المشركين والولاء لله سبحانه بأن يتبرأ الإنسان من كل ما تبرأ الله منه كما قال سبحانه وتعالى عن موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه المشرك (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) وقوله سبحانه (َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء) ، وعن أبي عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) متفق عليه واللفظ للبخاري، وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يصل ذوي رحمه وأقاربه من غير أن يُؤثرهم على من هو أفضل منهم، وقال الله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، قال الجصاص في أحكام القرآن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان. فيه نهي للمؤمنين عن موالاة الكفار ونصرتهم والاستنصار بهم وتفويض أمورهم إليهم، وإيجاب التبري منهم وترك تعظيمهم وإكرامهم، وسواء بين الآباء والإخوان في ذلك إلا أنه قد أُمر مع ذلك بالإحسان إلى الأب الكافر وصحبته
بالمعروف بقوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه
…
إلى قوله
…
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً). اهـ. قلتُ وقول الجصاص رحمه الله (وترك تعظيمهم) فهذا حق وأما إكرامهم فهذا فيه نظر.
وقال ابن كثير رحمه الله: أي: إن حَرَصَا عليك كل الحرص، على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، أي: مُحسنًا إليهما، (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) يعني المؤمنين. انتهى.
وقد قال الله سبحانه فيما يختص بالأقارب الكفار (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.) وينبغي التنبه إلى أن الممنوع في هذه الآية باتفاق أهل العلم وإجماعهم هو المحبة الدينية ، وأما المحبة لغير الدين فقد اختلف أهل العلم في ذك وسنورد هذا الخلاف بعد قليل ثم أنه لا تنافي ولا حرج بين البراء من الكفار لأجل كفرهم ومواصلتهم والبر بهم والإحسان إليهم لا سيما الوالدين والأقارب، وكيف يكون في الأمر تناقضٌ أو حرج وقد جاء من عند الله وفي كتابه، وهو القائل) وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (أي أن كتابه لا تناقض فيه بحال وقال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) ، فالولاء للإسلام أعظم منزلة من منزلة البر وحسن الصحبة للكفار ولذلك يُضحي المسلم بذوي القرابة والنسب من الكفار عندما تتعارض مع مطالب العقيدة الإسلامية ، وعلى هذا فلا موالاة للكفار في مصاحبة الزوجة أو الوالدين من غير المسلمين بالبر والمعروف لأن الموالاة للكفار مطلقاً إنما تكون بمساواتهم مع المؤمنين أو تنزيلهم منزلة أقرب من منزلة أهل الإسلام أو التنازل عن شيء من أحكام الإسلام استجلاباً لمودتهم وحصول رضاهم.
وبهذا يتبين بأن الإسلام لا يمنع من مصاحبة الوالدين بالمعروف، مع اختلاف العقيدة، وهذه المصاحبة ليست هي الموالاة المنهي عنها، لأن الموالاة هي محبة القلب وإرادة النصرة الدينية، وهي غير حاصلة في المصاحبة بالمعروف، لأن المصاحبة بالمعروف لا ترقى إلى درجة الموالاة، فلو وقف القريب الكافر في الصف المعادي للجماعة المسلمة، وأعلن الحرب عليها فعندئذ لا صلة ولا مصاحبة، ويتضح ذلك من قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ، فقد روى ابن جرير الطبري بسنده، عن ابن زياد قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله عبد الله بن أبي، فقال: ألا ترى ما يقول أبوك؟ قال ما يقول أبي؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: فقد صدق والله يا رسول الله، أنت الأعز وهو الأذل، أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر بوالده مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتينهما به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا
…
، فلما قدموا المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أُبي على بابها بالسيف لأبيه وقال: أنت القائل (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)؟ أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله لا يأويك ظلها ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: يا للخزرج ابني يمنعني بيتي
للخزرج ابني يمنعني بيتي فقال والله لا يأويه أبداً إلا بإذن منه، فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال: والله لا يدخلن إلا بإذن من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: «اذهبوا إليه فقولوا له: خله ومسكنه» فأتوه فقال: أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم اهـ. فإذا انعقدت آصرة العقيدة فالمؤمنون كلهم إخوة، ولو لم يجمعهم نسب ولا صهر، قال تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وإذا اختلفت العقيدة ووقف المختلفان موقف المتحاربين فلا صلة ولا ارتباط ولو كانوا أباً أو ابناً.
وبهذا يتبين أن الموالاة والنصرة على الدين والمحبة الدينية تختلف عن البر والإحسان إلى الكافر القريب أو الوالد ، وأما بالنسبة لبغض الكفار في الله وحكمه ، وهل يجوز مودة المؤمن للكافر باعتبار وجوب البر ببعض أفراد الكفار وعشرتهم بالمعروف وحرمة هجرهم كالأب المشرك والأم المشركة وكذلك الزوجة الكتابية؟ أقول وبالله أستعين ما يلي:
قبل أن نشرع في خلاف العلماء في هذه المسألة لابد من أن نشرع في المتفق عليه بين أهل العلم المحققين في هذا الباب وهو ما يلي:
إن أهل العلم المحققين اتفقوا على أن المودة الدينية لا تجوز للكافر بحالٍ من الأحوال ، واتفق أهل العلم كذلك على حرمة محبة عموم ومجموع الكفار ولو كانت لغير دينهم ، واتفق أهل العلم كذلك على وجوب بغض الكافر المحارب للدين وأهله ولا رخصة في محبته أبداً ألبته ولو كانت طبيعية ولغير دينه ذلك أن الشارع قد قطع أسباب هذه المودة كلياً فلا يجوز الإهداء لهم ولا زيارتهم ولا صحبتهم بالمعروف بل الواجب جهادهم ومدافعة شرورهم ، واتفق أهل العلم أيضاً على أن بغض الكافر المسالم الذي لا يُحارب الدين وأهله جائز ولا تثريب على المسلم في ذلك لأن الكافر هو الذي تعاطى أسباب وموجبات البغض الديني واتفقوا على أنه يجب القصد والاعتدال في البغض للكفار بحيث لا يحمل البغض على ظلمهم أو تضييع حقوقهم ، وألا لا يُغرق المسلم في بغضائهم ويجعل لحسن التعامل موضعاً وهذا في حق الكفار المسالمين باستثناء المُحاربين ، واتفقوا كذلك على أن عدم مودة الكافر عموماً تُجزيء عن بغض شخصه وذلك أن عدم المودة شيء والبغض شيء آخر فلا يلزم من عدم مودتك لأحدٍ ما أنك تحبه أو أنك تُبغضه ، إذ أن الموالاة والمعاداة كما هو معلوم ضدين كما أن المحبة والبغض ضدين أيضاً وليسا نقيضين كما يتوهم البعض ، قال المتكلمون الضدان هما ما يمكن ارتفاعهما معاً ولا يمكن اجتماعهما معاً وذلك كاللون الأبيض والأسود فقد يكون شىءٌ ما لونه أبيض أو أسود أو غير ذلك كاللون الأخضر ولكن لا يمكن أن يكون الشىء الواحد نفسه أبيض وفي ذات الوقت أسود.
أما النقيضان فهما اللذين لا يُتصور ارتفاعهما معاً ولا اجتماعهما معاً مثل الموت والحياة فلا يمكن أن يكون أحد ما حياً ميتاً أو لا حياً ولا ميتاً بل لا بد من أحدهما أي لا يوجد سوى هذين الاحتمالين.
واتفق أهل العلم كذلك على وجوب بغض جميع الأعمال المخالفة للشرع بغض النظر عمَن صدرت منه وعلى وجوب البراءة من أعمال الكفار وعدم متابعتهم أو إقرارهم على شيء من باطلهم أياً كانوا سواءً كانوا آباء أو إخوة أو زوجة كتابية
واتفق أهل العلم على تحريم الإعانة على الإثم والعدوان وعلى حرمة شهود منكراتهم ، واتفق أهل العلم أيضاً على أن محبة الخير والهداية للناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم والرحمة والشفقة عليهم مشروعة ولا علاقة لها بالبراء الشرعي من المشركين ، واتفق أهل العلم كذلك على أن صلة الأقارب الكفار تكون محرمة إذا خشيت على نفسك أن يُضلوك ويضروك ، وعموماً يجب هجر كل من يُدخل عليك الضرر في دينك هجراً جميلاً وقائياً ويُستثنى من ذلك ما كان على سبيل المداراة ، واتفقوا على أن المسلم لو هجر أقاربه الكفار فإنه يجب عليه أن يكون الهجر هجراً جميلاً وهو الذي لا أذى معه ما لم تكن هناك مصلحة شرعية لهجرهم هجراً إيجابياً مبني على إظهار البغض لهم ، واتفق أهل العلم كذلك على وجوب البر بالوالدين الكافرين وصحبتهما في الدنيا معروفاً وحرمة هجرهما وأن الشارع أذن بالزواج من الكتابية المحصنة العفيفة وأن الصلة والبر والإحسان الذي لا يستلزم التحابب والتوادد كالصلة بالمال ونحوها للكافر المسالم وخاصة ذوي الرحم منهم مشروع.
وعلى هذا فبعد بيان المسائل المتفق عليها بين أهل العلم المحققين، إذاً في ماذا اختلف أهل العلم؟
أقول اختلف أهل العلم في مسألة وهي: هل يجوز للمؤمن أن يود ويحب الكافر المسالم محبةً طبيعية؟
وهنا تنبيه مهم قبل بيان هذه الأقوال عليك أن تعلم أن كل قول سأورده إن شاء الله قال به طائفة من أهل العلم قد اتفقوا على حكم المسألة دون الاتفاق على الدليل في بعض الأحيان فقد يستدل العالم الأول بدليل لا يوافقه العالم الثاني على ذات الدليل وإن اتفقا على نفس حكم المسألة ، والحاصل أن أقوال أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال تقريباً ، وبيان هذه الأقوال باختصار هي ما يلي:
الفريق الأول: قالوا أنه يجب بغض الكافر لكفره وإن لم يكن ذلك فلا أقل من عدم موادته لا دينياً ولا طبيعياً ، وعلى هذا فلا يجوز عندهم مودة الكافر أبداً ولو كانت جبلية ولو كان الكافر غير محارب ولو كان الكافر زوجة كتابية.
الفريق الثاني والثالث اتفقوا فيما يلي: قالوا لا مانع من محبة الوالد أو القريب الكافر أو الزوجة الكتابية إذا لم تكن لدينهم، بل لقرابتهم فهذه المحبة الطبيعية التي تُمليها الجبلية البشرية والفطرة الإنسانية لا تحرم ولا يُلام عليها المسلم وهذا القدر متفق عليه بين الفريق الثاني والثالث إلا أنهم اختلفوا في حكم إضمار البغض في الله للوالد الكافر والزوجة الكتابية فقال فريق منهم إنه يجوز محبتهم بمقتضى الجبلة البشرية والطبع إلا أنه يجب أن يُصاحب محبتهم المحبة الطبيعية البغض لهم في الدين وقالوا لا منافاة بين الجمع بين بغضهم في الله وبغض أشخاصهم لكفرهم ومحبتهم بمقتضى الطبع ، أما الفريق الآخر فقالوا إنه لا يلزم بغض شخص الكافر وذاته وأن المحبة الفطرية للكافر هي مثل الخوف الفطري لا يُؤاخذ العبد عليها إلا إذا رتب على هذا المحبة الفطرية ترك واجب أو فعل محرم ، ويرون أن محبة الكافر المسالم المعين لغير دينه جائزة وهي من باب الرخصة لعسر التحرَز منها وخاصة مع من يخالطهم المسلم للحق الواجب كالوالدين المشركين والزوجة الكتابية ونحوهما وهذا من التخفيف الذي يتبع التشريع ، واشترطوا عدم التوسع في هذه