المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الرخصة وأن تكون بالقدر الذي يرفع فيه المسلم الحرج عن - بسط القول والإسهاب في بيان حكم مودة المؤمن للكافر

[أبو فيصل البدراني]

الفصل: الرخصة وأن تكون بالقدر الذي يرفع فيه المسلم الحرج عن

الرخصة وأن تكون بالقدر الذي يرفع فيه المسلم الحرج عن نفسه وقالوا أنه يكفي البراءة من كفر الكافر وعدم متابعته وإقراره على باطله وبغض أعماله المخالفة للشرع وعدم تعظيمه دون بغض شخصه بشرط ألا تُقدم محبته على محبة الله ورسوله لاسيما مع من يُخالط منهم ويعسر التحرَز من صلتهم لأي سببٍ كان إلا أنه لو أبغضهم في الله فلا تثريب عليه لأنهم قد تعاطوا موجبات وأسباب البغض في الله.

وعليه فإليك تفصيل هذه الأقوال:

‌الفريق الأول:

قالوا أنه يجب بغض الكافر لكفره وإن لم يكن ذلك فلا أقل من عدم موادته لا دينياً ولا طبيعياً، وعلى هذا فلا يجوز عندهم مودة الكافر أبداً ولو كانت جبلية ولو كان الكافر غير محارب ولو كان الكافر زوجة كتابية ، واستدلوا بقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (من أحوال القلب وأعماله ما يكون من لوازم الإيمان الثابتة فيه، بحيث إذا كان الإنسان مؤمناً، لزم ذلك بغير قصد منه ولا تَعمُّد له ، وإذا لم يوجد، دل على أن الإيمان الواجب لم يحصل في القلب، وهذا كقوله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} فأخبر أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته، كما ينفي أحد الضدين الآخر ، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه، كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب.

ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف [لو]، التي تقتضي مع الشرط انتقاء المشروط، فقال:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} ، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه.

ومثله قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضًا، قال الله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}

انتهى).

ويقول ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر: (وهذه الآية مثل قوله {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، وقوله:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} ، بين سبحانه أن الإيمان له لوازم وله أضداد موجودة تستلزم ثبوت لوازمه وانتفاء أضداده ومن أضداده موادة من حاد الله ورسوله

انتهى).

ص: 11

ويقول ابن تيمية رحمه الله عن مودة الكفار في مبحث حكم مشابهتهم في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم "إذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان قال الله تعالى) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) إلى أن قال رحمه الله: فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً فمن واد الكفار فليس بمؤمن فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة

انتهى". ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك " أصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة البغض؛ فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف "ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن "أصل الموالاة الحبّ، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال " ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي" فالولاء والبراء تابع للحب والبغض، والحبّ والبغض هو الأصل فالولاء والبراء لازم الحبّ والبغض، وإذا تخلّف اللازم تخلّف الملزوم؛ فالظاهر والباطن متلازمان، ولا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر" ويقول ابن تيمية أيضاً "والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم،

ثم قال وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه،

وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وبر، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته

انتهى". ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}

(أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه ، وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود

ص: 12

منه، .... ثم قال وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئا ولا يصدق صاحبها

انتهى). إلا أن الشيخ السعدي رحمه الله يُرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب عمه أبو طالب حباً طبعياً وهذا مما يدل على عدم اتضاح الرؤية لديه أو يُقال أن له أكثر من مذهب في هذه المسألة حيث يقول في تفسيره لقوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (يخبر تعالى أنك يا محمد وغيرك من باب أولى لا تقدر على هداية أحد، ولو كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق، وخلق الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد الله سبحانه تعالى، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله).

وقال أصحاب هذا المذهب أن الإيمان له لوازم وله أضداد موجودة تستلزم ثبوت لوازمه وانتقاء أضداده ومن أضداده موادة من حاد الله ورسوله وأنه إذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتاً استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه الكفار سواءً كانوا محاربين أو مُسالمين وهذا تلازم ضروري ، وقالوا غالباً المودة والموالاة يدلان على إقرار الكافر على ما هو عليه والرضا عنه مما يسبب عدم دعوته إلى الإسلام ، وقالوا كذلك أن ولاية الكفار الولاية المحظورة تشمل ولايتهم استقلالاً وكذلك ولايتهم اشتراكاً مع المؤمنين وأن مودة من حاد الله ورسوله ولو كان مُسالماً للمسلمين لا تجتمع مع من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فإن هذا جمع بين ضدين لا يجتمعان لكن قد يكون للقلب نوع من محبة وإرادة لشيء ونوع محبة وإرادة لضده فهذا كثير بل هو غالب على بني آدم لكن لا يكون واحداً منهما تاماً.

قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان ({لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية ، (هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء إذا لم يكن من دون المؤمنين لا بأس به بدليل قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقاً كقوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} ، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ .. } الآية ، والجواب عن هذا: أن قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له، وقد تقرر في علم الأصول أن دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة له موانع تمنع اعتباره ، منها كون تخصيص المنطوق بالذكر لأجل موافقته للواقع كما في هذه الآية؛ لأنها نزلت في قوم والَوْا اليهود دون المؤمنين، فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها، بل موالاة الكفار حرام مطلقاً ، والعلم عند الله. انتهى).

واستدل أصحاب هذا المذهب على صحة مذهبهم بقوله تعالى "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" انظر إلى قوله تعالى: " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " ولم يقل " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تكفوا عن حربنا" فجعل

ص: 13

الإيمان بالله وحده غاية ينقطع عندها وجوب العداوة والبغضاء ، فالواجب بغض الكافر في الله أياً كان وقد ورد في هذا المعنى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: والذي نفس ابن عمر بيده لو أصبحت أصوم النهار لا أفطر، وأقوم الليل لا أفتر، ثم لم أصبح وأنا أحب أهل الطاعة وأبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار ولا يبالي

انتهى.

وَفِي صَحِيح الْحَاكِم عَن عَائِشَة رضي الله عنها عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ الشّرك فِي هَذِه الْأمة أخْفى من دَبِيب النَّمْل على الصَّفَا فِي اللَّيْلَة الظلماء وَأَدْنَاهُ أَن تحب على شَيْء من الْجور أَو تبغض على شَيْء من الْعدْل وَهل الدّين إِلَّا الْحبّ والبغض.

وقد كان أحمد بن حنبل- رحمه الله إمام أهل السنة، إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه، فقيل له في ذلك، فقال- رحمه الله:" لا أقدرُ أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه "

طبقات الحنابلة (1/ 12).

قال عمر بن الخطاب في شان النصارى: " أهينوهم ولا تظلموهم، فإنهم سبُّوا الله - تعالى -أعظم المسبة ".

ودخل أبو الوليد الطرطوش- يرحمه الله - على الخليفة في مصر، فوجدَ عنده وزيراً راهباً نصرانياً، قد سلّم إليه القيادة، وكان يأخذُ برأيهِ، فقال الطرطوشي:

يا أيها الملك الذي جودهُ

يطلبهُ القاصدُ والراغب

إنَّ الذي شرفت من أجله

يزعمُ هذا أنَّه كاذب

ويعني في هذا البيت الرسول صلى الله عليه وسلم.

فعندئذٍ اشتد غضبُ الخليفة، فأمرَ بالراهبِ فسُحبَ وضُرب، وأقبل على الشيخِ فأكرمهُ وعظَّمهُ بعد ما كان قد عزم على إيذائه

يقول القرافي معلقاً على هذه القصة: " لما استحضر الخليفةُ تكذيب الراهبِ للرسول- صلى الله عليه وسلم وهو سببُ شرفه، وشرفَ آبائهِ وأهل الأرض، بعثهُ ذلك عن البعدِ عن السكونِ إليه والمودة، وأبعدهُ عن منازلِ العزِّ إلى ما يليقُ به من الذلِ والصغار. الفروق (3/ 16).

وعلى هذا فمثلما تحب ربك تبغض عدو ربك فهذه مسألة واحدة يستحيل أن تنفصل أبداً ، حبيب حبيبي حبيبي ، وعدو حبيبي عدوي ، وليس من الحب أبداً أن تصافي عدو حبيبك فهذه علة الحب ، قال ابن القيم ابن القيم في النونية:

شرط المحبة أن توافق من تحب

على محبته بلا عصيان

فإذا ادعيت له المحبة مع خلافك

ما يحب فأنت ذو بهتان

أتحب أعداء الحبيب وتدعي

حباً له ما ذاك في إمكان

وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين

المحبة يا أخا الشيطان

ليس العبادة غير توحيد المحبة

مع خضوع القلب والأركان

إلى أن يقول:

ص: 14

ولقد رأينا من فريق يدعي

الإسلام شركاً ظاهر التبيان

جعلوا له شركاء والوهم

وسووهم به في الحب لا السلطان

وقال أصحاب هذا المذهب أيضاً تعليقاً على بعض الآيات والأحاديث التي يحتج بها المُخالف لهم مثل قوله تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون) ومثل حديث رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إن أمي قَدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك. ومثل قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وغير ذلك بأن البر والإحسان للكفار لا يستلزم المحبة والمودة كما أن البغض والكراهية لا تستلزم عدم البر والإحسان وقالوا أن الصلة والمكافأة الدنيوية وحسن المعاملة شيء والمودة شيء آخر، وقالوا أن البر هو إيصال الخير إلى الغير مع قطع النظر عن محبتك له من عدمها ، واستدلوا بما ورد في صحيح البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِىٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِى إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".

قال الحافظ ابن حجر في الفتح) ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .... الآية)، فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل والله أعلم ا. هـ وقالوا أيضاً لا منافاة بين بغضهم في الله والإحسان إليهم وصلتهم في ذات الوقت، فإن لكلٍ ما يقتضيه، فالمقتضي للإحسان هو أمر الله بذلك والسبب الذي يوجب ذلك، كالجوار والقرابة، والكفر والمعصية مقتضيان للبغض والكراهية وقال صاحب أضواء البيان الإمام الشنقيطي رحمه الله في ذات المسألة (قوله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} .

هذه الآية الكريمة تدل على الأمر ببر الوالدين الكافرين وقد جاءت آية أخرى يُفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} الآية. ثم نص على دخول الآباء في هذا بقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم} والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه لا معارضة بين الآيتين ، ووجه الجمع بينهما أن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم فكأن الله حذَّر من الموادة المشعرة بالمحبة والموالاة بالباطن لجميع الكفار يدخل في ذلك الآباء وغيرهم وأمر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف وفعل المعروف لا يستلزم المودة لأن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح ومما يدل لذلك إذنه صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق أن تصل أمها وهي كافرة وقال بعض العلماء أن قصتها سبب لنزول قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي

ص: 15

الدِّينِ} الآية

انتهى). وقال كذلك عن الكفار المسالمين (أما القسم العام وهم الذين كفروا بما جاءهم من الحق لكنهم لم يعادوا المسلمين في دينهم لا بقتال ولا بإخراج ولا بمعاونة غيرهم عليهم ولا ظاهروا على إخراجهم، فهؤلاء من جانب ليسوا محلاً للموالاة لكفرهم، وليس منهم ما يمنع برهم والإقساط إليهم. انتهى). وقال أيضاً (معاملة النَّبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده لليهود في خيبر فمما لا شك فيه أنهم داخلون أولاً في قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} ومنصوص على عدم موالاتهم في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ومع ذلك لما أخرجهم صلى الله عليه وسلم من المدينة وحاصرهم بعدها في خيبر وفتحها الله عليه وأصبحوا في قبضة يده فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين، ولا مظاهرين على إخراج المسلمين من ديارهم ، عاملهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقسط فعاملهم على أرض خيبر ونخيلها وأبقاهم فيها على جزء من الثمرة كأجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين، فلم يتخذهم عبيداً يسخرهم فيها، وبقيت معاملتهم بالقسط كما جاء في قصة ابن رواحة رضي الله عنه لما ذهب يخرص عليهم وعرضوا عليه ما عرضوا من الرشوة ليخفف عنهم، فقال لهم كلمته المشهورة: والله لأنتم أبغض الخلق إلي وجئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولن يحملني بغضي لكم، ولا حبي له أن أحيف عليكم، فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت، وإما أن تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت، فقالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض أي بالعدالة والقسط

انتهى).

وقال هذا الفريق من أهل العلم أن الدليل على مشروعية البر والإحسان وبذل المعروف ولين الجانب وحسن المعاملة مع غير المسلمين من معاهدين ومستأمنين وذميين دون جواز موالاتهم ومودتهم ومحبتهم، قوله تعالى} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {فهنا حصر الله عز وجل الولاية في الله ورسوله والمؤمنين دون غيرهم. وقالوا لمن توهم -على حد قولهم- أنّ البر والإحسان إلى غير المسلمين هو من المودة والموالاة المحرمة شرعاً فمنعهما جميعاً، ولمن غلا فتوهم أنّ برهم والإحسان إليهم يقتضي مودتهم وحبهم وموالاتهم فجوزهما جميعاً –أن هذا التلازم غير صحيح وعليه فإبراز الفرق بين هاتين المسألتين من الأمور المهمة، لكثرة اللبس فيهما فالتمييز بين المودة والموالاة، وبين البر والإحسان وحسن التعامل مع غير المسلم من أدق الأمور وأصعبها، وقالوا أن الصحيح الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة الصالح، هو التفريق بين البر والإحسان لغير المسلمين، وبين الموالاة والمودة القلبية، وأنّ البر والإحسان إليهم لا يستلزم مودتهم بأي حال من الأحوال وذلك لما يلي:

ص: 16

أولاً: أنّ الله – عز وجل قد جمع بينهما في كتابه، حيث أوصى بالبر والإحسان إلى الوالدين الكافرين، مع أنه قد نهى عن مودة الآباء والأبناء إن استحبوا الكفر على الإيمان، قال تعالى:} لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ {وقال} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {وقال تعالى في شأن الوالدين الكافرين:} وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {فالبر والإحسان والمصاحبة بالمعروف شيءّ، والمودةُ والموالاة شيءٌ آخر، ولا تعارض ولا تلازم بينهما.

فالذي شرع لنا البراءة من الكفار وحرم علينا مودتهم وموالاتهم هو الذي شرع لنا البر والإحسان إليهم، فكلٌ منهما من عند الله، وكلٌ منهما من دين الله.

ثانياً: أن الله تعالى قال} لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {فالآية فيها الرخصة بصلة نوع من الكفار، ومعاملتهم بالبر والإحسان من باب المكافأة على صنيعهم، وهذا لا يستلزم مودتهم بالقلب ، ومعناها أنَّ من كف أذاه من الكفار فلم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم فإنَّ المسلمين يقابلون ذلك بمكافأته بالإحسان والعدل معه في التعامل الدنيوي ولا يحبونه بقلوبهم لأنَّ اللهَ قال:} أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ {ولم يقل توالونهم وتحبونهم.

قال ابن الجوزي عند تفسيرها (قال المفسرون: وهذه رخصة في صلة الّذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم

انتهى). وقال ابن القيم بعد استشهاده بهذه الآية على جواز الصدقة والوقف على مساكين أهل الذمة (فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة -يعني سورة الممتحنة- عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء، وقطع المودة بينهم، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة، فبين الله سبحانه أنّ ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه، وكتبه على كل شيء، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة

انتهى).

وقد عقد الإمام القرافي في كتابه الفروق فصلاً نفيساً لبيان الفرق بين الأمر بعدم موالاة الكفار، والأمر ببرهم والإحسان إليهم، قال فيه -بتصرف يسير-: (اعلم أن الله تعالى منع من التودد لأهل الذمة بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق

الآية) فمنع الموالاة والتودد وقال في الآية الأخرى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم

الآية) وقال في حق الفريق الآخر (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين

الآية) وقال صلى الله عليه وسلم استوصوا بأهل الذمة خيراً وقال في حديث آخر استوصوا بالقبط خيراً فلا بد من الجمع بين هذه النصوص وإن الإحسان لأهل الذمة مطلوب وأن التودد والموالاة منهي عنهما والبابان ملتبسان فيحتاجان إلى الفرق وسر الفرق أن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لهم لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم

ص: 17

ودين الإسلام فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام ، وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله –تعالى- وذمة رسوله –صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى ذلك إجماع الأمة، فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم، وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة فيتعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، وتعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبيل ما نهي عنه في الآية وغيرها، ويتضح ذلك بالمثل، فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا، والقيام لهم حينئذ ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها هذا كله حرام، وكذلك إذا تلاقينا معهم في الطريق، وأخلينا لهم واسعها ورحبها والسهل منها، وتركنا أنفسنا في خسيسها وحزنها وضيقها كما جرت العادة أن يفعل ذلك المرء مع الرئيس، والولد مع الوالد، والحقير مع الشريف، فإن هذا ممنوع لما فيه من تعظيم شعائر الكفر، وتحقير شعائر الله –تعالى- وشعائر دينه، واحتقار أهله، ومن ذلك تمكينهم من الولايات والتصرف في الأمور الموجبة لقهر من هي عليه أو ظهور لعلو وسلطان المطالبة، فذلك كله ممنوع، وإن كان في غاية الرفق والأناة أيضاً لأن الرفق والأناة في هذا الباب نوع من الرئاسة والسيادة وعلو المنزلة في المكارم فهي درجة رفيعة أوصلناهم إليها وعظمناهم بسببها ورفعنا قدرهم بإيثارها وذلك كله منهي عنه وكذلك لا يكون المسلم عندهم خادماً ولا أجيراً يؤمر عليه وينهى ولا يكون أحد منهم وكيلا في المحاكمات على المسلمين عند ولاة الأمور.

أما ما أُمر به من برهم من غير مودة باطنة فهو كالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال أذيتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً منا بهم، لا خوفاً وتعظيماً، والدعاء لهم بالهداية، وأن يُجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم .. وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يُعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم، وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، فإن ذلك من مكارم الأخلاق، فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل، لا على وجه العزة والجلالة والتعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم، وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا، وتكذيب نبينا –صلى الله عليه وسلم وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا، واستولوا على دمائنا وأموالنا، وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا –عز وجل، ليمنعنا ذلك الاستحضار من الود الباطن لهم المحرم علينا خاصة لا لأن نُظهر آثار تلك الأمور التي نستحضرها في قلوبنا من صفاتهم الذميمة وينبغي ألا نستحضر صفاتهم الذميمة عند معاملتهم لئلا نقصر في برهم في الحدود المسموح بها لأننا لو

ص: 18

استحضرنا ذلك عند معاملتهم يُخشى من أن لا نعاملهم بالحسنى ولا بالعدل المطلوب منا حسب عقد الذمة

انتهى). ويقول ابن عاشور رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى (لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم والآخر يوادون من حاد الله ورسوله

الآية) ، وقوله ولو كانوا آباءهم إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد يقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة.

ثم أن الذي يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متجاهراً بذلك معلناً به، أو متجاهراً بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوة دنيوية، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته، قال تعالى (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) ولم يرخص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتقاء شرهم إن كان لهم بأس قال تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تقوا منهم تقاة).

وأما ما عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شره عن المسلمين، قال تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بين شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البر والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) وأن لكل منهما حالتها

انتهى).

وقال هذا الفريق من أهل العلم كما ذكرنا أن في البر والإحسان والصلة وحسنِ المعاملة ترغيب للكفار في الإسلام، فهي من وسائلِ الدعوة إلى الله عز وجل، وبعكسه الغلظة والجفوة في التعامل ينفره عن قبول الإسلام قال تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ). وقال: أبو الفتح البستي:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم * فطالما استعبد الإنسان إحسانٌ

وهذا بخلاف المودة والموالاة؛ فهما يدلان غالباً على إقرارِ الكافرِ على ما هو عليه والرضى به، وذلك يسبب عدم دعوته إلى الإسلامِ، بل في ذلك تغريرٌ به ونحن عندما نلتزم بالبر والإحسان مع غير المسلّمين، لا نفعل ذلك حباً لهم ومودة، وإنما نفعل ذلك طاعة الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإقامة للعدل والإحسان الذّي أمرنا الله به.

وقالوا أن هناك فرق بين محبة الخير للكافر، وبين محبة شخص الكافر فهناك من يخلط بين محبة الخير للكافر، وبين محبة الكافر لذاته فالمسلم يدعو غير المسلم للإسلام، ويحرص على إسلامه، وهدايته، ويحب إسلامه، ويفرح بذلك أشد الفرح ويستبشر، وهذا من أعظم صور محبة الخير للكافر، ومع هذا فهو لا يحبه لذاته والتفريق بين محبته لذاته، وبين محبة الخير له دقيق جداً، ومهم في فهم هذا الباب. قال ابن تيمية وهو يخاطب أحد ملوك النصارى (ونحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة، فإنّ أعظم ما عُِبد الله به نصيحة خلقه، وبذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين

انتهى).

ص: 19

فالحاصل أنّ البر والإحسان إلى غير المسلم وحسن التعامل معه؛ سلوك وعمل ظاهر، والمودة والموالاة معتقد وعمل باطن ، والخلط واللبس بينهما يقع كثيراً من بعض المسلمين فهماً وعملاً، فيظن بعضهم أنهما لا يجتمعان ، فيقع سوء الفهم والتطبيق، فهناك من أساء الفهم فظن أنّ حسن التعامل لا ينفك عن الولاء، وأنّ سوء التعامل لا ينفك عن البراء وهذا يؤدي إلى أن يسيء التعامل أداء للبراءة المطلوبة، ظناً منه أنّ الإساءة جزء، أو صورة من صور البراءة من الكافر، وقد تقدم بأنّ النصوص الشرعية فرقت بينهما وقلب المؤمن قلب واسع رحيم، يرحم غير المسلم، ويحب النجاة له من عذاب الله، ويحب له السعادة بالإسلام والإيمان، ولذا فهو يحرص على دعوته إلى الخير، ولكنه في الوقت نفسه لا يحب الكافرين ولا يواليهم طاعة لله، بل إذا حزن عليهم فإنما يحزن لكفرهم، وضلالهم، وعبادتهم غير الله تعالى.

كما يُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر بدار راهب، فناداه: يا راهب، فأشرف، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له يا أمير المؤمنين: ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله تعالى:} عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً {فكان بكاؤه عليه لضلال سعيه، وخراب دينه، ومآله إلى جهنم وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً، فبكى خوفاً أن يضل مثله

انتهى.

وقال أصحاب هذا المذهب إن نصوص الكتاب والسنة، لم تذكر إباحة تولي الكفار أو موالاتهم على أي وجه من الوجوه سوى حالة واحدة وهي حالة الإكراه الملجئ قال تعالى:(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فيجوز في حالة الضعف والخوف من أذاهم الموالاة لهم ظاهراً، ريثما يعد المسلمون العدة لمواجهة الكفار والتحرر من سيطرتهم، وقد عد بعض العلماء أقل نوع من أنواع الموالاة بدون إكراه إثماً ومعصية ، يقول سفيان الثوري رحمه الله:(من لات للكفار دواة أو برا لهم قلماً أو ناولهم قرطاساً فقد دخل في الموالاة المنهي عنها ما لم يكن ذلك لغرض دعوة إلى الله) اهـ قلتُ أو لم يكن له حاجة كحق جوار أو رحم أو نحوهما.

وعليه فالموالاة عند علماء الاصطلاح شيء، والبر شيء آخر، فالبر يعني: الصلة في الخير والاتساع في الإحسان، وقد أباح الله ذلك لطائفة من الكفار ضمن شروط معينة فلفظ الموالاة ليس مرادفاً للبر على الإطلاق.

وردوا على من قال بأن مسألة الميل القلبي لا اختيار للشخص فيه؟ قالوا نعم المحبة والبغض أمران بيد الله لكن لهما أسباب وبإمكان المسلم رفعه بقطع أسباب المودة التي ينشأ عنها ميل القلب كما قيل الإساءة تقطع عروق المحبة إلا أن هذا لا يُمكن مع الوالدين المشركين لحرمة هجرهما وأما مع غيرهم فقد أوجب أهل هذا المذهب هجر وقطع أسباب المودة مع كل من يغلب على ظنك محبته بسبب صلته ولو حملك ذلك على رد ما ثبت بالشرع جوازه كالهدية واستدلوا على هذا المذهب بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ضعيفاً أنه كان يقول: " اللهم لا تجعل لفاجر

ص: 20

ولا لفاسق عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت (لا تجد قوما) إلى آخره " وبقوله تعالى ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))

فهذا بهلول بن راشد رحمه الله من أصحاب مالك بن أنس رحمه الله دفع إلى بعض أصحابه دينارين ليشتري به زيتاً، فذُكر للرجل أن عند نصراني زيتاً أعذب ما يوجد. فانطلق إليه الرجل بالدينارين وأخبر النصراني أنه يريد زيتاً عذباً لبهلول بن راشد، فقال النصراني: نتقرب إلى الله - تعالى بخدمة بهلول كما تتقربون أنتم إلى الله بخدمته.

وأعطاه بالدينارين من الزيت ما يعطى بأربعة دنانير، ثم أقبل الرجل إلى بهلول وأخبره الخبر، فقال بهلول: قضيت حاجةً فاقض لي الأخرى، رُدَّ علىّ الدينارين فقال: لم؟ قال: تذّكرت قول الله - تعالى -: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) (المجادلة: من الآية22). فخشيت أن آكل زيت النصراني فأجد له في قلبي مودة فأكون ممن حاد الله ورسوله على عرض من الدنيا يسير

انتهى. ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 337).

وقال أهل هذا المذهب لمن قال بأن الموادة الواردة في قوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية) ليست هي مجرد المحبة فأجابوا وقالوا بل إن الموادة هنا تعني المحبة بغض النظر عن درجتها والذي يدل على هذا أن الله لم يقل هنا إلا أن تتقوا منهم تقاة، لأن المودة من أحوال القلب فلا تتصور معها التقية، بخلاف قوله (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين

إلى قوله

إلا أن تتقوا منهم تقاة).

وأما من قال بأن المحاد لله ورسوله هو الكافر المحارب للدين وأهله وليس مطلق الكفار فردوا عليه قائلين بأن الله تعالى نعت المنافقين الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يُحادون الله ورسوله فلا يلزم من المحادة أن يكون الكافر محارباً للدين وأهله حيث قال تعالى ذكره عنهم:} وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ {وأما من قال بأن المحاد لله ورسوله هو الكافر المحارب فحسب مستنداً على سبب نزول الآية " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " فردوا عليه بأن سبب النزول ضعيف الإسناد بل هو منقطع. وأما من قال بأن المحاد لله ورسوله هو الكافر المحارب دون الكافر المسالم مستنداً على حل الزواج من الكتابية الذمية المستلزم لمحبتها على حد تعبيرهم فردوا عليهم بأن هذا الكلام له حظ من النظر لو لم تكن الكتابية من أهل الحرب يجوز الزواج منها أيضاً أما وقد ثبت حل الزواج منها على مذهب بعض أهل العلم فبطل هذا الاستدلال ، فالذي يقولُ: إن إباحةَ نكاح نساء أهل الكتابِ، دليلٌ على أن النهي عن الموالاة خاصٌّ بأهل الحرب، عليه أن يراجع قوله فالآيات التي تنهى عن موالاة الكفار لا يدخل فيها حتى الكفار المحاربون على مذهبهم، لأن

ص: 21

الله أباح نكاحَ نسائهم ومن غير المعقول، بل من التكليفِ بالمحال أن يبيح الله نكاح نسائهم، ثم ينهى عن موالاتهم!!!.

هذه نتيجةُ قول من يعارِضُ نصوص النهي عن موالاة الكفار، بإباحة نكاح

الكتابيات.

وردوا على من قال بأن قوله تعالى في نفس السورة}: لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {

فقسم المخالفين في الدين إلى فريقين فريق كان سلماً للمسلمين لم يقاتلهم في الدين، ولم يخرجهم من ديارهم، فهؤلاء لهم حق البر والإقساط إليهم وفريق اتخذوا موقف العداوة، والمحادة للمسلمين، بالقتال أو الإخراج من الديار، أو المظاهرة والمعاونة على ذلك، فهؤلاء تحرم موالاتهم مثل مشركي مكّة الّذين ذاق المسلمون على أيديهم الويلات ومفهوم هذا النص أن الفريق الآخر لا تحرم موالاته وأن الآية الثانية وهي} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {تنهى عن مولاة الكفّار الذّين ذكرت أوصافهم في الآية، وهي المقاتلة من أجل الدين، والإخراج من الديار، أو المظاهرة أو المناصرة على الإخراج أما الآية الأولى فتدل على إباحة البر، بكل معانيه، للّذين يسالمون، ويتركون قتال المسلّمين ومفهوم الآية الثانية التي تنهى عن الموالاة في حال وجود تلك الأوصاف، أن محبة الكفار غير المحاربين محبة لغير دينهم جائزة أي الموالاة جائزة في حال عدمها وهذا واضح بالمقابلة ويدل على هذا قوله تعالى في مستهل سورة الممتحنة:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ {فالآية تعللّ تحريم الموالاة أو الإلقاء بالمودة إلى المشركين بأمرين مجتمعين كفرهم بالإسلام، وإخراجهم للرسول والمؤمنين من ديارهم بغير حق فهؤلاء جمعوا مع الكفر المحاربة أما مجرد الكفر، فقد يوجد معه سبب للمودة. فالجواب أن الاستدلال بمفهوم قوله تعالىِ} : إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {على جواز الموالاة الجزئية للكفار المسالمين أن ثمّة منطوق يُعارض هذا المفهوم في آيات عديدة، ومنها قوله تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {. ففي هذه الآية نهى الله عز وجل عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وهذا عام في كل يهودي ونصراني ليس له مخصص، وغير اليهود والنصارى أولى بذلك، سواء قاتلنا أولم يقاتلنا فلا تجوز موالاتهم، ومما يدل على هذا العموم أنه لمّا عين أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كاتباً نصرانياً أنكر عليه عمر رضي الله عنه، وتلا هذه الآية السابقة ، ومن المقطوع به أن كاتبَ أبي موسى الأشعريِّ لم يكن كافراً محارباً، ومن الأدلة كذلك قوله تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ

ص: 22

وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {وقوله تعالى} : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {ففي هذه الآية حصر الموالاة في الله ورسوله والمؤمنين، وغير المؤمنين خارجون عن هذا الحصر قطعاً، فلا تجوز موالاتهم بأي حال.

وردوا على من قال إنّ كلمة الولاية لا تتضمن بالضرورة المحبة القلبية، وكلمة البراء لا تتضمن بالضرورة الكراهة والبغضاء لمن يقوم بشيء يستوجب البراءة ، أما الرد الأول أن هذا مُخالف لمدلولات هذه الكلمة في اللغة العربية، فإنّ من معاني ولوازم الولاية المودة، والمحبة، ومن لوازم ومعاني البراءة البغض والكراهة، وأما الرد الثاني أنّ هذا القول مخالف لظاهر الآيات التي فيها البراءة من الكافرين، ومنها قوله تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ {.قال ابن كثير في تفسيرها: (يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن، بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم، فنحن نتبرأ منكم، ونبغضكم).

وردوا على من استدلوا بسبب نزول قول الله تعالى} إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {. حيث نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وفيها دلالة على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب عمه وهو مشرك، ففيها دليل على جواز محبة غير المسلم ، فالجواب أن المعنى من أحببت هدايته لا من أحببت شخصه، على تقدير أنّ المفعول محذوف ، كما جَاءَ ذلك مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، أو يُقال إنّ ذلك قبل النهي عن محبة المشركين وعلى فرض صحة هذا القول يبطل قول من يقول بأن قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يدل على أن بغض الكافر المُسالم في الله لا ينفك عن محبة الله وفيه تلازم ضروري بينه وبين محبة الله والإيمان به على وجه الكمال ، فاللام في قوله "لا تجدُ قوما" هي "لا" النافية وليست ناهية بدليل قوله تجدُ بالضم أي مرفوعة ولو كانت الناهية لكانت تجد مجزومة بالسكون ، قال أهل العلم أن النفي نفيٌ لحقيقة الشىء في الماضي والمستقبل بعكس النهي فقد يوجد ولكن الله نهى عنه.

والحق أن ((لا تجد قوماً)) أسلوب خبري؛ لأن (لا) هنا نافية وليست ناهية؛ لكنه ظاهره النفي ومراده النهي، كقوله:(لا ضرر ولا ضرار) وقوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] فهذا خبر لكن المقصود به: (لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا) فالمقصود هنا: أن هذا من شدة تأكده ولزومه على المؤمنين، كأنه لا يمكن أن تجد مؤمناً يحب الله ورسوله يجمع بين الإيمان ومودة المحادين لله ورسوله، فالمراد بنفي الوجدان نفي المودة، يعني: لا توادوهم أبداً، على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في

ص: 23

النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية في التصلب في مجانبة المحادين ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر: ((لا تَجِدُ قَوْمًا)) والمراد بها الإنشاء، وهذا للنهي البليغ والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد من إيراده بلفظ الإنشاء كما هو معلوم بمحله

انتهى.

وعلى كل حال الآية التي يحتج بها المُخالف ليس فيها دليل على جواز مودة غير المسلم، ولا تعارض بينها وبين الآيات السابقة، التي تحرم مودة غير المسلم ولو كان أقرب قريب، وكتاب الله يُصدق بعضه بعضاً، ولا يعارضه، وما يُشكل منه يُرد للمُحكم، كما هي طريقة الراسخين في العلم.

والذي يدل على أن المراد إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته لا من أحببت شخصه أن الآية مُحتملة وليست صريحة ، والمُشكل المُحتمل يُرد للمُحكم الصريح ، والصريح حرمة محبة الكفار كقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [سورة آل عمران: 118][33]، وقالِ:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة: 24][34]، وقولِه:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [سورة هود: 113][35]، وقال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة المجادلة: 22]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة: 1].

وردوا على من قال (إنّ الإسلام أباح للمسلم الزواج بالكتابية، والحياة الزوجية يجب أن تقوم على السكون النفسي، والمودة، والرحمة، كما دل على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {فهذا يدل على أنّ مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها، لأنّ التواد بين الزوج المسلم وزوجته الكتابية حاصل بما أودعه الله تبارك وتعالى في الزوجين من التواد، والتراحم بينهما، وكيف لا يواد الرجل زوجته إذا كانت كتابية؟ وكيف لا يواد الولد جده وجدته وخاله وخالته إذا كانت أمه ذمية؟ ولو كانت مودة الكافر محرمة ما شرع الله لنا الزواج من الكتابية التي لا تؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على عدم الممانعة من حب الكافر المسالم ومودته، وأنّ ذلك لا يؤثر على العقيدة، وليس

ص: 24

من الموالاة المنهي عنها). وقد كان الرد الأول ما يلي: صحيح بأنّ الحياة الزوجية قد يكون من آثارها المودة والرحمة، فأما الرحمة بغير المسلمة فلا بأس بها، وليست موالاة كما تقدم ، وأما المودة القلبية فالأصل النهي عنها وعدم مودتها لكفرها؛ ولكن لو حصل ميل طبيعي إليها بلا قصد ولا إرادة، وفيه نوع مودة لها طبيعية وفطرية من أجل إحسانها إليه، ولما بينهما من العشرة والأولاد فهذا لا يُلام عليه الإنسان بشرط مدافعة محبتها وعدم الركون إلى محبتها ويجب عليه أن يبغضها لما فيها من الكفر ، وعلى هذا فقوله تعالى "وجعل بينكم مودة ورحمة" محمولة على الأغلب ، والأغلب هو زواج المسلمين من المسلمات.

وأما الرد الثاني: أن يقال: المودة الحاصلة بالزواج بالكتابية هي أمر كوني قدري، وأمر الله ببغض الكافر أمر شرعي ديني، وأوامر الله الشرعية لا يُعترض عليها بالأمور الكونية ، والمحتج بذلك هو نظير من يقول: أن الله خلق الخلق مختلفين ولن يزالوا كذلك، فلا داعي للأمر بالجماعة والائتلاف! فأبطل أمر الله الشرعي بالأمر الكوني.

أو كمن يقول أن قضى على العباد أن تقع منهم المعاصي، وأخبر أن بني آدم مذنبون خطاؤون، وعليه فلا داعي لأن ننهى الناس عن المعاصي، فأبطل أمر الله بعدم معصيته بناء على الأمر الكوني من وقوع المعاصي!

وهكذا، فكيف يعترض على أمر الله ببغض الكفار، بأمر كوني قدري وهو وقوع المتزوج في حب زوجته؟

ثم إنه لا يمتنع أن تكون بين الزوجين عداوة دينية كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)[التغابن: 14]

فالله أثبت احتمال قيام العداوة الدينية بين الزوج والزوجة.

وأما الرد الثالث: أن الآية التي نهت عن موآدّة الكفار آية عامة ، ولم يصرح فيها بالنص على عدم موآدّة الزوجة غير المسلمة فلا مانع من أن تكون الزوجة الكتابية مخصوصة بجواز المحبة من بين سائر الكفار ، ولا يتعدى هذا الحكم إلى غيرها.

وردوا على من استدل بقوله تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أن المودة التي ذكرها الله المراد بها الصلة والإحسان كما قال تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فالنبي لا يطلب أن يتحاب مع كفار قريش وإنما كما في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة)[البخاري:4818].

وردوا على من قال (أننا نقر أن الله نهى عن موالاة الكفار، لكن آيات النهي عن موالاة الكفار لا يلزم منها النهي عن حبهم والأمر ببغضهم، لأن الموالاة فيها قدر زائد على مجرد الحب والبغض وهي "النصرة") فالجواب أن "الموالاة" لفظ عام يشمل الحب والنصرة، فالحب موالاة، والنصرة موالاة، والنهي عن العام يشمل جميع أفراده.

ومن ظن أن الموالاة لا تكون إلا لما تركّب منهما فقد خالف النص الذي منع الحب كقوله (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم) وهي في المسالمين كما هو معلوم.

ص: 25

وردوا على من أباح محبة الكافر المُسالم محبة طبيعية وعدم وجوب بغضه بما ورد عن أسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة تقول كما في صحيح البخاري (كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة)[البخاري، 4230] فأهل الحبشة مسالمون، بل نفعوا أصحاب النبي حيث وفروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم "البُغَضاء".

ولما بعث نبي الله –صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار خافوا أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح: (يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم)[أحمد: 14966] فهؤلاء كفار مسالمون وليسو محاربين، ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم ، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" انظر إلى قوله تعالى:" وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " ولم يقل " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تكفوا عن حربنا" فجعل الإيمان بالله وحده غاية ينقطع عندها وجوب العداوة والبغضاء ، فالواجب بغض الكافر في الله أياً كان.

وردوا على من قال (إنّ المراد من تحريم موالاة الكفار هو اتخاذهم أولياء بوصفهم جماعة متميزة بديانتها وعقائدها وأفكارها وشعائرها، أي بوصفهم يهوداً أو نصارى أو مجوسا أو نحو ذلك، لا بوصفهم جيراناً أو زملاء أو مواطنين ، والمفروض أن يكون ولاء المسلّم للأّمة المسلّمة وحدها، ومن هنا جاء التحذير في عدد من الآيات من اتخاذهم أولياء: (من دون المؤمنين). أي أنه يتودد إليهم المسلم، ويتقرب لهم على حساب جماعته). فأجابوا بأنّ هذا الفهم مُخالف لفهم السلف ، وتحريف لمعنى النصوص.

وردوا على من قال (أن قوله تعالى "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم" فيه دليل على جواز وإمكانية محبة مجموع الكفار أو آحادهم لسبب دنيوي.). فأجابوا بأن الآية دليل على عكس ذلك فهي دليل على عدم جواز محبة الكافر إلا أن يؤمن بدليل أن المراد بالمودة هنا هي إسلام الكافر ، قال الشوكاني في فتح القدير: عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة. وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وحسن إسلامهم ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام مودة وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة إلى الله، وقيل المراد بالمودة هنا تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، ولا وجه لهذا التخصيص وإن كان من جملة ما صار سببا إلى المودة، فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها لم تحصل المودة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده. اهـ. وفي تفسير الألوسي:{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم} . أي من أقاربكم المشركين {مودة} بأن يوافقوكم في الدين، وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبا لقولهم، ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح

ص: 26

لهم الفتح فأسلم قومهم فتم بينهم من التحاب والتصافي ما تم، ويدخل في ذلك أبو سفيان وأضرابه من مسلمة الفتح من أقاربهم المشركين. وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن عدي. وابن مردويه. والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت المودة التي جعل الله تعالى بينهم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين، وأنت تعلم أن تزوجها كان وقت هجرة الحبشة، ونزول هذه الآيات سنة ست من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره، وفي ثبوته عن ابن عباس مقال. اهـ.

وردوا على من قال يجب التفريق بين البراءة من الأشخاص، والبراءة مما يعملون وأن البراءة من عمل غير المسلم لا تقتضي بالضرورة البراءة منه ، فكان الرد هو أنّ البراءة تكون من الشرك وأهله، ومن أعمال المشركين على حد سواء، لقوله تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ {ثمّ هذه الشبهة مع مخالفتها لصريح الآية، فهي مخالفة للواقع، فهناك تلازم لا ينفك بين البراءة من الشخص والبراءة من عمله على حسبه ولو كان ذلك سائغاً لقال قائل نُحب الإيمان ولا نُحب المؤمن، نعم نحن نحب الخير والهداية لغير المسلمين، ولكن لا يلزم من ذلك محبتهم ومودتهم بالقلب ، ثم إن الصفة كما هو معلوم تتبع الموصوف، فلا يتصور صفة قائمة بذاتها دون موصوف يتصف بها، فكيف تُبغض الكفر دون حامله؟! ومن الذي جاء بهذا الكفر؟! أليس الكافر؟!

وأما متى تكون البراءة من المعصية دون فاعل المعصية ولو كانت هذه المعصية كفراً أكبر؟ فالجواب إذا كان فاعل المعصية معذوراً عند الله إما بالتأول أو الجهل الذي ليس فيه تفريط أو نسيان أو خطأ أو هذيان أو نحو ذلك ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال: «بعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليد إِلى بني جَذِيمةَ، فدعاهم إِلى الإِسلام، فلم يُحسِنُوا أن يقولوا: أسْلَمْنا، فجعلوا يقولون: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا، فجعل خالد بن الوليد يقتل ويأسر، ودفع إِلى كُلِّ رجل مِنَّا أسيرَهُ، فقلتُ: والله، لا أقتلُ أسيري، ولا يَقْتُلُ رجل من أصحابي أسيرَهُ، حتى قَدِمْنا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذكرناه، فرفع يَدَيْهِ، فقال: اللهم إِني أبْرَأْ إِليك مما صنع خالد - مرتين -» . أخرجه البخاري، والنسائي. فهنا رسول الله عليه الصلاة والسلام تبرأ مما صنع خالد ومن عمله رضي الله عنه دون شخص خالد ، وذلك لأن خالد كان متأولاً معذوراً عند الله.

هذه جملة أدلة وردود من قال بهذا القول ، وأهل هذا المذهب يرون أن المسلم إذا رأى من نفسه ميلاً ومحبة طبيعية للكافر بسبب هديته أو إحسانه أو صلته فإنه يجب عليه في هذه الحال قطع أسباب هذه المودة ولو أدى ذلك إلى رد الهدية وعدم قبولها والامتناع من الزيارة وعليه هجر الأقارب الكفار هجراً جميلاً إذا آنس من نفسه إضمار المحبة الطبيعية تجاههم باستثناء هجر الوالدين والزوجة الكتابية فإنه لا يجوز هجرهم لهذا السبب.

ص: 27