المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير قوله تعالى: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) - تأملات قرآنية - المغامسي - جـ ٢٧

[صالح المغامسي]

فهرس الكتاب

- ‌ تأملات في سورة النحل [2]

- ‌تفسير قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)

- ‌بيان المراد بالعدل والإحسان

- ‌بيان معنى قوله تعالى (وإيتاء ذي القربى)

- ‌بيان معنى قوله تعالى (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)

- ‌تفسير قوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية)

- ‌حكم نسخ القرآن بالقرآن ونسخه بالسنة

- ‌بيان ما وقع من نسخ الحكم قبل وقوعه

- ‌تفسير قوله تعالى: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)

- ‌بيان معنى قوله تعالى: (وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)

- ‌بيان معنى قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)

- ‌بيان المشاكلة اللفظية في قوله تعالى (بمثل ما عوقبتم به)

- ‌بيان حكم الظفر

- ‌بيان جرم الخيانة

- ‌بيان فضيلة الصبر

- ‌بيان معية الله تعالى للمتقين والمحسنين

- ‌الأسئلة

- ‌حكم الاستنجاء باليد اليمنى

- ‌مصير الذنب الذي قد تاب المرء منه

- ‌حكم لعن الكافر المعين

- ‌حكم أخذ مال المدين الكاذب في الوعد بالوفاء

- ‌حكم الدعاء لمن يظن تركه للصلاة

- ‌حكم المسح على الأحذية في الوضوء

- ‌حكم تارك صلة بعض أرحامه

- ‌حكم حلق شعر الصدر

- ‌حكم الصلاة عن يسار الإمام لازدحام المكان

- ‌دليل جواز نسخ القرآن بالسنة

الفصل: ‌تفسير قوله تعالى: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)

‌تفسير قوله تعالى: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)

الوقفة الثالثة: قول الله جل وعلا: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111].

هذه من أعظم آيات العظات في كلام الرب تبارك وتعالى، وذلك أن الموقف بين يدي الله جل وعلا موقف عظيم إلى أبعد حد، لا يمكن أن يتصور مثله، فالله جل وعلا أعلم بما سيكون في عرصات يوم القيامة، وأعلم بحال خلقه حال وقوفهم بين يديه، وقد أنزل تبارك وتعالى هذا القرآن هداية ورحمة منه جل وعلا بخلقه، فكان بدهياً أن يضمن القرآن أعظم ما يعظ الناس، وأخبر الله جل وعلا بأن هذا القرآن تتشقق له الحجارة الصماء، والجبال الصلدة، وأنه لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.

فهو هنا -جل وعلا- يحذر خلقه ويخوف عباده قائلاً سبحانه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111].

ففي هذا الموقف لا يستطيع الإنسان من عظمته وخوفه على نفسه وإشفاقه مما قدمت يداه أن يصرف جاهه أو ماله أو فضله أو إحسانه أو لسانه أو بيانه إلى أحد من الخلق ممن حوله، لا إلى أمه ولا إلى أبيه ولا إلى إخوته ولا إلى من نصره في الدنيا، حتى قال بعض المفسرين: إن إبراهيم خليل الله الذي نعته الله جل وعلا بأنه كان أمة قانتاً لله حنيفاً يقول يوم القيامة: نفسي نفسي.

فإذا كان مثل هذا في صلاحه وتقواه وإمامته للناس، وفضل الله جل وعلا عليه، وقول الله تبارك وتعالى عنه:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:27] يقول يوم القيامة: (نفسي نفسي) فما عسى أن يقول غيره؟! والمقصود من هذا أننا جميعاً ما زالت أرواحنا في أجسادنا، وباب التوبة إلى الرب تبارك وتعالى مفتوح، ولن يخلو أحد من خطأ أو زلل أو أمر يقوم به بينه وبين الله جل وعلا، ولكن الله تبارك وتعالى أرحم من سئل وأكرم من أجاب وأفضل من قبل توبة من يتوب إليه:(يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، يقبل العفو ويعفو عن الجريرة، ويقبل التوبة من عباده، وهو يقول هنا عن ذلك اليوم:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] تبحث عما يخلصها، وتبحث عما ينجينها، والله يقول:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].

والإنسان العاقل الفاهم المدرك لخطاب الرب تبارك وتعالى يدرك أن هذا سيقع لا محالة، فلابد من أن يقع هذا اليوم، ولا بد من أن يخرج الناس حفاة عراة غرلاً بهما لا يملكون من حطام الدنيا ولا متاعها شيئاً، فيخرجون كما بدأ الله جل وعلا خلقه أول مرة، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، يلجمهم العرق وتدنو منهم الشمس وتنصب الموازين وتنشر الصحائف، ويقف الخلق جميعاً بين يدي الله، فيتذكر المرء آنذاك ماضي أيامه وغابر أزمانه، ثم يعطى صحيفة يرى فيها كل ما قدمت يداه، كما حكى الله جل وعلا عن أهل الظلم قولهم:{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].

وصوره جل وعلا بأعظم الصور فقال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:111 - 112].

فمن لجأ إلى الله جل وعلا ما دامت روحه في جسده أكثر من الاستغفار، والله جل وعلا يقول:{لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، وأكثر من التوبة والله جل وعلا يقول:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:25]، وأكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وخفّ ظهره من مظالم الناس، فلم يظلمهم في دينار ولا في درهم ولا في دم ولا في قول ولا في فعل، ولم يكن بينه وبين أحد من الخلق يوم القيامة خصومة، وإنما تخلص من ذلك كله.

فهؤلاء سيكونون أسعد من غيرهم يوم القيامة، وإن كان قول الله:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] واقع لا محالة مهما كان عمل المرء، ومهما كان فضله، ومهما كان إحسانه، فإنه سيجادل عن نفسه وينافح عنها؛ لأن الإنسان لا يملك شيئاً أعظم من نفسه ينافح عنه، وهذا أمر مغروس في الصدور، جبل الله جل وعلا عليه الخلق، فلكرب يوم القيامة -أعاذنا الله وإياكم من الكربات- لا ينظر المرء إلى من حوله، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بأن الناس يحشرون حفاة عراة، قالت يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال:(يا عائشة! الأمر أعظم من ذلك)، والله يقول:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].

اللهم إنا نسألك بعز جلالك وكمال جمالك أن ترحم وقوفنا بين يديك.

ص: 9