المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وصلاة على سيدنا وعلى آله وصحبه - تاج المفرق في تحلية علماء المشرق

[خالد البلوي]

الفصل: ‌وصلاة على سيدنا وعلى آله وصحبه

‌الجزء الأول

‌بسم الله الرحمن الرحيم

‌وصلاة على سيدنا وعلى آله وصحبه

قال عبيد الله سبحانه، الراجي عفوه وغفرانه، خالد بن عيسى ابن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن خالد البلوى، لطف الله به وأخذ بيده وبرحمته آمين.

الحمد للذي فرض حج البيت على من استطاع إليه سبيلا، وجعله تأسيس إبراهيم خليلا، وقال وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، ومن أصدق من الله قبلا، وجعل جزاء الحج المبرور الجنة، وأصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا، نحمده على نعمه التي قدمها ظلا ظليلا، وأولاها مقاما ورحيلا، ونصلي على نبيه محمد الذي بعثه بالحق رسولا، وفضله على جميع مخلوقاته تفضيلا، وأنزل عليه الكتاب تبيانا لكل شيء وتفصيلا، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبل نصرته وخدا وذميلا، وذللوا بين يديه أعناق الجبابرة تذليلا، وجردوا الإماطة صدأ الدين عضبا صقيلا، ومهدوا سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ونستوهب من الله سبحانه لأملاكنا الكرام من آل نصر الذين تبوأنا في أيامهم من العدل كل وثير المهاد، وجمعنا بفضل مساعيهم المبرورة، وتحت رايتهم المنشورة المنصورة بين الحج والجهاد، أن يجدد الرحمة على من قضى منهم وسلف، ويتم النعم على من خلف، ويخص بالتأييد والحسنى والمزيد، رافع رايات فخرهم، والقائم بأعباء نصرهم، والمجدد لآثارهم ومآثرهم، والمحيي لمكارمهم ومفاخرهم، فخر الملوك الجلة، وناصر الملة، والبدر الذي زان أفق الملك من أبنائه السعداء والأمراء بالنجوم والأهلة، إمام الهدى، وغمام الندى، وحسام الله المسلول على العدى مولانا السلطان أمير المسلمين وناصر الدين، أبا الحجاج يوسف بن مولانا السلطان هازم أحزاب المشركين وقد جاشت، ومسلط سيوفه العضاب على عاتي تلك الرقاب فما استنت ولا حاشت، أمير المسلمين المقدس السعيد الشهيد، أبى الوليد ابن نصر، وصل الله لهم عادة تأييده وعضده، وحباهم بكل نعمة من عنده.

هذا تقييد، أطلعه عون من الله وتأييد، قصدت به ضبط موارد الرحلة الحجازية، وذكر معاهد الوجهة المشرقية، جعلها الله تعالى في ذاته وابتغاء مرضاته، بمنه وكرمه، وألممت مع ذلك بذكر بعض الشيوخ من العلماء الفضلاء الذين يطئون ذيول البلاغة، ويجرون فضول البراعة، ولهم كلام يتألق منه شعاع الشرق، ويترقرق عليه صفاء العقل، وينبث فيه فرند الحكمة، ويعرض على حلى البيان، وينقش في فص الزمان، ويحفظ على وجه الدهر، ويفضح عقائل الدر، ويخجل نور الشمس والبدر وألمعت بذكر نبذ من فوائدهم، واختيار طرف من أناشيدهم، ومزجتها بما جرت إليه العبارة، وحسنت فيه الإشارة، من قطع الشعر المناسبة قطع النور، المنتظمة من جواهر اللفظ، البعيدة الغور، الغريبة الحفظ، الآخذة من الحسن باوغر الحظ، مقتديا في ذلك كله بقول القائل:

قالوا خذ العين من كل فقلت لهم

في العين فضل ولكن ناظر العين

حرفان في ألف طومارمسودة

وربما لم تجد في الألف حرفين

ولما بوبت ما ألفت، ورصعت ما جمعت، وشعشعت ما وضعت، فجاء كما تراه حسن الزي، عذب الري، عالي القدر، غالي الدر، مسبوك الحلية والتبر، فيه للمسمع مراد، وللفكر معاد، وللألباب مسرح ومرتاد. سميته: بتاج المفرق، في تحلية علماء المشرق. ودعوت الله تعالى في مواطن الإجابة، أن يوفقني فيه للإجادة والإصابة، وأن ينفع به كل من يلتمس النفع به في المطالعة أو الكتابة، وهو سبحانه سميع الدعاء، مجيب النداء، محقق الرجاء، وهو حسبي ونعم الوكيل. فأقول مستعينا بالله سبحانه: أني خرجت قاصدا للحج، وطالبا للعلم من بلدي قتورية: البلد الذي طال سناه، وطاب مغناه، وانتطق بالجوزاء، وناجت أبراجه بروج السماء، فكأنه في الحصانة جبل منيع، وفي الحسن ربيع بديع:

بلد صحبت به الصبابة والصبا

ولبست ثوب العيش وهو جديد

فإذا تمثل في الضمير رأيته

وعليه أغصان الشباب تميد

فوقع اتفاق الخروج من صحوة يوم السبت، الثامن عشر لصفر من عام ستة وثلاثين وسبعمائة، مودعا لجميع الأهل، ومتجرعا من ذلك ما ليس بالعذب ولا بالسهل:

ودعت قلبي يوم ودعتهم

وقلت يا قلبي عليك السلام

وقلت للنوم انصرف راشدا

فان عيني بعدهم لا تنام

ص: 1

محرم يا عين أن ترقدي

وليس في العالم نوم حرام

وكان لذلك الوداع موقف مشهور مشهود، نثر فيه من جمان الدمع لؤلؤ منظوم منضود، وفيه قلت:

موقف للفراق أرخص فيه

كل در لنا وكل عقيق

بجموع كوجدنا في اجتماع

ودموع كالشمل في التفريق

وقد أعدت الركاب، وطاشت الألباب، وحضر للوداع جميع الأحباب، وأنا أصبر كصبر ميت على النزاع، وأقول ما خلق الله من عذاب أشد من وقفة الوداع، أعالج السياق، وأعاين المنايا بين أخفاف النياق:

أقول لصحبي حين ساروا، ترفقوا

لعلي أرى من بالجناب الممنع

والثم أرضا ينبت العز تربها

وأسقى ثراها من سحائب أدمعي

وينظر طرفي أين أترك مهجتي

فقد أقسمت أن لا تسير غدا معي

وما أنا ان خلفتها متأسفا

عليها وقد حلت باكرم موضع

ولما تبرأ التابع من المتبوع، وطفئت نيران الوداع بمياه الدموع، وعطف المودعين لي بالعودة لقطرهم والرجوع، وهم بين راجع بالجسم وهو لي بالقلب مصطحب، وضاحك بما يرجوه لي وهو على وداعي منتحب، أخذت في الارتحال، وأنشدت بلسان الارتجال، بل بلسان الحال:

ليت شعري أنلتقي بعد هذا

أم وداعا يكون هذا اللقاء

فاذكروني وزودوني دعاء

خير زاد تزودوني الدعاء

ثم امطيت الطرق طريقه، ولم أبلعه في الأناة ريقه، والفراق يردى فريقه، وقلت:

أأذهبت، أيام الشبيبة والنوى

وأتلفت باقي العمر؟ يا ضحوة السبت

فقل لجديد العيش: لا بد من بلى

وقل لاجتماع الشمل: لابد من شت

وسرت بعزمة لا يفل حدها، ولا يتجاوز حدها، وخرمة لا يثنى رسنها، ولا يلم بعين وسنها، وأخلقنا في السير شباب ذلك النهار، وجاريت بدموعي جريان تلك الأنهار، وبت بساحة واد حللنا به بين ظفر التوحش ونابه، أكن الوجد ما غاية الثكلى ان تكنه، وأجن من الحنين ما لا تطبق الجوانح أن تجنه، وأردد:

أهذا ولما تمضي للبين ليلة؟

فكيف إذا مرت عليك شهور!

حتى إذا بقى من الليل حد الوصية من المال، قضينا على معزول السرى بالاستعمال، وسرت أحمل أنفاس الصبا حقائب الوجد، وأتمتع من شميم عرار نجد، فما طلع من الغد وجه النهار، ولا بدا فيه حاجب الأسفار، إلا وقد أشرفنا على) المرية (، تتلع إلينا أجياد قصابها وغرفاتها وتبتسم عن ثغور أسوارها، وبلج شرفاتها، كالعذارى شددن مناطفا، وتوجن بالأكيل مفارقا، كأن ترابها عنبر، وحصاها عقيق، وهواها نسيم وماءها رحيق، مغان لها عندي معان وأماكن، فسكانها للنفوس سواكن.

دمن طالما التقت ادمع الح

زن عليها وادمع العشاق

فهناك شاهدت الظباء مختلطة بالآرام، والغزالة أنيسة النفور والشادي يبادر بالسلام، والعطف من العطف لا يخلو، والحقف بحمل الغصن يمر في كل حين وكلما مريحلو، فحمدنا عند الصباح السرى ودخلنا المدينة أم تلك القرى:

ألوى الضلوع من الولوع بخطرة

من شيم برق أو شميم عرار

وأنيخ حيث دموع عيني منهل

يروي وحيث حشاي موقد نار

وعند دخولنا إليها مررنا على بعض البساتين المجاورة لها، فحيانا بوجه مشرق، وحبانا من مذانبه برواء مغدق.

ودولاب إذا أن

يزيد القلب أشجانا

سقى الغصن وغناه

فما يبرح نشوانا

فدخلت المدينة بقلب غير داخل، وتلقيت المنام بطرف شحيح بالكرى باخل، وكلما فتشت للأوطان في فكري ذنبا، اجعله سببا للسلو، أو عيبا أركن به إلى الراحة والهدوء، قال الاختبار لا سبيل إلى ذلك، وجعل يعرض علي من حسناتها ما جلا به ظلام الليل الحالك، ولولا أني رجعت إلى جميل الصبر بعد الذهاب، وعللت الروح التي راح سرها لقرب الإياب، لأمسيت أثرا بعد عين، ولكنت أحد من قتله يوم البين:

البين جرعني نقيع الحنظل

والبين أثكلني وان لم أثكل

ما حسرتي! ان كنت أقضي إنما

حسرات نفسي أنني لم أفعل

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل

ص: 2

فحللت منها المحل المودود، وحللت بها المشدود والمعقود، وجددت بعلمائها العهود، وأقمت الازم منها معهدا مألوفا، ومشهدا بالحبائب محفوفا، إلى أن تهيأ غراب دار الصنعة، وتيسر اندفاعه في يوم الجمعة، فجددت الوداع، وشاع خبر الجواز وذاع، وفارقت من فارقت لا عن ملالة، وودعت من ودعت لا عن تعويض، وركبت فيه بباب الديوان في يوم الأحد، السابع لجمادى الأولى من العام المذكور ثم وقفت ماشيا على الماء وقفة المتسلم، وودعت الأندلس وداع المتأمل المتألم، وأنشدت:

خليلي هذا موقف من متيم

فعوجا قليلا وانظراه يسلم

وسرنا في أطيب هواء، واحسن استواء، إلى أن وافينا) مرسى هنين (فنزلنا بها ضحوة يوم الثلاثاء، التاسع لجمادى الأولى المذكور، فرأيت بليدة نضيرة، لا كبيرة ولا صغيرة، جميلة المنظر، متوسطة بين الصغر والكبر، موضوعة أسفل جبلين، بين بحر وشجر، يخفضها ارتفاع قلعة، دار صنعة، وأسواق موفورة، ومساجد معمورة، ولقربها من الأندلس هي مذكورة، لقيت بها الخطيب، أبا عبد الله بن جابر، فجبر الوحشة بالإيناس وأنشدني لبعض الناس:

أبشر بخير عاجل

تنسى به ما قد مضى

فرب أمر مسخط

لك في عواقبه الرضى

ثم خرجت منها صبيحة يوم الخميس، الحادي عشر لجمادى الأولى المذكورة وسرنا نلتهم الأرض التهام الضمير نرتبط بالجد ارتباط الفعل بالضمير، إلى أو وافينا مدينة) تلمسان (، فحللنا به ضحوة يوم الجمعة، الثاني عشر من الشهر المذكور، فرأيت مدينة قل مثلها، وجل عرارها وبانها واثلها، بطاح وادواح، وربى ملاح، وضياء وانشراح، وبسيط له اتساع وانفساح، ومياه لها على در الحصا انسحاب وانسياح، وروضات يعتري ويعترض إليها اهتزاز وارتياح، وجنات ريقها ندى وثغورها اقاح، فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، ممتدة الغاية في الحسن والانتهاء، جوها صقيل، مجتلاها جميل، ونشرها أريج النفس عليل.

وأرض من الحصباء بيضاء قد جرت

جداول ماء فوقها تتفجر

كما سبحت تبغي النجاة أراقم

على روضة فيها الأقاح منور

وكم للعباد من أطراد مذانبها واخضرار جوانبها، من نفحات رحمة، وبيضاء تربى على كل مستحمة، تحييك بالوجه الوسيم، وترى الغصن يصلى بتحيات النسيم، فنزلت منها بالمحلة المنصورة، الحاضرة للمدينة المذكورة، محلة السلطان العادل، الهمام الباسل، ملك الإسلام والمسلمين وناصر الدنيا والدين، أبى الحسن بن السلطان الفاضل الغمام الهاطل، أمير المسلمين، نخبة الملوك والسلاطين، أبى سعيد العابد، المرابط المجاهد أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق المرينى، أيدهم الله تعالى وأسعدهم، فما حططنا الركاب، ولا وضعنا الاقتاب إلا والشمس يتبين زوالها، وطهارة المكتوبة يتعين استعمالها فأمطنا وعثاء السفر، وأخذنا في غسل الجمعة بالأثر، ثم تمتعنا بالخطبة والخطيب، بعد أن أخذنا بحظ وافر من الطيب، والعود الرطيب، وند ما له ند، تعاطيه من السنة، إذا أدخلته النار حكى رائحة الجنة، وجلنا في المحلة، وهي روض يثمر خيلا وأعنة، وبحر يزخر قنا وأسنة، وذوائب الأعلام تخفق، وألسنة عذباتها تكاد بالنصر تنطق، والأحوال قد استقامت، والأخبية على القاعدين فيها قد قامت، وهي مبيضة كسقيط الثلج، مصطفة كبيوت الشطرنج، وقد أشرق الجو بإشراق الخمائل والنبات وأشرف على مدينة أحدقت بها الأزهار والأنهار من جميع الجهات، فأقمنا هنالك درر الأنباء، ونحتلب در النعماء، وأنا امرح في جهاتها، مرح العين في منتزهاتها، حتى تمتعت في ذلك الجمع الحافل، بلقاء جماعة من الأفاضل، وأنشدني بعضهم لبعض أهلها وهو الكاتب أبو بكر بن الخطاب، رحمه الله تعالى، وهو مع سائر نظمه عندي بالإجازة عن الشيخ الخطيب المحدث الحاج الفاضل أبى عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن رشيد الفهري رحمه الله، قال أنشدنا شيخنا الكاتب الأديب البليغ أبو بكر بن خطاب بتلمسان لنفسه:

سرى البدر فارتاع الفؤاد لومضه

فبت وجفني لم يذق طعم غمضه

تبدى كعرق في الغمامة نابض

يدل على سقمي تواتر نبضه

سجدت له لما تراءى يمانيا

وأكملت من دمعي طهوري لفرضه

وقضيت من حق الصبابة واجبا

برئت من العشاق ان لم أقضه

ص: 3

وذكرني عصر الشباب وطيبه

وعيشا تحلينا مليا بغضه

وعهدا شددنا عقده بيد الوفا

فلا بطشت كف تمد لنقضه

فيا ساري البرق الذي ضاعف الأسى

على دنف ما زال يشقى بنضه

أعندك من أهل العقيق رسالة

أقارضك عن إبلاغها خير قرضه

وإلا فبلغهم تحية موجع

يعاني الذي ينهد رضوى لبعضه

وجرد على واديهم ذيل ديمة

تنمنم بالأزهار صفحة أرضه

حنيني إلى الوادي لأجل جوارهم

مجاورة المخفوض تعدى بخفضه

ثم زرت تربة ولي الله تعالى ابن مدين مرة أولى وثانية، وأقمت بالمحلة أياما ثمانية، وكان خروجي منها ورحيلي عنها في صبيحة يوم السبت، الموفى عشرين جمادى الأولى المذكور، ولم نزل نقطع مهامه قفار، ونجوز في أودية وبحار، ونشاهد من الأرض والسماء كل نهر سائل وغيم مدرار، إلى أن وردنا) مدينة الجزائر (، في آخر يوم الخميس الثاني لجمادى الثانية من العام المذكور والليل قد غول، والنهار قد تحول، والقلب لا يصبو إلا لأول منزل، ولا يحن إلا إلى الحبيب الأول، ولما طرزت طرة الظلام يد إلا صباح، وأرسل الفجر في رداء السحر خيط الصباح أسرعنا مبادرين، وبادرنا مسرعين، وتفرقنا في سكك المدينة أجمعين، فرأيت محيا صبيحا وتربا مليحا ومسجدا عتيقا، وبناء أنيقا، وأناسا قد سلكوا إلى الحسن والإحسان طريقا، من مدينة أقسمت بعلو هضابها إلا بفوز مبسم الثريا برشف رضابها، فلا ترتقيها إلا الظنون، وكأنها ضب ومن يطمع فيها نون، قد أحاط بها البحر إحاطة السوار بالزناد فألبس ذلك الجسم روح المجد، وركب خلائق الوهد على ذلك النجد، فأقمنا بها نحكم في حزن الأنس وسهله، حكم الصبي على أهله، حتى قرب أمد الرحيل، وغلب واجبه على المستحيل، فعزمت على الخروج، وسرت على بياض ذلك الساحل وخضرة تلك المروج.

يا بياضا أدرى دموعي حتى

عاد منها سواد عيني عقيقا

وخرجنا في صبيحة يوم الاثنين السادس لجمادى الثانية المذكورة فدخلنا في أمر عظيم، وطريق غير مستقيم، وعذاب يوم عظيم، نصعد على التهائم ونغور في النجود ونسلك كل مخدع لم يكن بالمألوف ولا بالعهود. ولا كان مسلكا إلا للذئاب واللصوص والأسود، إلى شعراء بالخوف مشعرة، وأرض خالية مقفرة، وجبال منخرقة في الجو وعرة، تقطع الأسباب، وتخلع الألباب، وتذكر الصراط والميزان والحساب، وأظن الخطابي إياها عنى بقوله:

سلكت عقابا في طريقي كأنها

صياصي ديوك أو أكف عقاب

وما ذاك إلا أن ذنبي أحاط بي

فكان عقابي في سلوك عقاب

ص: 4

فبقينا نكابد عظيم ذلك الأمر، ونسير ولا نفارق ساحل البحر، ونرقى العنق التي تقربنا من السماك وتدنينا من النسر، وقد اشتد البرد، وبلغ الجد، وفرع الجهد، ووقع الثلج، وعمى النهج، وابتلى به الفج والمرج، فتصبح وصباحنا أبيض، وجناحنا لا ينهض، والعروق لا تنبض، والبروق لا تومض، والخيام لجمودها واقفة على غير عمودها، والنيران مقرورة، وشفاه الجليد مطرورة، والزناد كابية، والصعاد نابية، والوجوه في عبوس، والوجود في بوس، وقد جمدنا كأننا بلا نفوس، فنبت الأيدي على ان تبطش، والأقدام عن أن تنهض، وأسود يومي منه وان كان به أبيض، وجاءت السماء بسيل عرم، ولهب قر يضطرم، وقد صوب الغمام سهامه، ولبس الجو لحرب المحل لامه، فلم يبق قطر إلا وقد نفدت فيه تلك السهام، ولا أفق إلا وعلاه من خيوط الودق المحتبسة مثل القتام، فلا أحد إلا وجد من ذلك ما أقلقه، وأحرق قلبه بتواليه وان كان في الحقيقة أغرقه، وسرنا والعناء قد بلغ منا الغاية وانتهى بنا إلى النهاية، حتى وصلنا إلى) بجاية (، فدخلناها في يوم الاثنين الثالث عشر لجمادى الثانية) المذكور (بلدة قدرها خطير، وذكرها في كل زمن يطير، وخطابها من الملوك كثير، ومحلها من النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح، وملت عليها في بيض وصفاح، يمتد أمامها بسيط أخضر، مد البصر قد أجرى الله فيه مذانب الماء تسقيه، وتضرب في نواحيه، كأنها سبائك اللجين ممدودة في بساط الزبرجد، محفوفة بالزمرد والعسجد، والبساتين ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، والنهر الأعظم ينساب بين يديها قد انعطف عليها انعطاف السوار، والحدائق تنتظم بحافيته، وتفيء ظلالها الوارفة عليه، فهي النضيرة الدوح، العذبة الأنهار، الطيبة الهواء المشرقة الأضواء، التي اجتمعت عليها الأمراء، وسلم لها الهواء، وشيد فيها البناء، وبعد لها الصيت المدود والثناء، انتظم فيها من الوادي والبحر، قلادتان على ذلك النحر، قد حلينا ذلك البلد، وتجلينا كوالد وما ولد، قد مرجها الله بحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فإذا ضاحكتهما الشمس أنعكس الضياء، وزاد الاحتفال في النور والأفياء، إلى حدائق قد انتظمت انتظام الأحباب، وشقائق ترفل في أثواب الشباب، وتسدل أذيالها بين تلك القباب.

ورياض كأنما نثرت فو

ق ثراها حريرة خضراء

أعين النرجس الجنى نجوم

واخضرار الرياض منها سماء

للثرى تحتها شيات وللما

غطيط وللغصون لقاء

فأول من لقيته من أرباب المحابر، وركاب أعواد الكراسي والمنابر، فاضل الأفاضل وكبير الأكابر، الشيخ العالم المحدث، أبو عبد الله محمد بن جعفر رحمه الله، قصدت لقاءه والأخذ عنه وقدمته وكنت أسمع من ملفوظ حامده، ومحفوظ محامده، ما هو بغية السامع وحلية للمسامع، فلما رويت من مكارمه ما رويت، استصغرت ما سمعت لعظيم ما رأيت واستقللت ما سمعت أذناي، لما عاينته عيناي، وأنشدت لنجم الدين بن مهذب الدين:

كانت محادثة الركبان تخبرني

عن مجدكم وسناكم أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت

أذني بأحسن مما قد رأى بصري

فأنزلني بمنزله الكريم، وقابلني بالترفيع والتكريم، وأقمت معه فيه يفيض على من كرمه بحرا زاخرا، ويفاوضني من علمه منهلا لا أجد له أخرا، ويرويني بمسوغاته الفاضلة، ويرويني من مسوعاته الحافلة، فلا أدري من أي بحريه أعجب، ولا أيهما أروى وأعذب، حتى قلت له:

أبكيت عين الغيث لما فته

كرما فثغر البرق منه يضحك

فارتاح وتهلل، وأكثر من الأفضل وما قلل، وجرى على عادته في المكارم والانطباع فأنشدته:

ولو صورت نفسك لم تزدها

على ما فيك من كرم الطباع

ص: 5

سمعت عليه تصانيف كثيرة، وأجازني وكتب لي بخطه، وكان رحمه الله إمام هدى وعدالة، ووحيد معارف وجلالة، حالي الرواية، كامل المعرفة والدراية، رصين العقل، إماما في التحديث والنقل، متفاوت الكرم، بعيد الهمم زكي الشيم، حسن المفازع، مليح المبادئ والمقاطع، واقعا من النفس أحلى المواقع، ذكر لي: قال ذكر لي الشيخ القاضي أبو العباس الرندى قال: كنا جلوسا بحضرة تونس مع القاضي بها أبى العباس ابن الغماز لارتقاب شهر شوال، وإذا بطفل صغير وسيم قد نظر ورآه قبلنا فقال القاضي ابن الغماز: كنا جلوسا مع الشيخ أبى الربيع بن سالم الكلاعى بمدينة بلنسية لارتقاب هلال شوال فأول من رآه غلام وضئ الوجه من قرابة الشيخ، فارتجل الشيخ ساعتئذ:

توارى هلال الأفق عن أعين الورى

وغطى بسجف الغيم زهوا محياه

فلما أتى) شقيقه (ليزوره

تبدى له دون الأنام فحياه

ومما أنشدته فاستغربه وحفظه وكتبه، ما أنشدني الشيخ الخطيب المحدث الحاج الفاضل أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد إجازة قال أنشدني ناصر الدين نصير بن أحمد بن علي المصري المناوي الحمامي بحمامة بمصر لنفسه في فتى اسمه فرج الله على طريق التورية.

أقول لقلبي وقد ذاب في

هوى شادن حاز حسنا غريبا

تصبر إذا كنت في شدة

عسى فرج الله يأتي قريبا

وأنشدني لبعضهم عند الوداع:

يا راحلا ودموع العين تسبقه

هل من سبيل إلى لقياك تتفق

ما أنصفتك جفوني وهي دامية

ولا وفى لك قلبي وهو محترق

وقد أفادني من فرائد الفوائد، ما لا يفيده إلا فرائد العلماء إلا ما جد، كانت مجالستي إياه ببجاية آخر العهد به فأنه توفي بعد انفصالي منها ونزوحي عنها على أحسن ما أجرى الله حاله عليه من حسن السيرة وخلوص السريرة، جدد الله عليه من الرحمة والمغفرة، وجعله من الذين قال الله فيهم وجوه يومئذ مسفرة، ثم لقيت بها جملة من الفضلاء وجلة من العلماء قد ضمهم الولاء في فلكه:

لهم همم كما شمخت جبال

وأخلاق كما هشت بطاح

ترى بهم النجوم، ولا ظلام

واوضاح النهاو ولا صباح

قصدت الرؤية لهم والرواية عنهم، فنحوا نحوه، وحذوا حذوه، واقتدوا بفعله، وان لم يدركوا شأوه:

يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا

لقد حكيت ولكن فاتك الشنب

ثم أخذت في حركة الخروج من ذلك القطر الذي هو حاضرة البحر ونادرة الدهر، وموطن الفضلاء من أهل العصر الذين طبق ذكرهم تطبيق الغمائم ونم كما نمت بأزاهرها الكمائم، ولهم مآثر بتعاطي الركب حمياها، ويتعاطى نوافح رياها:

وما أراني بمستوف مناقبهم

ولو نظمت لهم زهر النجوم حلا

ففارقت الصبر عند مفارقة تلك المنازع، وودعت الجلد عند وداعي لذلك المسجد الجامع. وسرت وقلبي في تلك التلاع وتلك الاجارع، وقد خامرني الفرق، واستولى على جفني الأرق، وأولعت بما يولع به المشفق. وأنفقت دمعي وكل امرئ مما عنده ينفق، ورحم الله زهيرا المهلبي، فعن حالي عبر بقوله:

إلى كم جفوني بالدموع قريحة

وحتى م قلبي بالتفرق خافق

ففي كل يوم لي حنين مجدد

وفي كل أرض لي حبيب مفارق

ومن خلقي أني ألوف وانه

يطول التفاتي للذين أفارق

وأقسم ما فارقت في الأرض موضعا

ويذكر إلا والدموع سوابق

فيممت خير ميمم وفارقت غير مذمم، وخرجت منها في صبيحة يوم الأحد الحادي عشر لرجب الفرد، من العام المذكور، على ضفة الوادي الكبير بين المنازل والقصور:

يا وادي القصر نعم القصر والوادي

من منزل حاضر ان شئت أو بادي

ترى قرى قرة والعيس واقفة

والضب والنون والملاح والحادي

فعبرت من الوادي الصغير بمثل ما أجرته جفوني من الدموع، وخطرت من الرشة على ما أبرزته من الربيع والربوع، واجتزت على الربيع الرفيع، وحررت بالبديع البديع، وسلكت على تلك المرابع الرائقة بالنزهة والتوديع.

ولقد وقفت بها وكف ربيعها

في نسج حلة نورها يتأنق

وسدا خيوط المزن يرسلها الحيا

أبدا وأكمام النبات تفتق

والروض تولاه الولي ووسمه الوسمى وجشمته نسمات الرياح، وأظللته رايات الصباح، وغازلت كواكب الفجر عيون نرجسه الوقاح، وباكرت الصبا تقبيل ثنايا غوره الوضاح:

ص: 6

من قبل أن ترشف شمس الضحى

ريق الغوادي من ثغور الأقاح

والأرض قد أخذت زخرفها وآزينت، وبينت من حكمة الله سبحانه ما بينت ورباها قد تعممت بملونات الأزهار، وأراقم المذانب قد انسابت في مغائر الأنهار، والزمان قد استقبل اذاره، وخلع عذاره:

فالنور عقد والغصون سوالف

والجزع زند والسرى سوار

رقص القضيب بها وقد شرب الثرى

وشدا الحمام وصفق التيار

ثم جزنا الوادي الكبير وهو بحر عباب، وفي كل رقعة من أثوابنا ميزات. وسرنا والموج غمر، وذلك الماء على الأجساد ثلج وفي أكبادنا جمر، والريح ترمي بحاصب، والودق يأتي من كل جانب، والدوافع ترعب، والمذانب تتعب، والقطر قد ملأ كل خرق وسبسب، وورد آتيه من كل آتي ومذهب، وجاء بكل صبح وغيهب. ولم تزل الأمطار تتوالى وتنزل:

كأن السحاب دوين السما

نعام تعلق بالأرجل

فادمعها سح وسكب وديمة

ورش وتوكاف وتنهملان

فسرنا على تلك الحال، ونحن من طوفان تلك السحائب في أعظم الأوحال، وقد أعيا الركوبة ما أدهى حمله من مستنقع الأثقال، حتى وصلنا إلى) قسطنطينة (والركاب فاشلة، والنفوس ذاهلة، والتلاع سائلة، وجفون السحاب هاملة هاطلة، والشآبيب مستمرة، وحلاوة العيش ممرة، والأوحال تمنع من خروج يعيد الأبدان معفرة، والثياب معصفرة، فحللنا منها في حصن حصين، ومكان مكين، وربوة ذات قرار ومعين، وقاعدة أمن وتأمين، وتمهيد وتسكين، صحيحة الهوى، بعيدة المهوى وبسبب ذلك تنسب إلى الهوى المقصور، فيقال: قسطنطينة الهوى، ناهيك من مدينة تحوم حول سحاب القطر، وتسوم بارتفاعها مراقي الكواكب الزهر، وتصون بامتناعها من حدثان الدهر، وتصول ببساط الملك وبسيط الزهر، وتروق بناعم الروض وهامر النهر، وتفخر بجمال المحاسن كل الفخر، ويخترق بطاحها نهر ينساب فيها انسياب الأرقم، ويدور بها دور السوار بالمعصم، ويغوص ببعض حافاتها فيغيب عن العين، ثم يبدو بخارجها كأنه سبائك اللجين، فيسيل على تلك البطاح سيلا، ويتخللها جداوله فتجر بها ذيلا، وتعمها شربا، وتسقي منه بماء واحد ورياه تعود منه بما شئت من صلة وعائد:

نهر يهيم بحسنه من لم يهم

ويجيد فيه الشعر من لم يشعر

ما آصفر وجه الشمس عند غروبها

لا لفرقة حسن ذاك المنظر

بها تتوفر الأرباح، وبأعلاها تتبارى الرياح، وبشتى أقطارها يتلاقى التاجر والفلاح، ويعتز الساكن منها في الحصن الأحمى، والموطن الأسمى، والمحل الأسنى، والعيش الأهنى، ويمسك له في خزائنه الواسعة من ياقوت القوت ما يفنى الدهر وهو لا يفنى، تهابه النفس عند موافاته وتأوي الفتح الكواسر بأدنى حافاته، وتزل أقدام الصاعدين إليه على أكثر صفاته، وتعجز أوصاف الواصفين عن بعض صفاته:

يأوي إليه كل أحور ناعب

وتهب فيه كل ريح صرصر

ويكاد من يرقى إليه مرة

من دهره يشكو انقطاع الابهر

وبادرت فدخلناها في يوم الجمعة السادس عشر لرجب المذكور. وبادرت إلى لقاء الفضلاء، ومباحثة النبلاء، اجتلى واجتنى ولا اجتنب، وأنا والطرس في ملأ انتقى منهم وانتخب. فمما أنشدني المنزل، رب المنزل الشيخ الإمام الرواية الحاج الفاضل المتفضل: أبو الحسن علي بن عبيد الله لبعضهم:

ما رأينا ما سمعنا

كزمان نحن فيه

كل من تلقى تراه

يشتكي ما تشتكيه

وذكر لي قال كتب بعض السؤال إلى بعض أهل هذه المدينة يستجديه ويستحثه بقوله:

ماذا أقول إذا سئلت وقيل لي

ماذا لقيت من الجواد المفضل

ان قلت: أعطاني، كذبت، وأن أقل:

يخل الجواد بما له لم يجمل

فاختر لنفسك ما أقول، فأنني

لا بد أخبرهم وان لم أسئل

فأجابه المسئول بقوله:

أعجلتنا، فأتاك عاجل برنا

قلا، ولو أمهلتنا لم نقلل

فخذ القليل وكن كأنك لم تقل،

ونكون نحن كأننا لم نسأل

وأخبرني قال: أقبل أعرابي إلى داوود بن المهلب فقال له: أني مدحتك فاسمع. فقال على رسلك، ثم دخل بيته وتقلد سيفه وخرج فقال: قل، فان أحسنت حكمناك، وان لم تحسن قتلناك فانشأ يقول:

أمنت بداود وجود يمينه

من الحدث المغشى والبؤس والفقر

فأصبحت لا أخشى بداود نبوة

من الحدثان ان شددت به أزري

ص: 7

له حكم لقمان وصورة يوسف

وحكم سليمان وعدل أبى بكر

فقال له: قل قد حكمناك، فان شئت على قدرنا وان شئت على قدرك. قال:) بل على قدري (فأعطاه خمسين ألفا، فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدرة الأمير؟ فقال لهم: لم يكن في ماله ما يفي بقدره، فقال له داود: أنت في هذه أشعر منك في شعرك، وأمر له بمثل ما أعطاه.

وأنشدني أيضا قصائد تقيدت في غير هذا، واجازني جميع مروياته، فهو روضة الأدب الناعمة الغضة، وصحيفة الرواية النقية المبيضة، وحامل المكارم المنقضة والمحامد المرفضة، وجامع المحاسن التي بها أدمع الصبابة منفضة، ألسنا لمن وأخاه، السنى في كل ما يتوخاه، العاكف على ما يحمد عقباه. العارف بما رواه ورواه، الحفى بمن آتاه المنيب إلى أواه، الخاشع لمولاه، أبو الحسن بن عبيد الله، تغمده الله برحماه، وجعل الجنة نزله ومثواه، برحمته، ولم أزل أو إلى أهل الولا، واختص بذوي السؤدد والملا، حتى جاء الفراق، ومارق ولا راق، فأنشدتهم وقد قوى العزم، لأبى المغيرة بن حزم:

واجد بالخليل من برحاء الشو

ق وجدان غيره بالحبيب

ان قلبي لكم كالكبد الحرى

وقلبي لغيركم كالقلوب

وخرجت منها ضحوة يوم الأحد الثامن عشر من رجب المذكور في جمع وافر، ذي خف وحافر، سرنا نقتفي البيداء، ونغتدى في كل ثنية جرداء، قد دأبنا على الترحال، وركبنا متون الوحال، سمونا على الماء كسمو حبابه حالا على حال، إلى أن وافينا بلد العناب،) وتسمى أيضا بونة (وصلناها أيضا بيمن الله على أفضل الأحوال، ودائرة البيضاء يمنى مركز الزوال، فدخلناها في يوم الجمعة الثالث والعشرين لرجب المذكور، فرأيت مدينة مكينة، وقلعة حصينة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، ومعدومة الشبيه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع قاعدة كبيرة ومائدة من الأرض مستديرة، سامية الأرجاء، واسعة الفناء، موضوعة على نسبة حسنة في الاعتدال والاستواء، والمدينة العجيبة كالعروس في ناديها قد رفلت في درع واديها، وامتنعت بحسامه المسلول من غير الأيام وعواديها، فأخذت به من المطالب معتصما، وتجلت في سواره معصما فبكل مسقط نظرة ما اشتهت الأنفس من نعيم ونضرة، نهر هتان، يحفه بستان، ومرآي لخواطر الأدباء فتان:

نهر يسيل كما يذوب نضار

وتدور في أيدي السقاة عقار

فإذا استقام فصارم دامي الظبا

وإذا انحنى جزع به فسوار

مغرورق التيار، ملتطم كما

خفقت بظهر مهب ريح نار

فاحمر وأخضر النبات بشطه

فكأن ذا خد وذاك عذار

ص: 8

لها أرض تقتنص النظر بتدييج أزهارها، وأطراد أنهارها، وتؤمن الراكض بها من هفوة غبارها، وكبوة عثارها، كأنما نسج أديمها منسج، واستوت أطرافها وأوساطها فجوها سجسج، ومتى تكلمت الفصول أعاد الله شبابها، فأنشأها خلقا جديدا، وجعل عودها مثمرا وظلها ظليلا مديدا، فيالله اتساع ظواهرها وبواديها، والحسن البادي ببحرها وبواديها، وارتفاع تلك القلعة والحصن، وما أوتي من النعمة والحسن، قد عمرت نجاده وغيطانه، واستقر بين خصب الوادي، ورحب النادي ثواؤه واستيطانه صعدت إليه فرأيت حصنا مستقلا، وكثيرا من الحسن لا مقلا، بل معقل الحسن ومستقره، ومجاز الأنس وممره، قلعة قد عقد الجبل حبوتها، وأزلق العراب أن تطأ ذروتها، وعصم سوار الوادي الملوي معصمها، وحمت غرر دهمائها أدهمها، فالخيل تصعد منها أنجما في فلك، بين طالع كطالعها أو غارب كغاربها، والأرجل منها على كرة لا تستقر بأخمص راجلها ولا بحافر فرس راكبها وكأنها قد اعتزت لولا ما جعل الله الأرض ذلولا، وأمر أهلها أن يمشوا في مناكبها، فمشيت منها في مركب سام، وألف بالنجوم مسام، ثم خرجت من المدينة في صبيحة يوم الأحد الخامس والعشرين لرجب المذكور سالكا سبيل جبل الحفاء، ومالكا من الرجاء ما برح به الخفاء، من جبل يقرع الواصل إليه سن الندم، ولا يكاد يشرب الماء إلا من قليب دم، قد أفرط في الجفا، واشتهر بالحفا، وجمع بين غلظ الشعراء والأرض الوعراء، فسلكنا منه في عقاب كفى بسلوكها للمجرمين من عقاب، نكتنف الفزع ونلتحف الجزع، إلى أن جزمتنا عوامله بالحذف، ومنعتها علاته من الصرف، وأسفر لنا وجهه العبوس ومحياه الذي في مشاهدته البوس، عن قطعة من العرب كقطع الليل، حملت علينا حمل السيل، فكان زوال كل ما ملكناه أسرع من لحسة الكلب أنفه، وناهيك عن صبيحة ذلك اليوم فجاءة حال، وسرعة انتقال " وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال ".

لقونا فضموا جانبينا بصادق

من الطعن مثل النار في الحطب اليبس

وانقلبت اعدى من جام ونجوت برأس طمرة ولجام، منهزما مكلما، يثعب جرحي دما، وصحابي قد منحوا الأكتاف والرقاب، ودماؤهم تسيل على الأعقاب،

وتركتهم تعس الرماح ظهورهم

من بين مقتول وآخر مسند

ولم نزل نخوض أحشاء كل واد كالثعبان، نتلقف نفس الجريء فكيف بالجبان، فكأن تلك الأودية سيوف لقتل الأنس مسلولة، ولولا زرقة ألوانها لقلت دماء مطلولة، خاتم نظامها ومسك ختامها، ومنتهى كمالها وتمامها، وآخر عذابها وانتقامها يسمى) أبو جردة (قيل لأنه يجرد الإيمان من قلب شاربه، كفاك هذا من أوصافه ومناقبه، وهو على أثنى عشر ميلا من الحضرة، لم تنبت قط حوله عشبة نضرة، ترابه قد أسود، وماؤه قد أظلم، ويقال أنه من أودية جهنم، تعذر علينا جوازه في القارب فما توسطته راكبا إلا والمركب قد غمرته المياه وحملتني وإياه، وكنا من المغرقين لولا ان رحم الله، ثم خرجت سابحا، وقد ذهب الوادي بأكثر القوم، بسبب ما أنعم الله به علي من معرفة السباحة والعوم، وحصلت على ساحل النجاة ولا شيء إلا مبلولا، ولا شد إلا محلولا آو محمولا.

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

فوصلت إلى) حضرة تونس المحروسة (في ليلة يوم السبت أول من شعبان المكرم من العام المذكور بعد اللتيا والتي، وانضاء جسمي ومطيتي، وأخلاق البيتين اللذين لم أخلهما عن فكري ورويتي.

يقولون تونس مصر عظيم

وأرجاؤها جنة زاهرة

نعم هي مصر لأربابها

وللواردين هي القاهرة

فأرحت الراحلة من الرحل، واستبشرت بالخصب بعد المحل، ولابد دون الشهد من أبر النحل، فبتنا بها جيران دولاب يهدل، وأغصان تثني وتعتدل، وستر الظلام ينسدل، وتلك الحضرة تتلفع بثمارها تلفع الكاعب بخضرة خمارها، قد سلت على بساط الروض من المذانب حساما، وضحكت ثغور شرفاتها ابتساما، والدولاب بندب من الزهر الذاوي هديلا، ويتوسل للروض بدموعه فيخلف له بديلا، فبت أجاوب أنين ذلك الدولاب، وأجري بدمعي دمعه في الانسكاب، وأنشد فيه لبعض الأعراب:

باتت تحن وما بها وجدي

واحن من طرب إلى نجدي

فدموعها تحيا الرياض بها

ودموع عيني أحرقت خدي

ص: 9

ولما تفرى عن وجنة الأفق عذار العيهب، وتتوج كسرى المشرق بالتاج المذهب، طفقت أتمشى في الأماكن المكينة، وأتخلل سكك المدينة وأتعجب من محاسنها المستبينة، ووضوح قدمها ورسوخ قدمها وبهجتها وانفراجها، وانفساح رباها وأبراجها، ورونق رياضها، وتذلل الهموم لفرجتها وارتياضها، واتساع جنباتها وإفنائها، وكما لها في البلاد البحرية وغنائها، وإيناع حدائقها المحدقات، وإحرام حجيج الأنس في ذلك الميقات، فدخلت منها جنة حفت من طرقها بالمكاره، وعقيلة عقلت قلب الطائع والكاره، فهي الدمية الغراء، والقبة اللعساء، والخريدة العيناء، تزهى بها المحافل، ويحتقبها الطالع والآفل ولله در القائل:

لتونس تؤنس من جاءها

وتودعه لوعة حيث سار

فيغدو ولوحل أرض العراق

يحن إليها حنين الحوار

ويأمل عودا ويشتاقه

اشتياق الفرزدق عود النوار

فالتاح بتونس الأنس، وانشرحت النفس، وصلحت الحال واللبس، ووجدتها كما قال أبو الحسن المري:

تؤنس بالغرب خير دار

تؤنس من حلها غريبا

حللت عقد البعاد لما

حللت من أهلها قريبا

وظللت ألقى أكابر الأولياء، وآخذ عن العلماء الأتقياء، فأول من لقيته بها من الأولياء والأفراد، والعلماء الزهاد، السيخ العالم الولي لله تعالى، أبو الحسن علي، المشتهر بالمنتصر، أفاض الله علينا من بركاته. هو صدر من صدور أئمة الدين، وكبير من كبراء الأولياء المهتدين، وقدوة في أفراد العلماء الزاهدين، حامل لواء المعارف، ومحرز التالد منها والطارف، وحافظ للكتاب والسنة، ومحافظ على اتباع الشريعة والملة، قائم بأعباء صلاح الأمة، باسط للضعفاء وذوي الحاجات جناح الرأفة والرحمة، كثير الصيام والقيام، دائم الخلوات ومستجاب الدعوات وقورا صموتا، مهابا معظما:

قابلته فملئت منه مهابه

شغلت علي فصاحتي وبياني

ولثمت قرب فنائه فكأنما

قبلت من طرب خدود غواني

رحل إلى المشرق قديما ووعى الكثير، وشأنه كبير، وله من المكاشفات وإجابة الدعوات ما هو أشهر من أن يذكر، حللت بحلاله، وانضويت إلى جلاله، وخيمت بسوارف ظلاله، فألقيت فيه ركنا عظيما ومأوى كريما وابابرا رحيما وإماما أوسعني إفادة ونصحا وتعليما، وسبب ذلك أن أخي أبا بكر محمدا لما خرج إلى وجهته الحجازية، وعلم الله تعالى منه صلاح النية وخلوص الطوية، وانتهى إلى الحضرة التونسية، جملته عوارف الألطاف الخفية، وعطفته عواطف القدرة الربانية، إلى لقاء شيخنا هذا والتبرك به، وطلب الدعاء منه فتفرس رضي الله عنه فيه مخايل النجابة ولاحت له عليه دلائل الصدق والإنابة، فضمه إلى جانبه الشامخ القواعد، وكفله كفول الوالدة والوالد، حتى جعل تحت حرمته، واختص بصحبته، وظهر فيه صدق فراسته وبركة دعوته، ثم ارتحل عنه مشرقا بعد تراخي المدة، وتوالي الأيام والأشهر الممتدة، قرير العين، ملي اليدين، فائزا بحظوة الدارين وحين وردت موارده، وحضرت معاهده، وسألت عن مطلع شمسه، مسير يومه وأمسه، فأخبرت أن الذي نعنيه بالسؤال، قد بانت برحيله الرحال، سقطت على التراب معفرا، وأفضت فأنشدت حين سرى:

ماذا وقوفك والركاب تساق

أين الجوى والمدمع المهراق

الغير هذا اليوم يخبأ أو ترى

بخلت عليك بمائها الأماق

حتى لقد رحلوا بقلبك والكرى

ان النواظر لا الدموع تراق

ص: 10

ثم نزلت منازله، فتمتعت بها دهورا، وأقمت ألازمها ليالي وأياما وشهورا، وجعل الله لي بصحبة هذا الشيخ انتفاعا وظهورا، ولهذا الرجل الصيت البعيد، والباع المديد، زهدا وانقباضا، ونصيحة لعباد الله تعالى وحدبا على ضعفائهم، ووضع له القبول في الأرض فلم يختلف اثنان في فضله، ولي منه حظ لا أعده به حظا عسى الله ان ينفع به) وثانيه (في الفضل والولاية، والعلم المتسع والدراية، الشيخ العالم خطيب الجامع الأعظم، والراقي بقدم الصدق وذروة مناره، المعظم، أبو عبد الله بن عبد الستار، نفع الله تعالى به إمام من أئمة الفروع والتفسير، وسراج يقتدى به في ظلمات الدياجير، انتهى من الفضل إلى أقصى أمده، وكرع في بحره لا في تمده وحل منزلة مقنعة من عالم اللسان، ونظرت به عين التعين كالإنسان، أضاء بأنوار معارفه البلاد، وترادف على محله العلي العلمي القصاد، وعلا سنه وسناه، وبلغ من وعي المعارف الدينية والأحاديث الكريمة النبوية قصده ومناه، له جلالة السبق، ومهابة الولاية والصدق، ومكانة القبول عند الخالق الخلق، ذو في الدنيا وأغراض عن زهرتها، وعزوف عن طلابها، وكان يدرس العلوم في مدرسة الكتبيين التي استوطنها، فسمعت عليه كثيرا من التفسير والحديث والفروع والأصول وغير ذلك، ولازمته وانتفعت به، وشاهدت له كرامات ومقامات تصدر إلا من مثله أو من الولي الذي من قبله.

ص: 11

رحل إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ففاز من ذلك بغاية سوله، ونهاية مطلبه ومأموله، وتواتر عنه أنه لما عاد إلى وطنه، أعاد جميع صلواته التي كان صلاها في سفره، إذ لم ترتضها عبادته النزيهة ومعالي سيره، وها هو قد طعن في السنين، ونيف على التسعين، فما ضعفت له قط موارد العبادة، ولا تعطلت منه تلك المدرسة عن الدول المعتادة ومما تقلت منها: ان الواقدى رفع إلى المأمون قصة يشكى فيها غلبة الدين وقلة الصبر، فوقع عليها، أنت رجل فيك خلتان، السخاء والحياء، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فهو الذي بلغ بك ما أنت عليه، وقد أجزنا ذلك بمائتي ألف درهم، فان كنا أصبنا إرادتك فأزدد في بسط يديك وأن كنا لم نصبها فجنايتك على نفسك، فأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: ان مفاتيح الأرزاق بازاء العرش ينزل الله للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له، قال الواقدى: وكنت أنسيت هذا الحديث فكانت مذاكرته إياي به أعجب إلى من صلته. وأعززهما بإمام الدنيا ومتبوئ الذرة العليا، وسابق الغاية القصيا، والشيخ العالم، قدوة الأئمة وواحد أسانيد الأمة أبو عبد الله بن برال أبقى الله تعالى بركته، رجل أتاه الله تعالى كتابه وفتح عليه فيه أبوابه، ووفقه في أدائه إلى الصواب فأصابه، فاجتمع الناس إليه وتناغى المجودون من أهل القرآن في التلقف منه، وانثالوا إليه عمن سواه فقامت له سوق، وأجلى خبره عن تقديم أمثل الخبرة، وأطباقهم على تفضيله، وكان هذا الشيخ قد أوتي من حسن اللفظ بالقرآن ما لم يؤته أحد ممن بقى على الأرض في هذا الوقت بإجماع، حضرت قيامه في ليالي رمضان بالاشفاع وانتدب الناس إسماعه من النواحي والبقاع فما قرع سمعي ولا وقع في أذن قلبي، أحسن منه صوتا ولا أحلى تلاوة، ولا أطيب إيرادا، ولا أعذب مساقا، ولا أعجب أحكاما، ولا أغرب ترتيلا، ولا أجمل جملة وتفصيلا. ولقد كنت في حين قراءته على قساوة قلبي، وغباوة لبى أتغاشى وأتلاشى ويضج جامع تونس باهله، ويغص جمعه، فبين باك وداع وخاشع وساقط من القيام، وعادم وجوده في ذلك المقام، كلهم يفعل فيه صدقه، ويسكنهم نطقه، ويسكرهم ذوقه، قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السبع جمعا في ختمة واحدة والإدغام الكبير في رواية أبى عمرو بن العلاء وترك الهمز من طريق أهل الرقة، بطريق أبى عمرو الداني رحمه الله تعالى وهو آخر من قرأت عليه السبع من الأئمة المقرئين والأساتذة المبرزين عددهم اثنا عشر شيخا ما منهم إلا من قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السبع إفرادا وجمعا أو أفرادا، أولهم الأب المرحوم ناجلى، الكفيل بتربيتي في نشأتي وناحلى أول موهبة من تدريبي في بدأتي والدي عيسى رضي الله عنه قاضي بلدة قتورية وخطيبها ووالي كافة أمورها مدة من أربعين سنة قرأت عليه بالقراءات السبع على والده جدي الأستاذ الخطيب الحاج الزاهد أبى جعفر أحمد، وقرأ والده جدي بالقراءات السبع على جماعة منهم والده الخطيب الصالح أبو إسحاق إبراهيم وقرأ والده جد والذي بالقراءات السبع كذلك على جماعة منهم والده الفقيه أبو جعفر أحمد بن علي بن أبى خالد رحمة الله على جميعهم، وهكذا تتصل لي هذه السلسلة بالقراءة السبع إلى سابع جد ولله الحمد، وحدثني شيخي هذا انه قرأ بالقراءات السبع أفرادا مع الإدغام الكبير في رواية أبى عمرو بن العلاء وترك الهمز من طريق أهل الرقة ثم جمع السبع في ختمة كاملة، وقرأ قراءة أبى محمد يعقوب الحضرمي على الشيخ الفقيه المقرئ الصالح الرواية أبى العباس أحمد بن موسى بن عيسى بن أبى الفتح الأنصاري المشتهر بالبطرنى وحدثه أنه قرأ بالسبع القراءات على الشيخ الفقيه المقرئ الخطيب القاضي أبى محمد عبد الله بن يوسف بن أبى بكر بن عبد الأعلى المغافري السبرتى بقراءة نافع أفرادا وجمعا وباقي السبع ختمة جمعا لكل إمام ثم جمع عليه السبع في ختمة كاملة مع الإدغام الكبير، قال قرأت على خاتمة المحققين بل المقرئين بشرق الأندلس أبى جعفر أحمد بن يحيى بن عون الله الحصار بقراءة نافع إفرادا وجمعا وجمعت عليه السبع في ختمة كاملة كما قرأت بالقراءات السبع بالأفراد والجمع مع الإدغام الكبير فيهما على الشيخ الفقيه الزاهد أبى الحسن

ص: 12

علي بن محمد بن علي بن هذيل البنسى، قال قرأت جميع ذلك على الشيخ الفقيه المقرئ أبى داود سليمان بن نجاح الأموي، قال، قرأت جميع ذلك على الإمام الحافظ أبى عمرو وعثمان بن سعيد بن عثمان الدانى بسنده في كتاب التيسير، وقد قرأت جميعه عليه وقرأت عليه جميع القصيدة اللامية المسماة بحرز الأماني التي من نظم الإمام أبى القاسم بن فيرة الشاطبى رحمه الله قراءة تثبيت وتبيين لمعانيها وإعراب لمشكلها، وإيضاح لأسرارها، واستخراج لغوامضها وجميع عقيلة أتراب القصائد من نظم الشاطبى أيضا وحدثني بجميع ذلك عن شيخه أبى العباس البطرنى المذكور، ولشيخي هذا أسانيد غيرها، وسماع وتبتل، وانقطاع ومواصلة للقرآن واعتناء بذلك الشأن فجمع بين علو الإسناد، والسلسلة الذهبية وتوسع كثيرا في اللغة العربية. وتتبع أنواعا من هذه الطريقة الأدبية يعمر بها مجالسه أنشدني لبعض الشعراء:

أني غريب بأرض لا كرام بها

كغربة الشعرة السوداء في الشمط

لا أطلق العين في شيء أسر به

ولا أنال الرضى إلا على سخط

وأنشدني لبعضهم:

ان الليالي للأنام مناهل

تطوي وتنشر بينها الأعمار

فقصارهن مع الهموم طويلة

وطوالهن مع السرور قصار

وأنشدني لبعضهم:

تمتع بالرقاد على الشمال

فسوف يطول نومك باليمين

ومتع من يحبك باجتماع

فأنت من الفراق على يقين

وكان رضي الله عنه رقيق الاشادات، طيع العبارات، حلو الحكايات، عالي الروايات، تبهجك طلاقته ويرضيك بشره مع مروؤة ظاهرة، وتمام خلقة، وهدى وسمت ووقار لأكفاء له، إلى حسن البيان وعذوبة اللسان.

ملح كالرياض غازلت الشم

س رباها وافتر عنها الربيع

فهي للعين منظر مؤلف الحس

ن وفي النفس سئودد مجموع

ذكر لي قال دخل بعض الملوك على جارية له، وقد دهن شعره بدهن بيضه به، فقال يخاطبها:

كل البياض مليح

لا شيء في الحسن بعده

فأجابته:

أهواه من كل شيء

إلا من الشيب وحده

فاستحسن جوابها، وأحسن ثوابها، وأخبرني، قال دخل بعض الشعراء على بعض الكبراء مادحا له بشعر قاله فيه فوجد عنده حجاما قد قص من شعره وأجزل له في العطاء ولم يعط الشاعر فقال مرتجلا:

أرى من جاء بالموسى مواسي

وراحة ذي القريض تروح صفرا

فهذا منجح ان قص شعرا

وهذا مخفق ان نص شعرا

وأخبرني قال: مدح أبو الحسن بن الفضل أحد الوزراء بمراكش وكان أقرع فلم يثبه، فقال:

أهديت مدحي للوزير الذي

دعا به المجد فلم يسمع

فحامل الشعر إليه كمن

يهدي به مشطا إلى أقرع

وأخبرني قال: أهدى سالم بن قاسم من بني مهنا الحسنيين لصلاح الدين ابن أيوب مروحة بيضاء وفيها مكتوب بالأحمر بيتين وهما هذه:

أنا من نخلة تجاور قبرا

ساد من فيه سائر الخلق طرا

شملتني سعادة القبر حتى

صرت في راحة أبن أيوب أقرأ

ص: 13

وقد كان الرسول بها قال لصلاح الدين، خذ هذه فما أهدى لك ولا لبيك قط مثلها، فغضت السلطان من هذا الكلام فقال الرسول لا تعجل وانظر ما فيها من الكلام، فلما نظرها وقرأ البيتين قبلهما ووضعهما على رأسه وقال: صدق الشريف ما وصلتني قط هدية مثل هذه. وقرأت عليه من كتب القراءات والحديث وغيرها تصانيف كثيرة، استوفيتها بأسانيدها في برنامج رواياتي، وأجازني إجازة تامة، مطلقة عامة، وكتب لي بخطه، ومولده عام ثمانية وستين وستمائة.

وأشفعهم بأوحد الزمان، وفريد البيان والتبيان، العديم النظراء والأقران، والمرتقى درجة الاجتهاد بالدليل والبرهان، الشيخ العالم المشاور أبو عبد ابن الحباب، حبر، بحر، حافظ لافظ، ذو أبهة وبهاء وحبوة مملوءة من علم، خالية من ازدهاء، برع بأحسن الصورة، في مطالع الحسنى إلى أنهى كمال وأكمل انتهاء، برع بأحسن الصورة، وفرع من الجمال أرفع السورة فبسق بسوق الغصن الناضر وأضحت حدائق محاسنه نزهة الأحداق والنواظر، انفرد بفنى المعقولات والمقولات، واتحد في علمي اللسان والبيان فما يجارى، في شيء من ذلك ولا يبارى، وهو فيما عدا ذلك من الفنون يفوق القدور ويفيض على مزاحمة البحور، ويحلى من فوائده الطلا والنحور، وله تآليف وتصانيف فيها للعلوم صنوف، وهي في الأذان شنوف، ولها ظهور على غيرها وشفوف، وقلائد قصائد تنجلي بجمالها الخرائد، وتحسد حسنها النيرات الفراقد ونشربل نور، أو أنجم زهر، أو لجين أو تبر، أو يواقيت أو در، أو حصباء بللها نهر أو شذور رصعت فشطر وشطر:

نظم ونثر في رياض بلاغة

سجد الربيع لبردها الرفراف

لم أدر من عجب بها وتعجب

أنظام در أو نظام قواف

كان زمن شبابه، وتعلقه بطلب العلم واستفتاح بابه، رئيس إنشاء الدولة الحفصية، والمستقل بحمل الراية التونسية، فملا الدلو ومد الرشاء، وأنال الإنشاء ما شاء، وأزال عن جفون الطريقة الأدبية العماية والعشاء، فلما أحرز في ذلك الفن قصب السبق وحازه، وقطع فيه صدر العمر واستقبل إعجازه، عطف إلى تعليم العلوم، وعكف على تدريب تدريس المعدوم منها والمعلوم، فأفاد الأفذاذ، والأفراد وأمتع الجهابذة والنقاد، وأسمع الأسماع ما اشتهى كل منها وأراد، إلا أنه كثير الأنس مؤثر لراحة النفس، قلما ينضبط لطالب، ولا يغتبط إلا بذي فهم ثاقب، وسهم في العلوم مسدد صائب، فمجالسه مجالس علم وإيناس، وتقريب لأناس، وتبعيد لأناس، وكنت بحمد الله من الفريق الأول لا بالمشكوك فيه ولا بالمتأول، فسمعت وأخذت وأجازني الإجازة التامة، وكتب لي بخطه أنشدني لبعض المشارقة يعرض بآخر ينعت بسراج الدين، وكانت قبيلته بجيلة فضمنها البيتين وهما:

لنا في البيت من خزف سراج

عراقي فتيلته نحيلة

يضيء لمن تعاهده بدهن

فلا كان السراج ولا الفتيلة

وأنشدني لسراج الدين الآمدي:

بني أفدى بالكتاب العزيز

وراح إليه سريعا وراجا

فما قال لي أف مذكان لي

لكوني أباه وكوني سراجا

ص: 14

ويتلوه البحر المتلاطم الأمواج، والمنهل الذي نروى بعذبه بقاع الوهاد وتلاع الفجاج، والمجموع الذي نزلت بساحته مفنرقات العلوم نزول الماء الثجاج قاضي القضاة وإمام الفقهاء والنحاة ورب العقل الوافر والحصاة، الشيخ العالم العلامة قطي الشورى وعماد الفتيا، قدوة علماء الإسلام، أبو عبد الله بن عبد السلام رضي الله عنه، رجل نشأ في العفة والصيانة وتبوأ ذروة الطهارة والديانة، وصعد من هضبة التقى على أعلى المكانة، فلم تعرف له قط صبوة ولا حلت له على غير الطاعة حبوة، على ان المسهب في الأوصاف الكريمة، والمشيد بالمناقب المشيدة، سكيت مع سبقه ومسيء في إحسانه، وقاصر عن إدراكه، وهيهات يضرب في حديد بارد، ويطلب ما ليس له بواجد، من رام بيده لمس الشمس، وتعاطى برجله لحاق البرق، صرف همته العلية، وفكرته الوفادة الزكية، إلى انتحال فنون العلوم، وافتتاح المعكوم منها والمختوم، ملك أعنتها، وقاد أزمتها، وأوضح أشكالها، ووسم إغفالها، وحل أقفالها وتلقى بالسهل والرجب آنثيالها عليه واقبالها، فهو اليوم وحيد الأوان، وعلامة الزمان، والمشار إليه بالبنان والبيان ما قرن به فاضل من العلماء الارحجه، ولا ألقى إليه مبهم من العلم إلا كشفه وأوضحه، عدلا في أحكامه، جزلا في إقدامه مراقبا لله في فعله وكلامه، له صادقات عزائم، لا تأخذه معها في الله لومة لائم، إلى نزاهة عن الدنيا، وهمة نيطت بالثريا، ولهجة فيها ترقرق ماء البشر فأحيا وحيا.

يقابلني له خلق وضيء

يصدق بشره خلق رضى

حضرت مغتنما وملتزما تدريسه الذي هو ضالة الناشئ الناشد، وبغية القاصي والقاصد وحديقة الرأي الرائد، وحقيقة الفوائد، فسمعت وانتفعت وأخذت عنه شرحه لكتاب ابن الحاجب الفرعى فقرات وكتبت وأجازني في غير ما مرة، وكتب لي بخطه ومولده سنة ست وسبعين وستمائة وسمعت منه بمنزله من تونس جميع موطا الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه في مجالس كثيرة آخرها ضحوة يوم الجمعة الثالث عشر لصفر من عام أربعين وسبعمائة وأذن لي في روايته عنه وحدثني أنه قرأه أجمع بلفظه على الأستاذ المقرئ أبى العباس المشتهر بالبطرنى المتقدم الذكر بسنده فيه وقرأه كذلك أيضا على الشيخ المحدث الرواية المعمر أبى محمد عبد الله بن هارون الطاءي، وحدثه به عن القاضي أبى القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن بقى قراءة لبعضه وسماعا لسائره بمدينة قرطبة أعاداها الله دار اسلام عن أبي عبد الله محمد بن عبد الحق الخزرجي قراءة عليه عن أبي عبد الله محمد بن فرج الفقيه مولى الطلاع سماعا عليه قال سمعته على القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله أبن المغيث عن أبي عيسى يحيى بن عبد الله أبن يحيى بن يحيى عن عم أبيه عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن مال بن أنس رضي الله عنه ورحمهم وهذا السند لا يوجد مثله بالمغرب علوا واتصالا بالقراءة والسماع، وقرأته أيضا عام ثلاثين وسبعمائة على والدي وأخبرني أنه قرأ منه جميع كتاب الصلاة عرضا عن ظهر قلب على والده جدى عن جماعة جلة منهم والده الخطيب أبو إسحاق وغيره وقرأته بالمسجد من مدينة مالقة المحروسة عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة على الشيخ الخطيب الزاهد الولي الله تعالى أبى عبد الله محمد بن أحمد الهاشمي الطنجالي بسنده فيه وقد قرأته وسمعته بالأندلس وبغرب العدوة على غير من ذكرته رضى الله عن جميعهم. وقد آن أن يبرز فارس ميدان التسجيل المتميز في عناق تلك الحلبة بالغرة والتحجيل المحرز فضل السبق الموجب للتعظيم والتبجيل الشيخ العالم المتصوف أبو عبد الله بن عمر أرضاه الله تعالى، علم الجماعة، وقلم التأييد والاستطاعة، ورب الفكرة المطاعة، ومن له في النظم والنثر القلم الأعلى، والقدم الأولى، واللفظ الأجلى، والقدح المعلى، والبدائع التي تستفاد وتستعاد وتستحلى، وله في الطريقة الصوفية مقام عال، واشتات معال، وخاطر يجول بين واسع مجال فيبرز نفائس لئال وعرائس جمال ويأتي بسحر حلال، وبحر زلال بين بديهة وارتجال، ووخذ وارقال وانحفاز واستعجال.

مكارم مثل الحصا كثرة

وخاطر يغرف من كل بحر

ص: 15

رحل إلى المغرب والمشرق فعلت روايته وعظمت آياته، وكثرت مبالاته بالعلم وعنايته، فبدأ في سماء المعالي بل المعارف شمسا تتجلى بزهر هدايته مشكلاتها، ولاح في جيد العوارف سلكا تتحلى بذر كفايته لباتها، وأقام مشتغلا بالعلم سنين، وانعقد النكاح بينه وبين عقائل الآداب بالرفاء والبنين، فيلد من مخلدات فكره خرائد تتهاداها الملوك وفرائد تزدان بها التيجان والسلوك، تحلت به الدولة الأندلسية كما تجلت عنه الخضرة التونسية فهو الآن متولي ديوان إنشائها ومدلى أشطان رشائها قد استقر عنه من عرف له شانه وعاف بعده وشانه واقتنى نظمه فزانه وأذخر مرجان نثره وجمانه. دخلت الحضرة المذكورة على حين أخذ مني البين أخذته وفلذ من فؤادي فلذته، فتفرست أدبه الرائق ومذهبه الواضح الطرائق فكان جنابه العلي مطمح نفسي ومسرح أنسي ومصلح ما نضى من لبسي، وانضى من عنسي فكانت فراسة لاح صدقها، وأومض برقها سحابها، وهمل ودقها، ولما عجت إليه وقصدت منزله للسلام عليه، أنشدت بيتين اثنين استأذنته بهما وهما:

ببابك يا مولى الكتابة كاتب

أتاك بقلب من أسى البين مفجوع

وحاجته تقبيل يمناك، أنها

تؤمن من خوف وتسمن من جوع

فارتاح إليهما ارتياح الصداق لبليل القبول، ومد لهما يمين اليمن والقبول، ودارت بيننا المخاطبات نظما وتكررت بيننا المراسلات والمراجعات قلا وكثرا، ولم أزل مدة إقامتي بتلك الحضرة تحت ظله الوارف وفضله المحمود المطارف خرج مستريحا في بعض أزمنته الطيبة إلى بعض جناته التي هي منى النواظر، وملعب الغصون النواضر ومهب الأنفاس العواطر وراحة الأبدان والخواطر، حلال الحلل التي توشيها أيدي الغمائم المواطر، فما ألم بها حتى وجه إلى مع بعض خدامه مركوبا من عتاق الخيل، جامعا لضياء الصباح وغسق الليل نقلني إليه، وأحلني لديه، فوافيت والربيع قد أهدى نوافحه، وأسدى لواقحه، وأسدل ملاحفه وأسبل مطارفه، وألان معاطفه وأفاض معارفه، ومد بروده، وأمال قدوده، وحشد جنوده، وحشر بيضه وسوده، ونشر ألويته وبنوده، وملأ تهامته ونجوده، ونظم جواهره وعقوده، ورقم صحائفه وعقوده، وأعطى مواثيقه وعقوده، والغمام قد بكى على ميت الروض فأحيا نوره وأضحك ثغره وحدق أحداقه، وأرضى أوراقه، وأصفى ملبسه، ووشى سندسه، والنسيم قد جر على بساط البسيطة ذيوله، وأجال بملعبه خيوله، واستنطق أطياره، وشق أنواره، وأفشى أسراره، وأذاع شيحه وعراره، وفضض أنواره، وذهب أزهاره، ونثر درهمه وديناره، وحيا ورده وبهاره، وصافح آسه وجلناره، وأطاب ثناياه وأخباره، والمذانب تسل السيوف، وترى لنفسها على الأنهار الشفوف، وتخترق من مكللات الثمار الصفوف، وتدور على سوق الغصون كالخلاخل، وتلتوي بها التواء اللسان المجادل، وتلك السواقي تحن حنين الحوار، وتضرم في القلب المشوق حر الأوار، وتهيج لوعة الصب المغترب النازح الدار، وتفجر من بين أضلاعها أمثال الشفار، كما قال الرئيس أبو عبد الله بن أبى الحسين:

ومحنية الأصلاب تحنو على الثرى

وتسقي بنات الترب در الترائب

تعد من الأفلاك أن مياهها

نجوم لرجم المحل ذات ذوائب

وأطربها رقص الغصون ذوابلا

فدارت بأمثال السيوف القواضب

وما خلتها تشكو بتحنانها الصبا

ومن بين مثليها أطراد المذائب

فخذ من مجاريها ودهمة لونها

بياض العطايا في سواد المطالب

فحللت منها شرفا، وتبوأت عرفا، واجتنيت تحفا وطرفا، وأقمنا فيها ليالي وأياما أمنين، تغازلنا أعين النرجس وتقابلنا خدود الورد وتصافحنا أكف الياسمين:

في رياض من الشقائق أضحت

يتهادى بها نسيم الرياح

زرتها والغمام يجلد منها

زهرات تفوق لون الراح

قلت وما ذنبها فقال مجيبا

سرقت حمرة الخدود الملاح

ومما أنشدني هناك لنفسه:

حسن المرية ريح

جرى عليها فعما

فكل وجه تراه

تراه بدارا أتما

ص: 16

وأنشدني وقال لي: أنشدني الحاج الفاضل أبو زكرياء بن واش الفاسي، وقال أنشدني بعض الشيوخ المجاورين البغداديين وقد مر به بحرم مكة، شرفها الله تعالى، الفقيه أبو جعفر بن شيخنا الإمام رضي الدين الطبري، وهو إذ ذاك فتى، فقال له الشيخ،) ما الذي تقرأ وبم تشتغل من الكتب (، فقال له الفتى،) بالتنبيه (فأنشد الشيخ بديهة.

ومهفهف الأعطاف ساج طرفه

يغدو على الفقهاء للتعليم

شغلوه بالتنبيه جهلا منهم

لو انصفوا شغلوه بالتنويم

وأنشدني وقال لي، دخل الأديب الشهير أبو بكر بن قزمان، رحمه الله تعالى، على بعض البلاد فأعطى نعله ليصلح له، وهو مستوفز قد نفد ما عنده، فخاطب في الحال بعض الناس من أهل البلد بقوله:

دفعت قرقي لقراق يصلحه

وفد تعذر قيراط من الثمن

فامنن على شاعر خفت مؤونته

قدر السؤال بقدر الناس والزمن

وأنشدني لبعضهم:

خبت نار العلى بعد اشتعال

ونادى الجود حي على الزوال

فقدنا الجود إلا في حديث

وإلا في الدفاتر والآمال

ولو أني ملكت الأمر يوما

لما حاربت إلا بالسؤال

لأن الناس ينهزمون منه

وقد ثبتوا لا لأطراف العوالي

وقرأت وسمعت عليه جميع صحيح مسلم بن الحجاج، رحمه الله تعالى، فكمل لي جميعه عليه ما بين قراءة وسماع بحق قراءته لجميعيه، بالحرم الشريف تجاه الكعبة المعظمة، سنة ثلاث عشرة وسبعمائة على الشيخ الإمام الخليل عليه السلام رضي الدين أبى أحمد إبراهيم بن محمد الطبري المكي الشافعي، قال: قرأته أجمع بالحرام الشريف اتجاه الكعبة المعظمة، سنة خمس وسبعين وستمائة على الشيخ الأوحد شمس الدين أبى عبد الله محمد بن النعمان بحق قراءته، على الشيخ أبى الفضل محمد بن أبى المعالي بن الجياب السعدي، على الشيخ الشريف أبى المفاخر سعيد بن الحسين الماموني، عن الشيخ أبى عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي الفراوي، عن الشيخ أبى الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي، عن الشيخ بن أحمد بن عيسى الجلودى، عن أبى إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، عن الإمام، أبى الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى، قال:" وقال الشيخ أبو أحمد إبراهيم بن محمد رضي الدين الطبري، وأخبرني به، أعلى من هذا الشيخ المحدث أمين الدين عبد الصمد بن عبد الوهاب بن عساكر الدمشقي، قراءة عليه وأنا أسمع، بالحرم الشريف تجاه الكعبة المعظمة سنة تسع وخمسين وستمائة قال: أخبرنا به الشيخ أبو الحسن المؤيد الطوسي، اجارة عن الإمام أبى عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي الفراوى، وبسنده المذكور ". وقد أجازني الإجازة التامة، وكتب لي بخطه.

ص: 17

) وآخر سبعهم (، وموثر شفعهم، إمام المعارف، وروضة الآداب الناعمة الأفنان، الرائقة المطارف، الفائزة من المجد الموثل بالتالد والطارف، الشيخ العالم الولي: أبو عبد الله لبن حريز فرع الأصل الغزير، وطبع الأدب المخجل أسلاك الدر وسبائك الإبريز، والمعترف له في ميدان البلاغة وفرسان البراعة بالسبق والتبريز، سبق في شجرة قرشية أموية كريمة الأعراق، ساطعة الإشراق طيبة الأثمار والأوراق، وتفتح نور بيانه في جنان جنانه، فاجتنى لسانه، واجتلى كالزهر في آداره ونيسانه، وترقى بإجادته وإحسانه، من رجل برع في الطرق الأدبية الصوفية، ونبغ في العلوم العقلية والنقلية، وفرغ لها بالنفس العاصفية، والهمة الأوسية والفكرة الأياسية، فخلق فيها رجوما رافقت الأنكدار، وبدورا فارقت الأبدار، وشموسا على كسوفها من الزمان ما دار، فعلا بعدهم قدمه، وأضحى وجمهور العالم حوله وخدمه، فاقتصر في منزله الكريم على عبادة ربه، وإفادة صحبه، سارحا من فنون علوية، في روضات جنات، ودرجات مقامات، وسائحا من عيون مجلداته في بحر أمهات، وفيض ملمهات، منقبضا عن الناس إلا عن المحتاجين إلى مواساته، والمفتقرين إلى إفادته ومؤانسته، فترى تراكم الخلق عليه تراكم الجراد المنتشر، فمجلسه في داره بتونس مجتمع إليه فيه أصناف أهل العلم، وطوائف أولى التقى والفهم، وهو اليوم هناك كعبة العلوم يحج إليها، وعمدة المحاسن يعول عليها، قد جعله الله تعالى محيا للأنفس، وسببا للتأنس، وأودع فيه من صدق المصاحبة، وحسن المداعبة، وكثرة الخشية لله تعالى والمراقبة، ما سلكه على أحسن أسلوب، وملكه الأنفس وحب القلوب، فهو كما كان محمد بن سيرين رضي الله عنه، يداعب ويضحك حتى يسيل لعابه، فإذا أردته على شيء من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك.

سماحة لا تبارى الريح غايتها

جودا ولا تتعاطى شأوها السحب

وهيبة لو رآها الدهر ماثلة

ولي وللرعب في أحشائه صخب

إلى ما رزقه الله تعالى من القريحة الوقادة، والفطنة النقادة، والخوض في بحور العلوم الشرعية والطبيعية، والورود من مشارع الكمالات النفسية، والمشارب الذوقية الوجدانية، والعنايات السلطانية والحمايات العامة والعطايا الحاتمية، والرتب العليه، والزهد في الدنيا الدنية، وبعد الهمة والمشاركة للخاصة والعامة، من هذه الأمة، وإجابة الدعوة، والخلو من الزهو والنخوة، وأنا من رأيت نجاح دعواته، وصلاح حالي بالتماس بركاته، ولازمته وتردد إليه كثيرا فكنت أجد في مجالسته فوائد تنسي الأوطان، وأرد في موانسته موارد تحيي الهائم الظمئان، قلت له يوما، يا سيدي علم الله تعالى أني أحبك فقال لي: ابشر أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي:) يا محمد رزقك الله التقوى وحببك إلى خلقه وجعل من يحبك من عبادة المؤمنين قال رضي الله عنه: فمن علمت أنه يحبني علمت أنه من عباده المؤمنين (سمعت من لفظه رضي الله عنه جميع تآليفه البديع المزري بروض الربى وزهر الربيع الذي سماه مهب نواسم المدائح، ومصب غمائم المنائح، في مدح أحد حجاب، الخلافة الحفصية، ونقلته من خطه وصححته عليه، وسمعت وقرأت عليه، وأجازني وكتب لي بخطه، ومولده في الثاني عشر لشهر ربيع الثاني عام اثنين وثمانين وستمائة، وأخبرني رضي الله عنه قال: حضرت محتفلة عند بعض الأصحاب انشد فيه المسمع قصيدة ابن صردر العراقي فأعجبت بها، وما أتمها إلا وقد أشربت فؤادي من سمعة واحدة، وعرضتها في الحين على من حضر وهي:

لحاجة نفس ما يفيق غرورها

وحاجة صب ليس يفضي يسيرها

أكفكفها هطلا على كل منزل

فلو أنها أرض لغارت بحورها

وما ينفع العين التسهد والبكا

أذن تعرفا لي مقلة أستعيرها

وقفنا صفوفا بالديار كأنها

أهذي التي تهوى فقلت نظيرها

لئن أشبهت أجيادها وعيونها

لقد خالفت أعجازها وصدورها

ووالله ما أدري غداة رمينى

أتلك سهام أو كئوس تديرها؟

فان كن من نبل فأين حفيفها

وان كن من خمر فأين سرورها؟

وان قلتما لي ليس في الأرض جنة

أما هذه فوق الركائب حورها

يعز على الهيم الخوانس وردها

إذا كان ما بين الشفاه غديرها!

ص: 18

أراكد الحما قل لي بأي وسيلة

توسلت حتى قبلتك ثغورها

تنال الذي ما شئت منها وتشتهي

فصف لي ريا منها فأنت خبيرها

ومالي بها علم فهل أنت عالم

أأفواها أولى بها لأم نحورها؟

يفوح النسيم الرطب من كل منزل

وما كل أرض يستطاب عبيروها

وان فروع البان من بطن وجرة

شهي إلينا ظللها وحرورها

ألذ من العذب الجنى عرارها

وأشهى من الشهد المصفى رحيقها؟

على رسلكم في الحب أنا جماعة

إذا ظفرت بالحب عف ضميرها

لعمرك ما سحر الغواني بقادر

على ذات نفس والمشيب نذيرها

وما الشعرات البيض إلا كواكب

مطالعها رأس وفي القلب نورها

هكذا أملاها على بلفظه، رضي الله عنه، وقرأتها عليه بلفظي مصححها لها مرة ثانية وأنشدني أيضا قال هما لأبي الحسن أبن الزقاق رضي الله عنه.

وحبب يوم السبت عندي أنه

ينادمني فيه الذي أنا أحببت

ومن أعجب الأشياء أني مسلم

حنيف ولكن خير أيامي السبت

فهؤلاء سبعة الدرارى في علو المقام، أو كسبعة الأيام المحيطة بأزمان أكوان الأنام، آثرت ذكرهم انتقاء من أولئك الجهابذة الأعلام، واقتصرت في عددهم على احب الأوتاد إلى الملك العلام، ولما أراد الله سبحانه ان يسعدني بالأخذ عنهم، ويسعفني في الاستفادة منهم، قيض أول من علم غيبة، ووفر جوده وسيبه، ولطائفه الخفية، وعوارفه الالاهية، صديقا في المحبة، وموافقا على الصحبة، حافظا في الصخور والغيبة،

خير أخوانك المشارك في المر

وأين الشريك في المرأينا؟

الذي ان حضرت سرك بالود

وان غبت كان أذنا وعينا!

هو الشيخ الفقيه العالم أبو العباس النقارسى، نفع الله بمودته، حافظ مجيد، وحامل مجيد، وناقل سديد وناقد شديد، وعالم فريد، ومدرس مقيد، له طبع حل فيه الذكاء والنبل، وقل فيه لوابل كرمه الطل والوبل، ان وأخاك رأيت الأنس قد ارتدت ذواهبه، وعادت مذاهبه، ووجدت الزمان قد لانت صعابه، وبانت شعابه، وأولاك ودادا أخلصت سريرته، وحمدت في شرعة الوفاء سيرته، فلا حمد إلا ما قد تصفحته له صفحات الفلا، ولا عهد إلا ما حفظه وإلا فلا،

وحسن الوفاء مرشح بخلائق

تجري مع الماء الزلال إذا جرى

رحل من بلدة تلمسان قبل أن يلم بها الحصار، ويلقى ريحها الإعصار، ويشرب الزمان صفوها بالأكدار ويحكم فيها الخطوب والأقدار، ويدير عليها من البلاء والمحنة ما أدار، فكانت منه فعلة سنية ونقلة سرية، وفراسة اياسية، والماعية عباسية، فدخل الحضرة مشمرا عن ساعد الجد، ومقتادا بقائد الجد، فطلع في آفاقها كوكبا، ورسى في ساحتها كبكبا وجال في ميدانها ركضا وخببا، وتعلق بعروتها الوثقى سببا فسببا، ولم يزل يفحص في هذه المسالك على الكمال، ويستقي من مناهلها العذبة السلسل الزلال إيثارا للرتب المنيفة، واستطلاعا للمقامات الشريفة، فبلغ المنتهى، وخول ما اشتهى، وحل في الحظوة فوق السهى، فهو الآن أحد المدرسين الأعلام، وأوحد من برع في علمي البيان والكلام، وأوجد الناس للدر إذا خاض بحر العلوم بسوابح الأقلام، أديب العصر ونحويه، وعرضيه وبيانيه، وحكميه ومنطقيه، وعددية وفرضية، وأصولية وجدلية، وتعاليجية وأرتماطيقية، جمع أشتات هذه الفضائل وكان فيها صائلا ليس بضائل، وعلم اللغات وسائرها، وفك الأعاريض ودوائرها، إلى إحاطة بعلم التفسير والحديث، وسلاطة على المطالعة والمذاكرة في القديم والحديث، أما الفروع والأصول فبه كنت فيهما أصول، ولم ترعيني قط شرقا وغربا أسرع منه نسخا وكتبا، ولا أقرأ لكل خط ما عسى أن يكون صعبا، على جودة خطه وصحة نقله وضبطه، وإتيانه للسحر الحلال بأي شيء أخذ من الأرض لا يميل بشقه ولا يفطه.

كالحية الرقشاء إلا انه

يستنزل الاروى إليه تلطفا

يهفو به قلم يمج لعابه

فيعود سيفا صارما ومثقفا

ص: 19

دخلت الحضرة وقد كساني البين تلك الغمرة، فنبهني منه أخ شقيق وفرج به عني أزمة وضيق، وقد كان يتشوقني على السماع، وينشط للاتصال له والاجتماع، فلما علم بوصولي وصل في لمة من اخوانه الأعلام، وأعيان ذلك الصقع المتصلين بالسؤدد اتصال الألف بالام، فالتقينا هنالك التقاء النفس والأمل، وانتظمنا انتظام القول والعمل، وأقمت معه في منزل واحد، وأمل وافد، لا يستأثر أحدنا بمقسوم، ولا ينفرد عن الآخر بمكتوم ولا مختوم، وهو في كل ذلك يؤنسني غاية الإيناس، ويأخذ بضبعي إلى معرفة أكابر الناس، ويفيدني بأجل الفوائد، ويأتي من مرسوم فضائله بالزوائد، الخارقة للعوائد، وكثيرا ما كنت أعجب من تطلعه إلى المعالي وتحصيله، وأنجب باحتذائي حدوه في جملته وتفصيله، واقتفائي سننه في دقيق الأمر وجليله، والمرء على دين خليله وما زلنا بتلك الحاضرة، نتجلى أنوار المحاضرة، ونجتني نوار المذاكرة، إلى أن جاء يوم الفراق، باخترام ذلك التلاق، واحتدام ذلك الأعلاق، فسبحان من أوجد العهود ثم أعدمها، ووصل تلك الأسباب ثم حذفها، وهذه شيمة الليالي في أعقاب تجميعها بتفريقها وإشراقها كل نفس بريقها، لا تجمع شملا إلا شتته، ولا تصل حبلا إلا بتته، من أطاعها عصته ومن أدناها أقصته ومن وصلها قطعته، ومن نزع إليها نزعته، ومن أرضاها أغضبته وأحرجته، ومن سكن دارها أزعجته وأخرجته، والغبطة بها مع ذلك شديدة، والآمال فيها على أنها دار البلاء جديدة، حتى كأن حقيقة ما يعلم من استحالتها ارتياب، والرحلة عندها إياب، لقد حق أن يرفضها البصير، ويعد لما إليه تصير، ويسئل الله في أمره فنعم المولى ونعم النصير، ألهمنا الله تعالى طريق إرشادنا، وأعاننا على الأعداد لمعادنا، وقضى في العاجل والآجل بإسعادنا، أنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وارجع إلى تتميم ما بدأت عن الأعلام بفضل هذا الفاضل وجلالته، والالماع من ذكر روايته والرواية عنه بما لا يخشى من ملالته، فأقول: أني قرأت عليه جميع تآليفه في العروض الذي سماه بالروض الاريض في علم القريض، وجميع تآليفه في الأدب الذي لخص فيه رسالة أحكام صنعة الكلام من إنشاء الوزير الكاتب أبى عبد الله ابن عبد الغفور، وكتبها لي بخطه، وأجاز لي جميع ما رواه وألفه من تآليفه التي أبدع فيها تلخيص مشكل الحديث لابن فورك، وكتاب حديقة الناظر في تلخيص المثل السائل في علم البيان، وشرح كتاب المصباح لابن مالك، وكتاب إيضاح السبيل والقصد الجليل في علم الخليل في شرح قصيدة ابن الحاجب العروضية، وله تآليف غيرها مما عرف بحمد الله قدرها، وأشتهر على الألسنة ذكرها،

وسارت مسير الشمس في كل بلدة

وهبت هبوب الريح في البر والبحر

وأنشدني وقال: أنشدني الشيخ الإمام الأوحد أبو عبد الله محمد بن راشد، رحمه لله تعالى، قال: أنشدني لنفسه معين الدين ابن تولواء التوزى، رحمه الله تعالى ورضى عنه:

يا أهل مصر رأيت أيديكم

عن بسطها للنوال منقبضة

لما فقدت القرى بأرضكم

أكلت كتبي كأنني أرضة

وأنشدني لغيره:

لحا الله مصر وسكانها

وفتت أكبادهم بالحسد

متى يرتجى مفلس عندهم

غني، وعلى كل فلس أسد

وأنشدني الشيخ المحدث الفاضل فتح الدين بن عمر بن سيد الناس رحمه الله تعالى:

بالله ان جزت بواد الأراك

وقبلت عيدانه الخضر فاك

فأبعث إلى المملوك من بعضها

فأنني والله مالي سواك

وأنشدني لبعضهم:

جعلت هديتي لكم سواكا

ولم أقصد به أحد سواك

بعثت إليك عودا من أراك

رجاء أن أعود وأن أراكا

وأنشدني قال أنشدني الشيخ الإمام الأوحد ناصر الدين أبو علي منصور بن عبد الحق المشذلى رحمه الله، قال أنشدني أبو عبد الله بن أبى الفضل السلمى المرسي لنفسه:

عابوا الجهالة وازدروا بحقوقها

وتهاونوا بحديثها في المجلس

وهي التي ينقاد في يدها الغنى

وتجيئها الدنيا برغم المعطس

ان الجهالة للغنى جذابة

جذب الحديد حجارة المغنطس

وأنشدني له أيضا:

تنقل فلذات الهوى في التنقل

ورد كل صاف لا تقف عند منهل

وان سار من تهوى فسر عن جنابه

ولا تسكبن دمعا على مترحل

ص: 20

ولا تلتفت قول امرئ القيس انه

ضليل ومن ذا يهتدي بمضل

ففي الأرض أحباب وفيها منازل

فلا تبك من ذكرى حبيب ومنزل

وأنشدني للقاضي الخطيب العالم أبى عمر بن إدريس، أخي بني بحر صفوان بن إدريس. في أبى العباس الفضل بن أحمد بن الفضل، أحد علماء مرسية ووزرائها، وكان أوحد زمانه في حسن الصورة.

أطاع فؤادي حبه وعصى العدلا

وذاق الهوى مرا، ولكنه استحلا

يقولون أقصر، وأنس فضلا ولم اكن

لا فعل هذا، ساء قولهم فعلا

يكلفني العذال ما لا يحل لي

أأنسى؟ وقال الله لا تنسوا الفضلا

وأنشدني له أيضا:

واغيد حظي منه ما اختلس الطرف

يميل بقلبي نحوه الحسن والظرف

غزال ضعيف اللحظ ويحي وإنما

جنى ضعف صبري في الهوى ذلك الضعف

هو الخشف إلا أنه كلما رنا

جزعت وفي المعتاد أن يجزع الخشف

أرى هجره وقفا علي فهل غدا

جزاء على أني على حبه وقف

سلوه برفق هل جنيت جناية

فان قال أي فاسألوه عسى يعفو

ويصرفني من جوره نحو عدله

فها أنا لا عدل على ولا صرف

سأتنيه نحوي بالقوافي فأنها

نسيم ويحكي الغصن لي ذلك العطف

قنعت بأن يهدى إلى سلامه

إذا لم يكن زهر من الروض فالعرف

وأنشدني لابن الربيع سليمان بن أحمد اليبنى، أندلسي استوطن المشرق ومدح الملك الكامل:

لولا تحديه بآية سحره

ما كنت ممتثلا شريعة أمره

رشأ أصدقه وكاذب وعده

يبرى لعاشقه أدلة عذره

ظهرت نبوة حسنه في فترة

من جفنه وضلالة من شعره

وأنشدني عند الوداع لعلي بن هاشم المروزي:

يا موقد النار يدكيها فيحمدها

قر الشتاء بأرواح وأمطار

قم فاصطلي النار من قلبي مضرمة

بالشوق من مهجتي، يا موقد النار

ويا أخا الذود قد طال الظلماء بها

ما يعرف الرى من جذب واقفار

رد بالعطاش على عيني ومحجرها

تروي العطاش بدمع وأكب جار

يا مزمع البين لا كان الرحيل فان

كان الرحيل فأني غير صبار

ان غاب شخصك عن عيني فلم تره

فان ذكرك مقرون باضمار

ص: 21

ثم تهيأ زادي، وكمل للسفر استعدادي، وخرجت بعد الاستخارة المشهورة، ومن حضرة تونس المذكورة في صبيحة يوم السبت السابع عشر شهر ربيع الثاني عام سبعة وثلاثين وسبعمائة، وقد نثر المركب بنوده، وقلد شراعه وأحكم شدوده، فركبت في اليوم المذكور، ثم أحصى الراكبون فكمل في المركب منهم نحو ألف راكب، ثم رفع الشراع وسرنا خارجين من المرسى إلى ان جزنا جزيرة) قوسرة (ووصلنا إلى جزيرة) ملطة (، ثم هبت ريح اقتلعتنا واسرعتنا، واشتدت وحامت فروعتنا وأزعجتنا، حتى أدخلتنا مرسى جزيرة) أفريطش (فأقمنا فيها خمسة أيام، وهي جزيرة للروم، وطولها نحو ثلاثمائة ميل ثم خرجنا منها فلما توسطنا المواسط اشتدت الريح المختلفة، وعظمت الأمواج المضطربة، وأتت الأنواء من كل جانب، وجاءنا الموج من كل مكان أمثال الجبال السائرة، فاظلم الجو وتراكم النوء، وارتفع الصحو، وتبدل بالكدر الصفو، واهتاج البحر اهتياجا، واربدت الآفاق سوادا، وانتشرت الرياح عصوفا، وتدفقت الأمواج، وعظم الارتجاج، وهمى الغمام، واستشعر الحمام، وأرسلت شئاييب الأمطار كأنها السهام، وكان ذلك الخطب أعظم من ان يحيط به الوصف، فرجفت القلوب، وخرست الألسن، وجرت الرياح بما لا تشتهيه السفن، واتصلت الحال في الزيادة إلى أن قربنا) من جزر الرومانية (، وتفاقم الأمر وتعاظم حتى انتهينا إلى جزيرة) أشقرباطة (فركبنا إلى مرساها، وأرسينا به فتزايد الأمر وعظم، حتى قطع المراسي جملة واحدة، وخرج المركب رغما على الأنواف واستقبل عظيم تلك البحار فأيقنا بالهلاك، وغلب اليأس على الأمل، وقلت) أنا الغريق فما خوفي من البلل (وكم يسير بنا في غير طريق، والهول يزيد ويعظم، حتى تفتح المركب من جميع جهاته وصار الماء يدخله من كل جانب حتى ملاء الجو الأسفل واستوى على ظهر الطبقة الثانية من المركب، وتزايد فيها حتى قرب من الطبقة العليا، فاستغاث الناس ولم يبق شك في الهلاك، وإذا بالرئيس والبحريين قد أقبلوا عليهم وقالوا ما بقي في الحياة من طمع إلا ان قدرتم على ميح الماء ورمى الوسق، فقام الخلق بأجمعهم كبيرا وصغيرا وذلك بين العشائين، وأقبلوا على الميح والرمى، فلما رجع أحد عن رمي ما قام في وجهه شيء كان، ما عدا النفس خاصة، والقليل من الشدائد يصير عند المشاهدة له كثيرا، كما ان الكثير من الشدائد يصير عند سماعه قليلا، وأهوال البحر لا تحصى ولا تحصر، والشيء يسمع فيحقر حتى يبصر:

هو البحر حدث عنه غير مكذب

فما تنقضي آياته وعجائبه

فأقاموا كذلك حتى ظهرت) جزيرة قبرس (وهي جزيرة كبيرة معمورة بالنصارى كالجزر التي قبلها، فما انفصلنا عنها إلا وقد أدركهم الجهد والإعياء، ولحقهم العطش الشديد والعناء، وقد كانوا رموا جميع ما كان بقي لهم من الماء المعد للشرب فطلبت قطرة من الماء توجد، فما رض ضلوعي ولا فض دموعي إلا أطفال يضطربون بالبكاء ويستغيثون من العطش ومن الماء حتى أشرف الناس على الهلاك بالعطش، وتجزع بعضهم من ماء البحر فكنت أراهم مطروحين يعالجون سكرات الموت، فعند ذلك قام صاحب المركب إلى شيء يسير كان بقى له ولرجاله من الماء لشربهم، وحضره إلى ناحية وأحصى جميع ما كان في المركب اسما وعينا بالزمام، وصار يدفع لهم جرعة واحدة ظهر كل يوم قدرها نحو ثلاث أواقى، فبينما يتمسكون بتلك العلالة، ويترمقون بتلك المصة والبلالة، التي كان الناس يتجرعونها، كرها، والعطش أشهى للنفس منها، إذ أمر الله تعالى الرياح ان تسكن. والبحار أن تبيض، فلم تتحرك فيها للنسيم حركة:

وقد كان بحرا قبل ذلك زاخرا

فغدا بذلك، وهو بر مقفر

ص: 22

فتمكن اليأس، وعظم البأس، وسقط في أيدي الناس، فضجوا بالدعاء، ونقص لهم النصف من تلك الجرعة التي كانوا يأخذونها من الماء، واختلفت إليهم أنواع الهلاك والبلاء، فلما رأيت تلك الشدة، جمعت الأصحاب من قراء القرآن فاجتمع منهم نحو الثلاثين رجلا، فقلت لهم ما لنا إلا اللجوء إلى الله عزل وجل، وأتوسل إليه بكتابه وبرسوله فصلينا العشاء الأخيرة وقسمت عليهم القرآن مجزئا، وأقمنا على التلاوة والقراءة ليلتنا تلك فلم يكن إلا أمد يسير وشفع الله فينا كتابه العظيم، ونبيه الكريم، وهبت ريح سرنا بها حتى أنعم الله سبحانه وظهر منار الإسكندرية فأعلم الناس بذلك، فضجوا سرورا بالدعاء والبكاء، وأعلنوا بالحمد والشكر لله تعالى والثناء، وكادوا أن يقضي عليهم ذلك الأمل ومن فرح النفس ما يقتل.

خفقت قلوبهم سرورا بعدما

باتوا بأفئدة يراع خوافق

فما رأيت قبلها بشارة أحلى في النفوس، أوقع في القلوب، ولا أعظم سرورا من سرور الخلق بها في تلك الساعة، وما ظنك بساعة أعلنت بالكرم والجود، وأعلمت بالخروج من العدم إلى الوجود، وفيها نطق لسان الشكر بما تيسير على الفكر فقلت:

بشراكم لاح المنار إلا سعد

ودنا على اليأس المرام إلا بعد

وتنفس الكرب الذي كنا به

في حالة البلوى نقوم ونقعد

وافتر من إسكندرية ثغرها

قد أخصب المرعى وطاب المورد

واستقبلوا النعم العظام بشكرها

فبشكرها أبدا لكم تتزيد

ما خاب قصدكم وطبية قصدكم

وشفيعكم خير الأنام محمد

فوصلنا وجفن الظلام قد انطلق على عين الشمس، ومضى اليوم مضي الأمس، ودخلنا المرسى بقرب المنار، في ليلة الجمعة الثالث عشر لجمادى الأخرى من عام سبعة وثلاثين المذكور، ولما بدأ من الفجر سفور، ونثر الصبح كافور، وركبت إلينا زوارق المدينة، وخرج الناس لمشاهدتنا في أحسن الزينة، نزلنا البر لا نلوي على جريج ولا نصبر ريثما يسكن البحر من ماء وريح، وأقبلنا الساحل قاصدين تائبين من ركوب البحر أبد الآبدين فلما وطيئنا الرمل وسلمنا على الأخوان احتضنا بالشرط والاهوان، وحملنا بأجمعنا إلى الديوان هناك شاهدنا الحساب وأرينا العذاب، وملئوا منا البيوت والرحاب ثم أمرت اليد على القليل الكثير، والحقير والنقير، والدفتر والقطمير، والرفيع الوضيع والغني والفقير، وفتشت الأوساط، وعم الزحام والاختلاط، وكثر الهياط والمياط، حتى خرج المخزون والموزن، وبرز المعكوم والمختوم، وعند الله تجمع الخصوم، فأخذ من كل عشرة دنانير ديناران ومن كل عشرة دراهم درهمان، ظلما وعدوانا وجورا وطغيانا فاستشعرت الأسف، ونسيت كل رزء سلف، وودت للنزر الحاضر لو كان مع الشيء الآخر ذهب وتلف وجعلت أنشد:

رمى بي البحر درا في بلادكم

لكنني لم أصادف فيكم صدفا

أصبحت بين أناس ضعت بينهم

كالزهر في كف مزكزم فوا أسفا

وبعد مرارة تلك المواقف المهينة، أعقبت حلاوة تلك المدينة:

فنسينا ما لقينا

وكأنا ما شقينا

وخلصت من حجر الأسى لمسرة

فتنت بها الأبصار والأسماع

وظفرت من زمني بحظ لم يزل

بيني وبين الدهر فيه نزاع

فانتظم الشمل بقصر الموضوع، بديع المجموع، يعجب بقطعه المتجاورات، وحدائق فيها من كل الثمرات ونخل كالكتائب قابلت الكتائب، والعذارى أرخين الذوائب، فيها قنوان من البسر وألوان تعدى على العسر، وتهدى إلى اليسر فلم أر مدينة أحسن منها وضعا ولا أبدع ربعا، ولا أسع مسالك ولا أعلى مباني ولا أسمى مراقى، ولا أجمل مراسم، ولا أوضح معالم، ولا أملح أزقة، ولا أعجب رونقا ورقة، ولا أحسن تفصيلا وجملة.

هي القصور البيض لا ما حدثوا

عن أرم وغيرها من البنا

تخطف الأبصار من لالائها

والليل قد ألقى القناع الادكنا

ص: 23

فكأن محاسن الدنيا فيها مفروشة، وصورة الجنة فيها منقوشة، كوكبها يقظان، وجوها عريان، وحصاها جوهر ونسيمها عطر، وترابها مسك أذفر، ويومها غداة، وليلها سحر، وكفاها ان ليلها كالنهار في تصرف العباد، وإعادة مسائها كصباحها، وهو غير المعتاد، وهل هي الاذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، ذكر المفسرون عن أبى ابن كعب في قوله تعالى أرم ذات العماد: إنها الإسكندرية، فهي من أعجب البلدان، وفيها بنيان عجيب، ذكر صاحب الجغرافيا أنها بنيت في ثلاثمائة سنة، وان أهلها مكثوا سبعين سنة ألا يمشون فيها بالنهار إلا معصبين الأعين بخرق سود، خوفا على أبصارهم من شدة بياضها، وعلى منارها سرطان من رخام، والمنار على أربعة أساطين، وطوله ثلاثمائة ذراع وحيطان المدينة وسورها من رخام، فيها قبة كانت لفرعون، وفيها قصر سليمان قد نهدم وبقيت أثاره، وبها أسطوانة تستدير الدهر كله، وكان في القديم على منارها مرآة كبيرة، صنعها الحكماء، يتطلع بها على القسطنطينية وبلاد الروم حتى احتيل في إنزالها، فلم يستطع أحد على صرفها بهذا انتهى، ومن عجيب صنعها أن بناءها تحت الأرض كبنائها فوقها، بل أعتق وأمتن، لان الماء من النيل يخترق جميع ديارها ويتخلل جميع أزقتها تحت الأرض، فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمد بعضها بعضا، وعاينت فيها من سوارى الرخام وألواحه كثرة وعلوا واسعا وحسنا ما لا يتخيل بالوهم، ولقد نلقي فيها سوارى يقصد الجو بها لا يدري معناها، ولا لما كان أصل وضعها، ويذكر انه كان عليها في الزمن القديم مبان الفلاسفة ولأهل الرياسة والله اعلم، ومن أعجبها وأعظمها عمود السوارى، له قاعدة مربعة هو عليها، عددت في أحد جوانبها نيفا على أحد عشر شبرا، وطالعت في بعض التآليف أنه أعظم عمود على وجه الأرض واقف على كنز من الكنوز، وان طوله تسع وأربعون ذارعا بالذراع الكبيرة التي فيها ذراعان، وانه لا يتزحزح عن موضعه ولو تساقطت عليه الجبال الشم، ومن عجائب الإسكندرية أيضا المنار، وهو بخارجها قد صعد كالبرج الأعظم في عنان السماء أساسه كله معقود بالرصاص، وبنيانه بالحجر المنجور الجافي يزاحم السماء سموا وارتفعا قد وضعه الله تعالى على يد من سخره لذلك آية للمتوسمين، وهداية للمسافرين يهتدون به في البحر إلى بر الإسكندرية، ويظهر على أزيد من سبعين ميلا، عرض أحد جوانبه الأربع ينيف على خمسين باعا، ويذكر أن في طوله أزيد من مائة وخمسين قامة، وألفيت في بعض التآليف المعتمدة ما نصه: وذكر من عبد الله بن عمرو ابن العاص أنه قال عجائب الدنيا أربعة مرآة منار الإسكندرية كان الناس يجلسون تحتها فيرون من القسنطينة وبينهما عرض البحر، وفرس من نحاس بأرض الأندلس باسط يديه مقابل بكفييه أي، ليس خلفي مسلك فلا مسلك فلا يطأ أحد تلك الأرض إلا ابتلعته النمل، ومنارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عاد، فإذا كانت الأشهر الرحم هطل منها الماء فشرب الناس واستقوا وصبوا في الحياض فان انقطعت الأشهر الحرم انقطع ذلك الماء إلى آخر، وشجرة من نحاس بأرض رومة عليها زرزور من نحاس سودانية فإذا كان أوان الزيتون صفرت تلك السودانية من النحاس فيعصر أهل رومة ما يكفيهم من الزيت لادمهم وسرجهم في كنائسهم إلى عام قابل، هذا الذي ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص خبر مشهور موجود في كتب الحكماء، والمرآة التي كانت بمنار الإسكندرية صح خبرها بالتواتر خاصة، وإنما عمل الروم في إفسادها خوفا منها، ولهذه المدينة من المدارس والمساجد ما لا يستوفيه وصف ذكر الهروى في بعض تآليفه أن مدينة الإسكندرية احتوت على أثني عشر ألف مسجد، وذكر أبو الربيع بن سالم الكلاعي في كتاب الاكتفاء له قال: كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فتح الإسكندرية، أما بعد فأني فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أني أصبت فيها أربعة آلاف منية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة حلة للملوك، وعن أبى قبيل، ان عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها أثنى عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر) انتهى (، إلى غير ذلك من المعاهد والمفاخر والمشاهد والمآثر، وفيها تربة بعض الأنبياء عليهم السلام، وتربة بعض التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، استوفيت زيارة جميعهم وتردد إلى مبارك بقيعهم، ثم عدت إلى لقاء العلماء والأخذ

ص: 24

عن الفضلاء فأول من لقيته بها من الأئمة وحاملي الآثار والسنة الشيخ الفقيه الإمام قاضي المالكية الأحق بالرتبة السامية السنية، وجيه الدين أبو زكرياء يحيى بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن الأمان بن خليفة بن أبى أرضين ابن تقين بن تامشت بن علي بن رجاء بن عبد المؤمن بن ذي حي الصنهاجي اليزيدي المالكي، هكذا أملى علينا نسبه ومولده في الثالث من شهر ربيع الأول سنة سبع وستين وستمائة إمام الفروع والأحكام، والعالم بالحلال والحرام، والمهتم بطلب العلم أعظم الاهتمام له رحلة قديمة وعي فيها الكثير ولقى الصدور الأكابر، وحج نحو العشر حجج وجاور سنين وشغل زمانه بالعلم فاستفاد وأفاد، فيه يقول صاحبنا ورفيقنا الكاتب البليغ الحافل الفاضل أبو إسحاق ابن الحاج وأنشده إياهما بمحضري:

أضحى وجيه الدين أسبق سابق

في العلم والعلياء والخلق النزيه

عجب الورى من سبقه وتعجبوا

فأجبتهم لا تنكروا سبق الوجيه

وهو رجل قد أجزل الله تعالى له الحظين: كمال الخلقة ووفور القوة، وسعة الدنيا، ومتانة الدين، سرى وسيم، مسكي النسيم، زكي المناسم في المبدأ والقسيم، طلق أسرة الوجه دمث جناب البر رقيق حاشية الطبع، حسن الأخلاق، وحسن الهيئة، جميل اللباس، سمح اللقاء مليح التأنيس، حلو المحاضرة، ذكي المعاني، نبيل المقاصد، سهل الحجاب، لين الجانب، يقظ، حاضر الذهن كأن خاطره جمرة تقد، سمعت عليه تآليف كثيرة بمنزله من الإسكندرية وأجازني الإجازة التامة المطلقة العامة وكتب لي بخطه. . . وجرت المحاضرة عنده فأجرى خيله، وجر الحديث على المذكرة ذيله فأخبرته ان في كتاب سحر الشعر. . . من لا يجد انفعالا عند سماع قول ابن عبد ربه القرطبي.

أشكو إليك قلا دعائي يسمع

يا من يضر بناظريه وينفع

للورد حين ليس يطلع دونه

وأراه عندك كل حين يطلع

من لي باحور ما يلين كلامه

خجلا وسيف جفونه ما يقلع

منع الكلام سوى إشارة لحظه

منها يخاطبني وعنها يسمع

فليتهم مزاجه وليبادر علاجه " وفي كتاب " الأشعار بهزات الأشعار " قول ابن عبد ربه ":

يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا

ورشا بتعذيب القلوب خليقا

ما ان رأيت ولا سمعت بمثله

درا يعود من الحياء عقيقا

وإذا نظرت إلى محاسن وجهه

أبصرت وجهك في سناه غريقا

يا من تقطع خصره من ورقة

ما بال قلبك لا يكون رقيقا

وفي كتاب " المطمح " ان أبا الوليد بن عتال لما انصرف من الحج اجتمع بأبي الطيب في مسجد عمرو بن العاص بمصر ففاوضه قليلا ثم قال له أنشدني لمليح الأندلس، يعني ابن عبد ربه فأنشده هذه الأبيات، فلما أكمل إنشادها استعادها ثم صفق بيده وقال: يا ابن عبد ربه لقد تأتيك العراق حبوا فتناقلتها عني بالألسن الأقلام، وكانت سببا لتأنيسى بأولئك الجلة الأعلام.

ص: 25

وممن لقيته بها من الأمجاد، والعلماء النقاد، الشيخ العدل شرف الدين أبو البركات محمد بن الشيخ الإمام العدل المرحوم فخر الدين أبو بكر محمد بن الشيخ الإمام العالم المصنف شهاب الدين أبى محمد عبد الكريم ابن عطاء الله الجذامى الإسكندري، له حسب صميم، وسلف في العلم قديم ومنهج على السنة قويم، وبيت له للعلم والدين تعظيم وتفخيم، فلله ما هنالك من خيم، ومنادى لا يدخله ترخيم، ومنتهى لا يعرف نحوه إلا منطق دلق ولفظ رخيم. فهو كريم النجار، كبير الكبار، خير الأخيار، طاهر اللذات، فاضل الذات، كامل الأدوات، كثير الآيات، عالي الروايات، عالم بالشرعيات، واقف على الطبيعيات، عف السريرة، حسن الصورة والسيرة، طريف المنازع، ذكي المبادئ والمقاطع، سهل العبارة نبيه التنبيه والإشارة، كأنه لطيمة مسك أو شهدة مشتارة. ذاكر الحديث والفروع، سالك على ألسن المشروع، عارف بعقد الشروط ناظم لتلك السموط، عاقد مجيد، باحث مفيد، إمام مفتي عالم مدرك عدل مبرز.

من معشر أوصافهم

كالمسك لذ لمن نشق

فحديث آخرهم زكا

وحديث أولهم عبق

لقيته بدكانه من الشهود بالإسكندرية، وجالسته كثيرا مغتنما لفوائد مجالسته، متنعما في حدائق مؤانسته، وسمعت عليه وأجازني إجازة تامة مطلقة عامة، وكتب لي بخطه.

وممن لقيته بها من العلماء المسندين والأولياء المهتدين: الشيخ العالم شرف الدين أبو العباس أحمد بن أبى الحسن علي) بن عبد العزيز ابن عبد الله الكتامى الشافعي، الشهير بابن المصفى أرضاه الله تعالى: شيخ المعارف والفضائل وإمام الأكابر، وصدر المجالس والمحافل، بدر الإشارة لسرى القوافل، له المناقب الثواقب والمواهب السواكب، والفوائد الفرائد، والمناهج المباهج وله بالعلم عناية، تكشف العماية، ونباهة تكشف النزاهة، دراية تعضد الرواية فكلامه تنثر طرفه وتتهادى تحفه فارق لين المهاد، ورافق العبادة والاجتهاد، وانعطفت قناته وهبت بحركاته سكناته، ذو خشبة لله ومراقبة له كثير الدعاء دائم الصبرة شديد التواضع عالم صالح فاضل.

محامد فاز في الدنيا بعاجلها

وفي القيامة أجر غير ممنون

لقيته بمنزلة من الإسكندرية، فسمعت عليه تصانيف جملة، وتلقيت منه فوائد جمة، وقرأت عليه بلفظي جميع كتاب الشهاب للقضاعي رحمه الله تعالى، وحدثني به عن شيخه سعد الدين عبد الرحمن بن حسن بن حمزة لجميعه من لفظه وسنده في برنامج روايتي وحدثني به أيضا عن الشيخ أبى البركات هبة الله بن زوير الأزدي الإسكندري إجازة ان لم يكن سماعا قال أخبرنا الشيخ أبو القاسم بن حمزة بن موقى السعدي الأنصاري سماما عليه من المدارك سماعا عن المؤلف سماعا، وسمعت عليه جزءا وافرا من كتاب موطأ الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وتناولته أجمع من يده المباركة، وله فيه علو زائد، وألبسني خرقة التصوف، وأخبرني انه لبسها عن الشيخ الإمام القدرة شمس الدين أبى عبد الله محمد بن موسى بن النعمان الهذلي بسنده فيها، وقرأت عليه بلفظي جميع الجزء المسمى تنبيه المذنب بالطير والحوت قبل ان يموت تأليف شمس الدين أبى عبد الله بن النعمان المذكور، وحدثني به عنه سماعا عليه، ومما انفرد بالعلو فيه سماعه غير مرة لجميع القصيدة الفقهية في الحجة والزورة المحمدية على ناظمها الشيخ الإمام الصالح مجد الدين أبى عبد الله محمد بن أبى بكر البغدادي الواعظ رحمه الله تعالى وأولها:

أيا عذبات البان من أيمن الحمى

رعى الله عيشا في حماك رعيناه

سرقناه من ريب الزمان وصرفه

ولما سرقنا العيش منه سرقناه

وجاءت جيوش البين يقدمها القضا

فبدد شملا بالحجاز نظمناه

وسماعه كذلك لجميع القصائد الوترية المضمنة مدح أشرف البرية لناظمها مجد الديد وأولها:

أصلي صلاة تملأ والسماء

على من له أعلى العلا متبوأ

أقيم مقاما لم يقم فيه مرسل

وأمست له حجب الجلال توطأ

إلى العرش والكرسي أحمد قد دنا

ونورهما من نوره يتلألأ

وقد قرأت جميع ذلك كله عليه بلفظي بمنزله المذكور، وقرأت وسمعت عليه ذلك وأجازني وكتب لي بخطه ومولده في شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة، وأنشدني في غير مرة، وقال: أنشدني الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبى بكر الواعظ المذكور لنفسه:

ص: 26

حضرت فكنت في بصري مقيما

وغبت فكنت في أقصى الفؤاد

وما شطت بنا دار ولكن

نقلت من السواد إلى السواد

وممن لقيته بها من أهل المجادة، والعلم والعبادة، الشيخ العالم، المسند سديد الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ العدل المرحوم عز الدين أبى القاسم عبد الرحمن بن الشيخ شهاب الدين أبى محمد عبد الوهاب بن الشيخ رضي الدين أبى عبد الله محمد بن الشيخ الإمام الأوحد مفتي المسلمين جمال الدين أبى الماضي عطية بن المسلم بن رجا بن منصور بن جامع بن الحسن بن علي التنوخي اللخمى الإسكندري المالكي، المشهور بابن عطية، أوحد من برع في العبادة والزهد، وفرع ذروة العلم والمجد فجمع الله له بين العلم والعمل، ومنحه من كل فضل بلوغ الغاية التي لا يقال معها لشيء كمل لو أن ذا كمل، ووهبه شرف الخلال لجميع خلال الشرف، وجعل سرفه في الخير حجة على من قال لا خير في السرف.

بيته أحد البيوت الرفيعة بالإسكندرية، وله بها مزية الرفعة المزية، عمر بالحسنات إناءه، وتتبع بالقربات آباءه بانيا كما بنوا، بل زائدا على ما أتوا، وبادئا من حيث انتهوا، فهو حبر الأكارم، وبحر المكارم، وتاج المفاخر، وحجة المفاخر، فقد رأى وشاهد، وحمد ذلك المجد المشاهد، ويا طالما لازمته فاجتليت شمسه العلية طالعة من شرقها، وأنوارها الجلية ساطعة في أفقها، ولكم أقمت بها خطيبا وأرجت من ثنائها طيبا:

فآنثنى والثناء بأرج من عطفيه

طيبا لم يرض بالند ندا

لقيته بمنزله من الإسكندرية، وسمعت منه حديث) الرحمة (المسلسل بشرطه، وحدثني فيه في غير هذا، وقد أخذت، حديث) الرحمة (هذا عن جماعة كبيرة من أهل الأندلس وغرب العدوة وغيرهم، وخرجت سندي فيه عنهم في مجموع كبير. سمعت عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجزاء كثيرة منها جزء فيه مجلس من أمالى الحافظ أبى القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي، وجزء فيه ثلاثة عشر حديثا مخرجه من كتاب للترمذي، وجميع ما تضمنته الأربعون الكبرى الصحابية، للحافظ أبى الحسن المقدسي من الأحاديث النبوية بأسانيدها والكلام عليها، وهي سبعة أجزاء يجمعها مجلد واحد، وجميع الأربعين حديثا على أربعين شيخا، في أربعين بابا، لأربعين صحابيا، وقد استوفيت جميع أسانيد ذلك كله في برنامج روايتي فذلك موضوعها. وأجازني إجازة تامة مطلقة عامة، وكتب لي بخطه، ومولده رضي الله عنه خمسين وستمائة.

ومنن لقيته بها من كبار المقرئين، وخيار عباد الله الصالحين، الشيخ المقري الصالح فخر الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى الحسين يحيى بن السيورى أبقى الله بركته فخر السنة والملة، وإمام الأئمة الجلة، ولي الله الكريم عليه، المنقطع إليه، المشفع بالقراءة والتلاوة بين يديه، مجد في الزهادة، متفرغ للعبادة متوكف ما وعد الله سبحانه للذين أحسنوا من الحسنى والزيادة، نشأ على عفة وصيانة، وأمانة وديانة، فعظم الله شأنه، ورفع بالعلم والعمل مكانته ومكانه، وأعلى منار الهداية ورزق الناس الانتفاع به في البداية والنهاية، فازدحموا على مورده والمورد العذب كثير الزحام، والتأموا بمعهده، وحيث الحب يزدحم الحمام، وأنشدوا لدى يديه:

لقد حسنت بك الأوقات حتى

كأنك في فم الزمن ابتسام

ص: 27

وللجمهور بالانسياح إليه والانسياب، لهج الغياب بالإياب، وطرب الشيب لذكر الشباب، أخذ القراءة عن جماعة جلة وسمع الحديث على رجال بأسانيد علية، حتى انتهى رتبة أوائلها، وانتهج طرق اعتنائها واعتلائها، وفضائله كالصبح جلا الأفاق، والنجم أعقب الإخفاق لقيته بموضوع إقرائه من الإسكندرية فسمعت عليه من الحديث كثيرا، وترددت إليه فانتفعت به انتفاعا كبيرا، ومما سمعت عليه جزأ فيه ستة أحاديث منتحبة من رباعيات الترمذي، وفيها حديث واحد ثلاثي تخريج السيد الشريف تاج الدين أبى الحسن علي بن أبى الحسن علي ابن أبى العباس أحمد القرافي الحسنى بسماعه له قراءة مخرجه المذكور على الشيخ شرف الدين أبى عبد الله محمد بن عبد الخالق بن طرخان القرشى الأمورى بسماعه بجميع كتاب الترمذي من أبى الحسن علي بن أبى المكرم نصر بن المبارك المعروف بابن البناء قال أخبرنا أبو الفتح عبد المالك بن أبى القاسم عبد الله بن أبى سهل بن أبى القاسم الكردوخى سماعا عليه، قال: أخبرنا المشائخ الثلاثة أبو عامر محمود بن أبى القاسم الأزدي وأبو بكر أحمد بن عبد الصمد الغوجي وأبو نصر عبد العزيز بن محمد الترياقى قالوا: أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن عبد الله بن أبى الجراح الجراحي قال: أخبرنا أبو عباس محمد ابن أحمد بن محبوب المحبوبى المروزي قال: أخبرنا أبو عيسى الترمذي، ومما قرأت عليه بلفظي جميع الجزء المسمى " بقضاء حوائج الأخوان وإغاثة اللهفان " تأليف الحافظ أبى الغنائم محمد بن علي بن ميمون النسري الكوفي، بحق سماعه على الشريف أبى الحسن علي بن أبى العباس أحمد القرافى المذكور، بسنده المرسوم على ظهر الجزء المذكور المنتسخ بخطى، المصحح على هذا الشيخ الفاضل جهدي، وإجازني إجازة تامة مطلقة عامة، وكتب لي بخطه، ومولده سنة ثلاث وخمسين وستمائة بمصر بالفسطاط وأشياخه جملة منهم: أبو عبد الله بن طرخان المذكور، ومنهم الإمام أبو عبد الله محمد بن الدهان، والشيخ المقرئ صالح مكين الدين عبد الله الأسمر بن منصور العمري، ومنهم الشيخ كمال الدين أبو الذكر بن عبد القادر الدحراوى، وغيرهم ممن يطول ذكرهم، رضي الله عن جميعهم، ونفع بحبهم والترحم عليهم. وممن لقيته من العلماء المتجرين والحفاظ المصنفين: الشيخ المصنف نور الدين أبو الحسن علي بن يونس بن عبد الله الهواري التونسي حل كتف العلم والعلاء، وجل قدره في الجلة الفضلاء، ولم يزل على كد الطلب أصبر من عود يجنيه جلب فقطع الليالي ساهرا، وقطف من العلم ازاهر، حتى ارتوى من المعارف سجله، وعرف مكانه من العلم وفضله، فأثمروا وأورق، وغرب وشرق، وجمع وفرق، وتوغل في فنون العلم واستغرق، طلع على الأبصار هلالا لأن الغرب مطلعه، وسما في النفوس موضعه وموقعه، وأدرك غاية المجد بقدمه، وأفصح عن سر فضله لسان قلمه، فجمع أشتات الفضائل، ورفع ألوية الفواضل واجتلى شمس العلى بتلك الآفاق، وشاهد في طلوعها من مشرقها ما لها من الإشراق، فلله دره بحرا لدرره الأسماع ملتقطة، وروضا بزهره الأجفان مغتبطة، فلا أزين من لقائه ولا أحسن من إلقائه، ولا أفضل من معاملته، ولا اجمل من مجاملته، ولا أحلى من محادثته، ولا أجلى من مناقشته، لقي الشيوخ الأكابر، وبقي حمده متعرفا من بطون الكتب والسنة الأقلام وأفواه المحابر كثيرا ما كنت أذكر بأوصافه، وأفكر في حمد يقوم بأوصافه ولم ادر أرد أم أرود، وافد بقلمي على مجالس جود أو مجال سجود، فأحشر إليه الألفاظ، وأقوم بها في مدحه أخطب من قس أياد بعكاظ لقيته بالإسكندرية فسمعت من لفظه جملة من تخميس أبى مهيب لعشرينيات أبى زيد الفزارى وتناولت جميع التخميس من يده، وحدثني به عن الأستاذ أبى العباس النيلى سماعا لجميعه عليه، حدثه به عن الناظم ابن مهيب المذكور وسمعت عليه تفقها بعض كتاب التنقيح للإمام شهاب الدين القرافى، وحدثني به عن المؤلف شهاب الدين المذكور عرضا مني لجميعه عليه وتفقها، وسمعت منه بعض شرحه لكتاب ابن الحاجب الأصلي وبعض شرحه للتنقيح وأجازهما لي، وأذن لي في روايتهما عنه، وأجازني سائر تئاليفه وجميع ما يعلمه ويرويه إجازة تامة مطلقة عامة وكتب بخطه، ومولده في ذي الحجة من عام ثمانية وستين وستمائة، وممن نفته بها من الرواة المتقين الله حق الثقاة الشيخ الفقيه العدل شمس الدين أبو عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة مفتي

ص: 28

المسلمين كمال الدين أبى عبد الله محمد بن محمد عبد الرحمن القرشي الإسكندري حامي المجيزيين، وحامل لواء العدول المبرزين، ومجدد ملابس الثناء الثمين، ومحرز عرائس الألفاظ لحفظ ذمم العالمين، ذخر الدهر، فخر القطر، وسر العدا، وآفة الجزر، ومالك بيض الطروس وسمر السطور، وبالبيض والسمر، وقار ما مثله وقار، ومآثر كأنها علم في رأسه نار، مفاخر طوالعها صبح ونهار، وشيم تتضاءل لها قطع الرياض، وتحدث ولا حرج عن بحر الكرم الفياض، وسجايا عريقة المجد، ما جدة الأعراق، خليقة بالمجد حميدة الأخلاق، قد سقته العلوم زلالها، ومدت عليه العدالة ظلالها، وأحلته الجلالة جلالها، وأرشفته الأصالة عذبها وسلسالها فعلا قدرا ولاح في سماء السناء بدرا، وصار لأولئك الصدور صدرا، وحق لمن أعلقت بهذا الشرف حبالته ان توارى أنوار الغزالة ذبالته:

شرف يطل على السماك وسؤد

كالصبح لا يسع العدا إنكاره

لقيته بالإسكندرية بحانوت الوثيقة، وحيث تأثلت معارفه تأثل الروضة الأنيقة، فسمعت عليه أجزاء كثيرة وكبيرة، ومنها جزء انتقى من الأخبار لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري وسنده فيه مقيد في أوله ومن أصله نقلته، وعليه صححته، وقد قرأته على غيره وسمعته، وأذن لي هو في روايته وأجازني جميع ما يحمله ويرويه إجازة تامة مطلقة عامة، وكتب لي بخطه، ومولده أول ساعة يوم الأربعاء ثاني جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وستمائة، وأنشدني لأمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه:

إنما للناس منا

حسن خلق ومزاح

ولنا ما كان فينا

من فساد وصلاح

وممن تدمجت معه وتمتعت به فيها صاحبنا الشيخ الفقيه المحدث تقي الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر بن عوام الربعي الشافعي، سبط الشيخ الولي الشهير أبى الحسن الشاذلي نفع الله تعالى به، هو من كبار الطلبة الفضلاء، وخيار السادة الفقهاء، وسليل الكرام والأكابر والأولياء صالح أراك سيرة سلفه، وأعفاك من كبره وصلفه، واقتفى سنن مجده، واقتدى في حمل الفضائل بأبيه وجده، إمام مدرسا وعدلا مبرزا، ذاكرا للعرب وأنسابها، حافظا لغاتها وآدابها، جذب من العربية أوفر نصيب، وضرب في الحديث والفروع بسهم مصيب، وشارك في جمل فضائل وجمل مسائل، وحصل من كرم الطبع وطبع الكرم على طائل، مع إفادته طلبته في تدريسه، ونصيحته لمستفيده وجليسه، فلا فضيلة إلا وفضل بحملها وحمل فضلها، وكان أحق بها وأهلها، وأخاني وصافاني فتجاذبنا المذاكرة، وتعاهدنا المراوحة للشيوخ والمباكرة، وأفاد كل واحد منا صاحبه بما تجلبه المذاكرة من وجه الإفادات وتفضل من المشاركة المباركة وبذل الجد والمياسرة في لقاء أولئك الأفاضل، والأخذ عنهم بما أوجب على ذكره معهم وإلحاقه بهم وإضافته إلى جملتهم:

حفظا على السؤدد الممنوع جانبه

من أن يضام وإشفاقا على الكرم

وسمعت عليهم بقراءته كثيرا، وتحصل لي منهم بدلالته حفظا كبيرا، وأجازني الإجازة التامة وكتب لي بخطه وأنشدني أناشيد كثيرة تقيدت في غير هذا، ومن ذلك ما أنشدني، وقال: أنشدنا شيخنا بخطه: أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن حيان بلفظه، قال: أنشدنا الفقيه الإمام الأديب البارع، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن ختام الدين دانيال بن يوسف بن معتوق الخزاعي الموصلي لنفسه:

ألا أن أرض الغرب أفضل موطن

تساق إليه الواخذات النجائب

ص: 29

ولو لم يكن في الغرب كل فضيلة

لما حركت شوقا إليه الكواكب

وأنشدني وقال: أنشدنا شيخنا السيد الشريف عز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نور الدين، أبو العباس أحمد بن عبد المحسن القرافى الحسنى قال: أنشدنا المحدث: أبو إسحاق عبد الرحمن بن مكي بن حمزة بن موقى الإسكندري الحافظ إجازة قال: أنشدنا الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي بن حمزة بن موقى السعدي الأنصاري من لفظه قال: أنشدني الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي إجازة. قال: أنشدني الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن المظفر ابن عبد الرحمن السلمي النحوي المعروف بالكمال لنفسه:

أسهرتني شجنا عليك

ونمت عن شجني ووجدي

وجعلتني متقسما

ما بين أعراض وصد

لا تقتلني هجرة

فيكون قتلى قتل عمد

واصل فان لام العذول

فقل له واصلت عبدي

وأنشدني قال: أنشدنا شيخنا عز الدين المذكور قال: أنشدنا الشيخ بهاء الدين أبو الحسن علي بن أبى الفضائل هبة الله بن سلامة ابن مسلم الشافعي اللخمي سبط الشيخ أبى الفوارس الحميدى قال: أنشدني الشريف الكوفي في قدمته علينا بمصر قال: حضرت درس الشيخ محيي الدين محمد بن يحيى قال: فلما قضى درسه قام رجل غريب ليس من الفقهاء فأنشده بيتين وهما:

رفاه الدين والإسلام تحيى

بمحيي الدين مولانا بن يحيى

كان الله رب العرش يلقى

عليه حين يلقى الدرس وحيا

قال فنزع قميصه الأعلى وأعطاه إياه وأنشدني قال: أنشدني عز الدين المذكور قال: أنشدني الشيخ بهاء الدين أبو الحسن علي المذكور قال: أنشدنا الشيخ بهاء الدين الطوسي قال: أنشدنا شيخنا محيي الدين محمد بن يحيى لنفسه:

وقالوا يصير الشعر في الماء حية

إذا الشمس لاقته فما خلته صدقا

فلما التقى صدغاه في ماء وجهه

وقد لسعا قلبي تيقنته حقا

ثم قال لي، أنشدني من شعر الأندلسيين ما آخذه عنك واستفيده منك فأنشدته لابن بكر بن مجبر:

دع العين تجني الحب من موقع النظر

وتغرس ورد الحسن في روضة الخفر

أمتعها فيه فان تك لوعة

صبرت وما ذم العواقب من صبر

فتور العيون النجل يطلب بالهوى

وان غفل التفتير لم يغفل الحور

وزائرة والليل مرخ رواقه

ومن أين للظلماء أن تكتم القمر

حدرت قناع الصون عن صفح خدها

فيا حسن ما انشق الكمام عن الزهر

وراودتها عن لتمه فتمنعت

وما عادة الأغصان ان تمنع الثمر

رشأ كلما أدمت جفوني خده

أشار إلى قلبي بعينيه فانتصر

يطالبني قلبي بتقبيل ثغره

لقد غاص في بحر الجمال على الدرر

وأنشدني لأبى الحسين علي بن سعيد:

ما بين ملتف الأراك غزال

تجري بجنة خده الجريال

رشا كلما أدمت جفوني خذه

ويميل قلبي قده الميال

يملي علينا السحر من ألحاظه

ويسيل في ألفاظه السلسال

قولوا له يا راحما عشاقه

ما هاجني إلا لها البلبال

ولحاظه رسل إلى عشاقه

أو ليس يعلم أنهن نبال

وأنشدني لأبى محمد عبد الجليل بن وهبون:

ومهفهف بادي العذار كأنما

عقد الغرام به على كتابا

لما استراب بما رأى من خضرة

في خده جعل الصدود نقابا

ملك إذا كلمته بضراعة

صرف اللحاظ على الكلام جوابا

وإذا نظرت إلى محاسن وجهه

ألفيت فيها رحمة وعذابا

ما كان أصبرني لسيف لحاظه

لو أنه يسقى الجريح رضابا

وأنشدته لأبى الحسن بن الزقاق:

وأغيد طاف بالكؤس ضحى

وحثها والصباح قد وضحا

والروض أهدى لنا شقائقه

وآسه العنبرى قد نفحا

قلنا وأين الاقاح قال لنا

أودعته ثغر من سقى القدحا

فظل ساقي المدام يجحد ما

قال فلما تبسم افتضحا

وأنشدته لأبى الحسن بن حريق:

كلمته فاحمر من خجل

حتى اكتسى بالعسجد الورق

وسألته تقبيل راحته

فأبى وقال أخاف تحترق

حتى زفيري عاق عن أملي

ان الشقي بريقه شرق

وأنشدته لأبى إسحاق إبراهيم بن سهل الاشبيلي الإسلامي:

يا لائمي ان مت فيه أتئد

أو ما إلى أجفانه تحتكم

ص: 30

غرقت في بحر هواه وذا

ك الردف منه موجه الملتطم

وأنشدته من نظمي بديها:

شكوت هواه إلى ردفه

وهل يسمع الموج شكوى الغريق

وآرخصت لؤلؤ دمعي به

ولم ادر كيف يباع العقيق

فقال لي الآن حصص الحق، وها أنا أعترف للأندلسيين بالسبق، فقلت له ليس المشارقة لاعترافك بمنكرين ولتجدن أكثرهم شاكرين.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء أول يوم من رجب الفرد المبارك من عام سبعة وثلاثين المذكور اجتمعت به مع أخي أبي بكر محمد وكان خروجه من بلدنا قتورية المذكور أولا في ضحوة يوم السبت أول صفر خمسة وثلاثين وسبعمائة فلما قضى الله تعالى حاجته وحجته، وبلغه منها مراده وبغيته، كر راجعا إلى بلاد الصعيد والديار المصرية فقيض الله سبحانه من أوقع خبري عليه، وألقى جملته إليه، فما راعني إلا دخول البشير على بقدومه، واجتلاء غرته مع تسليمه، فتلاقينا بالتحية وتلافينا وبكينا حتى أبكيناه ووالينا بحمد الله تعالى وأتنينا وكم لله من نعمة علينا، وأنشدته على البديهة بيتي منصور الفقيه وهما:

على خير أوقات الزمان آيات

على الطائر الميمون والبركات

قدمت فقرت بالقدوم عيوننا

وقد كن أيام النوى قرحات

ولم نزل نسرح في روض من ذلك الاجتماع، ونشرح ما وجدناه من البعد والانقطاع، إلى أن تهيأ نفرنا، وتأتي في البر سفرنا، فخرجنا من الإسكندرية في يوم الثلاثاء ثامن يوم من رجب المذكور، وسرنا في بسيط من الأرض عريض مرداه لا يخترقه النسيم بمسراه، ويكاد البصر يقف عند مداه، بين مدائن عليها نضره النعيم وبساتين اعتمارها من التعميم، وسرحات مونقة، ودوحات مورقة، ونخلات طلع، وخامات زرع، تموج بدائعها موج البحر، وتلوح طلائعها بين كتائب الزهر من لم ير أرض مصر في أوان ربيعها، وأبان زروعها، لم ير منظرا نضيرا إلى أن وصلنا إلى مدينة) القاهرة (فدخلناها في آخر يوم الأحد الثالث عشر لرجب من العام المذكور فنزلنا منها بقرب الجامع الأعظم المشهور بجامع ابن طولون الذي بناه ابن طولون فيما يذكر على مثال المسجد الحرام بمكة المشرفة طولا وعرضا، ولما أنبت كافور الفجر من المسك الغياهب، وظهرت الشمس المنيرة على النجم الثواقب:

حمدت السرى إذ أنزلتني ربوعها

وأيقنت أني في اغترابي موفق

وسرنا في أقطار تلك الحضرة التي أرضها سندسية اللباس، وروضها متنوع الجناس، وروائحها عنبرية الأنفاس، ومنظرها يجلب أنواع الإيناس، فهي بغية النفس، وغاية الأنس، ومنية الطرف، ومسرح الظرف وسلوة الفكر، ونبعة العلم والذكر، وشغل الخاطر والذهن، ومحل الهناء والأمن:

ما عداها من جنة الخلد إلا

أننا لا ننال فيها الخلودا

رياضها تشرق، وأطيارها تنطق، وكأن بكل عود عودا يخفق:

وما كنت أدري قبل ذلك والهوى

فنون، بأن الروض يهوى ويعشق

ص: 31

وفتحت لي راحة القلب أبواب النزهة، فأطلقت عنان طرف الطرف نحو الجهة فرأيت فيها من المباني الهائلة والأسواق الحفلة والمساجد العتيقة والمدارس الأنيقة والمرابع البارعة والمصانع الناصعة والأزهار والأشجار الباهرة والآثار العامرة والجنود الوافرة والأمم المتكاثرة ما تحار في ذلك الأوهام وتكل دون وصفه الألسن والأقلام، القاهرة وما أدراك ما القاهرة الظلال الوارفة والمياه الهامرة والأرض الأريضة والروضات العاطرة منابر قام السرور في منبر دوحها خطيبا، ومشاهد بذت مغاني الشعب طيبا، إلى أغصان عقدت الجداول خلاخل بسوقها، ولئالئ مثلت من الرياض بسوقها، فمن حيث استقبلت تلك المدينة أشرقت وكيفما لمحت أساريرها برقت ومعلوم أنها قاعدة المشرق وأم المدائن ومقر الملوك ودار الطمأنينة، قد كمل الله حضرتها، وجمل نضرتها بأن قلد بها أمور المسلمين، وخلد فيها العزو والتمكين للسلطان الناصر الدنيا والدين أبى المعالي محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي قسيم الملك أمير المؤمنين أبى الربيع سليمان بن الخلفاء العباسيين فاستمرت سلطنته الآن مدة من خمسين سنة فجاءت الدنيا في أيامه غضة، وزهرة الأيام بهجة، لما منح الله على يديه من الأمن والسكون والدعة وظلال المسرة والهدنة فانسحب ذيل العز، وأنضرب رواق الأمن، وانسدل ستر العافية على الملأ والكافة والأقطار النازحة والغريبة وخصوصا على هذه المدينة وما ظنك بمدينة عذب فيها البحر وفاض عليها من الجنة واستقبل بها النهي والأمر وانحشر الناس إليها فخيل لرائيها الحشر:

وافي إليها النيل من بعد غاية

كما زار مشغوف يروم وصالا

وعانقها من فرط شوق بحسنها

فمد يمينا نحوها وشمالا

ركبت بحر نيلها العذب في جملة وافرة من الصحب أخلاقهم أعذب من مائه وشمائلهم أرق من صفائه، فاستوينا على جارية من تلك الجواري المنشئات وسابحة فوق لجة الماء العذب الفرات وتحسبها جامدة وهي تمرمر السحاب وتنساب في الحباب كالحباب ولما ضمت إلينا، ودخلناها وقلنا اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ولا فرش غير ريحان منضد، ولا سقف غير كتان ممدد، تمخر البحر، فامتطينا بأجوقتها مطاه، وتذلل فصفعنا بأجنحتها قفاه وسرنا في منزهات تلك الأقطار الرفيعة إلى أن قضينا أجمل الاوطار وتمتعنا من تلك المنازل الرفيعة بالحدائق الغضة والنسيم المعطار، بحيث تضاحك الورد والبهار، وتفاوح الروض والعرار، وأرضها مخضر نبت صاغ النور تاجه، وحاك القطر ديباجه، وسماؤنا ملتف أيك سال الماء لجينا بين أكنافه، وحاك الزهر وشيا بين أعطافه، فماء الندى مسكوب، ورواق الظل مضروب، والريح تصفق والغصن يتثنى، والقبر يصرصر والبلبل يتغنى، والطير قد تكلم، والعود قد ترنم وقد خيم السرور، وتضاعف بتضاعف النيل الحبور، وبدا لنا يوم حسن، وحسن يوم تمنت حسنه البدور.

يوم لنا والنيل مختصر

ولكل يوم مسرة قصر

والسفن تغدو في الفرات بنا

والماء مرتفع ومنحدر

فكأنما أمواجه عكن

وكأنما دارته سرر

ص: 32

أخبرني هناك من أثقه من العلماء، قال أخبرني أحد كتاب السلطان أنهم كتبوا وأحصوا المراكب الجارية في هذا النيل المعدة لا يساق الزرع خاصة، فألفوها تنيف على مائة ألف مركب ماعدا الزواريق الصغار التي للصيد والركوب، وغير ذلك فكأنها أكثر من أن تحصى واخبرني الشيخ الإمام القدوة شمس الدين الكركي قال عد الصاحب الوزير الملك الطاهر وأحصى الجمال الداخلة إلى القاهرة بالماء في كل يوم فبلغت مائتي ألف جمل ما عدا البغال والحمير والسقائين الذين بالزقزق وغيرهم فان ذلك شيء لا ينضبط ولا ينحصر وهذه الجمال المذكورة تحط بالمدينة في كل يوم من أيام الصيف سبع آلاف وفي الشتاء أقل من ذلك، قال وأحصى دكاكين السقائين المعدة للسقي بالقاهرة فبلغت ستين ألف دكان ما عدا السقائين الذين بالأكواز والأكواب في الطريق والأسواق وغيرها، ولو لم يكن للقاهرة ما تذكر به إلا) المارستان (وحده وهو قصر عظيم من القصور الرائقة حسنا وجمالا واتساعا ما لم يعهد مثله بقطر من الأقطار أحسن بناء ولا أبدع إنشاء ولا اكمل انتهاء في الحسن والجمال وانتماء من قد نعمت أدواحه وخبت على خضر الأغصان وزرق العدران أرواحه فلا غرو أن أمن ورقى، ثم لما كسا وأطعم سقى، آية نعمى وفت بالميعاد، وحسنا مثلها يعد للمعاد قد رويت جوانحه الصادية، وجمعت في شرعته السارية والغادية، فها هو فخره بادي الغرر والأوضاح، منبجس بالماء القراح.

متماثل بالحسن كيف لحظته

ما شئت من أرض به وسماء

ينساب رونقه فتحسب أنه

متسربل بنسيجه من ماء

لما رأى فيض الزلال أديمه

طلب الغئور به من استيحاء

فأراك دمعة ضاحك لم تنحدر

وتحيرت في مقلة حواء

أو ثغر باسمة تهلل ظلمه

وبه مجاجة ريقة شنباء

ليس الذي يجري هنالك سلسلا

لكن ذلك ترقرق الأهواء

أخبرني الشيخ العالم المؤرخ شمس الدين الكركي المذكور أنه يكمل في كل يوم من المرضى الداخلين إليه والناقهين الخارجين منه أربعة آلاف نفس وتارات يزيدون وينقصون ولا يخرج منه كل من يبرأ فيه من مرض حتى يعطي إحسانا إليه، وإنعاما إليه كسوة للباسه ودراهم لنفقاته، وأما ما يعالج به المرضى من قناطير الأشربة المقنطرة والأكحال الرفيعة الطيبة التي تسحق فيها دنانير الذهب والإبريز وفصوص الياقوت النفيس وأنواع اللؤلؤ الثمين فشيء يهول السماع ويعم ذلك الجمع إلى ما يضاف إلى ذلك كله من لحوم الطيور والأغنام على اختلافها وتباين أصنافها مع ما يحتاج إليه كل واحد ممن يوافيه ويحل فيه لفرشه وعرشه من غطاء ووطاء ومشموم ومذرور وشبه ذلك مما هو معد على أكمله هنالك وما ليس مثله إلا في منزل أمير أو خليفة، وقد رتب على ذلك كله من الأطباء الماهرين والشهود المبرزين، والنظام العارفين، والخدام المتصرفين، كل ما هو في معالجته موثوق بعدالته مسلم له في معرفته غير مقصر في تصرفه وخدمته، ولو استقصيت الكلام في هذا المارستان وحده لكان مجلدا مستقلا بنفسه إذ في مبانيه الرائعة وصناعاته وتواريخه المذهبة ونقوشه العجيبة المنتخبة التي ترفل في ملابس الإعجاب، وتسحر العقول والألباب، ما يفتن النفوس ويكسف أنواع البدور والشموس، وتعجز عن وصف بعضها خطى الأقلام في ساحة الطروس، فما وقعت عين على مثله ولا سمعت بشبهه وشكله:

تجاوز حد الوهم واللحظ والمنى

وأعشى الحجا لالاؤه المتضاوئ

فتنعكس الأفكار وهو خواسر

وتنقلب الأبصار وهي خواسئ

وفي مصر مارستان آخر على مثاله ولكن ليست حاله كحاله فما كل صهباء خمرة، ولا كل سوداء ثمرة، ولا كل حيوان إنسان، ولا كل مارستان:

وما كل دار أقفرت دارة الحما

ولا كل بيضاء الترائب زينت

ص: 33

وبها الأهرام القديمة المعجزة البناء الغريبة المنظر البديعة الإنشاء كأنها القباب المضروبة قامت في جو السماء، ولا سيما الاثنان منها يقصر الجو بهما سموا واتساعا ارتفاعها مائة ذراع بالذراع الكبيرة من أحد أركانها إلى الركن الثاني ثلاثمائة خطوة وست وستون خطوة وأقيمت من الصخر العظام تركيبها بديع الإلصاق، وهي محدودة الأطراف لا سبيل إلى الصعود إليها إلا على خطر ومشقة فتلقى أطرافها المحدودة كأوسع ما يكون بين الرحاب لو رام أهل الأرض بناءها لا عجزهم ذلك وبها كان يجعل الطعام في أيام يوسف عليه السلام، وعلى النيل رجل مبني من صخرة فيه علامات لخروج النيل في زيادته ونقصانه وقد وكل به قوم يتعاهدونه فإذا خرج سقى جميع ضياعهم ومزارعهم وهم يزرعون على ذلك السقي ولا يحتاج زرعهم إلى سقي آخر بقدرة السميع العليم، ومخرج النيل من جبل القمر ولا يكاد يتوصل إليه أحد لبعد المشقة وطول المسافة وفي كتاب الاكتفاء ما نصه، وكان عمرو بن العاص يقول ولآية مصر جامعة تعدل الخلافة وقال نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها وفجر له الأرض عيونا فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله سبحانه أوحى كل ماء ان يرجع إلى عنصره انتهى، ثم جلنا من مصر في أعظم المصر، وحللنا منها اكرم المحل واسنى القطر، واجتليناها أوضح من البدر عند الفجر وأعطر من الزهر غب القطر فنسي كل ذي غربة وطنه وود ان لو قطع فيها عمره وزمنه وكفاك منها قول القائل:

لعمرك ما مصر بمصر وإنما

هي الجنة الدنيا لمن يتبصر

فأولادها الولدان والحور عينها

وروضتها الفردوس والنيل كوثر

ص: 34

كنت أتردد بها إلى المسجد العتيق الحافل الذي بناه عمرو بن العاص رضي الله عنه وإليه ينسب اليوم فأرى جامعا منيرا ومسجدا كبيرا له صحن فسيح وسوار حافلة ومقاصر من العود عجيبة وتواريخ مكتوبة بالخط الحافل المذهب كثيرة فمنها ما كان مكتوبا على المحراب ونصه بسم الله الرحمن الرحيم إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر النصر والتمكين والفتح المبين لمولانا وسيدنا الإمام المستضيء بأمر الله أبى محمد الحسن أمير المؤمنين أمر بتجديده الملك الزاهد الناصر المجاهد صلاح الدنيا والدين أبو المظفر يوسف وفقه الله تعالى لطاعته في سنة ثمان وخمسمائة، وفي داخل القاهرة شاهدت المشهد العظيم حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو تابوت فضة قد بني عليه بنيان محتفل يقصر الوصف ويقف الطرف فيه ولا يحيط الإدراك به مجلد بأنواع الديباج محفوف بأمثال السواري الكبار من الشمع الأبيض موضوعة في قواعد فضة خالصة، ومنها مذهبة وقد علق عليه قناديل الفضة وصفف أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهبا في مصنع شبيه الروضة يقيد الأبصار حسنا وجمالا، فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع ما لا يتخيله المتخيلون ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون، والمدخل إلى هذه الروضة المباركة على مسجد مثلها في الحسن والغرابة والترصيع البديع والأمثال البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع والناس من لازدحام على هذا المشهد الكريم والإحداق به والانكباب عليه والتبرك به والتضرع لديه كل مرئ هائل عظيم والأمر فيه كبير يفوت التقدير ولكنا اختصرنا القليل من الكثير، ووقفنا موقف العجز والتقصير،) وبداخل القاهرة (أيضا شاهدت المشهد العظيم مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها فرأيت مسجدا عظيم الاحتفال قائما في الحسن فيه من الذهب وأنواع الصنعة به يحصره العد ولا يجمع إلا ذلك النضد ينتهي إليه الداخل بعد ثلاثة أبواب هائلة بديعة بين كل وباب فضاء واتساع يجري بينها مياه غزيرة عذبة وفي قبلة المسجد باب من المسجد حافل فوقه مكتوب بالذهب هذا مشهد السيدة نفيسة بنت الحسين بن زيد بن الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم، وفي داخله مسجد آخر أصغر منه جرما وأتم حسنا وأعظم إتقانا وصنعة، وفي قبلته باب بديع إلى قبة عجيبة تتوقد ذهبا وتلألأ جمالا تكل الإفهام، وتحار الأوهام في تخييلها وتمثيلها. فمنها مشتبهات في النقوش، ومؤتلفات ومختلفات في الرقوش، وقد أنارت بالمضاوي أبهاؤها فتساوي صباحها ومساؤها، وتحت هذه القبة الضريح المبارك حوله من الرخام البديع المجزع الغريب الترصيع وشبابيك العود البديعة التخريم وكواكب الفضة والذهب وقناديل التبر الخالص الإبريز واستار الديباج الغريبة التطريز وسواري الشمع الأبيض المتناهية الغلظ الرائعة الصنعة على قواعد الذهب والفضة، ما يستوقف الأحداق حسنا وجمالا ويختبل الأذهان الثاقبة اختبالا وتزف ظلاله على المشهد الكريم أموالا وشاهدت) بداخل القاهرة (أيضا المسجد المعظم حيث مشد السيدة زينب رضي الله عنها وهو على هيئة هذا المتقدم الذكر ونوعه وعلى بابه مكتوب هذا مشهد السيدة زينب أبنة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ودخلت بخارج القاهرة المشهد العظيم المقدس حيث تربة زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وهو مثل ما تقدم من الصفة والترتيب ولهذا في جملة أبوابه دفة من الحجر الصلد المنحوت لوحا واحدا أعددت في طولها تسعة أشبار وفي عرضها خمسة أشبار، ثم قصدت القرافة وهي ما بين مصر والقاهرة بلدة كبيرة منفردة بنفسها مستقلة بأسواقها ومساجدها وهي إحدى العجائب بما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم وأهل البيت رضوان الله عليهم والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة نفعنا الله تعالى بحبهم وأفاض علينا من بركاتهم بمنه، ومما رأيت فيها قبر أبى النبي صالح عليه السلام وقبر يعقوب أخي يوسف عليهم السلام وقبر آسية وقبر جماعة من أهل البيت رضي الله عنهم على كل واحد منها بناء حفيل بديع الإتقان عجيب البنيان عليها تواريخهم مكتوبة بأسمائهم منها قبر علي السجاد زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللهم عنهم وقبر القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن

ص: 35

زين العابدين المذكور وقبر أبنه عبد الله القاسم رضي الله عنهما وقبر معاد بن جبل رضي الله عنه وقبر عقبة بن عامر الجهنى حامل راية النبي صلى الله عليه وسلم. وقبر أبى الحسن صانع مولى حديفة بن اليماني رضي الله عنه وقبر عبد الله بن حذافة السهمى رضي الله عنه وقبر حليمة التي كانت رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر محمد بن أبى الصديق رضي الله عنهما وقبر أشهب وأبى القاسم صاحبي مالك رضي الله عنهما وعنه وقبر محمد بن مسعود بن محمد بن هارون الرشيد المعروف بالسبتي رضي الله عنه وقبر الرجل الصالح المعروف بالأقطع المغربي رضي الله عنه، وقبر بنان العابد رضي الله عنه وقبر القاضي عبد الوهاب والقاضي الأنباري وقبر ورش المقري وقبر شيبان الراعي وقبر الطبري وقبر الرودبادي وقبر ذي النوى بن إبراهيم المصري وقبر شيخه شقران رضي الله عنهم وقبر الرجل الصالح الزاهد المعروف بصاحب الإبريق وقصته عجيبة في الكرامة رضي الله عنه، وقبر الناطق الذي سمع عند وضعه يقول في لحده يقول: اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، رضي الله عنه وقبر الصامت الذي يحكى عنه أنه لم يتكلم أربعين سنة رضي الله عنه وقبر الجوهري الواعظ رضي الله عنه وقبور أصحابه بازائه رضي الله عنهم، وقبر أصبغ بن الفرج رضي الله عنه وقبر المزني صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنهما، وقبر عبد الله بن الحكم وابنه محمد رضي الله عنهما، وقبور جلة لا يحصى عددهم إلا الله تعالى، وبقبلي القرافة المذكورة بسيط متسع يعرف بقبور الشهداء وهم الذين استشهدوا مع سارية رضي الله عنهم أجمعين.

وقفنا على رسم الديار فسلمنا

وقلنا له يا رسم أين نأوا عنا

وجدنا بدمع كالرذاذ على الثرى

فصم المنادى وانصرفنا كما كنا

وما ذلك إلا أن ربع ديارهم

به كالذي نلقى فقد زادنا حزنا

فلما يئسنا من جواب ديارهم

نزلنا فقبلنا الثرى قبل أن رحنا

ص: 36

ومما شهدت من المواضع المعظمة مشهد الإمام أبو عبد الله الشافعي رضي الله عنه وهو مسجد عظيم القدر ومتناهى الاحتفال، مفرط الاتساع، يصل داخله إليه بعد دخول أربعة أبواب هائلة حافلة بين كل باب وباب فضاء واسع، ومدى بعيد، والمسجد كله قبة كبيرة فائقة الحسن، فائقة الصنعة، نادرة الاختراع فيها من الذهب الخالص والتبر المسبوك ما يغشى الأبصار ويذهل الألباب ويفوت وصف الواصفين قد حار فيها أهل حران وأربت على مباني سجستان ونجران، وصارت غاية السمو والإتقان وانعطفت بما يفضل معاطف التيجان الفائتة باقترانها لاقتران حواجب القيان، وتحتها في وسط المسجد المبارك الضريح المكرم له من الرخام المجزع، الموضع والشبابيك المفضضة المذهبة الأستار، المدبجة المطرزة، والشمع الأبيض أمثال السواري العظام على قواعد الذهب والفضة ما يقصر عنه الوصف، ويحار فيه العقل، وبازائه قبور جله كرام، وعند رأس المشهد المكرم سارية من الرخام الأبيض منقوش بالخط الحسن ما نصه وان ليس للإنسان إلا ما سعى، وان سعيه سوف يرى، ثم يجزيه الجزاء الأوفى هذا قبر السيد الإمام أبى عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد زيد بن هشام بن المطلب ابن عبد المناف جد النبي صلى الله عليه وسلم ولد رضي الله عنه سنة خمسين ومائة وعاش إلى سنة أربع ومائتين ومات يوم الجمعة آخر يوم رجب من السنة المذكورة ودفن من يومه بعد العصر رضي الله عنه وأرضاه آمين وعند منتهى القبلة من داخلها مكتوب في الدائرة بالخط العجيب والذهب الرائق ما نصه بسم الله الرحمن الرحيم:

الشافعي أمام الناس كلهم

في العلم والحلم والعلياء والبأس

أصحابه خير أصحاب ومذهبه

خير المذاهب عند الله والناس

له الإمامة في الدنيا مسلمة

كما الخلافة في أولاد عباس

والسلام، ومما كتب في القبة المذكورة من نظم شرف الدين ابن عبد الله الدلاصي البوصيري:

بقبر الإمام الشافعي سفينة

رست من بناء محكم فوق جلمود

وقد غاض طوفان العلوم بقبره

فقل استوي فلك الضريح على الجودي

ومما أنشدني هناك بعض الفضلاء لبعضهم رضي الله عنهم أجمعين:

زرت الإمام الشافعي ولم أكن

يوما زيارة قبره بالتارك

ووجدت مولاي الحبيب يزوره

وظفرن عند الشافعي بمالك

وبازاء هذا المسجد العظيم مدرسة مختلفة الصنعة سامية المنية أعظم المدارس اتساعا وأعلاها سموا وارتفاعا فيها من المنازل الرفيعة والرواتب الموقفة، والمياه الجارية، ما يقر بالعين ويملأ اليد بالمين ويريك ذوائب الذهب في سبابيك اللجين، قرأت بها وبالمسجد الأعظم المذكور وسمعت من كتب الحديث النبوي تآليف جملة على إمام ذلك المقام الشافعي المعظم ولي الله تعالى الكريم عليه المتوجه إليه الشيخ العالم الصالح تقي الدين أبى التقى صالح بن مختار بن صالح بن أبى الوارس الأسندي رضي الله عنه هو من أحد المتقين وعباد الله المخلصين قد سما بجلالة قدره ونبذ الدنيا وراء ظهره، ووضع الله له البركة في عمله وعمره، فظل يقطع ليله مستعبرا، ويهش للجميل مبتدرا، عالما انه سيحمد عند صباحه السرى فحافظ على السنن وانتهج أقوم السنن، واعتصم من الطاعة باوقى الجنن، حتى كأنه أبو حازم، أبو الحسن، له علو ومعرفة في الرواية، وإمامة كبيرة في العلم والدراية، ومراتب علية في الزهد والولاية، وكرامتها عند الخالق أعظم الدرجات وأكرم العناية، وقد حيل الله النفوس على مودته والقلوب على محبته وأنشدني:

وإذا أحب الله يوما عبده

ألقى عليه محبة الناس

ص: 37

فما رمقه طرف إلا وأحب أن يفديه بسواده، ولا نال أحد دعوته إلا ورأى بركتها في نفسه وماله وأولاده، نفعنا الله تعالى به، وبالصالحين من عباده بمنه وقد أثبت سماعي عليه واستوفيته في غير هذا، وأجازني الإجازة التامة، ومولده رضي الله عنه في شهر رمضان المعظم من عام اثنين وأربعين وستمائة بمدينة إعزاز) بالعين المهملة والزاي قبل الألف وبعده (وهي من أعمال حلب، ومن جملة ما قرأت عليه بلفظي بحيث ذكر وهو عال جميع الأربعين حديثا لأبى بكر محمد بن الحسين الآجري وحدثني أنه سمع جميعها على الشيخ أبى العباس بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي يوم الجمعة العاشر لربيع الأول سنة خمسين وستمائة بحق سماعه لها من الثقى بسماعه من أبى علي الحداد بسماعه من الحافظ أبى نعيم بسماعه من المؤلف أبى بكر الآجري، ومن جملة ما سمعت عليه جميع الأربعين حديثا البلدانية للحافظ أبى طاهر السلفى رحمه الله، وحدثني بها إجازة عن الشيخ أبى عبد الله محمد بن عبد الهادي بن قدامة بإجازته من السلفى ان لم يكن سماعاه ولنطرز ذكر هذا القطر باسم سيده ووحيده شيخ الشيوخ إمام الأئمة، قدوة الفقهاء نخبة النحاة والأدباء ودرة العلماء الفضلاء، وحجة العرب العرباء، أثير الدين أبى الحيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النفرى الأندلسي الغرناطي، هو من سفر عن بدر الكمال الزاهر، وسجر ببحر الكلام الزاخر، وحسر عن ساعد الجد في اقتناء المعالي والمفاخر، فشأى كل ذي شأو ومغرب، وأوتي منه زمانه بكل بديع مغرب، تبلج منه الأفق الأندلسي الغرناطي عن غرة غار منها فلق الصباح المشرق، واشتمل منه الجو المصري والمجلس السلطاني على نحرير، أقرت بفضله صناديد المشرق، فكيف يوصف هطل غمام، أو ينصف أفضل إمام، لا يدانيه لقس اياد، ولا موئل منه لسبحان وائل، وايم الله ان المسرف في وصفه لمقتصد، وغير الرامي في تعريضه لمقتصد، نجم نجم سعوده الموذن بإنجاز وعوده، وإبراز موعده، فتنقل في سماء السعادة بدر أوحل في ذروة الإجادة صدرا، وبلغ من فنون العلم وضروب الأدب إلى أعلى المنازل وأسنى الرتب حتى طار ذكره في الأفاق، وسار متواترا على السن الرفاق، وضربت إليه أباط الإبل واجياد العتاق، وشدت إلى لقائه الرحال من أقاليم الشام وأقاصي العراق، فروى من بحوره العذبة ظماء الأكباد، وغذى بأسرار علومه قلب الحاضر والباد، وغير كثير، في وصف الأثير، نثر الدر المنظوم، ونظم الدر النثير، دخلت عليه منتزهه الذي دنا له النيل، فالزمان يخوله فيه يناء وينيل والدهر قد سفر له عن محياه، والزهر قد تبسم له وحياه، والطير بين يديه يخاطب إياها وتخاطب إياه، فاقبل علي بالبشر والترحيب، ومهد إلى أرجاء جانبه، وأراني بشاشة المحب عند لقاء الحبيب، وتتبع أخبار الأندلس وأهلها، وأعرب عن سيرها الحميدة وفضلها، وأنشدني من أبيات له:

وبيننا نسب ترعى وان بعدت

لكوننا ننتمي فيها لأندلس

ص: 38

قرأت عليه بعض القرآن العظيم بالقراءات السبع بقراءة الإمام أبى عمرو الداني وبالإدغام الكبير لابن عمرو بن العلاء وبقراءات يعقوب الحضومي جمعا بين روايتي روح ورويس عنه، وأخبرني أنه قرأ بحرفي الحرمين جمعا ما عدا من أول سورة مريم إلى آخر القرآن على أبي جعفر أحمد بن سعيد بن أحمد بن بشير الأنصاري شهر بالفزاز بسنده المشهور، وقرأ عليه جميع كتاب التيسير ثم سمعه ثانيا عليه، وأخبرني أيضا أنه قرأ بالقراءات السبع على الشيخ أبى العباس أحمد بن علي بن عيسى بن عباس الرعينى الشهير بالطباع، وأخبره أنه قرأ بها على الخطيب الجليل المجاب الدعوة أبى محمد عبد الله بن محمد بن حسين العبدري الشهير بالكواب، وقرأ أبو محمد الكواب على الأستاذ الجليل أبى بكر محمد بن علي بن حسون الحميدي على شريح بن محمد ابن شريح بسنده،) وقرأ أيضا (بالقراءات السبع جمعا في ختمة واحدة على الشيخ أبى الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن المليخى بقرائته للسبع على أبى الجود غياث بن فارس بن مكي اللخمي المنذري، وقرأ أبو الجود على أبى الفتوح ناصر بن الحسين الزيدي الخطيب بمصر، وقرأ أبو الفتوح على أبى الحسن علي بن أحمد الأبهري الصيني الضرير، وقرأ على الاهوزى، وقرأ أبو الفتوح أيضا على أبى الحسن بن يحيى ابن الفرج بن الخشاب المصري، وقرأ على أبى العباس بن النفيس، وأخبرني أنه قرأ بالقراءات الثمان على الشيخ رشيد الدين أبى محمد عبد النصير بن علي بن يحيى الهمداني عرف بالمريوطي وقرأ على جعفر الهمداني وعلي الصفراوي وقرأ على بن خلف الله، وقرأ ابن خلف الله على ابن الفحام صاحب كتاب) التجريد (بأسانيده وهذا كله إسناد عال في القراءات وقرأت عليه بعض كتاب التيسير للحافظ أبى عمر الداني، وناولنيه ثم قرأت جميعه عليه بعيد ذلك وحدثني به بأسانيده فيه في هذا، وسمعت من لفظه حديث الرحمة المسلسل بشرطه، وقرأت عليه جميع الأرجوزة الألفية في علم العربية نظم أبى زكرياء يحيى بن معط بن عبد النور وحدثني بها قراءة عن الشيخ رضي الدين أبى بكر بن عجن بن علي القسنطيني الشافعي عن ناظمها قراءة، وقرأت عليه جميع القصيدة البائية الشهيرة التي من نظم الإمام شمس الدين أبى عبد الله محمد بن محمد بن المنعم الأنصاري محمد الخيمي وأولها:

يا مطلبا ليس لي في غيره أرب

إليك آل التقصى، وانتهى الطلب

وحدثني بها عن ناظمها المذكور سماعا عليه، وقرأت عليه جميع ثلاثيات الإمام أبى عبد الله البخارى رضي الله عنه في أصله منها الذي بخط يده، ووهبه لي أثر القراءة وجميع أسانيده فيها مسطورة فيه بخطه وتخريجه وقد قرأت جميع الثلاثيات هذه، وسمعتها على جماعة كثيرة من أهل الأندلس وغرب العدوة وغيرهم وأفردت لأسانيدي فيها كتابا مجموعا، وقرأت عليه جميع قصيدته اللامية التي سماها) بعقد اللئالى (في القراءات السبع العوالي، وقرأت عليه بعض تآليفه اختصر فيه نهاية ابن رشد رحمه الله، وسمعت عليه جميع الجزء الذي أملاه في الفوائد والفرائد المنتقاة والغرائب عن الشيوخ العوالي، ونقلته من أصله وصححت بقرائتي عليه بعض تآليفه المسمى بالبحر المحيط في تفسير القرآن العظيم، وبعض تآليفه المسمى بارتشاف الضرب، من لسان العرب في النحو، وجميع المقدمة في النحو التي سماها الشذرة، وتناولت جميع هذه الكتب من يده وقرأت عليه كثيرا من ديوان شعره ومن رسائله ونثره، ونقلت من نظمه جملة فوائد فريدة، وصححتها بقراءتي عليه، وسمعت عليه مروياته، وسمعت غير ما رسمت هنا وذكرت، وأجازني إجازة تامة وكتب لي بخطه، ومولده بغرناطة في آخر شعبان من عام أربعة وخمسين وستمائة وأنشدني لنفسه:

لم أؤخر عمن أحب كتابي

لقلى فيه أو لترك هواه

غير أني إذا كتبت كتابا

غلب الدمع مقلتي ومحاه

وأنشدني لنفسه أيضا:

سبق الدمع بالمسير المطايا

إذ نوى من أحب عني نقله

وأجاد السطور في صفحة الخ

د ولم لا يجيد، وهو ابن مقله

وأنشدني لنفسه أيضا:

عداتي لهم فضل علي ومنة

فلا أبعد الرحمان عني إلا عاديا

هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها

وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

ص: 39

وجمعت الضيافة في منزله المذكور بيني وبين نائبه في التدريس، الشيخ الفقيه الإمام برهان الدين أبى إسحاق إبراهيم بن الشيخ الإمام القدوة المرحوم نور الدين أبى الحسن علي المالكي، فعرفني الشيخ رضي الله عنه بجلالة قدره ورسوخ قدمه في العلم وطهارة فجره ثم تمادى المجلس، فشهدت فيه على العيان، ورأيت منه إمام العصر واحد الزمان، عالما من علماء القاهرة وفقيها من فقهائهم، وصدرا في آبائهم، ومتقدما في علمائهم، حافظا للغة العربية، بصيرا بالغريب والنادر، قيما بالشاهد والمثل، عالما بالخبر والآثار، تام العناية بالفقه والسنة ان فاتحته في هذه الجهة فجرت منه بحرا زاخرا، وان عدلت به إلى الأدب ظننت أنه لا يحسن سواه فصيح اللسان، حسن البيان، صحيح الألفاظ واضح المعاني ناصع البراعة جيد البلاغة شاعرا مطبوعا أبرز ذلك الميدان منه فارسا مجلا وكان يوما أغر محجلا:

حيث الغدير وقد أجادت نقشه

كف النسيم ومرها في جوشن

وغصون دوح النيرين يهزها

نغم القمارى بالغناء المحسن

من كل لدن كالقوام يميل من

شرخ الشباب إلى الدلال فينثني

ما بين ثغر بالأقاح مفلج

وجبين نهربا لنسيم مغصن

ووجوه هاتيك الرياض سوافر

غيد تزان من المياه باعين

والأرض تجلى في رداء أخضر

والجو يبرز في قناع أدكن

وأمره الشيخ أن يسمعني ويجيزني فامتثل أمره، وأسعف رغبته، وهو أعزه الله أهل لذلك، وجاز من طريق الشيخ على أهدى المسالك وما ظنك بخليفة ابن حيان ولم يقعد في موضعه غيره لا فلان ولا فلان سمعت منه بمحضر الشيخ وأجازني إجازة تامة وأستنشدته لي من شعره فأنشدني لنفسه من قصيدة:

أراك النقاهل يبلغ الجزع آعله؟

وهل آئب يوما إلى الحي راحله؟

وهل لي وجد في دارك مقيله

أناشده عن أهله وأسائله

وهل عائد عهدي بمنعرج اللوى

يغازلني ظبي النقا وأغازله

غزال ومكنون الصدور كناسه

هلال واحناء الضلوع منازله

فلا خمر إلا من سلافة ريقه

ولا سحر إلا بين جفنيه بابله

ولا ليل إلا ما أجن جبينه

ولا صبح إلا ما محياه شامله

ولا الغصن المياس إلا قوامه

ولا الزهر المرموق إلا شمائله

ومن يك موليه الصبابة والضنى

فما عادل في شرعة الحب عاذله

وأنشدني في غير ذلك مما كتبته في غير هذا، فلما فرغ من إنشاده جعل مجاوبتي إياه من اعتماده فقال لي أنت قد جبت كل مخوفة وجلبت كل أطروفة، فأنشدنا من طرف ما لديك وإلا حاكمناك إلى مولانا الشيخ فيحكم عليك، فقلت السمع والطاعة ولم أجد إلى العذر من استطاعة وأنشدته من شعر الإمام الشريف أبى القاسم علي ن الحسن الملقب بالمرتضى أخي الشريف الرضي قوله من قصيدة طويلة يفخر فيها:

لو لم تعالجه النوى لتحيرا

وقصاره وقد انتأوا أن يقصرا

أو كلما راح الخليط تصوبت

عبرات عين لم تقل فتكثرا

قد أوقدت حرق الفراق صبابة

لم تستعر، وجرين دمعا قد جرى

شغف يكتمه الحياء ولوعة

خفيت، وحق لمثلها أن يظهرا

وأنى الركائب لم يكن ما خلته

صبرا ولكن كان ذاك تصبرا

لبين داعية النوى فأريننا

بين القباب البيض موتا أحمرا

وبعدين بالبين المشتت ساعة

فكأنهن بعدن عنا أشهرا

عاجوا على ثمد البطاح وحبهم

أجرى العيون غداة بانوا أبحرا

وتنكبوا وعر الطريق وخلفوا

ما في الجوانح من هواهم أوعرا

أما السلوى فانه لا يهتدي

قصد القلوب وقد خشين تذكرا

قد رمت ذاك فلم أجده وحق من

فقد السبيل إلى الهوى ان يعذرا

أهلا بطيف خيال مانعة لنا

يقظى ومفضلة علينا في الكرا

ما كان أنعمنا بها من زورة

لو باعدت وقت الورود المصدرا

جزعت لو خطأت المشيب وإنما

بلغ الشباب مدى الكمال فنورا

والشيب ان فكرت فيه مورد

لابد يورده الفتى ان عمرا

يبيض بعد سواده الشعر الذي

ان لم يزره الشيب واراه الثرا

ومن الشبيبة لأعدتك تحية

وسناك منهمر الحيا ما استغزرا

فلطالما أضحى ردائي ساحبا

في ظلك الوافي وعودي اخضرا

ص: 40

أيام يرمقني الغزال إذا رنا

شغفا ويطرقني الخيال إذا سرا

وأنشدته من شعر ابن المعلم الواسطي المشهور برقة الغزل قصيدة بارعة منها قوله:

خذ من عيونهم الأمان! وهل لمن

حمل الغرام من العيون أمان؟

كم في البراقع من قسي حواجب

يصمى القلوب وثيرها المران

رحلوا بأفئدة الرجال وغادروا

بصدودها فكرا من الأحزان

واستقبلوا الوادي فأطرقت المها

وتحيرت بغصونها الكثبان

كأنما اعترفت لهم بقدورها

الأغصان أو بعيونها الغزلان

وأنشدته من شعر ابن الخياط البغدادي قوله من قصيدة:

وابعث لهن الزافرات لا الصبا

واستمطر الجفون لا السحائبا

أين عداك الركب يا دار الحما

منكبا لقد تعدى الواجبا

وقفت أدرى فيك دمعا سائلا

ينشد من قبلك ربعا ذاهبا

لا زال دمع العاشقين والحيا

يهمى عليك هاطلا وساكبا

حتى يرى فيك الربيع ناشرا

على الربا من نوره عجائبا

يهدى إلى تلاعه مطارفا

منه ويكسو جوها جلاببا

أين الأولى ظمئت مذ فارقتهم

إذ لا أزال للدموع شاربا

بانوا فما أنظر إلا نازحا

يجري وما أسمع إلا ناعبا

وخلفوا من الهوى بي حادثا

لمسمعي عن الملام حاجبا

فما أخاف اليوم إلا واشيا

حيث أمنت عادلا أو عائبا

خذ بيدي وليس تلقى لي يدا

تأخذها إذا لقيت جاذبا

دمعي وقد كان مصونا جامدا

اصاره البين مذالا ذائبا

ذبت فلم يبصر بجمسي عائدى

لو لم أكن لعائدى مخاطبا

بي يقتدي أهل الهوى لأنني

لهم شرعت في الهوى المذاهبا

فانسب إلى العشق لا إليهم

ان كنت من إلى الغرام ناسبا

وطيب أذيال النسيم ما جرى

بها على تلك الخيام ساحبا

حوى أريجا كلما استنشقته

أقصى الأسى وقرب الحبائبا

وذكرت له ما حفظته من كتاب سورة الألباب، وذخيرة الكتاب، تآليف أبى محمد الحسن بن الفرج بن إبراهيم الكاتب قال فيه دخلت يوما على الوزير أبى القاسم الحسن بن علي المغربي بالموصل، وفي يدي شيء من شعر أبي النجيب شداد بن إبراهيم المعروف بالظاهر الجزرى فسألني عما في يدي فأخبرته بفضل هذا الرجل وفصاحته وبليغ عبارته ومليح استعارته وبديع إشارته فأستنشدني منها شيئا فأنشدته:

يا منكرا شغفي به

ومكذبا طول اشتياقي

في أي أحوالي تشك

فهي أحوال السياق

أمدامعي أم ضر جسمي

أم ضناي أم احتراقي

كلى إذا انصفتى

حجج عليك بما ألاقى

فاستحسن ذلك وعمل في الحال:

الله يعلم أنني

ألتذ فيكم باشتياق

وأكاد من انس التذك

ر لا أذم يد الفراق

وأغض طرفي بعدما

ولأته غزلان العراق

وأفر من خجل العتا

ب متى سعدنا بالتلاق

وأنشدته لبعضهم:

أيها الراكب الميمم أرضي

بلغن بعضي السلام لبعضي

ان جسمي كما تراه بأرض

وفؤادي ومالكيه بأرض

قد قضى الله بيننا بافتراق

فعسى باجتماعنا سوف يقضى

فلما أنشدته هذه الأبيات فاضت الدموع، ولحق الخشوع فقال لي المولى الشيخ حيا الله بلادك وبلغك من جمع شملك مرادك، وانفصل المجلس الكريم وخصصت بالمقام مبالغة في التكريم، ومما سمعت منه وأخذت عنه الشيخ العالم الأوحد أبو الأصبغ عيسى بن مخلوف المغيلى أحد الأعلام الجلة، وعلماء الإسلام والملة إمام الأنام وعلم الأعلام، سيما في الفروع والأصول وعلم الكلام، مصيبا في كل ما يعتمده في اختياراته، من استقصاء واستيفاء واقتصار واختصار قد فات قدره في ضبط الفوائد الأقدار، وبحرا يأمن وارد صفوه الأكدار، ويوجب فضله الشبق إليه والابتدار، فهو على الإطلاق العالم الصدر العالي القدر، قد جمع إلى معارفه بين الكرم والمروءة والظرف والفتوة، وتشبت بأهداب آداب وتمسك من الرواية بأسباب إلى عقل وحصاة وفضائل غير مستقصاة، رحل إلى آفاق العراق، فأحرز بما اجتلب خصال السباق، وبرز بما اكتسب بخط يده من الأصول العتاق، مما صحح وحدق إلى طريق الصواب عيونه:

ويبدو لها بشر ونشر كأنما

تبلج وجه الصبح أو نفح الند

ص: 41

لقيته بالمدرسة الناصرية من القاهرة المعزية فسمعت فوائد من لفظه وقيدت شوارد من حفظه وقرأت عليه تفقها بعض مختصر التفريع لابن الجلاب اختصار قاضي القضاة ببغداد عز الدين حسين بن أبى القاسم النيلي وهو المختصر الأكبر وأذن لي في روايته عنه وحدثني انه قراه قراءة تفقه وبحث على مؤلفه المذكور ببغداد وإجازة إياه وأذن له في تدريسه وتبيينه إجازة تامة مطلقة عامة؟ وأنشدني لأبي العلاء المعري قوله:

لا تطلبن بآلة لك رتبة

قلم البليغ بغير جد معزل

سكن السما كان السماء كلاهما

هذاله رمح وهذا أعزل

وممن سمعت عليه وترردت إليه واحتفلت إلى منزله واعترفت بفضله وتطوله، الشيخ العالم الكبير تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي إمام من أئمة الشافعية، وعالم من كبار علماء الديار المصرية ومن يعترف له بالرتبة العلية، ويرشح للخطة الكبيرة القاضوية له عدالة الأصل وأصالة العدل وإصابة النقل ورزانة العقل وجزالة القول والفعل ومتانة الدين والفضل، إلى تحصيل وتفنن وتأصيل، في المنقولات والمعقولات وتمكن ونظر راجح وحفظ راسخ وتقدم في التحديث والرواية عال شامخ، كريم شهد له العيان إليه يعزي البيان، ومن بحره يخرج اللؤلؤ والمرجان، إلى آداب غضة وفضائل مرفضة ومساع كغرته مبيضة:

فمساعيه شهود أنه

خير فرع جاء من أكرم أصل

لقيته بمنزله من القاهرة فتراكمت على سحائب أياديه الهامرة وأسمعني كل مسموع مفيد ولم أزل من كرمه الواكف كل يوم في عيد، ولما أكملت سماعي عليه واستوفيته لديه رسم لي الإجازة التامة العامة بخطه رسما كملت أوصانه وأوجبه فضله وإنصافه قرأت عليه كثيرا من شعر الإمام أبى عبد اله الشافعي رضي الله عنه فاستحسنت منه قوله:

لما عفوت ولم أحقد على أحد

أرحت نفسي من هم العداوات

أني أحيي عدوي حين أبصره

لأدفع الشر عن بالتحيات

ولست أسلم ممن ليس يعرفني

فكيف أسلم من أهل المودات

وممن سمعت عليه أياما وشفيت بري الرواية عنه أواما، الشيخ العالم المحدث تاج الدين أبو محمد عبد الله بن علي القلعي الأطفيحى أحد المشيخة الذين تقرظ بحلي أنبائهم الآذان مصيخة فتراشحوا للعلاء، وتوشحوا بغر الحلي، وكرعوا في بحر علم لا تكدره الدلاء، طلب العلم من صغره، ولازم كبراء رجاله، وعمر طويلا وروى وأسند كثيرا فتحلى من علو الرواية أجمل حلية، وأخذ عن جماعة من العلماء عليه فهو الرواية وحيد عصره، وفريد دهره، مع مشاركة في معارف أخرى واستيثار في جميع ذلك بالحظوة والأثر، وإذا يراجعك الحديث فخذ منه وحدث عن أبى ذر، لقيته مرار كثيرة وسمعت عليه جملا مفيدة، وكتاب شرف أصحاب الحديث للحافظ أبى بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، وسمعت جميعه عليه بقراءة شيخنا معين الدين ابن عبد الله محمد بن فتوح المصغونى زبقصد الرواية عمها بحق إجازتهما من الشيخ أبى العز عبد العزيز عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن هبة الله بن الصقيل الحراني النميري بسماعه عن أبى القاسم ضياء بن الخريف بسماعه من المصنف أبى بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري بسماعه من المصنف أبى بكر أحمد بن علي المذكور وأجازني الإجازة التامة وكتب لي بخطه، سمعت بها أيضا، وقرأت على سوى من ذكرت.) ثم (خرجنا منها في صبيحة يوم الاثنين الثامن والعشرين لرجب الفرد من عام سبعة وثلاثين المذكور مستقبلين الأرض الصحراء الجذبة الفقراء حتى تحار فيها القطا، ولا تهتدي إليها الخطا، ويعدم بها الماء، وتضن عليها السماء، ويفنى فيها الزاد، ويعيى بسلوكها العباد، نحدو بالجمال، ونخفض الاقتاب لرفع الرحال، ونقطع بالسير موصول تلك الرمال، حتى أشرفنا على مدينة) غزة (فدخلناها ضحوة يوم الثلاثاء السابع لشعبان المكرم من العام المذكور وقد:

تبسم ثغر الزهر عن شنب القطر

ودب عذار الظل في صفحة النهر

فزينة الأرض مشهورة، وحلة الروض منشورة، والبسيطة مدت بساطا مفوفا، وأهدت من مطارف وشيها وزخارف نورها ألطافا وتحفا:

فالجو رقراق الشعاع مفرق

والماء فياض الآتي معسجد

والأرض في حلى الربيع كأنما

قطف الغمائم لؤلؤ وزبرجد

ص: 42

فأرحنا فيها تعب الأبدان، وسرحنا منها في بلد من أحسن تلك البلدان، بلد حسنه يفقه من كان بليدا، حتى يعود ليبدأ، فسيحة الساحة، مستطيلة المساحة، نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحة، ما شئت من منظر عجيب، وجانب رحيب، وبسيط خصيب، وساحل قريب، ومكان مؤنس لكل غريب، يزهر بالحسن المحض، والنور الغض، وناهيك بالشام، شامة الأرض كما قال عرقلة الدمشقي:

هذا هو الزمن الربيع المونق

والعيشة الرغد التي هي تعشق

فعلام تصحو والحمام كأنها

سكرى تغني تارة وتصفق

وتلوم في حب الديار جهالة

هيهات يسلوها فؤاد شيق

والشام شامة وجنة الدنيا كما

إنسان مقلتها الغضيضة جلق

من آسها لك جنة لا تنقضي

ومن الشقيق جهنم لا تحرق

سيما وقد رقم الربيع ربوعها

وشيا به حدق البرايا تحدق

في روضة ضحكت ثغور أقاحها

لما بكاها العارض المتدفق

فبتنا ببعض بساتنها وهناك جريان الأنهار، وحفيف الأشجار، وتغريد الأطيار، ما أذكر قول ابن حصن كاتب المعتمد بن عباد:

وما هاجني إلا ابن ورقاء هاتف

على فنن بين الجزيرة والنهر

مفستق طوق زوردي كلكل

موشى الطلى أحوى القوادم والظهر

أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ

وصاغ على الأجفان طوقا من التبر

حديد شبا المنقار داج كأنه

شبا قلم من فضة مد في حبر

توسد من فرع الأراك أريكة

ومال على طي الجناح من النحر

ولما رأى دمعي مراقا أرابه

بكائي فاستولى على الغصن النضر

وحث جناحيه وصفق طائرا

وطار بقلبي حيث طار ولا ادري!؟

وأقمنا حتى بدا النور، وتكلم العصفور، وسرنا نحث السرى، ونعاصى الكرا، حتى ذهب الظلام وأشرفنا على مدينة الخليل عليه السلام، وأشرقت لنا تلك الربا والأعلام، فدخلناها في ضحوة يوم الخميس التاسع لشعبان المذكور فحللت فيها قصرا عظيم البركة ظاهر الرحمة، لائح الأنوار، كريم المئاثر، والآثار، ينبى عن الشام بطيب أنبائها، وحسن آلائها. ورقة هوائها، وبهجة بهائها، وجدا جداولها، وجنا جذاذلها، وتضوع أريج أسحارها وتنوع بهيج أوهارها، وريا رياضها ورونق جواهرها وأعراضها، وغرة أرضها وصحة هوائها وقلة أمراضها:

بلاد بها الحصباء درو تربها

عبير وأنفاس الرياح شمول

تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق

وصح نسيم الروض وهو عليل

وقدمت والزمان في عنفوانه، والربيع في ريعانه، والروض في حسنه وإحسانه والزهر في زهره وزهوه، والطير في شوقه، وشدوه، والدوح بالورق بين أوراقه في جدوه، والنوار قد شب وشاب، والهزار قد لب ولاب، والعندليب قد طرب وغنى، والحبيب قد ظرف وتجنى، وللأندية أنداء، وللأدوية أوداء، وللصبا صبابات، وللبيب لبانات وللشمال شمول، وللقبول قبول، وللعرار شميم، والباهر نسيم، وللنرجس عيون وللورد وجنة. وللكمام أجنة، وللغمام دجنة وللإقاح ثغور، باسمة وللأغصان قدود ناعمة وللأفنان فنون، وللحديث شجون ولجبهة الغدير من حركة النسيم غضون، ولهزة المساري أعطاف يقال لها غصون:

والماء تحت الغصن مطرد

والغصن فوق الماء منعكس

ص: 43

فآويت إلى إيوان، ونزلت أحسن مكان، وأمكن إحسان، ثم دخلت المسجد الأعظم فرأيت من حسنه عجبا، ومن بنيانه ما شئت فضة وذهبا، لا تدرك مبانيه السامية، ولا تلحق أثاره العالية، له أواب حافلة من الحديد وشباك منه بديع، وبنيان بالرخام والأحجار العظام الهائلة المنحوتة الضخام، عددت في طول الحجر الواحد منها أربعة وثلاثين شبرا، وفيها أكبر من ذلك وأصغر، قد أسس ذلك المسجد العظيم عليها وبنى ظاهره وباطنه منها فجاء جامعا عجيبا واسع الساحة، بديع الصنعة، أحدق بجميعه سور جليل، بناؤه من الصخر الجسيم، قد جمع الحسن والحصانة والعلو والمتانة، يشرق بياضه على بعد المتأمل وكذلك حال المدينة منازلها وقصورها من الإشراق والبهجة التي تشوبها خضرة الحدائق الملتفة بها المكتنفة بساحتها، وداخل المسجد الأعظم موجه القبلة بالرخام المجزع المختلف الألوان، الغريب الترصيع الفائق الحسن قد أفرغ فيه الذهب المضروب والتبر الخالص افرغا، وفي وسط المسجد الكريم، التربة المقدسة تربة الخليل أبينا إبراهيم عليه السلام قد جن بها من الشماعات العظام المذهبة والأستار المكللة المطرزة والمصابيح البديعة المموهة كل حسن رائق رائع، وإمامه ضريح زوجه رضوان الله عليها وتجاه ذلك من الجانب الجوفي قبة أخرى عظيمة القدر متناهية الإتقان تحتها ضريح النبي يعقوب عليه السلام وأمامه زوجه رضى الله عنها وتحتها طبقة وقبة فيها ضريح النبي يوسف الصديق عليه السلام والأستار المدبجة والرسوم المذهبة بأسمائها المباركة على جميعها والله سبحانه وتعالى أعلم بصحة ذلك كله وما بين المسجد الكريم والقبة الجوفية صحن عظيم كبير جدا فيه في المسجد أيضا هو مجتمع الواردين والمقيمين من الأغنياء والفقراء والأمراء والكبراء للضيافة المباركة ضيافة لخليل عليه السلام في كل يوم بعد صلاة العصر على توالي أحقاب الدهر وفيه حضرتها مع جملتهم متبركا بذلك ثم اختلفت إلى لقاء الفضلاء وأخذت عمن بذلك القطر المبارك من العلماء، منهم شيخ الوقت سناء وسنا وعلما ودينا الشيخ العالم الصالح شمس الدين أبو عبد الله محمد بن كافل الشافعي رضي الله عنه شيخ العلم والوقار ومحل المناقب المغرسة في أرفع البقاع وأمنع القرار وأهل المكارم السنية الأنوار السنية الآثار نزيه الأحوال نبيه القدر زكي الخلال ما عرى من أثواب عفاف ولا تعطل من حلى برو إنصاف له الحكم الظاهرة والنباهة الحاصرة والنزاهة التي أذعنت لها الدنيا وترجى لها الآخرة فما قيس ابن عاصم منه بأحلم ولا عبد الرحمن بن القاسم بأعلم، ولا الأغلب ممن سالم بأجل في النفوس وأعظم ولي القضاء بعدما أكره عليه وجذب راغم الأنف إليه، فلم يعلق به طبع ولا زال من الزهد والورع بمرئي ومسمع ثم نبذ الأمر وخلاه، وأسلمه لمن ولاه، تخلى هو لعباده مولاه فهو الآن بذلك المسجد العظيم والمقام النيير الكريم لا يفتر من العبادة ولا يدخل منزله إلا للعادة، الله أكبر حين تسئله وحي على الفلاح. سمعت من لفظه هناك بين المنبر والمحراب أجزاء غير واحدة واستفدت في مجلسه غير ما فائدة وسألته عن أشياخه فأخبرني أنهم جماعة كبيرة منهم الشيخ الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الرقي الشافعي نزيل دمشق رحمه الله تعالى سمع عليه كثيرا وأنشدني لنفسه:

وصل الحبيب لسم الهجر ترياق

وقربه لأسير البين إطلاق

أما السلو فدين لا أدين به

وكيف يسلو عن الأحباب عشاق

أم كيف يجمل في سلوى جمالكم

وبيننا في الهوى عهد وميثاق

قلبي القريح عليكم حشوه حرق

ولوعة وصبابات وأشواق

لا غروان كان قلبي شيقا قلقا

قلب المحب إلى الأحباب تواق

ان أبعدوني فأهل للبعاد وان

هم قربوني فان القلب مشتاق

ص: 44

أنشدنيها عن ناظمها المذكور وكتبتها من إملائه وصححتها بعد قراءتي عليه ومن شيوخه أيضا الشيخ أبو الحسن علي الواسطي قال لي وكان رحمه الله ما انقطع عن الحج والزيارة مدة حياته فسأله أهله أن يقيم معهم ويدع الحج سنة واحدة فلما عزم على ذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له يا علي عزمت على الإقامة عنا. فقال سألني الأهل في ذلك فقال له أن أقمت عنا أقمنا غيرك مقامك، فلما استيقظ عزم على الحج والزيارة في ساعته وسأل الله تعالى أن يجعل قبره ما بين الحرمين الشريفين فتوفي ما بين بدر وحنين رحمه الله تعالى، وقد سمعت عليه أبعاض كتب كثيرة وتناولتها من يده وأجازني الإجازة التامة المطلقة العامة وكتب لي بخطه.

ومنهم علم الأعلام وإمام الإسلام الشيخ العالم الراوية شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم الأموي القرشي هو الإمام الذي رفعه العلم قبل شبابه وعرفه بركات ما مله الحميد وطلابه ومهد له من السعد في نيل القصد رحيب مغناه وفسيح جنابه، وسهل له آربا وأوطارا، ولم يزل مترسما من أشرف الأفعال وأعرق الأقوال من معالم المآثر ومآثر المعالم، وأعيان ذوي الأقدار والأخطار أعلاها مقدارا، متسنما من مراتب الصفات وصفات المراتب أقصاها منالا، وأسماها منارا، مترسما من أخلاق المجد ومجد الأخلاق أزهارها نظارة وأنظرها أزهارا، متحليا من الشيم الفاضلة بأنفسها دارا، ومتحليا في سعودها الشارقة بدرا متجنبا عن كل ما يعقب الإقبال على السعادات أدبارا، محرزا في ميدان طهارة الأردان خصل السباق، متميزا في عنفوان شبابه بحسن الخلق وإحسان الأخلاق، مثمرا لرأس مال العفاف، ساحبا من حلله الضافية الأفواف، مقبلا على ما يزيد مجده مآثرا وآثارا إلى رواية فاز بفريدها الثمين وعلقها، ونام على ليل إهمالها وقام بحقها ودار حول قطبها، ومرقى مطالع أفقها وأنعم بها سحا ومدارا إلى علوم حديث اقتصر عليه مع أدواته الثابتة الفضائل الواضحة الدلائل اختصارا، وهصر أفنان خمائله الباستل وقد تناءت مساقا وتناهت إيراقا وأزهارا، وكرع في مشارعها السلسبيلية ومناهلها الزلالية. آمنا صدرا واصدرا وعطف على محلها المرفوع، واستند إليها استنادا المحمول إلى الموضوع، وأسند من حديثها الحسن الصحيح لا المختلف الموضوع أثارا وأخبارا إلى المنصب الذي أحسب مناه والمنسب الذي أراه في المحتد القرشي متمناه والبيت الذي قر على عمد المجد قرارا، متخذا للورع دثارا. وللزهد شعارا، فاشتهرت في الغابر والسالف بفضلها التالد والطارف اشتهارا، وظهر في الطهارة والنزاهة علما يحمل نور الانارا، فعذب في مشارعها مشربا، وثبت في مناكبها كبكبا، وسرى في منازلها السعود كوكبا سيارا، والى مكانة في العلماء معروف قدرها، مشاهد بتصديق خبرها الحسن خبرها، ذائع عرفها ونشرها وجلالة في الحسباء لا تنكر معارفها ولا تخلق برودها الفضفاضة ومطارفها، ولا يتقلص من ظلالها السابغة ممدودها ووارفها إعظاما لمحلها الرفيع وإكبارا، فحين ساغ له هذا المشرب الزلالي العلمي العملي ورد وارتوى، وعلم أنه ظفر من ضالته المنشودة وبغيته المقصودة بما ابتغى، ونوى، فألقى عصى التسيار في مناهج لقاء أولى العلم الأخيار واستقرت بعد النوى استقرارا، وأقبلت على إفادة العلوم، بين تلك المعاهد الشريفة والرسوم بساحة سنية ورساخة علمية عالية منارا، ساطعة أنوارا متصلة عوائده الدينية وفوائده العلمية بقاء واستمرارا، فتجلى الشك عن اليقين، وتسفر عن مثل الصبح المبين أسفارا فها هو محمول من الترفيع والتعظيم على واجبه مكفول من البر والتكريم بمزيده ومتعاقبه قد تجلت له صور الرعاية والمبرة شموسا وأقمارا، وتحلت به من ذلك الأفق المقدس أزمانا وأعصارا، متصلة الإشراق ومشرقة الاتصال ليلا ونهارا:

كساها وقد عاث فيها المشيب

برونق أيامها الاوله

فلا سلب الله ثوب البقاء

عنه وهناه ما خوله

ص: 45

لقيته بالحرم الخليلي الشريف فسمعت عليه كثيرا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأجزاء والكتب في فنون شتى وأجازني الإجازة التامة المطلقة العامة وكتب لي بخطه، وأشياخه جماعة كثيرة من جدا ومولده رضي الله عنه بحلب المحروسة في سنة بضع وستين وستمائة خرجنا منها ضحوة يوم الأحد الثاني لشعبان المذكور عشي ذلك اليوم بنفسه دخلنا مدينة بيت المقدس كلأها الله تعالى.

هي بلدة الأفق المنير ونجمه، والنجم الذي لا تمتطي صهواته وصلناها والليل في سن الاكتهال وأيدينا ممتدة بالشكر لله تعالى والابتهال فوافينا مدينة واسعة الرقعة طيبة البقعة، سامية الاتفاع، مشرفة البقاع مباركة الأغوار والتلاع، عذبة المراد، منمنمة الابراد، ممرعة الجنبات، متنوعة النبات ممدودة الظلال، مودودة الخلال، مأمولة السعادة مسعودة الآمال، ضخمة البناء، واسعة الفناء، تشهد لسكانها بالثراء والسناء، قد أخذت من كل المحاسن نصيبا، وفوقت إلى هدف الفضائل سهما مصيبا وملئت ظرفا وأدبا وأوتيت من كل شيء سببا:

محل كأن الشمس تخجل كلما

نضت توبها عن معطفيه مغيبا

تنم رياح الخلد منه لأهله

وبطفح تسنيم ويرشح طيبا

ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مدانبه إنسياب الأراقم بكل سبيل، ورياضات تحي النفوس بنسيمها العليل تتبرح لناظرها بمجتلى صقيل، وتناديهم هلموا إلي معرس للحسن ومقيل، فنزلنا منها منزلا بديعا قد عذب ماؤه، وراق روضه، ورق صفاؤه وهواؤه، وتفسحت مساحاتها، وتأرجت أرجاؤه:

وكم مبسم للاقحوانة حوله

مؤلفه ريق من الطل أشنب

ولمة حقف لم يرمها مخيل

من الريح يسرى أو من السرب يلعب

يقر بعيني ان تفئ ظلاله

وأن يتثنى دوحه المتأشب

وان كان لا يمضي النسيم بغصنه

إذا اجتاز ألا خائفا يترقب

ثم قصدت الحرم الشريف، والمسجد العظيم المنيف، الذي بارك الله حوله، وعرفت كل أمة فضله، المسجد الأقصى موضع المعراج والإسراء، وكفى بهذا شرفا وفخرا، فرأيت بقعة لها نور، وفضل مأثور، وشرف معلوم مذكور، ومسجد له محرمات، ومقام تخطر فيه خطرات وتعرض مقامات، ومحل تفيض عليه بركات، وتستجاب فيه دعوات، ومكان يمكن فيه الالتفات، وتقصر عنه الصفات، وتكل في تصنيف محاسنه الياءات والألفات، قد جمع شرف المقدار إلى طيب التربة وفضيلة الدار، وشهرت مفاخره، فأية البقاع تفاخره؟ وراقت محاسنه فلا منظر يحاسنه! وفاقت مئاثره جميع من يكاثره، وأمتع بكل سليم الود سلم وحيا، وأطلع نور البشر في أفق المحيا:

كأنه من حسنه لم يزل

يستخدم التوفيق وإلا سعدا

رست بجناه وعلا سمكه

فطاول الجوزاء والفرقدا

ص: 46

وهذه المسجد الشريف هو أعظم مساجد الدنيا طوله سبعمائة وثمانون ذراعا وعرضه أربعمائة وخمسون ذراعا فيكون تكسيره في المراجع المغربية مائة مرجع، وسواريه أربعمائة وأربع عشرة سارية وأبوابه خمسون بابا يطيف به سور سعته ثلاث خطوات قد أسس بالحجارة العظيمة وألواحه الكبار المنحوتة الهائلة بنته الجن لسليمان عليه السلام والمفتوحة الآن من أبوابه اثنا عشر بابا كل باب منها له الوجه المنقش الحسن المرقش فيها باب مصفح بالعقيان واللجين مغمد بهما قد قام على ما راق الأبصار وأعجب الأنظار) ومنها باب الرحمة وباب التوبة بابان من الجهة الشرقية وروى المفسرون عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن ابن عباس أيضا في قوله تعالى فضرب بينهم بسور أنه سور بيت المقدس الشرقي له باب يسمى باب الرحمة من بيت المقدس قال: كعب باطنه المسجد. وظاهره وادي جهنم وفي الجهة القبلية المسجد الأعظم الحافل الذي عليه اليوم اسم المسجد الأقصى فيه الخطبة والجمعة والمنبر الذي جمع الله فيه من كل إبداع عجيب واختراع غريب والمقاصر التي لا نظير لها غرابة صنعة وجود إنشاء والسواري المفضضة الملونة من ألوان شتى من حمرة قانية وصفرة فاقعة وبياض ناصع ومن الجبرية الحالكة الصافية ومن الخبرية المجزعة العجيبة البديعة كلها مطلية الرؤوس بالذهب الذائب والتبر الخالص وقد قامت بين يد المحراب منتظمة، به عظيمة جليلة منقسمة على أفنان معقودة بأقواس محنية متراكبة مدخلة على ألوان شتى، وتصنيف غريب، مذهبة ما دخلها في التثمين والتسديد والتربيع بتذهيب مشجر مورق بالذهب مصنف محكم قد رونق الحسن استماتتها واستوفت من حظوظ البراعة أقسامها، لها منظر رائع ورواء لامع فتراها تشتعل ذهبا وتستقل عجبا، فيها تواريخ مكتوبة بالذهب في أرض فيروزية وفي أرض حمراء زنجفورية) وبأعلى المحراب (مكتوب بالذهب في أربعة أسطار ما نصه، أمر بتجديد هذا المحراب المقدس، وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس عبد الله ووليه يوسف بن أيوب المظفر الملك الناصر صلاح الدين والدنيا عندما فتحه الله على يديه في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وهو يسأل الله ايزاعه شكر هذه النعمة، واجزال حظه من المغفرة والرحمة) وبشرقي (هذا المسجد متصلا به وداخلا فيه المسجد المبارك، الذي بناه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبجوفه تربيعه خلفها محراب زكرياء عليه السلام، ومكتوب عليه بالذهب يا زكرياء انا بشرناك بغلام اسمه يحيى، وبخارج المسجد الأعظم من ناحية المشرق مسجد بقبتين، يعرف بمسجد عيسى، وفي شرقيه باب له مدارج كثيرة تفضي تحت الأرض إلى موضع كبير حسن كمسجد فيه مهد مصور من الحجر الصلد يذكر أنه مهد عيسى عليه السلام، وبغربيه مسجد حسن للمالكية يسمى بمسجد المغاربة تلاصقه من ناحية الغرب مدرسة حافلة تسمى الفخرية، وبخارج المسجد الأعظم صحن عظيم كبير مثمر بأنواع الثمار والأشجار الكبار المختلفة الأنواع ومن أكثرها الزيتون، وفيه أجياب كثيرة ذكر عبد الملك بن حبيب بسنده أن عمر بن الخطاب لما قدم بيت المقدس خرج رجل من أصحابه يستسقي في جب سليمان وهو جب في داخل المسجد فخرت دلوه في الجب فنزل بها يستخرجها فبينما هو يطوف في الجب إذا أتاه ملكان فأخذا بعاتقه فذهبا به حتى أدخلاه الجنة فجعل يسريان به فيها فكان كلما مرا به على شجرة لها ثمر يمد يده إلى ثمرها فيؤخره الملكان حتى مرا به على شجرة ذات أفنان فمد يده فأخذ ورقة واحدة فقال له الملكان لو ملكت يدك لسرنا بك اليوم إلى يوم القيامة ثم انصرفا به إلى الجب فخرج عند صلاة الظهر فأتى عمر فأخبره بالذي كان وضبط يده على الورقة فقال عمر، أضمم يدك عليها ثم بعث إلى كعب الأحبار فاتاه فقال يا أبا إسحاق! هل تجد في علمك أن رجلا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخل الجنة ثم يخرج منها قال نعم يا أمير المؤمنين قال هل تسميه قال نعم فهو شريك بن حماشة النميري قال فأنظر هل تراه فنظر كعبا مليا ثم قال هو ذا فقيل لكعب صف الورقة قال نعم كانت مثل الكف العظيمة أشبه شئ بورق الزراقين يعني الخوخ ففي بيت المقدس اثنا عشر جبا، ليس فيها جب أطيب ولا أعذب ولا أبرد من هذا الجب وهو يسمى بيير الورقة انتهى، وفي هذا الصحن ساقية ماء تأتي من مسافة شاقة ومهوى بعيد من الأرض قطعت لها الجبال وصدعت لها الصخور

ص: 47

الجليلة صدعا بالمال الجسيم والأيدي الشديدة حتى انصبت منها المياه على المسجد الأقصى فأروت وأغدقت وفاضت وأفضت إلى) خسة (من رخام كبيرة أمام المسجد الأعظم في وسطها فوارة يجري فيها الماء) وفي وسط هذا الصحن (صحن آخر عال مرتفع يصعد إليه بأدراج عالية كثيرة من جهات ثمانية وهو مفروش بالرخام الأبيض وفي وسط هذا الصحن الأخير المرتفع القبة العظيمة القدر الكبيرة الخطر التي كان محاسن الدنيا مجموعة فيها ومحصورة في نواحيها فهي من أعاجيب الدهر وأحسن ما يرى بالبصر ويتخيل في الفكر) قبة الصخرة الكريمة (وهي مصنوعة من قبة مثمنة الحائط والأركان من داخلها وخارجها مستوية السقف، أعلاها ذهب مضروب في صنائع عجيبة وجوانبها كلها من داخلها ملبسة بألواح الرخام المنثور الملصق إلصاقا محكما مخططا بالخطوط الكحل تخطيط القدرة الربانية فجاء منها خواتم عجيبة وطوالع مختلفة الصناعة غريبة، وفي وسط هذه القبة المثمنة المستوية السقف قبة أخرى قد بعد في السماء مرتقاها حتى تساوي ثراها مع ثرياها وجازت الجوزاء سمتا وعزلت السماك الأعزل سمكا وارتقت في الهوى وأسرت إلى السماء النجوى، وانتهت في الحسن الغاية القصوى فكأنما صورت جنة الخلد وأشربت حبة القلب وأوسعت قرة العين، ونقشت في عرض الأرض وأبرزت في الإبريز الخالص المحض قد اتفق الذكر فيها وضرب المثل بتناهيها، وبلغ الخاصة والعامة خبرها وبعد فيهم، صيتها وارتفع ذكرها وعظم خطرها وتوافى الناس إليها من البعد والقرب والشرق والغرب متأملين لها متعجبين من مونق مرعاها ورونق سناها والتقى رجال برجال قد دخلوا البلدان واستبدلوا الأوطان وجالوا في الأمصار وجابوا في الأقطار فأقسم كل واحد منهم بجهد قسمه انه ما رأى لتمام محاسنها تماما ولا بئانق ما انتظمته مطالعها انتظاما ولا بعجيب ما تضمنه ايواؤها، ومنحته أفناؤها من النقوش السرية، والصنائع السنية التي لا يبلغها نقوش أهل الهند ولا تنتهيها نمنمة أهل الصين تدركها رقوم أهل رها، ولا تساميها دباسح تستر ولا يقارن بها وشي صنعاء ولو لم يكن لها إلا السطح المدد المشرف على الصحن الكبير والقبة وعجائب ما تضمنته من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرق وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون وذهب موضون، وعمد كأنها أفرغت في القوالب، أو أعيرت ملمس النضار الدلامس، ونقوش كقطع الحياض، وتشجير كألفات الرياض، يتسنم بين ذلك كله أنه سنام الدنيا، سلسل برود يفرغ أمامه من تماثيل عجيبة الأشخاص في خوابي رخام تهد الجبال ضخما ولا تهتدي الأوهام إلى سبيل الالفاء بها ولقد أخبرني الشيخ العالم القدوة شمس الدين الكركي قال بلغت زنة الرصاص الذي على سقف قبة الصخرة هذه ثلاثين ألف قنطار بالدمشقي وهو بالمومنى مائة ألف وعشرون ألف قنطار كاملة، وذكر عبد الملك بن حبيب رحمه الله أن عبد الملك بن مروان بنى القبة على الصخرة وجعل على الجانبة التي أعلا القبة ثمانية آلاف صفيحة من نحاس مطلية بالذهب في كل صفيحة سبعة مثقال وأفرغ على رأس الأعمدة مائة ألف مثقال ذهبا وفي وسطها مكتوب بالذهب في أرض سماوية لا زوردية على الدائرة ما نصه: - بسم الله الرحمن الرحيم - أمر بتجديد تذهيب هذه القبة الشريفة مولانا السلطان الملك الناصر العالم العادل المجاهد المؤيد من السماء ناصر الدنيا والدين محيي العدل في العالمين وظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه محرر ممالك الدنيا ومظهر كلمة الله العليا مشيد أركان الشريعة الشريفة، سلطان الإسلام الشهيد الملك المنصور قلاون تغمده ألله برحمته وذلك في شهور سنة ثمان عشرة وسبعمائة وتحت هذه القبة العجيبة الصخرة الشريفة التي هي كالجبل الراسي والطود العظيم معلقة وسط الفضاء بين الأرض والسماء لا صعودا ولا نزولا، إنما يمسكها الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وقد انصنع بهذه الصخرة الشريفة والبنيان الدائر بها نوع مغارة كبيرة تفضي إليها أدراج جملتها خمسة عشر درجا وفيها سطح مفروش بالرخام المجزع المختلف الألوان البديع الصنعة وهو موضع مبارك للصلاة، وفي الطرف القبلي من الصخرة الشريفة أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم يتبرك به الناس ويمرغون خدودهم فيه وقد طاف بالصخرة الشريفة شباك من العود، وبعده شباك آخر من الحديد، ثلاثة أبواب وبين الشباكين فضاء واسع للصلاة، وللقبة

ص: 48

المثمنة أربعة أبواب فالباب الجوفي منها يسمى باب الجنة وبأعلاه مكتوب بالخط الحسن هذا باب الجنة وبأعلى الباب الثاني منه لوح نحاس كبير مكتوب فيه بالنقش المحكم ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم لا شريك له الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، عبد الله ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون آمنا بالله وبما أنزل على محمد وبما أوتي النبئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، صلى الله عليه وسلم على محمد عبده ونبيه والسلام عليه ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، مما أمر به الإمام المأمون أمير المؤمنين أطال الله بقاءه في ولاية أخيه أمير المؤمنين أبي اسحاق أبن أمير المؤمنين الرشيد أبقاه الله وجرى على يده صالح بن يحيى مولى أمير المؤمنين في شهير ربيع الأخير سنة ست عشرة ومائتين، وأعلى الباب الثاني من الباب الشرقي لوح آخر من نحاس أيضا مكتوب هذا النص المذكور بجملته، وأمام باب الجنة المذكور قبة تغشى النواظر بشعاعها وتخطف الأبصار بالتماعها تسمى قبة السلسلة التي كان يحكم بها داوود عليه السلام وهي قبة عجيبة قامت على أسوار مختلفة وصناعة على الحسن مشتملة بوسطها تأريخان مكتوبان بالذهب أحدهما في أرض خضراء زرعية ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان، وكلا أتينا حكما وعلما، كمل تجديد بطن هذه القبة السلسة المباركة ونقش سقفها وتبليطها في شهور سنة ست وتسعين وخمسمائة، وفي الركن الغربي من هذا الصحن المرتفع المذكور مسجد فيه قبتان منتظمتان عجيبتان فيهما رسوم مذهبة وتواريخ مختلفة أقربها عهدا وهو ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلواته على خير خلق الله محمد وءاله وصحبه، أما بعد فما زلت همم ملوك الإسلام تناصر على إثبات مفاخر يبقى ذكرهم ببقائها وإنشاء محاسن يباهون الأمم ببهائها، فيحيون رسوما طالما نسجت عليها العناكب. ويرقمون على صفحات الأيام من الخيرات رقما تشرف إليه الكواكب فتظل عيون الأماني بمآثرهم قريرة وأعواد احبالهم بمفاخرهم مورقة نضيرة أعطاهم الله قدرة فصرفوها إلى رفع أقدارهم، وأتاهم الدنيا فلم يتركوها غفلا من محاسن ءاثاهم:

ص: 49

) فتراهم دون الرجام وذكرهم

باق بها فكأنهم أحياء (

فلله در فتى تبقى مساعيه بعده مشكورة، ومناقبه ما بقيت أثارهم مذكورة، ولما تشعث السقف الذي كان أنشأه الملك المعظم الواقف المذكور رحمه الله انتدب لإحيائه عبد الله الفقير إليه أسد الدين عبد القادر سبط الواقف بحكم ما إليه من النظر الشرعي في أوقاف جده فجدده وبذل وسعه وطاقته فيه ابتغاء مرضاة الله تعالى وكان الفراغ منه في ربيع الأخير سنة تسع وعشر وسبعمائة من الهجرة النبوية وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وفي الجهة الغربية ثلاث صوامع وأسم المأذنة أو المنار أحق من أسم الصومعة لأن الصومعة هي التي للراهب وهي بفتح الميم. وفي الجهة الغربية والجوفية قباب مختلفة تركت وصفها اختصارا، منها قبة الركن المشرقي الحافلة وقبة المعراج وقبة الميزان الرخامية وقبة موسى البديعة وقبة سليمان الرائقة وفي كل مسجد من تلك المساجد ومدرسة من تلك المدارس، وقبة من تلك القباب أمام عاكف به قائم عليه، ولقد عددت مواضع الاشفاع وصلاة التراويح بها في شهر رمضان المعظم فألفينا نحو الأربعين موضعا وفي الجهة الغربية من الصحن الكبير المثمن مدرسة عجيبة غريبة الشكل غزيرة المياه حافلة الصنعة بابها ملاصق لباب الحرم تسمى الذنقيدية. ويسكنها الصوفية وقد حف بها من الرسوم المذهبة العجيبة والخطب الأدبية الغربية والألفاظ البعيدة القريبة كل من أتى بالعجب، وسفر عن الحسن المنتخب ووجب ان كتب هناك بذوب الذهب، اخترت أخصرها ونقلت أيسرها، فكان الذي ارتضاه الاختيار واقتضاه الاختصار ما قيدته من مباح الطبقة العليا ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي رفع لبيت المقدس في سائر الملل ذكرا، وفضله على أكثر البقاع شرفا وفخرا، وجمع القلوب على محبته تعظيما لرتبته، وقدرا، وأسرى بخير خلقه إليه ثم أنزل عليه صلوات الله عليه، سبحان الذي أسرى، فيا بشرى لمن بنا لله فيه بيتا ولو كان شبرا، ويا أسعد من أسدى للناس فيه ثوابا وبرا، لقوله تعالى وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا، فأي خير أعظم من إنشاء هذا المكان وبناء هذا الايوان، الذي باب الرحمة مفتوحا بين يديه، والطور أمامه والشجر وتحت قدميه، والجامع الأقصى كالقمر ناظر إليه، والصخرة الشريفة كالشمس مقبلة عليه، وهو كالهلال قد ظهر بين الشمس والقمر.

ما الشمس ما البدر في لالاء بهجته

في كل ناحية من وجهه قمر

ص: 50

أرجو لبانيه، أن يعطي أمانيه، وأن يفوز من الملك الجليل بالعطاء الجزيل والثناء الجميل والظل الظليل وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا الطور المذكور جبل عظيم منه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء فيما يذكر، وهو بشرقي هذا الحرم العظيم فيه تلعة مباركة في أعلاها مسجد شريف حافل مؤسس بالسواري الحسنة الضخمة والرخام الأبيض الصافي والحجر المنجور الجافي يقصده الناس تبركا ودونه بيسير قبة مباركة يفضي إليها أدراج تحتها تربة الصالحة الولية رابعة العدوية رحمها الله تعالى ودونها على بعد قبة كبيرة مختلفة فيها تربة مريم عليها السلام تفضي إليها أدراج هابطة إلى التربة الكريمة عددت فيها ثمانية وأربعين درجة وفي هذه المدينة الكريمة بقاع طاهرة عليها بركات ظاهرة وبها قبور الأنبياء صلوات الله عليهم وأثارهم نفع الله بالقصد والنية في زيارتها برحمته وما هذا الذي ذكرت في وصف تلك المشاهد الشريفة الذكر، والمساجد العظيمة القدر، والمعاهد الكريمة الفخر إلا كالنقطة الواقعة في البحر، والذرة الساقطة في القفر، والشرارة من الجمر، ولما لاحت نيرات هذه الأنوار، وفاحت نسيمات تلك الأسحار، وشاهدت أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد إليها إلا الرحال وعاينت الحرم الشريف حقيقة قد أحلني لديه الترحال، اخترت مجاورته وأثرت ملازمته وقلت أين أذهب عن موطن مهبط الرحمة وموضع محشر الأمة، ومحل تفرج الكربة والغمة، حدثني الشيخ الفقيه القاضي شمس الدين عبد الله محمد بن سالم بن عبد الناصر الكنانى الغربي الشافعي قاضي مدينة بيت المقدس حرسها الله تعالى سماعا مني عليه بحرم المسجد الأقصى الشريف بقراءة شقيقه الشيخ الإمام الأوحد، علم الدين أبي الربيع سليمان وبقصد الرواية عنهما ومن أصلها نقلت، قالا حدثنا الشيخ الإمام المحدث علاء الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم ابن داوود العطار رحمه الله، قال الأول منهما، سماعا عليه في رجب سنة أربع وعشرين وسبعمائة وقال الثاني قراءة عليه في يوم الجمعة ثاني صفر سنة سبع عشرة وسبعمائة بدمشق المحروسة يرفعه إلى أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، والمسجد الأقصى، رواه البخاري ومسلم، ولمسلم قال نما يسافر إلى ثلاثة مساجد الكعبة ومسجدي ومسجد ايلياء وبهذا السند إلى أبي العطار يرفعه إلى ذي الأصابع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه، قال قلنا يا رسول الله أرأيت أن ابتلينا بالبقاء بعدك أين تأمرنا، فقال فعليك ببيت المقدس فعسى الله ان ينشئ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون، وبه انس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، من زار بيت المقدس محتسبا لله عز وجل حرم الله لحمه وجسمه على النار، وبه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أفضل صلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة وفي مسجدى ألف صلاة وفي بيت المقدس خمسمائة صلاة وبه عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله الصلاة هاهنا أفضل أم الصلاة في بيت المقدس، قال صلاة في مسجدي خير من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلي هو أرض المحشر والمنشر، وبه عن يزيد بن عبد الله رحمه الله قال من خرج إلى بيت المقدس بغير حاجة إلى الصلاة فيه فصلى فيه خمس صلوات صبحا وظهرا وعصرا ومغربا وعشاء خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه، وبه من أبى يزيد قال لما خلق الله بيت المقدس حزنت فقال لها الرب جل جلاله ما يحزنك، وقد سميتك من حبي باسمي أنا المقدس وأنت المقدسة قالت ربي فإذا فعلت هذا فمن أتاني فصلى في فتقبل منه، ومن سكنني فأرزقه، ومن مات في فاغفر له وارحمه، فقال لها الرب لك ما سألت وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله قد سال سليمان عليه السلام ربه أن من قصد هذا المسجد لا يعنيه إلا الصلاة فيه ألا تصرف بصرك عنه ما دام مقيما فيه حتى يخرج منه، وان تخرجه من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فأعطاه الله ذلك وقوله سبحانه الذي باركنا حوله، يعني بالماء والشجر وأقدام الأنبياء، كان كعب رضي الله عنه يقول بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا، ولو تتبعت الأحاديث المأثورة والأخبار لأملات وملأت ورويت ورويت هذا إلى ما أطلعه الله في ذلك الأفق المنير من بدور العلماء وامتنع من صدور

ص: 51

الأولياء الذين وردوا على طاهر تلك البقاع وقصدوا إلى العبادة فيها والانقطاع، فسن الله إلى البغية ولقيتهم أجمعين ورويت عنهم ولما كثر على تعدادهم وقل على نظراؤهم وأندادهم، انتقيت منهم هاهنا خمسة يتبرك بذكرهم وتعطر الاندية بشكرهم) فأولهم (في الحلبة ووأولاهم بالتقديم على هذه العصبة الشيخ الخطيب العالم زين الدين أبو البركات عبد الرحيم بن بدر الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم أبن أبي الفضل بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الشافعي سليل العلماء العالمين وقليل النظراء في عبادة الله الصالحين، تجلى من مراقب الفضائل والمعارف وتحلى بالمجد التليد والطارف قصرت الأوهام عند كنه فضله ونقصت الأحلام عن رجاحة عقله وعجزت الأقلام عن وصف مثله كنز من كنوز الكرم لا ينفذ على النفقة ولا يسئم من الصلة والصدقة من رجل ما زادته الرفعة إلا تواضعا عجبا، ولا أبقت له المعلومات في العجب أربا برع بأحسن صوره، ورفع من المجد ارفع سوره، وجمع جمال سمات وجمال سيرة زين به ذلك المسجد الشريف ومحرابه وعين للإمامة والخطابة فيه، وما بقل عذاره ولا كمل شبابه، فجلس على الكرسي الأكبر ورقى ذروة المنبر

لفو أن مشتاقا تكلف فوق ما

في وسعه لسعى إليه المنبر

خطة ورثها من الفاضل أبيه ورتبة ما برح يتوخى فيها السنن الرضى ويقتفيه، ولو لم يكن لديه إلا اقتفاء سير أسلافه الصالحين والرواية عنهم وعن والده قاضي القضاة بدر الدين رضي الله عنهم أجمعين، لقيته بالمسجد الأقصى عمره الله تعالى بالذكر وضاعف لمجاوره جزيل الأجر فأدخلني إلى منزله الكريم الذي التصق بابه بمحراب ذلك المسجد العظيم فرأيت منزلا جليل القدر سامي الخطر مكلل الجوانب مرصع الأرز، فذهلت في نقشه وخجلت من وطئ فرشه ثم ذكرت ما أعده الله تعالى لأوليائه في دار كرامته من النعيم المقيم وتلوت: قل ان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقد سفرت في زوايا مجالسه خدود الورد الغض، وتراكمت سحائبه بعضها فوق بعض، فعجبت من ظهوره في غير أيامه، وأكببت على انتشاقه والتثامه وذكرت به ما ذكره أبو الحسن جعفر بن الحاج اللورقي في كتاب مجد الشعر له وذلك أنه ورد الأديب أبو الحجاج يوسف بن هارون الرمادي رحمه الله على بني أرقم بمدينة وادي آش أهدي إليهم ورد في قمعه من مدينة بجانة أول ظهوره فأكب الرمادي عليه يقبله استشارا به وفرحا، ففهم المتعجب من فعله ذلك من حضر فأنشد ارتجالا:

يا خدود الحور في إخجالها

قد عرتها حمرة مكتسبة

اغتربنا، أنت من بجابة

وأنا مغترب من قرطبة

واجتمعنا عند اخوان صفا

بالندي أموالهم منتهبة

عصبة ان سئلت عن نسبة

فإلى أرقمها منتسبة

ان لثمي لك من بينهم

ليس فيه حالة مستغربة

لاجتماع في اغتراب بيننا

قبل المغترب المغتربة

ص: 52

فاستحسن رضي الله عنه ما ذكرته من ذلك، وأجزل صلتي مما حضر هناك، ولم أزل أتردد إليه واسمع منه، وأقرأ عليه حتى تحصلت لي منه جمل مفيدة، ومقيدات عديدة، ومما قرأت عليه بمنزله المذكور جميع الجزء الذي ألفه وخرجه عن شيوخه في أحاديث نبوية، وفوائد جمة، وجميع الجزء المسمى بتنقيح المناظرة، في تصحيح المخابرة، وجميع كتاب المنهل الروي في علوم الحديث النبوي، وهو اختصار كتاب ابن الصلاح رحمه الله تعالى، وجميع الخطب المختصرة من خطب ابن نباتة رحمه الله تعالى، ومما سمعت بلفظه بعض كتاب غرر التبيان لمن لم يسمع من القرآن، وبعض كتاب تجنيد الأجناد، في وجهات الجهاد، وبعض كتاب مستند الأجناد في آلات الجهاد، وكلها من تأليف والده سوى الجزء الأول، وتناولت ما لم يكمل لي سماعه عن يده المباركة وأخبرني بذلك سماعا عن المؤلف والده، المذكور وقرأت عليه وسمعت منه غيرها حسبما كتب لي لذلك وأجازني إجازة تامة. والثاني أعوذه بالمعوذتين والسبع المثاني الشيخ العالم الإمام الحافظ مفتي المسلمين صلاح الدين خليل بن كيكلدي بن عبد الله الملائي الشافعي الدمشقي نزيل بيت المقدس نفع الله تعالى به رجل من أكبر كبار المشرق. واستقبل بالإمامة في جميع فنون العلم ولما يشب له سواد المفرق، واستقر بالنيرين، نور علمه ونور جبينه المشرق، فجلى من حسن الصورة بما قصرت عنه مخدرات القصور، واتى من الشجاعة ما يرعد به مفارق ومفاصل الليث الهصور، ومنح من الكرم ما تخلى عنه أسخياء هذه الأزمة وكرماء هذه العصور، ولما أكمل تعالى عليه نعمته في كمال خلقته واعتدال قامته وبنيته أحب أن يزيد كمال حلاه البدنية، وصفاته بكمال نفسه السنية، وذاته البهية، فجمع في صدره ما تشتت من فنون العلم، وألقى عليه سكينة الوقار والتقى والحلم، والبس أديم الحسن ناعم ذلك الجسم، فلم تر عيني على عظيم ما رأيت من مخلوقات الله تبارك وتعالى رجلا أتم حسنا، ولا أكمل معنى، ولا أنبل تحصيلا، ولا أفضل جملة وتفضيلا، منه في صورته وسيرته وعمله، ولبسه وعقله وفضله، واعتداله وكماله وجزالته وبسالته وشجاعته وبراعته ودهائه وحيائه وحبائه وكرمه وكلمه وحفظه ولفظه وفصاحته وسماحته وذكائه ونباهته ونزاهته وعبادته وزهادته وورعه ودينه وإخلاصه ويقينه وحركاته وسكونه وتصرفاته في جميع فنونه.

لولا عجائب صنع الله ما ثبتت

تلك الفضائل في لحم ولا عصب

ص: 53

يمينا بئاياته السافرة، وآياته السائرة ان الأحبار لفي حيرة بإفادته كالمحابر والمنابر، بإجادته، وان أوضح الملفوظات ما تلقاه فألقاه، وأصح المحفوظات، ما أحرزه فأبرزه ببصيرته يحتدي البصري، وبكفايته يقتدي الكوفي وبنكتته يستصحب الصاحب وعلى إنشائه يعتمد ابن العميد، وأما الآثار فعليه مدارها ولديه ينفق عندرها وبنذارها. لا جرم إن ذا التحصيل والرأي الأصيل، من طاف بسدة سيادته، وجنح لمعلم علمه فاستعدي الرشاد والسداد واستملي المتن والإسناد ليسعد جده بالحمل على الجادة، ويتحقق في كل صورة ومادة، بين الصبح لذي عينين، وما قلت إلا بالذي علمت سعد، لقد حضرت مجالس تدريسه التي هي منتدى الإعلام، ومنتهى جهد الأسماء الأعلام، وميدان فرسان الطروس والأقلام، وقلائد أعناق مدارس الإسلام. فكان كل من حضرها من علماء الأمصار يحلف انه ما سمع بمثلها من مثله في هذه الإعصار، وان الله أخلصه بخالصة ذكرى الدار، وجعله من أولي الأيدي والأبصار ولقد حل أول شهر رمضان معتكفا بالمسجد الأعظم لالتزام الأوراد والأذكار، والتسبيح والاستغفار، فما كان يبرز منه إلا للإفطار، وقضاء ما خف من الاوطار، ولقد شاهدته بطول الشهر المذكور وقد اختص به واحتل بمنزله من طلبة العلم وغيرهم ما ينيف على الأربعين رجلا سوى عائلته والجميع من عنده يأكلون وإليه ينضمون ويأوون، فسألت ذلك فقيل لي ذلك دأبه وعادته في رمضان كل سنة على تعاقب الدهور والأزمنة. وهذه نبذ من عظام فضائله، ولمع من حسان فعائله، فلنقف عندها، وهي تدل على ما بعدها، ثم نذكر بعض ما سمعت من لفظه ونقلت من خطه أو حفظت فمن ذلك كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض رحمه الله تعالى سمعت جميعه من لفضه بالمسجد الأقصى الشريف وحدثني به بسنده المكتتب بخطه في إجازته لي وقرأت بلفظه جميع كتاب الشفاء هذا، وسمعته بلفظ غيري على جماعة كثيرة من أهل الأندلس غرب العدوة وأثبت سندهم فيه في برنامج روايتي وسمعت عليه بعض كتاب مسلم بن الحجاج رضي الله عنه وجميع الجزء الذي صنفه في تقرير الوحدانية لله تعالى، يشتمل على تفسير قوله تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، الآية. وجميع بغية الملتمس في عوالي حديث مالك أبن أنس من تخريجه أيضا وهو ستة أجزاء خرجها من كتاب الموطأ، وقرأت وسمعت عليه غير ذلك مما هو مثبت بخطه كذلك وله شعر رائق ونثر فائق اسمعني من ذلك جملة وأنشدني. ومن خطه نقلت لشيخه الإمام العلامة فريد دهره ووحيد عصره قس الفصاحة ملك البلاغة شهاب الدين أبن أبي الثناء محمود بن سليمان الحلبي كاتب السلطان بدمشق كل فريدة غيداء وحديقة غناء رائقة النظم والرصف فائقة الوسم والوصف مالكة القلب والطرف.

يقود عنان السمع حسن نشيدها

فتزري بالحان الغريض ومعبد

وأنا أول من جلب شعر شهاب الدين هذا فادخله بلاد المغرب وقصيدته اللامية الحافلة التي استوفت كثيرا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وهي من القصائد العجيبة والقلائد الغريبة أولها.

هذا اللقاء وما شفيت غليلا

كيف احتيالي ان عزمت رحيلا

يا دار من أهوى وحقك لم أجب

داعي التفرق لو وجدت سبيلا

وعددها مائة بيت وواحد وثمانون بيتا، وقال لي شيخي صلاح الدين رضي الله عنه قرأت وسمعت ذلك مع مجموع شعره عليه وأجازنيه، فمما أنشدني له على طريقة مهيار وكتب بها إلى محيي الدين أبن عبد الطاهر رضي الله عنه.

شام على الابرق برقا باديا

فأنشأت أجفانه الغواديا

وعاج بالركب وقد بدا له

برق الثنايا وكفاه هاديا

وساق بي العيش قطار دمعه

لما غدا له الزفير حاديا

ما لاح عن قرب مدى وإنما

قربه الشوق فكان نائيا

يا برق حق ما، رأى أم شوقه

أدنى له ما ليس منك دانيا

حن إلى ماء النقي ولم ينزل

إليه والماء كثير صاديا

يا حبذا ماء العذيب منهلا

وحبذا وادي الاثيل واديا

وحبذا من النسيم شمألا

فيه ومسرى رقة يمانيا

وحبذا والورق في غصونه

تدرس في أوراقها الاماليا

حيث ترى الادمع في رياضه

مستبقات والنسيم وانيا

ص: 54

والغصن الرطب وما أشبهه

بالطل أو بالدمع فيه حاليا

ترى الاقاح بالثغور ضاحكا

والغيث فيه كالجفون باكيا

وتحسب العشاق في عراصه

لولا الأنين الرمم البواليا

فكم حوى الظل نحولا مثله

لولا التهاب الوجد كان خافيا

وافاه معتل النسيم عائدا

وجاءه ورق الحمام راقيا

يا برق اذكيت بقلبي حرقة

منك فما شأن الحيا وشأنيا

جزت على دار الهوى فهل غدا

زندك في رى ثراها واريا

عار على دمعي إذا ضن الحيا

ان تعنذي أغصانها عواريا

إذ كرتني برق الثغور لائحا

فظل دمعي رائحا وغاديا

بالله ان جزت بأرض رامة

فصف وان لم يسألوك حاليا

وقل لهم خلفت في الحي لكم

ميتا قضى وما قضى إلا مانيا

أرخص فيكم دمعة كروحه

وكان كالصبر عزيزا غاليا

ومن حمى الوادي عريب أشرعوا

دون القدود مثلها عواليا

جاورت فيهم والندى شعارهم

فأطلقوا لي من دموعي جاريا

يا صاحبي قد ضاع قلبي فابكيا

عليه في ناديهم وناديا

واستخبروا السرب ولا تتهما

عليه في ذا الأعين الروانيا

فان أتى فحبذا وان أبى

أرسلت دون ناعييه ناعيا

بي منهم ظبي رنا فصادني

يفديه قلبي صائدا أورانيا

شاكي السلاح لا ترى بجفنه

في الحي إلا باكيا وشاكيا

يا صارما جفونه جفونه

فعلك أضحى في القلوب ماضيا

ويا قواما لحظه سنانه

اذكرتني الطعن وكنت ناسيا

ويا وشاحا ضم خصرا مثله

لا ترج مثلي من سقيم شافيا

ما لك والخلخال يشكو ربه

مثل الذي جلت عليه ظاميا

ويا جبينا ما انجلى صباحه

حتى طوى من فرعه لياليا

سامرت والأفلاك فيك مقتلي

دون النجوم الادمع الحواليا

كأنني والجو روض ناظر

بت لأسراب النجوم راعيا

كأنني في مدح محيي الدين قد

حاولت أن أنظمها قوافيا

وأنشدني له أيضا:

ما ضر من شفع الصدود ببعده

لو علل الكلف المشوق بوعده

أو لو شفاه بزورة بعد النوى

ليرى الذي فعل البعاد ببعد

ظبي من الأتراك خال باله

من حال ملئان الفؤاد بوجده

ريان من ماء الشباب إذا مشى

يثني الغصون على تثني قدره

ما كنت أشكو من قساوة قلبه

لو أنه أغرته رقة خده

أبكي ويضحكه التدلل عن سني

برد شفاء محبة في برده

وأمير حسن ناظري، والقلب من

أعوانه أبدا على وجنده

علما بان اللحظ منه صارم

عضب وما حذرا مواقع حده

لو زارني لفضضت ختم رضابه

وضممت ما ضمت معاقد بنده

وجنيت منه الروض غب سمائه

وجليت منه البدر ليلة سعده

ووردت من وجناته ورضابه

ما بغيتي في ورده أو ورده

وأجلت كفى من مجال نطاقه

في غورة وكففتها عن نجده

قالوا به سقم فقلت لعله

في جفنه أو خصره أو عهده

يا سالبي طيب الرقاد وإنما

أسفي على فقد الخيال لفقده

لولا انتظار الطيف يطرق في الكرى

ما راح دمعي سائلا من خده

وأنشدني له أيضا يعرض بالشيخ شمس الدين الايكي أحد المدرسين بدمشق وكان بلغه عنه أنه تنقص بالإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وذكره بسوء فانتصر له شهاب الدين أبو الثناء المذكور بهذه الأبيات:

بنت فبات الطيف لي مسعدا

يبيحني جنة خديك

وطالما حاولتها قبلة

فصد عنها سيف جفنيك

لو لم أخل حمام اللوى

في الأيك يغني عن رقيبيك

لفر نوما كان مثل الصبا

يعطف لي ان ملت بعطفيك

فلا راعي الله حمام اللوى

ولعنه الله على الايكى

وأنشدني له أيضا:

إذا ما بدا مسفرا ضاحكا

وقد ميلته الصبا والجنوب

فلاح الصباح وفاح الاقاح

وماس القضيب وماج الكثيب

ص: 55

والثالث أكبرهم سنا. وأكثرهم بالمعاني الأدبية معنى الشيخ الفقيه المحدث الأديب علاء الدين أبو الحسن علي بن أيوب بن منصور المقدسي الشافعي أبقى الله بركته شيخ النظم والنثر وإمام الحديث في ذلك القطر خطب حسناء الأدب سنين، وانعقد النكاح بينهما بالرفاء والبنين، واعتنى بالرواية فأخذ عن جلة من الشيوخ الغابرين قطع في ذلك زمنه، وأطار فيه وسنه ولم يثن لغير العلم همته، ولا جر في سواه رسنه، فروى وقيد وشيد من مباني العلم ما شيد، فهو اليوم وان قرب من الفوت رحلة هذا الوقت له سبلة منسدلة يروق ايماضها ويفوق السواد بياضها، على وقار وسكينة وجلالة مكينة وحصاة رزينة وهيئة زينت بأحسن زينة ينصب مجالسه المباركة لعلوم الحديث في القديم من الزمان والحديث، فيعلوها منه الصدق ويغتنمها لديه الخلق ويطرق إليها من أقاصي البلاد، فيلحق فيها الأصاغر بالأكابر والإباء بالأولاد، سمعت عليه بمجلسه من المسجد الأقصى الشريف جميع صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله عنه بعد أن كفت سمعت عليه جميع الثلاثيات المخرجة منه وحدثني به عن الشيخ الإمام تاج الدين أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري، وعن الشيخ الحافظ شرف الدين الحسين علي بن محمد بن أحمد اليونيني قراءة منه على كل واحد منها بجميعه بدمشق المحروسة قالا أخبرنا الشيخ الصدوق أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر المبارك بن محمد بن يحيى بن الزبيد أخبرنا الشيخ الثقة أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن الشجري أخبرنا الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن ابن محمد المظفر الداوردي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حموية السرخسي، أخبرنا أبو عبد الله البخاري، وقد كنت قرأت عليه بلفظه جميع صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري بالمسجد الأعظم من مدينة مالقة حرسها الله عام ثلاثة وعشرون وسبعمائة على الشيخ الخطيب الصالح الولي لله تعالى أبي عبد الله محمد بن أحمد الهاشمي الطنجالي، وسنده فيه مشهور لجودته، وسمعت على شيخي هذا بالمسجد الأقصى الشريف، جميع أحاديث الرباعيات المروية عن مسلم رضي الله عنه وجميع الجزء الذي فيه التساعيات من شيخه ابن البخاري، وجميع الجزء الذي فيه ثمانية وثمانون حديثا من مشيخته أيضا وجميع جزء الأنصاري وجميع الثمانية عشر حديثا وحديثين عن ثمانية عشر شيخا، وشيختين لأبن الطاهر، وأسانيد هذه الأجزاء كلها مستوفاة في برنامج روايتي، وسمعت عليه بحيث ذكر جميع قصيدته الرائيتين التين نظمهما في فضائل المسجد الأقصى شرفه الله تعالى، وأجازني بالإجازة التامة وكتب لي بخطه ومولده يؤخذ من قوله فيما كتب لي به في استدعاء وأنشدنيها بلفظه رضي الله عنه:

) أجازهم المسؤول فيه بشرطه

علي بن أيوب بن منصور بالقدس (

) ومولده ما بين ستين حجة

وسبعين بعد الستمائة بالحدس (

ورابعهم في التعداد، العديم الأقران والانداده، الشيخ الفقيه المقري الصالح شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي محمد بن مثبت الخولاني الأندلسي، أحد العباد الموفقين، والعباد المتقين، يذكرك سيرة السلف الصالح بعمله الموهوب، وعقله الراجح، ما تراه أو تلقاه إلا يروعك دينه وتقاه ولا تبصر مجلسه أو ممشاه إلا وتهابه وتخشاه اشتغل بما يعنيه، واشتمل دهره أما على علم ينجيه، أو إلى عمل يجنيه، قد عزل عن الناس نفسه وجعل بالله وبكتابه انسه، فليس له هم إلا في إقراء القرآن، وإيراده عند اغفاء الأجفان، أو في إطعام كبد جائع وإغاثة ملهوف مغترب شافع فهو مأوى الغرباء وجنان الفقراء ومظان قضاء حوائج الأخوان والأولياء:

قبلة في السماح يجتمع السا

بق في فضلها مع المسبوق

رحل عن الأندلس فتى غرا فجرعه البين كأسه مرا، والى هلم جرا يذكر أوطانه فتفيض دموعه حمرا ويهب له منها نسيم فيذكي ضلوعه جمرا، لا جرم أن الزمان أخذ بيده، فبلغه أسنى مقصده وانجزه أكرم موعده فوعى وفهم وعمل بما علم واستقاد وأفاد، ورزق المال والأولاد فهم الآن بذلك الحرم الشريف من خيار المدرسين وكبار الرؤساء لا المرءوسين، كثيرا ما كنت أحضر مجالسه العلية وفوائده العلمية ودوله الفقيهية والنحوية فاغبط من حضر والتقط الدرر:

وأمنح الطرس من ألفاظه نبذا

وأخلط العنبر الوردي بالعفر

ص: 56

ومما قصدت رواية لعلوه فيه، كتاب عوارف المعارف تأليف الإمام شهاب الدين أبي حفص السهرودي رحمه الله تعالى سمعت أكثره بلفظه وتناولته من يده فحدثني به عن الشيخ كمال الدين عمر بن الياس المرعني سماعا عليه بجمعيه حدثه به عن الشيخ الإمام قطب الدين أبي بكر بن محمد بن أحمد القسطلاني قراءة عليه عن المؤلف شهاب الدين المذكور سماعا عليه من لفظه أيضا، أكثر رسالة الشيخ أبي القاسم القشيري رحمه الله وناوليها، وحدثني بها عن الشيخ شهاب الدين أحمد أبن يحيى بن إسماعيل بن جهبل قراءة منه عليه لجميعها حدثه بها عن الشيخ شرف الدين بن هبة الله بن عساكر سماعا عليه عن الشيخ أبي محمد عبد الوهاب بن شاه الشاذا باخي سماعا، عن المؤلف المذكور وسمعت من لفظه جميع الأحاديث التي خرجها الشيخ الإمام فخر الدين أبو الحسن علي السعدي المقدسي الحنبلي، وحدثني بها عن الشيخ شهاب الدين بن أحمد بن جهبل المذكور، قراءة عليه حدثه بها عن مخرجها فخر الدين المذكور سماعا، قراءات وسمعت غير ذلك واجازني إجازة تامة وكتب لي بخطه) وأوترهم (بل أوثرهم بمسك الخاتم، وملك الكلام وخامس الأربعة الكرام، وحامل لواء البيان بين صناديد مصر وفحول الشام الشيخ الفقيه الأديب الابرع جمال الدين أبو بكر محمد بن محمد بن الحسن بن صالح بن علي بن يحيى بن طاهر بن عبد الرحيم بن نباتة المصنف صاحب الخطب الشهيرة أبرع خلق الله إذا نظم أو كتب ومن جمع الله له الأدب والحسب، ورحب في تلك الطباع، املح الانطباع وأمد الباع ان تغرل أو نسب، الذي مد أرض البلاغة ودخلها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، يستخرج بن بحره اللؤلؤ المنظوم والمنثور فيسحر الحور ويفتن الحور ويطمع المهارق ويؤيس النحور، فرفقا يا دره النفس ومهلا يا مرجانة المسطور، غازلت الغزلان، وبدرت البدور، وعلمتنا ننبذ المباسم وننسى الثغور فنحن في روضة مدبجة نخرج من زهرة إلى زهرة، ولما ملكه الله تعالى ملاك هذه الطريقة الأدبية وقوامها وحطت لديه هذه الصناعة السنية رحلها وزمامها ومدت له في الأدب غاية كبا دونها أهل الآداب، ورفعت له في الشعر راية مشى تحتها كثيرا من الشعراء والكتاب، تنافست ملوك الشام في لقائه وتهافتت على اصطفائه وارتقائه فخولته مقاصد وقصورا ووهبته ولدانا وحورا، وأنالته نعيما وملكا كبيرا، فانضوى إليهم زمانا، وتلقى منى وأمانا فزهت في يمنيه الاقام، ونهت وأمرت بين يديه الليالي والأيام:

ورف إليهم بنات النهى

فامهر نقدا ولم يخش نقدا

ونظمها بجبيين العلى

فزانت كما زين الجيد عقدا

خطب حسناء المعالي فلم يغفله المهر، ونهى وأمر فامتثل إليه النهى والأمر، وأنيل أمله النظم والنثر، وحلل سحرهما وقد حرم السحر، فقرط وشنف، ودبج وفوف، وألف وصنف، وعنى ببنات فكره القلوب ممن عنى، وعنف، وسحرتني ألفاظه، ولقد كنت بعيدا من أن أصاب بسحر، إلا أنه اليوم قد آثر الراحة من حراسهم وحجا بهم، واستغنى بباب الله عن الوقوف إلى أبوابهم، فما يطأ لهم ناديا، ولا يبلي منهم مناديا، بل اقبل ما يعنيه، وأعرض عما كان يتعبه ويعنيه، بهمة تشرق فهي الشمس أو تسمو إلى الغايات فهي زحل.

ص: 57

لقيته بحرم المقدس أتاه من دمشق زائرا، وخرج من بيته مهاجرا، وقد كان عرف أني في الطريقة من أنسابه وعلى الحقيقة من المتعلقين بأهدابه، فحين رآني أسرع في القيام، وبادر إلى اللقاء والى السلام، فخجلت من فعله وعجبت من فضله واستنشدني من شعري، فأنشدته لي ولغيري، وتحصل بيني وبينه ذمام أكيد، وعهد بفضل الله حميد، ثم سألته في تقييد شئ من شعره فأخرج لي ما ارتضاه منه واختاره في نسخة تغار عليها حبات القلوب إذا تبديها، وتود الاحداق إذا رمقتها لو تبديها فياضها بياضها وسوادها بسوادها، فاستعرتها منه، وكتبتها عنه فلما رمق ما كتبته احب اقتناءه تجديدا للعهد وحفظا للود فاستوهبه مني محتشما، وأسعفته فيه فقبله وقبلت ضاحكا مبتسما، ووهبني أصله وأكمل لدى طوله وفضله فأنا أول من جلب ذلك الدر النفيس من بحره، وتقلد في جيده ونحره، وفاز بشرفه وفخره ولما قرأت عليه أخذ القلم بمحضري وكتب على ظهر الأصل ما نصه) الله الموفق قرأ على الشيخ الإمام العالم الكامل الفريد أبو البقاء خالد البلوي الأندلسي شكر الله بره المغدق وأصله المعرق، وحرس شخصه الذي تقول المحاسن أطلعه الغرب فأرنا مثله يا مشرق أكثر هذا النبذ من شعري والرسالة من إنشائي قراءة ملأ بها سمعا وذهنا، واربح بها للشعر نقدا ووزنا، وفضها سبط حلى فهو أما يقلد عنقا وأما يقرظ أذنا واحكمها ببيانته وصوته، فما سمعت أطيب من حالته إعرابا ولحنا، وأجزت له روايتها وجميع ما تجوز لي روايته معترفا بفوائده الممتازة، عالما أنه كان يجب أن أجيز من الجائزة لا من الإجازة متطوقا عوارفه التي عز بها الجيد ولا كرامة للدر، ولا عزازة، ونحلته هذه النسخة. وسألته إصلاحها بعد أن تعرضت عنها بنسخة من خطه الذي يتنافس فيه البصر والسمع، وقطرات أقلامه التي إذا نافستها أقلام الفضلاء تولوا وأعينهم تفيض من الدمع والله تعالى يرحم أسلافه، ويبقى منه على كرمه الطاهر ما أبقى الكرم من السلافة قال ذلك وكتبه محمد بن الخطيب بن نباته العبشهي المصري ثم الشافعي وذلك في شوال سنة سبع وثلاثين وسبعمائة بحرمة القدس الشريف وهذا الذي أثبته من نثره يدلك على جلالة قدره وحفاوة بره وها أنا اثبت من نظمه ما يسمعك عجبا ويريك ألفاظه ياقوتا ولجينا وذهبا:

من كل بيت لو تدفق طبعه

ماء لغص به الفضاء مسيلا

وكل قصيدة للعقول مقصودة ومقطوعة، على الحسن مطبوعة، فمن ذلك قوله يمدح السلطان المؤبد صاحب حماة رحمه الله تعالى من قصيدة العينية:

سرى طيفها حيث العواذل هجع

فنم علينا نشره المتضوع

وبات يعاطيني الأحاديث في دجى

كأن الثريا فيه كاس مرصع

أجيراننا حيا الربيع دياركم

وإن لم يكن فيها لطرفي مربع

شكوت إلى سفح النقا طول نأيكم

وسفح النقا بالبين مثلي مروع

ولابد من شكوى إلى ذي مروءة

يواسيك أو يسليك أو يتوجع

فديت حبيبا قد خلا عنه ناظري

ولم يخل منه في فؤادي موضع

مقيم بأكناف الغضا وهي مهجة

وإلا بوادي المنحنا وهي أضلع

أطال حجاز الصد بيني وبينه

فمقلته حور ودمعي ينبع

لئن عارضت من دون زورته الفلا

فيا رب روض ضمنا فيه مجمع

محل ترى فيه جوامع نزهة

به تخطب الأطيار والقضب تركع

قرأنا به نحو الهنا فملابس

تجر وأيد بالمدامة ترفع

وقد أمنتنا دولة شادوية

فما نختشي اللاوى ولا نتخشع

وقال يمدح من قصيدة:

ملي الحسن حال المرشفين

متى يقضي، وعود الوصل ديني

أبثك عن عاد لي المعنى

رآك بعين حب مثل عيني

فحاكى قلبه قلبي خفوقا

وحكمك الهوى في الخافقين

لمثل هواك تجنح كل نفس

وتسفح كل ناظرة بعين

صددت فما الأسى عندي بقل

ولا دمعي بدون القلتين

بروحي عاطر الأنفاس ألمي

رشيق القد ساجي المقلتين

يهز مثقفا من معطفيه

ومن جفنيه يجذب مرهفين

له خالان في دينار خد

تباع له القلوب بحبتين

وحول نقا سوالفه عذار

كما شعرت نقوش في لجين

أظل إذا نظرت لوجنتيه

أنزه في النقا والرقمتين

فيا لله من غضن فريد

وفي خديه كلتا الجنتين

ص: 58

أما وحباب مبسمه المفدى

على معسول كأس المرشفين

لقد عذبت موارده ولكن

ندى المنصور أحلى الموردين

وقال أيضا:

وأغيد تعرف من جفنه

علامة التأنيث بالكسرة

أرخى على أعطافه شعره

قد جذبتني فيه للحسرة

فأعجب لمن جار عليه الضنى

حتى غذت تجذبه شعره

فقال يطلب الأذن:

ما يقوم المقام أيده الله

ولا زال للسعود يحوز

في ولى ببابه تركب الخلق

ووافى يجوز أم لا يجوز

وقال:

أهواه لدن القوام منعطفا

يسل من مقلتيه سيفين

وهبت قلبي له فقال عسى

نومك أيضا فقلت من عيني

وقال:

لله خال على خد حبيب له

في العاشقين كما شاء الهوى عبث

أورثته حبة القلب القتيل له

وكان عهدي ان الخال لا يرث

وقال أيضا:

بقلت وجنة المليح وقد ولى

زمان الصبا الذي كنت أملك

يا عذار المليح دعني فإني

لست في ذا الزمان من خل بقلك

وقال أيضا:

رأيت في جلق غزالا

تحار في حسنه العيون

فقلت ما الاسم قال موسى

قلت بذا تحلق الدقون

وقال أيضا:

أهواه معسول الرضاب منعما

ولكم يعذبني الهوى بمنعم

يا قلب هذا شعره وجفونه

صبرا على هذا السواد الأعظم

وقال:

لا ينكر الكاسر أجفانه

دم الشهيد الصابر المغرم

فالريح، ريح المسك في خده

كما ترى، واللون لون الدم

وقال:

علقتها غيداء حالية الطلا

تجني على عقل المحب وقلبه

بخلت بلؤلؤ ثغرها عن لاثم

فغدت مطوقة بما بخلت به

وقال:

بروحي معسول المراشف أغيد

كثير التجني ما أغر وما أغرا

تثنى قضييا فاح مسكا رنا طلا

سطا أسد، غنى حماما بدا بدرا

وقال:

وأغيد جارت في القلوب لحاظه

وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنى

أجل نظرا في حاجبيه ولحظه

تر السحر منه قاب قوسين أو أدنى

وقال:

وضعت سلاح الصبر عنه فما له

يقابل بالالحاظ من لا يقابله

وسأل عذار فوق خديه جائر

على مهجتي فليتق الله سائله

وحين ودعته تأسف للفراق وأعقب بإرسال دمعة المهراق وأنشدني وهو مما يجب أن يكتب على الاحداق لا على الأوراق فقالي لي:

أودعكم وأودعكم لقلبي

وعون الله حسبكم وحسبي

فقلت مرتجلا:

وأرعى حبكم ما دمت حيا

وأرجو فضلكم رعيا لحبي

ثم تألف بتلك المدينة الركب، واشتاق إلى البقاع الكريمة القلب فأعددت الزاد. وشددت الاقتاب والاقتاد، وخرجت من مدينة القدس الشريف. في عشي يوم الأربعاء الثاني عشر لشوال من العام المذكور. وقد تضمخ حبي الأصيل بالعبير، وكادت الشمس تسقط من الغرب على شفير، فبتنا بقرب سورها، وأخذنا من الأمور بميسورها، وودعت بمنزلنا ذلك أخي محمد المذكور المتقدم الذكر وداعا استولى على الفكر. فشغلت مقل بالدموع، وأكباد بالجمر، وطالت النوى لوجدان الأسى وعدم الصبر:

ومدت اكف للوداع وصافحت

وكادت عيون للفراق تسيل

ولا بد للألفين من دمع لوعة

إذا ما خليل بان منه خليل

ولما غاض نهر المجرة، وابتسمت أسنان الكواكب المفترة، سرنا إلى ان خيمنا بظلال روضات الغيور، وقد استل سيوف الجداول وترشح خمائل النور معدت حينئذ في صفة الشعراء:

وتحدث الماء الزلال مع الحصا

فجرى النسيم عليه يسمع ما جرا

وكأن فوق الماء وشيا ظاهرا

وكأن تحت الماء درا مضمرا

فترامينا على تلك المياه بين تلك الظلال مستقين وأنشدتهم لكتاب ميا فارقين:

وقانا وقدة الرمضاء ظل

وقاه مضاعف الظل العميم

يراعي الشمس أني قابلتنا

فيحجبها وبأذن للنسيم

وسقانا على ظمأ زلالا

الذمن المدام لنديم

تروع حصاه حالية الغواني

فتلمس جانب العقد النظيم

ص: 59

ثم عبرنا واديه الكبير، بعد أن لقينا الجهد الكثير، وسرنا سيرا مجدا، لم نأل فيه جهدا، إلى ان اجتمعتنا بالركب الصفدي بخارج حسبان. وصلناها والأصيل قد ولى، وعامل الضلال قد تولى، فبتنا جميعا بها ولم نفرق بين ظهور المطى وقتبها حتى عبث الابتسام بالوجوم، وفاض مهر المجرة على حصباء النجوم، فنهبنا أيدي المطى على سنة السكون وسرنا إلى أن وافينا مدينة) الكرك (المحروسة العيا، التي هي من امنع معقل، في الدنيا، فوصلنا إليها في ضحوة يوم الأحد الثالث والعشرين لشوال المذكور فرأيت مدينة عظيمة الجرم، سامية الرسم، كأنها على مرقب النجم. يحصر دونها الناظر ويقصر عنها العقاب الكاسر يكاد من علاها يعرف حوض الغمام، ويقف على همام السحاب والقتام، متناهية في الحصانة، موصوفة بالوثاقة، ممتنعة على الطلب والطلاب، مختصة بكقرة الحراس وشدة الحجاب منصوبة على أضيق المسالك وأوعر المناصب صماء عن الراقي، عالية على المرتقى نائية للمراقب لن تزدها الأيام إلا نبو أعطاف، واستصعاب جوانب وأطرف، فهو حمى لا يراع ومعقل لا يستطاع، كأن الأيام صافحتها على الإعفاء من الحوادث، والليالي عاهدتها على التسليم من القوارع ضخمة المأوى رحبة المثوى، معشوقة السكنى رائقة المغنى.

تحسب النجم في دجى الليل زهرا

في رباها وتحسب الزهر نجما

قد ساوت الفرقد بالوهاد والنجد، وفتحت أبوابها أنقابا في وسط الحجر الصلد، والعجب كل العجب أنها على بعد مرقاها، وسمو مرتقاها، قد اينعت في أعلاها الثمار وتفجرت منها العيون والأنهار فكلما هب فيها النسيم غردت الأطيار.

فهي لا تسئل الغما

م ولا تشتاق كالأرض كلها آذار

فنزلنا بخارجها في الثنية العلية، وقد وصل بوصلنا المحمل الدمشقي والمركب الحلبي وتألفت هنالك ركبان الشام وأعدت عدة السير لزيارة افضل الأنام عليه أتم الصلاة وأكمل السلام، ثم تجهز الركب الكركي للسير أولا على عادته الحسنة فتجهزت معه مبتغيا بركة التقدم والإسراع وقاصدا السبق أول وافد على تلك البقاع وخرجنا منها ضحوة يوم الاثنين من غد اليوم المذكور وهو اليوم الرابع والعشرون من شوال فسرنا في جيش كثيف وعدة تظاهر تحت أعلام فخمة وطبول هادرة، وأخذنا نجد السير ليلا ونهارا، ونصل السري اظلاما وأقمارا، ونقطع أرضا صحراء مخوفة القطع، جرداء كالنطع، سوداء مثل القطع، يخطي الدليل سمتها، ويضل السبيل عوجها وأمتها نخترق منها كل خرق وسبسب ونموذج فيها عند كل صباح وغيهب وتلك الجمال المباركة تمد أعناقها، وتحدق أحداقها، وتفري من الفيافي أزرارها وأطواقها، وتشكو إليها أسرارها وأشواقها، ويطربها الحداة فتبل دموعها محاجرها وآفاقها:

) تثنى إلى حداتها أعناقها

كأنها تأخذ عنهم خبرا (

والنوم قد طار عن الأجفان، وكاد يسير بكبد الظمئان اللهفان، ويسري لبيت الرسول من الزوار ولله من الضيفان فأول ماء وردناه من مياه تلك الصحراء كان يعرف بالحساء وهو ماء عذب زلال، حوله أسس وأطلال، تنبئ عن استصعاب أبد، واقتراب من عهد لبد، فبتنا فيه ليلتنا واروينا فيه غلتنا، وسرنا صباحا نجد السير، ونسرع إسراع الطير، لا تستقر بنا حرارة منزل، ولا نبيت بحمى إلا والكري عنا بمعزل، إلى ان وردناه ماء مغان وهو ماء كثير عذب نمير، فبتنا به وقد عزمنا على الرحلة وأتينا صدقاتها نحلة، ثم سرنا في قفر صفر، واقتحمنا صدر فلاة تروع كل سعادة:

ومهامه كالبحر لا أثرا

فيها لمفتقر ولا سنن

لو سار فيها النجم ضل بها

حيران لا شام ولا يمن

ص: 60

إلى أن وصلنا إلى تبوك التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلدها اليوم خراب، وعلى كل جدار غراب، فوردنا البير المبارك التي فاضت ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحنا بنزولها وسرحنا في ظل نخيلها ثم سرنا في مهامه تجمع بين النفس والجزع، وتتصيد عنقاء البسالة في شرك الفزع، إلى ان وصلنا إلى العلا بعد مدى بعيد، وعناء شديد، وهي بليدة ذات منظر جميل، كثير المياه والنخيل، وبينها وبين تبوك مسيرة ثمانية أيام، نهارا وليلا وهي مسافة لها مهابة ومخافة، تتعب فيها الركاب، وتفقد الرفقاء والصحاب: وتكابد الخطوب الصعاب، وقديما ضربت العامة بها مثلا فقالت: ترك أبوك بين العلا وتبوك، ثم رحلنا إلى العلا صباحا، وسرنا غدوا ورواحا، إلى أن وردنا بيرا يقال لها) بير الناقة (بقرب الموضع المعروف بمبرك الناقة. ويعنون بالناقة هاهنا ناقة النبي صالح صلى الله عليه وسلم فوافينا بجهد عظيم وعطش عميم، وهجير كأنما أرسل من نار الجحيم، فبتنا بها ثم أدلجنا منها، وتبلج الفجر ونحن نسير في مدن النبي صالح عليه السلام، فعاينت منها عجبا، بيوتا منحوتة من الصخر، ومجالس مكونة من الجبال لا تفنى إلى آخر الدهر، وغرفا معلقة في الهوا مأوى للنسر، وقصورا مقصورة على الوحوش والطير، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأدرك الناس العبر، وعاينوا منظرا لا تشرحه عبارة الخبرة، لا يخبر عنه إلا منظره، ولا يشفى من حديثه إلا محضره، وما عدا ذلك فنجم من سماء، ونقطة من ماء:

كما قابل الزند بركان نار

وحقف الثماد القليل بحار

ولم نزل نسير، وقد جد المسير وحمى الهجير، وعدم الماء، وتحكم العناء، وعم العطش والإعياء وكاد ان يستولي علينا الفناء:

ولذة جسمي ذلك الضنى

وراحة قلبي ذلك الألم

ولم تزل الحال كذلك حتى وردنا ماء هدبه فأغثنا به غلل الأكباد، وعادت الأرواح للأجساد، ولما شارفنا أرض هدية، تفاءلنا بأن تكون لنا هدية، وقصد عربان الفلا ان يتخذونا كاسمها ويجعلوننا في الدروس كرسمها، فضربوا على ذنب الركب في راس المضيق، وأذاقوه دون برد الماء بأطراف الأسنة عذاب الحريق، فآنبرى من الركب من صرفهم عن تلك النية وصافحهم بيد البلية، ثم حللنا عرى السفر، وحللنا بساحة هدية الظفر، فأحدقنا بها أحداق الهدب بالعين، وأطرنا بمختلس وصالها وغربان البين، واجتلينا منها عروسا قد مد بين يديها بساط الماء، وتوجت بالهلال وقرطت بالثريا ووشيت بنجوم السماء، وبتنا تلك الليلة مسرورين بالقرب مستبشرين، حامدين الله تعالى شاكرين مرتقبين لوشك الرحيل منتظرين:

طال الوقوف برسم الدار يا حادي

فمن عسى خبر من جانب الوادي

عرج بمنعرج الوادي لعل به

منهم شفاء لقلب الهائم الصادي

ثم ارتحلنا صبحا، وسرنا نتلقى نجحا، ولم نزل نفري الفلا ونجذب البرا، ونجد السير ونؤثر السرى، حتى بدت أعلام وادي القرى فدنا الأنس، وانشرحت النفس، ونسخ باليوم الأمس، كلما قيل غدا تدنو الدار، ويقرب المزار طربت على السماع، وترقبت الملتقى من ثنيات الوداع، وكفكفت العبرات، وتمثلت بهذه الأبيات:

قالوا غدا تدنو فوا حسرنا

لو كان بالعمر غدا يشترى

اسمع بالقرب ولكنني

لا تنطفي ناري حتى أرى

يا ليلة قد بقيت هل ترى

احمد في صبح رجالك السرى

وحين وصلنا إلى ثنية) المدينة النبوية الكريمة (علما ان لمشاركة اسمها استحقت الثنايا القبل، ولما انجلت عنه من بارقة اللقاء اتصف بها الاشتراك واتصل، فشاهدنا نورا خالف العادة إشراقه، وعز على ضوء النسرين لحاقه عرفته البصائر قبل الأبصار وأنكرته النواظر لعلو جوهر نزره على الأنوار، ففسحت لطرف طرفي في ذلك الأفق مجالا، وأرسلت دمعي سجالا ونظمت ارتجالا:

الله أكبر حبذا إكباره

لاح الهدى وبدت لنا أنواره

لاحت معالم يثرب وربوعها

مثوى الرسول وداره وقراره

هذا النخيل وطيبة ومحمد

خير الوري طرا وها أنا جاره

هذا المصلى والبقيع وهاهنا

ربع الحبيب وهذه آثاره

هذه منازله المقدسة التي

جبريل ردد بينها تكراره

هذه مواضع مهبط الوحي الذي

تشفى الصدور من العمى اسطاره

ص: 61

هذه مواطئ خير من وطئ الثرى

وعلا على السبع العلا استقراره

ملا الوجود حقيقة إشراقه

فأضاء منه ليله ونهاره

والروضة الفيحاء هب نسيمها

والبان بان ونم منه عراره

وتعطرت سلع فسل عن طيبها

لم لا تطيب وحولها مختاره

بشرك يا قلبي فقد نلت المنى

وبلغت ما تهوى وما تختاره

قد أمكن الوصل الذي أملته

وكذلك حبي أمكنت أسراره

قد كان عندي لوعة قبل اللقا

فالآن ضاعف لوعتي إبصاره

رفقا قليلا يا دموعي أقصري

فالدمع يحسن في الهوى اقصاره

قد كانت العين الكريمة في غنى

عن أن يفيض بتربها تياره

أيضيع من زار الحبيب وقد درى

ان المزور بباله زواره

أيخيب من قصد الكريم وعنده

حسن الرجاء شعاره ودثاره

أيؤم بابك مستقيل عاثر

فيرد عنك ولا تقال عثاره

حاشا وكلا أن تخيب آملا

فيعود صفرا خيبت أسفاره

يا سيد الإرسال ظهري مثقل

فعسى تخف بجاهكم أوقاره

رحماك فيمن أوبقته ذنوبه

فكأنما إقباله ادباره

ليس الصغار وقد تعاظم وزره

والعفو تصغر عنده أوزاره

شط المزار ولا قرار وشدما

يلقى محب شط عنك مزاره

وافي حماك يفر من زلاته

وإليك يا خير الأنام فراره

وأتاك يلتمس الشفاعة والرجا

اقتاده وظنونه أنصاره

والعبد معتذر ذليل خاضع

ومقصر قد طولت أعذاره

متسول قد أغرقته دموعه

متنصل قد أحرقته ناره

قدفت به في غربة أوطانه

ورمت به لعلائكم أوطاره

فأمنن وسامح واعف وأصحف واغتفر

فلانت ماح للخطأ غفاره

صلى عليك الله ما حيا الحيا

روض الربا وترنمت أطياره

ثم تحدرنا من الهضاب، وقذفتنا بطون الأودية من أفواه الشعاب ولاحت لنا الأنوار النبوية من تلك القباب وشرفنا الجباه بوطء ذلك التراب:

ولما رأينا ربع من لم يدع لنا

فؤادا لتذكار الديار ولالبا

نزلنا على الاكوار نمشي كرامة

لمن بان عنه ان نلم به ركبا

ومن آداب الزيارة إذا أشرف الزائر على المدينة أو على البيت أن يترجل ولما قدم الجوهري المدينة ترجل وجعل يقول:

رفع الحجاب لنا فلاح لناظري

قمر تقطع دونه الأوهام

وإذا المطى بنا بلغن محمدا

فظهورهن على الرحال حرام

قربتنا من خير من وطئ الثرا

فلها علينا حرمة وذمام

ومشى حتى بلغ إلى المسجد وهو ينشد:

هذه دراهم وأنت محب

ما احتباس الدموع في الاماق

والمغاني للصب فيها معان

فهي تدعى مصارع العشاق

حل عقد الدموع وأحلل رباها

وأهجر الصبر وآقض حق الفراق

ووصلنا إلى المدينة النبوية، المقدسة الشريفة المخصوصة بالصفحة الزهراء والتربة البيضاء، والبقعة المشرفة بمجد صلى الله عليه وسلم سيد الانبياء صلى اله عليه وسلم صلاة تتصل مع الأحيان والأناء، فنزلنا بها من ضحى يوم الخميس التاسع عشر لذي القعدة من العام المذكور ثم ابتدرنا إلى الحرم الشريف، والكرم قد فتح الباب ورفع الحجاب وملا بالبر الرحاب، فاستعظمنا الأقدام على المقام، وعجزنا عن أداء ما يجب من السلام فعبرت العبرات عن الكلام ووقفنا بين يدي ساكنه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فيا لها تحية أرق من النسيم إذا سرى وسلاما أندى على الأكباد من قطر الندى، والذي في الأجفان من سنة الكرى، وحين فزت بهذه النعمة فوزا عظيما، ودخلت مع تلك الفوحة مدخلا كريما، وثبت بعد الاستغفار بالتربة والرحمة لقوله تعالى ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله ثوابا رحيما، وأخذت في تلاوة القرآن المنزل عليه في حضرته ومثلت نفسي جالسا بين يديه الكريمة أعرض عليه درسي بعد استيذانه ومشورته، ثم ختمت الختمة بالدعاء، وأضرمت نيران الأشواق بماء البكاء، وهنأت نفسي ببلوغ المنى وزوال العناء:

وعفرت خدي في شدا ذلك الثرى

ومتعت طرفي بالحبيب ومسمعي

ص: 62

ثم أقبلت على ذلك الحرام الشريف. والمسجد الرفيع المنير، أتأمل محاسنه، وأتخيل فيه بين أصحابه الأبرار ساكنه، فمن أبدع ما رايته وأبرعه قصيدة فريدة كتبت بالخط المذهب الرائق البديع، وأثبتت في ألوان الأذهان التي تخجل زهر الربيع ورفعت أمام المقدسة في سقف المسجد الشريف الرفيع فنحلت القراطيس لؤلؤها، ونقلت كل ما كان قبلها وبعدها، وهاهي تسفر عن غرتها الواضحة، وتعبق عن نسمتها النافحة، وتشهد لناظمها بالقريحة الراجحة والعقيدة الصالحة: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم،

سلام كنشر الورد من مسقط الندا

عليك رسول الله يا منزل الهدى

ويا مهبط الأملاك والوحي لم تزل

أنيسا بزوراء الرسول ممجدا

ويا تربة المختار أفديك تربة

بنفسي وان كانت أقل من الفدا

ويا بيته حيا ومثواه ميتا

لك الفخر في حاليك بيتا ومشهدا

تضمنت أعضاء الرسول مبوءا

مهادا من الفردوس فيك ممهدا

سقى الله منك الترب أفضل ما سقى

وصلىعلى من حل فيك موسدا

فيا منزل الأبرار حييت منزلا

ويا مسجد الأبرار شرفت مسجدا

كأني أرى صحب النبي محمد

بأرجائك انبثوا ركوعا وسجدا

ففيك بدت من جنة الخلد روضة

تطوف بها الأملاك مثنى ومفردا

سلام من الرحمن يذكو أريجه

أخص به خير الامام محمدا

سلام ورضوان وروح ورحمة

على روحه ما راح ساع وما غدا

فيا خير أهل الأرض بيتا وعنصرا

وأشرف خلق الله نفسا ومحتدا

وأوسعهم خلقا وأزكى خلائقا

وأطيبهم خيما وأطيب مولدا

ويا صفوة الرحمن من خير خلقه

وأطولهم طولا وأعظم سؤددا

شهدت بأن الله لا رب غيره

وان رسول الله حقا محمدا

وأشهد أن الله أهداك رحمة

إلى خلقه وأختارك الله سيدا

فصلى عليك الله يا خير مرسل

ويا خير من بالمعجزات تفردا

وصلى عليك الله ما لاح بارق

وما ناح طير في الغضون مغردا

وصلي على الأبرار أهلك أنهم

بنورهم يأتم من قد تزهدا

هم القوم عنهم اذهب الرجس كله

وركب فيهم كل خير وأوجدا

وصلي على أصحابك الغر إنهم

نجوم بها ينجو غدا من بها اهتدى

صلاة الاهي والسلام مضاعف

على المصطفى المختار ما اتصل المدى

ص: 63

الهم أدم العز والتمكين والنصر والفتح المبين لعبدك المسكين، الذي أوليته أمور المسلمين واخترته على كثير من العالمين السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، وأبو المعالي محمد قسم أمير المؤمنين سلطان الإسلام والمسلمين، قاتل الكفرة والمشركين، قاهر الفجرة والمتمردين، حامي حوزة الدين، سلطان الديار المصرية والعراقية، والبلاد الشامية، ملك البحرين خادم الحرمين الشريفين، ولد السلطان المرحوم، الملك المنصور، سيف الدنيا والدين قلاون الصالحي أدام الله أيامه، ونشر في الخافقين رايته وأعلامه، وجعل السعد والإقبال حيثما توجد أمامه، وكان ابتداء العمل في شهر ربيع الأول، وانتهاؤه في جمادى مستهل الأخير سنة إحدى وسبعمائة للهجرة النبوية انتهى. والروضة المقدسة مع آخر الجهة القبلية من المسجد الشريف مما يلي الشرق، ولها خمسة أركان خمسة صفحات وشكلها عجيب، لا يكاد يتأتى تصويره لأحد ولا تمثيله، والصفحات الأربعة محرفة من القبلة تحريفا بديعا لا يتأتى لأحد استقبالها في صلاته، لأنه ينحرف عن القبلة وقيل أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اخترع في تدبير بنائها مخافة ان يتخذها الناس مصلى، وفي الصفحة الغربية منها صندوق من أبنوس مختم بالصندل مصفح بالفضة مكوكب بها هو قبالة رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وطوله خمسة أشبار وعرضه ثلاثة وارتفاعه أربعة أشبار، وفي الصفحة القبلية أمام وجه النبي صلى الله عليه وسلم مسمار فضة هو قبالة الوجه الكريم فيقف الناس أمامه للسلام عليه صلى الله عليه وسلم وإلى قدميه رأس أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورأس عمر الفاروق رضي الله عنه مما يلي كتفي أبي بكر رضي الله عنه فيقف المسلم مستدبر القبلة ومستقبل الوجه الكريم فيسلم ثم ينصرف إلى وجه أبي بكر، ثم إلى وجه عمر رضي الله عنهما، وأمام هذه الصفحة المكرمة نحو العشرين قنديلا معلقة من الفضة، وفيها اثنان من الذهب وتوقد كل ليلة مع غيرها من الشمع العظيم العجيب، فجميع سعة الروضة المباركة من جميع جهاتها مائة شبر واثنان وسبعون شبرا، مؤزرة بالرخام البديع النحت، الرائق النعت وينتهي منها إلى نحو الثلث والى حيز الرخام تنتهي الأستار من الديباج وهي لا زوردية اللون مختمة بخواتم بيض مثمنة ومربعة، ومنظرها منظر رائق بديع الشكل، والجدار المكرم قد علاه تضميخ المسلك والطيب متراكما عليه على طول الأزمنة وتعاقب الأيام، والذي يعلو مع علو الجدار شبابيك عود متصلة بالسمك الأعلى لان أعلى الروضة المقدسة متصل بسمك الجدار الشريف، وبين الروضة المقدسة والشبابيك المباركة مدى واسع، وللشبابيك أبواب مكتوبة على كل باب منها ما نصه) بسم الله الرحمن الرحيم خدم بهذه الدار بزينة للحرم الشريف مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين أبي الفتح بيبر الصالحي، قسيم أمير المؤمنين في سنة ثمان وستين وستمائة، وفي جوفي الروضة المقدسة حوض صغير مرخم في قبلته شكل محراب قيل انه كان بيت فاطمة رضي الله عنها وقيل أنه قبرها والله أعلم، وعن يمين الروضة المقدسة المنبر المبارك الذي قصر الصانعون عن صنعته ونبت الافهام عن مرام شبهه فقام في أدق نمنمة، وأوضح رقم من رفيع الأبنوس ونفيس الصندل الأحمر والأصفر والبقس واللبع والبقم والشوحط والقيقب بأحكم تصنيف وأبدع تركيب وما بينهما الروضة التي جاء فيها الحديث أنها من رياض الجنة فتزاحم الناس فيها للصلاة وحق لهم ذلك وبازاء الجهة القبيلة عود يقال أنه مطبق على بقية الجدع الذي حن للنبي صلى الله عليه وسلم وقطعة منه في وسط العمود ظاهرة يقبلها الناس ويتبركون بلمسها ومسح خدودهم فيها، وطول المسجد الكريم مائة وست وتسعون خطوة وسعته مائة وست وعشرون خطوة وهو بالذراع ثلاثمائة ذراع طولا ومائتان عرضا وتكسيره من المراجع المغربية أربعة وعشرون مرجعا، وعدد سواريه ثمانمائة وتحفة من جهاته الأربع بلاطات مستديرة به ووسطه كله مفروش بالحصا والرمل وفي صحنه قبة بيضاء كبيرة أمامها خمس عشرة نخلة نصف جدار القبة الأسفل رخام موضوع أزار على أزار مختلف الصنعة واللون مجزع أبدع تجزيع، والنصف الأعلى من الجدار منزل كله بالذهب قد أنتج الصناع فيه نتائج غريبة من الصنعة فيها تصاوير أشجار مختلفات الصنعة ماثلات الأغصان فيه بثمرها، والمسجد المكرم كله على تلك الضفة لكن الصنعة

ص: 64

في جدار القبلة أحفل والاحتفال في هذا المسجد المبارك أكثر من ان يأتي عليه الوصف وللمسجد الكريم أربعة أبواب كبار هي المفتوحة الآن في الغرب منها اثنان يسمى أحدها باب الرحمة والثاني باب الخشية وفي الشرق واثنان يعرف الواحد بباب جبريل عليه السلام، والثاني بباب الرخاء، ويقابل باب الرحمة مدرسة لم أر أحسن بناء منها ولا أبدع صنعة، ويقابل باب جبريل باب عثمان رضي الله عنه وهي التي استشهد بها وبازاء المقصورة لجهة الشرق خزانتان كبيرتان تحتوي على كتب ومصاحف موقفة على المسجد المبارك، ويخارجه لجهة الشرق دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبازائها دار عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودار ابنه عبد الله رضي الله عنه، وللحرم الشريف أربع صوامع في الأربعة الجوانب، وبظاهر المدينة الكريمة من جهة القبلة على ميلين اثنين منها مسجد قباء وهو مسجد حسن عدل التربيع مستوى الطول والعرض، ظاهر البركة كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه راكبا وماشيا، وروى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الصلاة في مسجد قباء كعمرة، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من توضأ فأحسن وضوءه ثم جاء مسجد قباء فركع فيه أربعة ركعات كان ذلك كعمرة على عمرة وفي وسطه مبرك الناقة بالنبي صلى الله عليه وسلم وعليه شبه روضة صغيرة يتبرك الناس بالصلاة فيه وفي صحته مما يلي القبلة شبه محراب على مصطبة هو موضع ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وبأعلى المحراب مكتوب ما نصه بسم الله الرحمن الرحيم لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق ان تقوم فيه، فيه رجال يحبون ان يتطهروا والله يحب المطهرين، هذا مقام النبي صلى الله عليه وسلم جدد هذا المسجد في تاريخ سنة إحدى وسبعين وستمائة وطول المسجد مائة وعشرون خطوة وعرضه كذلك وله باب واحد من جهة المغرب ومئذنته عالية جدا بيضاء تظهر على بعد، وأمام بابه بئر كبيرة عذبة معينة، يأتي الماء منها إلى المدينة، وفي قبلة المسجد دار أبى أيوب الأنصاري ويلي دار أبي أيوب وهي دار بني النجار دار عائشة وبازائها دار عمر ودار فاطمة ودار أبى بكر رضي الله عنهم، وقباء كانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة المكرمة والطريق أليها بين دائق النخيل المتصلة والنخيل يحدق بالمدينة وجهاتها كلها، وأعظمها نخلاً جهة القبلة وجهة الشرق وعند قفولنا من قباء. أتينا مسجد الفتح الذي أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم فيه صورة الفتح فتبركنا برؤيته وشفعنا ما شاء الله في بقعته، وبظاهر المدينة الكريمة من جهة الجوف على مقدار ثلاثة أميال منها جبل أحد وبه مشهد حمزة رضي الله عنه ومشاهد الشهداء بازائه وفي طريق أحد، مسجد علي رضي الله عنه ومسجد سليمان الفارسي رضي الله عنه، وبخارج المدينة الكبيرة من جهة الشرق بقيع الغرقد فأول ما يلقى الخارج من باب البقيع على يساره مشهد صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم أم الزبير بن العوام رضي الله عنهما وأمامه قبر مالك بن أنس رضي الله عنه وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء وأمامه قبر السلالة الطاهرة النبوية إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قبة بيضاء وبقربه عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن أبي جعفر الطيار رضي الله عنهم، وبأزائهم روضة فيها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم بأزائها روضة صغيرة فيها ثلاث من بنات النبي صلى الله عليه وسلم تليها روضة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي ورأس الحسن إلي رجلي العباس رضي الله عنهما وهي قبة كبيرة مرتفعة في الهواء والقبران مرتفعان عن الأرض متسعان مغشبان بألواح ملصقة أبدع إلصاق مرصعة بصفائح الصفر ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم بن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد ذي النورين رضي الله عنه، وعليه قبة كبيرة مختصرة عالية وعلى مقربة منه مشهد فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وعلى القبر مكتوب ما ضم قبر أم أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله عنهما وعن بنيها ومشاهد هذا البقيع المكرم أكثر من ان تحصى لأنه مدفن الجمهور من الصحابة المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من مات في أحد الحرمين حاجا أو معتمرا بعثه الله يوم القيامة لا حساب عليه ولا عذاب وفي طريق آخر بعث من الأمين يوم

ص: 65

القيامة وعن ابن عمر عنه عليه السلام من استطاع أن يمت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من جاءني زائرا لا يهمه إلا زيارتي كان حقا على الله سبحانه أن أكون له شفيعا، وروي عنه صلى الله عليه وسلم من زارني بعد وفاتي فكأنه زارني في حياتي.

وفي كتاب الشفاء لأبن سبع رحمه الله ان بعض العلماء قال ومما خص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الآيات الظاهرة والعلامات الزاهرة الشعاع الذي يرى فوق المدينة كالإكليل يتطاير من موضع لا يخفى على من يتأمله وهذه كرامة أفرد بها المدينة دون سائر البلدان. وللمدينة المكرمة أربعة أبواب وهي تحت سورين في كل سور باب يقابله باب آخر الواحد منها حديد كله ويعرف بباب الحديد ويليه باب الشريفة ثم باب القبلة ثم باب البقيع المذكور، وقبل سور المدينة من جهة الغرب بمقدار غلوة هو الخندق الشهير الذكر الذي صنعه النبي صلى الله عليه وسلم عند تحزب الأحزاب وبينه وبين المدينة المكرمة عن يمين الطريق العين المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم وعليها خلق عظيم وبنيان مستدير ومنبع العين وسطه كأنه الحوض المستطيل، وتحته سقايتان مستطيلتان باستطالة الخلق، فقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض المذكور جدار، فحصل الحوض محدقا بجدارين وهو يمد السقايتين المذكورتين ويهبط إليهما على أدراج عددها خمسة وعشرون درجا وماء هذه العين المباركة يعم أهل الأرض فضلا عن أهل المدينة، وللمدينة المكرمة سقاية ثالثة داخل باب الحديد يهبط إليها على أدراج وماءها معين وهو بمقربة من الحرم الكريم، والمدينة المكرمة في مستو من الأرض شريف نزيه وسماها عليه السلام طيبة لأن من توجه نحوها يجد رائحة طيبة على مسيرة أميال، والمدينة المكرمة متسعة الأرجاء مشرقة الأنحاء طيبة الهواء كثيرة النخيل والماء ممتدة التخطيط والاستواء حسنة الترتيب والبناء لم أر قط ولم أتنشق ءانق من رباها ولا أعبق من صباها ولا أمرع من روضها، ولا أمرح من أرضها ولا أصفى من جوها ولا أضوأ من ضوئها، ولا اشرق من نورها وأفتن من زهرها ولا ارق حاشية من أديمها ولا ألصق بنياط القلب من أرجها ونسيمها.

أحب الحما لأجل من سكن الحما

ومن أجل من فيها تحب المنازل

ص: 66

ولم أزل ألازم ذلك الحرم الشريف مساءا وصباحا وأتنعم في روضته الجنة غدوا ورواحا، وأرسل دمع اللقاء مدرارا، وأناجي الحبيب ليلا ونهارا، فتهب نفحات القبول من ذلك الجناب، وتنفح أرواح الرحمة فأجلى المحبوب من وراء حجاب، ويزدحم الناس على الروضة المقدسة فتتلقاهم جنات عدن مفتحة لهم الأبواب، وفي كل ليلة تتجدد لها من اللطائف والتحف، والطرائف والزلف، ما تقصر الألسن من نعتها، وما نرى من آية إلا وهي أكبر من أختها، وقد أثبت جميع ما سمعت، وجميع ما لقيت من ذلك الحرم النبوي الشريف في برنامج روايتي. وأكبر من لقيت به وأفضلهم وأعلمهم بالله تعالى وأزهدهم وأكملهم الشيخ الإمام الأوحد، ولى الله تعالى أبو محمد بن أسعد بن علي اليافعي، اليمني الشافعي، رضي الله عنه هو أجل العلماء العابدين وأفضل الأولياء الزاهدين، وأحفل الأدباء البلغاء الماجدين آثر الفقر عن الغنى، واختار الآخرة على الدنيا وتبدل من الجياد، بالوهاد، واعتاض من اللدونة بالخشونة فقطع العلائق، وهجر الخلائق، ورأى الدنيا ساعة فجعلها طاعة، وشمر للعبادة كل التشمير وبالغ في الزهادة حتى ما أبقى من فتيل ولا قطمير، فخرج من مواطنه إلى بلاد اليمن سائحا وانقطع لعبادة مولاه شابا صالحا، مفارقا للامرة، وهاجر دياره إلى دار الهجرة، فاشتهر علما وعقلا، واشتغل بالحق عن الخلق وكفى بالعبادة شغلا، واستنفذ في طاعة مولاه الجهد، واستشهد في دنياه الجهد، وآثر الرغبة عنا والزهد، وتسوغ صابها كما يتسوغ الشهد، وأطال في حنادسها السهد، وواصل الصيام والقيام حتى أفنى العظم والجلد، ولقد عاينته وقد الصق بالأرض الخد وأرسل دموعه حتى سقت الثرى والنجد، وعلا صياحه متأوها باكيا حتى كاد أن يبكي الحجر الصلد. فيرحمه من شاهدوه قد فني ويرتجي له الخلد. فاستقر بالحرم النبوي الشريف وقر في ذلك الجنات العالي المنيف، وقسم مجاورته الكريمة. بين الحرمين الشريفين مكة والمدينة فتارة يكون في جوار بيت الله، وتارة يسكن في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشرف وكرم. لم يزل على ذلك من سنين، فله من الحجج ما ينيف، على الخمسين، ما ملك زيادة على ستر عورته ولا علم أحد من أين يأتيه سد جوعته، وقد رفع العلم قدره، واحتقرت العين طمره، ولو اقسم على الله لأبره:

رب ذي طمرين نضو

يأمن العالم شره

لا يرى إلا غنيا

وهو لا يملك ذره

ثم لو اقسم في شيء

على الله أبره

لقيته بالحرم النبوي الشريف فسمعت منه، ورويت عنه، وظهرت لي بركة لقائه، وإجابة دعاءه. نفعنا الله به وبأوليائه وسمعت من لفظه كثيرا من تأليفه الذي سماه كتاب الإرشاد والتطريز. في فضل ذكر الله وتلاوة كتابه العزيز، وفضل الأولياء والناسكين والفقراء والمساكين، وهو تأليف بديع السلك، وأجازه لي وأذن لي في روايته عنه وأجازني إجازة تامة وأنشدني منه قصائد عديدة لنفسه، من ذلك قصيدة طويلة أحسن فيها ما شاء وأجاد وأولها.

قفي حدثينا من حديث الأحبة

وقد سكروا من كأس راح المحبة

وأقمار حسن قد تجلت ليجتلوا

عرائس أنوار عن الوصف جلت

ومن ذلك قصيدته التي أولها:

تركت هوى ليلى وسعدي بمعزل

وعدت إلى تصحيح أول منزل

ونادت بي الأشواق مهلا فهذه

منازل من تهوى رويدك فانزل

وأنشدني لنجم الدين الاصبهاني:

وقد أوطأت نعلي كل أرض

وقد أتعبت نفسي باغتراب

وقد طوفت في الأفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

ص: 67

ومن أعظمهم رياسة، وأكرمهم سيادة وسياسة، الشيخ العالم الرئيس جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف الخزجي المصري السعدي العبادي رضي الله عنه ذو المجادة والأصالة، والسيادة المأثورة والجزالة، والحفظ لرسوم العلم والجلالة، الذي علم بالوفد، وشهد بالرفد، وتبوأ بحبوحة المجد، وسار سيرة الصلحاء الأخيار وورث الأعمال البرة من أسلافه، وتقليل ذروة العز المكينة، وأشير إليه بالسمت والعدالة والسكينة، كبير الرؤساء، وأثير الكرماء، وعارض النعماء، وفاضل العلماء وكامل السؤدد والعلاء، عكف على إسماع الحديث وإقامة السنة، لقضاء أوطار أهل الاوطار، لا واهي الهمة ولا ضعيف المنه، لقي الصدور الأكابر، فوعى صدره علما كبيرا وسقى زلال الحكمة فأحيا الله به إنعاما واناسى كثيرة.

جزته جوازي الخير عنهم فانه

سقاهم بشؤبوب من العدل ساجم

فقد سار فيهم سيرة لم يسر بها

من الناس إلا مثل كعب وحاتم

لقيته بالحرم النبوي الشريف تجاه الروضة المقدسة، فسمعت عليه كثيرا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأربعين حديثا التي خرجها له الأمام الحافظ علم الدين البرزالى الدمشقي في كتاب الزيارة لأبي اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن عساكر، وحدثني بها عن أبي اليمن بن عساكر المذكور سماعا عليه، وأجازنيها مع جميع ما يحمله ويرويه إجازة تامة مطلقة عامة، ومولده في سنة ست وسبعين وستمائة وما برحت في ذلك الحرم النبوي الشريف في بلوغ سول، ومجاورة أكرم نبي، وافضل رسول، إلى أن وصلت الركبان الشامية التي كنا خلفنا خلفنا، فخرجنا بأثر وصولهم، وهبت علينا نفحات القبول والتكرم، والشوق في كل ذلك مكتنف ولا دمع إلا منذرف، ولا قلب إلا مختطف.

ولولا الترجي للمحبين لم تكن

قلوبهم يوم النوى تعمر الدرا

وكان خروجنا من المدينة الكريمة في ضحوة يوم الاثنين الثالث والعشرين لذي القعدة المذكورة وسرنا نكفكف أمطار الدموع، ونخلف المدينة الكريمة بالطرف الرامق والقلب الولوع، وقلبي يتوقف ويتخوف على اللحاق، ويتخلف عن الرفاق من فرق الفراق، بعد فرح التلاق فصارعت مرامه وأنشدت أمامه:

لله أي هوى برامه

حيث القلوب المستهامه

لم يبق قلب في الحمى

إلا وقد أعطى زمامه

بالله يا حادي القلوب

إذا رجعت مع السلامة

فاخدع فؤادي عله

يرعى لمنزله ذمامه

حتى انتهينا إلى ذي الحليفة وهي على خمسة أميال من المدينة أحرم من هناك أكثر الناس بالحج مفردين، وقارنين ومتمتعين فأحرمت منها بحجة مفرد، ومنها أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها هو حرم المدينة الكريمة إلى مشهد حمزة رضي الله عنه إلى) قبا (ثم سرنا ملبين راغبين لله تعالى مبتهلين، ولم نزل نسير في تلك الأودية وهجيرها يلفح. وزفيرها لا يكف عنا ولا يصفح إلى أن وافينا وادي الصفراء فنزلنا على نعيمه الذي به حييت الذماء، وان هو إلا الاسودان التمر والماء، وسرنا إلى أن نزلنا ببدر وهناك يجتمع من مصر والشام الطريقان، ويتألف منهما الفريقان. وبمنزلنا ذلك اجتمعنا مع الركب المصري والمحمل الآمري فروينا من عذب ذلك الماء، وزرنا مشاهد الصحابة الشهداء. ثم رحلنا إلى أن وردنا ماء) رابغ (بقرب الجحفة فأحرم هنالك من كان دون إحرام. وارتحلنا محرمين إلى بلد حرام. إلى أن وصلنا) خليص (فوردنا من ماءها النمير. وتزودنا تمورها الكثير، وارتحلنا إلى أن وصلنا إلى بطن) مرو (وقد أنسنا بدنو المرام. والاقتراب من بيت الله الحرام. فأدركنا في تلك الطريق الظلال بقية المقيل، وخيمنا بين متكاثف ذلك النخيل، وسرنا إلى أن وصلنا مكة شرفها الله تعالى فدخلناها من كداء الثنية التي بأعلاها في ضحوة يوم السبت الخامس لذي الحجة من العام المذكور. والأصوات تصافح الآذان بالتلبية، والألسنة تضج بالرغبى والأدعية فياله يوماً طرز به العمر وانشرح له الصدر، ووضع فيه الوزر وأجزل الثواب والأجر. فاعظم بحرمة حرمته وأكرم بمسائه وصحبته وأعبق بكافور غدوته، وزعفران عشيته، وعنبر ليلته، وفي ذلك يقول صاحبنا نجم الدين أبو الحسن علي بن داوود بن يحيى بن كامل الحنفي الدمشقي ونظمها قبل الوصول إلى الكعبة شرفها الله تعالى.

ليلة الوصل بالمليحة أهلا

بك يا غاية الأماني وسهلا

ص: 68

طال عمر الصدود دونك حتى

كدت اقضي أسى وأعدم عقلا

قد أشاب الفراق رأسي حتى

ظنني الناس في الشبيبة كهلا

يا ليالي الوصال لا صرم الدهر

لنا بعد ما بلغناك حبلا

كم بكيناك بالدموع اشتياقا

لا نبالي في ذلك لوما وعذلا

وركبنا نجائب السهر نطوي

من قفار الأفكار وعرا وسهلا

ولعمري جميع ذلك حلو

غير أن الوصال والله أحلا

يا جفوني لك الهناء تقضي

زمن البعد والجفا وتخلا

فتملى بما تمنيت هذا

ربع مي وهذه مي تجلا

فاجعلي دمعك المصون نثارا

فهو أعلى من اللئالي وأغلا

أترى هذه منازل مي

عن يقين وهذه مي أم لا

وهل الدهر جامع لمحب

بك يا حلوة الشمائل شملا

لا تلومي على الجهالة صبا

لا يرى غير شغله بك شغلا

كان قبل الهوى عزيزا فلما

ذاق طعم الهوى استكان وذلا

فغدا يبصر الشقاء نعيما

ويعد الملام في الحب جهلا

طاب يا ربة الستور سقامي

عندما طاب في هواك وجلا

وأذاب البعاد جسمي نحولا

وانقضى بالصدود عمري وولا

ثم زال الشقا وفزت بوصل

منك أعلى من الحياة محلا

وبلغت المنى فلست أبالي

أقبل الدهر بعد ذا أم تولى

وحين حمدنا السرى، ووصلنا إلى أم القرى وعلمنا أننا أضياف الله فدخلنا منه بأحسن القرى وتبدت لنا الكعبة الغراء في أستارها، وتجلت لنا المليحة في حلل أنوارها

وضعنا جباها في الثرى قد تهللت

أساريرها منها وزاد سرورها

وطفنا بها سبعا وزفت ظلالها

على خائف مثلي أتى يستجيرها

وحين وقع نظري عليها، ومثلت لديها، أنشدت مرتجلا بلسان الخضوع، وكتبت خجلا بماء الدموع.

الهي هذا البيت بيتك جئته

وعادة رب البيت أن يكرم الضيفا

فهب لي قرى فيه رضاك وأنني

من النار خوفي فلتؤمني الخوفا

وأخذنا نطوف طواف القدوم، ونعرف ما لنا من الكرامة بموجوده على المعدوم، وقضينا الانساك مهتدين في قضائها، مقتدين في شروع أدائها، وعدنا إلى البيت الحرام نطوف به ونستلم، وتقبل أركانه ونلتزم، ونصبر عند تقبيل الحجر على الاصطدام والاظطرام، نغتفر الزحام عند الورود على منهله والمنهل العذب كثير الزحام، ونستنزل الألطاف ونستلذ المقام بين الركن والمقام، ونشرب من ماء زمزم ما يروي الاوام، ويبري من السقام، والقلب يتشبت بأهداب تلك الخيام، ويوطن نفسه دون بقية الجسد على المقام، والطرف يذرف دموع المذنب الخاطئ، واللسان يردد لنجم الدين مهلل بن محمد الدمياطي:

يروق لي منظر البيت العتيق إذا

بدا لطرفي في الاصباح والطفل

كان حلته السوداء قد نسجت

من حبة القلب أو من أسود المقل

ص: 69

والبيت المكرم له أربعة أركان، وهو قريب من التربيع وذكر أن ارتفاعه في الهواء من السطح الذي يقابل الصفا وهو بين الحجر الأسود واليماني تسع وعشرون ذراعا وسائر الجوانب ثمان وعشرون بسبب انصباب السطح إلى الميزاب فأول أركانه الركن الذي فيه الحجر الأسود ومنه ابتداء الطواف ويتقهقر الطائف عنده قليلا كأنه يمس جميعه بيده والبيت المكرم عن يساره وأول ما يلقى بعده الركن العراقي وهو ناظر إلى جهة الشمال ثم الركن الشامي وهو ناظر إلى جهة المغرب ثم الركن اليماني وهو ناظر إلى حيز الجنوب ثم يعود إلى الركن الأسود وهو ناظر إلى جهة المشرق وعند ذلك يتم الطائف شوطا واحدا ومن الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى الركن العراقي أربعة وخمسون شبرا وذلك داخل الحجر، وأما من خارجه فمنه إليه أربعون خطوة وهي مائة وعشرون شبرا ومن خارجه يكون الطواف. ومن الركن الشامي إلى الركن اليماني ما من الأسود إلى العراقي لأنه الصفح الذي يقابله ومن اليماني إلى الأسود ما من العراقي إلى الشامي داخل الحجر لأنه الصفح الذي يقابله أيضا وباب البيت المكرم في الصفح الذي بين ركن الحجر الأسود بعشرة أشبار وذلك الموضع الذي بينهما من صفح البيت يسمى الملتزم وهو موضع استجاب الدعوة على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن الحجر الأسود إلى الأرض ستة أشبار فالطويل يتطامن لتقبيله والقصير يتطاول له والحجر الأسود مرأى بديع ورونق صقيل هو قيد الأبصار حسنا وفي وسطه مما يلي جانبه الذي على يمين المستلم له إذا وقف نقطة بيضاء صغيرة مشرقة تلوح كأنها خال في تلك الصفحة المباركة، وفي هذه الشامة البيضاء أثر أن النظر إليها يجلو البصر فيجب على المقبل أن يقصد بتقبيله من الشامة المباركة ما استطاع، وللحجر عند تقبيله لدونة ورطوبة يتنعم بها الفم حتى يود اللاثم أن لا يقلع فمه عنه فهو أعذب من رضاب الكعاب، وأشهى من شم العرب الاتراب، وتلك من خواص العناية الالاهية فيه، روى الترمذي عن أبن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنزل الحجر من الجنة أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم. وروى الترمذي أيضا من طريق عبد الله بن عمر ان الحجر الأسود والركن اليماني ياقوتان من الجنة ولولا ما طمس من نورها لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب، وفي رواية غيره ولا براء من أستلمها من الخرس والجذام والبرص ومن حديث أبن عباس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر والله ليبعثنه الله يوم القيامة به عينان يبصر بهما ولسان ينطق يشهد على من استلمه بحق وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت طائفا مع النبي صلى الله عليه وسلم بيت الله الحرام فقلت فذاك أبي وأمي ما هذا البيت. فقال يا علي أسس الله تعالى هذا البيت في دار الدنيا كفارة لذنوب أمتي. فقله: فذاك أبي وأمي يا رسول الله ما هذا الحجر الأسود. قال: تلك جوهرة كانت في الجنة أهبطها الله إلى الدنيا لها شعاع كشعاع الشمس فاشتد سوادها وتغير لونها مما مسها من أيدي المشركين.

وفي حديث آخر قال دحيت الأرض من مكة وأول من طاف بالبيت الملائكة وما من نبي هرب من قرية إلا هرب إلا الله بمكة يعبده بها حتى يموت وأن قبر نوح وهود وصالح وشعيب وإسماعيل فيما بين زمزم والمقام.

وفي حديث آخر أن حول الكعبة من قبور الأنبياء ثلاثمائة قبر نبي وان ما بين الركن اليماني والركن الأسود لقبور سبعين نبيا.

وروي عنه صلى الله عليه سلم أنه قال الركن يمين الله في الأرض يصافح بها عباده كما يصافح أحدكم أخاه وان الركن والمقام يأتيان يوم القيامة كل واحد منهما مثل أبي قبيس لهما عينان وشفتان يشهدان لمن وافاهما بالوفاء.

وروى صلى الله عليه سلم أنه قال ما أتيت الركن اليماني قط إلا وجدت جبريل عنده قائما يقول يا محمد أستلم.

ص: 70

وفي حديث آخر أنه قال ما أتيت الركن اليماني قط إلا وجدت عنده جبريل عليه السلام قائما يقول يا محمد استلم، وفي حديث آخر أنه قال ما أتيت الركن اليماني قط إلا وجدت عنده جبريل وهو يقول يا واحد يا ماجد لا تسلبني نعمة أنعمت بها علي، وفي حديث أبن عباس قال وقف جبريل عليه السلام وعليه عصابة خضراء قد علاها الغبار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الغبار الذي علا عصابتك أيها الروح الأمين قال ان الملائكة أمروا بزيارة هذا البيت فازدحمت على الركن فهذا الغبار الذي ترى ما تثير الملائكة بأجنحتها.

وروي أن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال ان الله عز وجل ينزل كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة على هذا البيت ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناضرين.) والباب الكريم (مرتفع من الأرض بأحد عشرا شبرا أو نصف وهو من فصة مذهبة الصنعة رائق الصفة يستوقف الأبصار حسنا وخشوعا للمهابة التي كسا الله بيته وعضادته كذلك والعتبة العليا كذلك وعلى رأسها لوح ذهب خالص إبريز في سعته مقدار شبرين وللباب نقرتا فضة كبيرة تان يتعلق عليها قفل الباب وهو ناظر للشرق وسعته ثمانية أشبار وطوله ثلاثة عشر شبرا وغلظ الحائط الذي ينطوي عليه الباب خمسة أشبار وداخل البيت المكرم مفروش بالرخام المجزع وحياطنه كلها رخام مجزع قد قام على ثلاثة أعمدة من الساج مفرطة الطول متوسطة فيه وبين الأعمدة أقواس من الفضة عددها ثلاثة عشر، واحدها من ذهب خالص وظاهر البيت كله من الأربعة الجوانب مكسو ستورا من الحرير الأكحل وفي أعلاها رسم بالحرير الأبيض فيه مكتوب:) ان أول بيت وضع الناس الذي ببكة مباركا وهدي للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فان الله غني عن العالمين (، واسم الخليفة الإمام وفي سعته قدر ثلاثة أذرع يطيف بها كلها قد شكل في هذه الستور من الصنعة الغريبة أشكال محاريب رائقة ورسوم مقروة مرسومة بذكر الله تعالى وبالدعاء للإمام العباسي الآمر بإقامتها وعدد الستور من الجوانب الأربعة أربعة وثلاثون سترا، وقد وصلت كلها فجاءت كأنها ستر واحد يعم الجوانب الأربعة محيطة الأعلى والأسفل وثيقة العرى والأزرار لا تخلع إلا من عام إلى عام عند تجديدها، فسبحان من خلد لهذا البيت الكريم الشرف إلى يوم القيامة) والبيت العتيق (مبني بالحجارة الكبار الصم قد رص بعضها على بعض وألصقت بالعقد الوثيق إلصاقا لا تحيله الأيام ولا تفصمه الأزمان وله خمسة مضاو عليها زجاج عراقي بديع النقش وفيه باب يسمى باب الرحمة يصعد منه إلى سطح البيت الكريم داخله الأدراج ولمعاينة البيت الكريم هول يشعر النفوس الذهول، ويطيش الأفئدة والعقول، فلا تبصر إلا لحظات خاشعة وعبرات هامعة وألسنة إلى الله تعالى داعية ضارعة لا يمل النظر إليه ولا يسأم الطواف به، ولا يبرح التلفت له، ولا تزال القلوب مشغوفة بحبه إذا غابت عنه أبدا) هذا البيت المكرم (وهو عروس الفلك الأرضي، واقتضى النص أنه أول موضع للناس.

وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع الناس فقال المسجد الحرام ثم بيت المقدس وسئل كم بين وضعهما فقال أربعون سنة وفي الخبر أول ما خلق الله القلم وأول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام وأول جبل وضع في الأرض أبو قيبس وقيل ان وقيل ان أول من بناه في الأرض آدم عليه السلام ولما أهبط من الجنة قالت له الملائكة طف حول هذا البيت فقد طفنا به قبلك بألفين ودحيت الأرض من تحته، وقيل أول من بناه إبراهيم عليه السلام ثمن بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبنته قريش.

ص: 71

وروى أبو هريرة قال: كانت الكعبة زبدة بيضاء على وجه الماء عليها ملكان يسبحان الله تعالى قبل خلق الأرض بألفي سنة وسئل علي رضي الله عنه عن أول بيت وضع في الأرض فقال له انه كان قبل هذا البيت بيوت كثيرة ولكنه أول بيت وضع الناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة، وقد ورد في الآثار ان إبراهيم عليه السلام لما بنى الكعبة أمره الله سبحانه أن يقف على جبل من جبال الأرض وأحيا له الأولين والآخرين إلى يوم القيامة وأمره أن ينادي في الناس ان ربكم بنى بيتا فحجوه فأجابه كل من سبق القضاء بحجه وأحياهم حتى سمعوا خطابه وهو أحد الاحياءات الخمسة التي يتطور فيها الآدمي وينام فيها وقيل أنه كان من موضعه بيت فرفع إلى السماء الرابعة فالملائكة تطوف به في السماوات كالبيت الذي بمكة، وقد صح في الشريعة وتواتر أنه أحب بقاع الأرض إلى الله وإنما سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة وتقطعهم وقيل لأن الناس يتبكون فيها أي يزدحمون في أيام الحجيج وبكة ومكة اسمان على مسمى واحد وقيل مكة البلد وبكة موضوع المسجد والصحيح هو الأول والمراد من الوضع المذكور في الآية الكريمة أن الله سبحانه وضعه متعبدا للناس وقبلة لهم تنبيها على تخصيصه وتشريفه ووصفه بالبركة ظاهر لأنه يحمل لمن حجه أو اعتمره الخير والزيادة التامة وتكفير الذنوب والآيات التي فيه هي مقام إبراهيم وأمن من دخله، وأثر القدم في الصخرة الصماء وغوصه فيها إلى الكعبين. . .

ص: 72

وإثباته إلى الآن مع ذهاب سائر آيات الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه كما قال تعالى ويتخطف الناس من حولهم) وورد في الأثر (أنه لما أرتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة وقام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه، ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قال مرحبا بك من بيت ما أعظمك وأعظم حرمتك. وفي الحديث عنه عليه السلام ما من أحد يدعو الله عند الركن الأسود إلا استجاب الله له، وكذلك عند الميزاب وعنه عليه السلام من صلى خلف المقام ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وحشر يوم القيامة من الآمنين، ومن آيات البيت العتيق أنه قائم وسط الحرم الشريف كالبرج المشيد وله التنزيه الأعلى، وحمام الحرام لا تحصى كثرة وهي من الأمن بحيث يضرب المثل بها ولا سبيل أن تنزل بسطحه الأعلى حمامه ولا تحل بوجه ولا على حال فترى الحمام يتخلل على الحرم كله فإذا قربت من البيت عرجت عنه يمينا أو شمالا والطيور سواها كذلك وفي أخبار مكة أنه لا ينزل عليها طائر إلا عند مرض يصيبه فأما يموت لحينه أو يبرأ فسبحان من أورثه التشريف والتكريم، ومن آياته أيضا أن بابه الكريم يفتح في أيام معلومة والحرم قد غص بالخلق فيدخله الجميع ولا يضيق عنهم بقدرة الله عز وجل ولله الآيات البينات البراهين المعجزات. سبحانه وتعالى: ومن عجائب اعتناء الله تبارك وتعالى به أنه لا يخلو من الطائفين ساعة في النهار ولا وقتا من ليل فلا تجد من يخبر أنه رءاه دون طائف به فسبحان من كرمه وعظمه، وموضوع الطواف مفروش بالرخام البديع وقد اتسع عن البيت بمقدار تسع خطى وسائر الحرم مع البلاطات كلها مفروش برمل أبيض، وطواف النساء في آخر الرخام المفروش، وقد جدد ترصيعه ونمق تنميقا بديعا فيه تواريخ مرسومة ومنها ما نصه) بسم الله الرحمن الرحيم أمر بعمارة المطاف الشريف سيدنا ومولانا الإمام الأعظم، المفروض الطاعة على سائر الأمم أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، بلغه الله آماله، وزين بالصالحات أعماله، وذلك في شهر وسنة إحدى وثلاثين وستمائة وصلى الله على سيدنا محمد وآله) والحجر (من الركن العراقي إلى الركن الشامي يقابل الصفح الذي فيه الميزاب، وفي ارتفاع جدار الحجر ستة أشبار، وسمكه أربعة أشبار ونصف وداخل الحجر مفروش بالرخام المجزع المقطع في دور الكف إلى دور الدينار إلى ما فوق ذلك ودونه. ثم الصق بانتظام بديع وتأليف عجيب معجز الصنعة غريب الإتقان رائع الترصيع والتجزيع وفي صحن الحجر بمقربة من جدار البيت المكرم قبر إسماعيل عليه السلام، وإلى جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر رضي الله عنها، والميزاب في أعلى الصفح الذي على الحجر المذكور من صفر مذهب يغشى الأبصار، وقد خرج عن صفح البيت بمقدار أربعة أذرع وسعته مقدار شبر، وهذا الموضع تحت الميزاب، وهو أيضا مظنة استجابة الدعوة) بفضل الله تعالى (وموضوع المقام الكريم وهو الذي يصلي خلفه يقابل ما بين الباب الكريم والركن العراقي، وعليه قبة خشب مركنة محدودة بديعة النقش، قد نصبت على الموضع الذي كان فيه المقام وبازاء المقام الكريم منبران كبيران حسنان فيهما ضروب من قطع الخشب الملون المتخير المنتقي المستجاد، والجديد منها منقش من جميع جهاته ووجوه درجه وتاجه المذهب بأبدع نقش وأحدقه، وصنائعه مقسومة على تصنيف وتشجير منطبعة كانطباع نسيج الديباج الهاشمي واليوسفي في الاعتدال والرونق مسمر بمسامير الفضة الخالصة المذهبة، مقضب بصفائح الفضة المرفشة منقوش عليه برسم الذهب ما نصه:) مما عمل برسم الحرم الشريف في شهور سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة (.

ص: 73

ومن فضائل البيت الشريف ما خصه الله تعالى به من بئر زمزم وما جعله الله في هذا الماء. ومن الفوائد والمنافع لكل ما شرب له فمن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء زمزم لما شرب له ومنها ما رواه ابن العباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق، ومنها ما رواه الضحاك بن مزاحم قال: بلغني ان التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق وان ماءها يذهب بالحمى والصداع وان الاطلاع فيها يجلو البصر وانه سيأتي عليها زمان تكون فيه أعذب من النيل والفرات وقبة بير زمزم تقابل الركن الأسود، ومنها إليه أربعة وعشرون خطوة وداخلها مفروش بالرخام الأبيض الناصع البياض) وتنور البير (المباركة في وسطها وهو من رخام قد ألصق إلصاقا لا تحيله الأيام وقد حف به من أعمدة الرصاص الملصقة إبلاغا قي قوة لزه ورصة اثنان وثلاثون عمودا قد خرجت لها رؤوس قابضة على حافة البير دائرة بالتنور كله ودوره أربعون شبرا وارتفاعه أربعة أشبار ونصف وغلظة شبر ونصف وقد استدارت بداخل القبة سقاية لملأ ماء للوضوء وحولها مصطبة دائرة يرتفع الناس إليها ويتوضئون عليها وفي ماء زمزم أمر عجيب وذلك أنه إذا شرب عند خروجه من قراراته يوجد حاسة الذوق كاللبن عند خروجه من الضرع دفيئا وهو لما شرب له، وإذا صب منه من يجد إعياء أو كسلا من أمر متعب للبدن وجد الراحة والنشاط عليه وبظاهر جدار القبلة المباركة مكتوب بالخط الرائق المذهب ما نصه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم غفر الله له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت تقبل الله ممن عمل بهذا الحديث، ودعا لمن أسس هذه السنة الحسنة من هذا الحرم الشريف في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.

ص: 74

وتلي قبلة بير زمزم من ورائها قبة الشراب وهي المنسوبة للعباس رضي الله عنه لأنها كانت سقاية الحاج، وهي كذلك له لان فيها يبرد ماء زمزم وتلي هذه القبة العباسية على انحراف عنها قبة أخرى وهاتان القبتان مخزنان لأوقاف البيت الكريم من مصاحف وكتب وشمع وغير ذلك والمسجد الحرام تطيفه به من جهاته الأربع ثلاث بلاطات على ثلاث سوار من الرخام منتظمة كأنها بلاط واحد، ذرعها في الطول أربعمائة ذراع وفي العرض ثلاثمائة ذراع فيكون تكسيره محققا ثمانية وأربعين مرجعا وعدد سواريه الرخامية أربعمائة سارية وأربع وثمانون سارية حاشا الجبصية التي منها في دار الندوة وعند باب إبراهيم.) وللحرم الشريف (أربعة أئمة وكل واحد من الأئمة الأربعة صلاته تحت حطيم له مصنوع من الخشب البديع النجارة، فالمالكية تصلي قبالة الركن اليماني، والشافعية خلف المقام والحنفية قبالة الميزاب في البلاد الآخذ من المغرب إلى الجنوب والحنبلية تقابل ما بين الحجر الأسود والركن اليماني في البلاط الآخذ من المغرب إلى الشمال. ويطيف بهذه المواضع كلها دائر البيت العتيق وعلى بعد منه يسيرا مشاعيل توقد في صحاف من حديد فوق خشب مركوزة فيتقد الحرم الشريف كله نورا، وتوضع بين أيدي الأئمة في محاريبهم وللحرم الشريف سبع صوامع أربع في الأربعة الجوانب وواحد في دار الندوة، وأخرى على باب الصفا وأخرى على باب إبراهيم وللحرم الشريف نيف وأربعون لها أسماء منها باب القائد ويسمى أيضا باب الخياطين وباب العباس رضي الله عنه وباب علي رضي الله عنه وباب بني شبية وباب الرباط وباب الندوة وباب دار المجلة وباب السدة وباب العمرة وباب إبراهيم عليه السلام وباب جزورة وباب جياد وباب غزوة، ومن باب الصفا إلى باب الصفا ست وسبعون خطوة والصفا أربعة عشر درجا، وهو على ثلاثة أقواس مشرفة والدرجة العليا متسعة كأنها مصطبة وقد أحدقت به الديار وفي سعته سبع عشر خطوة، والميل سارية خضراء وهي خضرة صياغية وهي إلى ركن الصومعة التي على الركن الشرقي من الحرم الشريف وفيها يرمل في السعي إلى الملين الأخضرين، وهما أيضا ساريتان خضراوان على الصفة المذكورة الواحدة منهما بازاء باب علي رضي الله عنه في جدار الحرم الشريف وعن يسار الخارج من الباب والميل الآخر يقابله في جدار دار وعلى كل واحد مهما بازاء لوح قد وضع على رأس السارية كالتاج المنقوش فيه برسم مذهب " ان الصفا والمرة من شعائر الله ") الآية (، وبعدها أمر بعمارة هذا الميل عبد الله وخليفته أبو محمد المستضيئ بأمر الله أمير المؤمنين أعز الله نصره، سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. فجميع خطا الساعي من الصفا إلى المروة أربعمائة خطوة وثلاث وتسعون خطوة، وأدراج المروة خمسة وهي بقوس واحد كبير، وسعته سعة الصفا سبع عشرة خطوة والخطوة ثلاثة أقدام، وما بين الصفا والمروة) مسيل (هو اليوم سوق حافلة بجميع الفواكه وغيرها من الحبوب والمبيعات وغيرها. ومكة شرفها الله تعالى هي بلدة قد وضعها الله تعالى بين جبال محدقة بها وهي بطن واد مقدس كبيرة مستطيلة تسع من الخلائق عددا لا يحصيهم إلا الله عز وجل وهي البلد المباركة التي سبقت لها ولأهلها الدعوة الخليلية الإبراهيمية، قال الله عز وجل:" أو لم حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء " فبرهان ذلك فيها ظاهر إلى يوم القيامة، وذلك أن أفئدة الناس تهوى إليها من الأصقاع النائية، والأقطار الشاحطة، فالطريق إليها ملتقى الصادر والوارد ممن بلغته الدعوة المباركة والثمرات تجبى إليها من كل مكان، فهي أكثر البلاد نعما وفواكه ومنافع ومرافق ومتاجر، ولو لم يكن لها من المتاجر إلا أوان الموسم، ففيه مجتمع أهل المشرق والمغرب فيباع فيها في يوم واحد فضلا عما يتبعه من الأيام من البر إلى الدر، ومن الذخائر النفيسة كالجواهر والياقوت وسائر الأحجار من أنواع الطيب كالمسك والكافور والعنبر والعقاقير الهندية إلى غير ذلك من جلب الهند والحبشة إلى الأمتعة العراقية واليمانية إلى السلع الخرسانية، والبضائع المغربية، إلى ما لا ينحصر ولا ينضبط، ما لو فرق على البلاد كلها لا قام لها الأسواق النافقة، وعم جميعها بالمنفعة التجارية حاشا ما يطرأ بها مع طول العام من اليمن وسواها فما على الأرض سلعة من السلع ولا ذخيرة من الذخائر إلا وهي موجودة فيها وهي تغص بالنعم والفواكه

ص: 75

والخضر على اختلافها ولا تنقطع منها مع طول العام ولكل نوع من هذه الأنواع فضيلة موجودة في حاسة الذوق فيفضل فيها أنواعه الموجودة في سائر البلاد فهذه بركة لا خفاء لها) ولها ثلاثة أبواب (وأولها باب المعلى ومنه يخرج إلى الجبانة المباركة وهي بالموضع الذي يعرف بالحجون وعن يسار المار إليها جبل في أعلاه ثنية عليها علم شبيه البرج يخرج منها إلى طريق العمرة وتلك الثنية تعرف بكداء بفتح الكاف والمد وهي التي عنى حسان بقوله) تثير النقع موعدها كداء (. وعن يمينك إذا استقبلت الجبانة المذكورة مسجد في مسيل بين جبيلين يقال أنه المسجد الذي بايعت فيه الجن النبي صلى الله عليه وسلم وبهذه الجبانة المباركة مدفن جماعة من الصحابة والتابعين، والأولياء والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا وقال عليه السلام الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينتشران في الجنة ووقف عليه السلام على ثنيه الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال يبعث الله تعالى من هذه البقعة ومن هذا الحرم يوم القيامة سبعين ألفا فيدخلون الجنة بغير حساب. يشفع كل واحد منهم في سبعين الفا وجوههم كالقمر ليلة البدر. وعلى هذا الباب المذكور طريق الطائف وطريق العراق والصعود إلى عرفات، وهذا الباب المذكور بين الشرق والشمال وهو للشرق أميل،) ثم باب المسفل (وهو إلى جهة الجنوب وعليه طريق اليمن ومنه كان دخول خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم الفتح، ثم باب الزاهر ويعرف أيضا بباب العمرة وهو غربي، وعليه طريق مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريق الشام وطريق جدة ومنه يتوجه إلى التنعيم وهو اقرب ميقات المعتمرين، يخرج من الحرم إليه على باب العمرة، ولذلك خصص بهذا الاسم، والتنعيم من البلد على فرسخ وهو طريق حسن فسيح فيه الآبار العذبة التي تسمى بالشبيكة، وعندما تخرج من البلد بنحو ميل تلقى مسجدا بازائه حجر موضوع على الطريق كالمصطبة يعلوه حجر آخر مسند فيه نقش دائر الرسم يقال أنه الموضع الذي جلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستريحا عند مجيئه من العمرة، فيتبرك الناس بتقبيله ومسح الخدود فيه وحق لهم ذلك، وعلى جانبي الطريق من هذا الموضوع جبال أربعة جبلان من هنا وجبلان من هنا عليها أعلام من الحجارة، يقال إنها الجبال المباركة التي جعل إبراهيم عليه السلام أجزاء الطير عليها، ثم دعاهن حسبما ذكر الله في كتابه، ثم بعد هذا الموضوع بمقدار غلوة تلقى على قارعة الطريق المتوجهة إلى العمرة من جهة اليسار قبرين قد علتهما أكوام من الصخر العظام يقال أنهما قبر أبي لهب وامرأته فما زال الناس في القديم إلى هلم جرا يتخذون سنة رجمهما بالحجارة حتى علاهما من ذلك جبلان عظيمان، وعند اجتيازك الزاهر وهو مبنى على الطريق يحتوي على ديار وبساتين تمر بالوادي المعروف بذي طوى الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول مكة، وكان أبن عمر رضي الله عنهما يغتسل فيه وحينئذ يدخلها وحولها إلى آبار تعرف بالشبيكة وفيه مسجد يقال أنه فيه مسجد إبراهيم عليه السلام فتأمل بركة هذا الطريق ومجموع هذا الآثار المقدسة التي اكتنفته ثم تجئ الوادي إلى مضيق تخرج منه إلى الأعلام التي وضعت حجزا بين الحل والحرم وما هو داخلها إلى مكة حرم وما هو خارجها حل وهي كالأبراج مصفوفة كبار وصغار، واحد بازاء آخر على مقربة منه تأخذ من أعلى جبل يعترض عن يمين الطريق في التوجه إلى العمرة وتشق الطريق إلى أعلى جبل عن يساره، ومنه ميقات المعتمرين وفيها مساجد مبنية يصلي المعتمرون فيها ويحرمون منها ومسجد عائشة رضي الله عنها خارج هذه الأعلام بمقدار غلوتين وإليه يصلي المالكيون ومنه يحرمون وأما الشافعيون فيحرمون من المساجد التي حول الأعلام المذكورة قال الشيخ محيي الدين النوري رحمه الله تعالى جاء عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال في رسالته المشهورة إلى أهل مكة ان الدعاء يستجاب هناك في خمسة عشر موضعا، في الطواف وعند الملتزم وتحت الميزاب وفي البيت وعند زمزم وعلى الصقا وعلى السعي وفي المروة وفي السعي وخلف المقام وفي عرفات وفي المزدلفة وفي منى وعند الجمرات الثلاث، وأما مشاهدها المقدسة وأثارها العظيمة فهي اكثر من أن تحصى، ومكة شرف الله تعالى كلها مشهد كريم كفاها

ص: 76

شرفا ما خص الله تعالى به من مثابة بيته العظيم وما سبق لها من دعوة الخليل إبراهيم، وإنها حرم الله وأمنه وكفاها أنها منشأ النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي آثره الله بالتشريف والتكريم وبعثه بالآيات البينات والذكر الحكيم، فهي مبدأ نزول الوحي والتنزيل ومهبط الروح الأمين جبريل.

وكانت بمثابة أنبياء الله ورسله الاكرمين، وهي أيضا مسقط رؤوس جماعة الصحابة القرشيين المهاجرين الذين جعلهم الله مصابيح الدين. ونجوما للمهتدين. فمن مشاهدها التي عاينها قبة الوحي وهي في دار خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.

وفيها كان أبناء النبي صلى الله عليه وسلم بها. وقبة صغيرة أيضا في الدار المذكورة.

وفيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وهذه المواضع المقدسة مغلوقة مصونة قد بنيت بناء يليق بمثلها، وكتب بداخل القبة الأولى ما نصه " بسم الرحمن الرحيم تقرب إلى الله تعالى بعمارة هذا الموضع الشريف المنسوب إلى خديجة رضي الله عنها ومسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي الكريم العبد المفتقر إلى رحمة الله تعالى، مولانا السلطان بن السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي خادم الحرمين الشريفين بلغه الله تعالى غاية أماله، وتقبل منه صالح أعماله، وذلك بتاريخ شهر صفر سنة ست وثمانين وستمائة وكتب بداخل القبة الصغيرة هذا موضع مولد فاطمة رضي الله عنها " وموضع الولادة شبه صهريج صغير وفيها محتبى النبي صلى الله عليه وسلم شبيه القبة وفيه مقعد في الأرض شبيه الحفرة داخله في الجدار قليلا وقد خرج عليها من الجدار حجر مبسوط كأنه يظل المقعد المذكور، قيل انه الحجر الذي غطى النبي صلى الله عليه وسلم عند اختبائه في الموضع المذكور وفي زقاق هذه الدار على مقربة منها مصطبة فيها متكأ يقصد الناس إليها، ويصلون فيها ويتمسحون بأركانها لان في موضعها كان قعود النبي صلى الله عليه وسلم ومن مشاهدها الكريمة أيضا مولد النبي صلى الله عليه وسلم والتربة التي هي أول تربة مست جسمه الطاهر بني عليها مسجد لم ير أحفل بناء منه أكثره ذهب منزل وكان دارا لعبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 77

والموضع المقدس الذي سقط فيه صلى الله عليه وسلم ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمة للناس أجمعين محفوف بالغضة كأنه صهريج صغير سطحه فضة فيا لها تربة شرفها الله تعالى بأن جعلها مسقط أطهر الأجسام ومولد خير الأنام صلى الله عليه وعلى آله وأهله وأصحابه الكرام، وسلم تسليما وعليه مكتوب ما نصه: هذا ما أمر بعمله عبد الله وخليفته الإمام الناصر لدين الله أبو العباس أحمد أمير المؤمنين أعز الله أنصاره وضاعف اقتداره، في سنة ست وسبعين وخمسمائة وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وعلى مقربة منه أيضا يشرف عليه جبل أبي قبيس وهو في الجهة الشرقية يقابل ركن الحجر الأسود وفي أعلاه رباط مبارك فيه مسجد وعليه سطح مشرف على البلدة الشريفة ومنه يظهر حسنها وحسن الحرم واتساعه وجمال الكعبة المقدسة القائمة وسطه، وهو أول جبل خلقه الله، وفيه قبر آدم عليه السلام، وفيه موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند انشقاق القمر له بقدرة الله تعالى وهو أحد أخشبي مكة، والاخشب الثاني الجبل المتصل بقيقعان في الجهة الغربية، وبسفح أبي قبيس مسجد محتفل البناء عليه مكتوب هذا المسجد، هو مولد علي ابن أبي طالب رضوان الله عليه، وفيه تربى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان دارا لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله ومن جبال مكة المشهورة بعد جبل أبي قبيس جبل حراء وهو في الشرق منها على مقدار فرسخ أو نحوه وهو جبل مبارك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينتابه يتعبد في غار فيه وأول آية نزلت في القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجبل المذكور ومن جبال فيها أثر كريم ومشهد عظيم، الجبل المعروف بابي ثور، وهو في الجهة اليمنية من مكة على مقدار فرسخ وأزيد فيه الغار الذي أوى إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبه الصديق رضي الله عنه حسبما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز، وخص الله نبيه بآيات مبينات، ومن مشاهدها الكريمة أيضا دار الخيزران وهي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله فيها سرا مع الطائفة الكريمة المباردة للإسلام من أصحابه رضي الله عنهم حتى نشر الله الإسلام منها على يد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكفى بهذه الفضيلة الكريمة، ومن مشاهدها أيضا دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي اليوم دار سكة الأمير ويقابلها جدار فيه حجر مبارك يتبرك الناس بلمسه يقال أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم متى أجتاز عليه وذكر أنه صلى الله عليه وسلم جاء يوما إلى دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه فنادى به ولم يكن حاضرا فانطق الله عز وجل الحجر المذكور، وقال يا رسول الله ليس بحاضر، وكانت من إحدى آياته المعجزات صلى الله عليه وسلم.

ص: 78

ثم تلبعت لقاء العلماء والمحدثين واستقريت المجاورين منهم جماعة جملة يضيق هذا المجموع عنهم ويتسع برنامج روايتي لهم فهم فيه على الكمال والتمام ومن أعظمهم قدرا وأرفعهم خطرا، وأشرفهم مكانة وذكرا الشيخ الفقيه الخطيب بالحرم الشريف وصاحب الصلاة به، فارس المنابر وإمام الأمة، ومقتدي فرق الأمة. ولى الله عز وجل أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر المكي المالكي المشتهر بخليل نفع الله تعالى به أحد السبعة الابدال، ورب المئاثر المبرأة عن الخلاف والجدال والموجودة في بركاته ما يخجل الغيث في الانسحاب والانسدال، والموطأة أكنافة للخاصة والعامة، فهي معتدلة الكمال، كاملة الاعتدال، فالأعناق متعلقة عليه والركبان منتالة عليه، مائلة بين يديه، سامعون لأمره متبركون بمساس طمره، معترفون بفضله متصرفون عن إذن من قوله أو فعله، وكلهم يرد من إحسانه مناهل الكرم ويرود من فضله مواقع الديم، ويسترشد من نور عمله ما هو أوضح من نار على علم، ويقتدى بآثاره فيسلك شغف الشوق آداب الخدم، قد انتحله مواصلة العبادة، وأكلته الأيام بشغف الزهادة فلم تبق منه إلا الرسوم على السجادة، وهو على ذلك من أصبر الخلق وأجلدهم على إلحاح السائلين، واختلاف القاصدين إليه والسالكين والتكفل بحوائج الأغنياء والفقراء والمساكين، والنظر لجميعهم في جميع أمور الدنيا والدين لقيته بحرم مكة الشريف تجاه الكعبة المعظمة وبمنزله أيضا بقرب حرمه الشريف فاكترث الاختلاف إليه، وكنت ممن استفاد في مناسك حجه تفقها ومعاينة بين يديه، فانتفعت به أعظم الانتفاع واستفدت بالالتزام له والأتباع، وسمعت عليه واجازني جميع ما يحمله ويرويه إجارة تامة، مطلقة عامة.

ص: 79

ومن أرجحهم عقلا، وأوضحهم فضلا، الشيخ العالم الفاضل أبو العباس أحمد بن إبراهيم الشافعي رضي الله عنه شيخ علم وذكاء، وشبح حلم وذكاء حسن الشارة مستحسن الإشارة حافظ العلم محافظ على شيم الحلم عبادة موردها صفوزلال، وزهادة موعدها روض يانع وظلال، ودراية تعضدها رواية وسماع. وينعقد عليها اتفاق واجتماع وقد أثنى عليه كل من أخذ عنه بما أثنى، ووردت فضائله على الألسن فرادى ومثنى محامده مطلعة في روض الطرس، وأفق النقس كل زهرة وزهرة، وأسانيده مكتوبة في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة، لقيته بحرم مكة الشريف تجاه الكعبة المعظمة فسمعت عليه كثيرا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن غير ذلك وانتفعت به وأجازني الإجازة التامة المطلقة العامة، ومولده سنة ست وثمانية وستمائة، ثم تكاملت الركبان بمكة شرفها الله تعالى فخرجنا إلى منى يوم التروية وهو اليوم الثامن لذي حجة في أمم يرتفع لها العجاج، ويتزاحم بها الفجاج، وخلائق يغص بهم البسيط الأفيج ويضيق عنهم المهمة الصحصح، فترى الأرض تميد بهم ميدا وتموج بجمعهم موجا، فتبصر منهم بحرا طامي العباب ماؤه السراب، وسفنه الركاب وشرعها الطلائل المرفوعة والقباب، فمن لم يشاهد هذا الخروج لم يشاهد الخروج لم يشاهد من أعاجيب الزمان ما يحدث به فمن هوادج تسيل في أباطح مكة وشعابها، ومن محاير كالقباب المضروبة تسير بأربابها، والإبل قد زينت تحتها بأنواع التزيين، فتراها تتهادى تهادي العرائس في الكلل، وترفل من قلائد الذهب وأستار الديباج في الحلي والحلل، فلا تبصر إلا سجفا، تسحب على وجه الأرض، وتشبه في وشيها وشى الروض، خلائق تملأ من الطول إلى العرض، وتذكر مرأى الحشر والعرض، فسبحان من أحصاهم عددا، وأراد بهم رشدا ثم نزلنا) بمنى (فعاينا ليلة من لم يعاينها لم يعاين أعذب ليالي الدنيا، ولم يصبر الأرض عادت ثريا يوقد فيها من الشمع والمشاعل، والسرج ما ترى الأرض تتلألأ به نورا، وتضيء سهولا ووعورا، وتفوق كواكب السماء سطوعا وظهورا، فلله هي ليلة الدهر وعروس ليالي العمر، والبكر التي تهيم بها بنات الفكر،) بمنى (مدينة عظيمة الآثار واسعة الاختلاط عتيقة الموضع تملأ النفوس بهجة وانشراحا، قد درست إلا منازل حسنة محدثة النزول، تحف بجانبي طريق ممتد الطول، كأنه الميدان اتساعا وانفساحا، فأول ما يلقى المتوجه إليها عن يساره بمقربة منها مسجد البيعة المباركة التي كانت أول بيعة في الإسلام عقدها العباس رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم مع الأنصار، حسبما أشتهر من ذلك ثم يفضي منها إلى جمرة العقبة وهي أول منى للمتوجه إلى مكة، وعن يسار المار إليها وهي على قارعة الطريق مرتفعة بالمتراكم فيها من حصا الجمرات، ولولا آيات الله البينات فيها لكانت كالجبال الرواسي لما يجتمع فيها على تعاقب الدهور وتوالي الأزمنة وعليها مسجد مبارك وبها علم منصوب شبه أعلام الحرم التي ذكرنا قبل، وبعد هذه الجمرة العقبية) موضع الجمرة الوسطى (وبها أيضا علم وبينها قدر الغلوة، ثم بعدها تلقي الجمرة الأولى ومسافتها منها كمسافة الأخرى. والصادر من عرفات إلى منى أول ما يلقي الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ثم بعد الجمرة الأولى يعرج عن الطريق يسيرا ويلقى منحر الذبيح عليه السلام حيث فدى بالذبح العظيم، وعلى الموضع المبارك مسجد مبني وهو بمقربة من سفح جبل ثبير، وفي المسجد المذكور حجر قد ألصق بالجدار قيه أثر قدم صغير يقال إنها أثر قدم الذبيح عليه السلام عند تحركه، فلان له الحجر بقدرة الله، فيتبرك الناس بلثمه ومسه، ثم يفضي من ذلك إلى مسجد الخيف المبارك وهو آخر منى من التوجه من المعمور منها بالبنيان، وأما الآثار القديمة فآخذة إلى ابعد غاية أمام المسجد وهو متسع الساحة، كبير المساحة، وهو من المساجد المشتهرة بركة وشرف بقعة وكفى بما ورد في الأثر الكريم، من أن بقعته مدفن لكثير من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ثم صعدنا إلى عرفات وتكامل الجمع بها فاجتمع فيها من الخلائق جمع لا يحصى عددهم إلا الله عز وجل، ومن مزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين منى وعرفات من منى إليها ما من مكة إلى منى، وذلك نحو خمسة أميال ومنها إلى عرفات مثل ذلك ومن مزدلفة تسمى المشعر الحرام، وقبلها بنحو الميل وادي محسر وجرت السنة بالهرولة فيه وهو حد بين مزدلفة ومنى

ص: 80

لأنه معترض بينهما وعرفات بسيط من الأرض مد البصر لو كان محشر الخلائق لوسعهم، وفي آخر ذلك البسيط جبل الرحمة، وفيه وحوله موقف الناس والعلمان قبله بنحو الميلين فما أمام العلمين إلى عرفات حل وما دونهما حرم، وبمقربة منهما مما يلي عرفات بطن عرنة الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عنه في قوله صلى الله عليه وسلم عرفات كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، فالواقف في عرنة لا يصح حجه فيجب التحفظ من ذلك وجبل الرحمة المذكور منقطع عن الجبال قائم في البسيط وهو حجارة منقطعة بعضها على بعض وكان صعب المرتقى فأحدثت فيه أدراج وطيئة واسعة من أربع جهات أنفق فيها مال عظيم، وفي أعلى الجبل قبة تنسب إلى أم سلمة رضي الله عنها والله أعلم بصحة ذلك وفي وسطها مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه، وحول ذلك المسجد المكرم سطح محدق به فسيح الساحة، جميل المنظر يشرف منه على بسيط عرفات وفي جهة القبلة منه جدار قد نصبت فيه محاريب يصلي الناس فيها وفي اسفل هذا الجبل المقدس عن يسار المستقبل القبلة فيه دار عتيقة البنيان في أعلاها غرف لها طيقان تنسب إلى آدم صلى الله عليه وسلم، وعن يسار هذه الدار في استقبال القبلة الصخرات التي كان عندها موقف النبي صلى الله عليه وسلم وهي في جبل متطامن وحول جبل الرحمة والدار المكرمة المذكورة صهاريج الماء وجباب، وعن يسار الدار ويسار القبلة مسجد قديم فسيح البناء بقي منه الجدار القبلي ينسب إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيه يخطب الخطيب يوم الوقفة وعن يسار العلمين في استقبال القبلة وادي الأراك وهو أراك أخضر يمتد في ذلك البسيط مع البصر امتدادا طويلا وكان الوقوف بعرفات يوم الأربعاء التاسع لذي حجة فخطب في ذلك المقام العظيم، والمشهد الكريم الشيخ الخطيب الولي أبو عبد الله خليل المذكور آنفا بعد أن جمع بين الظهر والعصر خطبة محبرة. نظم شذورها، وأحكم فصولها فذرفت منها العيون. ووجلت لها القلوب، وعلا الضجيج، وأرتفع النشيج وتراكم الحجيج، ووقف جميع الناس خاشعين، باكين داعين إلى الله عز وجل في الرحمة والمغفرة متضرعين، فما شهدت يوما كان اكثر مدامع، ولا قلوبا خواشع، ولا أعناقا لهيبة الله تعالى خوانع خواضع، من ذلك اليوم، فما زال على تلك الحالة والشمس تلفح وجوههم. والرحمة بفضل الله تعالى تكنف جميعهم، حتى سقط قرص الشمس وتمكن غروبها، ولما حان الوقت أشار الإمام بيده ونزل عن موقفه فدفع الناس بالنفر دفعا وارتجت منه الأرض ورجفت له الجبال فيا له موقفا ما اعظم مراءاه وأرجى في النفوس عقباه، جعلنا الله تعالى ممن خصصه فيه برضاه، وتعمده برحماه، انه منعم كريم، غفور رحيم، وروى ابن المبارك عن أنس بن مالك قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات وكادت الشمس أن تغرب فقال يا بلال أنصت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنصت الناس فقال: معاشر الناس أتاني جبريل آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال ان الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المعشر وضمن عنهم التباعات فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله هذا لنا خاصة، فقال هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر بن الخطاب كثر خير الله وطاب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وروى النسائي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعوا بين الحج والعمرة فانهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة وفي صحيح مسلم عن أبن هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق يرجع كيوم ولدته أمه.

ص: 81