المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه - تاج المفرق في تحلية علماء المشرق

[خالد البلوي]

الفصل: ‌وصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

وفي صحيح مسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من يوم أكثر من ان يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة فأنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أدر هؤلاء، وفي طريق آخر انه سبحانه يباهي بأهل عرفات ويقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي جاءوا إلي من أقصى الأرض شعشعا غبرا أشهدكم أني قد غفرت لهم.

‌الجزء الثاني

‌بسم الله الرحمن الرحيم

‌وصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

قال عبيد الله سبحانه، الراجي عفوه وغفرانه خالد بن عيسى بن احمد بن إبراهيم بن احمد بن علي بن خالد البلوي، لطف الله به وأخذ بيده وبرحمته آمين.

ص: 82

ثم انصرفت من عرفات الوفود وانفض المشهد المشهود، وفاض الكرم الواسع وعم الجود، ورعدت الطبول وخفقت البنود وخرجت من بين العلمين تلك الجنود، وغصت بهم الربى والتهائم ولنجود، إلى أن أتينا مزدلفة بين العشائين فجمعنا فيها بين الصلاتين، واتقد المشعر الحرام، وما حوله تلك الليلة مشاعيل من الشمع المسرج، وعاد كله نورا فيخيل للناظر إليه كواكب السماء كلها نزلت به وعلى هذه الصفة تكون هذه المشاهد مدة إقامة الركبان بها، لأن أولئك الخرسانيين وسواهم من العراقيين والشاميين أعظم الناس همة في استجلاب هذا الشمع والاحتفال فيه والإكثار منه إضاءة لهذه المشاهد المقدسة، فيا لك من ضياء زاهر، وسناء وارج خلاب أيام غرر وليال مشرقات، وكذلك يختلفون في القباب والأروقة والسرادقات، على هيئة عظيمة فترى أحدهم من الأمراء والكبراء قد أحدق به سرداق كالسور، نسيج كتان كأنه حديقة بستان، وزخرفة بنيان، وفي داخله القباب المضروبة وهي كلها سواد في بياض، مشرقة ملونة كأنها أزهار رياض لهذا السرادق الذي كالسور المضروب أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ثم يفضي منها إلى الفصل الذي فيه القباب فكأن أحدهم ساكن في مدينة قد أحدق بها سور تنتقل بانتقاله، وتنزل بنزوله، وهي من الأبهات الملوكية التي لم تعهد عند ملوك المغرب إلى قباب بديعة لمنظر، عجيبة الشكل، قد قامت كأنها التيجان المنصوبة، أو الأخبية المضروبة، تنقش أحسن النقش وتملأ بأبهى الفرش، ويقعد الراكب فيها مستريحا وأي مستراح وبازائه معادله أو معادلته في مثل ذلك من الشقة الأخرى والقبة مضروبة عليهما ماشية فيهما فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران فعندما يصلان إلى الرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين إن كانا من أهل الترفه والتنعم، فيدخل بهما إلى السرادق وهما راكبان، وينصب لهما كرسي ينزلان عليه فينتقلان من ظل قبة المنزل، دون واسطة هواء يلحقهما، ولا خطفة شمس تصيبهما وناهيك من هذا الترفيه وهذا المحمل النبيه فهؤلاء لا يلقون لأسفارهم وإن بعدت مشقة ولا نصبا، ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبا، ويجب على المجتهدين من القاصدين لهذه لمشاعر الكريمة، والمشاهد العظيمة أن يحملوا أنفيهم مشقة لمشي على الأقدام. فورد في ذلك من الثواب كثير، وقد حج الحسن بن علي رضي الله عنه وعن آبائه الطاهرين خمسا وعشرين حجة ماشياً، والنجائب تقاد، وحج الإمام احمد بن حنبل حجتين ماشيا، وحج علي بن الموفق على قدميه على قدم الفقر إحدى وستين حجة، قال فطفت ليلة متطوعاً، فقلت اللهم أني قد حججت كذا وكذا حجة، وأشهدك أني وهبت رسولك عشرة وأبا بكر عشرة، وعمر عشرة، وعثمان عشرة، والعشرون الباقية لمن لم يقبل حجة في هذا الموسم، وحجة الفريضة اكفيني قال فرأيت الحق سبحانه في المنام فقال لي: يا بن موفق أتتسخى علي وأنا خلقت السخاء أتجود علي وأنا خلقت الجود أتتكرم علي وأنا خلقت الكرم أما علمت يا بن موفق أني غفرت في هذه الليلة لكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبات الناس بالمشعر الحرام هذه الليلة، وهي ليلة الخميس العاشرة لذي حجة فلما وصلوا الصبح غدوا منه إلى منى بعد الوقوف والدعاء لأن مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ففيه تقع الهرولة في التوجه إلى منى حتى يخرج عنه، ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار، وهو المستحب، ومنهم من يلتقطها حول مسجد الخيف بمنى، فلما انتهى الناس إلى منى بادروا لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم نحروا أو ذبحوا، ثم حلقوا وحلوا من كل شيء إلا النساء والصيد والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة، ثم توجه كثر الناس لطواف الإفاضة، ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني، وأقاموا يرمون الجمار بمنى، فلما كان اليوم الثالث تعجل أكثر الناس في الانحدار إلى مكة قال الله تعالى:[فمن تعجل في يومين فلا إثم عيه، ومن تأخر فلا إثم عليه] ، قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله خفف على الخلق الرجوع عنه إلى الأهل والوطن، ولما علم من علاقة قلوبهم بهم فأعادهم بأبدانهم، وعلق قلوبهم بما عاينوا من مكانهم، وذلك قوله تعالى:[وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا] ، فلا يراه أحد إلا تمنى أن يعود إليه، وإن حمله شوق الأهل وحب الوطن على أن يفارقه، قد رأيت الفراق ذقته وأكلته وشربته، وساورني

ص: 83

وساورته، فما رأيت فراقا أبعد ملتقى ولا استناما أقصى مرتقى، من فراق المحصب.

فريقان منهم جازع بطن نخلة

وآخر منهم قاطع نجد كبكب

منهم مشرق إلى الغاية، ومغرب إلى النهاية، وشمالي بغير موعد وجنوبي ولات حين مرصد، ولا شك والله أعلم، أنه عيار لفراق يوم الموقف، فإنه بين آخذ إلى الجنة ومحمول إلى النار، ولا ملتقى أبدا، وأقمنا إلى أن خرجنا من منى بعد رمي الجمرة الأخيرة، وصلاة الظهر من يوم الأحد رابع يوم النحر، فنزلنا بخارج مكة شرفها الله تعالى بئابار الزاهر، ثم أحرمنا للعمرة بمسجد عائشة رضي الله عنها بعد صلاة المغرب به، وأتينا مكة والحرم الشريف للطواف والسعي إلى أن قضينا ذلك في النصف الأخير من ليلة يوم الاثنين وهو خامس يوم النحر ثم ودعناه ساعتئذ وخرجنا وانصرفنا، قد كمل لنا الحج والعمرة والحمد لله رب العالمين وحين وجب طواف الوداع وتعين العزم على الإزماع، ودعنا البيت لحرام، والدموع تستوقف القطار، وتستوكف الأمطار وقلبي لا يطيق وداعاً ولا تملك حبته انتزاعا وسرت وأنا أكفكف العبرات وأنشد هذه الأبيات:

أيا شعب مكة نومي حرام

متى قوضت عن رباك الخيام

ألفناك ألف الرضيع الرضاع

وقد يؤلمن الرضيع الفطام

سأبكيك ما بكت الثاكلات

وهيهات يبرد مني أوام

وأحنو إليك حنين النياق

لهن بأكناف نجد غرام

أيا ساكنين الحمى هي يعود

لنا بعد وقع الشتات التئام

عليكم وأن شط مني المزار

سلام وجهد المقل السلام

ولما استقلت نجائب الرفاق وتهادينا تحف الأشواق، وتشاكينا روعة الفراق، وأخذنا نسري ونسير ليلا ونهارا، ونجذب بالنجب الفيافي إشراقا وأسحاراً، وتغيب عنا الشموس والأقمار فنتخذ من السرج والمشاعل شموسا وأقماراً ونقطع مهامه ينقطع فيها الرفيق عن الرفيق ونسلك مسالك تارة في الاتساع وتارة في الضيق إلى أن وصلنا إلى رأس) وادي العقيق (وتراءت لنا بعد البعاد أعلام ذلك الفريق، وهناك أنشدت الأصحاب الحضرين ما أنشدني تجاه لكعبة المشرفة لوالده شيخنا جمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن شهاب الدين أبي الثناء محمود ابن سليمان الحلبي وهي قصيدة ضربت في الإبداع بسهم مصيب وربت من البيان في روض يانع ومرعى خصيب ونصها:

وصلنا السرى وهجرنا الديارا

وجئناك نطوي إليك القفارا

أتيناك نحدو البكا والركابا

ونبعث أثر القطار القطارا

إذا أخذت هذه في الربى

صعودا أبى ذلك إلا انحدارا

وإن فاض ماء لفرط الحنين

ورجع حادي السرى عاد نارا

كأنا به وهو يجي دما

وقوف على الخيف نرمي الجمارا

أتيناك سعيا ننادي البدارا

إلى سيد المرسلين البدارا

إلى أشرف الخلق في محتد

وأحمي جوارا وأعلى نجارا

إلى من به لله أسرى إليه

وما زاغ ناظره حين زارا

لما نزعنا شعار الرقاد

لبسنا الدجى وادعنا النهارا

نميل من الشوق فوق الرحال

كأنا سكارى ولسنا سكارى

نجافي عن الطيف أجفاننا

فلا نطعم النوم الأغرارا

ونسري مع الشوق أنى سرى

ونتبع حادي السرى حيث سارا

ونسئل والدار تدنو بنا

عن القرب في كل يوم مرارا

وما ذاك أنا سئمنا السرى

ولكن دنونا فزدنا انتظارا

إذا لبرق عارضنا موهنا

حسبنا سنى طيبة قد أنارا

فنفري بأدرع تلك النياق

أديم الفلا غدوة وابتكارا

ونرمي بهن صدور الفجاج

كانا نشن عليها مغارا

إذا رقصت في الفلاة المطى

جعلنا الدموع عليها نثارا

تسابق أرجلها في السرى

يديها وتشكو اليمين اليسارا

ونجمع بين السرى والمسير

ونجفو الكرى ونعاف القرار

وكيف القرار إلى أن نراك

وتدنى المطى إليك المزارا

من كان يأمل منك الدنو

أيملك دون اللقاء اصطبارا

ترى تنظر العين هذا البشير

يريني على البعد تلك الديارا

لأعطيه روحي سرورا بها

وأوطيه طرفي وخدي اعتذارا

ص: 84

وأمسح عن أرجل اليعملات

بأجفان عيني ذلك الغبارا

واهدي على القرب مني السلام

وحسبي بها رتبة وافتخارا

وأكتب شوقي بماء الدموع

بسطا إذا اللفظ كان اختصارا

وأفدي بما طال من مدتي

بطيبة تلك الليالي القصارا

ترى هل أناجي هناك الرسول

جهارا كما نرتجي أم سرارا

وأعلم أني على بابه

وقفت قبلت ذاك الجدارا

وماذا أقول وكل الورى

نشاوي هنالك مثلي حيارى

وأنشد يا شافع المذنبين

أجر من باب حماك استجارا

أقلني فقد جئت أشكو الذنوب

إليك وأنت تقيل العثارا

فكن شافعي يوم لا شافع

سواك يفك العناة الأسارى

فمالي سوى حق هذا الجوار

إليك ومثلك يرعى الجوارا

وأني قطعت إليك القفار

فقيرا أقل ذنوبا غزارا

وفي قطعها لك فضل على

ولو خضت دون القفار البحارا

ولو أستطيع قطعت الزمان

وأنت المنى حجة واعتمارا

وما كنت أظعن إلا إليك

إذا ما ملكت لروحي اختيارا

حمى حل فيه نبي الهدى

فأضحى به أشرف الأرض دارا

فيا فوز من كل عام أتاه

ويا فوت من غاب عنه خسارا

شممنا الشذا من مبادي الحجاز

فخلنا العبير أعار العرارا

فواها لها نفحة أذكرت

هواي وأذكت بقلبي الشرارا

إذا خطرت في الربا سحرة

وجرت ذيولا على الغار غارا

يمانية رابها إنها

بطيبة مرت وجرت أزرا

على من سرت من حماة السلام

وحيا الحيا ذلك الربع دارا

ووصلنا إلى المدينة النبوية الكريمة بقلوب مسرورة بالوصال، محزونة بما تتوقعه بعد ذلك من قرب الارتحال:

ما يقتل الليل الطويل سهرا

غير محب خائف أن يهجرا

فدخلناها عشية يوم الأربعاء الثالث والعشرين من ذي الحجة من العام المذكور، واليوم قد ولى شبابه، والمساء قد استحكمت أسبابه:

والشمس تجنح للغروب مريضة

والليل نحو مغيبها يتطلع

ولما حططنا بها رحال الإمام، وخلعنا على عطف الصلاة برد الإتمام تسارعنا إلى الروضة الشريفة المقدسة تسارع الطير إلى الأوكار، وتسابقنا تسابق الخواطر مع الأفكار، وكنا ظننا أن الدموع نفدت، وأن نيران القلوب خمدت، فتراكمت من العيون سحبها، وتزايد من القلوب لهبها، وأخذنا بعد السلام في شرح ما فعلت الأشواق وإن كانت الإحاطة بوصفها تكليف ما لا يطاق، وجرى الأمر كما سلف من خلوات معهودة، وقلوب ببرد لمغفرة معمودة، وبتنا نطفئ نيران الأشواق بماء العبرات وننادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمام الحجرة لا من وراء الحجرات:

ولما وقفنا للسلام تبادرت

دموعي إلى أن كدت في الدمع أغرق

فقلت لعيني هل مع الوصل عبرة

فقالت ألسنا بعده نتفرق

ولما تحقق السير عن ذلك الحما، وأشأم حاد كان بالأمس أتهما، أجريت الدموع وحرمت الهجوع، وأضرمت بنيران الزفرات الأكباد والضلوع، وانقطع بي الرجاء، وضاقت على الأرجاء:

قالوا الرحيل وما تملت باللقا

عيني ولا امتلأت بغير مدامع

فتيقنت روحي بأن مقالهم

أن يصدق الحادي أشد مصارعي

ووقفت بين تأمل وتململ

يبدو السرور على فؤادي الجازع

حيران لا أدري بقرب رائق

أذري المدامع أم لبعد رائع

وودعنا الروضة المشرفة المكرمة، والتربة المقدسة المعظمة، فياله وداعا ذابت له الأجساد والتهبت به الأكباد، وكاد يتصدع الجماد وما ظنك بموقف يناجي بالتوديع فيه سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين، وخيرة خلق الله أجمعين، وأنه لموقف تنزع فيه الأرواح انتزاعاً، وترى الخلق من هوله صراعا كل يقاسي مرارة مذاقه ويبوح لديه بأشواقه، لا يجد بدا من فراقه، فوا أسفاه وا أسفاه. ما أصبر قلبي على هذا الوداع وأجفاه:

عجبا لقلبي يوم راعتنا النوى

ودنا وداعك كيف لم يتفطر

ص: 85

بوأنا الله تعالى منزلة الكرامة، بزيارة هذا النبي الكريم، وأحلنا من فضله في جواره دار المقامة، انه ذو الفضل العظيم بمنه وكرمه، ثم رحلنا من المدينة المنورة الشريفة، في يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة المذكورة وهو غد يوم دخولنا ووصولنا، وسرنا مع الركب المصري على عادتنا من وصل السري وحث المطى وأنا أجد نسيم طيبة المكيبة أعبق من العنبر الذكي وأفتق من المسك النقي، وأحلى على قلبي الصادي من المورد العذب الشهي.

ولفخر الرؤساء الرضى الموسوي.

أيها الرائح المجد تحمل

حاجة للمتيم المشتاق

وأقرعني السلام أهل المصلى

وبلاغ السلام بعض التلاقي

وإذا ما مررت بالخيف فاشهد

أن قلبي إليه بالأشواق

وأبك عنى فطالما كنت من

قبل أعير الدموع للعشاق

ضاع قلبي فأنشده لي بين جمع

ومنى عند بعض تلك الحداق

إلى أن وصلنا إلى الينبوع في عشى يوم السبت السادس والعشرين لذي الحجة المذكورة وصلناها بعد مسح الجبين، والانحفار المبين فحللنا منها ببلد أثير، ذي نخل كثير، وماء غزير، عذب نمير، وخرجنا منها ضحوة يوم الاثنين الثامن والعشرين لذي الحجة المذكور وسرنا والغيظ يشتد حره، والهجير يلتظي جمره، إلى أن وردنا ماء العقبة الكبرى على ساحل البحر وهي التي تسمى عقبة أيلة يجتمع عندها الناس من الشام ومصر وغيرهما للقاء الركبان، والسؤال عن الأحباب والإخوان،

عارضا بي ركب الحجاز أسائ

هـ متى عهده بأيام جمع

واستملأ حديث من سكن الخيف

ولا تكتباه إلا بدمعي

فاتني أن أرى الديار بطرفي

فلعلي أرى الديار بسمعي

وصلنا إليها في ضحى يوم الخميس السادس عشر لشهر الله المحرم مفتتح عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة ثم تقسمت الركبان فبعض انقلب إلى الديار المصرية وبعض ذهب إلى البلاد الشامية:

ألا بلغ الله الحمى من يريده

وبلغ أكناف اللوى من يريدها

فكنت ممن آثر زيارة تلك البقاع السامية الكريمة، واستخار الله تعالى فاختار له أفضل الغنيمة، ورحلنا من العقبة في ليلة يوم السبت الثامن عشر من شهر الله المحرم المذكور، فأول ماء لقيناه بعد العقبة المذكورة ماء غضيان ثم ماء الغمر ثم ماء التجان ثم سرنا فأتينا عقبة الصفا، وقد اشتدت جمرة القيظ، والنفوس من جواز تلك العقبة الكئود تكاد تميز من الغيظ. وما زلنا نسير فيشتد حر الشمس، ويشبه اليوم الأمس، إلى أن وصلنا إلى مدينة الخليل عليه السلام فدخلناها عند العصر من اليوم الخميس الثالث والعشرين لشهر الله المحرم المذكور، فاستراحت الأبدان وتلاقى الأخوان، وتفرق الركب، وتألف الصحب واجتمع كل بخليله ونسيبه، وأخذ من سماط أبيه الخليل عليه السلام بسهمه ونصيبه، فقضينا ما تعين من الزيارة ووجب من السلام، لقيت من امكن من أولئك الفضلاء الأعلام، وخرجت منها في عشى يوم الجمعة من غد اليوم المذكور، وسرنا والعشى قد طفل، وعطفه في الثب القصير قد رفل، والشمس قد خجلت من فراق الحاضرين، صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، فوصلنا إلى مدينة القدس الشريف في صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين من شهر الله المحرم المذكور، وبها اجتمعت بأخي محمد حيث تركته بعدما جال في أطراف بلاد الشام، وكاد يبلغ مدينة السلام. فتلاقينا بتحية الإخوان إذا التقيا بعد البين، وحظينا بعد الأثر بالعين، فكان بذلك لنوم عيني سبيل وعهدي بالنوم عهد طويل، وأقمنا بالقدس الشريف الكريم ملتمسين البركة في ذلك الحرم العظيم إلى أن خرجت منه بالرغم، وتزودت بالغم ملتفتا إلى تلك الربوع ومكفكفا واكف الدموع فنبت عنه مرتحلا، وفيه أنشأت عاجلا وأنشدت مرتجلا:

خليلي في ربع الخليل مني نفسي

وفيك فؤاد أنت يا حرم القدس

أحن إلى تلقاء هذا صبابة

وألمح من هذا سنى البدر والشمس

مواطن لو أنصفتها جئت زائرا

إليها على العينين والخد والرأس

ولو أنني أعطي مرادي بينها

لما رحلت من دونها أبدا عنسي

وكيف رحيلي عن معاهد لم تزل

على الحل والترحال لي غاية الأنس

أروح وأغدو بينها شيقا لها

وأصبح فيها مستهاما كما أمسى

بلاد خليل الله والمسجد الذي

صلاة به في الأجر كالمائة الخمس

ص: 86

ومواطن معراج لنبي محمد

وقد هب غمض النوم في الأعين النعس

وموطئ أقدام الرسالة والهدى

وقد لان صلد الصخر من ذلك اللمس

أيا مسجد قد بارك الله حوله

وعظمه في العرب والعجم والفرس

ويا أربعا قد أظهر الله فضلها

وكرمها في اليوم والغد والأمس

رحلت وفي قلبي لأجلك لوعة

فلم يبلها مني الزمان ولم ينس

وأزعجني عنك النوى وهي دائما

تعاملني في جمع شملي بالعكس

وعندي إلى لقياك أي تشوق

به اغتدي دهري وألحد في رمس

عسى عودة أو زورة تنقع الظما

وتخلع عني للظما وارس اللبس

وإن كانت الأخرى ولم تك أوبة

فأهدي سلامي في القراطيس بالنفس

وكان خروجنا من القدس الشريف في عشى يوم الجمعة أول يوم في صفر من العام المذكور. وسرنا والعيشة تجود لزمامها، وذكاء تتشحط بدمائها، والفلا تذوب من كدنا خجلا، والنجم يرعد من سرانا وجلا، إلى أن وصلنا إلى مدينة الرملة، في عشى يوم السبت من غد اليوم المذكور، والأصيل قد قضى، ودين اليوم قد انقضى:

والشمس تنثر زعفرانا في الربى

وتفت مسكتها على الغيطان

فنزلنا بها بمدينة غضة المنظر، حسنة المخبر، ممتعة بالروض لناعم، والنسيم الأعطر، أحسن المدائن، أزقة وأسواقا، وأكثرها فواكه وأرزاقا. وأملحها بياضا وإشراقا، وأبدعها اتصالا بالبساتين والتصاقا، قريبة من البحر، بعيدة من الغور كثيرة المساجد والخير، معتدلة الهواء، سامية البناء، واسعة الفناء، ساكنة المساكن، مكينة الأماكن، لائحة المباهج، واضحة المناهج، رائقة المنازه، رائعة المنازل، مرنة الرباب، معشبة الشعاب، هامرة السحاب، عاملة الجناب، سافرة المطالع، افرة الصنائع، سابغة المدارع، سائغة المشارع، صافية الزلال، ضافية الظلال، سارة الأسارير، زاهرة الأزاهير، معقودة الحبا، معهودة الربا، جليلة العلا، جميلة الحلا، جائشة الجيوش، معرشة العروش، فيها جنات من نخيل، وأعناب، طوبى لمبصرها وحسن مئاب، دخلت بداخلها المسجد الجامع الكبير حيث الخطبة الكبرى، والجماعة العظمى وهو المشتهر بالجامع الأبيض له صحن كبير جدا فيه أشجار وأطيار وجب وآبار فيها ماء كثير عذب نمير، وفي وسط الصحن مغارة عظيمة كبيرة تفضي إليها أدراج كثيرة، قد قامت على أقواس محنية وأرجل مختلفة مبنية، ذكر أن فيها جماعة عظيمة من الأنبياء مدفونين يعدهم النساك بالمئين، زرناها لما يوثر عنها من البركات والأعمال بالنيات وعلى باب المسجد المذكور تاريخان منقوشان في الرخام، وقدمهما وأخصرهما ما نصه:) بسم الله الرحمن الرحيم (هذا ما أمر بعمارة هذا المسجد الجامع المبارك إياس عبد الله بن جهة الأمير علم الدين قيصر رحمه الله ورحم من ترحم عليه، سنة ست ثمانين وخمسمائة وخرجنا منها عشية يوم الأحد الثالث من صفر المذكور، وسرنا والشمس قد عصفرت أبرادها، وردنا في العين الحميئة إيرادها، وبتنا نركب ظهر لسرى ونقطع بالذيل عمر الكرى، حتى سفرت الجونة عن نقابها، ونكصت النجوم على أعقابها، وأحرقت فحمة الليل عنبر لصباح، وخبا من النجوم الزهر كل مصباح، وهتف داعي العرفان، وحيعل المثوب بالأذان، وأصبحنا على عسقلان في صبيحة الاثنين من غد اليوم المذكور، وهي مدينة كبيرة، مفروشة بالرخام عجيبة وكانت دار إبراهيم عليه السلام وفيها آثار النمرود من كنعان، فسرحنا بمسرح آمال، جنتان عن يمين وشمال، روضات قد أينعت فيها الأزهار، وانبعثت الأعين وعنت الأطيار، فحللناها بلدا أقفر وخرب، وأكل الدهر على محاسنها وشرب، وترك ساحته كدرامية بالعلياء، وغادره منقض الفناء، متقلص الأفياء فأطلت الركوع والسجود في ذلك المسجد الحافل، وظلت أتبرك بما تضمنه من الآثار الجلائل، وجعلت أجول معتبرا بين تلك المنازل وأتمثل بقول القائل:

ما للمنازل لا نجبن حزينا

أصممن أم بعد المدى فبلينا

دمن تقادم عهد هن على البلا

فلبثن من بعد الشهور سنينا

من مدينة مأثورة الفضل قليلة النظير في الحسن عديمة المثل لم يبق منها إلا رسومها الواهية وأطلالها العالية البالية، وأزقتها الخاوية الخالية:

طلول إذا دمعى شكى البين بينها

شكا غير ذي نطق إلى غير ذي فهم

ص: 87

فالأعلام طوامس ووفود الأبواب روامس والمأموم بالإمام مزجور والدار خالية، والباب مهجور، ستغفر الله إلا روضها الناعم، وأرضها المنسابة المذانب انسياب الأراقم، وانتظام الشجر والبحر، والنسيم الزدري بعنبر الشجر، فإن المحاسن في ذلك راقت وصفا اتسقت رصفا، والأمواج تنعطف صفا تنقصف قصفا وتأتي خاضعة إلى البر فتقبل منه كفا وتتيه آونة فتنعطف عنه عطفاً وتتثنى عن الإلمام به عطفا:

تتكسر الأمواج فيه فتتثنى

بيد الصبا مبيضة أعطافها

فكان شهب الخيل قد غرقت به

فطفت على أمواجه أعرافها

فارقناها يصاحبنا الهواء الرطب ونسيمه، والأرج العنبري وتسنيمه، ولنفس النجدي الذي هو في الصحة شقيقه وقسيمه، وقد أحدقت البساتين بها أحداق الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، وامتدت بطحتها الخضراء امتداد البصر فكل توقع لحظة لجهاتها نضرته اليانعة قيد النظر، وما زلن نسير على بساطتها الأخضر، وأديمها الأنضر، إلى أن وفينا مدينة) غزة (في ظهر يوم الاثنين الرابع لصفر المذكور فأقمنا بها إلى خرجنا منها في عشى يوم الثلاثاء خامس صفر المذكور وقد تضخمت صفحات الربى بخلوق الأصيل وأرزمت المطايا إلى الدعة أرزام الفصيل وسرنا نحث في الرحيل ونصل المساء بالصباح والغدو بالأصيل إلى أن وصلنا إلى) قاطية (والظلام يزملنا بنجاده واليباب يرفعنا إلى ظهور روابيه من نجاده في نصف ليلة الأحد العاشر لصفر المذكور وهي بليدة عجيبة منقطعة في ذلك الرمل غريبة جدبها خصب وشيبها شبيبة، يمتد بين يديها من كلا جنبيها رمل أفيح أغبر لا ماء ولا شجر ولا ظل ولا ثمر قد نبذت بالعراء، ووضعت في وسط الصحراء، فهي تشتكي ظماء وتستقي على البعد ماءها، لكنها حسنة المنزع، متسعة المربع، تقبل من لحسن بثمان وتدبر بأربع لولا ظلم نهيها وأمرها، وشوب حلوها ومرها، وعظم ضرها للوارد وقهرها، تفتش أمتاعه، وتنهب رقاعه وتستلب من بين يديه، فلا بيعه ولا ابتياعه وفي مثلها يغضب الحليم فيحذر، وينفث المصدور فيعذر، قال بعض العلماء بلاد الحجاز آخرة ولا دنيا، ومصر دنيا ولا آخرة والشام دنيا وآخرة وقاطية لا دنيا ولا آخرة، ولما رأيت هبوب ريحها، ودبيب تباريحها، وتصريف صروفها، وتحريف حروفها، وتأملت الخائن فيها فإذا هو مؤتمن والتمست العدل فيها فوجدته كالماء في دار عثمان، له ثمن، زويت وجهي عن محاسنها، وساويت بين صفوها وآسنها، ورميت بحبلها على غاربها، وضربت وجوه مشارقها بمغاربها وكرهت علها ونهلها، وتركتها وتركت جملتها لها، وخرجت منها في عشى اليوم المذكور، والشمس مرضى أصائلها، والربا معصفرة وصائلها، وسرنا نطوي مسافة البيداء، طي الرداء، ونطير في جو الرجاء بجناح النجاء، إلى أن وصلنا إلى مصر فنزلنا بها في ليلة يوم الخميس الرابع عشر من صفر المذكور قد أظلنا الليل. كظهر الفيل، التف جنحه باهابه، وافتر فجره عن نابه وكأن سماءه سندس عليه نثير تفاح، وكأن بدره يفتش عن صحبه بمصباح، ومر يحدوه السير إلى أن لف الثريا في ملاءته الفجر، فوسنا سنة النصب وهدأنا هدأة الوصب، فما صحت العيون من نشوة رقادها، إلا لتغريد الطير في أعوادها، وذكاء قد أذكت قبسها علينا، وسفرت فكشفت عن صبحتها إلينا، ونسيم الروض يروي الطيب ويسند، ويعض النبلاء يردد وينشد:

بتناوبات الورد يضربه الندا

في ظل أخضر بارد الأنداء

والليل يخفى نفسه في نفسه

والصبح كشاف لكل غطاء

وكانما الإصباح ينشر مهرقا

أثر المداد به من المساء

فأجابه صاحبه على إنشاده كأنه ما فطن لمراده:

قم ترى الليل كيف رق دجاه

وبدا طيسانه ينجاب

وكأن الصباح في الأفق بار

والدجا بين مخلبيه غراب

وكأن السماء لجة بحر

وكأن النجوم فيها حباب

فعجبت من ذكاء المنشدين، وأديت بعد الطهارة ما حل من الدين وتقاضينا جواب القطعتين فأنشدتهما لابن جرج رضي الله عنه:

ربى تروق وروضات مزخرفة

وسابح مد بالهطالة الهتن

وللنسيم على أرجائه حبب

يكاد من رقة يخفى على الغصن

وأنشدتهما لابن صارة رضي الله عنه:

تأمل حالنا والجو طلق

محياه وقد طفل المساء

وقد جالت بنا عذراء حبلى

يجاذب مرطها ري رخاء

ص: 88

بنهر كالسجنجل كوثري

تعاين وجهها فيه السماء

) وبحر النيل (العجيب قد فاض فيضا، وركضت سيوله في البسيطة ركضا وزاد امتلاؤه على حده فسقى بالزيادة أرضا، وانسلت صلاله فسكنت الرياض، وقد يسكن الصل روضا، وتلك الأساطيل قد صففت من حوله صفوفا، وكفت من موجه كفوفا، وسلت لأعناقه من مجاذبها سيوفا كثيرا ما كنا نركبه ولا نرهبه، ونستصحبه ولا نستصعبه، نرد على طريق إليه ونعوج عن غيره، ونعرج عليه، ومع ذلك نواخي الفضلاء ونوالي العلماء فممن لقيته بمصر من كبراء المتصوفين، وفضلاء المتبتلين العابدين الشيخ العالم الصوفي الولي نجم الدين، أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف القرشي الحجازي نفع الله به فرع الحسب الصميم، ونبع الشرف العظيم، وطبع الفضل العميم وطوع التخلي الكريم شرف إلى سماء الكرم مرقاه، وأدب من ماء الكوثر سقاه، وكأطيب الثمر تخيره وانتقاه، سلف له في العالم أسلاف كرام وثبت له في قريش نسب يحق له إجلال وإكرام، واستقر له في التصوف قدم وإقدام، يجب له احتفاء واحترام وجل الكمال والكلام وصاحب الحال والمقام وحامل فخر الأقلام ونجل السراة الأعلام، وأجل بيوت الإسلام غرر الزمن البهيم، وموارد الآمال الهيم:

لو كان يقعد فوق النجم من كرم

قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

ضربوا بمدرجة الطريق قبابهم، وأفنوا في اكتساب المجد وفرهم وشبابهم، رضي اللهم عنهم وأرضاهم:

ثم زادوا أنهم في قومهم

غفر ذنبهم غير فخر

ورث الطريقة الصوفية عن آبائه الكرام وأجداده، واستقل بشيخها فلم يدعها معه أحد من أنداده فغدا صدر صدور المشيخة الصوفية، والراسخ القدم في رتب الولاية الربانية، والمجلى في حلبة رواة الأحاديث النبوية والمتميز بجملة وافرة من اللغة وفنون العربية، صوام نهاره، قوام ليله لا تلحقه سئامة الملل، ولا تتعلق به فترة الكسل، بالغا درجة التوكل بالقول والعمل، فهو الآن في ذلك القطر، عظيم القدر شهير الذكر، له كرامات تربى على العد والحصر، وفراسات تغوص على السر، في موج الفكر، فتبرز المكتوم والكنون، وتنجز المظنون والمضمون وما يعقلها إلا العالمون، لقيته بمنزلة مصر المحروسة فسمعت من لفظه جملة وافرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن جملة مسموعاته كتاب مسلم بن الحجاج وكتاب الشفا للقاضي أبي الفضل عياض رحمه الله وغيرهما، وقد سمعت عليه بعضهما، وتناولتهما من يده المباركة وأخبرني رضي الله عنه أنه لبس خرقة التصوف كما ألبسنيها من يده المباركة عن والده ولبسها والده عن جده الولي الأكبر أبي الحجاج يوسف المشتهر بالأقصري ولبسها جده عن الشيخ أبي مدين دفين تلمسان رضي الله عنه، قال وكان اجتماع الجد أبي الحجاج يوسف المذكور به بالأرض البيضاء ببلاد السودان على خرق العادة، وللأرض ألسن ذاكرة تقول الله الله.

وسمعت من لفظه غيرهما وأجاوني جميع ما يحمله ويرويه وكتب بخط يده ما نصه قال الشيخ الكبير الجد يوسف عبد الرحيم الأقصري قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه، قيل لي من قبل الله تعالى من جاءك من أهل الطلب فدله عليها وأما الوصل فمنا فمن رأيناه صادقا محقا لدينا، وصلناه إلينا ومن رأيناه لا يصلح جعلناه خادما وأجرته علينا، ومن رأينا غافلا عنا طردناه من بين أيدينا، فانه لا يصل إلى المحبوب من هو بغيره محجوب، وذكر لي رضي الله عنه قال مما وصى به الجد الأكبر أبو الحجاج يوسف المذكور خواصه وأصدقاءه قال: إذا أدركتكم الضرورة والفاقة فقولوا حسبي الله ربي فالله يعلم أنه في ضيق وذكر لي أيضا رضي الله عنه قال رأى هذا الجد يوسف المذكور النبي أصابته فاقة فشكى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم قل يا بر يا رحيم، ألطف لي في قضائك ولا تول أمري أحدا سواك حتى ألقاك فلما قالها أذهب الله تعالى فاقته قال فكان رحمه الله تعالى يوصي بها أصحابه وأحبابه، وأنشدني لبعض الفقراء وكتبهما لي بخطه:

لئن شت الزمان لنا جسوما

فقد جمع الوفاء لنا قلوبا

وان أصبحت من عيني بعيدا

فلست تزال من قنبي قريبا

وأنشدني لفظا لبعضهم وكتبهما لي بخطه رضي الله عنه:

ما أنت غيري فأخشى أن تفارقني

فدتك نفسي يا روحي فأنت أنا

ص: 89

لئن تباعدت الأجسام وافترقت

فالروح واحدة والسر يجمعنا

وممن لقيته بها من بلغاء الخطباء، وفضلاء العلماء الشيخ العالم الفاضل علم الدين أبو قاسم بن عبد الله بن أبي القاسم الشافعي أنقى الله بركاته سراج من سرج الأئمة وهداة الأمة ومن يقتدي بأنواره، ويهتدي بآثاره في شبه الظلم ويهتدي بآثاره في شبه الظلم وظلم الشبه وغياهبهما المدلهمة كلما تقلب تغلب. وكيف ذهب اذهب. وأينما أصاب أصاب، وحيثما ثاب أثاب فأهل ولائه مهتدون بعلائه لا يطلع إلا ومغيب شهابه ظلاله، ولا يغيب قمرهم إلا وقد لاح هلاله، فأياديه تستهيدها المحافل ويستجديها الطالع والآفل يجتنيها الجناة على اختلاف طبقاتهم، وتباين درجاتهم وقد طاب فيهم خيرها وخبرها وحسن في مساري أسماعهم وأبصارهم مسلكها وأثرها فرفعت بأيدي الأيدي راياته، وتليت بالسنة سورته المعجزة وآياته وامتدت في مجال التأييد والتأبيد غايته وافترت به ثغور الأيام عن مباسهما، ونظمت مئاثره الأثيرة في سلك أعياد ومواسمها وحفظت بحفظ علومه العلمية في عالمها ومراسمها، وحليت بحلى معارفه السنية السنية صفحات لباتها ومعاصمها، فأصبحت الأرض مشرقة بأنواره ومبتهجة بآثاره، قد راقت نعمة ونضارة، ورقت له لدونة وغضارة، وعمت برفادتها البدو والحضارة فأقسم بما لديه من أحكام اليراعة وأحكام البراعة وباعث الاستطاعة بأعباء السمع والطاعة، وأنه لقسم لا يأثم عاقده، ولا تحل إلا بأكف البر معاقده لقد وردت لما وفدت موارد خطابه، وحصلت في حلبه خطابه وتولعت لما تطلعت إلى بسره وأرطابه، فتفيأته ظلالا، واستسغته زلالا واستنرت بلؤلؤ غرته، وآلاء مبرته قمرا فأنشدته وماثلا بين يديه الكريمة ترويا وارتجالا:

إليكم صرفت النفس وهي مروضة

وجئت بقلبي نحوكم وهو يطيع

وان كنت سني الإخاء فأنني

بحكم الهوى في حبكم كتشيع

لقيته أولا بأحواز مضر ببلد) دمنهور (ثم لقيته ثانيا بقسطاط مصر وهو بها العالم علم الدين المشهور، فسمعت من لفظه في الأولى حديث الرحمة المسلسل بشرطه وغير ذلك من مروياته، وأعلى مروياته، وقرأت عليه بلفظي في الثانية جميع الأربعين حديثا البلدانية للحافظ أبي طاهر رضي الله عنه وحدثني بها عن الإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن مخلوف بن عبد الرحمن ابن جماعة الإسكندري قراءة منه عليه بلفظه بها عن جعفر بن علي أبي البركات الهمداني سماعا عن الحافظ السلفي سماعا، وحدثني بها أيضا عن أبي الحسن علي بن عمر الواني الصوفي قراءة عليه وهو يسمع بالقاهرة عن سبط السلفي سماعا متصلا، وحدثني بحديث الرحمة وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرني به أبو الحسين يحيى بن عبد السلام الإسكندري وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرني ابن عمي أبو بكر ابن عبد السلام الصفاقصي عرف باب المقدسية وهو أول حديث سمعته منه عن الحافظ السلفي، وهو أول حديث سمعته منه حضورا بسنده فيه وقرأت وسمعت أيضا عليه غير ذلك من كتب الحديث وغيرها وأجازني إجازة تامة مطلقة عامة وكتبت لي بخطة وأنشدني لبعض المشارفة:

ألا يا راحلا في فقر عمر

يكابد في السرى حزنا وسهلا

بلغت نقى المشيب وجزت عنه

وما بعد التقى إلا المصلا

وأنشدني للصاحب أبي القاسم بن عباد:

أيا قمر تبسم عن أقاح

ويا غصنا يميس مع الرياح

جبينك والمقلد والثنايا

صباح في صباح

وأنشدني لبعضهم:

قلت للأهيف الذي فضح الغصن

كلام الوشاة ما ينبغي لك

قال قول الوشاة عندي ريح

قلت أخشى يا غصن أن يستميلك

وأنشدني لبعضهم أيضا:

تثني عطفه خطوات دل

إذا لم تثنه نثوات راح

يميل مع الوشاة وأي غصن

رطيب لا يميل مع الرياح

وأنشدني لابن سنا الملك:

يا عاطل الجيد إلا من محاسنه

عطلت فيك الحشا إلا من الحزن

في سلك جسمي خيط الدمع منتظم

فهل لجيدك في عقد بلا ثمن

لا تخش مني فأني كالنسيم ضنى

وما النسيم بمخشي على الخصن

ص: 90

ودخلت على الشيخ الأكبر، دوة الدهر ووحيد العصر، أبي حيان محمد بن يوسف بن حيان المتقدم الذكر، منزله من القاهرة المعزية مجددا عهدا ومجردا من فوائد ما لا أجد منه بدا، فقرأت عليه أجزاء عديدة، وأخذت عنه أشياء مفيدة وقد استوفيتها في برنامج روايتي، ومما قرأت ثانيا عليه من نظمه قصيدة طويلة مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولها:

لا تعذلاه فما ذو الحب المهذول

العقل مختبل والقلب مبتول

هزت له اسمرا من خط قامتها

فما انثنى الصب إلا وهو مقتول

وقرأت عليه من نظمه قصيدة بارعة يصف فيها غرناطة وطنه ويبث فيها شوقه وشجنه ويندب معاهده بها ومشاهده، ويذكر مصتدره بينها وموارده، وأولها:

هل تذكرين منازلا بالأحبل

ومنازها حفت بشطى شنل

ومشاهدا ومعاهدا ومناظرا

للقاصرات اليعملات الذبل

حيث الرياض تفتحت أزهارها

فشممت أذكى من أريج المندل

والطير تشدو مفصحات بالغنا

فوق الغصون الناعمات الميل

فتثير للمشتاق داء كامنا

وتذيل صائن دمعه المتهلل

وأخذ يصف لي أشواقه إلى الأندلس الكريمة، ويتأوه لذكر عهوده القديمة، وتبع الزفرة بالزفرة، ويصل العبرة بالعبرة ويقول والله لقد كنت ارتحل إليها لو كانت لي طاقة أو قدرة، وأنشدني لنفسه ودموعه تفيض نهرا، وتبل منه صدرا ونحرا، وتسيل على بسيط خدوده فتسلك منها سهلا ووعرا:

يا فرقة أبدلتني بالسرور أسى

وأسهرت ناظرا قد طالما نعسا

أنى يكون اجتماع بين مفترق

جسم بمصر وروح حل أندلسا

فبكيت والله لبكائه، ودعا الله في رجوعه إليها فأمنت على دعائه، ثم شهق شهقة حسبت فؤاده بها منفطرا ولم يزل بقية يومه منكسرا.

أن للجنة بالأندلس

مجتلى عين وريا نفس

فسنا صبحتها من شنب

ودجا ليلتها من لعس

فإذا ما هبت الريح صبا

صحت وأشواقي إلى أندلس

ثم خرجنا من مدينة مصر في يوم الأربعاء الموفى عشرين لصفر المذكور فركبنا في بحر النيل العجيب جواري منشئات، عذارى حبشيات وناسكات على الماء ماشيات، تطلعنا على تلك الآيات، وتطالعنا بحسن الآيات وتذكرنا بهذه الأبيات:

نزلنا بمصر وهي أحسن كاعب

فقيدة مثل زانها كرم الفعل

فلم أر أمضى من حسام خليجها

يلوح على أفرنده صدأ الصقل

إذا سأل لا بل سل في متهالك

من الأرض جدب طل فيه دم المحل

غداة جلا تبر الشعاع متونه

ولا شك أن الماء والنار في النصل

ولا مثل أعطاف الغصون كأنها

شمائل معشوق تثنى من الدل

ينظم تعويذا لها سبح الدجا

وينثر إعجابا بها لؤلؤ الطل

ورحنا على البحر وقد سكن هائجه وركن مائجه، وأقبلت الزوارق تهفو بقوادم غربان وتعطو بسوالف غزلان تخالها في سمائه أهله مكسوفة. وتحسبها فوق مائه جريدة دهم مصفوفة. وزورقنا بينها يسرع في اندفاعه. وقد استدرنا تحت ظل شراعه فحسبته خوف العواصف طائرا مد الحنان على بنيه جناحه، وما برحنا نسرع سفرا. ونسير نفرا، ونرتشف من ماء النيل كوثرا، ونتجلى منه حبابه زهرا. ومن جوانبه زهرا. ونتبوأ من جناته منازل فتحت أبوابها فدخلناها زمرا، وأنشدتها حين ودعتها.

وفتحت أبواب السهاد لناظري

وجعلت ليلى بالنجوم مسمرا

ص: 91

إلى أن وصلنا إلى) فوهة (ضحوة يوم الجمعة الثاني والعشرين لصفر المذكور وهي بلدة من أحسن بلاد ذلك الساحل مرءى وأخصبها مرعى. وأملحها مرسى. وأمنحها أنسا وأينعها روضا وانفعها أرضا فأممنا بها برهة ثم قطعنا النيل أمامها عشية وسرنا في الخليج راكبين بين جنات معرشات وغير معروشات وبلدان موشاة بالبطاح منقوشات وروضات هي مرتع النواظر، ومتنفس الخواطر قد أخذت أدوات الجنان. وضحكت عن العبقري الحسان، وأتت من الحسن والإحسان بما يقصر عن وصفه لسان القلم وقلم اللسان، إلى أن وصلنا إلى الإسكندرية فدخلناها في صبيحة يوم الأحد الرابع والعشرين لصفر المذكور، ونزلنا منها بالمدرسة الموسومة بالعلمية منزلا تشتهيه الأنفس وتلذ له الأعين وتسبح من حسنه الأفواه والألسن، وأقمت مترددا هل يتسنى لي السفر أم القعود، وهل أعود في البحر أم أبقى على توبتي منه لا أعود، يدبر ابن آدم والقضاء يضحك، إلى أن تهيأ مركب ابن خلاص للسفر إلى تونس فلما كمل فيه الوسق وركب فيه الخلق قلت الدخول فيما دخل الناس فيه هو الحق وجعلت أفضل البحر فتقرب الأوطان، ونسيت هوله وما أنسانيه إلا الشيطان، فاستخرت الله تعالى وركبت فيه أنا وأخي محمد بمرسى المنار في عشى يوم الأحد ثاني يوم من شهر ربيع النبوي المبارك من عام ثمانية وثلاثين المذكور ثم رفع الشراع وسرنا حتى إذا كنا بالمواسط أمر الله باجتماع الرياح المختلفة، وتفريق تلك الأمة المؤتلفة، فضربنا في البحار يمينا ويساراً وسرنا إقبالا وإدبارا، ورأينا بروقا وأمطارا، وكسرنا أقساطا وجرارا، وقدرنا الهلاك أما انطمارا، وإما انكسارا، فلما انتهينا إلى قريب طرابلس الغربية بعث الله تعالى ريحا شديدة غربية ضربت من تجاهنا في وجوهنا، وردتنا على أعقابنا وأدبارنا إلى أن دخلنا بها مرسى العمارة في عشى يوم السبت الموفى عشرين لشهر ربيه الأخير من العام المذكور بعد أن كابدنا نصبا وعناء وعدمنا زادا وماء، وكدنا نموت غرقا وجوعا وظمئا. والأخبار كلما كانت أشد على من شاهدها كانت أطرب على سمعها والأسفار سفر عن أخلاق لرجال وتجول بالمرء في كل مجال لا جرم أني لقيت بها أنجادا وأغوارا وظلمات وأنوارا:

والناس كالناس إلا أن تجربهم

وللبصيرة حكم ليس للبصر

كالأيك مشتبهات في منابتها

وغنما يقع التفضيل بالثمر

) وهذا المرسى (لما رسينا به قام رئيس الجفن المذكور رجل من الأرذلين يلقب بالفنش فقال يا قوم قد رمنا السفر فما تيسر لنا فلابد لي من الإقامة أيام الشتاء هنا على كل حال وهي ثلاثة أشهر لا محالة فمن أراد السفر في البر غربا أو شرقا فليفعل ثم أظهر لنا العزم على القعود، وأعطانا عليه جميع المواثيق والعهود، وأشهد على نفسه شهود السفينة وناهيك بالشهود، وحلف باللازمة المغلظة، وأيمان الطلاق المؤكدة ثم رفع إلى السماء يديه وشرع في سب والديه، والدعاء بالذبح على ولديه. فهبط عند ذلك من المركب نحو المائتي رجل مشرقين ومغربين:

تفيض لي من حيث لا أعلم النوى

ويسري إلى الهم من حيث أعلم

ثم قام فقال لي يا سيدي حفظك الله وأصلحك أني والله أحبك فوجب على أن أنصحك فقلت وما ذلك، جعلت فداك، فقال أرى أن تنزل إلى البر لتستريح وتكفي هذا الماء وهذا الريح، وهنا في هذا البراري دشار يقال له العماري فصل إليه فإن صلح بك أخذت حوائجك وعزمت عليك فقلت له لعمري لقد نصحت وبينت وأوضحت، وعجبت من فضله، وشكرته على قوله، ولم أدر أنه تحيل فيما تحيل ومكر فيما ذكر:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

ولو خالها تخفى على الناس تعلم

فبادرت مسرعا ونهضت لا مودعا. ونزلت أنا وأخي على أن نعود ونرتاد حيث نلتزم العقود:

وقد كان حسن الظن بعض مذاهبي

فأدبني هذا الزمان وأهله

ص: 92

وكان نزولنا في صبيحة يوم الخميس الخامس والعشرين لشهر ربيع الأخير المذكور فساعة وطئنا تراب البر، وغبنا عن الجفن وعن البحر، رفع الخبيث شراعه، ووافق شيطانه الغوى وأطاعه، وراح وتركنا منبوذين بالعراء، مطروحين في وسط الصحراء حيارى في أمرنا سكرى، ولا ندري أغربا سلك أم رجع القهقرى، ولا نلتفت إلا إلى زفرة حرى، وعبرة تتوالى وتترى، فما أم طفل قد قذفها خطب الزمان لعنيد، ببعض مسارحلبيد، في أرض موحشة المسالك كثيرة المهالك، قد لمع سرابها، وتوقدت هضابها، وصرخ بومها ونفر ظليمها وحضر سمومها، وغاب نسيمها، فلما خافت على ولدها من الظلماء الهلاك، وأجلسته إلى جانب كثيب هناك، ثم عادت في طلب ماء للغلام، ليلا يقضى عليه حر الأوام، فانتهى بها المسير إلى روضة وغدير، وآثار مطى بوارك، تدل على أن الطريق هناك، فعادت إلى الغلام مسرعة وكل أعضائها إليه عيون متطلعة، فلما شارفت جانب الكثيب، رأت ولدها في فم الذيب. . .

بأعظم كنى حسرة وتلهفا

وأكثر منى حرة وتوجعا

وأغزر دمعا عندما أقلعوا ضحى

ومركبنا أضحى على البعد مزمعا

فلما تجرعت أفضع منها غصة، ولا أفضح منها فرصة وتحملت فقد كل شيء وتجلدت عليه إلا فقد الكتب فلم تبق لي جلدا، ولا عزيت عليه خلدا، وسقط في يدي، وأظلمت الدنيا في عيني وبقيت ولا تسأل كيف بقاءي، ودعوت وما قدرت على دعائي وعتبت ولكن:

كأنني كلما أصبحت أعتبه

أخط حرفا بأقلامي على الماء

ومكثت في دشار الغناري النكد لا املك إلا نفسي وأخي عاريا من الثياب خاليا إلا من الوجد والاكتئاب، بين قوم لا يحسن بهم إلمام، ولا ينهاهم عن قبيح شيب ولا إسلام، ما فيهم إلا من يكلح، ويقسم وجهه أنه لا يفلح:

قبحت مناظرهم فحين خبرتهم

حسنت مناظرهم لقبح المخبر

قد عكم البرد أفواههم، ووسم الفقر جباههم، فلا التفت منهم إلا إلى وجه مكرب، ولا أدري إلى أين انقلب هل إلى مشرق أو إلى مغرب:

حيران أذهل عن إجابة من دعا

بأسمى وأوحش في الجميع الحضر

فأقمنا نبغي فرجة من عقال، وعرجة إلى خير انتقال، وبقيت هنالك في بيت الصلاة أتجرع الغصص وألج كما يلج العصفور القفص، أتحيل لهذه النفس لأنقذها مما وقذها، وأتخلصها مما تقلصها، وأتوسل لأجلاف أخلاف، أتجرع بينهم مرارة الذل، وأعدم حتى لمحة الظل:

أملتهم ثم تأملتهم

فلاح لي أن ليس فيهم فلاح

فلما طال الأمر وعيل الصبر، ولم يبق منهم إلا من تسبب في سفك دمنا وكاد، وبلغ بالنفس التراقي أو كاد، قلت لأخي أما وقد حصلنا في هذا الكرب، فالإسكندرية أقرب من الغرب، وأخلص أن سلمنا من العرب، فلنخرج فلعل الله يسلك بنا للنجاة منهجا ويجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا، فوافقني على ذلك واستخرنا الله تعالى هناك، وخرجنا:

في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا

ليلة يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى من العام المذكور، فتسللنا متفرقين فريقين، وقصدنا جهة البحر، ودعونا الله تعالى في ستر الأمر، وسرنا في الماء ليلا تقع العين على الآثار، وسلكنا بطون الأودية وظهور القفار، وقلوبنا تطير فرقا، وتخفق وجلا، وإن رأينا غير شيء ظنناه رجلا، لا نركن إلى الحلال ولا نجد سبيلا إلى الماء الزلال راكبين ظهر مهمه يضل القطا في ساحته وتكل الرياح النكب دون مساحته:

سريت به أحييه لا حية السرى

تموت لا ميت الصباح يعاد

يقلب مني العزم إنسان مقلتي

له الأفق جفن والظلام سهاد

وطفقنا نسير كذلك ليلا ونهاراً، ولا نبيت صياما ولا نجد إفطارا، فكنا إذا أضر بنا الجوع كل الضرر، ولم نقدر معه على الهجوع ولا على السفر ملنا إلى بعض بيوت الشعر، وقلنا الضيافة على أهل الوبر، ليست على أهل المدر، ثم نعطف عليها عطفا ونحن نتساقط ضعفا، ونقدم باعا ونوخر ألفا، فلا نجد إلا من يقول أفا، ويهدد حتفا، ويضاعف الكرب ضعفا، فنخرج عن البيوت مشردين ومطردين على حالة ترحمها الجبال الشم، وترثى لها الصخور الصم:

فنعود في البيد القفار أذلة

خضع الرقب نواكس الإبصار

وما زلنا نقبل في ذروة وغارب ونطارد كل شارد وغارب:

تترامى كأنها ورق جف فألوت به الصبا والدبور

ص: 93

إلى أن قاربنا أرض الإسكندرية وخفت عنا هموم تلك البرية:

فيا دارها بالغور أن مرامها

قريب ولكن دون ذلك أهوال

وسرنا نتقلب إلى البيوت فنحتال على شيء من القوت، وما ظنك بالقوت، وهو كف من الشعير البالي لا نحمله إلا عن العوالي ولا نأخذه حتى نقرأ ألف رقية، ونعقد ألف خيط بألف عقدة، يطلب منا نفعها ودفعها للصوص والذئاب، والكهوف والكلاب:

تدعو الضرورة في الأمور إلى

ركوب ما لا يليق بالأدب

فإذا فتح الله تعالى تلك الحفنة منه وضعناها مع النار في الأرض حتى تتلقى ثم نفخناها من الفحم والتراب والرماد وأكلناها:

لونا ينم لنا عليه طيبه

ويزيد ألواناً على ألوان

ويلوح من مرآه مرأى حالك

وكذلك كان يضيء في الأبدان

وبقيت الحال على ذلك إلى أن دنونا من المدينة وحينئذ لمحنا غرة الصخينة، فألزمنا قمرها من سحابنا سجوفا، ومحونا إشراقها كسوفا، وما ظنك بخرقاء وجدت صوفا، وما ظنك بالحلفاء أدنيت لها النار ولما وقفت من أمر برقة على ما وقفت، وكابدت منها ما كابدت، وعرفت ما عرفت أحببت أن أذكر من ذلك في النظم، ما يقرب للحفظ ويكون في العلم، وهي قصيدة نظمتها شبه الارتجال، وعلقتها بين يدي الأوجال، وأولها:

لا قدس الله ربى كل بحري

رمى بنا بخداع في الغماري

في أرض برقة لا ماء ولا شجر

ولا مكان سوى الريح الجنوبي

يستوحش الوحش فيها في مسالكه

ويستعيذ لديها كل جني

فيها طوائف أعراب ذوي شره

مبرئين من الدين الحنيفي

تلقاهم بين أطمار ملفقه

من فوقها كل ذي وجه غرابي

من تلق منهم تقل لاقيت أسوءهم

وجها وأسوء بالطبع الغريزي

لا يعرفون لقرص الخبز من صفة

ولا يرون سوى القرص السماوي

ولا يبيت لهم ضيف على شبع

إلا بنا ذاق من غم ومن غي

محاربين ترى الحجاج بينهم

موتى يخوضون من حي إلى حي

مجردين حفاة هالكين أسى

والأكل أول منبوذ ومنسي

تلين فيها الصخور الصم راحمة

لمن يراها ولو كان ابن ذمي

والقوم لا راحم فيهم على أحد

أرحمة ترتجى في قلب برقي

كيف التخلص لي من هؤلاء وما

تريد من شاعر فيهم ونحوي

أرقى الجمال وأرقى كل ذي وجع

ويستريح بنفثي كل جذري

وأكتب الحرز للمحموم ينفعه

وأعقد الخيط ما لي فيه من عي

ونشرة الكسب في حفظي إذا وضعت

على الزريبة تنفي كل وحشي

والشقف عندي لرب البيت أكتبه

يلقى على باب بيت غير قبلي

وأعرف اليوم أشقاه وأسعده

والليل أعرف فيه كل دري

وأعرف الشهر في خف وفي ثقل

والعام هل مطر فيه لصيفي؟

وأضرب الخط في رمل وأعرف من

أشكاله كل ماءي وتربي

وأحفظ الشعر للعربان أنسبه

لأهله من جذامي ولخمي

فهذه كلها في برقة سبب

للعيش إن بات فيها كل غربي

ولا تفتك عصا للكلب تحملها

وتتكيها لدى الأمر الضروري

وقد دللتك عن علم وتجربة

سل العليل ولا تسأل لطبي

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

لا يوجد الكعك إلا عند كعكي

ثم سرنا نجتاز على بيوت من الليف ونروي الأحاديث عن الرغيف فما يتفق لنا في الوجادة إلا بالسند الضعيف، وتسلسل الحال، واتصل الترحال، إلى أن وصلنا الإسكندرية المحروسة، وقد فنينا بؤسا، وعرينا ملبوسا، وتبدلنا صورا ونفوسا، وحملنا حشى كفؤاد أم موسى، حتى كأنا أخرجنا من القبور نخبر عن النفخ في الصور، وهول يوم النشور، فدخلناها عشية يوم السبت الرابع لجمادى الثانية من العام المذكور، فنزلنا منها بالمدرسة العلمية المتقدمة الذكر منزلا مرتضى أعقب بالرضى، وانس وأنسى ما مضى، فانبسطت نفسي ورجع إلى عقلي وحسي، وعاد يومي أحسن من أمسي، وجعلت أنشد أهل ودادي وأنسي:

أنا من البدو أقبلنا نؤمكم

انضاء شوق على انضاء أسفار

لابد للصب أن تبدو صبابته

ذا تبدل غير الدار بالدار

ص: 94

ثم سمعت بخبر جفننا المذكور الذي غاب عدة من الشهور، ورمى وسقه ورجع فارغا إلى تحت السور، أنه قد كان قبلنا وصل ودخل راجعا إلى مرسى المدينة وحصل، فما كذبت ولا صدقت حتى ذهبت وحققت، فألفيته قد اعترف بالخيبة واعتذر عن بعد الأوبة، وانتبذ وحده من بين الأجفان كلها، انتباذ من جنى جناية لم يوت بمثلها، والناس يعظمون ذنبه جدا ويعدون شهور غيبته عدا، ويقولون له قد جئت شيئا إدا، وهو قد أبدى وجله ولبس خجله، وقال تعست العجلة، فأسرعت لما سمعت ما سمعت وأنزلت منه جميع ما استودعت وتمثلت:

كان الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى

ولم يكن صعلوكا إذا ما تمولا

ثم ضممت رحلي، وشمرت لدخول المدينة ذيلي، وخليت بينهم وبينه، ودخلت ولم تر بعد عيني عينه، وأخذت في تمهيد القعود والإقامة، وتجديد العهد بالأئمة المشتهرين بإمامة، فاختلفت إليهم فائتلف الشكل والشكل، وعرفت منهم ما لم أكن عرفته من قبل، ولله المنة على في ذلك والفضل:

وقد كان صرف الدهر فرق بيننا

فمن حسنات الدهر أن جمع الشمل

وقد انتقيت منهم هاهنا مستأنفا، زيادة إلى ما ذكرته من أهل قطرهم آنفا، جماعة البسوني شرفا وجمالا، وأوسعوني برا وإجمالا، فألبسهم اللسان إحسانا، وأبرزهم البيان والبنان إنسانا فإنسانا) فمنهم (ملك قلم الفتيا، وسالك القنى العليا، والشيخ العالم العلامة نجم الدين أبو الحسن علي بن زين الدين أبي عبد الله محمد بن جمال الدين أبي القاسم هبة الله ابن الأنصاري الخزرجي المالكي أبقى الله بركته، عالم بالأحكام والشروع، ومفتي الأئمة في الخطب المروع، وإمام في الحديث والنحو والفروع، وأنه النجم في أوجه، والبحر متدفقا بموجه، له عقل راجح، وعلم واضح ونور لائح، ومع ذلك رجل صالح للخيرات إيضاحه وخبه، وبالصالحات غرامه وحبه ومناثره الأثيرة، أبين من ابن ذكاء وأظهر من شمس الظهيرة:

وليس يصح في الأوهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

ولي في بلده القضاء، وأحسن فيه السيرة والإمضاء، وأجاد الحالتين السطوة والأغضاء، ثم نزعة من يده نزعا، وانتقل عنه تطبعا وطبعا، واشتغل بالله قلبا وذهنا وبصرا سمعا، وأقبل على العبادة والإفادة بإخلاص ويقين، فتقبل الله تعالى علمه وعمله، وإنما يتقبل الله في المتقين، ردد الاختلاف إلى بيت الله الحرام، وأطال الطواف بين الحجر والحجر والركن والمقام وجاور بالحرمين الشريفين عدة من الأعوام، فكثرت حجاته وعلت درجاته، وناجت حسناته، وحسنت مناجاته:

يقضي بنشر العلم في الناس يومه

وتجفوه في جنح الظلام المضاجع

فينفك عنه يومه وهو ذاكر

وينفك عنه ليله وهو راكع

ص: 95

انتحل العلوم دهورا وسنين، ورزق جماعة من البنين وكلهم حملة علم، وأولو وقار وفضل وحلم، بلغوا من بره فوق مراده ومقصده، وعكفوا على تقبيل رجله فضلا على يده، وعلامة الشيخ الصالح نجابة ولده، عمرت بفوائده المدارس، واستمرت له فيها محافل ومجالس، فعظم بها الانتفاع، وعلا فيها السماع، وتتابع لها الأشياع والأتباع، سمعت عليه جميع كتاب الملخص لأبي الحسن القابسي رحمه الله، وحدثني به عن قاضي القضاة زين الدين أبي القاسم محمد بن الشيخ الإمام القاضي العلامة علم الدين أبي الحسن محمد بن رشيق المالكي قراءة منه عليه بجميعه، وحدثه به عن والده علم الدين المذكور سماعا منه عليه بجميعه بحق سماعه له من أبي الطاهر إسماعيل بن ظافر العقيلي عن الشيخ الجليل أبي عبد الله محمد بن احمد بن محمد التجيبي قراءة عليه، قال حدثني الفقيه أبو العباس احمد بن الخطيب، قال حدثنا الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن منصور الحضرمي، قال حدثنا أبو عبد لله بن الوليد بن سعد البكري قراءة عليه، قال أنبأنا الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القابسي وجميع ثلاثيات الإمام أبي عبد الله البخاري رضي الله عنه، وحدثني بها عن الشريف تاج الدين أبي الحسن علي بن أبي العباس احمد بن عبد المحسن الحسيني القرافي قراءة منه لها عليه، قال سمعتها عن الشيخ الصالح أبي الحسن علي بن أبي بكر بن زربة القلانسي قال سمعتها علي الشيخ أبي الوقت عبد الأول السجري بسنده المعلوم وجميع كتاب شرف أصحاب الحديث للحافظ أبي بكر احمد بن علي بن ثابت، الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى وقرأت عليه تفقها نحو الربع الأخير من كتاب موطأ الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وبعض صحيح مسلم رضي الله تعالى عنه، ونحو النصف من آخر سفر من كتاب أبي عيسى الترمذي رضي الله عنه، وجزءا كبير من كتاب الشفاء للقاضي أبي الفضل عياض رحمه الله تعالى ونحو الربع من آخر كتاب التهذيب لابن سعيد البرداعي رحم الله تعالى وغير ذلك من كتب العربية والتأليف الزهدية والوعظية، وأجازني الإجازة التامة وكتب لي بخطه وأسانيده في هذه الكتب المذكورة مذكورة بخطي في برنامج روايتي ومولده رضي الله عنه في آخر جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وستمائة، ومنهم الموفق للسداد، المصيب في الاجتهاد الشيخ العالم القدوة شرف الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الإمام مفتي المسلمين، فخر الدين أبي محمد بن الحسن بن الشيخ جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم القمني الأنصاري الإمام الأعظم والجهبذ الذي على عقده ينثر الكلام وينظم، والفذ الذي به تفتتح المعالي وتختم، وعنه تتضح المعارف وعنده تخيم سلالة الصدور الأعاظم والبحور الخضارم، والسيوف الصوارم والليوث الضراغم وكفاه شرفا. ممدود رواق النساء، آخذ بآفاق السماء أنه عطارد وذلك القطر فلك. وأن ليس وراءه في اتقاد النبل واعتقاد الفضل مسلك، له البحث الذي لا يناهض والإدراك الذي لا يعارض. والسبق الذي لا يجاري ولا يقارض أقام السؤدد حفافيه. ويهي العلم بين يديه فما شئت من معال تليدة، ومعان طريفة، خرست لها شقاشق الفحول، وانقطعت دونها مصاقع الخطباء لما اخترعت ما خط سواها منه المطروق وابتدعت ما نسي به زمان البديع وأتت بالعبر التي ضاقت عنها العبارة، وسارت فلم تبلغ أدنى غاياتها إلا مثال السيارة، فالبشر المسفر روض يرف، والبر الأوفر عارض يكف، والعلم الوضح بحر طام، والحلم الأرجح طود سام، واللسان الرطب، مهند غضب، والإحسان لا يغير مورد عذب، والذكاء المستعر زندوار، والذكاء المشتهر نور سار، والكنف اللين مربع مهضوب، والشرف الأبين مفخر في صفح الدار مكتوب، إلى سجايا كرم، وأيمان، لم ينفطر عليها أهل هذا الزمان رعاها ضمان الله، ولا زال نشرها نزهة الإسلام وطيب الأفواه، لقيته بالمدرسة المعدة لتدريسه بالإسكندرية فسمعت عليه بها جميع كتابه الأربعين، المخصوصة بالتعيين، لرواية سيد المرسلين عن رب العالمين تصنيف الشيخ الحافظ شرف الدين أبي الحسن علي بن الفضل بن علي المقدسي. وحدثني به عن الشيخ كمال الدين أبي العباس احمد بن شجاع بن ضرغام القرشي الشافعي سماعا عليه بحق سماعه لجميعه على المنصف شرف الدين المقدسي المذكور. سمعت من لفظه جميع الكتاب المسمى بكتاب الأربعين في فضل الدعاء والداعين، تصنيف الحافظ شف الدين أبي

ص: 96

الحسن المقدسي المذكور، وأخبرني به سماعا كذلك عن الشيخ كمال الدين أبي العباس بن شجاع بن ضرغام المذكور بسماعه عن المصنف شرف الدين المذكور وقرأت عليه بلفظي جميع الثمانينات المخرجة للشيخ نجيب الدين عبد المنعم بن عبد اللطيف الحراني المعروف بابن الصقيل وهي أربعة أجزاء، وحدثني بها عن الشيخ نجيب المذكور سماعا لجميعها عليه في يوم الجمعة خامس المحرم سنة سبعين وستمائة بمنزل الملك المجاهد بباب القنطرة بمصر المحروسة، وقرأت أيضا عليه حديث الرحمة بسنده فيه وهو أول حديث مسلسل سمعته منه وهو أول حديث سمعته عن الشيخ نجيب الدين المذكور وأجازني جميع ذلك كله وأذن لي في روايته عنه، وأجازني جميع ما يحمله ويرويه إجازة تامة مطلقة عامة، وكتب لي بخطه،) ومنهم (المؤثر الديانة المستكثر الصيانة الشيخ العالم المسند شرف الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن الشيخ المحدث المرحوم عز الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن ابن الكهف القرشي الشافعي، جملة جلال، في خميلة خلال، وموضع الاتساع، والاصطناع والاحتفال في الإجمال والازدياد، من حمده المستجاد والاستكثار من التحسن بحلله والاستظهار، فإنه بقية صالحة وغرة في دهمة الوقت واضحة، نابت في أطيب سرار، بائت في مهاد فخار ثابت من المجد في حجر قرار، يتحلى بظرف حسين، ويحمل وفاء عامر بن جوين ويأوي إلى ربوة وضية، ومروءة مرضية إلى فنون علوم مقامها في العالم معلوم، ومعارف سابقة له فيها مراتب سابقة وصالحات يهيئ طرقها وأسبابها، ومكرمات يسحب أذيالها وأثوابها فلقد بدا من وجوه فضله، وسداد قوله وفعله، وشمول إبانته وعدله، ما تضيق عن تقريره الرقاع، وتترفه بذكره الأسماع، وغيره ممن يشيد بناء، ويستفيد ثراء، ويستزيد جاها وذكاء، وقد كساه الله اكتسابا ووراثة من هذه الوجوه الثلاثة، ما تنقطع دونه الأعناق، ويوضحه الإجماع والأصفاق، ويعرف به جميل مقصده في الخير ومنحاه، ومكانه من العلم لذي يلتزم كل أحد أن يحله ويرعاه) لقيته (بالإسكندرية فسمعت عليه أجزاء منها جميع الجزء المعروف بسداسيات الرازي بسماعه للجميع من الشيخ أبي البركات هبة الله بن أبي محمد عبد الله بن أبي البركات بن زروين الأزدي في يوم الخميس رابع المحرم سنة اثنتين وستين وستمائة بسماعه لجمعيه من أبي القاسم عبد الرحمان بن مكي بن حمزة بن موقي السعدي الأنصاري بسماعه لجميعه من الشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي المذكور، قال: أخبرنا أبو لفضل محمد بن أحمد بن عيسى السعدي بمصر قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن بطة العكبري بها أخبرنا عبد الله بن عبد العزيز البغوي حدثني يحيى الحماني حدثنا عطوان بن مشكان حدثتني جمرة بنت عبد الله اليربوعية قالت: ذهب بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما قد رددت على أبي الإبل، وقال: يا رسول الله أدع الله لابنتي هذه قالت: فأجلسني في حجره ووضع يده على رأسي ودعا لي، وبه إلى الرازي، قال: ومن أغرب ما وقع لي وأقربه إسنادا وهو من الخماسي ما أخبرنا القاضي أبو الفضل محمد بن أحمد بن عيسى السعدي بمصر قال حدثنا عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال: سألت أحمد بن عبيد بن أبي طيبة وكان يزعم أنه سمع من أنس بن مالك والحسن وابن سيرين وحدثنا عنهم فسألته عن اسم أبي طيبة فقال اسمه ميسرة قال عبد الله وقال أحمد بن عبيد صمت لله مائة وتسعة وعشرين رمضانا، قال عبد الله: وسمعت منه في سنة خمس وعشرين ومائتين انتهى أول حديث من هذا الجزء المذكور وقد أذن لي في روايته عنه جميع ما يحمله ويرويه إجازة تامة مطلقة عامة وكتب لي بخطه) ومنهم (الذي بشر بإنجاز إجازته الوعد، وأثار بره سحابا يحدوه الرعد، الشيخ العالم الكبير عماد الدين أبي الحسين بن أبي بكير بن أبي الحسين الكندي المالكي قد كنت لقيته في المرة الأولى، ولم أعمل في إثباته اليد الطولى، لاستصعابه، وقلة استصحابه، وانقباضه عن حملة العلم وطلابه، ثم رأيت أن إهمال ذكره إخمال لقدره وإخلال به بين أهل قطره فشفعت فيه عمله، وأعلقت هذا الديوان اسمه، فقد علم الله أني لا أمين ولا أميل، واغتفر الكثير القبيح إذا تبعه النزر الجميل. وهذا الرجل وإن ألزمه الطبع صلفاً، وناء بجانبه أنفا فقد رفعه العلم وعضده الحلم، وكان له

ص: 97

الحكم، فلم يعرف منه الظلم، ولى رتبة القضاء العلى، ببلد الثغر الإسكندراني، فجرى على النهج السوي، والسنن الرضى، فجر ذيول العز طلقا، وجرع الحلو والمر جزعا ومذقا وحظى فرقا، وأسعد فرقا، وأنحس فرقا، ثم عزل فلحقه الخمول، وعثر به الجد ففاته المأمول وبقي مطرحا، وأقطع الإهمال مسرحا:

ولو لم يعل إلا ذو محل

تعالى الجو وانحط القتام

وما زال يدرس في أحسن المدارس، فيغص مجلسه بالواقف والجالس، ويحضر بين يديه خيار الفضلاء، وكبار العلماء، كلهم معتمدون عليه مستندون اليه، مستفيدون بين يديه:

وكل خاشع الصوت

لديه خاضع النطق

وأنه لأجل إمام وأكبر نحرير، ولا سيما في حديث وعربية وتفسير، وأقول فيه قول من يختصر في ذكره، ويصدق سنة فكره، هو مالك أزمة علو اللسان، وإمام تفسير الحديث والقرآن، والمعول عليه في مذهب مالك بالإجماع والمشار إليه مهما ذكر علم العربية في سائر البقاع، سمعت عليه كثيرا أول الأمر عند ورودي لذلك الثغر، فلما قفلت في العودة ظننته بعض العدة وقلت: العماد مشتق من العمدة، فاستأذنت عليه بأبيات ارتجلتها، وأقمت بباب منزله وأرسلتها وهي:

وارد جاء لاثم لك تربا

أصدق الناس في جلالك حبا

طبق الأرض من ثنائك شرقا

وسيملي مسامع الأرض غربا

طلب الأذن أن يراكم بديها

ثم إن شئت زاد أوزار غبا

أتراكم أسعفتموه لقاء

أم تراه عن بابكم بان صبا

ص: 98

فأعرض عن وجهها الحسن، ونكب عن قصدها تنكيب الجفن المهجور عن الوسن، فعجبت من الجفا، وتعذر الوفا، ثم أعاد نظره فعاد إلى بذل الفضل والخلوص والصفا، فرسم لي خطه بالإجازة، ووسمني بسمة السماع وإجازة الإجازة، ومما سمعت عليه جميع الجزء المنتقى من كتاب فضل الخيل وما يستحب وما يكره من ألوانها وشياتها، وما جاء في كراهية أكل لحومها وإباحتها وما ورد في سباقها وسهامها وصدقاتها، تأليف الحافظ شرف الدين أبي محمد عبد المومن ابن خلف بن أبي الحسن الدمياطي انتقاء الفقيه الفاضل تقي الدين أبي المعالي محمد بن جمال الدين رافع بن محمد السلاحي بسماعه هو لجميع كتاب فضل الخيل المنتفي فيه هذا الجزء على مؤلفه شرف الدين الدمياطي المذكور في شعبان خمس وتسعين وستمائة بالمدرسة الظاهرية من القاهرة المعزية ومن أشياخه المجيزين له بالفتيا والتدريس على مذهب مالك رضي الله عنه قاضي القضاة ناصر الدين بن الأنباري وغيره، وأخذ علم العربية عن الشيخين الإمامين الدينيين أبي عبد الله محمد بن عبد الله النحوي الشهير بحافي رأسه، وبهاء الدين أبي عبد لله محمد بن النحاس الحلبي، وأجازه كل واحد منهما بإقراء فن العربية وسمع الحديث من جماعة منهم الحافظ شرف الدين الدمياطي المذكور وقاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد ابن مجد الدين أبي الحسن الشهير بابن دقيق العيد وغيرهما، وأجازه كل واحد منهم إجازة تامة مطلقة عامة، وسمع على الشيخ عبد النصير المريوطي بعض مقامات الحريري وحدثه بها عن أبي عماد عن ابن النفور عن الحريري وقد سمعت بعضها عليه، وبعض كتاب مسلم ابن الحجاج وبعض كب التهذيب للبرادعي وبعض كتاب الجزولية في النحو وبعض كتاب الفصيح لأبي العباس ثعلب كل ذلك تفقها مع غير ذلك من الكتب وأجازني جميع ما يحمله ويرويه إجازة تامة وكتب لي بخطه ومولده في شوال سنة أربع وخمسين وستمائة،) ومنهم (العلم الذي بأنواره الاهتداء والعالم الذي بآثاره الاقتداء، الشيخ المحدث الحافظ معين الدين أبو عبد الله محمد بن جمال الدين أبي العباس احمد بن فتوح ابن أبي الذكر المصغوني الشافعي رضي الله عنه هذا رجل جليل، له فضل جزيل، وفعل جميل، وعقل نبيل، وطول حفيل، وعلم فضيل، وحسب أصيل، ومحاسن لم يحوها من العباد إلا قليل، فإن ذكر كرم المنصب وشرف المحتد كانت شجرته المصغونية في قرارة المجد والعلاء، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وأن وصف حسن الخلق والخلق فله طلعة كالشمس على وجه الأرض وأخلاق خلقن من الكرم المحض، وشيم تشام منها بارقة المجد وتنم عليها خمائل الروض، وإن مدح التواضع وبعد الهمة ضربنا به المثل، وتمثلنا همة على هامة زحل، وأما سائر آلات الفضل وأدوات الخير، وخصال المجد وفنون العلم؟ فقد قسم الله تعالى له منها ما يباري الشمس ظهورا ويجاري القطر وفورا ولله هو إذا خاض في عجائب علم التحديث، وسلك طرقها بالباع المديد، والسير الحثيث وأخذ في التعديل والتجريح، وجذب أهداب الآداب والنحو والتاريخ فهناك تزخر بحار العلوم، وتذخر جواهر المنثور والمنظوم، ويجتمع الحسن برمته والإحسان بكليته، وتضيق المجالس عن الجلوس، وتتسع أقدام الأقلام في سطور الطروس، صيغ من أشرف الجواهر وردي رداء المحامد وبوئ ببوحة الكمالات فلا غرو أن بدا التأخر للمتقدم وغدا العالم في صورة المتعلم:

وليس لله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

ص: 99

ارتحل في طلب العلم شابا ما أحكمت يده عقد الإزار، ولا سما فأدرك خمسة الأشبار، ثم آب وقد حمد إيابه، وأجزل ثوابه، ونفع به في طلبته وصحابه، فهو اليوم رحلة الزمان وخليفة ابن النعمان والإمام الذي علقت به الأماني فأصبحت في الأمان، مجالسه زينها الصدق وحسنها الحق، وأحبها الخالق والخلق، فنورها يعلو على النسرين، ويرغب في خير الدارين، وان مشائخه لتزيد على الألفين، حقا أقول أنه الآية الله في الأرض، وما فهمت من محاسنه إلا ببعض البعض، فالغلو فيه القليل، والخلو منه ساعة خمول، فما انتجاع الخمائل في أبرديه، ولا اجتماع الفضائل إلا من برديه ولا العلياء إلا في مخبره ومنظره، ولا الدنيا إلا بين مبدأه ومحتضره، ولا العز إلا التعلق بأذياله، ولا الأمن إلا التفئ بظلاله، وردت ذلك الثغر لا رشف ريقه، وأكشف فريقه، وقد رافقني البين، وفارقني الغبن، وأصابتني العين، فتلقاني رضي الله عنه بمحيا حيى، وصافحني براحة أريحى، وعاملني ببرصفى، وبشر حفى:

فبشرت آمالي بشخص هو الورى

ودار هي الدنيا، ويوم هو الدهر

ومكثت زمانا تحت أفضاله، وواسع نواله، فلما دخل شهر رمضان ضاعفر في المعونة وخفف على المئونة، وأفاض على وعلى من لدي عوارفه فيضا، وأوجب ذلك على نفسه الكريمة سنة وفرضا، حتى رحلت مسافرا من عنده، وحينئذ بنت برغم مكارمه عن رفده، وقد تحصل لي عليه ما بين قراءة وسماع ما ينيف على المائة تأليف جلها بل كلها منقولة بخط يدي من أصوله لعتيقة مصححة عليه على ما تقتضيه إمامته في تلك الطريقة، وأجازني غير ما مرة وكتب لي في غير ما موضع بخطه، ومن جملة ما سمعته عليه جميع القصيدة اللامية الشاطبية المسماة بحرز الأماني وحدثني بها عن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن احمد بن عبد الرحمن الكندي سماعا من لفظه بسماعه من الشيخ أبي الحسن علي بن شجاع بن سالم العباس الهاشمي حدثه بها عن ناظمها أبي القاسم الشاطبي سماعا وقراءة، ومما سمعت عليه بلفظه جميع الأربعين حديثا تخريج قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد المشتهر بابن دقيق العيد. بإجازته منه إن لم تكن سماعا وجميع الأربعين البلدانية السلفية وحديث الرحمة المسلسل بشرطه، وجميع مسند حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وجميع العمدة في الحديث تأليف أبي محمد عبد الغني بن سرور المقدسي رحمه الله وجميع الأربعين حديثاً على مذهب المحققين من المتصوفة جمع الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق رحمه الله ثم قرأت جميعها عليه بلفظي مرة ثانية قراءة تصحيح وكذلك قرأت عليه بلفظي مرتين جميع الأربعين السباعيات المخرجة من سماع الشيخ رضي الدين أبي المعالي عبد المنعم ابن عبد الله الفراوي النيسابوري وقرأت عليه بلفظي مرتين ثنتين كذلك جميع ثلاثيات الإمام أبي عبد الله البخاري رضي الله عنه وقرأها هو وسمعها على جماعة منهم الشريف تاج الدين أبو الحسين علي بن احمد الحسيني القرافي قرأها عليه بلفظه وقد تقدم سنده فيها آنفا وقرأت وسمعت عليه غير ذلك مما قد استوفيته في برنامج روايتي، وأخبرني أبي عبيد الله المهدي كان أديباً شاعراً وجال في البلاد بعد قتل أبيه ودارت عليه صروف الدهر، واضطر إلى الاستجداء بالشعر حتى مدح الوزير ابن عطاف وكيل أبيه بقصيدة منها:

أقول لا مالي ستبلغ أن بدا

محيا ابن عطاف ونعم المؤمل

فقالت دعوني كل يوم تعلل

فقلت لها أن لاح يفنى التعلل

فتغافل عنه فكتب إليه:

أيها المكن من قدرته

لا يراك الله إلا محسنا

إنما المرء بما قدمه

فتخير بين ذم وثنا

لا تكن بالدهر غرا وإذا

كنت فانظر فعله في ملكنا

مد كفا نحو كف طالما

أمطرت منها السحاب الهتنا

أوارحني بجواب مؤيس

فمطال النفس من شر العنا

ص: 100

فقال صاعقة لم يرسلها الله إلا على، ثم قال لوكيله أدفع إليه خمسة عشر درهما. فقال: يا سيدي ما لهذا القدر رونق، أما عشرة أو عشرين، فقال: أدفع إليه عشرة فقال له الوكيل ما قلت لك هذا إلا لتطلع همتك ولا يكون كلامي شرفا على الرجل فقال: يا هذا دع الفضول فغنما أنت وكيل لا مشير فقال فارجع إلى الحال الأول فحرد وحلف إلا يعطيه شيئا فتحيل الوكيل في خمسين درهما، ودفعها إلى عبيد الله فسمع ذلك ابن عطاف فقال له: من أنت في الكلاب حتى تعطي خمسين كأنك معن بن زائدة أو جعفر البرمكي مثلك لا يستخدم فصرفه فقدر الله موت الوزير فتزوج الوكيل زوجته وسكن داره فقال في ذلك عبيد الله شعرا أوله:

أيا دار قولي أين ساكنك الذي

أبى يومه أن يترك الشكر خالدا

وأضحى وكيل كان يأنف فعله

نزيلك في الحوض الممنع واردا

فقلت: أين هذا من مالك بن طوق رحمه الله عليه فإنه كان جالسا في بهو مطل على رحبة ومعه جلساؤه إذ أقبل أعرابي نخب به ناقته فقال: إياي أراد ونحوي قصد، لعل معه أدبا ينتفع به ثم أمر حاجبه بإدخاله فلما مثل بين يديه قال ما أقدمك يا أعرابي قال: المل في سيب الأمير والرجاء في نائله، قال: فهل قدمت أمام غرضك وسيلة، قال: نعم أربعة أبيات قلتها نظما، قال: فهل لك أن تنشدنا أبياتك ولك أربعة آلاف درهم، فإن كانت أبياتك أحسن فقد ربحنا عليك وإلا فقد نلت مرادك وربحت علينا، قال: قد رضيت:

وما زلت أخشى الدهر حتى تعلقت

يداي بمن لا يتقي الدهر صاحبه

فلما رءاني الدهر تحت جناحه

رأى مرقا صعبا منيعا مطالبه

رءاني بحيث النجم في رأس باذخ

يظل الوري أكنافه وجوانبه

فتى كسماء الغيث والناس حوله

إذا أجدبوا جادت عليهم سحائبه

قال ظفرنا بك يا أعرابي، والله ما قيمتها إلا عشرة آلاف درهم قال: فإن لي صاحبا شاركته فيها ما أراه يرضى ببيعتي، قال: أترى حدثت نفسك بالنكث، قال: نعم، وجدت النكث في البيع أسهل من خيانة الشريك فأمر له بها وأخبرني، قال: دخل المظفر الأعمى على الملك الكامل فقال له الملك نصف هذا البيت: وأنشد بديها: قد بلغ الشوق منتهاه.

فقال المظفر: وما درى العاذلون ما هو؟ فقال الملك: وغنما غرهم دخولي.

فقال المظفر: فيه فهاموا به وتاهوا.

فقال الملك: ولي حبيب رأى هواني فقال المظفر: وما تغيرت عن هواه فقال الملك: رياضة النفس في احتمالي فقال المظفر: وروضة الحسن في حلاه فقال الملك: أسمر لدن القوام ألمي فقال المظفر: يعشقه كل من يراه فقال الملك: ريقته كلها مدام فقال المظفر: ختامها المسك من لماه فقال الملك: ليلته كلها رقاد فقال المظفر: وليلتي كلها انتباه فقال الملك: وما عسى من يهين عبدا فقال المظفر: بالملك الكامل احتماه.

وكانت بيد الملك رقعة يكتب فيها كل ما نظمناه فرمى بها تجنبا أن يكتب مدحه بيده، ثم زاد المظفر بعد ذلك وأخبرني قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن حماد القطان التونسي قدم علينا حاجا قال: حدثني الشيخ أبو محمد المغرياني، قال: لما جئت برسم الحج إلى الديار المصرية تعرفت بشيخ من المتصفة، فقال لي: أريد أن أجمع بينك وبين الأمير ابن يغمور فأجبته: إلى ذلك فجئنا إليه وهو في بستان فاستأذنا فأذن إلينا، وأمرنا بالجلوس، فجلسنا وبين يديه مملوك صغير حسن الصورة، ومماليك أخرى بين يديه. . . وبين يديه محبرة، فقال له الشيخ عني، هذا الرجل أديب فاضل يقول الشعر فسر بذلك وأخذ غرارة وكتب فيها من نظمه:

لاح بدرا وتثنى غصنا

فحكى الشمس سناء وسنا

ثم نادى الحسن هل من عاشق. . . ثم قال لي: أجز هذا البيت فارتج على زمانا، إذ دخل نوتي من المركب فقال لبيك، فألهمني كلامه فقلت:) فأجاب القلب لبيك أنا. . . (فاستحسن ذلك ووصلني، وأخبرني قال صنع بعض الفضلاء ببغداد طعاما ودعا إليه الناس فأجابوا دعوته وكان في جملتهم أبو العباس المبرد فلما فرغوا من أكلهم دعا رب المنزل جارية له خلف ستر، وقال لها: اسمعينا شيئا فقالت:

وقالوا لها هذا حبيبك معرض

فقالت ألا أعراضه أيسر الخطب

فما هو إلا نظرة بتبسم

فتصطك رجلاه ويسقط للجنب

ص: 101

فقام كل من كان في المجلس وطابوا بأجمعهم وداروا إلا أبا العباس فلم يقم ولم يتحرك. فقال له رب المنزل: لِمَ لَمْ تقم، فقالت الجارية: دعه يا سيدي إنما لم يقم لأنه ظن أني لحنت في قولي، هذا حبيبك معرض، ولم يعلم أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قرأ وهذا بعلي شيخا فقام فطرب حينئذ أبو العباس وطاب، وقام ودار حتى شق ثوبه) وأخبرني (قال حضر ابن حجاج البغدادي وليمة فتأخر الطعام فكتب لصاحبها:

يا ذاهبا في داره جائيا

لغير معنى وبلا فائدة

قد جن أصحابك من جوعهم

فاقرأ عليهم سورة المائدة

وجميع ما أنشدني من القصائد والمقطوعات يحتمل سفرين كبيرين، وقد تقيد لي جميع ذلك في غير هذا بخطى وبخطه رضي الله عنه فما لخصت منه هنا ما أنشدنيه لمهلل الدمياطي:

يا بانة الرمل هل مرت بك الإبل

وساحة الشيح هل حطت بك الكلل

ويا عرب النقى هل للقا أمد

ويقتضي بحماكم ذلك الأمل

رحلتم بفؤادي يوم رحلتكم

وبين جنبي قد حلت لكم حلل

وحقكم ويمين الحب صادقة

قلبي بغير هواكم ليس يشتغل

يا سائق البدن بالبطحاء فقف نفسا

لعل عيني بحسن القوم تكتحل

بدر تمام من الأكوان مطلعها

في القلب والطرف قد حلوا وقد نزلوا

يا للرجال عسى خل يعين فتى

حلف الغرام رمته الأعين النجل

قد دار بالوجد حتى شاب مفرقه

ومارس الحب حتى جاءه الأجل

وأنشدني لتاج الدين السرخدي:

تأنوا ففي طي النسيم رسائل

وميلوا فإن البان بالسفح مائل

وما مال إلا للسؤال

حديث هوى فاستحدثوه وسائلوا

روى خبرا عن بان نعمان مرسلا

وأسند عنه ما حكته الشمائل

خذوا عن يمين البان قد بلغ الهوى

أواخر لم يدرك لهن أوائل

وقصوا غرامي للنسيم فإنه

غريمي إذا ما هيجتني البلابل

وميلوا إلى رمل الحماعل سربه

تلاحظكم غزلانه وتغازل

وإن سؤالي للنسيم علالة

كما أن دمعي للمنازل سائل

وأنشدني لعلي بن مسعود الحلبي المعروف بالذهبي وهو من شعراء الملك الناصر:

إلى كم تراني يا خليا من الوجد

وتعرض عن بثي وتخلف لي وعدي

وكم فيك جرعت الهوان بمنزل

علمت به أن المنازل لا تجدي

أعيد وأبدي ما أحس من الهوى

على رسم دار ما يعيد وما يبدي

وبرق تراءى من تهامة موهنا

فأوهمني قرب المزار على بعد

سرى خافقا من أيمن الغور مهديا

إلى الماء والجمر المضرم في نجد

وأضحى على وادي الأراك مخيما

يلوح ويخفى مثل حاشية البرد

لك الله يا برق الغضا، أن للغضا

بقلبي ما للنار من مهجة الزند

وأنشدني لكافور بن عبد الله الخصي خادم روضة النبي صلى الله عليه وسلم وهي قصيدة طويلة:

أولها: وحق الهوى ما هبت الريح من نجد

على كبدي إلا تلوت من الوجد

وإن لاح برق من ثنية لعلع

ذكرت به برق الثنية من هند

هلالية تحكي بوجهها

إذا لاح في ليل من الفاحم الجعد

على أنني ما زلت منذ علقتها

على حالة مذمومة العهد من عهد

فأما على شوق يتاح إلى الثوى

وأما على وصل ينغص بالصد

أردية الخدين من ترف الصبا

ويا بنت ذي الأقدام بالفرس الورد

صلي واغنمي شكرا فلا وردة الربا

تدوم لجانيها ولا وردة الخد

خليلي أن الصدر ضاق عن الجوى

فلا تعذلاني واتركا النار في الزند

وأنشدني للشريف بن الجلاوي الموصلي:

حكاه من الغصن الرطيب وريقه

وما الخمر إلا وجنتاه وريقه

هلال ولكن أفق قلبي محله

غزال ولكن سفح عيني عقيقه

على خده جمر من الحسن مضرم

يشب ولكن في الفؤاد حريقه

على مثله يستحسن هتكه

وفي حبه يجفو الصديق صديقه

أحن إليه كل حين صبابة

وقد سد من بعد المزار طريقه

وأشتاق أكناف الحماحين حله

ومن ذا الذي ذكر الحما لا يشوقه

وأنشدني لأبي مختيار الأبله البغدادي المشهور برقة القول في الغراميات:

بأي لسان للوشاة آلام

وقد علموا أني سهرت وناموا

ص: 102

أهيم وما أظهرت في الحب بدعة

ولو أنهم ذاقوا الغرام لهاموا

هل العشق إلا لوعة في جوانحي

تنم عليها أنه وغرام

ألام على حبي وهو مبرح

وأكبر حب في هواك ملام

أيستكثرون الوصل لي منك ساعة

وقد مر عام للصدود وعام

وأنشدني قال أنشد أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري لمحمد بن أبي أمية:

مل الوصال فعاد بالهجر

وتكلمت عيناه بالغدر

وظللت محزونا أفكر في

إعراضه عني وفي صبري

ما نلت منه في مودته

يوما أسر به مع الدهر

في كل موضع لذة حزن

يغتاله من حيث لا ندري

وأنشدني قال أنشد أبو محمد بن القاسم الأنباري لخالد الكاتب:

قد القضيب حكى رشاقة قده

والورد يحسد وردة في خده

والشمس جوهر نورها من نوره

والبدر أسعد سعده من سعده

خشف أرق من الحياء بهاؤه

ومن الفرند المحض في أفرنده

لو مكنت عيناك من وجناته

لرأيت وجهك في صفيحة خده

) ومنهم (الأثير النايل، الكثير الفضائل، الشيخ الإمام، القدوة تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن هبة الله بن احمد المقدسي الأنصاري الشافعي نفع الله تعالى به، ذو الرياسة العلية والسياسة العلمية، والمراتب السنية والمناقب السرية والهمم البعيدة الزكية، والشيم الرضية المرضية وأفضل الفضلاء بقطر الإسكندرية من رجل انتهى إليه العلم ووقف عليه العقل واختصه الكرم، وبعد له الصيت ووسمه الصدق وعظمه العالم وخلقته العبادة، وأدبه التواضع، وارتضاه التصوف ووسعته السنة وأحبته الأمة، وجرت على يديه النعمة، بسيط الكف رحب الصدر موطأ الأكناف سهل الخلق، كريم الطباع غيث مغيث وبحر زخور، ضحوك السن بشير الوجه، بادي القبول، يستقبلك بطلاقة ويخبرك ببشر، ويستدبرك بكرم غيب وجميل، نشر، ريان من العقل، خميص من الجهل، وراجح العلم، ثاقب الرأي، طيب الخلق محض) كذا (الظرفية، كاس من كل مكرمة، عار من كل ملامة، إن سئل بل، وإن قال فعل، فلم يحو فضله العصر، ولم يبد مثله ذلك الصفع، وذلك القطر، ولما درت له درر أخلاق التوفيق فشرب ريه، وهبت له نسمات الإرشاد، فتنسمها ذكية عنبرية، والتاحت له شمس المعارف، فالتمحها بيضاء نقية، ودعته المعالي لنفسها فأسرع إجابة دعوتها المعنوية إذ لا نطقية، اصطفته الخطة الشرعية، وارتضته إلا مرة القاضوية، فهو رئيس كتابها ومنشئ شروطها وآدابها، ومفتي مشكلها وإعرابها، والعارف بنقضها وإبامها، والعاكف على تنقير نوازلها، وتنفيذ أحكامها ومع سمو قدره ونفوذ نهيه وأمره، فالناس منصفون في سبقه، ومعترفون ببخس حقه، عارفون بما يجب لعلمه وفضله وحذقه، لقيته بمنزله من الإسكندرية لآخذ عنه واستفيد منه فأراني من فضله ما أتى بخرق العوائد وأتحفني بأعظم التحف وأكبر الفوائد:

لقد كان لي روضة عذبة

مواردها في فم الصادر

أقلب طرفي بأرجائها

فيرتع في مونق زاهر

وقد تحصل لي بخط يده البارع جملة تفتخر المهارق بها افتخارا وتطلع في أفق الطروس ليلا ونهارا فإنه:

تبث يمناه زهرا في الطروس ولا

نكر على السحب أن بنبتن أزهارا

خط هو السحر لكنا ننزهه

ونجعل القلم النفاث سحارا

ومما قرأته عليه بلفظي كتاب عيون الحقائق تأليف شيخه العالم الكبير الشهير الولي لله تعالى أبي سليمان داود الشاذلي نفع الله ببركته وهو ديوان عجيب من أحسن ما جمع في علم التصوف ومن أصل شيخي الذي بخطه البارع نقلت أصلي منه ومعه قابلته وعليه صححته، حدثني به عنه قراءة عليه ومما أسمعني من لفظه جميع الجزء الذي ألفه في الطريقة الصوفية فأبدع فيه تأليفا وإنشاء واطلع منه كواكب العجائب تشرق صباحا وتروق عشاء، وجميع الأحاديث الأربعينية البلدانية السلفية بحق قراءته لجميعها على الشيخ المحدث محي الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن مخلوف بن عبد الرحمن بن جماعة بسماعه لها على الشيخ أبي الفضل جعفر بن علي بن هبة الله الهمداني نقلا بسماعه لها من مخرجها الحافظ أبي الطاهر احمد بن محمد السلفي رحمه الله وقد سمعت عليه أجزاء كثيرة وأحاديث مسلسلة عديدة منها حديث الرحمة المسلسل بشرطه وأجازني وكتب لي بخطه وأخبرني وقال:

ص: 103

أخبرني الفقيه العالم أبو بكر الأذفري قال: أخبرني الفقيه حرب من أهل دمشق قال: شخص من الفقراء لإخوانه أحب اليوم أن نجتمع وأغني لكم قال فاجتمعوا فغنى لهم:

سلي نجوم الدجى يا طلعة القمر

عن مدمعي كيف يدمي فيك بالسهر

أيه بعيشك ماذا أنت صانعة

من الجميل فهذا آخر العمر

ثم شهق ومات رحمه الله تعالى، وأخبرني أبو بكر المذكور عن القاضي شمس الدين بن القماح قال: سمعت الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يذكر في مجلس درسه بجامع ابن طولون أنه حضر سماعا وكان هناك فقير فغنى مغن من أبيات ابن الخياط:

خذا من صبا نجد أمانا لقلبه

فقد كاد رياها يطير بلبه

وأيا كما ذاك النسيم فإنه

متى هب كان الموت أيسر خطبه

أغار إذا آنست في الحي أنة

حذارا وخوفا أن تكون لحبه

وفي الركب مطوي الضلوع على جوى

متى يدعه داعي الغرام يلبه

قال فقال الفقير لبيك ورفع رأسه فإذا هو ميت.

) ومنهم (مفتي الإسلام، فخر الأنام، الشيخ الإمام فخر الدين أبو العباس احمد بن محمد بن أبي الفضل بن عاصم الذي له الكرامات الظاهرة، والآيات الزاهرة، والمجاهدة الوافرة، والبيت الذي بالصلاح مشهور، وبالرياسة في التقدم على الصوفية مذكور، فهو شيخ الطريقة، ومعدن الحقيقة نشأ مذ كان على الطرائق العلمية الملية وتربى في حجر الحماية بعين الولاية لما سبق له من الرعاية بالعناية الأنعامية، وحباه سبحانه بأن ألهم هممه العلية للاهتمام بالعزلة والفراغ عن الشواغل الدنيوية، ومنحه بصدق المجاهدة ومراتب المراقبة، ومشاهد المشاهدة ما منحه من مواهبه العرفانية، وخصائصه الإحسانية، فلم يزل يتقلب في أطوار العبادة، ويصحب أهل الفضائل ويلازمهم للإفادة والاستفادة، مترقيا إلى أفلاكهم، وفائتا شأو إدراكهم، فحفظ أنواع العلوم الربانية ولحظ أسرار الخطرات الواردة الإلهامية، فظهر عند فنائه في فناء معارجها وبر حين هب عليه نسيم القرب، فتموجت معارف بحارها وبحار معارفها، وأقام يقيم رسوم العلوم الدراسية، بيد أعمال الطاعية، فلاحت في معادن أسراره، ومشارق أنواره، ما شئت من شواهده البرهانية ودلائله الإيمانية، إلى ما حوى من بدائع المواعظ الزهديات وروائع الحكم الأدبيات التي تبرقعت بنور الصباح، وحسن الأوجه الصباح وتخلقت بنشوة الراح، وارتياح الأرواح، فتجلت لها أنوار جلت ظلمات الأفكار الجسمانية، وتبدت لها أسرار محت بقايا الأطوار الروحانية:

فما سريان الراح في روح وامق

بأنفس منها في نفوس وعاتها

سقانا بها حتى سكرنا مدامة

فكيف لنا بالصحو من نشواتها

فهاهو واحد زمانه وفريد أوانه، وواسطة نظام العقد الذي تجلى بلؤلؤه ومرجانه، وشاع وذاع فملأ القلوب والأبصار والأسماع، بما راق وراع، من فوائده البيانية، وفرائده التبيانية وعوائده الدنيوية والأخروية، قد صفا من الكدر، وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والمدر، وفاق رجال الأمصار والآفاق من البلاد الإسكندرية والمصرية والشامية، لقيته بمدينة الإسكندرية فقرأت وسمعت عليه كثيرا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تآليف عديدة منها جميع الجزء المسمى بالمجالس الثلاثة من امالي الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل بن علي المقدسي رضي الله عنه بسماعه لجميع الجزء في سنة أربع وثمانين وستمائة على الشيخ شرف الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الخالق القرشي بسماعه لجميعه من مخرجه المقدسي، وقرأت وسمعت عليه غير ذلك من الكتب والأجزاء والأحاديث المسلسلة وغيرها مما قد استوفيته في برنامج روايتي، وأجازني الإجازة التامة المطلقة العامة، وكتب لي بخطه وأخذت عنه في التصوف تآليف عديدة نقلت منها هنا ما نصه:

ص: 104

أما الصوفي فهو العالم بما لابد في أعمال الطاعة منه، المقبل على الله بوجهه كله المتجرد عن نفسه القائم في شيء بإرادة ربه، سمعت شيخنا الإمام قطب الوقت شهاب الدين أبا عبد الله عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد السهروردي رضي الله عنه يقول: من عمل ولم يعلم كان كمن يبذر في السباخ، ومن علم لم يعمل كان علمه ضائعا، وأما الفقير فهو المقبل على الله تعالى بوجهه المتمكن من تربية ظاهرة وباطنة بصريح العلم الذي لا تفاوت في معاملته بين خلوته وجلوته، المتطلع بترك المال والجاه إلى ما تحقق عند الله من العوض في المئال، قال فارس رضي الله عنه: قلت لبعض الفقراء رضي الله عنه ورأيت عليه أثر الجوع ألا تسأل قال: أخاف أن أرد فلا يفلح الراد، وقال محمد بن ياسين: سألت ابن الجلاب رضي الله عنهما عن الفقر فذهب ثم رجع فقال: كانت عندي أربعة دوانق فاستحييت من الله أن أتكلم في الفقر وهي عندي فذهبت حتى أخرجتها، ثم تكلم، وهذا يظهر الغنى في الفقر، وقال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه إظهار الغنى في الفقر أحب إلينا من الفقر، وأن يكون العطاء أحب إلينا من الأخذ.

والإرادة هي القصد إلى طريق السالكين إلى الله تعالى وهو أول منازلهم والمريد هو القاصد إلى تلك الطريق، وأعلم أن الخرقة خرقتان خرقة تبرك وخرقة إرادة، ولخرقة التبرك حقوق، منها لا يمنع طالبها ولا يرد مع صحة القصد خاطبها وأن يلقاها بالقبول، ويرجو ببركتها الوصول إلى أهلية خرقة الإرادة، وأن يجالس إلى أهلية خرقة الإرادة، وان يجالس هذه الطائفة متشبها بهم متزييا بزيهم متأدبا بآدابهم ناظرا إلى سيرهم وأحوالهم، متعرفا بذلك عوارف بركاتهم، ولها شروط منها ما هو شرط في صحة لباسها ومنها ما هو شرط في دوام حكمها، أما الشرط الأول، فهو الأيمان بطريق القوم، قال شيخنا رضي الله عنه الأيمان بطريق الصوفية أصل كبير، وذكر قول الجنيد الأيمان بطريقنا هذه ولاية فقال وجه ذلك هو أن الصوفية تميزوا بأحوال عزيزة وآثار مستعذبة عند أكثر الخلق لأنهم مكاشفون بالقدر وغرائب العلوم، وإشارتهم إلى عظيم أمر الله والقرب منه، و) الأيمان بذلك أيمان بالقدرة، ولهم علوم من هذا القبيل، ومن أهل الملة من أنكر الكرامات فلن يومن بطريقهم إلا من خصه لله بمزيد عنايته، الشرط الثاني سلوك الطريق التي لا تتوجه على سالكها من حاكمي العقل والنقل لوم فإن عصوك فقل أني بريء مما تعلمون فإذا حرك لابسها بحركة تنافي طريق القوم متعمدا لذلك مصرا عليه غير مجيب إلى الرجوع عنه تنزع خرقة المشايخ عنه، ويصان حريم احترامها عنه، فإنها محترمة شريفة مكرمة، لأنها شعائر المقربين، وحلية الأبرار المتقين، قال إبراهيم بن شيبان رضي الله عنه كنا لا نصاحب من يقول نعلي، وقال أبو احمد بن القلانسي رضي الله عنه دخلت على قوم من الفقراء يوما بالبصرة فأكرموني فقلت يوما لبعضهم أين إزاري فسقطت من أعينهم، ودخل الرود باري رضي الله عنه يوما دار بعض أصحابه فوجده غائبا وباب بيته مغلق فقال صوفي وله باب مغلق، فكسر وأنفذ جميع ما وجده فيه إلى السوق، فدخل صاحب المنزل ولم يقل شيئا، ودخلت امرأته رمت بكساء كان عليها وقالت بيعوه فهو من بقية المتاع وقالت مثل هذا الشيخ يباسطنا ويحكم علينا وندخر شيئا عنه، ومن آدابها أن يصلي لابسها عقب إلباسها ركعتي القدوم بالإجماع من سفر الغفلة لى وطن الوصلة، ثم يقبل على تقبيل يد الشيخ على عادة دخول الرياضات في تقديم صلاة القدوم على صلاة التسليم، ومن فوائدها أن ببركتها تلوح للابسها إشراك الفتى فيحذرها ويعلم أن النكير يشتد عليه من كل طائفة فينكرها، وإن بدا منه اضطراب في شيء من ذلك فذلك لأنه:

ضاق بحمل العذار ذرعا

كالمهر لا يعرف اللجاما

وأنشدني رضي الله عنه لطاهر بن حسن المخزومي:

ليس التصوف أن يلاقيك لفتى

وعليه من نسج المسوح مرقع

بطرائق بيض سود لفقت

فكأنه غيها غراب أبقع

أن التصوف ملبس متعارف

يخشى الفتى فيه الالاه ويخشع

وأنشدني أيضا لغيره:

ليس التصوف لبس الصوف ترقعه

ولا بكاؤك أن غنى المغنونا

ولا صياح ولا رقص ولا طرب

ولا تغاش كأن قد صرت مجنونا

بل التصوف أن تصفو بلا كدر

وتتبع الحق والقرآن والدنيا

ص: 105

وأن ترى خاشعا لله مكتئبا

على ذنوبك طوال الدهر محزونا

) ومنهم (لغمر الديم، الغر الشيم، الشيخ العالم الأصيل جمال الدين أبو عبد الله محمد بن شرف الدين محمد بن المنير. له البيت الذي نمى على قواعد الأديان الصحيحة، وسمى على عمد الأعمال الصالحة والأنساب الصريحة، والعلم الذي أنارت ثواقب مفاخره ومآثره في أقطار الآفاق وآفاق الأقطار، وطارت مناقب نزاهته وعدالته في الخافقين كل مطار وانتظمت أسلاك أصالته في أجياد الأسطار وهمت سحائب كرمه على الداني والقاصي كالغيث الواكف المدرار. وسرت أمثال علمه سرى نسمات باسمات الأزهار. وبهرت صفات شخصه النفيس الجوهر المطهر المحتد الكريم لعنصر المشرق الأنوار، واستدار فلك مجده على قطبي العلم والدين وأسخار قمر هديه أشرق من الصبح المبين، فسما في العلم علما راسخ القواعد، مشار إليه من كل غائب وشاهد، آونة للصلة وأونة للعائد، مشاورا في نوازل الديانات، مسفتي في عوارض غوامض القضايا المشكلات تصطفيه الرتب العلية السنية، وتتنافس فيه الخطط لشرعية السنية، فطورا مقدما في أندية الوزراء والأعيان، وتارة صدرا في قضاة العدل والإحسان، حتى اعترف بإرشاده الخاص والعام، واغترف من بحر إرفاده الراوي والظام، فما من جار في تحصيل مرام إلا عليه اعتمد، وما من سار على سبيل اعتصام إلا بدليله اسنرشد:

خلاله عن طريق المجد حاسده

ومن يساجل صوب العارض الهطل

علم وحلم ورأي محصف وندي

سبحان جامع هذا الفضل في رجل

لقيته بمنزله من الإسكندرية فسمعت عليه أكثر تآليف عمه العالم الكبير قضي قضاة الإسكندرية ناصر الدين أبي العباس احمد بن محمد المنير رحمه الله، ومنها الأرجوزة الكبرى التي فسر فيها القرآن العظيم، وتأليفه المفيد الذي فسر فيه راجم أبواب صحيح البخاري رضي الله عنه، وجزء فيه أحكام السماع بشروطه، وغيرها من تآليفه، وحدثني بها عنه سماعا عليه وسمعت عليه غير ذلك وأجازني وكتب لي بخطه وأنشدني من شعر عمه المذكور جملة مقطوعات حكيمات وزهديات، قيدتها في غير هذا وأنشدني له كذلك الشيخ العالم الأوحد مفتي المسلمين عز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نور الدين بي عبد الله محمد بن حباسة وقال أنشد فيهما غير ما مرة ناظمهما قاضي القضاة ناصر الدين المذكور يمدح والدي نور الدين رحمهما لله تعالى:

يا نور أوصافك الغراء كالحبك

ووجهك البدر بدر التم في الفلك

عليك نور بهي لا خفاء به

نور العفاف ونور الدين والنسك

وذكر لي الشيخ عز الدين المذكور قال ولى نصر الدين بن المنير هذا القضاء بالإسكندرية وهو ابن خس وثلاثين سنة وكان مشائخه من نوابه رحمة الله عليه، ومنهم العظيم القدر المشروح الصدر الشيخ المحدث العدل، صدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الإمام الكبير محيي الدين أبي عبد الله الزماتي المالكي الشهير بأبي حافي رأسه، نوع آخر منه، وفرع من أصل يقصر الوصاف عنه، فإن والده محيي الدين، من كبار الأئمة المهتدين، وهو الذي أحيا لسان العرب وعلم العربية في الديار المصرية والإسكندرية ثم تولد هذا الفرع عن ذلك الأصل، وتخلد نسخة ثانية من الفضل:

وحسبكم مجدا أثيلا مكارم

جسام تلافيها العقيب عقيب

حووها على مر الليالي وراثة

تشابه فيها منجب ونجيب

ص: 106

فنجب وأنجب، ساد وشاد، وجاد وأجاد، وأفاد واستفاد، وأقام المتن والإسناد، وععي وعلم، اجتنى ثمر الحكم واجتلى غرر الكلم، إلى تظرف يواجهك بالوجه الوسيم، وتلطف يحادثك محادثة النسيم، وقد تولته السنة الحمد من القاصد والوارد، وأظلته سماء المجد بجمال المشتري ظرف عطارد، فهو درة العصر، ونخبة فضلاء ذلك المصر لقيته بدكانه من الموثقين من الإسكندرية، فسمعت عليه أجزاء عديدة مفيدة، منها جزء فيه المجلس لخامس في فضل صوم المحرم، تخريج الحافظ أبي المظفر منصور بن سليمان بن منصور الهلداني الشافعي بسماعه بجميعه منه، وجزء فيه مقطعات وأبيات والجزء بجميعه من نظم الإمام العلامة الأديب أبي النصر مظفر بن محاسن بن علي بن نصر الله الذهبي الدمشقي بسماعه عليه وإجازته له، وسمعت عليه غير ذلك وأجازني إجازة تامة مطلقة عامة، وكتب لي بخطه، ومولده سنة ثلاث وستين وستمائة بالإسكندرية وأنشدني لوالده محيي الدين المذكور يرثي بعض الفضلاء رضي الله عنه:

من لمسترشد ببسط البيان

من لمسترغد ببسط البنان

مات برهان فابكوا وقولوا

ويح دين خلا من البرهان

عين إنسان دهري كان وتدري

فقد عين الإنسان للإنسان

و) منهم (الباهر الفصاحة، الطاهر الجناب والساحة الشيخ لفقيه العالم ناصر الدين أبو عبد لله محمد بن الشيخ العالم المصنف المرحوم وجيه الدين أبي بكر بن عبد المنعم ابن علي بن ظافر بن مبادر الشافعي الزبيري من ذرية مولانا الزبير بن العوام رضي الله عنه حبر خير، مقيد مفيد، متقن، متفنن، ناقد نافذ، قد زان العلم بالحلم، والباهة بالنزاهة والذكاء بالزكاء، والرواية بالدراية، فجمع بين العلم والتقييد، واعتلاء الأسانيد إلى دين متين استمسك بعروته الوثقى وزهد جرى منه إلى الأمد الأقصى، وأياد على الأنام لا يجوز أن تكفر، وحسنات حق ذنوب الأيام بها أن تغفر، فاستحق من الثناء ما يستغرق لفظ اللافظ، وارتسم في رتب العلاء بالإمام الحافظ، وأقسم بالرحمن والمثاني والقرآن، انه لفخر الأعيان، وعين إنسان الزمان، وإنسان عين البيان، وأبلغ بني ذبيان، ومن أبي الحسين عند بني حمدان، ونائب ديوان الإنشاء ببغدان، ومع طيب النحيزة وشرف هذه الغريزة، فقد كان له من نفوس الناس محل لفضله، واعتداله وانقباضه عن مظان الاقتحام والتزامه لا جرم أنه حسن الطريقة والسمت، ذو معرفة بموضع الأصابع في النطق والصمت:

إذا ما اجتبى في القوم أو نطق اقتدى

بحكمته لقمان أو هابه كسرى

لقيته وسمعت منه وقرأت عليه بلفظي جميع كتاب النيسير للحافظ أبي عمرو الداني وحدثني به عن الشيخ الإمام الزاهد العابد شيخ المتصوفين جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن عبد الملك الحميري الشاطبي المالكي سماعا منه عليه بجميعه في مجالس آخرها سلخ جمادى الأولى سنة سبع وستين وستمائة، وحدثه أنه سمعه بمدينه شاطبة جبرها الله تعالى عن الشيخ المعمر المسند المحدث أبي عبد الله محمد بن سعادة الشاطبي، وسمعه أبو داوود على مصنفة أبي عمرو الداني وحم الله جميعهم، وأجازني الإجازة التامة وكتب لي بخطه في عام واحد وستين وستمائة وله رطوبة أدب وحلاوة شعر أنشدني لنفسه ملغزا وعنى به القرآن العظيم:

شيء عجيب أمره

النصف منه عشره

عذب لذيذ مشتهى

سهل يسيل ذكره

لم يستطيع تفسيره

إلا عظيم قدره

وما زلت أختلف إليه واقرأ عليه إلى أن اتفق منج جملة المقادير والأسباب أن هيأت لتونس قرقورة الأصحاب فعرض على السفر فيها عرض الركماء، وحضني عليه فأنشدته:

ما أنت نوح فتنجبني سفينته

ولا المسيح أنا أمشي على الماء

ثم رفضت الغربة، وفرضت القربى، والقربة واغتنمت المركب المبارك والصحبة رددت الاستخارة وجددت الاستشارة عزمت على ما عرفت من مكابدة البحور، وركبت أنا وأخي في المركب المذكور فكان ركوبنا بمرسى منار الإسكندرية في عشى عيد الفطر يوم الأربعاء عام ثمانية وثلاثين المذكور وظللنا ليلتنا تلك نقلد ونواسي ونرقع الرقائق والمراسي إلى أن أخذ منا السهر واستبان لنا السحر، وأطلت راية الصباح في أفق الشرق حتى:

كان سواد الليل والصبح طالع

بقايا مجال الكحل في الأعين الزرق

ص: 107

وأخذنا نسير ونمور وننجد بين الأمواج ونغور، ونصبح ونمسي ليس إلا السماء والبحور، إلى أن اشتدت علينا الرياح الغربية وتحكمت فينا المياه البحرية فتقهقرنا بسبب ذلك إلى أن أشرفنا على مرسى طبرق من مراسي برقة المشئومة فدخلناه يوم السبت التاسع لذي قعدة من العام المذكور فنزل به من الأصحاب من قدر الله في سفره من البر نزوله ونظمت في ذلك ساعة وصوله ودخوله:

يا ليلة جمعت بمرسى طبرق

أجلى صباحك عن نوى وتفرق

ألفت بين مفرق ومجمع

وجمعت بين مغرب ومشرق

ضحك الفراق لنا وقد عبس الدجا

فبكيت فيه بدمعي المتدفق

قد مزق الإصباح ثوبك مثل ما

مزقت ثوب الصبر كل ممزق

ورمى سوادك من بياض صباحه

بمثال ما صنع الفراق بمفرق

أبدا بحلكته بياضا ناصعا

فأعاد دهمته شيات الأبلق

وتبسم الزنجي فيه تعجبا

من قسوة البين الذي لم يرفق

أكثرت يا جفني البكاء لبينهم

لا تخشى من أقلال دمع أنفق

ولقد رهنت القلب فيهم فانثنوا

وبقيت رهن صبابة وتشوق

نهضوا وما نفضوا المواثق أن هم

شرحوا شهور المستهام الموثق

بانوا فيها بان اللوى هل بلغوا

مني السلام إلى النقاء والأبرق

راحوا فراح تصبري من راحتي

يا راحتي روحي أمام الأينق

مروا فحلو العيش مر بعدهم

وحللت حالي مركب أو زورق

وقفوا لتوديعي ففاضت أدمعي

أسفا وغاضت بالزفير المحرق

ومن العجائب أن دمعي أحمر

والجفن يسبح في الغدير الأزرق

يا راحلين لأرض أندلس إذا

جزتم على بان الكثيب المونق

وبدت لكم تلك الربا الخضر التي

تهدي الشذا من عرفها المستنشق

عوجوا على تلك الديار وقبلوا

جدرانها بتلطف وتملق

وقفوا هناك على المتيم وقفة

تذر الهوى في قلب من لم يعشق

وصفوا لذياك الفريق تفرقي

منكم وتقديري لدمعي المطلق

قولوا تركناه وقد أخذ الهوى

منه اعتداء أخذ من لم يشفق

وعلى تحول حالتيه فإنه

باق على حفظ المودة ما بقي

يهوى لقاءكم ويأبى دهره

وأصدعه الأكباد إن لم نلتق

وأقمنا به ننظر تأتي الريح، ونعاني من أهل برقة ألم الوجد وعظيم التبريح إلى أن أقمنا به مدة، ورأينا الأمر لا يزداد إلا شدة فرفعنا الشراع للرجوع وسرنا ولا كرامة للسلوة ولا للهجوع.

وإذا أتاك من الأمور مقدر

ففررت منه فنحوه تتوجه

وخرجنا من المرسى المذكورة يوم السبت السادس عشر لذي قعدة المذكور، فنزلنا به للإقامة. وحمدنا الله تعالى على السلامة، ثم حللت من المدينة بالمدرسة السراجية ساكنا وقد نال مني نصب البحر ظاهرا وباطنا، وعدت لعادتي من الاجتماع بالفضلاء، والانتفاع بالعلماء:

كأن لم يكن بين ولم تك فرقة

إذا كان من بعد الفراق تلاقي

ولما نزلنا بالمدرسة السراجية الحافلة، وجمعت فيها بين الفريضة والنافلة، صادف نزولي بها قدوم مدرسها الأكبر وإمامها الأشهر، الشيخ الفقيه العالم مفتي المسلمين شمس الدين، أبو عبد الله محمد بن الشيخ الفقيه الصالح شرف الدين أبي الروح عيسى بن أبي الحسن علي بن أبي الحسن اسم كنيته ابن أبي العلاء عبد الله الكناني الشافعي الشامي ثم الإسكندري نفع الله تعالى به وافى من سفر كان أبطأ فيه، ثم أسرع به إلى الحظ الذي يقرب الأمل النازح ويدنيه، فحللناها حلول الهائم المجد، في وصل الحبيب المسعد، ومنشدين) ويجمعنا شتى على غير موعد (واستقررت منها بمسكن مجاور لمسكنه، حيث مأوى تدريسه، وخزانة كتبه، فكان فيه جاري بيت بيت، والمهدي لوجاري حتى الخل والزيت، فسقاني حتى أروي كل ظمأ وجواد وأحلني من مبرته وفؤاد، ووالى من إتحافه، وضروب ألطافه، ما حسبتني به مفطوما يعلل على الفطام، ورأيت الأماني مجنوبة إلى في الخطام:

وحسن طعم العيش حتى أعاده

ألذ من الإغفاء في عقب السهد

ص: 108

وكنت كثيرا ما أجلسه فأقطف من مؤانسته أعبق نور، وأحالني بمجالسته كجليس القعقاع بن شور، وأنسى في اليوم فعل الأمس، كما أربى على ليلة البدر يوم الشمس، ففي كل يوم أزيد فيه اغتباطا، واستوثق في يدي محبته ارتباطا، وكأني استقبل منه في كل زمن فرد رباطا، ولما حملني من مننه أعظم من جهدي ومن طوقي.

أصبحت كالورقاء في شكره

لما غدا أنعامه طوقي

إلى ما استدفتدته من الفوائد العلمية، والمسموعات النبوية والدرر الأدبية إذ هو روضة لعلوم العاطرة الريا، الباهرة المحيا، النادرة في هذه الدنيا، ناهيك من رجل هجرت إلى لقائه المواطن، واستنارت له بأنواره المعرفة الظواهر والبواطن، فهو اليوم عمدة الصقع الإسكندري، والمفتي على الإطلاق في مذهب الإمام الشافعي، ومقتدي الفرق في العلم العقلي، ومن لا يختلف اثنان في فضله الفرعي والأصلي، يقول فيختلس العقول ويكتب فيجلب ويخلب، فإن عبر، قلت بالسحر خبر، وعنبر الشجر حبر، حتى إذا تكلم في العلويات والسفليات والعلوم الربانيات، والحكم الأدبيات، والحركات الهندسيات أسمعك رغائب الغرائب، وأطلعك على نجائب العجائب مع ما منحه الله تعالى وخوله، وجبله عليك وركبه فيه من الشجاعة الغريزية والنجدة النفسانية والقوة الجسمانية التي هي مواهب الجلال وكمال خصال الكمال، والفرق بين النساء والرجال، وقد خصه الله تعالى منها بالحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، والجزء الذي لو قسم على الأجناد لا غنى عن الدرع والمغفر، يبدو فترى طلعة بدر، وجلالة قدر، وسعة صدر، ونهضة لا مشوبة بأشر، ولا منسوبة لغدر، ثم ينيلك بدائع دانيات القطاف، ويعاطيك أحاديث مستعذبات النطاف، ويهاديك أزاهر من حدائق القراطيس أو من أعطاف القضب اللطاف، فتسيل هذه زلالا، وتطلع هذه من سحائب أنامله هلالا، ومنه تعلمت أحكام الرماية بالقوس العربية، وهو رضي الله عنه محكم لذلك غاية الإحكام ومهتم باكتساب أنواع السلاح غاية الاهتمام، فلو شاء لأخرج من خزائنه الواسعة ما وسع الجمهور من السلاح الموفورة، والعدد المذخورة وآلات الحرب المنيعة المحذورة إلى غيرها من أمهات المجلدات وألوف التآليف وصنوف التصانيف المجموعات المصنفات قرأت وسمعت عليه عدة من تآليفه التي أفاد فيها وأجاد، ونسخت منها ما سئت وبالغت في تصحيح ذلك معه ما استطعت وقرأت سمعت عليه نيفا على الثلاثين تأليفا في فنون شتى تقيدت أسماؤها وأسانيدها في برنامج روايتي، وأجازني وكتب لي الإجازة الحافلة بخطة وأنشدني للملك الأشرف في مملوك له جميل وقعت عليه شمعة فأصابت شاربه فقال فيه بديها:

وذي هيف زارني ليلة

فأضحى به الهم في معزل

فمالت لتقبيله شمعة

ولم تخش من ذلك المحفل

فقلت لصحبي وقد حكمت

صوارم لحظيه في مفتل

أتدرون شمعتنا لم هوت

لتقبيل هذا الرشا الأكحل

درت أن ريقته شهدة

فحنت إلى ألفها الأول

وأنشدني لابن سرايا الحلي من أهل العصر في شمع كان يدخل به إلى مجلس صاحب ماردين على أيدي الغلمان الحسان:

أهلا بشهب في سماء المجلس

هتكت أشعتها حجاب الحندس

زهر إذا أرخى الظلام ستوره

فعلت بها كصحيفة المتلمس

هيف القدود تريك بهجة منظر

أبهى لديك من الجواري الكنس

كالقضب إلا إنها لا تنثني

منها القدود وزهرها لم يلمس

أذكت لحاظ عيونها فكأنها

زهر تفتق في حديقة نرجس

نابت عن الشمس المنيرة عندما

حبست وساطع نورها لم يحبس

وإذا تحذرت النجوم رأيتها

ترعى الصباح بمقلته لم تنعس

وضحت أسرتها وقد عبس الدجا

وتنفست والصبح لم يتنفس

إن خاطبتها رد لسانها

همسا كلجلجة للسان الأخرس

وإذا تعودها النسيم ترى لها

خفقا كقلب الخائف المتوسوس

في طرفها عمش إذا حققته

لم يبد منها الاسم ما لم يعكس

عجبا لها تبدي لعط لسانها

بشرا وتحيا عند قطع الأرؤس

رضيت ببذل النفس حين تبوأت

من حضرة السلطان أشرف مجلس

الصالح الملك الذي أنعامه

طوق الغنى وطوق جيد المفلس.

شمس حكى الشمس المنيرة باسمه

وضياء بهجته وبعد الملمس

ص: 109

هو صاحب البلد الذي لسماحه

بالرفق يبلغ لا بشق الأنفس

لا زال في أوج السعادة لابسا

من حلة النعماء أشرف ملبس

وأنشدني له تورية في ساقي:

وساق من بني الأتراك طفل

أتيه به على جمع الرفاق

أملكه قيادي وهو رقى

وأفديه بعيني وهو ساق

وأنشدني له أيضا:

ما زال كحل النوم في مقلتي

من قبل أعراضك والبين

حتى سرقت الغمض من ناظري

يا سارق الكحل من العين

وأنشدني لابن الأثير الجزري:

كأن في فيه نباذا وأللالا

وبين جنبيه نفاثا ونبالا

منوع الحسن يبدي من محاسنه

لا عين الناس أصنافا وأشكالا

فلاح بدرا ووافى دمية وذكا

مسكا وعن طلا وازور رئبالا

وافتر درا وغنى بلبلا وسطا

عضبا وماج نقى واهتز عسالا

وأنشدني له أيضا:

إن التي ملكتني في الهوى ملكت

مجامع الحسن حتى لم تدع حسنا

رنت غزالا وباهت روضة وبدت

بدرا وماجت غديرا وانثنت غصنا

وأنشدني: قال أنشدني قوام الدين العجمي بمصر ما ادعاه لنفسه وهو:

تصاممت إذ نطقت ظبية

تصيد الأسود بألحاظها

وما بي وقر ولكنني

أردت إعادة ألفاظها

قال واستحسنها أهل مصر، وعارضها منهم ألف وخمسمائة شاعر وأعجب بالبيتين صاحبنا شافع بن عبد الطاهر كاتب السر للسلطان الملك الناصر فاستحسنهما واستقصر جميع من عارضه فيهما من الشعراء ثم وقع في نفسه انهما لغيره فلم يزل يكشف عنهما حتى وجدهما لابن الرومي في ديوانه الكبير قال فلما وقف عليهما فيه بعثني بذلك إليه فأعلمته، فقال قوام المذكور وهو وأنا معا بالجامع الأعظم من مصر والله الذي لا إله إلا هو ما علمت بهما قط، وأن هذا لمن توارد الخاطر، ووقوع الحفر على الحافر، وذكر أنه دخل بعض الشعراء من المغاربة على صاحب طرابلس الشام وبين يديه مملوك جميل الصورة في نهاية الحسن والجمال فالتفت الشاعر وجعل ينظر حسنه فقال له السيد إن كان قد أعجبك فامدحه بشعر حسن وخذه هدية لك فأنشد فيه قصيدة أولها:

تناقده غضن الصبا سكرا

فعربد ساجي طرفه نافثا سحرا

غريب معاني الحسن ذابل قده

يريك قضيب البان قد أثمر البدرا

جرى قلم الريحان يثبت حسنه

فخط بمسك الخال في خده سطرا

ونادى بلال الخال من فوق خده

تبارك ممن فرعه أطلع الفجرا

وسبحان من أنشأ بخده جنة

وأجرى بها ماء وأذكى بها جمرا

وساق إلى فيه من الخمر كوثرا

مكللة في كأس ياقوتة درا

فلو لم يكن مبعوث حسن لما غدت

صحائف آيات الجمال به تقرأ

قال فلما أنشد الأبيات، أعجب بها السيد فوهب المملوك له ثم افتداه منه بعد ذلك بوزن المملوك دراهم عشر مرات، قال رضي الله عنه ومن أخبار المتوكل مع ابن الجهم أنه دخل عليه يوما فأنشده شعره الذي يقول فيه:

) هي النفس ما حملتها تتحمل (.

وكان في يد المتوكل جوهرتان فأعطاه التي في يمينه فاطرق يفكر في شعر يأخذ به الأخرى فقال له المتوكل إنما تفكر فيما تأخذ به الأخرى ورمى بها إليه فقال ابن الجهم:

يسر من رأى إمام عدل

تغرف في جوده البحار

يرجى ويخشى لكل أمر

كأنه جنة ونار

الملك فيه وفي بنيه

ما اختلف الليل والنهار

يداه في الجود ضرتان

كلتاهما في الندا تغار

لن تأت منه اليمين شيئا

إلا أتت مثله اليسار

قال: قال أبو العتاهية بيتين في أيام الرشيد ورفعهما إلى زبيدة يمدح ابنها محمد وهما:

لله درك يا عقيلة جعفر

ماذا ولدت من العلا والسؤدد

أن الخلافة قد تبين نورها

للناظرين على جبين محمد

فأمرت أن يملأ فمه درا، وذكر لي أنه صلب ابن بقية وزير بغداد وكان الخليفة قد وكل به من يحرسه ليلا ونهارا ولم يتجاسر أحد على أن يرثه، وقف الكاتب ابن الأنباري عليه والناس حوله قائمين صفوفا فرثاه بقوله:

علوا في الحياة وفي الممات

لحق أنت إحدى المعجزات

كأن الناس حولك حين قاموا

وفود نداك أيام الصلات

كأنك قائم فيهم خطيبا

وكلهم قيام في الصلاة

ص: 110

مددت يديك نحوهم اكتفاء

كمدهما إليهم بالهبات

ولما ضاق بطن الأرض عن أن

يضم علاك من بعد الممات

أصاروا الجو قبرك واستنابوا

هم الأكفان ثوب السافيات

ولم أر قبل جذعك قط جذعا

تمكن من عناق المرمات

لعظمك في النفوس تبيت ترعى

بحراس وحفاظ ثقات

وتشعل حولك النيران ليلا

كذلك كنت أيام الحياة

ركبت مطية من قبل زيد

علاها في السنين الماضيات

وتلك فضيلة فيها تأس

تعاند عند تعيير العدات

أسأت إلى نوائب فاستثارت

فأنت قتيل ثأر النائبات

وكنت تقيل من صرف الليالي

فصار مطالبا لك بالثارات

غليلي باطن لك في فؤادي

يخفف بالدموع الجاريات

ولو أني قدرت على قيام

بفرضك والحقوق الواجبات

ملأت الأرض من نظم القوافي

ونحت بها خلاف النائحات

ولكني أصبر عنك نفسي

مخافة أن أعد من الجنات

ومالك تربة فأقول تسقي

لأنك نصب هطل الهاطلات

عليك تحية الرحمان تترى

برحمات غواد رائحات

قال فأعطاه ابنه عليها ثلاثين ألف دينار كبار، وقال الحافظ رحمه الله وأخبرنا أبو بكر يحيى بن إبراهيم السلماسي قال: قرأت على القاضي أبي قاسم ناصر الدين بن أحمد بن بكران الحوفي، ووجدت بخط والدي الشيخ أبي الطاهر بن أحمد إبراهيم بن أحمد بن محمد السلماسي، قال لما أمر عضد الدولة بقتل الوزير أبي محمد بن بقية وصلبه بمدينة السلام في سنة سبع وستين وثلاثمائة كان له صديق يعرف بأبي الحسن الأنباري فرثاه بهذه الأبيات وكتبها ورمى بها في شراع بغداد فتناولتها الأدباء إلى أن وصل الخبر عضد الدولة، فلما أنشدت بين يديه تمنى أن يكون هو المصلوب دونه فقال على بهذا الرجل فطلب سنة كاملة وأتصل الخبر بالصاحب إسماعيل بن عباد بالري وكتب له بالأمان، فلما سمع بذكر الأمان قصد حضرته فقال له أنت القائل لهذه الأبيات قام نعم قال: أنشديها من فيك قلما أنشده:

ولم أر قبل جذعك قط جذعا

تمكن من عناق المركمات

قام الصاحب فعانقه وقبل فاه وأنفذه إلى حضرة عضد الدولة فلما مثل بين يديه قال له: ما الذي حملك على مرثية عدوى فقال له: حقوق سلفت، وأياد مضت فجاش الحزن في قلبي فرثيت فقال: هل يحضرك شيء في الشموع والشموع تزهر بين يديه فأنشأ يقول:

كأن الشموع وقد أظهرت

من النار في كل رأس سنانا

أصابع أعدائك الخائفين

تضرع تطلب منك الأمانا

فلما أنشده هذين البيتين خلع عليه وحمله على فرس وأعطاه بدرة، وذكر لي أن الخليفة الناصر كان وزيره ناصر بن مهدي الحسني وكان كثير المخالفة في كل ما يأمره به فقال للخليفة يوما بعض خواص أن هذا الوزير يسئ الأدب، ويخالف أمير المؤمنين فيما يأمر به فوجد الخليفة لذلك وقال للوزير لئن خالفتني بعدها أو عارضتني في شيء من أمري لاستبدلن بك من وجدته في الحال، فقال له: نعم وأذعن للسمع والطاعة، ثم أقام على ذلك أياما فعرض للخليفة في بعض الأوقات أمر من الأمور المهمات فذكره ودبر رأيه فقال له الوزير لايا يأمر أمير المؤمنين، الرأي أن تفعل خلاف هذا، فقام الخليفة لوقته وخرج من بعض أبواب قصره فوجد شابا مصفر الوجه يلتقط شيئا من نفاضات الموائد فدعاه الخليفة إليه وقال له أتحسن الكتابة قال: أجل فدخل به وولاه الوزارة من حينه وخرج صاحب الشرطة بين يديه إلى دار الوزارة وقام يدبرها أحسن التدبير، وكان ظن الوزير المعزول أنه لا يوجد مثله لما كان فيه من المعرفة فكتب إلى الخليفة رقعة فيها:

شمل النسج من حاك لكن

ليس داود فيه كالعنكبوت

القني في لظى فان أحرقتني

فتيقن أن لست بالياقوت

فلما بلغت الخليفة أخذها وأطال النظر فيها فقال له الوزير المستجد يا أمير المؤمنين أراك النظر في هذه الرقعة فدفعها إليه فلما أخذها من يد الخليفة وسمع ونظر إليها قال: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الجواب، قال: نعم، فكتب تحت البيتين:

نسج داود لم يفد صاحب الغار

وكان الفخار للعنكبوت

وبقاء السمند في لهب النار

مزيل فضيلة الياقوت

ص: 111

فلما نظر الخليفة الجواب بعث إليه به وقال غدا يأتي النعى الوزير فما أصبح الصباح حتى جيء بنعى الوزير وذكرت له بهذه الحكاية ما وجدته ببعض التآليف المعتمدة وذلك أنه مر بعض الملوك بغلام يسوق حمارا غير منبعث وقد عنف عليه في السوق، فقال يا غلام أرفق به فقال له الغلام الرفق به مضرة عليه، قال: وما مضرته قال يطول طريقه ويشتد جوعه وفي العنف به إحسان إليه يخف حمله ويطول أكله، فأعجب الملك كلامه فقال له: قد أمرت له بألف درهم، فقال رزق مقدور وواهب مأجور، وقال: وقد أمرت في حشمي، قال: كفيت مؤنة فرزقت بها معونة، فقال: لولا أنك حديث السن لا ستوزرتك، فقال: لم يعدم الفضل من رزق العقل، قال: فهل تصلح لذلك، قال إنما يكون الحمد أو الذم إلا بعد التجربة، ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها، قال: فاستوزره فوجده ذا رأي صائب ومشهورة تقع موقع التوفيق، ومن ظريف الوجادة وغريب الاتفاق أني لما دخلت الإسكندرية قافلا وقعت عيني ببعض الجدران على هذين البيتين:

إذا ضاق بي صدري استعنت بخالق

قدير على تيسير كل عسير

فبين انطباق الجفن ثم ارتفاعه

فكان أسير وانجبار كسير

ثم تنقلت خطى يسيرة وإذا بحائط آخر مكتوب عليه ما نصه:

ما رأينا ضربة من بطل

بحسام قطعت ألف قلم

بل رأينا نقطة في كاتب

بمداد نكست ألف علم

ثم دخلت المدرسة السراجية المذكورة آنفا فرأيت بأعلى باب بيتي الذي سكنته فيها ما نصه:

عليك السلام الله يا خير منزل

رحلنا وودعناك غير ذميم

فان تكن الأيام فرقن بينا

فما أحد من صرفها بسليم

ثم تأملت فإذا بعده بخط آخر ما نصه:

تركنا همنا ثم ارتحلنا

كذا الدنيا نزول وارتحال

وما دهر على أحد بباق

ولا يبقى على الإنسان حال

ثم ألتفت فإذا أمامه بخط آخر ما نصه:

قد حصرنا في ذا المكان وغنينا

وكذا الدهر غيبة وحضور

قد حضرنا في ذا المكان وغبتم

وقرأنا من بعده ما كتبتم

وذكرنا كم بكل جميل

فاذكرونا بمثله أن حضرتم

فعجبت لدار تدين برحيل وتنبئ عن سفر طويل وتفرق بين كل خل وخليل وكتبت من نظمي هناك بطرف دامع وقلب عليل:

قد استلم لنا الدموع نجيعا

وذكرنا كم بخير جميعا

وسألنا يا حاضرين دعاء

واجترعنا الفراق والتوديعا

وكنت لما صدرت من الشام وخرجت عن أقطارها وسرت في بعض قفارها أداني السير إلى أطلال عالية بالية فوجدت لرؤيتها كل الوجد وقربت إليها من البعد، فإذا ببعض تلك الجدران مكتوب عليها بالفحم هذان البيتان:

ولقد ندمت على تفرق شملنا

أسفا ففاض الدمع من أجفان

ونذرت نذرا أن ظفرت بعودة

لا عدت أذكر فرقة بلسان

فعلمت أن كاتبهما مثلي بعيد الدار، متصرف بين يدي الأقدار قد سئم السرى وشاقه النسيم متى سرى، فدعوت الله تعالى في جمع شملي وشمله ورد كل غريب إلى وطنه وأهله وكتبت هنالك من نظمي على شاكلته وشكله:

ولقد جرى يوم النوى دمعي دما

حتى لقال الصحب انك فان

والله إن سمح الزمان بقربنا

لكففت من ذكر النوى وكفاني

وقرأت بخط الإمام أبي الحسن علي بن سعيد قال: قرأت بحائط التربة التي فيها معروف الكرخي الزاهد بالجانب الغربي من مدن بغداد:

وما ضرني إلا الذين عرفتم

جزى الله خيرا كل من لست أعرف

وتحت هذا لبيت: رجل غريب، طاف بالأرض فلم يظفر بحبيب ووجدت في مقابلة ذلك بخط آخر:

لعمرك ما انتفعت بغير خل

له عندي الذي ألفيه عنده

يراعني فيصبح عبد قصدي

كما أمسى إذا ما احتاج عبده

ص: 112

وتحتهما من صفا باطنه، كأن كل العالم صديقه، ومن كدر باطنه كان كل من في العالم عدوه، وجرى الحديث بذلك مع الشيخ الإمام العالم المفتي المسلمين عز الدين أبي إسحاق بن حباسة رضي الله عنه بمنزلة من الإسكندرية المحروسة، فقال لي: سافرت إلى الشام مع السلطان قلاوون الصالحي فبينما نحن نسير في فلات من الأرض القفراء وإذا أنا بطلل بال قد لمحته على بعد فحننت إليه وقصدته فلما دنوت منه ألفيت عليه مكتوبا بالمداد ما صه: جبت القفار، ووقفت على الآثار، فما رأيت صديقا صادقا، ولا رفيقا موافقا، فمن قرأ هذا الخط فلا يركن لأحد قط من الأنام والسلام، وحدثني الشيخ الإمام عز الدين المذكور قال أخبرني أخي وصديقي الشيخ الإمام القدوة رئيس الكتاب نور الدين أبو الحسن علي بن الشيخ الإمام الكبير، رئيس الكتاب جمال الدين بن المكرم قال: سافرت مع السلطان الملك الأشرف ابن السلطان قلاوون الصالحي إلى مدينة عكة في غزوته إياها، فأقمنا عليها، إلى أن يسر الله تعالى في فتحها بعد مدة طويلة قال: فلما دخلناها دخلت الكنيسة التي كانت بها فإذا هي ذهب ساطع وإذا أنا بكتب على حائط منها قريب العهد لم يجف مداده فيه ما نصه:

أدمى الكنائس أن تكن عبثت بكم

أيدي الحوادث أو تغير حال

غلطا لما سجدت لكن شمامس

ثم النوف جحاجح أبطال

ليكن عزاكن الجميل فإنه

يوم بيوم والحروب سجال

قال فعلمت قطعا أن كاتبه نصراني وعجبت في ذلك غاية العجب وحدثني الشيخ عز الدين المذكور قال وجد مكتوبا على باب كافور الأخشيدي بمصر:

أنظر إلى عبر الأيام ما صنعت

أفنت أناسا بها كانوا وما فنيت

ديارهم ضحكت أيام دولتهم

فإذا خلت منهم ناحتهم وبكت

ص: 113

وذكر لي الشيخ عز الدين المذكور أن أهل مصرنا لهم جور من بعض ولاة كافور المذكور ولم يعلم بذلك كافور ولا أطلع عليه فاجتمع خاصتهم وكتبوا كتابا بالشكوى أعلموه فيه بحالهم، نصه بعد البسملة أما بعد فإنكم قدرتم فأسأتم وملكتم فقهرتم ووسع عليكم فضيقتم، واغتررتم بصفو العيش ولم تتفكروا في عواقبكم، وتهاونتم بسهام الأسحار وهي صائبة لا سيما إذا خرجت من قلوب جرحتموها، وأكباد اججتموها، وأجساد اعريتموها ولو تأملتم هذا حق التأمل لأشفقتم، أو ما علمتم أن الدنيا لو دامت للعاقل لم يصبها الجاهل، ولو دامت لمن مضى لم يصل إليها من بقى، وكفى محنة رجل يكون في هلاكه فرج العالم كله ومن المحال هلاك المنتظرين وبقاء المنتظر به وحده، اعملوا ما شئتم فأنا صابرون، وجوروا فأنا بالله مستجيرون. وثقوا بقدرتكم فأنا بقدرة الله واثقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فلما وصل الكتاب إلى كافور ساءه، وشغل باله فلم يلبث سوى سبعة أيام حتى مات والشيخ عز الدين هذا هو أبو إسحاق إبراهيم بن نور الدين أبي عبد الله محمد بن زين الدين أبي الحسين يحيى بن وجيه الدين أبي علي منصور بن أبي محمد عبد العزيز بن نور الدين بن أبي الحسن علي بن حباسة بفتح الحاء المهملة. وحباسة هو ابن علي بن محمد بن محمود بن موسى بن عز العرب بن زيد بن عمرو بن محارب ابن مكاثر بن رافع بن مدافع بن مغيث بن حرب بن عمارة بن المسيب ابن شريك بن محور بن حارث بن ربيعة بن معن بن وهب أياد بن حيا ابن عامر بن معاوية بن الحارث بن تميم بن مرة بن طابخة بن الياس ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، هكذا كتبته من حفظه وهكذا صححته بعد عليه، وأن سلفه هذا من بني تميم، لذو مجد صميم، وجد عند الملوك عظيم، قدم في العلم ماضية على منهج قويم، وصراط مستقيم وأن الشيخ عز الدين هذا السالك مسالكهم وصالحهم ومحيي مآثرهم، ومجدد مفاخرهم، وأولهم في حمل الفضائل وإن كان آخرهم فهو دوحة المجد وريحانة الكرم الممد، وروضة العلم، وهضبة التقى والحلم تفتحت له روضة المعارف، وتفسحت له المجالس بين الأعلام العوارف، فتدلت له ثمرات تلك الحدائق، وعلت به دوحات أولى النهي والحقائق، فصحب من أولياء الله تعالى فريقا، وركب جادة الجد إليهم طريقا، واتخذ العلم والعمل دليلا ورفيقا، أخذ نفسه الكريمة بالتصوف فأدبها بآدابه وهذبها بملازمة أربابه. حتى آض شيخا لشيوخ تلك الطريقة، وعلما في أعلام أولى الحقيقة مع اتساع روايته. وامتداد باع درايته، واهتمامه بالعلم وعنايته، وتبحره في استخراج جواهر الحكم وتقدمه في السخاء والجود والكرم:

وتأخذه عند المكارم هزة

كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب

واظبته وقد ناهز التسعين، وجف ماء عمره المعين، إلا أنه قد متع بلسانه وجنانه وأقطع ما شاء من إحسانه وبيانه. ووضع له البركة في سمعه وبصره وبنانه، فما دخلت عليه قط إلا وهو مطالع في الدواوين والتآليف، أو ناسخ لكن بالخط الرقيق والقلم النحيف على نحافة جسمه وقيامه، في ليله وصيامه في نهاره، له سماع من أبيه كثير، والماع بفنون العلم أثير، وقدره كبير، وبيته شهير، وله نظم يدل على رقة صنعه، ويعرب عن كريم طبعه وأما نثره فشبيه بنثر الدر غير أن ألفاظه تزيد على أسماطه في القدر لازمته كثيرا وتبناني فكنت صدى صوته. وسلمان بيته، وكنت كثيرا لا استأذن في الدخول عليه ولا أزال أقول بين يديه:

سلمان بيتكم وحق المج

د أن يرعى ذمامه

فرضت صلاتك كالصلا

ة وحمد وافدك الإقامة

ص: 114

وقرأت وسمعت عليه نحو الأربعين مجلدا في أنواع مختلفة وصححها لي بخطه وجازني الإجازة التامة، ومما قرأت عليه بلفظي لعلوه فيه جميع الأربعين حديثا السباعية الفراوية النيسابورية، وجميع الأربعين حديثا البلدانية السلفية وجميع الأربعين حديثا الودعانية غيرها، مما قد استوفيته في غير هذا (، وأخبرني أنه قرأ جميع الأربعين البلدانية السلفية على الشيخ الإمام الكبير كمال الدين أبي الذكر احمد بن رضى الدين أبي محمد عبد القادر بن المعالي رافع بن أبي الذكر احمد بن الدمراوي بحق سماعه لها من الشيوخ لثلاثة العلماء الأئمة أبي الفضل جعفر بن علي بن هبة الله الهمداني، والشيخ جمال الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن مكي بن الحاسب سبط الحافظ السلفي رشيد الدين أبي محمد عبد الوهاب بن رافع بن علي عرف والده برواح بسماعهم الثلاثة من الحافظ أبي طاهر السلفي المخرج المذكور رحم الله جميعهم بمنه، ومولده رضي الله عنه في الرابع عشر من شعبان المكرم سنة اثنين وستين وستمائة وعنه أخذت خرقة التصوف ولبستها من عنده ومن يده كما لبسها من شيخه الإمام الأوحد قطب الدين أبي بكر محمد بن احمد القسطلاني رحمه الله سنده المخرج في تأليفه الذي سماه ارتقاء الرتبة باللباس والصحبة، وقد أخذت عنه عن شيخه هذا قراءة وتصحيحا ومن أصل المؤلف قطب الدين المذكور نقلته ومما أنشدني غير مرة لشيخه قطب الدين أبي بكر قال أنشدنيها غير مرة:

إذا المرء ربى نفسه بمراده

فقد شاد بنيانا على غير أسه

ومن لم تربيه الرجال وتسقه

لبانا لهم قد رد من ثدي قدسه

فذاك لقيط ما له نسبة الورى

ولا يتعدى المرء أبناء جنسه

وان شاب من بعد هذا رياسة

فقد سكن الداء العضال برأسه

فكن قاطعا أن ليس يفلح دهره

إذا كان ممن ذاق طعما لنفسه

وأنشدني الشيخ الإمام الكبير الشهير شهاب الدين السهروردي وهو غير صاحب كتاب عوارف المعارف:

أبداً تحن إليكم الأرواح

ووصالكم ريحانها والراح

وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم

وإلى جميل جمالكم ترتاح

وارحمه للعاشقين تحلموا

ثقل المحبة والهوى فضاح

بالسر أن تباح دماؤهم

وكذا دماء البائحين تباح

وأنشدني للملك الكامل رحمه الله:

طوا مغرما من أجلكم واصل الضنى

وفي حبكم طيب المنام فقد فقد

أثار الهوى نارا تشب بقلبه

فكيف بإطفاء الغرام وقد وقد

وأنشدني للإمام أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنه:

رضيت من الدنيا بقوت وخرقه

وأشرب من كوز حوافيه تكسر

فقل لبني الدنيا اعزلوا من أردتم

وولوا وخلوني على البعد أنظر

وأخبرني بسنده فيه قال أتى رجل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له عنبسة الهلالي فقال يا محمد أني قلت شعرا أفتسمع مني فقال النبي صلى الله عليه وسلم قل فأنشده:

وحي ذوي الأظعان تسبى عقولهم

تحيتك الحسنى فقد يرقع النعل

فإن هتفوا بالقول فأعف تكرما

وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسل

فإن الذي يوذيك منه استماعه

كأن الذي قالوا وراءك لم يقل

ص: 115

فقال له صلى الله عليه وسلم: أجدت يا أخا العرب فتبسم الأعرابي وقال له يا محمد فهل أنزل عليك ربك شيئا مثل هذا فنزل جبريل عليه السلام وقال له: اقرأ [ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم]، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ومن المستظرف ما أخبرني به الشيخ العالم الزاهد جمال الدين أبو الفرج محمد بن الشيخ الفقيه الإمام نجم الدين أبي البركات محمد بن الشيخ الفقيه الصالح المرحوم شرف الدين بي القاسم عبد الرحمن بن احمد بن محمد بن محمد بن سلامة البلوي القضاعي المالكي الإسكندري رضي الله عنه قال: كان هنا ببلدنا رجل من أحسن الناس خطا، فقطعت يمينه وصار يكتب باليسار أحسن ما يمكن من الخط فرفع إلى أبي رسالة يستجديه بها وهي هذه وناولني رقعة، قد اتخذها الحسن بقعة أولها قطعة شعر قد صور من الأمل، وجسم من الكحل وخلى من السحر فنبت وقيد بالحبر فثبت تتبعها رسالة سلسالة، كم سارقت الحواجب خط نوناتها ضاربه، وخطت الأصداغ على مثل لامتها مباعدة ومقارنة، واستمدت حبل التخفيف وخدع الصنع اللطيف فأيأس التابع فضل المتبوع، وفضح التطبع شيمة المطبوع، آخرها وكتب فلان بن فلان المقطوع اليد والقطعة هي هذه:

غربة تتبع قلة

أن في الفقر مذلة

أكرم الناس ويأمن

جوده فيه جبلة

لا تجد لي لسؤالي

إنما جودك لله

فوعيت ما رأيت واستملحت ما لمحت وذكرت له ما رويته بسندي إلى الحافظ أبي طامي احمد بن احمد السلفي قال: أخبرنا أبو محمد بن السراج أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال الحافظ عن أبي عمر بن حيوية الخزازي حدثنا أبو عبد الله النوبختي قال: قيل أن هذا الشعر لابن علي بن مقلة قاله من الحبس بعدما قطعت يمينه وقتل بعد ذلك في شوال سنة ست وعشرين وثلاثمائة.

ما مللت الحياة ولكن توثقت

بأيمانهم فبانت يميني

لقد أحسنت ما استطعت بجهدي

حفظ أرواحهم فما حفظوني

بعت ديني لهم بدنياي حتى

حرموني دنياهم بعد ديني

ليس بعد اليمين لذة عيش

يا حياتي بانت يميني فبيني

ص: 116

وهذا الشيخ جمال الدين من كبار علماء المسلمين، اعلم الناس بمذهب الإمام مالك وأعلاهم في دلالة تلك السبل والمسالك، نسب أشهر من الشمس في السماء وحسب كاتساق عقد النجوم في نحور الظلماء، وخلق أندى من الزهر وأسوغ من الماء إلى سبق في المنطق والجدل وحذق في الأصول والفروع، موقعي من الخطأ والخطل، وتشبث بأهداب من الآداب وتمسك من الرواية عن علماء أهل بيته وغيرهم بأسباب، وشأن هذا الرجل عجيب في نبوغه في طريق العلم وبلوغه، إلى أعلى مراتب التقى والعلم وأطباق الناس على تعظيمه وحبه، وانقباضه عنهم وانقطاعه إلى ربه، به يضرب المثل في العلم والزهد، وعند كلامه يقف الكلام في الفتوى والرد، مقبل على الآخرة معرض عن الدنيا، عار من زخرفها إلا ما يتخذه من ثوب حسن جميل حسنه وجهه الجميل. فترى رجلا زينه الله بهيبة وجلال وألقى عليه مسحة جمال، وأكرمه أن يشغله بأهل أو ولد أو مال، فكان إذا خرج من مدرسته حيث سكناه وتدريسه، لم يخلف وراءه ما يتشوق إليه، وحفظ الله عليه حسنه من شبابه إلى شاخته فلم يتغير له ديباجه ولا انقطع عجب النواظر منه وعجبها به، لازمته كثيرا، وأفادني من أفانين العلم المحفوظ وقوانين المفهوم والملفوظ ما لا يفيده إلا الأعلام الجلة. وسمعت عليه جميع الجزء المحتوي على ثلاثين حديثا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثلاثين شيخا، وبآخره فوائد وأناشيد متصلة به تخريج الإمام الحافظ أبي الظفر منصور بن سليمان بن منصور الهمذاني رواية الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن أبي طالب الأزدي المعروف بابن الدهان عنه حدثني به عن أبي الدهان المذكور سماعا عليه، وأطلق لي أن أحدث عنه وأن نفيد ما استفدته منه وأجازني إجازة تامة، مطلقة عامة، وكتب لي بخطه، وأخبرني رضي الله عنه قال رأيت ليلة من الليالي رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم جالسا وعن يساره امرأة بيضاء اللون والثياب فلما وقعت عيني عليها صرفت وجهي عنها مسرعا ثم رددته فرأيتها فصرفت وجهي عنها أسرع من المرة الأولى فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عائشة فقلت: قال أبو حامد الغزالي قال فأصغى إلي مقبلا على كلامي عندما ذكرته له في الوسيط له وتخمين الظن فيما لا حاجة إلى العمل به في الحال تضييع زمان واقتحام خطر فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم نعم، قال: ثم شكوت له صلى الله عليه وسلم قضية، فقال لي: إذا دخلت الحمام لا تتكلم، قال: ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الكريمة على ناصيتي وقام فقمت خلفه ثم رقى في الهوى فرقيت خلفه ولم يزل يرقى وأنا أرقى خلفه إلى أن استيقظت، قال ففتح الله علي ببركة تلك الرؤية المباركة في معرفة أشياء وافتتاح علوم لا يدركها الغير والحمد لله ولنختم علماء الإسكندرية بمسك ختامها ووسط نظامها، وعاقد نقضها وإبرامها، ومالك خطامها وزمامها، قاضي القضاة، والقائم بالمسير المرتضاة، الشيخ العالم الكبير محي الدين، أبي عبد الله محمد ابن عمرو بن عبد الوهاب بن خلف العلامي الشافعي معدن العلم والوقار ورافع راية المجد والافتخار. الآخذ بذؤابة الحسب الشامخ الذروة العالي النجار المفيض من جنانه وبنانه، بحار المواهب ومواهب البحار برز لرامح الخطب، فحطم سمهرية، ونزع عن قليب السخاء فلم أر عبقريا يفري فريه له سلف لم يعلق به صلف ولم يعرف له بغير العلم كلف، استوزرهم السلاطين والملوك، واستشعرهم الصدق والسلوك، فاستقلوا بأجل الرياسة، واستقبلوا الرعايا بأجمل السياسة إن خطوا فالأقدام عنهم تتأخر أو خطوا فالأقلام بهم تفخر، بدورهم مشرقة وبحورهم مغرقة، ومآثرهم مشئمة معرقة، ولقد اذخروا لنا منهم درة تاجهم، ونكتة احتجاجهم وبشارة إقبالهم وقرارة أسيالهم، ففرع هذا الفرع من تلك الأصزل وبرع في استقراء تلك الأبواب وتيك الفصول وشرع في تشييد المجد وتخليد الحمد، فأعطى ما شاء من سبيل إلى الوصول، فاستخلصه الجناب السلطاني الناصري القلاووني أيده الله، ثم أنعم به على العالمين، وآثر على نفسه المسلمين فولاه مدينة الإسكندرية قضي قضاتها، والمسارع إلى مرضاة الله بمرضاتها فرفع علم الحق ونفع سائر الخلق حتى برئت تلك المدينة من سقمها وولدت بعد عمقها وبلغت أملها في نفوذ أمرها وعدل حكمها فاستقامت الأمور وانكشف الديجور وسرى عن الناس ما كانوا فيه

ص: 117

فكأنما كانوا في حندس ليل قاتم. فتجلى عن ضياء فجر ساطع فالأحكام به باهرة والأيام بسيرته زاهرة، والأنام في دولته تشملهم نعم باطنة وظاهره:

ترى عظماء الناس من خوف لحظه

كأنهم الكروان أبصر بازيا

وما الخرق منه يرهبون ولا الخنا

عليهم ولكن هيبة هي ما هيا

هيبة التقوى لا هيبة الأقوى وخوف الجلال لا خوف الإذلال، وتلوح في أغطاف منطقه شيم الندا ومخائل الفضل، دخلت عليه وقد صرفتني الريح عن وجهتي الغربية من مواسطة البحور، وعرفتني الحوادث فأنكرتني معارف الجدة والوفور، ومكثت في مكابدة الأسفار ومعاناة البحار عدة من الليالي، ومدة من الدهور، فرفعت له من نظمي قصيدة ضادية حكت نسجها حاكيا، ولكت فيها الزمان شاكرا وشاكيا، فتقبلها بقبول حسن وأيقظ لها اعتناءه ولم يكن ذا وسن وإن كانت مزجاة البضاعة مستوجبة الإضاعة فعين الرضى كليلة عن كل عيب لا يرتضى، وقد أثبتها في ديوان شعري، وربما والله أعلم أجادها فكري. فإنه رأيته يقرأها ويتمايل طربا ويردد ألفاظها استحسانا وعجبا وسمعت الناس يقولون إنها حسنة فلا أدري أصدقا أم كذبا، وكيف ما كانت فقد جعلها الله لانتفاعي به سببا، وإن كنت كتبتها بالمداد فقد ملأ يدي فضة وذهبا، وأمر لي مع ذلك بجراية نفقتي وراتبي في كل يوم مدة إقامتي بالإسكندرية ومكثت كذلك تحت نائل جرايته، وطائل عنايته، إلى أن افتصلت عنه مسافرا وودعته خجلا من فضله سافرا. فرحا برفده، مفصحا بحمده، متزودا من عنده فسمعت عليه بمنزلة ومجلس حكمه من الإسكندرية المحروسة بلفظ إمام لمحدثين معين الدين بي عبد الله المصغوني المتقدم الذكر، وبفقد الرواية عنهما جميع تاريخ الرقة للحافظ أبي علي القشيري الحراني الرقي وحدثني به عن الشيخ الإمام أبي عمران موسى بن عثمان بن محمد البزاز سماعا منه عليه، قال حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن لبي يعقوب يوسف بن همة لله بن محمود بن الطفيل الدمشقي قال أخبرنا الحافظ أبو طاهر احمد بن محمد السلفي، قال أخبرنا المبارك ابن عبد الجبار بن احمد الصيرفي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن جعفر السلماسي، قال: أخبرنا أبو احمد محمد بن عبد الله بن احمد بن القاسم بن جامع الدهان قال: حدثنا أبو علي محمد بن سعيد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن عيسى بن مرزوق القشيري الحراني حافظ الرقة بالرقة، قال الإمام معين الدين المصغوني القارئ المذكور وهو في إجازتي من الشيخ أبي عمران موسى بن عثمان بن محمد البزاز المذكور وقد سمعت عليه غيره من مروياته وكتب تدريسه المتداولة بين يديه في الحديث والفقه رواية وتفقها، وأجازني الإجازة التامة المطلقة العامة متلفظا لي بها غير مرة وكاتبا بخطه، ثم شرع الركب المغربي في السفر وانقلب مقضي الحاجة فائزا بالظفر فاشتاق أخي محمد إلى المواطن الأندلسية الكريمة ورأى أن يرجع بما سن الله تعالى له من الغنيمة فآثرت مذهبه في ذلك ورأينا أن لا تنقطع عن الأهل المنقطعين هنالك فصرفتني المقادير عن صحبته وقضت بقفوله وتسنى سفره مغربا على بغيته وسؤله، ورحل ولا تسأل عن بقائي بعد رحيله، ورجوعي من وداعه إلى موطئ قعوده ومواطن حلوله:

فلم أر أنسا قبله عاد وحشة

وبردا على الأحشاء عاد غليلاً

ومن تك أيام السرور قصيرة

به كان ليل الحزن منه طويلا

ويا لساعات التوديع ما أشد كربها وأحد غربها، وأكثر إلهابها للخلد، وإذهابها بالجلد فصدر ووردت واجتمع وانفردت وعدت إلى منزلي:

ولو جدي من العروض بسيط

ومديد وافر وطويل

ولم أكن عارفا بهذا إلى أن

قطع القلب بالفراق لخليل

أدري دمع العين، وآسى لشمل لا ينفك من روعة البين، وأفكر في عهد كنت إليه استمنت، ولعيني في ظله أنمت، فما برحت الأيام حتى أخلقت برده وعلقمت شهده وأتته من بابها وعضته بنابها:

ورجعت من تشييعهم

وقد علاني خبل

وكل من خاطبني

قلت له قد رحلوا

يقول من أبصرني

وسوس هذا الرجل

فلقد أصابني لفراقهم ما أنه:

لو كان بالفلك الدوار لم يدر

أو كان بالماء لم يشرب من الكدر

ص: 118

أو كان بالعيش ما في يوم رحلتهم

أعيت على السائق الحادي فلم يسر

كأن أيدي مطاياهم إذا وخدت

يقعن في حر خدي أو على بصري

فغودرت المنازل صماء عمياء، ودهيت من الفراق بداهية دهياء، وبقيت لا ميتا مع الأموات ولا حيا مع الأحياء، أتطارح بين تلك المنازل، أتجرع غصص المنايا من خطب الفراق النازل، وأترامى على مواطئ أخفاف الرواحل، وأمر بخدودي على ممر الحبيب الراحل. . .

وأنتسم نواسم تلك المعالم

فيفوح لي كالعنبر المتنفس

ونمشي حفاة في ذراها تأدبا

نرى أننا نمشي بواد مقدس

وعجبت للإسكندرية كيف جمعتنا ثم فرقتنا ولم تغربنا معا كما شرقتنا وأنشدت:

من لم يكن أخذ الهوى بفؤاده

فلقد أخذت من الهوى بنصيب

فرأيت أن أشد كل بلية

قضيت على أحد فراق حبيب

وكان سفره مع الركب المغربي المذكور في غرة جمادى الأولى من عام تسعة وثلاثين وسبعمائة:

راق الفراق لجيرة من بعدهم

ما راق لي عيش ولا دمعي رقا

ولكم سألت لينجد الحادي بهم

يوم الندي فأبى السؤال وعرقا

رحلوا وللزفرات بين ركابهم

نار يكاد زفيرها أو يحرقا

يا باكي بالأطلال بعد حبيبه

حزنا يومل دمنة أن تنطقا

بح بالسرائر واهم دمعك واشتهر

وجدا بت النوم عنك مطلقا

أن الذين عهدتهم سكانها

نعب الغراب بشملهم فتفرقا

فأقمت بعده للعلم ملازما، تارة متعلما وتارة معلما إلى أن يسر الله تعالى في تجهيز مركب سيف الدين، وحان سفره بجمع عظيم من المسلمين فركبت فيه في يوم السبت السادس لشوال من العام المذكور، وسرنا في مواسط تلك البحور طورا في الصعود وطورا في الحدور، ولنحذف زيادة الأنواء وإثبات الجرور وعدة ما تكرر لي في تلك الموسطة من المرات والشهور إلى أن وصلنا) مرسى الحمامات (بليدة بقرب حضرة تونس فنزلت بها ضحوة يوم الاثنين السادس لذي قعدة من العام المذكور وخرجت منها في ضحوة يوم الأربعاء الثامن لذي قعدة المذكور ودخلت حضرة تونس المحروسة في ضحوة يوم الخميس التاسع من الشهر المذكور، فنزلت منها بمدرسة الشماعين واجتمعت بإخواننا وأوليائنا من الطلبة والمدرسين، فألفيتهم لم ينقص الله لهم عددا، ولا أراهم بالفراق شملا مبددا، فسر الجميع بالاجتماع، وأقمنا كما كنا على المذاكرة والانتفاع، وكأني ما مددت إليهم يدا للوداع فنشروا من در الثناء منثورا ومنظوما، ونشروا من برود الصفاء مطويا ومكتوما فأنشدتهم:

أني وإن شط المزار وبددت

أيدي النوائب شملنا المنظوما

لم أخل من حسن الثناء عليكم

مذ غبت عنكم ظاعنا ومقيما

وأقبلوا يطالبونني بما اجتلبت من الفوائد، ويقصدونني في إطلاق ما قيدت من القصائد، لا أحصي كم أديبا كتب عني قصيدة صاحبنا جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن سليمان الدمشقي المعروف بالنابلسي، وهي:

أسر الفؤاد ودمع عيني أطلقا

والوجد جدده وصبري مزقا

حلو الشمائل ما أمر صدوده

متنعم قد لذ لي فيه الشقا

بعث الغرام إلى المنام فرده

عن عين عاشقه فبات مؤرقا

إن قلت مالي بالتجني طاقة

ولي وباب الوصل عني أغلقا

ظبى من الأتراك ينفر خيفة

في الحب من شركي به أن يعلقا

وتصح نسبته إذا حققتها

للترك لحظا والأعاريب منطقاً

طرح الذؤابة خلفه فحسبتها

حنشا بغصن أراكه متعلقا

صل الركاب إذا تمثل راكبا

فإذا ترجل ضمها متمنطقا

طالت فزاد سوادها فظننتها

ليل الصدود فلم أزل متعلقا

للحسن ماء جال في وجناته

كم فيه من إنسان عين غرقا

يسمو بطلعته عن قمر السما

وبلين قامته على غصن النقا

وإذا تكلم أو تبسم ثغره

ما يترك السالي إلى أن يعشقا

في مهجتي جمر الأسى متلهبا

وبثغره ماء الحياة مروقا

يا طيبة ماء ويا ظمأي فهل

أروي به وأعب حتى أشرقا

ومنها: يا عاذلي أقصر وتب عما مضى

ما أنت في عذل المحب موفقا

قد قلت لي يسليك عنه مثله

وصدقت لكن مثله ما يلتقيا

يا فاتر الأجفان أحرقت الحشا

مني فذبت صبابة وتشوقا

ص: 119

يمضي الزمان وما أزور ديركم

من كثرة الرقباء عند الملتقا

وأريد أسبح في الدموع إليكم

فأخاف من ضعف القوى أن أغرقا

وأرد عن برد النسيم تنفسي

أخشى يهب لكم لهيبا محرقا

أما غرامي من هواك فإنه

باق ولكن في السلو لك البقا

وأخذت فيما كنت فيه من معرفة ولي أصطفيه أو عالم أبادر لملازمته وتحفيه، فممن لازمته كثيرا، وأخذت أولا وأخيرا، الشيخ الفقيه الأديب أبو العباس أحمد عبد الله الأنصاري المعروف بالرصافي شيخ صالح غاد في طاعة الله رائح معهم في الحق، أخذ بالجد والصدق، لا يخالط أحدا ولا تراه إلا منفردا مشتغل بالعلم والعمل، خال من الحرص والأمل، محافظ على أوقات العبادة متقشف في أحواله تقشف الزهادة، مقتصد اقتصاد العليل، مقتصر على أقل القليل، قد استعد للرحيل، وشمر للعبادة بجسمه النحيل ورسمه المحيل فاستنفد الدهر علالته، واستنشق بلالته وغادره كالخيال الشعري، والغرض الأشعري، فهو يتظاهر بشعار المتحلم ويسفر عن سن عوف بن محلم عزيز النفس نبيل الحدس، قوي المنة على الهمة مقبل على الأمور الدينية المهمة، مهتم بما ينيله خير الدارين، قليل العيال، وقلة العيال إحدى اليسارين، قد سلك في العزلة أحسن المسالك وعمل على ما قاله إمام البلاغة بن مالك:

منغص العيش لا يأوى إلى دعة

من كل ذا بلد أو كان ذا ولد

والساكن النفس من لم ترض همته

سكنى مكان ولم يسكن إلى أحد

ص: 120

له حظ من الأدب وافر، ووجه بمحاسنه سافر، وعناية هو بها مكاثر وأمام ناظم ناثر، رحل إلى المغرب زمان شبابه، وسلك سبيل الهدى ودخل من بابه، فلقى جماعة من جلة العلماء وعلية الفضلاء منهم بسبتة الشيخ العالم العلم أبو القاسم بن الشيخ الفقيه المحدث أبي العباس العزفي اللخمي سمع عليه طائفة من كتاب الدر المنظم تأليف أبيه وكتب له بالسماع والإجازة العامة والشيخ العالم الصالح الإمام في علم العربية أبو الحسين بن الربيع القرشي سمع عليه كثيرا من كتاب سيبويه ومن الإيضاح ومن الجمل ومن شرحيه عليهما وأجازه وكتب له بخطه: والشيخ العالم الناثر الناظم أبو الحكم مالك بن المرحل سمع عليه كثيرا من تأليفه ومن أمداحه في النبي صلى الله عليه وسلم، ومن نظمه ونثره، وأجازه إجازة تامة مطلقة، وقد قرأت عليه كل ما سمعه عليهم من ذلك وحدثني به عنهم، والشيخ الفقيه الفرضى أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر الأنصاري التلمساني قرأ عليه قصيدته اللامية الشهيرة المتضمنة النسب النبوي الكريم، والمعشرات التي له على أعاريض الشعر، والرجز الذي نظمه في الفرائض، وقد قرأت عليه أنا بلفظي جميع ذلك كله، وحدثني به عنه قراءة عليه، ومنهم بغرناطة الشيخ الفقيه المقرئ أبو جعفر بن الطباع قرأ عليه بعض القرآن العظيم وأجازه وكتب له بخطه، والشيخ الأستاذ النحوي أبو الحسن ابن الضائع الأشبيلي سمع عليه كثيرا من إلقائه في علم العربية وأجازه إجازة تامة مطلقة وكتب له بخطه والشيخ الفقيه المقري أبو سهل اليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن مروان بن اليسر القشيري قرأ عليه جميع الأربعين حديثا عن الأربعين شيخا وهي المسماة بالجواهر والدرر تأليف الشيخ العالم الحاج الزاهد المحدث أبي الحسن علي بن يحيى الأزدي الجياني حدثه بها عن مؤلفها المذكور قراءة عليه، وقد قرأت جميعها عليه، وحدثني بها بالسند المذكور وأشياخه جماعة كثيرة احتوى عليهم برنامجه، وقرأت عليه جميع كتاب التيسير للحافظ أبي عمرو الداني رحمه الله تعالى، وحدثني به عن الشيخ المقرئ المسن أبي بكر بن محمد بن الفقيه أبي عبد الله محمد بن أبي جعفر احمد ابن مشليون الأنصاري البلنسي قراءة عليه حدثه به عن أبي عبد الله بن نوح وأبي جعفر الحصار وأبي عبد الله بن مسعود الشاطبي قراءة عليهم قالوا: حدثنا أبو الحسن ابن هذيل عن أبي داود عن أبي عمرو الداني مؤلفه، قال أبو بكر بن مشليون، وكتب به إلى إجازة أبو بكر محمد بن احمد بن أبي جمرة المرسي عن أبيه سماعا عن مؤلفه، وقد قرأت بلفظي جميع كتاب التيسير المذكور ببلاد المغرب والأندلس وغيرها على أزيد من عشرين شيخا من الشيوخ الجلة الأعلام، وأخذته مبغضا وسماعا عن جماعة أخرى كذلك، كل واحد منهم كتب لي بذلك بخط يده، وأسانيدهم فيه مستوفاة في برنامج روايتي، وقرأت عليه جميع تخميس قصيدة الإمام أبي عبد الله بن أبي الخصال البائية الشهيرة التي أولها) إليك فهمي والفؤاد بيثرب (للشيخ الأديب، الفاضل أبي بكر ابن حبيش رحمة الله تعالى عليه، وحدثني بالتخميس عن ناظمه ابن حبيش المذكور قراءة عليه. وقرأت عليه نظمه الذي خمس به قصيدة أبي إسحاق إبراهيم بن سهل الأشبيلي الإسلامي التي أولها) تنازعني الآمال كهلا ويافعا (وقرأت عليه كثيرا من نظمه، وأجازني وكتب لي بخطه ومولده بمدينة مرسية جبرها الله تعالى في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان المعظم من عام خمسين وستمائة وأخبرني رضي الله عنه قال خمست هذه القصيدة العينية المذكورة منذ عشرين سنة فارطة عن التاريخ وكنت في حين تخميس لها رمد العينين فساعة ما أتممت تخميسها برئت من الرمد وشفاني الله تعالى وعاد بصري كأحسن ما كان، وهو والحمد لله كذلك إلى الآن ما شكوته بعدما كبر السن، وأخبرني قال: أخبرني بمدينة سبتة شيخي أبو الحكم مالك بن المرحل رحمه الله تعالى قال: كان هناك معنا أبو إسحاق إبراهيم بن سهل المذكور وقد حسن إسلامه ولازمت الجماعات صلواته، ولازم القراءة واشتغل بها ونظر في الأدب فنبغ في الشعر وكان من جملة كتاب علي بن خلاص صاحب سبتة إلى أن عين ابن خلاص ولده رسولا إلى المنتصر ملك تونس، ووجه ابن سهل معه فركبا في البحر في غراب، وسار إلى أن هال البحر فغرقا معاهما، وكل من كان ركب معهما ولم يخرج منهم أحد، ولما بلغت المستنصر وفاة ابن سهل في البحر

ص: 121

قال عاد الدر إلى وطنه، وأنشدني لأبي إسحاق بن سهل المذكور:

تركت هوى موسى لحب محمد

ولولا هدى الرحمن ما كنت اهتدي

وما عن قلى مني تركت وإنما

شريعة موسى عطلت بمحمد

قد خرجت جميع ما أنشدني لنفسه ولغيره من القصائد والمقطعات جزءا كبيرا، وممن لازمت تعليمه ولزمت تعظيمه الشيخ الفقيه الإمام أبو عبد الله محمد بم هارون أبقى الله بركته، إمام في الفقه وأصوله. . . وعلم الكلام وفصوله، متوصل بالجد والجد إلى حصله، فهو علم من أعلام المعارف ومعلم لأعلام الحلل الدينية والمطارف، نبغ بما وعى من العلم الأصيلي المعرق، وشفع ما استفاده من علماء بلدة تونس بما استفاده من علماء المشرق، وأظفرته رحلته بالمبرزين العلماء والمدرسين القدماء وآب من رحلته وقد قضى عنه فرضه، واشتاقت إليه أرضه، وكمل فضله، واشتمل على الكمال الإنساني نقله وعقله، فانبسط في العلم بنباهته وانقبض عن العالم بنزاهته، لزم مطالعة حدائق دواوينه، وحدق إلى متونها عيون حذقه وفهمه ودينه، فنفع الله بعلمه بشرا كثيرا، وأودع له في قلوب عباده من القبول حظا كبيرا، ولولا ما رزق من الزهد والقناعة لأعلق به قضاء الجماعة، فنيطت به أحسن تلك المدارس، وغبطت منه بالفوارس وأي الفوارس، فقام العباد بحقه، وصد قافيه الخبر النبوي، فلم يتماروا في صدقه، وعلموا أنه هو السابق في هذا المضمار الذي لا يترشح أحد لسبقه، فازدحم لإفادته أفواج الناس، اقتبسوا علمه، وهو النور الذي لا ينقص بكثرة الاقتباس حتى أقرت له السادات بالتسديد وأحيا الله به سنة الاجتهاد حين وقف غيره على سنن التقليد، فبرز في ميدان تدريسه بما برز، وأحرز من خصل السبق ما أحرز من جلالة القدر، وسعة الصدر، وحسن الخلق واعتدال الخلق، سهولة العبارة وصناعة صياغة الكلام للبداوة والحضارة، وقمع الباحث الملد، ومزج أليفاظ الهزل بالجد كامتزاج الماء بالنار في الخد، إلى تآليف قد اختص فيها بفصاحة اليراعة واقتنص فيها أوضح طرق البراعة، فاحكم أصولها، وأتقن فصولها، ركب على عواليها المثقفة نصولها، واحسن فيها ترتيب الإيراد والاعتراض، والقصد إلى توفية الأغراض، هذا إلى الاختصار والإيجاز، والمأخذ الذي يكاد ينتسب إلى الإعجاز يستوفي الإبداع في ذلك كله ببديهية ملاحظة للغايات البعيدة في اللمحة السريعة القريبة فإليها يطمح الأمل، بها الاعتماد وعليها المعول وهي:

أسرى وأسير في الآفاق من قمر

ومن نسيم ومن طيف ومن مثل

ص: 122

وكانت لي بين يديه الكريمتين دول مأثورة له فيها حكم منثورة فأني كنت قارئي تلك الفصول وبارئ تلك النصول، والمعيد لما يبدي، والسبب فيما يهدي من ذلك ويسدي فيسحرني ويسبي الحاضرين حسن إلقاء وملاحة إشارة وإيماء، ونبل تنبيه، ولطف توجيه، وإصابة تنظير، وإجادة تنقير، وقلما ترى العين، أو تسمع الأذن بأصل من الأصول، وأفرع من الفروع، وأبرع في نقد الكلام وسبكه، وأعرف بتبيف ابن الحاجب وفتح مغلقاته وحل مشكلاته منه رضي الله عنه قرأت عليه نفع الله به نحو النصف من كل واحد من تأليفي ابن الحاجب الفروعي والأصولي قراءة تفقه وبحث، وسمعت عليه الكثير من التهذيب وغيره من كتب الفقه والأصول والعربية، وقرأت سمعت عليه كثيرا من تآليفه ومنها شرح مختصر ابن الحاجب الأصولي وشرح مختصره الفروعي، وشرح المعالم الفقيه واختصار المتيطية واختصار التهذيب وشرح التهذيب في مجلدات عديدة، وشرح الحاصل، وغير ذلك وسوغني الرواية في جميعها بالمناولة والأذن وأجازني جميع ما يحمله ويرويه وكتب لي الإجازة بخطة ومولده سنة ثمانين وستمائة ثم نضيف إليه ونعطف عليه من تبركت بالمثول بين يديه الشيخ الفقيه العدل أبا زكرياء يحيى بن الشيخ الفقيه العدل المرحوم أبي إسحاق إبراهيم ابن الشيخ الفقيه القاضي المرحوم أبي زكرياء يحيى بن يوسف بن إدريس الحسني الشهير بالسلوي أبقى الله بركتهم بمنه، شرف يا له من شرف، وسلف كريم خلف، وبيت أصيل شمخ، في حرز منيع، وعز مكتنف فطال بالعلياء شغفه وزاحم منكب الجوزاء شرفه. وشرف بقومه وزاد على أمسه في الفضائل يومه، نشأة صالحة وركب إلى التقوى طريقا واضحا فاهتدى بسنن مبين واقتدى بسند متين وجمع له بين حسب وعلم ودين، هذا إلى أكرم النجار وعتق المنمى، وطيب الأرومة وشرف الخيم، وطهارة البيت وزكاء العقب، فما جملة الأعلام وحملة الأسياف والأقلام، إلا دون محطة العالي، وبمنزلته السامية، فهو بحر حصاه الدر النفيس وروض يجني منه أطاييب الثمر الجليس قدر برز من التوفيق في أحسن حلية وبرز في التوثيق وكان عنه في غنية، إلى وقار لا تحل حباه، وصون لا يتسنم الدنس رباه وسؤدد على رغم من أباه. أشبه فما ظلم ومن سعادة المرء أن يشبه أباه:

أشبا أباه فصار في أعراقه

متوغلا وجرى إلى مضماره

فوفاؤه كوفائه وحياؤه

كحيائه ووقاره كوقاره

رحل إلى المشرق عام ثامنية وثمانين وستمائة فحج وزار، وحط الذنوب والأوزار، ولقى المشائخ فروى عن جلة، وعاد في كثرة من الفوائد وغيره في قلة، حضر تدريس الشيخ الإمام قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد وأجازه ولقى الشيخ الإمام الكبير قطب الدين القسطلاني وغيرهما من الأئمة الكبار وحاملي الآثار، ثم آب عن يسيرة من السنين، ورأى قرة العين في النفس والمال والبنين، قرأت عليه بمنزله المبارك من حضرة تونس المحروسة جميع كتاب موطأ الإمام ابن أنس رضي الله عنه، فكمل لي قرأت عليه بلفظي في أوائل شهر ربيع الأول المبارك من عام أربعين وسبعمائة وحدثني به عن والده وعن الشيخ الإمام المحدث أبي جعفر أحمد يوسف الفهري الشهير باللبلي قراءة منه عليه بجمعيه وإجازة من والده بسندهما فيه وجميع برنامج الإمام أبي جعفر اللبلي موجود بيدي مصحح بخط يده رحمة الله عليه وقرأت عليه أيضا بمنزله المذكور، جميع تخميس القصيدة النبوية الشرقراطسية الشهيرة لمخمسها الإمام القاضي أبي عمرو عثمان بن عتيق بن عثمان القيسي مع القصيدة المذكورة، ولم يأت أحد لها بمثل فيما علمت، وحدثني به قراءة عليه عن والده المذكور، ومن خطه البارع نقلته حدثه به عن مخمسها أبي عمرو عثمان بن عتيق المذكور قراءة عليه وقرأت وسمعت عليه غير ذلك وأجازني وكتب لي بخطه، ومولده أواسط عام خمس وستمائة) ثم (نردفه برفيقه ومحل أخيه وشقيقه الشيخ الفقيه الخطيب أبي محمد عبد الله بن الشيخ الفقيه الجليل أبي عبد الله محمد بن الشيخ الفقيه القاضي العالم المصنف أبي القاسم بن علي بن البر التنوخي هذه بيتة غذيب بالعلم والأدب، وبنيت على المجد والحسب ورقيت في أعلى الخطط وأسمى الرتب، فإليهم ينتهي في حسن النقائب، وبفواضلهم تنطق ألسنة الحقائب:

قطفوا ثمار المجد من غرس العلا

بأكفهم فلنعم غرس الغارس

فهم لباب المجد عزة أنفس

وذكاء الباب وطيب مغارس

ص: 123

ما منهم إلا عالم أوحد، لا ينعت ولا يحد، ولهم بالدولة الحفيصة سبق ذكر وحق لا ينكر، والقاضي أبو القاسم جدهم، به سفر مجدهم، وهو الذي عمر ربع الملك وأمر بالحياة والهلك، ودبج القرطاس وفوف، ودون العلم وصنف، وشيخنا الخطيب أبو محمد هذا بديع الإحسان بليغ القلم واللسان، وقد أتاه الله مقاليد هذا الشأن وملك بنان فضله أعنة المعاني، وأزمة البيان، وأقام من اليراعة على منابر أنامله إظهارا لمعجز البلاغة خطيبا مشقوق اللسان، فهو ذو الفضل والكرم، والسيف والقلم والعلم الذي يخفق لنشره العلم، وتحلى المسامع بما تمنحه من لآلئ كلمه، وتنقل إلى رياض الآمال الظامية ما شهدته من دوام ديمه فلا برحت مكارم الأخلاق وأخلاق المكارم، تشام من برق شيمه وأحرار المحامد ومحامد الأحرار تعد إمائه وخدمه، بمن الله تعالى وفضله وكرمه، لقيته بمنزله المبارك من حضرة تونس فقرأت وسمعت عليه به وبالجامع الأعظم المشهور بجامع الزيتونة تصانيف وأجزاء، فإنه لما خيرته المحاسن في أنفسها، فاختص بأنفعها وأنفسها، وحكمته السيادة في معالمها، فحكم من الأوامر والأمور أعاليها، كان مما أقام به من الدين متونه إقامة الفرائض المكتوبة إماماً بجامع الزيتونة إلى غير ذلك من الخطابة بالحضرة العلية، والمراتب السامية السنية، فكنت كثيرا ما أقرأ عليه بالدويرة التي يخرج منها الخطيب وهي بأزاء المحراب، من جهة اليسار، ومما قرأت عليه بها بلفظي جميع ثلاثيات الإمام أبي عبد الله البخاري رضي الله عنه، وحدثني بها بسنده في برنامج روايتي وجميع المجالس الخمسة التي أملاها الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد ابن أحمد السلفي الأصبهاني.

وحدثني بها عن جده أبي القاسم المذكور إجازة قال قرأت جميعها على الشيخ الإمام المحدث الزاهد أبي الفضل جعفر بن أبي الحسن الهمداني بمسجده بالإسكندرية، وحدثني بها سماعا عن الحافظ ممليها أبي الطاهر السلفي المذكور وقرأت عليه جملة من برنامجه الذي جمع فيه أشياخه وأسانيده، وتناولته من يده المباركة، وأجازني جميع ما يحمله ويرويه إجازة تامة مطلقة عامة وكتب لي بخطه حدثني رضي الله عنه قال: حدثني جدي أبو القاسم المذكور، قال أنشدني بالقدس الشريف عند محراب سيدنا زكرياء النبي عليه السلام الشيخ الصالح أبو علي حسن ابن أحمد الأوقي قال أنشدنا الفقيه الإمام العالم أبو الجيوش عساكر بن علي بن نصر المقري، قال: أنشدني الشيخ أبو الحسين عبد الكريم) التككي (قال: أنشدني الصقلي بالإسكندرية من شعره لنفسه:

مزرفي الصدغ يسطو لحظه عبثا

بالخلق جذلان أن يشكو الهوى ضحكا

لا تعبثن بورد فوق وجنته

فإنما نصبته عينه شركا

وحدثني أيضا قال وحدثني جدي المذكور عنه عن الحافظ أبي طاهر السلفي أنشدهم محمد بن علي السجلماسي المجاور بمكة شرفها الله تعالى بدار العجلة قال: أنشدني إبراهيم النحوي بسجلماسة لنفسه:

زعموا أن من تباعد يسلو

ولقد زادني التباعد وجدا

أن وجدي بكم وإن طال عهدي

وجد يعقوب حين أصبح فردا

وحدثني قال وحدثني جدي الشيخ المقري الصوفي الواعظ أبي عبد الله بن الجنان قال كنت مع جماعة من أهل التصوف بأصبهان في رباط هنالك، واجتمع أصحابنا ليلة في سماع فلما كان في أثناء ذلك بعد مضي جزء من الليل والوقت قد طاب إذ ضرب الباب ضارب فخرج إليه من سكع ذلك فوجد شيخا طويل لقامة، عظيم الهامة على رأسه كرزية وعليه فرجية وبيده إبريق وعكازة، فقال ما هذا قلنا سماع اجتمع فيه الأصحاب فقال ندخل فدخل فوجد القائل يقول:

خليلي لا والله ما القلب سالم

وإن ظهرت مني شمائل صاح

وإلا فما بالي ولم أشهد الوغى

أبيت كأني مثخن بجراح

فرمى للمنشد ما كان على رأسه ثم قال له قل فقال:

يا بانة الجزع لولا رنة الحادي

لما تنقلت من واد إلى وادي

ولا سألت بنعمان الأراك ولا

شربت ماء به يا نهلة الصادي

وقال: كرر على حديثهم يا حادي

فحديثهم يطفي لهيب فؤادي

كرر على حديثهم فلربما

لأن الحديد لضربة الحداد

فنزع فرجيته وبقي الشيخ عريانا وقال قل فقال:

غرام ووجد واشتياق ولوعة

وما ذاق إنسان من الحب ما ذقت

ص: 124

نحلت فلو علقت في جفن ذرة

لطارت ولم شعر بأني علقت

ولو نمت في جفن الذباب معرضا

من السقم لم تشعر بأني قد نمت

ولو نفس من أنفها قد أصابني

من الشوق أو من حر أنفاسها ذبت

قال الشيخ أبو عبد الله بن الجنان فصاح الشيخ صيحة عظيمة وشهق شهقة قوية وخرجت روحه رحمة الله عليه، ولما أصبح الصباح وطلع النهار غسلناه وجهرناه إلى حفرت، وتركناه في عظيم رتبته، وحدثني قال وحدثني جدي عن الشيخ أبي الفضل الهمداني عن الشيخ الشريف القاضي أبي محمد العثماني قال أنشدني الشيخ أبو بكر المبارك ابن كامل بمكة حرسها الله تعالى قال أنشدني أحمد بن عبد السلام لمدني قال أنشدني أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري قال: أنشدنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي:

قف بالديار فهذه آثارهم

تبكي الأحبة حسرة وتشوقا

كم ذا وقفت بها أسائل مخبرا

عن أهلها أو صادقا أو مشفقا

فأجابني داعي الهوى في رسمها

فارقت من تهوى فعز الملتقى

وليكن خاتم علماء الحضرة الإفريقية وآخر المشائخ في الحلبة المشرقية من ختمت بجده حلبة الرسالة والنبوءة، وظهرت عليه بركة السلالة الطاهرة والنبوة، الشيخ الفقيه الراوية أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن إبراهيم بن يحيى ابن موسى بن هاشم بن مجير بن أبي فليتة بن جواد بن محمد بن إدريس الأصغر بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب طاهر، ونسب ظاهر ووجه زاهر وفضل كامل باهر، فهو في الأرومة السنية، والدوحة الحسنية، ولدته الرسالة فيا شرف هذه الولادة وشهدت لجده أكبر السبطين بالسيادة وناهيك من منصب هذه الشهادة فلله دره من راضع در متواضع من شرف الأبوة أيسامي بشرف أو يداني بمفخر، من له هذا الشرف الأطهر، أو يفاخر في محضر، من ينتمي إلى السبط الأكبر بخ بخ، هذا المجد الأظهر، والسؤدد الأتلد النور. . .

نسب كأن عليه من شمس الضحى

نورا ومن فلق الصباح عمودا

كل خطة، عند ذا الشرف محطة، وكل مرتبة، مع هذا الحسب مثلبة، هذا إلى ما له من البشر الرائق المحيا، والنشر العاطر الريا، والذات الفاضلة التي متعت بالدين والدنيا، وقد زين الله له حسن الوجه والأخلاق، وطيب المحتد والأعراق، بكرم عظيم، وفضل عميم وقلب شفيق رحيم، فلا يزال في مواساة وتفضل وإيثار وتطول، وترق إلى المكرمات وتوصل، مهر في القراءات، وتبحر في الإسناد والروايات وأبدى في ذلك الأعاجيب، بل العجائب والآيات، فأخذ عن خلائق لا يحصرهم عدد وانفرد بما لم ينفرد به في ذلك القطر أحد، أفضل الفضلاء خلقا وأسمحهم نفسا، وأحسنهم للإخوان مشاركة وأعظمهم للضعفاء مواساة وأكثرهم على عباد الله شفقة:

مناقب شمخت في كل مكرمة

كأنما هي في أنف العلى شمم

ص: 125

لقيته بحضرة تونس قبل توجهي إلى الحجاز الشريف، وبعد قفولي منه فقرأت عليه أولا القرآن العظيم، ختمة كاملة بقراءة الإمام أبي عبد الرحمن نافع المدني جمعا بين روايتي ورش وقالون عنه وكتب لي بذلك بخط يده إجازة مؤرخة بتاريخ الخامس عشر لشوال سنة ست وثلاثين وسبعمائة وخط فيها مولده بتونس في شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين ستمائة، وحدثني أنه قرأ بقراءة نافع ختمة كاملة جمعا على الشيخ الفقيه الحاج أبي التقى صالح بن الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد بن سليمان بن وليد الطرطوشي الأصل البلنسي المولد الأنصاري النسب المشتهر بابن شوشن، وأشهد له بذلك على نفسه في أواسط شهر رمضان المعظم سنة ست وثمانين وستمائة، قال: وأنا آخر من أخذ عنه هذه القراءة، ولم يبق ببلد تونس ممن أخذها عنه غيري وحدثني بها عن جماعة من شيوخه أعلاهم طريقا الإمام المقرئ القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن سعادة الشاطبي قراءة عليه بحرف نافع عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن هذيل وأبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد الداني قراءة عليهما، قالا: قرأنا على الإمام أبي داود سليمان بن نجاح عن أبي عمرو الداني بسنده، وقرأ أيضا شيخي هذا بالقراءات السبع على غيره، وقرأت عليه أيضا جميع كتاب التيسير للحافظ أبي عمرو الداني رحمه الله تعالى. وحدثني عن قاضي القضاة أبي العباس أحمد بن محمد الغماز قراءة منه عليه بجميعه حدثه به عن الفقيه الراوية أبي الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن سلمون البلنسي سماعا عليه عن أبي الحسين بن هذيل وعن أبي داود سليمان بن نجاح عن مؤلفه أبي عمرو الداني سماعا متصلا، وحدثني به أيضا عن الأستاذ المقرئ أبي العباس البطراني قراءة منه عليه بسنده فيه، وقرأت عليه ثانيا جميع كتاب موطأ الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وحدثني به قراءة وسماعا عن جماعة أعلاهم طريقا الشيخ الراوية المسن أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي قرأ عليه بلفظه جميعه وسمع كثيرا منه عليه وقد تقدم سنده فيه، وقرأ جميعه أيضا على أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم بن احمد بن عقاب الجذامي، وحدثه به عن القاضي بي الحسن علي بن عبد الله بن قطرال الأنصاري قراءة لبعضه وسماعا لسائره عن أبي محمد عبد الحق بن عبد الملك بن بونة العبدري قراءة عليه قال: سمعته على أبي عمر أبي بحر سفيان بن العاص الأسدي قال سمعته على أبي عمر بن عبد البر قال سمعته من أبي عثمان سعيد ابن نصر عن قاسم بن أصبغ عن محمد ابن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك قال أبو الحسن بن قطرال: وأحمله عن الحافظ أبي عبد الله محمد ابن سعيد بن زرقون الأنصاري سماعا عليه لأبواب منه وإجازة لسائره عن أبي عبد الله أحمد بن محمد الخولاني إجازة عن أبي عمرو عثمان ابن احمد بن محمد بن يوسف اللخمي القيجطلي سماعا عليه عن أبي عيسى يحيى ابن عبد الله بن يحيى عن عم أبيه أبي مروان عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى عن مالك، قال أبو الحسن بن قطرال في برنامجه وهذا السند أعلى الأسانيد المعروفة بالأندلس، وقرأت عليه أيضا جميع كتاب الشهاب للقاضي رحمه الله تعالى، وحدثني به عن قاضي القضاة أبي العباس ابن الغماز قراءة عليه ثم سماعا عليه أيضا حدثه به عن الخطيب أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد لله بن خيرة البلنسي سماعا عليه عن أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم عبد الرحمن بن الحضرمي سماعا عليه عن أبي عبد الله محمد بن أبي العباس الرازي سماعا عليه عن مؤلفه سماعا عليه، وقرأت أيضا على غيره وقرأت عليه جميع القصيدة اللامية الشاطبية في القراءات السبع، وهي المسماة بحرز الأماني وحدثني أنه عرضها من حفظه في مجلس واحد على الأستاذ أبي العباس البطريني بعدما سمع جميعها عليه، وحدثه بها عن جماعة من شيوخه، وقد استوفيت ذكرهم في برنامج روايتي، وحدثني أنه عرضها أيضا على الإمام أبي جعفر اللبلي في مجلس قال سمعتها بمصر المحروسة على الشيخ الإمام كمال الدين أبي الحسن بن علي بن شجاع العباسي، قال سمعتها وقرأتها على ناظمها، وقد كمل لي عليه ما بين قراءة وسماع في المرة الأولى وفي الثانية من الكتب والأجزاء نحو السبعين تأليفا انتقيتها من مسموعاته واخترتها من عوالي مروياته ولخصت أسانيدها في برنامجه ومسنداته إلى غير ذلك من غرر الفوائد ودرر الأناشد، ومما انتخبت

ص: 126

هنا منها ما أنشدنيه بمنزله من الحضرة التونسية قال: أنشدني الشيخ الفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن مسعود العبدري الحاحي لنفسه وذلك في رجب الفرد سنة تسعين وستمائة معارضا لأبيات القاضي أبي الفضل عياض التي في كتاب الشفاء له:

يا ساكني دار الحبيب عليكم

منى سلام طيب النفحات

يهنيكم قرب الأحبة فارحموا

صبابكم قد صد بالنزلات

كم ذا أعلل بالوصول إليكم

قلبا شجيا مضرم الجنبات

قد نلتم قرب الحبيب فانتم

أبدا لذلك طيبو الأوقات

أن كنتم أهل اليسار فأنني

أرجو نماء بضاعتي المزجاة

حسبي فخارا أن مصباح الهوى

من قلبي المفئود في مشكاة

فلأنثرن على ثرى أثاره

من عقد جفني لؤلؤ العبرات

حتى أروي القلب من ظمأ به

قاسيته في البعد طول حياني

أعفر الخد المصون بتربة

تزري بعرف المسك في النشقات

بدر الدجا بحر الندا فخر الورى

وملاذهم في عرصة الحسرات

مالي سواه من المخاوف ملجأ

أرجو خلاصي عنده ونجاة

صلى الالاه وخلقه طرا على

من فاح منه معطر الروضات

يندي وينفح بالعبير نسيمه

ما شق نجم حالك الظلمات

وأنشدني أيضا قال: أنشدني الشيخ الفقيه الفاضل أبو القاسم خلف بن عبد العزيز بن خلف الغافقي القتبوري قال: أنشدني نجم الدين بم مهذب الدين:

دمعي المنهل بعدكم من عيني

ما فيه لأجل بعدكم من عين

ما أغزره كأنه من عيني

بالعين أصبت يا لها من عين

وأنشدني أيضا قال: أنشدني الشيخ أبو القاسم المذكور:

من بلل شعر قاتلي من سلسل

من أودع ريقه رحيقا سلسل

من غللني من سلسل

يا عادل أن جهلت ما بي سل سل

وأنشدني أيضا:

الورد من وجنتيك زاه زاهر

والسحر من مقلتيك واق وافر

وللعاشق في هواك ساه ساهر

يرجو ويخاف وهو شاك شاكر

ثم توفي الإمام الرئيس أديب الجماعة وجامع الآداب وكاتب العلماء وعالم الكتاب. أبو عبد الله ابن عمر المذكور قتل رحمه الله تعالى في غرة المحرم مفتتح عام أربعين وسبعمائة أثر وصولي واستقلالي في تلك الحضرة وحصولي، فتعطل بعد ذلك الديوان.

وأرجف بأن ليس له غير فلان، فاستبعدت الأمر لما بيننا من بعد البون، والإرجاف مقدمة الكون، فما راعاني إلا رسل أمير المؤمنين إلي وإقبال الدولة الحفصية مع إعراضي علي، وولايتي خطة الإنشاء ومثول الكتاب بين يدي، فهناك كم صارفة صرفت، وعاربة عربت وعقيلة عقلت، وكلمة رمقت فومقت ومقلت فنقلت وكم مطايا ركبت وعطايا سكبت. وكسا كسيت وكبت، فيا لك من أيام غرر جلت غسقا. وتوالت نسقا كم بثت من ذكر عطر، وأخلصت من ثناء ثمين وأحيت من أمل دفين، وما برحت أتفيأ ظلال الخلافة العلية، التي أقامها الله تعالى ميزانا للحق، وظلا على الخلق، فالتأم بها الصدع. واجتمع الأمان، وأمن الجمع، وكفت نوب الزمان، وحسمت بحدها وجدها أدواء البغي والعدوان، واعتز بها الإسلام. وافتر بها الدهر عن ثغر بسام. وانعقد على فضلها الإجماع. واستقرت بيدها قناة الدين يحملها الأمر المطاع، خلافة مولانا أمير المؤمنين وناصر الدنيا والدين الهمام المرتضى، والحسام المنتضى. حسنة الأيام، وقرة عين المسلمين والإسلام. غمام الندى الهاطل. وحمام العداء العاجل. ناظم شمل الفريق والفارج لباب الأزمة والضيق. جامع أشتات المعالي. ومحرز شروط الكمال، فلم يك يصلح الإله الأمر العالي السلطان الملك المؤيد. المنصور المظفر الأمجد الأسعد الأوحد العالم العادل، الفاضل الكامل. أبو يحيى أبو بكر بن أمير المؤمنين أبي زكريا بن أمير المؤمنين أبي إسحاق بن أمير المؤمنين أبي زكريا ابن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص:

هلال لياليها وإنسان عينها

وبدر دياجيها وشمس ضحاها

مؤيدها منصورها وجوادها

وجامع شملي مجدها وعلاها

ص: 127

أدام الله بهجة الدنيا ببهجة سلطانه ووالي تمهيد ربوعه وتشييد أوطانه وضاعف التأييد، والسعد الجديد في أمره وشأنه، وشكر عن الإسلام وأهله عميم طوله وامتنانه. ولا زالت حوزة السمحة البيضاء مكنوفة برايته الحمراء وكتيبته الخضراء. ما نفح إحسانه بالصفراء، ودمث عدله جوانب الغبراء:

هذا دعاء تسبق الدنيا إذا

سمعته مسرعة إلى التأمين

فإنه من كل أنور من الشمس ضياء، وأكمل من البدر بهاء، وأندى من الغيث كفا. وأحمى من الليث أنفا، وأسخى من البحر بنانا. وأمضى من النصل لسانا. وأوسع من الدهر صدرا وأرفع من النجم قدرا، يقر الملك ويذل الشرك، ويرفع علم الحق ويبسط العدل بين الخلق فهم يحتلون منه بدر الحلك، وقطب الفلك، ويشاهدون من جلاله، وباهر كماله الطلعة الأنسية في صورة الملك، وقد احتوى القصر المبارك منه على أسد ورد أو ملك جعد، مخلف أيعاد ومنجز وعد:

ذو عزمة كالتماع البرق واقدة

تجيء من نصره بالعارض الهطل

لولا السعود التي نيطت بهمته

لكنت أنسبها بعدا إلى زحل

ص: 128

فانتهى من إشاعة الفضل، وبسط العدل، وبذل الصفح إلى الحد الذي فات الكمال دفعة واستوفى الخصال جملة، حتى كان ملك الدولة في إسعاد مدتها واحتشاد مواد النعم عندها، وارتفاع حوادث الغير عنها، نذر للدهر قضاه أو أسبوع لعرسه وفاه، إشراق أيام وليال، في قضاء أوطار وآمال، في كنف ملك مقتبل السعد ميمون الطائر، غافل عن الأيام، مظاهر للأنعام، مسرور بما تنافس فيه رعيته، من زخرف دنياها، مقتصر لها من ذلك كله ما جانبها وعطاها آخذ عفوها، قابل يسرها، فلا أمير بعد أبي يحيى ولا خليفة بعد أبي بكر تبنكا في المجد، وانغماسا في النعم، اجتمع الناس على حبه، ولم يدهنوا في طاعته فصفا عيشه، واستراح قلبه، وكان من فرط الشجاعة في غاية بعيدة أحد العجائب ذكاء لب، وصرامة قلب، وتقدما إلى حرب عظيم الأناة، رفيع الهمة، على أخلاق حميدة، ومكارم جميلة، ذكيا يقظا، أديبا لبيبا. حسن الكلام، جيد القريحة، مليح البلاغة، يتصرف فيما يشاء من الخطابة، بديهة وروية ويصوغ قطعا من الشعر مستجادة وقصائد طويلة، في فنون كثيرة، لم يقصر فيها عن الغاية فطمحت إليه النفوس، وتعلقت به القلوب، ونزحت نحوه الهمم قصده الخلق من المغرب ولمشرق، لسعه إحسانه، وعظيم تطوله، ووفور عطائه لمن نئا عنه وقرب منه، فهو في وقته نسيج وحده به ختمت فضلاء أهل بيته فلم يعهد فيهم مثله، ولقد أنشدته رضي الله عنه قصيدة لامية بعد أخرى زائية، كلتاهما من نظمي في مدحه، فلما فرغت منهما قبلت يده وانصرفت إلى منزلي فما وصلت حتى وصل من نعمه، أرضاه الله، من الملابس الحسان والمواهب والإحسان، ما أوجب الشكر بكل لسان، وأغناني مدة عن شكوى الزمان وكذلك أنشدته رضي الله عنه من نظمي أيضا جملة قصائد، في روى واحد على نحو ما كان ألقى إلي واقترح علي، فلما فرغت قال لي: قد أتيت بكل جميل، ونفع فيك ماء زمزم، وماء النيل، ثم أومأ بحاجبه إلى الحاجب، وأمر بإضافة الإحسان، وتنمية الراتب، فقبلت ما أمر به، وقبلت الأرض بين يديه، وقمت أشكر نعمه، وأقمت أنشر الثناء عليه، وما برح قلمي يجول في إقليمه وكلمي يجود بدره بين محاورته وتكليمه، وأنا أريش وأبري، وأقيم وأقعد بنهيي وأمري وأدير المملكة بهزازي نظمي ونثري، حتى عبق الشكر، وطبق الذكر، وكمل لي تصنيف لذة السمع والفكر، فيما أنشأته عن أمير المؤمنين أبي بكر، وهو أدام الله أيامه، وشكر في الخافقين ألويته وأعلامه يعتمد على قلمي ويعتضد بكلمي وينجد كتيبته بكتابتي، ويسعد رعيته برعايتي، ويعد غرائبي من رغائبه، ومناقبي من مناقبه، حتى طمى الإيغال، في الاشتغال، وآل الإكرام إلى الإبرام وعاد الجنى إلى العنى، فرمقت الدنيا بالعين الزاهدة، وآثرت القفول إلى الوالدة، وسئمت من النوى والشتات وأزعجني الجنة تحت أقدام الأمهات. وهمت بالوطن، هيام ابن طالب بالحوض والعطن وحننت إلى تلك البقاع حنينه إلى أثلاث القاع وكلما أخذت في الإزماع صرفت عن تلك الأطماع، حتى فجئت بالوداع. وعزمت عزما إذن للدموع بالانسكاب وللقلوب بالانصداع وقد تهجر نفائس الأعلاق، وتبلى المليحة بالطلاق وحين علم مني أيده الله خلوص النية وتداركي هذا الفرض المتعين قبل اخترام المنية، سلم لي في الوفاء بهذا النذر، ولم يكن ليقبل مني غير ذلك العذر، فأكببت على تقبيل يده متودعا، وأنشدته متفجعا لفراقه متوجعا:

وداع كما ودعت فصل ربيعي

يفض ضلوعي أو يفيض دموعي

لئن قيل في بعض يفارق بعضه

فإني قد فارقت منك جميعي

فأوسعت ملء عيابي حباء وأصبحت مركوبا وجنيبة وخباء، وأمطيت صهوة طرف من عتاق الخيل. رائع رائق، قيد الأوابد، مما أنجب الوجيه ولاحق، أشهب كالصباح يسابق الطرف، ويباري الرياح. ويمرح ما بين اختيال وارتياح. وارتجاج وارتباح:

يستوقف اللحظات في خطوات

بكمال خلقه ورقة حسنه

ذو نخوة شمخت به عن نده

وشهامة طمحت به عن قرنه

وجعلت أخب وأخذ ولا ألوي على من أجد، وكلما لاح بارق، ارتحت إليه، أو در شارق سلمت من البعد عليه، ذا بدت النجوم توهمت هممه، وإن هطلت الغيوم تذكرت نعمه، لا أسمع الغريبة، إلا قلت من كلماته، ولا أرى العجيبة إلا قلت من فعلاته، أحل الرياض فأحسبها شمائله، وأرد البحار فأظنها نوافله:

ص: 129

وما شبهوا بالبحر كفيه في الندى

ولكنها إحدى أنامله العشر

يدان إذا أومى بها اشتاق صارم

وحن بسنان وانبرى مأرب يجري

أمنت بها من كل شر أخافه

من الدهر حتى نمت في مقلة الدهر

خرجت من تونس المحروسة عند طلوع الشمس يوم الخميس السادس عشر لشهر رمضان عن عام أربعين المذكور، ودخلت مدينة) باجة (المحروسة في عشى يوم الجمعة السابع عشر من الشهر المعظم المذكور، وخرجت منها في صبيحة الأحد التاسع عشر من الشهر المذكور ودخلت مدينة) العناب (في ضحوة يوم الخميس الثالث والعشين منه، وخرجت منه في يوم الجمعة الرابع والعشرين ودخلت) قسطنطينية (في عشى يوم الأحد السادس والعشرين من رمضان المعظم المذكور، فنزلت بمنزل صاحبنا الفقيه الجليل الكاتب البارع الناظم الناثر الماجد الأكمل أبي إسحاق إبراهيم بن الوزير الكبير الحسيب الأصيل أبي محمد عبد الله بن الحاج النميري لغرناطي، ذو المعالي العلية، والفنون العلمية، والحكم الأدبية والآداب الحكمية والكرم المفضل والفضائل الكريمة والبلاغة التي لها على البلغاء مزية المزيد، ومزيد المزية، مع الحسب الأصيل. والكفاية في طلب العلم والتحصيل والمعارف التي بها جيد الزمان حال على الجملة والتفصيل شهادة قبل أداؤها من كل نفر، ويثبتها قول الفاروق رضي الله عنه الذي زكى عنده رجلين، أكنت معهما في سفر، فهو صديقي المحق، ورفيقي المرفق، ومعاشري ذاهبا وآئبا في بلاد المشرق، فتهادينا تحية الأصدقاء وتنادمنا بحديث ذلك السفر وأولئك الرفقاء ولا تسأل عن حسن هذا الاجتماع وأنس هذا اللقاء:

حديث تخال الروح عند سماعه

لما هز من أعطافه تتقصف

ونما الخبر إلى حفيد مولانا السلطان الأجل الأسنى الأسمى الأكمل، أبي زيد عبد الرحمن بن السلطان الأجل الهمام الأوحد المرحوم أبي عبد الله محمد بن مولانا أمير المؤمنين ابن يحيى أبي بكر أيد الله سلطانهم ومهد أوطانهم وهذا الصاحب الفاضل هو كاتبه الذي تحلى بكتابته ملكه، وانتظم بدرر نظمه ونثره سكه وملكه أبوه رحمه الله المماليك والأملاك، فحصل له ملكه فرأى أيده الله أن ينوه بجانبي وأن لا يترك حظه من إكرامي لصاحبي وأمر بتجهيز منزل حافل وانتقالي إليه. وإجراء كل ما احتاجه ويحتوي المنزل عليه، وأقمت أتطرق عوارف أياديه وأحل كل بوم بناديه، وصاحبي يعرفني بما يجتنيه. من أنعامه ويجتبيه، ويطرفني بغرائبه وغرائب أبيه ومنها ما أنشدنيه قال أنشدني لنفسه السلطان، الأجل الفاضل الكامل، ولي عهد أمير المؤمنين قرة عين أبيه وأعين المسلمين أبو عبد الله محمد بن مولانا أمير المؤمنين أبي يحيى أبي بكر رضي عنهم أجمعين:

نكون ملوك الأرض ذاتا ومنصبا

وأرثا عن الفاروق وهو عظيم

وتملكنا هيفاء خود غزالة

مريضة طرف أن ذا لعظيم

ص: 130

وما أنسى لا أنسى خروج هذا النجل السعيد، إلى المصلى صبيحة ذلك العيد الذي كان وجهه في عيد، في مركب نبيل من وجوه عبيد، متنافس في فخورة الملابس محففين من أداة الفوارس، يحفونه حف النجوم بالقمر الأضحيان، وقد ركب بين يديه صنوف من العبيد، وألوف من أبطال الجنود، تضيق بهم الفجاج، وتزخر في بحر الحديد منهم الأمواج، وقد أشرق ذلك اليوم بإشراق غرته، وتبلج صباحه من تبلج أسرته، ولاح الصبحان فكان الفضل لنور جبينه، وغسق طرته، فبهر كماله وتجملت حاله، ورزق من أعين الناس قبولا، واستبانوا منه على علو صيته ذكاء وتهذبا، في شخص حسن الخلق، ساجى الطرف، لين العطف، يقظ الحس، تشهد مخايله بما تحتها من ذكاء وفطنة، تحمل من نتائجها، من لدن صباه، نوادر شاهدة بنهاه، وقد كان الناس انتشروا حفافي طريق السلطان مستبقين إلى لقائه، يسبق راكبهم راجلهم، إلى أن أقبل في كتائبه، معبأة يروق منظرها وهم يستقدمون إلى المركب الذي هو فيه فوجا بعد فوج، ركبانا ورجالاً، وقد وكل طرفه بملاحظتهم، وسمعه بأسماعهم، فقسم بين وجوههم من إمساك عنانه وطلاقة وجهه بل بشره وجميل رده ما ملأهم مسرة، وبجلهم مبرة، ولم يسئموا من مسايرة كوكبه، وتكرير معاينته، وإعلان الدعاء له ونثر الثناء عليه، إلى أن نزل منزله من المصلى، وذلك القطر قد راق محضره، واجتمع باديته وحضره، وأبدع في الجمال مراءه ومنظره، والنهر قد تدفق ماؤه، والزهر قد مدت ملاؤه، والربيع قد بدت كبرياؤه وخيلاؤه، والجميع قد جمعتهم آلاء الله ونعماؤه، وشهدت بصدقهم إلى يومهم أرضه وسماؤه، فقضيت الصلاة والخطبة وحانت الوقفة للبيعة والوثبة، وضربت الطبول فمادت الأرض لرعودها وقفلت الجنود، فرجفت الجبال لحدورها وصعودها، وقيدت الجنائب من كرام خيول القادة، وقالوا جميعا على اليمن والسعادة، وأقبل السلطان وقد اجتلوا من غرته السعيدة البدر في الكمال، وعاينوا من هيبته في حال بنوته ليثا أبا الأشبال:

أرق من الماء الذي في حسامه

طباعا وأمضى من شباه وانجد

له سورة مكتنة في سكينه

كما أكتن في الغمد الجراز المهند

ونهض والعيون إليه رامقة، والقلوب له وامقة، وعذبات الألوية على عذباته خافقة، وكل علم منها بيد علم، ومن أشبه أباه فما ظلم، وصار الركاب لميمون، والنصر يقدمه والأقدار تسعده والسعود تخدمه:

بعسكر تشرق الأرض الفضاء به

كالليل أنجمه القضبان والأسل

لا يمكن الأرض منه أن يحيط به

ما يأخذ السهل من عرضيه والجبل

وكان عيدا سعيدا، مبديا في الجمال والإجمال معيدا، لم نزل نميس في جديد خلعه ونتأنس بحسن منزعه ونتبهنس بين مرتع ذلك القطر ومربعه، وركب السلطان أثر صلاة العصر ثاني يوم عيد الفطر في جيشه اللهام، ذي العدد القمقام، فركبت أنا وصاحبي في موكبه، وركنت إلى جميل مواخاته، وكريم مذهبه، وسرنا وسار الركاب السعيد يحمل جواده الكريم عن المقام الكريم، طود حلم وأسجاح، وليث بسالة وكفاح، وبحر جود وسماح، وبدر دجنة تسربل ثوب صباح، رأيه الرشيد وعزمه المنصور وسيفه السفاح:

كأن الله خيره فسوى

خلائقه الحسان كما اشتهاها

فبرز إلى الميدان على تعبية رائعة رائقه في إعداد تكاثر الحصا فائقة من جرد مسومة، قب مطهمة، قد صففت على مخائل سبقها ورتبت على منازل عتقها من كل أشهب بالمصباح مجلل، وأدهم بالظلام مسربل وأصفر كسى قميص ورس وأشقر خلع عليه رداء شمس وأشعل، مزج ماؤه وأبلق خلط ليله بنهاره:

خيل مسومة غر محجلة

من اللواتي تفوت الوهم والنظرا

كأنما هي في المضمار جائلة

ريح الصبا قابلت من ريحه المطرا

ص: 131

وفرسانها ممسكة بالأعنة وقائمة في سروجها كالأسنة قد اعتقلوا عوالي المران، وتقلدوا من المرهفات كل هندواني، من الهند غيروان، وتنكبوا محنيات القسى أهلة لا تفضى إلى المحاق، ولا تنى رجوم سمائها عن شياطين المراق، بالإحراقن واستلئموا اليب الحسان، والجحف التي سوغها الأنعام والإحسان، ما شئت من تراس تروق عيونا، وتفوق أنواعا وفنونا، ودرق ينفرد الكمى بها كمينا، وتقيه الحتوف حصنا حصينا ويقدم بها على مقارعة الأبطال واقتحام الأهوال فتبدي النصر مكينا، وتدني من عقائل المعاقل الفتح مبينا، وتسربلوا من الزرد المضاعف نسجه سرابيل. وطاروا في ذلك الميدان عقبانا كواسر وطيرا أبابيل:

جباهها فغدت آثارها غررا

مخافة أن تبدده العيون

يسيل على البسيطة منه سيل

عباباه الحوادث والسنون

به خدع المنى ورقي المنايا

وصرف الدهر يخشى أو يلين

وما تدعو الرياح وما تلبي

وما تخفي الصدور أو تبين

وما نمت المهارى أو المهاري

وما احتبت القيول أو الفيون

سماء علا تلوح بها العوالي

نجوما نوءها الحرب الزبون

وقد هبت عتاق الخيل فيها

عواصف لا يتاح له سكون

وجال السلطان المؤيد في ميدان أشب الجوانب منسرب المذانب قد اخترقت الجداول ساحاته، ودبجت الأزاهر مساحاته، وأدواحه تنعطف في أكف الرياح، وتكاد تنقصف من الارتياح. قد نشرت ورقها نشر ذوائب الحسان وزهرت لمتأملها كأنها زهرة نيسان. في أرض تروق، وروض كأنما خلع عليه الشروق:

وكأن نرجسه المضاعف خائض

في الماء لف ثيابه في رأسه

فلم أر مثله ميدانا حوي كل الفخر ما بين روض يانع:

وواد حكى الخنساء لا في شجونها

لكن له عينان تجري على صخر

وجال بين يديه من أنجاد الأمجاد، وحماة الكماة أسود على عقبان، وجنود كأنهم الكثبان قد أخذوا أرجاء الميدان وجوانبه، وملأوا مشارقه ومغاربه، وهم يسمون صحفات صفحات البسيطة بحوافر الخيل ويثيرون قتاما كقطع الليل والأسنة تبدو كأنجم سماء والسيوف تلوح كأنها جداول ماء، والقنا تخطر كأنها بروق خواطف، وجياد يصم منها الصهيل كأنها رعود قواصف، والكتيبة قد كتبت المنايا إليها كتبا تقع عليها وتسقط والبيض تشكلها والأسنة تنقط:

والسيف دامي المضربين كجدول

في ضفتيه شقائق النعمان

فغدا حماها وهو مباح، وأرواح فوارسها تكاد تستباح، والأنابيب تتخلل كأنها الأرماح والظهور توسم، والوجوه قد أثخنتها الجراح، ووجهه الصبيح والشمس قد أومضا إيماضا وأفاض من سناهما أفاضا. وأعلام الدولة قد حفوا بلوائه. وتألقوا في سمائه. كأنهم النجوم إشراقا. والدر انتظاما واتساقا، ولما فنى اليوم أوهم. وكاد وجه النهار أن يدلهم، انعطافا للرجوع في صهوات الجهاد. وانصرفنا نميس طربا كالغصن المياد، وسرنا ويمن الملك الأجل يهدينا. ونوره يسعى بين أيدينا فلا زالت دولة مولانا أمير المؤمنين أيده الله بمثله من أوليائه المستظلين بظل أفيائها، محمية الأقطار مقضية الأوطار، تتوالى عليها الأعياد توالى العهاد على الروض. والوارد على الحوض، ولا زال أمرها المطاع وجدها لصاعد وعزها الأقعس، وراياتها الظاهرة وحزبها الغالب وأيامها السعيدة ولياليها البيض وعبيدها الأحرار وغنائمها الدول، ونوالها السفاح ولواؤها المنصور ومنارها الهادي، ورأيها لرشيد، وغيبها الأمين، وسطوها المأمون جارها المعتصم، ومؤملها الواثق، وخادمها الموفق، وهنا الله مولانا عيدا، وهو عبده وموسما زانته سيماه، وفطرا بكرمه كرمت فطرته، ولقاه الروح والريحان عن قيامه، كما اختصه بأجور من فطر من الصائمين:

آمين آمين لا أرضى بواحدة

حتى أضيف إليها ألف آمينا

ص: 132

وما برحت مع صاحبي الفاضل ألقى من فوائده انتفاعا، وأرى من أخلاقه انطباعا واجد من أكنافه رحبا واتساعا. وأرد من موارد كرمه مناهل أشيم برق الجنى من سحائبها لماعا، وهو وإن كان أمامي الذي به اقتديت فقد روى عنى كما عنه رويت فإنه لم يمهلني سوى ريثما نزلت عن ظهر الجواد، حتى طلبني بما حصلت بعده من الفوائد والأناشيد في تلك البلاد، فأرسلت عليه سيلا عرما من الأنشاد، وهمت معه من الأدب في كل واد، فكان مما أطربه من ذلك وأعجبه ولم يلبث أن قيده ساعته تلك وكتبه من فلق فيه، وبديع قوافيه شيخنا الإمام عز الدين أبو إسحاق بن حباسة المتقدم الذكر لشهاب الدين التلعفري مقدم شعراء الناصر وذلك قوله:

أي دمع من الجفون أسأله

إذ أتته مع النسيم رسالة

حملته الرياح أنفس عطر

أودعتها السحائب الهطالة

مر فيه والزهر زاه فأضحى

ناشرا فوق نوره أذياله

نشر القلب نشره من غرام

بات فيه مكابدا بلباله

عذبته من قلبه عذبات

وفروع على اللوى مياله

يا خليلي وللخليل حقوق

اجبات الأحوال في كل حاله

سل عقيق الحما وقل إذ تراه

خاليا من ظبائه المختالة

أين تلك المراشف العسليا

ت وتلك المعاطف العسالة

وليال قضيتها كلئال

بغزال تغار منه الغزالة

بابلي الألحاظ والرمق والألفا

ظ، كل مدامة سلساله

ونقى الجبين والخد والثغر

فطوبى لمن حسا جريا له

وسقيم الجفون والعهد والخصر

وكل أراه يشكو اعتلاله

وطويل الصدود والشعر والمطل

فمن لي بأن يديم مطاله

ما كساني ثوب السقام دقيق

النسج إلا جفونه الغزالة

وإعذابي بعذب تلك الثنايا

وأغليلي بما حوته الغلالة

من بنى الترك كلما جذب القوس

رأينا في قوسه بدر هالة

يقع السهم حين يرمي فما تدري

يداه أم عينه النبالة

قلت لما استباح دين وصالي

وهو مثر وقادر لا محالة

بيننا الشرع قال سر بي فعندي

من جمالي لكل دعوى دلالة

شهودي من خل خدي قدي

لي شهود معروفة بالعدالة

أنا وكلت مقلتي بدم الخلق

فقالت قبلت هذي الوكالة

وقوله:

تولهي بك شيء عنك غير خفي

فراقب الله في الهجران لي وخف

واعدل عن الظلم واعدل في النفوس ولا

تجر على المستهام المغرم الدنف

يا راميا أسهما من لحظ ناظره

فوق فغير فؤادي ليس من هدف

سبحان معطيك خصرا غير مختص

من العذاب وعطفا غير منعطف

إذا شكوت لترثي لي وترحم ما

ألقاه من وجدي المضني ومن كلف

يردني آيسا من ذاك عارضك اللا

مي والمنثني من قدك الألف

وأنشدته مقطوعات كثيرة فكان مما أعجبه منها قول بعض المشارقة:

بهت العذول وقد رأى ألحاظها

تركية تذر الحليم سفيها

فثنى الملام وقال دونك والأسى

هذي مضائق لست أدخل فيها

وقول بعضهم:

همت في حبها وهامت بهجري

أنصفتنا فكلنا مستهام

وادعت أن في فؤادي هواها

صدقت فيه لوعة وغرام

وقول أبي الحسن علي بن طاهر بن مفوز:

أعرضت حين أبصرت شعرات في

عاري كأنهن الثغام

قلت هذا تبسم الزهر قالت

قد سعى في صدودك الابتسام

ورأيته معجبا بالرباعيات المشهورة بالدوبيتين، وهي التي أولع المشارقة بها. فجلت معه في هذا الميدان مجالا، وقلت وخير الشعر أشرفه رجالا، وكان مما أنشدته منها قول الملك المعز، بن طغدكين أيوب صاحب اليمن:

قم نشربها سلافة كالذهب

من قبل حلول عائق أو سبب

لما برزت ولم تزل في حجب

من خجلتها تبرقعت بالحجب

وقول الشهاب التلعفري المذكور:

قالت: وقد انتضت سيوف اللحظ

والسحر ممازح لذاك اللفظ

ذا حظك ما ألقه قلت لها

لو شئت لما كنت قليل الحظ

وقول الملك الأمجد ابن أيوب صاحب بعلبك:

كم حلفت بكل أم وأب

أن تسمح لي فأعقبت بالكذب

حتى حلفت على التجني فوفت

ما تصدق إلا في يمين الغضب

وقول مظفر الدين صاحب أربل:

ص: 133

لولا خبر يأتي به الطيف إلى

ما كنت وقد بعدت عن حبك حي

لما ظهرت أدلة العشق على

موهت بحاجر وعرضت بمي

وقول الأمير حسام الدين الحاجري الأربلي:

أقسمت بعهدي لكم والذمم

لولا إلمام طيفكم لم أنم

في اليقظة قد حرمت أن تنظركم

عيني فعسى نراكم في الحلم

وقوله:

طيف لكم زائر جميل الوصف

قد صار لكثرة التداني الفي

ما أسعدني وقد تمتعت به

لو صب على نوم أهل الكهف

وقوله:

لما سلك الخيال سبل الغسق

وألفاني يشتكي ظلام الطرق

بالرحب لقيته وفي رجعته

ألقيت عليه جذوة من حدق

وقوله:

يا طيف خياله إذا عدت إليه

أشرح قصصي وقبل الأرض لديه

أعلمه بما جنى به ناظره

والحاجب ما أنكر في ذاك عليه

وقوله:

مذ صد عن عهد وصالي حالا

لم يبرح دمع مقلتي هطالا

أدعو بلساني يفعل الله به

مثلي وحشاشتي تنادي لا لا

وقوله:

لما نظر العذال حالي بهتوا

في الحال وقالوا لوم هذا عنت

لا تحسب إلا أنا نعذله

من يسمع من يعقل من يلتفت

وقوله:

يا من خطراته لقلبي عنت

هل ترجع في العتاب تلك النكت

قد قيل محاسن الظبا لفتتها

يا ظبي فنى العمر متى تلتفت

وقوله:

بالذل رفعت قصة الدمع إليه

والأرض لثمت خاضعا بين يديه

في الحال إلى حاجبه وقع لي

هذا الشاكي يزاد في الجور عليه

وقوله:

يا من تجلى إلى المصلى غلسا

أن جزت بشادن الحماقف نفسا

بالله وعرض بغرامي فعسى

يستعطف قلبه فقد قيل قسا

وقوله:

أحبابي مالي بحياتي نفع

مذ عز شملنا بشت جمع

في الليل إذا أرقني ذكركم

أبكي أسفا جهد المقل الدمع

وقوله:

يا سعد أوامر الهوى لا تحصى

قف نبك فبينهم بهذا أوصا

ناشدتك عج دمعي على ربعكم

نبك بحقوق دارهم لا تحصا

وقوله:

يا خشف مها فدتك نفسي خشفا

يا غصن نقا حرمت منه العطفا

يا من ألف الضنا بجسمي ألفا

لا تسرف بعض ذا التجني يكفي

وقوله:

لما خطرت ريح صبا يبرين

ليلا وتعطرت على النسرين

هاجت حرقى فقال صبحي دوني

ما أشبهه بحالة المجنون

وقوله:

النوم لبعدكم على الطرف حرام

والصب أسير لوعة حلف سقام

كانت بوصالكم تلذ الأيام

غبتم فعلى لذاذة العيش سلام

وقوله:

لما رحلوا وصار رشدي غيا

لم أبصر بعدهم لجسمي فيا

ويلاه بأي حجة ألقاهم

أن بعد فراقهم رأوني حيا

وقول الملك الأشرف ابن أيوب صاحب دمشق في مملوك كان يهواه. وجعله على خزائنه:

أهوى قمرا تحار فيه الصفة

يسخو بدمعي وهو أمين ثقة

ماذا عجب يحفظ مالي ويرى

روحي تلفت به ولا يلتفت

وقول ابن الفارض المكي رضي الله عنه وأرضاه:

أهوى قمرا له المعالي رق

من ضوء جبينه أضاء الشرق

بالله تدري ما يقول البرق

ما بين ثناياه وبيني فرق

وقول سعد لدين بن العربي الدمشقي:

أفدي قمرا لعاشقيه ظهرا

إن واصلني فطالما قد هجرا

النمل على وجنته قد رقمت

لا غرو إذا ما وصلتها الشعراء

وقول العماد الأصبهاني كاتب السلطان صلاح الدين بن أيوب:

الشوق إليكم شديد البرح

والوجد يجل شرحه عن شرح

صبرا فعسى سماؤه أن تصح

لابد لكل ليلة من صبح

وقوله:

هبت سحرا فنبهت وسواسي

نشوى خطرت عليلة الأنفاس

أهدت أرج الرجاء بعد اليأس

ما أحسن بعد وحشتي إيناس

وقوله:

بالله عرفت ما بقلبي صنعوا

خلوه بنار شوقهم ينصدع

ما لم أر شملي بهم يجتمع

ما أحسبني بعيشتي انتفع

وقوله:

ما كنت أظن أننا نفترق

والقلب بنار شوقكم يحترق

بالله صلوا لعلنا نتفق

من باقي العمر ساعة نسترق

وقوله:

ما أصعب فراقكم ما ألقى

أبكي أسفا ودمعي ما ترقا

كم أتعب في هواكم كم أشقى

ما آمل من بعدكم أن أبقا

وقوله:

ص: 134

ما أحوج صبكم إلى بغياه

ما أشوق ميتكم إلى محياه

عودوا جودا وأدركوا لقياه

ما أعطش غرسكم إلى سقياه

وقوله:

الروض نسيمه حليم سفه

والنور على الغصون زاه نزه

والعيش كما تراه صاف رفه

وماذا وقت الكرى ما تنتبه

وقوله:

البلبل قد غرد فوق الفن

واهتز من النشاط عطف الغصن

هذا زمان الربيع والورد جنى

قم فانتهز الفرصة فالعمر فنى

وقوله:

منشورك العذار من أرخه

كافورك بالعنبر من ضمخه

بالمسك على الورد وقد لطخه

خط حسن أريد أن أنسخه

وقوله:

من رصع حل وردك المحمر

ياقوتك بالزمرد المخضر

جدلي برحيق درك المفتر

فالخمرة قد تباح للمضطر

وقول الفخر بن قاضي دارا رضي الله عنه وأرضاه:

مولاي أما ترحم مأسور جفاك

حاشاك بأن تظلم مثلي حاشاك

أن كنت تشك أن قلبي يهواك

هاأنت به فهل نرى فيه سواك

وقول الملك المنصور بن أيوب صاحب حماة:

عيني دمعت مسرة بالجمع

قالوا مهلا ما في البكا من نفع

دع عينك تستغنم منهم نظرا

ماذا زمن تشغلها بالدمع

وقول العماد بن الزاهد بن أيوب صاحب البيرة:

ذي كاظمة والعلم الفرد يلوح

والأجرع والغضا وبان وطلوح

هاتيك منازل بها كان لنا

عيش ومضى فنح أن كنت تنوح

وقول باذكي صاحب البصرة:

زود نظري بنظرة قبل تسير

من وجهك أن عمر ذا اليوم قصير

لا تأمن أن تذوق ما ذقت أنا

أو تصبح في حبائل الحب أسير

وقول الفخر بن بصاقة:

البلبل كم يصيح في الدوح بليت

والدوح يميل قائلا منك زهيت

لا يعلم ذا مقدار ما حل بذا

حبى أبدا ينعم إذا قلت شقيت

وقول ابن نبهان الدمشقي:

من حبك في حشاشتي أوطان

ما مر بها العذل ولا السلوان

تالله لقد حولت في القلب فلو

بالهجر مزجت طاب لي الهجران

وقول الجمال بن مطروح:

لا تستر ما جرى فما يستتر

عندي وحياة ناظريك الخبر

لا بأس عليك فالقنا منبسط

في حبك كل هفوة تغتفر

وقول قمر الدول ابن دواس الفنا:

سكان قبا أفديكم من سكنى

ما أطيب وقع ذكركم في أذني

لم أنس وقد قضيت معكم زمنا

أبغي بدلا يا ليت شعري بمن

وقول الصلاح الاربلي نديم الملك الكامل صاحب الكامل:

لما عرف الدار بكا وانتحبا

واستنجد أدمعا تحاكي السحبا

ما زال مرددا بها وأحرزنا

حتى ذهب المسكن مع من ذهبا

وقوله:

بالله عليك أيها المرتحل

بلغ عني أحبتي ما فعلوا

قل مات فان قالوا متى، قل لهم

من يوم فراقكم أتاه الأجل

وقو أيدر التركي:

بالله أن جزت على نعمان

أنشد قلبا قد ضاع عن جثمان

وأحذر يعطوك غير قلبي غلطا

فالقوم لديهم كل قلب عاني

وقول الضياع بن ملهم المقدسي:

بالله لقد سمعت في الدوح أنين

ورقاء تنادي بنحيب وحنين

الأفلف مجاوري وهذا كلفي

ما حال قرين قد نأي عنه قرين

وقول العماد السلماسي:

يا من هجروا بالله ما نهجركم

تنسون ونحن دائما نذكركم

العذر لكم في عيشنا بعدكم

العذر لكم يا سادتي العذر لكم

وذكرت له ما ذكره أبو الحسن على بن سعيد رحمه الله قال: سمعت الملك الناصر ينشد لنفسه وقد جاءه مملوك بباكورة ورد:

الورد قد أتى مبشرا بالأمل

عجلان مبادرا وقوع الملل

لا تخجله ولا الذي جاء به

في خدمهما ما قد كفى من خجل

ولما عدت من العراق، وأنشدته من محاسن الدوبيتيات ما أمر بكتبه ثم قال لي هذا طرز لا تحسنه المغاربة فقله له يا خوند كما أن الموشحات والأزجال طراز لا تحسنه المشارقة والمحاسن قد قسمها الله على البلاد والعباد. قال: صدقت، فهات ما نظمت أنت في هذا الطراز فأنشدته:

مولاي أراك دائم الأعراض

والعمر يمر ضائع الأغراض

كم أسألك الرضي وكم تمنعه

الملك لمن أصبحت عنه راض

ص: 135

قال ما قصرت ركبت الجادة، وما تحتاج بعد إلى دليل، انتهى. ولم نزل نثير لئالئ الفوائد ونسحب أذيال المقطوعات والقصائد، ونرد من ذلك أحلى المصادر وأعذب الموارد إلى أن أزفت النوى. وأثارت الجوي، ففرقتنا بعد تألف وأقصدتنا بسهم تحيف فبالغ في الإكرام واعتذر، وزود حتى لم يذر، وودعته الجوانح ملتهبة والدموع منسربة والشوق بقلوبنا لاعب، وغراب البين ببعد الأحبة ناعب وكم سربلتني النوى سقما، وأصارت في عقلي لمما، فلوان ما بي منها بجفن ما ألف هجوعا، أو بقلب لفاض نجيعا. ولكني خلقت جلدا بالحوادث حجرا صلدا:

يوم الفراق أقد خلقت طويلا

لم تبق لي صبرا ولا معقولا

قالوا الرحيل فما شككت بأنها

نفسي عن الدنيا تزيد رحيلا

ومما أنشدني لنفسه في تلك الأيام البادية الأتضاح السائلة الغرر والأوضاح قوله يخاطب السلطان الفاضل أبا عبد الله بن مولانا أمير المؤمنين عند قدومه حضرة تونس وقد وردت عليه عربه من رياح:

يا قادما وافي فعم خصبنا

لا تنكر العرب التي جاءت إليك

لو لم تواف رحمة ما أرسلت

فينا رياح نشرت بين يديك

وأنشدني قوله وقد دخل السلطان الأجل صاحب مدينة فاس أبو الحسن المذكور أولا مدينة تلمسان بعد أن حصرها مدة وهدمها بالمجانيق:

تلمسان كانت في البناء منيعة

عليها من العدوان شر لباس

فلا غروان هدت لنا وتهدمت

فقد جاءها للهدم صاحب فاس

وأنشدني قوله وهو بحضرة فاس:

أيا عجبا كيف تهوي الملوك

محلي وموطن أهلي وناسي

وتحسدني وهي محسودة

وما أنا إلا خديم بفاس

وأنشدني قوله:

لعمرك ما ثغر باسم

ولكنه حبب لا عب

ولو لم يكن ريقه مسكرا

لما دار من حوله الشارب

وأنشدني قوله مخاطبا بهما عند ورودي عليه بقسنطية المذكورة وقد لاح برق:

أنظر إلى البرق يجلو عنك أظلاما

وشمه يا خير من البرق قد شاما

كأنه إذ قدمت أرتاح من فرح

فظل يبدي إليك الثغر بساما

وأنشدني لنفسه وكتبها بخطه على ظاهر المبيضة من هذا الكتاب حين وقف عليه هنالك:

أن الإمام أبا البقاء لأوحد

عجب يعز بمغرب ومشرق

لو لم تكن دررا لنا كلماته

ما نظمت حليا بتاج المفرق

وأنشدني للشيخ الإمام العلامة الفاضل أبي العباس أحمد بن شعيب أحد كتاب السلطان أبي الحسن ملك المغرب:

يا رب ظبي شعاره النسك

الحاظه في الورى لها فتك

يترك من هام فيه مكتئبا

لا تعجبوا أن قومه الترك

أشكو له ما لقيت من حرق

فينثني لاهيا إذا أشكو

وحين لم يقض من تعطفه

أخذا ولا من صبابتي ترك

صبرت حتى أطل عارضه

فكان صبري ختامه مسك

ثم خرجت منها صخوة يوم الخميس السادس لشوال من عام أربعين المذكورة في لمة من فتيان الوفاء، وفرقة من أخوان الصفاء ترسل أولى الخيل على أخراها وتعرض السوانح فيستحضرها أدجناها:

كان بزاتهم أمراء جيش

على أكتافها صدأ الدروع

وما زلت أساير السبيل السالك حيث سار، وأخذ اليمين تارة وتارة اليسار، ومل ناحية تسفر لي عن روض أزهر، وعذار نبت أخضر، وتبسم عن ثغر حباب في نهر كالحباب، وترفل من الربيع في ملا بس سندسيات، وتهدي نوامج مسكيات، وتزهي من بهجتها بأحسن منظر وتتيه بجلباب أينع من برد الشباب وانظر إلى أن دخلت) بجاية (المحروسة في يوم الأحد السابع عشر لشوال المذكور، فنزلت بها في قصر من الديار، ودار من القصور، دار تخجل منها الدور، وتقاصر عنها القصور، وتقر لها بالقصور:

دار مشي الإتقان من تجنيدها

حتى تناسب روضها وبناؤها

مرقومة الجنبات ذات قرارة

يمتد قدام العيوم فضاؤها

ما زال يضحك دائما نوارها

في وجه ساحته ويلعب ماؤها

ص: 136

ونحن تحت ظلال ضيافة السلطان الأفضل الانجد الأمجد الأكمل سراج الدولة وريحانة الملك وطليعة النجابة أبي زكرياء يحيى بن مولانا أمير المؤمنين أبي يحيى أبي بكر أعلى الله أمرهم وأعز نصرهم، فهو أسد الحملة وفارس الجولة الذي جاء بئاية أوضح وأجلى وطلع من قنية الملك ابن جلا، فأحكم الله بأخباره أخبار الأول كما نسخ بهذه الدولة وملوكها الملوك والدولة، وجعلها مستولية على جميع المآثر والأثر، مستوفية لكل المجد من عين وأثر، وأقمنا يطاف علينا بالطيبات والطيب بين العود الرطب وجني الغصن الرطيب والنادي الذي احتوي الشادي الشادي الشادن والأديب اللبيب وجمع مه الصادق، والحميم الحبيب، هو الفقيه الأجل الفاضل أبو الحسن على بن محمد المشتهر بالحمى:

شقيق أخاء لا شقيق أخوة

نسيب صفاء أن ذكرت نسيبا

أحلته هنالك الأقدار واطمأنت به في تلك المدينة الدار، ونزح في طلب العلم عن الأوطان حتى صار كتابا لهذا السلطان فتمتعت بموانسته وتمنعت إلا عن مجالسته. وتعاطينا أحاديث كأنها رضاب وفوائد لها بيننا اقتضاء واقتضاب:

أحاديث أحلى في النفوس من المنى

وألطف من مر النسيم إذا سرى!

وتذكرنا أزماننا بغرناطة، سقى الله أرجاءها المشرقة. وأغصانها المورقة، ولله أيامنا بها التي كانت موشية. وعكوفنا على العلم فيها غدوة وعيشة وقد امتد ببغيتنا في ميدانها عنان. وجن بتسنى أمنيتنا فيها جنان، والزمان غلام، والدنيا تحية وسلام. والغصن رطيب وبرد الشباب قشيب والشمل جامع، والدهر مجيب وسامع، وأيامنا أعياد وللسعد في زماننا انقياد ولا هم إلا مباحثة صحاب، أو مجاذبة آداب أو ائتلاف على تأليف درر الفوائد وانتداب، فبالغ الزمان في تفريقنا حتى بلغ الغاية، وأبدى من تغريبنا وتشريقنا العجب والآية، وذهب البين بنا كل مذهب وقدر لنا أن اجتمعنا ببجاية:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما

يظنان كل الظن أن لا تلاقينا

وحين تباثتنا الأسرار، وتناشدنا الأشعار، وأنشدني من المقطوعات ما لم أرضه ولا أثبته وكنت قديما قد سمعته فنبذته، فقال لي: إنما الأعراب للأسماء ولا يجوز التيمم مع وجود الماء إياك أردنا، وأنت فأنشدنا فأنشدته في المعنى الذي أشار إليه والمورد الذي حام عليه لجمال الدين بن العطار:

إذا ما بدا مرخى الذؤابة وانثنى

ضحوك الثنايا مرسل الصدغ في الخد

بدا البدر في الظلماء والغصن في النقا

وزهر الربا في الروض والآس في الورد

وأنشدته لبعض الفضلاء من أهل العصر:

تأمل ترى خضرة الشارب الذي

على الشفة اللمياء والمورد العذب

زمردة خضراء فوق عقيقة

وتحتهما سمطين من لؤلؤ رطب

وأنشدته لبعضهم:

لم يكفهم وهو روض حسن

حراسة الأعين المراض

خافوا على زهره قطافا

فشوكوا حائط الرياض

وأنشدني لأبي فراس الحمداني:

من أين للرشا الغرير الأحور

في الخد مثل عذاره المتحير

رشا كان بعارضيه كليهما

مسكا تساقط فوق ورد أحمر

وأنشدته لابن المعتز:

يحيى النفوس إذا يشاء بقربه

ويميتها بفتور طرف ساج

لاح السواد بخده فكأنه

سبج أضيف إلى جوانب عاج

وأنشدته لأبي القاسم بن كامل:

وهويت سكران اللاحظ أغيدا

يحيى فتور جفونه ويميت

للحسن كافور على وجناته

ولصدغه مسك عليه فيت

وأنشدته لابن كامل أيضا:

نبت العذار بخده فكأنما

نبتت بروضات الربا ريحانها

وكأن نارا للجمال بخده

شبت فلفع عارضيه دخانها

وأنشدته للعماد الأصبهاني:

ومعذر لعب الدلال بطرفه

وبعطفه فكلاهما نشوان

وتواقعت نار الصبا في خده

مع مائه فعلا هناك دخان

وأنشدته لعز الدين ابن العجمي:

لهيب الخد حين بدا لعيني

هوى قلبي عليه كالفراش

فأحرقه وصار عليه حالا

وهذا أثر الدخان على الحواشي

وأنشدته لأبي تمام غالب بن باح:

يا سالب البدر المنير جماله

ألبستني للحزن ثوب سمائه

أحرقت قلبي فارتمى بشرارة

نزلت بخدك فانطفت في مائه

وأنشدته له أيضا:

يا حبيبا له الفؤاد محل

كيف يجفو وأنت في سودائه

ص: 137

كتب الحسن فوق خدك خالا

فأمحى الخال غير نقطة خائه

وأنشدته لابن عبد ربه القرطبي:

يا ذا خط العذار بخده

خطين هاجا لوعة وبلابلا

ما كنت أقطع أن جفنك صارم

حتى حملت من العذار حمائلا

وأنشدته لابن حصن الأشبيلي:

غزال كحيل له ريقة يخالطها المسك والقرقف

كأن العذار على خده

نجاد ومقلته مرهف

وأنشدته للملك الناصر بن العز سلطان الشام:

سلوا قوام الغصن لم ذا غدا

عنى لا لي في الهوى مائلا

وخده التبري ما باله

عذاره قد جاءني سائلا

وأنشدته لعز الدين بن العجمي الحلبي:

قد كان من قبل ذا نهار

فزيد ليلا من العذار

فأين منه وهل مفر

لنا من الليل والنهار

وأنشدته لبعض المشارقة:

وأحزني من فرند خد

لمع نسرينه بورد

وعرقت نون عارضيه

على عقيق بلا زورد

يلعب بي والهوى مجد

ورب هزل أتى بجد

وأنشدته للأمير حسام الدين بن بهرام الحاج الأيلي:

لم لا أحن إلى الحجاز صبابة

ويفيض دمع العين بالهملان

ورضابه الخصر العذيب وخده

النضر وعذاره العلمان

لم يعد ذاك الخد خال أسود

إلا لنكث شقائق النعمان

وأنشدته لأبي الحسن رستم المعروف بابن الساعاتي:

ومشوب الوداد ساغ هواه

في خفى الأحشاء أي مساغ

بلغت وحيه الذوائب قلبي

ما على المرسلين غير البلاغ

قمر نور وجهه يكشف الشمس

إذا حل عقدة الأصداغ

وأنشدته لأبي الحسين الهاشمي:

وشادن دينه التشيع بالك

رخ يضاهي الغصون بالميل

واصلني ثم صد عن ملل

فليته قبل ذلك لم يصل

تصيح ألحاظه إذا قتلت

بسحرها العاشقين يا لعلي

وأنشدته لابن الرضى الفضل بن منصور الفارقي:

مولاي يا بدر كل داجية

خذ بيدي قد وقعت في اللجج

حسنك ما تنقضي عجائبه

كالبحر حدث عنه بلا حرج

بحق من خط عارضيك ومن

سلط سلطانها على المهج

مد يديك الكريمتين معي

ثم ادع لي من هواك بالفرج

فقام وقبل رأسي، وقال كيف يعارض من جال آفاق المغرب وهو ينفض الغبار من خوض أحشاء المشرق، فلما أطنب فيما به أثنى، سلكت به في غير هذا المعنى، وأقمت منها بين جداول كالسيوف المرهفة وبسط نبات كالبرود المفوفة وأيام معلومات الذيول، عاطرات عرفي الصبا والقبول، نعمنا ببكرها وآصالها. وأمتعنا بتواليها واتصالها. والسعد لنا خادم، وما غير السرور علينا قادم، ولما هصرت من أنسى غصنا ميادا، وانصبت بميدانها للأنس جيادا، خرجت مودعا لذلك الأخ الفاضل، وشاكرا لتلك الشيم والمخائل وسائر بين تلك الربى والخمائل، في يوم الأحد الرابع والعشرين من شوال المذكور. ولم نزل نصعد أنف كل ثنية ونعقد لجهاد كل مارق أفضل نية، ونجدد لعربان جبل الزاب. كماة ورماة، معتقلين عوالي سمر ردينية، ومتنكبين أعطاف قسي محنية. قد صفوا متقدمين وحفوا عن الشمال وعن اليمين. واستحثوا فلبوا مسرعين، وأسرعوا مهطعين. وأقبلوا ينفضون، كأنهم إلى نصب يوفضون:

يتوددون الخطب وهو مهالك

ويبادرون الحرب وهي فناء

ويخاطبون بألسن البيض التي

من دونها تتلجلج الخطباء

ص: 138

وقد تلاقت على أمحاض النية الأرواح في أجسادها، وكادت الأسنة تطير من عواليها. والسيوف تنسل من أغمادها، وتهيأت طيور السهام في وكنات الكنائن كمينا، ومدت من الاشتياق إلى مقاتل أهل الشقاق والنفاق يمينا، وأطالت حنينا، لما كان قو تولى من بغيهم وفسادهم وقطعهم للطرق وعنادهم، وهذا الجبل المذكور هو من أجل اعتمادهم وأتم مرادهم لاختلاف أهوائه، وائتلاف شعرائه، وعظم ساحته واتساع مساحته، وتوعر أرضه، وانخراق طوله وعرضه، وثمراته الشامخات في عنان السماء، التي تبهر في العلو والنماء، وتظهر في إشراق محيا النهار معتكر الظلماء، وما أظن مثلها تحت أديم القرصة الدهماء فدخلناه صبيحة يوم الاثنين ثاني يوم خروجنا في أزيد من مائة إنسان من مشاة وركبان. ورجال وفرسان. نخطر في القنا والأعنة. ونمطر سحائب المنايا من بروق الأسنة فمن عوالي رماح تثير خطياتها وهج الكفاح. من كل مثقف رحب الخط ضنك المدخل أزرق لا ينى عن ورود الأكحل، يميس في اعتداله وإن لم يعدل، قد جرى الموت في عطفيه جرى القضاء المنزل، ومن مواضي سيوف، قد طبعتها أيدي القيون، من شتى حتوف، من كل صارم ذكر، محمود الخبر، يتيه بصدق الأنباء فخرا على الأقلام ويسبق الخطى إلى برى الطلا وإلهام. وتعرف مواقعه بحيث تدور رحا الحرب الزبون بالجيش اللهام:

ذكر برونقه الدماء كأنما

يعلو الرجال بإرجوان ناقع

وترى مضارب شفرتيه كأنها

ملح تناثر من وراء الدارع

وكأنما خدر الحسام بهامه

خدر المدامة أو نعاس الهاجع

ومن القسى شتى الحنايا، تهدى إلى الأرواح إرسال المنايا، من كل زوراء تسبق العين وتدني من الحين، وتصدق الخبر بلا ريب ولا مين، تصمى وهي في النزع مرنان، وتجنى ولها ترنم النشوان وانة الثكلان تشكو وهي ظالمة. وتهدي السبيل وهي به على بعد المدى عالمة:

إذا نبض الرامون عنها ترنمت

ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز

ومن غدران الماذي ما شئت من سابغات دروع، يغني عنها البطل الشجاع، ويفزع إليها الجبان المروع قد قدر سردها، وأبدع من نسج داود بردها، ومن حسان الدرق اللمطية التي تنبو عن صفحاتها بيض الصفاح وسمر القنا الخطية إعداد تروق العيون، وتدفع عن مستلمها حادث المنون من كل فادية الكماة بنفسها، واقية من كل محذور وبؤس بقوتها وبأسها:

وصليبة تلقى الصفاح بصفحة

فتردها مفلولة الأغراب

تقسو على قرع السيوف كأنها

وجه اللئيم قسى على الطلاب

وما شئت من مجن تروق عند النظر، ويعكس شعاعه ضوء البصر يحتوي من الحسن على كل بديعة، ويزري بمجن أبن أبي ربيعة، ومن بيض الرؤوس أمثال حباب طاف أو أنصاف بيض نعام لاحت كزرق نطاف، إلى غير من العدد التي بها تشهد الحرب الزبون، ويهزم العرب الذين هم لاذاية المسلمين يتحزبون، وصحبنا من الصافنات الجياد، التي لم يزل الخير منها في النواصي والأجياد. كرام الخيول وأمثال السيول، من كل نهد يسبق الطرف ويستغرق الوصف:

ومن كل قلبي القميص مدثر

يروقك كالقرطاس حبره الحبر

وورد كأن الخمر صرفا بجلده

وأصفر فيه يمزج الماء والخمر

وأشقر حلاه اللجين حجوله

وغرته ثم استبد به التبر

وأبلق أعطى الليل شطر أديمه

فلما تمشي فيه ضايقه الفجر

وأدهم في أعطافه تعبس الوغى

وأشهب في أرجائه يضحك النصر

وطفقنا نخبط في سهل هذا الجبل ووعره، ونخلط سير أترابه بصخره، ونشق أعطافه شقا. وندق جنادله بالحوافر دقا إلى أن أتممنا سيرا عند سقوط الشمس للغروب، وقد أنضيت الرواحل من الإعياء وضعفت النفس من اللغوب، وعندما ملنا للنزول، وعطفنا من تلك الحزون إلى السهول، وتصارخت العرب واجتمع الابن منهم والأب، ثم حملوا علينا حملة ظننا أن الجبال إلينا راجفة، وان الأرض بنا واجفة، فصبرنا لحر طعانهم وتجرعنا مرارة مرانهم واقبلناهم أوجها تتهلل إذا عبس الحمام، وأنفسا تتجلد كلما عضها الحسام، فتجرعنا الغصص وتجرعوا، وأشرعنا إليهم مثل ما إلينا أشرعوا:

لقيناهم بأرماح طوال

تبشرهم بأعمار قصار

ص: 139

وتوافقنا طويلا وقد حميت الصدور، وكؤوس المنايا تدور، ثم صدقناهم الجلاد والطعان، وجملنا عليهم كأننا الرعان. . . وازلناهم عن مركزهم، وبدلناهم بالذل من تعززهم، ووالينا عليهم الكرة بعد الكرة وحوزنا عليهم في كلها أشد المعرة، فلوا أمامنا مدبرين، وأضحوا كالنعام مجفلين، وحال بيننا الظلام المفكهر، فلم ندر من فر منهم إلى أين يفر، وانحاز بعضنا من بعض وقد عضتهم نار الحرب أيما عض:

ورحنا بعد ذاك إلى مقام

تحدث عنه ربات الحجال

كأن الخيل تعلم من عليها

ففي بعض على بعض تعال

وبات الجمهور من أصحابنا متقلدين لصوارمهم مخلصين أصدق النيات في عزائمهم باذلين في ذلك مشكور اعتمادهم واعتمالهم، مصدقين لقول من قال في أمثالهم:

نفسي فداء معاشر شادوا العلا

بعزائهم وأسنة وصفاح

ما للرجال وللنعيم وإنما

خلقوا ليوم كريهة وكفاح

ثم رحلنا ظافرين وأدلجا مسافرين، وأفضى بنا الركض إلى ملة بيضاء مفيضة إلى قرارة خضراء تتفجر فيها عين ورقاء ماؤها صفاء إنسانها وأحدق بها النبت مهدب اجفانها، فنهلها في نميرها وكرعنا في غديرها، وركزها رماح الخط فوق رياض القصب وافترشنا مطارق الوشي فوق دارنك العشب، وجعلنا من اللجم أوتادا مرفودة واتخذنا من الأعنة أسبابا ممدودة فقدم الخباء، واستوي البناء، والماء يقهقه في خريره والقمري يقرقر في هديره، والنسيم يعبق من المسك الذكي والجو مضمخ بزعفران العشي:

تشدو بعيد أن الأراك حمامة

شدو القيان عزفن بالأعواد

مال النسيم بقضبه فتمايلت

مهتزة الأعطاف والأجياد

هذي تدع تلك توديع التي

قد أيقنت منها بوشك بعاد

واستعبرت لفراقها عين الندا

فابتل مبرز غصنها المياد

فأنا لكذل إذ برقت السماء فسلت مذهب نصولها وأرعدت. فضربت منذر طبولها. وجعل الغمال يهيئ مراكبه وأخذ الربان يرتب كتائبه، فبعد ما أعز السير وامتد طلقه وغلبه البهر فتصبب عرقه خر هنالك ولقى، فعندها نادم الروض فغنى وسقى، فتنفست الأرض عن نكهة العروس وتبرجت في حلية الطاووس:

وكان صوت الرعد خلف سحابه

حاد إذا ونت الركائب صاحا

مرتجة الأرجاء يحبس سيرها

ثقل فتعطيه الرياح سراحا

أخفى مسالكها الظلام فأوقدت

من برقها كي تهتدي مصباحا

جادت على التلعات فاكتست الربى

حللا أقام لها الربيع وشاحا

فساعة خمد ذلك البرق، وانقشع ذل الودق، واعتزمنا على الرحيل والتحول في برد الأصيل:

وبدا لنا ترس من الذهب الذي

لم ينتزع من معدن بتعمل

مراءة تبر لم تشن بصياغة

كلا ولا جليت بكف الصيقل

تسمو إلى كبد السماء كأنما

تبغي هناك دفاع خطب معضل

حتى إذا بلغت إلى حيث انتهت

وقفت كوقفة سائل عن منزل

ثم انثنت تبغي الحدور كأنها

طير أسف مخافة من أجدل

بين الأنهار والأزهار في العشايا والأبكار:

ورب عشية فيها طفقنا

نرود الظل والماء القراحا

وقد ضرب الضيب بها قبابا

على الأدواح أبهجت البطاحا

كان جنابها يخضر آسا

فأصبح وهو مبيض أقاحا

كأن الخضر جربها يمينا

ومد عليه جبيل جناحا

ص: 140

وما زلنا في طريقنا ذلك نتجول على تلك المنازل، ونتحول في تلك الخمائل، ونضرب في الأرض كالعقبان الكواسر والليوث الخوادر، إلى أن وصلنا إلى مدينة) الجزائر (فدخلناها في يوم الأحد الثاني لذي قعدة من العام المذكور فأصلحنا بها الأحوال وجددنا منها الترحال، وخرجنا ضحوة يوم السبت الثامن لذي قعدة المذكور وسرنا بعزم غير مرتاب وسير يطوي البيد طي السجل للكتاب، إلى أن وصلنا إلى مدينة) تلمسان (وقد انجلى ظلامها وأزيل عن يد الباطل زمامها، وعوفيت من اختلالها، وشفيت من اعتلالها وأشرق منها الجو وأنار، ولاح للعدل بها علم ونار، فدخلناها يوم الأربعاء التاسع عشر لذي قعدة من العام المذكور، وخرجنا منها عشية يوم الجمعة الحادي والعشرين لذي قعدة المذكور فنزلنا تلك الليلة على بعض قراها. واستعملنا ما كنا استصحبنا من قراها ثم قمنا للرحيل وأدلجنا وما عجنا على غير المسير ولا عرجنا، إلى أن وصلنا) هنين (والشمس مستوفية اللالاء، مرتقية درجة العلياء، لا إلى هؤلاء إلى هؤلاء في يوم السبت الثاني والعشرين لذي قعدة المذكور فوافقت قرقورة كانت هناك قد كملت وسقا، وخفقت بنودها للسفر خفقا، وقلدت القرية وعملت على المرية فاستخرت الله تعالى في ركوبها، ودعوته في تيسير مرامها ومطلوبها، وخرجت من هنين راكبا فيها يوم الأربعاء السادس والعشرين لذي القعدة المذكور وحين فرغت من الأرض وصحوت من سراها وممساها قربت إلى الفلك باسم الله مجراها ومرساها، وما زلت بين قوادمها وخوافيها إلا حظ المنايا حينا وحينا أكاد أوافيها قد تبدلت من ظل علا ومفاخر، بقفر طامي اللجج زاخر وعوضت من صهوات الخيل، بصهوات اللجج والليل حتى آليت ألا ودع الريح تحية، ولا يورثني هبوبها أريحية، فهي التي أثارت من الموج حنقا، ومشت عليه خببا وعنقا، حتى أعادته كالكثبان وأصارت المركب فوقه يتلاعب كقضيب الآن وأخرجته عن طريقه وأزالت كل واحد منا عن مركزه وفريقه. ورقت غصصه وأغصته بريقه، حتى لكاد يغوص في اللجاج ويخوض عليها بحر عجاج إلى أن حط بي في مرسى) مجاقر (الشراع والسفين، وآويت من جزيرة الأندلس الكريمة إلى الكهف المنيع والمكان المكين. واستقبلت مواطن ظلال السيوف فقلت ادخلوها بسلام آمنين) وقد جاء (عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار في فضل الأندلس وفضل الجهاد فيها والرباط في ثغورها، وعلى سواحل بحورها، في فضل العابرين في البحر برسم الرباط فيها والجهاد وتكثير السواد، فمن ذلك ما حكاه ابن حبيب قال: روى عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم سينقطع الجهاد والرباط من المشرق والمغرب إلا جزيرة بالمغرب يقال لها الأندلس الذي يرابط بها على ساحل بحرها من وراء عورة المسلمين أفضل من شهيد يتشحط في دمه وحدث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعظم رباط خلقه الله على جديد الأرض جزيرة بالمغرب الأقصى شرقيها عدو وغربيها عدو وجوفيها عدو وقبليها عدو وهي جزيرة يقال لها الأندلس، وروى عنه أيضا أنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من المسجد فأشار بيده تلقاء المغرب مسلما، فقيل له على من تسلم يا رسول الله قال على أناس من أمتي يكونون في هذا المغرب بجزيرة يقال لها الأندلس إليها آخر ما ينتشر هذا الدين رباط يوم فيها أفضل من رباط عامين في ثغور غيرها حيها مرابط وميتها شهيد، تحشرهم السحاب يوم القيامة من وراء هذا البحر الكافر على ظهورها فتمطرهم على أرض المحشر كما تمطر السحاب الماء وهم ممن استثنى الله تعالى في كتابه:[فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا أن شاء الله] قيل يا رسول الله بم نال أهل الأندلس هذه الفضيلة، قال بجهادهم ورباطهم فيها وبأخذهم مذهب أهل المدينة خير أمتي في المحيا والممات وأني سألت الله ألا يبتليهم ببدعة حتى يلقونين وقال صلى الله عليه وسلم، طوبى لمن أدرك زمانا يدخل الإسلام الأندلس ويرابطون في ثغورها في آخر الزمان فهم بمنزلة المرابطين من أهل بدر من المهاجرين والأنصار ثم قال من رابط في ذلك الزمان ساعة واحدة كتب له من الثواب عدد كل نفس في الدنيا، وروى عن شهر بن حوشب أنه قال ما من بقعة من الأندلس إلا ولها ثواب لا يدركه إلا العاملون يبعث الله تبارك وتعالى أهل الأندلس يوم القيامة على حدة لا يخالطهم أحد، قد جللهم النور

ص: 141

والبهاء وهم رؤساء المجاهدين، وقال أبو جعفر الطبري: قال كعب الأحبار يعبر البحر إلى الأندلس قوم يعرفون بنور وجوههم يوم القيامة وقال وهب بن منبه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال ستفتح بعدي جزيرة يقال لها الأندلس يأتي الصغير منهم والكبير يوم القيامة يمطرهم على بيت المقدس كما تمطر السحاب الماء وهذه الأخبار إن صحت فيها ونعمت وإلا فالقاعدة تقتضي صحة المعنى فيها إذا الأصل في الأجر والثواب في ذلك أن يكون على قدر تعب النفس وتعنيها، وفضل الأندلس مبين ومكانها من القلوب مكين ولقد أنصفها حين وصفها أبو عمارة البصري بقوله:

لله أندلس وما قد جمعت

من كل ما جمعت له الأهواء

فكأنما تلك الديار كواكب

وكأنما تلك البقاع سماء

وبكل قطر جدول في جنة

ولعت بها الأفياء والأنواء

ثم رحلنا من ذلك المرسى وتبدلنا من تلك الوحشة أنسا، وأهل تلك الأقطار، يطيرون إلينا كل مطار، في تلك الأودية والأنهار، بين سار بالليل وسار بالنهار:

يا ساري الليل هل من رامة خبر

فأنني لسواه ليس أنتظر

بالله ربك خبرني فها كبدي

تكاد من ذكرهم بالوجد تنفطر

أحباب قلبي وجيرني وأهل مني

روحي إذا طربت والسمع والبصر

أعندكم أنني من بعد فرقتكم

لا أستلذ بما يهوى له النظر

ترى أراكم على بانات كاظمة

والعذل قد غاب والأحباب قد حضروا

ويجمع الله شملا طالما لعبت

به الليالي ولم يسعف له القدر

فدخلت مجاقر المذكور في يوم الأحد الموفى ثلاثين لذي القعدة المذكور:

كل المنازل والبلاد عزيزة

عندي ولا كمنازلي وبلادي

فأنخنا بها من عطن، وقد أشرفنا بحمد الله على ثنايا الوطن:

وأبرح ما يكون الشوق يوما

إذا دنت الديار من الديار

وبتنا بها نعالج آلام الأشواق، ونطارد ذوات الأطواق، ولما طرب طائر السحر وأذهب الصبح ما بصدر الساهر من الوحر، فوقت سهم العزم وأطرت عن زنده شرار الحزم، وأدخلت على معتل التواني حرف الجزم، وخرجت منها في صبيحة يوم الاثنين أول يوم من ذي الحجة من عام أربعين المذكور، وسرنا في ظل ظليل وزهر بليل وهواء صحيح ونسيم عليل:

وحدائق ينسيك وشى برودها

حتى تشبهها سبائك عبقر

يجري النسيم خلالها وكأنها

غمست فضول ردائه بالعنبر

في ضفتي نهر وادي المنشور الملتوي كالأيم الذاهب منظره بالسئام والأين، من نهر يدوخه هبوب النسيم ويتراءى الشقائق كأنه العذار في وجه الوسيم، ونحن نخف في سبيل دلالته، ونلتحف بظل جلالته ونغازل تلك الأغصان، ونعتد من أوراقها بخرصان وننظر ذلك النهر السلسال، فنذكر دمع المهجور إذا سال:

أحن إلى الوادي ومن فيه نازل

ومن أجل من فيها تحب المنازل

وأشتاق لمع البرق من نحو أرضكم

ففي البرق من تلك الثغور رسائل

يرنحني مر النسيم لأنه

بأعطاف ذاك الزند والبان مائل

وإن مال بان الدوح ملت صبابة

فبين غصون البان منكم شمائل

ولي أرب أن ينزل الركب بالحما

ليسأل دمعي وهو للركب سائل

بي أنه لا تنقضي أو أراكم

ويصبح نجد وهو بالحي آهل

وما برحنا تلتحف من ظل أيكه أبردا، وكأنما دخلنا منه صرحا ممردا، وأوطأنا المطى من أديمه زردا، والناس قد ثاروا إلى، وأطالوا التسليم على، وتفاوض في ذلك سرهم ونجواهم، فما زالت تلك دعواهم حتى دخلت بلدي) قتورية (حرسها الله تعالى:

هي الدار لا أصحوبها عن علاقة

لأمر لنا بين الجوانح مضمر

ص: 142