المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌معالي الأمور .. لا قشور - تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب

[محمد إسماعيل المقدم]

الفصل: ‌معالي الأمور .. لا قشور

‌معالي الأمور .. لا قشور

ثبت عن الحسين بن عليٍّ رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يحب مَعالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفسافها "(1).

أما معالي الأمور فهي الأخلاق الشرعية، والخصال الدينية، لا الأمور الدنيوية فإن العُلُوَّ فيها نزول (2).

وأما السَّفاسِف فواحدها السَّفْساف: الأمر الحقير، والرديء من كل شيء، وهو ضد المعالي والمكارم، وأصلُه: ما يطير من غُبار الدقيق إذا نُخِل، والتراب إذا أُثير.

والسَّفساف من الشِّعْر: رَدِيئُه، وأَسَفَّ: تتبع مَدَاقَّ الأمور، وطلب الأمور الدنيئة (3).

واعلم -رحمك الله- أن ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وأن كل ما تعرض له بأمر أو نهي فهو من معالي الأمور، وأن من وصف شيئًا من ذلك بوصف يوهم الِإزراء أو التنقص فقد أعظم على الله عز وجل الفرية، وَعرَّض نفسه لغضب الله وعقوبته وانتقامه، نعم هناك في قضايا الدين أصول وفروع، كليات وجزئيات، أهم ومهم، لكن هذه القضايا كلَّها على اختلاف مراتبها وأولويتها من المعالي ليست من السفاسف في شيء، فَمِن ثَمَّ اشتد نكير العلماء على من أطلق

(1) رواه الطبراني (3/ 142)، وابن عدي (3/ 879)، وغيرهما، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (1627).

(2)

" فيض القدير "(2/ 295).

(3)

" النهاية في غريب الحديث "(2/ 373 - 374)، " مختار القاموس " ص (302).

ص: 59

مثل هذه العبارات الفَجَّة، وأَفْتَوْا بزجره وتأديبه:

فقد سئل سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: هل يجوز أن يقول المكلف: " إن الشرع قِشرٌ، علم الحقيقة لُبُّه "، أم لا يجوز؟

فأجاب رحمه الله تعالى:

(لا يجوز التعبير على الشريعة بأنها قشر من كثرة ما فيها من المنافع والخير، وكيف يكون الأمر بالطاعة والِإيمان قشرًا، وأن العلم اللقب بعلم الحقيقة جزء ومن أجزاء علم الشريعة؟! ولا يُطْلِق مثلَ هذه الألقاب إلا ْغَبيٌّ شَقيٌّ قليلُ الأدب! ولو قيل لأحدهم: " إن كلام شيخك قشور "، لأنكر ذلك غاية الِإنكار، وَيُطْلِقُ لفظَ القشور على الشريعة؟!، وليست الشريعة إلا كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فَيُعَزَّرُ هذا الجاهل تعزيرًا يليق بمثل هذا الذنب)(1) اهـ.

وقال الِإمام العلامة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: ( .. وقولهم: " من أهل القشور " إن أراد به ما الفقهاء عليه من العلم ومعرفة الأحكام؛ فليس من القشور، بل من اللُّبِّ، ومن قال عليه: " إنه من القشور "؛ "استحقَّ الأدب، والشريعة كلُّها لُباب)(2) اهـ.

(1)" فتاوى سلطان العلماء " ص (24، 25) تحقيق مصطفي عاشور - مكتبة القرآن.

(2)

ملحق بكتاب "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء" لابن القيم رحمه الله ص (25).

فائدة: تصدى العلماء رحمهم الله في كل عصر لظاهرة التهاون بالهدي الظاهر، مع التشبث بسمت الكافرين، ومن أعظم ما ألف في ذلك: السفر النفيس " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ الاسلام ابن تيمية، ومنها:" تشبه الخسيس بأهل الخميس " للحافظ الذهبي، ومنها:" الاستنفار لغزو التشبه بالكفار " للشيخ أحمد بن الصديق، ومنها:" فرانك مقلد لغى " بالتركية حول تحريم التشبه بالكفار للشيخ عاطف اسكلفي وأفتى فيه بتحريم ارتداء القبعة، ولما قام " أتاتورك " =

ص: 60

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بالانقلاب الأثيم حوكم الشيخ عاطف بعد الانقلاب بسنتين لتأليفه هذا الكتاب، ولما مثل الشيخ أمام القاضي رئيس محكمة الاستقلال خاطبه القاضي قائلًا:(إنكم أيها الشيوخ مغرقون في السفسطة الفارغة، رجل يرتدي عمامة يكون مسلمًا، فإذا ما ارتدى قبعة صار فاسقًا، وهذه قماش وهذه قماش؟) فأجابه الشيخ الجليل: (انظر أيها القاضي إلى هذا العلم المرفوع خلفك -أي علم تركيا- استبدله بعلم انكلترا مثلًا، فإن قبلت، وإلا فهي سفسطة منك، إذ هذا قماش وذاك قماش)، فبهت القاضي ومع ذلك حكم على الشيخ بالإعدام رحمه الله رحمة واسعة، وأبلغني شاب تركي روى لي هذه القصة أن ذلك القاضي كان يدعى (عليًّا) وأنه مرض مرضًا شديدًا قبل موته كان يصيح منه (كالكلاب) على حد تعبيره.

ومن المناسب ذكره هنا ما قاله الأستاذ محمد المجذوب: (وما أجمل كلمة أستاذ جامعي لأحد طلابه، إذ بصر به يعتم البرنيطة فنصحه بخلعها، ولكن هذا أبى أن يستجيب إلا بحجة مقنعة، وجاءت الحجة حين قال له أستاذه: (يا بني: ليست البرنيطة بنفسها شيئًا مذكورًا، ولكنها شعار القوم الذين أذلوا أمتك، وسلبوك حريتك) اهـ. من " تأملات في المرأة والمجتمع " ص (49).

وقال الشيخ عبد الله بن الصديق: (والبرنيطة شعار خاص بغير المسلمين، حتى إن أتاتورك لعنه الله، حين انسلخ من الإسلام، وأعلن أن تركيا دولة لا دينية، اتخذ البرنيطة شعارًا يعرفون به أنهم غير مسلمين.

وصرح المالكية بأن اللبس المختص بالكافر كالزُّنَّار والبرنيطة يكون لبسه ردة إن فُعل محبة أو رغبة فيه، ولما كان الشيخ محمد الخضر حسين شيخًا للأزهر، في عهد حكومة الانقلاب الذي قام به جمال، خيَّبه الله؛ تركوا الطربوش الذي كان غطاءً للرأس عند جمهور المصريين، وأرادوا أن يتخذوا البرنيطة بدله، واستفتوا شيخ الأزهر في ذلك، فلم يوافق، لكنه رأى في مجلة الشئون الاجتماعية، أنه وافق على لبس البرنيطة، فاحتج على رئيس تحرير المجلة، فقال له:" إنه أُمِر بنشر هذا الخبر "، فاستقال الشيخ من منصبه، وكانت الحكومة عازمة على تنفيذ المشروع، لكن عاقتهم عنه عوامل، من أهمها استقالة الشيخ فجأة، وبقى الشعب المصري من ذلك الوقت، عاري الرأس، ترك الطربوش؛ فلم يرجع إليه، ووقاه الله لبس البرنيطة، والحمد لله) اهـ.

بحروفه من " دفع الشك والارتياب عن تحريم نساء أهل الكتاب " ص (29).

ص: 61