الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دعوا السّنة تمضي، لا تَعْرِضوا لهَا بالرأي
يحلو لبعض الناس ممن يتقنون صناعة الشبهات وضرب الأمثال أن يتصدوا لكل داع يبين حكم الشرع في قضايا الفروع سواء تكلم بها ابتداء أو جاءت إجابة لسائل يسأل، فيثيرون الاعتراضات العقلية الجدلية معرضين عن الأدلة الشرعية الجَلَدِيَّة، فيقولون مثلًا: المسلمون ينبغي أن تتجه همتهم إلى الأمور الخطيرة التي تهدد كيانهم، ولا ينبغي تضييع الوقت في الدعوة إلى هذه الشكليات، وهل تم تطبيق الِإسلام كله حتى لم يبق إلا إعفاء الناس لحاهم حتى يعود مجد الِإسلام؟ وهل زالت المنكرات الكبرى التي عمت المجتمع حتى لم يبق إلا حلق اللحية منكرًا يجب تغييره؟
وهذه شبهات فارغة ساقطة يكفي سقوطها في ردها، ولولا أنها تلبس على بعض الناس أمور دينهم لما ساغ لأحد الالتفات إليها، أو تجشم الرد عليها.
لأن هذا المنطق الكاسد والرأي الفاسد سوف ينسحب بلا قيدٍ على كثير من أحكام الشريعة التي لا توافق الأهواء، بحيث لا يبقى بعد ذلك مجال للدعوة إلى اجتناب المحارم وتعظيم الشعائر، وتصبح الشريعة ألعوبة في يد المنحرفين عن أحكامها، يُعَظِّمُ أحدُهم ما يحتقره الآخر، والعكس بالعكس، بل إن أخطار هذا المنهج العليل وتداعياته قد يمتد زحفها ليطال قضايا العقيدة والتوحيد لتصبح أيضًا من القشور، فماذا يبقى من الإسلام بعد تمييع هذا كله؟ مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من التهاون بالمعاصي واحتقارها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد يئس الشيطان بأن يُعْبَدَ بأرضكم، ولكنه رضي أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم
ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، كتابَ الله وسنةَ نبيه" (1)، وعن أنس رضي الله عنه قال:(إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات)(2) قال أبو عبد ألله: يعني بذلك المهلكات.
قال الحافظ رحمه الله: (التعبير بالمحقرات وقع في حديث سهل بن سعد رفعه: " إياكم ومُحَقَّراتِ الذنوب فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعُود، وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها أهلكته " أخرجه أحمد بسند حسن، ونحوه عند أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود، وعند النسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " يا عائشة إياكِ ومحقراتِ الذنوب فإن لها من الله طالبا " وصححه ابن حبان)(3) اهـ.
ولنضرب مثالًا لما يحتقره بعض الناس من أحكام الشرع، وقد يسخرون ممن يعيره اهتمامًا ألا وهو عدم جواز إسبال الملابس، ولنتأمل كيف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسبل:
(عن الشريد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلًا من ثقيف حتى
(1) رواه الِإمام أحمد (3/ 384)، الحاكم (1/ 93)، وصححه، ووافقه الذهبي.
(2)
رواه البخاري (1/ 329 - فتح) في الرقاق: باب ما يتقي من محقرات الذنوب، وصح في مسند الِإمام أحمد عن عبادة بن قُرص رضي الله عنه أيضًا قال:" إنكم لتأتون أشياء هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات "، فذكروا قول عبادة بن قُرْص لمحمد بن سيرين فَصَدَّقه، وقال:" أرى جَرَّ الِإزار منه " يعني من الموبقات لما جاء فيه من الوعيد الشديد، والناس يعدونه من الصغائر لفرط جهلهم وغرورهم، انظر:" الفتح الرباني "(17/ 291).
(3)
" فتح الباري "(11/ 329).
هرول في أثره حتى أخذ ثوبه فقال: " ارفع إزارك "، قال: فكشف الرجل عن ركبتيه، فقال: يا رسول الله إني أحنف، وتصْطكُّ ركبتاي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلُّ خَلْقِ الله عز وجل حَسَنٌ"، قال: ولم يُرَ ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات) (1).
عن عمرو بن فلان الأنصارى رضي الله عنه قال: (بينما هو يمشى قد أسبل إزاره، إذ لحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ بناصية نفسه، وهو يقول: " اللهم عبدُك وابنُ عبدِك وابنُ أمَتِكَ " قال عمرو: فقلت: يا رسول الله إني رجل حَمِشُ الساقين، فقال: " يا عمرو إن الله عز وجل قد أَحْسَنَ كلَّ شيٍء خَلَقَهُ يا عمرو "، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو فقال: " يا عمرو هذا موضع الِإزار "، ثم رفعها، ثم وضعها تحت الثانية، فقال: " يا عمرو هذا موضع الِإزار ")(2).
وتأمل هذا الموقف من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو في سياق مصيبة الموت الذي هو أعظم حادث مما يمر على الجبلة:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل شاب على عمر -يعني بعد ما طُعِن- فجعل الشاب يثني عليه، قال: فرآه عمر يجر إزاره، قال: فقال له: " يا ابن أخي! ارفع إزارك فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك "، قال: فكان
(1) رواه الإمام أحمد (4/ 390)، والحميدى (810)، والطحاوي في " مشكل الآثار "(2/ 287)، والطبراني في " الكبير "(7/ 377، 378)، وقال في " المجمع ":(رجال أحمد رجال الصحيح) اهـ (5/ 124).
(2)
رواه الِإمام أحمد (4/ 200)، وحسَّنه الحافظ في " الإصابة "(4/ 704)، وروى نحوه الطبراني في " الكبير "(8/ 277) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال في " المجمع " (5/ 124):(رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات) اهـ.
عبد الله يقول: " يا عجبًا لعمر! إن رأى حق الله عليه، فلم يمنعه ما هو فيه أن تكلم به "(1).
وفي رواية: (فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردُّوا علَّى الغلام)، فذكره.
وروى ابن أبي شيبة أن رجلًا من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته، وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما هذا؟ "، قال: هذا ديننا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لكن في ديننا أن نحفي الشوارب، وأن نعفي اللحية ".
وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال:
أتى رجل من العجم المسجد، وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما حملك على هذا؟ " فقال: " إن ربي أمرني بهذا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله أمرني أن أوفر لحيتي، وأحفي شاربي "، ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الِإسلام، وبعث به عبد الله بن حذافة، دفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق، وبعد أن شق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب " إلى باذان " عامِلِه على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جَلَدين فيأتيان به، فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه، وكان كاتبًا حاسبًا مع رجل من الفرس، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه صلى الله عليه وسلم، وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، وقال:(" ويلكما من أمركما بهذا؟ " قالا: أمَرَنا بهذا رَبُّنا) -يعنيان كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وَقَصِّ شاربي "(2)، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنَّ رَبِّي قتل رَبكما الليلةَ "، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجعا حتى
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه " (8/ 201، 202)، وانظر: "سنن البيهقى" (1/ 280).
(2)
(رواه ابن جرير الطبري (2/ 266، 267) عن يزيد بن أبي حبيب مرسلاً، وحسنه الألباني)، كما في " فقه السيرة " للغزالي هامش ص (389).
قدما على باذان) الحديث.
فقدِّر -يا أخي حفظك الله- أنك بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمرك بشيء مما يسميه القوم " قشورًا "، أكنت تتجاسر أن تتقدم بين يديه، أو ترفع صوتك معترضًا عليه؟ إنك حتمًا وبمقتضى إيمانك ورضاك بالله ربًّا، وبالِإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا ستقول له:" نعم وكرامة، وسمعًا وطاعة يا من أفديه بأبي وأمي "، فكذلك فافعل مع سنته الشريفة بعد وفاته، فهذا واجبك مع سنته إذ لم تدرك صحبته صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني -حفظه الله تعالى- في سياق رده على من ادَّعى أن الِإسلام لا يهتم بكل المظاهر الشكلية ومنها اللحية: ( .. ومع أنها دعوى عارية عن الدليل؛ فإنها منقوضة أيضًا بأحاديث كثيرة
…
أقول: هذا الزعم باطل قطعًا، لا يشك في ذلك أي منصف متجرد من اتباع الهوى بعد أن يقف على الأحاديث الآتية، وكلها صحيحة:
1 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال ".
2 -
عن عائشة رضي الله عنها أن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت، فتمعَّط شعرها، فأرادوا أن يَصِلوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" لعن الله الواصلة والمستوصلة ".
3 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: " لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيراتِ خلق الله ".
4 -
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ ثوبين معصفرين، فقال:" إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها ".
أخرج هذه الأحاديث الشيخان في " صحيحيهما "، إلا الأخير منها فتفرد