الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول في التحريض على الجهاد والحثِّ عليه
ثُمَّ أتوجَّه بالخطاب إلى نفسي أوَّلَا وبالذات، وإليكم أيها الِإخوان والسَّادات (1)؛ فأصغوا آذانكم لما أقول، وتلقوه بالِإذعان والقبول: إنَّ الجهاد في سبيل الله لِإعلاء كلمة الله من أعظم العبادات البَدنية، قد ورد الأمر به والحثُّ عليه [في] الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
فمن الآيات: قوله تعالى -حيث استنفر الأنام لجهاد أعدائهم اللئام، ليُجازيهم على ذلك بما وعدهم من عظيبم جزائه-:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].
قال أهل التفسير: لمَّا نزلت هذه الآية قال المسلمون: لو علمنا هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأنفس .. فبيَّن الله تعالى لهم التجارة، فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
(1) كأن أصل هذه الرسالة خطبة جمعة أو نحو ذلك.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الصف: 11، 12].
فطوبى لمن امتثل أمر مولاه، وأطاعه في جميع ما منَّ به عليه وأولاه، وباع منه نفسه الخسيسة بنَيْل الدرجات، والحصول على أعظم المثوبات، وعمل على الوفاء بكريم عهده، وبذل في مرضاته ما ملكه
تصديقًا لصادق وعده، إذ قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
فيا لها من بيعة ما أعظم ربح صفقتها!، ويا لها من تجارة ما أسرع نُجْحَ نفقتها!، ربحتَ والله أيها البائع؛ في بيعِ ما أحل لك بيعه بما عنده من الودائع، وحصلت على الِإكسير الأعظم الذي لا يُخاف نفاده، ولا ينقطع إمداده. وكيف لا والشُّهداء مخصوصون بدرجات عالية، ومقامات سامية؛ أجسامهم لا تبلى، وأرواحهم عند المليك الأعلى؛ في النعيم الدَّائم يتقلبون، وبرضى مولاهم يستبشرون؛ لا يخافون فتنة القبور، ولا يحزنهم الفزع الأكبر يوم ينفخ في الصور.
قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
والآيات في ذلك كثيرة، وفيما ذُكر كفاية.
وأما الأحاديث النبوية: فمنها ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة
رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم، وتوكَّل الله للمجاهد في سبيله إنْ توفَّاه أنْ يُدخله الجنة أو يرجعه سالمًا مع أجر وغنيمة"(1).
وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ في الجنة مائة درجةٍ أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سَبيل الله، ما بين الدَّرجتينِ كما بين السَّماء والأرض، فإذا سألتُمُ اللهَ فاسألوهُ الفردوس؛ فإنهُ وسَطُ الجنَّة وأعلى الجنَّة، وفوقَهُ عَرْشُ الرَّحمنِ ومنه تُفَجَّرُ أنهارُ الجنَّة"(2).
وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما مِن عبدٍ يموت، لَهُ عند الله خيرٌ يَسرُّه أنْ يرجع إلى الدُّنيا، وأن له الدنيا وما فيها إلَاّ الشَّهيد، لما يرى من فَضْلِ الشَّهادة، فإنَّه يَسُرّهُ أن يرجع إلى الدُّنيا فيُقتل مرَّةً أُخرى"(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيدِهِ لولا أنَّ رجالاً من المؤمنين لا تطيبُ أنفسهم أن يتخلَّفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلَّفتُ عن سريَّةٍ تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لَوَددتُ أن أُقتَل في سبيل الله ثُمَّ أُحْيا، ثُمَّ أُقتَل ثُمَّ أُحْيا، ثُمَّ أُقتَل"(4).
وذكر ابن سَبُع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَوْقِفُ سَاعَةٍ في سبيلِ اللهِ أَفْضَلُ من شهودِ لَيْلَةِ
(1) البخاري (6/ 6 - الفتح)، ومسلم (3/ 1496).
(2)
البخاري (6/ 11) من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه مسلم (3/ 1498) من حديث أنس.
(4)
أخرجه مسلم (3/ 1495 - 1497) من حديث أبي هريرة.
القَدْرِ عِنْدَ الحَجَرِ الأسْودِ" (1).
وذُكر عن سعيد بن أبي هلال أنَّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل أُدركْ به عمل المجاهد في سبيل الله، قال:"لو قُمتَ الليل وصُمتَ النهار لم تبلغ نوم المُجاهد في سبيل الله"، قال: يا رسول الله، إنَّ لي مالاً فإذا أنفقته أيكون لي مثل أجر المُجاهد في سبيل الله؟ قال: "وكم
مالك؟ "، قال: ستة آلاف دينار. قال: "لو أنفقتها في طاعة الله لم تبلغ غُبار شراك نعل المُجاهد في سبيل الله" (2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَجْتَمِعُ غُبارٌ في سبيل اللَّهِ ودُخانُ جَهَنَّمَ في جَوْفِ عَبْدِ مسلم، ولا يجتمِعُ شُحٌّ وإِيمان في جَوْف عَبْدٍ أبدًا"(3).
وروى البخاري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما اغبرَّت قدما عبد في سبيل الله فتمسَّه النَّار"(4).
وقال أسد بن وداعة: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلثَّم من الغبار في سبيل الله (5).
(1) أخرجه ابن أبي عمر في "مسنده" كما في "المطالب العالية" لابن حجر (2/ 144)، وابن حبان (4603 - الِإحسان) من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 118) عن الحسن البصري مرسلاً، والمرسل من أقسام الحديث الضعيف.
(3)
أخرجه أحمد (2/ 342)، والنسائي (6/ 13 - 14)، وابن حبان (3251) وهو حديث صحيح.
(4)
البخاري (2/ 390).
(5)
لم أقف عليه، والله أعلم.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الملائكة تصلِّي على المغازي ما دامت حمائل سيفه ودرعِهِ وسلاحه عليه"(1).
وعنه عليه الصلاة والسلام: "لَرَوْحَة في سبيل الله أو غزوةٌ خَيْرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولو أنَّ امرأة من أهل الجنة اطَّلعت إلى أهل الأرض لأَضاءت ما بينها"(2).
فإذا فهمتَ ما تلوتُ عليك، وأصغيتَ إليه بأذنيك؛ علمتَ أنَّ النهوضَ لذلك من أهمِّ المهمات وأعظم المثوبات. فما هذه الغفلة العظيمة التي أضحتْ على القلوب مقيمة، ورَكنتْ إليها النفوس فأصبحت
من الرشاد والتوفيق عديمة؟!. أَوَ ما علمتم أنَّ أعداءكم -دمَّرهم الله- باحثون عليكم؟ مشتغلون بكل حيلة في نيل الوصل إليكم؟ وقد جمعوا من العَدَد والعُدَد، وأرسلوا جواسيسهم وعيونهم في كل بلد؛ ليخبروهم بما أنتم عليه من التهاون والغفلة؟! وأن عُدَّتكم بالنسبة إلى عدتهم في غاية الضعف والقلَّة، و {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
أَوَمَا بلغكم بما وقع لأهل الجزائر وما حولها من المسلمين من الكَفَرة والمعاندين: من إذلال دين سيِّد المرسلين، وأخذ عباد الله المؤمنين؟ فلمَّا عرفوا جميع أحوالكم وما أنتم عليه من عدم احتفالكم بهم
واشتغالكم؛ طمعوا لا بلَّغ الله لهم أملًا وقيل المراد، وأجمعوا بدَّد الله
(1) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 226) من حديث أنس، وإسناده لا يصح.
(2)
أخرجه البخاري (6/ 13) من حديث أبي هريرة.
شملهم فيما بلغنا عنهم على الخروج لهذه البلاد، والاستيلاء على أموال العباد.
مع أنه بلغنا أيضًا أن من استولوا عليه فهو في الجهد العظيم والعذاب الأليم، قد أُبدلوا بعد العزِّ والفرح غمًّا وحُزنًا، واستولى عليهم الكرب والقرح حِسًّا ومعنًى، قد وُثِّقوا بالسلاسل والحديد، وهم كل يوم في عذاب شديد، وصاروا من جملة المماليك والعبيد. كانوا بالأمس أغنياء آمنين، فأصبحوا فقراء خائفين؛ انتُهِبت أموالهم، وتغيَّرت أحوالهم، وفُرِّقت عنهم نساؤهم، وأُخذت منهم بناتهم وأبناؤهم، وصار الكفرة يتنافسون في بيعهم في الأثمان، وجعلوا يفرقونهم في سائر البلدان، ويريدون أن يفتنوهم عن دينهم، ويفسدوا عليهم قوَّة يقينهم.
فما هذه الغفلة عن إخوانكم يا معشر المسلمين؟ وهم منتظرون لكم في كل وقت وحين؛ لا يشبعون من طعام، ولا يجدون راحة في المنام.
فما حال مَن يَبيتُ في السلاسل مغلولًا؟! وبالقيود والأغلال معقولاً؟! لا يستخدمونهم إلَاّ بالانتهار والضرب، والشتم القبيح واللطم والسب؛ لا تُدركهم عليهم شفقة ولا رحمة، ولا يُبالون بما كلفوهم في ذلك من كربٍ أو نقمة؛ دموعهم على الوَجَنَات سائلة، وأحزانهم متوالية غير زائلة؛ لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا يقدرون على شيء من الأسباب سرًّا ولا جهرًا، إلَاّ البكاء والنَّحيب، والتضرُّع للسميع المجيب، العالِم بأحوالهم، القادر على خلاصهم من أغلالهم وأنكالهم.
فيا لها من حُرقةٍ ما أعظمها في القلوب، ويا لها من حسرةٍ يكاد القلب من سماع حكايتها يذوب؛ لا يغفل عنها إلَاّ من عَمِيتْ بصيرته وعظمت جريرته.
ألا مَنْ فيه غيرة؟!
ألا من يبرِّد حرّ هذه الجمرة؟!
أين رأفة أهل الإِسلام؟!
أين شفقة أمة محمَّد عليه الصلاة والسلام، الموصوفين بالأوصاف الجميلة، المخصوصين باتباع المخصوص بالفضيلة والوسيلة؟!
أَمَا بلغكم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما يَرْحمُ اللهُ مِنْ عبادِه الرُّحماءَ"(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء"(2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون كَجَسَدٍ واحِدٍ، إن اشْتكى عضو منه تداعى إليه سائر الجسد"(3).
فاقبلوا وصية نبيكم النَّاصح لجيِّدكم ورديِّكم، واستيقظوا من غفلتكم، وأفيقوا من سكرتكم.
أين أرباب الهمم العالية؟
أين أصحاب النفوس الزاكية؟
أين أرباب العقول، البائعون نفوسهم في نصرة دين الرسول؟
(1) أخرجه البخاري (3/ 151)، ومسلم (2/ 630) من حديث أسامة بن زيد.
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(2/ 160)، وأبو داود (4941)، والترمذي (1924)
وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث صحيح. انظر تفصيل الكلام عليه في رسالة "العروس المَجْلِيَّة" للزبيدي المطبوعة ضمن سلسلة لقاء العشر الأواخر (ص 32).
(3)
أخرجه البخاري (10/ 438)، ومسلم (4/ 2000) من حديث النعمان بن بشير.
أين الأبطال والشجعان؟
أين الأقيال (1) والفرسان؟
أين أرباب العدَّة؟
أين أصحاب البأس والشِّدَّة؟
أين أُسود الرِّجال المؤثرون برضوان ذي العظمة والجلال، الذين لا تدركهم دهشة ولا خوف عند القتال؟
أين مَنْ يهجر النوم والرقاد؟
أين من يترك الأهل والأولاد؟
هل من بائع نفسه من الله؟ هل من مستوجب جزيل الثواب من مولاه؟
هل من مخالف نفسه الأمَّارة؟ هل من مُنفق ماله في أعظم تجارة؟
فيا أيَّتها النفوس السَّالمة، والعقول الكاملة، افتحوا أعين بصائركم، واصغوا بقلوبكم إلى ناصحكم، وأطيعوا أمر أمير المؤمنين، وجاهدوا في الله تعالى أعداءكم أعداء الدِّين؛ واغتنموا في ذلك الأجر العظيم والثواب الجسيم؛ قال الله تعالى في محكم كتابه القديم:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 20 - 22].
ولا يثقل عليكم عباد الله بَذْلُ ما يفنى من أموالكم في نُصرة دينكم،
(1) قوله: الأقيال: جمع قيل، وهو الملك العظيم. اهـ من هامش المخطوط.
وانفكاك إخوانكم؛ فكأنكم بالدنيا لم تكونوا، وبالآخرة لم تزولوا، وكأن كل واحد به ملك الموت قد نزل، فندم على ما جمع، وانقطع له من نيل آماله الطمع، وفي حفرته تبدو له ثمرة ما زرع؛ ترك ذلك لمن بعده، وقد كان يظن أنه عنده من أعظم عدة، فقد أخطأ المسكين؛ أَمَا كان عليه شِبْه أمين؟!، بل العدَّة ما قدَّم منه أمامه؛ فيكون له أعظم ذخيرة يوم القيامة، ولا يغرَّنكم الشيطان، بتخويفه إيَّاكم الفقر على الأهل والولدان؛ فرزق كل ذي روح مقسوم، وما جرى به القلم محتوم، قال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
أفلا تنظرون إلى رفق الله جلَّ وعلا بمن بقي بعد والديه، كيف يقلِّب له القلوب، فكل أحدٍ يجد رأفة في قلبه عليه. فحسِّنوا ظنكم بمولاكم، واشكروه على ما أولاكم، {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج: 78]، وخالفوا الشيطان الذي بحبل غروره دلَاّكم، ولا تبخلوا؛ فالبخل أهلكَ مَنْ كان قبلكم، وتصدَّقوا؛ فالصدقة تزكَّي أعمالكم.
قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
وقال الضحَّاك في تفسير هذه الآية: مَنْ أخرج درهمًا من ماله ابتغاء مرضاة الله، فله في الدنيا بكل درهم سبعمائة درهم خَلَفًا عاجلاً، وألف ألف درهم يوم القيامة.
وقال عزَّ من قائل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة: 262]
وفي حديث عليِّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه قال: مَنْ قام لفرس غازٍ بمخلاته أو جَلَّلَهُ أو سقاه، فُتحت له ثمانية أبواب الجنَّة يدخل من أيها شاء (1).
وقال عليه الصلاة والسلام: "من ارتبط فرسًا في سبيل الله فأنفق عليه احتسابًا كان شبعه وربُّه وجوعه وظمؤه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة"(2).
وقال ابن سَبُع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَثُرت سيئاته وقلَّت حسناته فليرتبط فرسًا في سبيل الله، ومن ارتبط فرسًا في سبيل الله كان كمن نصر موسى وهارون وقاتل فرعون وهامان"(3).
وقال عليه الصلاة والسلام.: "إنَّ بُدلاء أُمَّتي لم يدخلوا الجنَّة بصلاةٍ ولا صيامٍ ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدر"(4).
وقال يحيى بن معاذ: ما أعرف حَبَّة تزن جبال الدُنيا إلَاّ الحبة من صدقة.
(1) ذكره ابن النحاس في "مشارع الأشواق"(1/ 314).
(2)
أخرجه أحمد (6/ 458)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 482) من حديث أسماء بنت يزيد، وإسناده ضعيف، فيه شهر بن حوشب، لين الحديث. ويغنى عنه ما أخرجه البخاري (6/ 57) من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"من احتبس فَرَسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعدِهِ فإن شِبَعَهُ وربَّهُ ورَوثَهُ في ميزانِهِ يوم القيامة".
(3)
لم أقف عليه.
(4)
أخرجه الدارقطني في "المستجاد" وأبو بكر ابن لال في "مكارم الأخلاق" من حديث أنس، وهو ضعيف جدًّا، أشار إلى ذلك الحافظ العراقي. انظر:"إتحاف السادة المتقين" للزبيدي (8/ 177).
وقال لقمان لابنه: إذا أخطأتَ خطيئة فأعط صدقة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنَّ الأعمال تتباهى، فقالت الصدقة: أنا أفضلها.
وقال عليه الصلاة والسلام: "تجافوا عن ذنب السخيّ، فإنَّ اللهَ أخذ بيده كلما عَثَر، وإيَّاكم والبخل، فإنه من أقبح الخصال"(1).
ومؤثره لا يصفى له حال؛ وسبب ذلك: حُبُّه لهذا الغَرَض الفاني، واشتغاله عن طاعة مولاه بالتعلُّل والأماني، ولم يعلم المسكين أنَّ حُبَّ الدنيا رأس كل خطيئة، وبغضها رأس كل حسنة، قال الله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 37 - 41].
وقال عليه الصلاة والسلام: "الدُّنيا ملعونةٌ مَلْعونٌ ما فيها إلَّا ذِكْرَ اللهِ وما والاهُ"(2).
وقال عليه الصلاة والسلام: "احذروا الدُّنيا، فإنها أسحر من هاروت وماروت"(3).
(1) أخرجه الخرائطي في "مكارم الأخلاق"(570)، والطبراني في "الأوسط"(5706) من حديث ابن عباس، وهو ضعيف. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 282):"وفيه جماعة لم أعرفهم".
(2)
أخرجه الترمذي (2323)، وابن ماجه (4112) وغيرهما من حديث أبي هريرة، وهو صحيح.
(3)
حديث منكر لا أصل له، كما ذكر ذلك الحافظ العراقي في "تخريج الِإحياء"(3/ 2004).
ورُوي أنَّ عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز شمطاء شوهاء، عليها من كل زينة، فقال لها: كم نُكحتِ؟ فقالت: لا أحصيهم. فقال: طلَّقوكِ أو ماتوا عنكِ؟ فقالت: بل قتلتهم كلهم. فقال لها عيسى عليه السلام: بؤسًا لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بالماضين!
فلا تغرَّنَّكم -عبادَ الله- بظاهر جمالها، وتفكَّروا في فعلها بالمُؤْثِرين لوصالها، كيف قطعت آمالهم، وصرمت حبالهم؛ أنستهم آجالهم، فأساؤوا أعمالهم، فندموا حيث لا ينفعهم الندم على تفريطهم
وتقصيرهم فيما تقدَّم.
* * *