الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني في الأسباب التي تقتضي امتداد أطماع الكفرة اللئام في نيل شيء من بلاد الإِسلام
اعلم أنَّ مَنْ خرج من حصن الشريعة المطهَّرة يُخشى عليه أن تختطفه الأعداء، ومن لم يَحمِ نفسه من الوقوع في المعاصي والمخالفات يستولي عليه الداء، فبسبب وقوعكم في المعاصي وفرقتكم، تجاسر العدوّ على هتك حرمتكم، فبادروا رحمكم الله لنصرة دينكم؛ لأنَّ ما أصابكم إنما هو من ضَعف إيمانكم وقلَّة يقينكم، واستهزائكم بأمور الدِّين، ومخالفتكم لسيِّد المرسلين، ومجاهرتكم بالفواحش لرب العالمين، واشتغالكم بجمع الحُطام، ولم تبالوا بجمعه من حلال أو حرام.
أطعتم الشيطان وعصيتم الرحمن، وأعطيتم النفوس مرادها ومشتهاها، وبَلَّغْتموها من المعصية غاية مناهاة تعدَّيتم حدود الشريعة إلى الأمور الشنيعة، كأنكم لم يُنَزَّلْ عليكم كتاب، ولا أمركم ونهاكم ربُّ الأرباب.
رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إن لم تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكرة ليصرفنَّ الله قلوب بعضكم إلى بعض، ويلعنكم كما لعن بني
إسرائيل؛ كانوا إذا عمل العامل منهم خطيئة نهاه الناهي تعذيرًا، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس؛ فلما رأى الله ذلك منهم صَرَف الله قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان داود عليه السلام وعيسى ابن مريم عليهما السلام، {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) [البقرة: 61].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إلا يُعذَّبُ العامَّة بِعَمَلِ الخاصَّةِ، ولكن إذا عملوا المنكر جِهارًا استحقوا العقوبة كلهم"(2).
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُذِّب أهل قرية فيها ثمانيةَ عَشَرَ ألفًا أعمالهم أعمال الأنبياء" قالوا: يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال:"لم يكونوا يغضبون لله ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر"(3).
وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: أيها الناس، إنَّكم تقرأون هذه الآيات وتتلونها على خلاف تأويلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ
…
} [المائدة: 105]، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قومَ عَمِلوا بالمعاصي وفيهم من يَقدر أن يُنكر عليهم فلم يفعل إلَاّ
(1) أخرجه بنحوه الطبراني في "الكبير" من حديث أبي موسى الأشعري كما في "مجمع الزوائد"(7/ 269)، وقال الهيثمي بعده:"رجاله رجال الصحيح". وله شاهد من حديث ابن مسعود: أخرجه أبو داود (337)، والطبراني في "الكبير"(110268) لكنه منقطع.
(2)
أخرجه أحمد (4/ 192)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2431) من حديث عدي بن عَميرة الكندي، وهو حديث حسن.
(3)
قال الحافظ العراقي في "تخريج الِإحياء"(2/ 310): "لم أقف عليه مرفوعًا".
يوشك أن يعمَّهم بعذاب من عنده" (1).
فانتبهوا رحمكم الله من نوم هذه الغفلة، وبادروا بالأعمال الصالحات، فقد أزلفت النُّقْلَةُ.
أَوَلَم تعلموا أنَّ بإقامة الحدودة تنزل الرحمة من الرب المعبود؟ وتستقيم بإذن الله جميع الأمور؟ وينقطع أهل البغي والفجور؟ فالقطع في السرقة فيه حِفظ الأموال، التي بها قامت سائر الأحوال، والحدُّ في الزنا فيه حفظ الإنساب، التي التباسها يؤدي إلى التخليطِ في الانتساب، والالتباسِ في المواريث التي أحلَّها رب الأرباب، أو، الحدُّ في القتل فيه حفظ النفوس، التي خُلقت لخدمة الملك القدوس، والحدُّ في القذف فيه حفظ الأعراض، وكذلك جميع حدود الشرع الشريف، المحفوظ من التبديل والتحريف.
فبدَّلتم وغيَّرتم أغلب ما إليه نُدِبتم، وأسعفتم الشيطان حيث دلَّكم بغروره، واستنزلكم بإضلاله وفجوره. وعصيتم سيّد البشر، في غالب ما نهى عنه وأمر، وجعلتم لأنفسكم ارتباطات استحسنتم ظواهرها بمخالطة الأجانب من أهل الملل، هي خلاف معتبر العادات، فأعقب ذلك خللاً (2)
وعللاً كإدخال السم في المطعومات، لا يصغي لاستماعها عاقل، ولا يرضى بذكرها ناقل.
(1) أخرجه بنحوه أحمد في "مسنده"(1/ 2)، أبو داود (4338)، والمروزي في "مسند أبي بكر الصديق"(86، 87)، وأبو يعلى في "مسنده"(132) وإسناده صحيح.
(2)
في الأصل: حبلًا.
وبعتم أنفسكم بالدينار والدرهم، الذي آخر الأول نار وآخر الثاني هم. فلما اتَّبعتم أهواءكم، وتبعتم أراذلكم ونساءكم وصغاركم وسفهاءكم؛ فَسَدت بها بتقدير الله جميع الأحوال، ورفعت البركة من
الأموال، وحُجِبتْ القلوب عن سماع المواعظ، فلم يؤثر فيها كلام حكيم ولا وعظ واعظ؛ فنعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق في السرِّ والِإعلان.
فسارعوا عباد الله لدخول حرز التوبة، وأقلعوا عن كل زلّة وحَوْبة، فعسى تنالوا إن شاء الله قُربة؛ لأنَّ التوبة تطهِّر العبد من قبائح سيِّئاته، ويكتسب بها في أعلا الفردوس جزيل هباته، فيصير بعد البعد قريبًا، وبعد الهجر حبيبًا.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"التائب حبيب الله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له"(1).
ومبدؤها الصبر عن المعاصي، ونهايتها اتباع سُنَّة شفيع الخلق من الداني والقاصي، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقال في فضل اتِّباع سُنَّة نبته وحبيبه عليه الصلاة والسلام:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
فإنكم إن امتثلتم أمر ربكم، واستغفرتموه من جميع ما سَلَف من مخالفتكم وقُبح ذنبكم، واتَّبعتم سُنَّة نبيّكم، وأحببتم بعضكم؛ نَفَس عنكم
(1) قال الحافظ العراقي في "تخريج الِإحياء"(4/ 5): "لم أجده بهذا اللفظ".
ما اشتدَّ من كربكم، وأصلح لكم ما اختلَّ من أحوال عزكم وظفركم بأعدائكم، وآتاكم النصر من أمامكم وورائكم، وأمدَّكم بنصره وعزّه، وأدخلكم في كنفه وحرزه، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، أي: إن تنصروا دين الله ورسوله
وخليفته ينصركم ويثبِّت أقدامكم.
فالبدارَ البدارَ معاشرَ المسلمين! والعجلَ العجلَ عبادَ الله المؤمنين! فهذا منادي التوجُّهِ يناديكم، وهذه الآيات والأحاديث تستفزكم لجهاد من طغى عليكم من أعاديكم، مذكَّرةً لكم بعض ما أعدَّ الله عز وجل للمجاهدين من عظيم ثوابه، وما ادَّخر لهم من الخيرات في أعلى الجنة مع خاصة أحبابه؛ فمن كان طالبًا رضوان ربه فهذا أوانه، ومن كان طامعًا في نَيْل قربه فهذا إبانه؛ لأنَّ الأعداء -دمَّرهم الله- قد استفاض من خبرهم بأنهم عازمون على الخروج إليكم، وقد اصطلحوا على الورود عليكم.
فاعزموا هممكم -رحمكم الله- للِإكثار من اكتساب العُدد، من أجاويد الخيل الموصلة للغرض في أقرب الأمد، وأقيموا إليهم الرحلة، وائتوهم على حين غفلة، ولا تعطوهم فترة ولا مُهلة، فعساكم إن أوجفتم عليهم بخيلكم ورَجِلِكم تظفروا إن شاء الله بآمالكم، وتحوزوا جميع ما بأيديهم، وتَغْنَموا أموالهم وأهليهم.
قال صلى الله عليه وسلم: "رباط ليلة على ساحل البحر أفضل من قيام الخلائق وصيامهم سنة، فإن مات (1) في رِباط فهو مرابط إلى يوم القيامة"(2).
(1) كررت في الأصل، خطأ.
(2)
لم أقف عليه بهذا اللفظ، ويغني عنه ما أخرجه مسلم (3/ 1520) من حديث =
وروى مكحول عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: فضل صلاة الرجل متقلدًا بسيفه في سبيل الله على صلاة الذي يصلي بغير سيف سبعون ضعفًا، ولو قلتُ سبعمائة ضِعف لكان ذلك (1).
وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ما اصطحب قوم في سبيل الله إلَاّ كان أعظمهم أجرًا أحسنهم خُلُقًا"(2).
فتمسَّكوا عباد الله بدينكم، واقتدوا بفعل نبيكم، وما كان عليه الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، من حمايتهم ونصرهم لدين الإِسلام، وملازمتهم لسُنَّة نبيِّه عليه السلام، وقد بالغ في أذيَّته المشركون
والمنافقون، وهو مع ذلك حين شَجُّوا وجهه الشريف وكسروا رُبَاعِيَتَه يقول:"اللَّهُمَ اغفِر لقومي فإنهم لا يعلمون"(3).
فينبغي للِإمام أو نائبه أن يأخذ بالاحتياط للمسلمين، وأن يرتبهم عند القتال كما ذكر العلماء في سائر الدواوين، فإذا وجد فيهم ضعفًا أو آنس فيهم خوفًا حضَّهم على الصبر واللَّجَإِ إلى الاستغفار، وكثرة الدعاء للملك القهَّار، الذي له القدرة والانتصار.
قال النووي رحمه الله تعالى: يُستحبُّ للمجاهد استحبابًا مؤكدًا أن يقرأ من القرآن ما تيسَّر، وأن يدعو بالدعاء المأثور الذي هو في الصحيح
= سلمان الفارسي مرفوعًا: الرباطُ يومٍ وليلةٍ خير من صيامِ شهر وقيامِهِ، وإِنْ مات جرى عليه عمله الذي كان يعملُهُ وأُجري عليه رِزقهُ، وأَمن الفتَّان".
(1)
ذكره ابن النَّحاس في "مشارع الأشواق"(1/ 498).
(2)
لم أجده بهذا اللفظ، وانظر:"إتحاف السَّادة المتقين" للزبيدي (6/ 207).
(3)
أخرجه البخاري (6/ 514)، ومسلم (3/ 1417) من حديث ابن مسعود.
مذكور: "لا إللهَ إِلَاّ اللهُ الحليمُ العظيمُ، لا إلهَ إلَاّ اللهُ ربُّ العَرْشِ الكريم العَظِيم، لا إلله إلَاّ اللهُ رب السماوات وربّ الأرض ربّ العرش الكريم، وحسبُنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوَّة إلَاّ بالله العليّ العظيم، اعتصمنا بالله، واستعنَّا بالله، توكلنا على الله"(1).
وكان عليه الصلاة والسلام إذا غزا يقول: "اللَّهُمَّ أنت عَضُدِي ونصيري، بِكَ أَحُولُ وبِكَ أَصول، وَبِكَ أُقاتل
…
" (2) إلى غير ذلك من الأدعية والأذكار المأثورة عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم، وبغير ذلك من التوسُّلات المأخوذة عن العلماء الأعلام والجهابذة الفخام.
وليختم جميع ذلك بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، فإنها باب القبول ونِعَم الختام.
* * *
(1) أخرجه بنحوه البخاري (11/ 145)، ومسلم (4/ 2092) من حديث ابن عباس.
وانظر كلام الِإمام النووي في كتاب "الأذكار" له (ص 343).
(2)
أخرجه أبو داود (2632)، والترمذي (3578) من حديث أنس وهو صحيح.
ومعنى: "عضدي" قوتي، أو ناصري ومُعيني.