الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد للإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني (1099 ـ 1182هـ)
اعتنى بإخراجهما وقدَّم لهما وعلَّق عليهما: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
تطيهر الاعتقاد وشرح الصدور للإمامين اليمنيين الصنعاني والشوكاني
الحمد لله الذي خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، وأشهد أن لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له في ربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدِّين كلِّه، فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فإنَّ نعم الله على عباده كثيرة لا تُعدُّ ولا تُحصى، وأعظمُ نعمة أنعم بها على أهل الأرض أن بعث فيهم رُسلَه الكرام، ليُخرجوهم بإذن ربِّهم من الظلمات إلى النور، ويُبيِّنوا لهم أنَّ الواجبَ عليهم إخلاص العبادة لله وحده، وألَاّ يشركوا به أحداً من مخلوقاته، وقد قام الرسلُ الكرام بتبليغ ما أُمروا بتبليغه على التمام والكمال، وقد ختم الله هذه الرسالات برسالة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجنِّ والإنس، وهم أمَّته أي أمَّة الدعوة، فدلَّهم على كلِّ خير، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، وأعظمُ شيء دلَّهم عليه إفراد الله بالعبادة، وأعظم شيء نهاهم عنه أن يجعلوا مع الله آلهة أخرى، فمَن وفَّقه الله منهم استسلم وانقاد لِمَا جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومَن كان من أهل الخذلان أعرض عن الحقِّ والهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
ومن أعظم الوسائل التي تفضي إلى الشرك البناء على القبور وتعظيمها، ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
في تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد، ومنها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس ليال، ومنها ما قاله عند نزع روحه صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الدلالة الواضحة على أنَّها مُحكمةٌ غير منسوخة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يعش بعد أن قالها، فلا يكون هناك مجال للنسخ، وهذا من كمال بيانه ونصحه لأمَّته وشفقته عليها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد اعتنى العلماء قديماً وحديثاً ببيان خطر البناء على القبور والافتتان بها، وأنَّ ذلك يُفضي إلى الشرك، ومن هؤلاء العلماء عالِمان يَمنيان عاش أحدُهما في القرن الثاني عشر، والآخر في القرن الثاني عشر والثالث عشر، وهما الشيخ الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني المولود سنة (1099هـ) ، والمتوفى سنة (1182هـ) ، وقد ألف في ذلك كتابه "تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، والثاني الشيخ الإمام محمد ابن علي الشوكاني، المولود سنة (1172هـ) ، والمتوفى سنة (1250هـ)، وقد ألَّف في ذلك كتابه:"شرح الصدور في تحريم رفع القبور".
وقد رأيت أن أجمع بين هذين الكتابين تيسيراً للانتفاع بهما، مع التعليق على مواضع منهما، وأن أقدِّم بين يدي ذلك بمقدِّمة تشتمل على خمسة فصول:
الفصل الأول: في التعريف بالإمامَين الصنعاني والشوكاني وكتابيهما "تطهير الاعتقاد" و"شرح الصدور" من كلام شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله، نقلاً من تقديمه للجامع الفريد طبعة الجميح.
الفصل الثاني: في بيان تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبيَّة وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
الفصل الثالث: في اتِّفاق دعوة الرسل على إفراد الله بالعبادة، واتِّفاق أقوامهم على معارضتهم واتِّباعهم ملَّة الآباء.
الفصل الرابع: في تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد وما يُفضي إليه من الشرك بدعاء أهلها والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وغير ذلك مِمَّا لا يُطلب إلَاّ من الله.
الفصل الخامس: في حكم دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم، ومتى يُحكم على مَن دعاهم واستغاث بهم بالكفر؟
وأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا العمل، وأن يوفِّق المسلمين للفقه في دينهم وعبادة ربِّهم على الوجه الذي شرعه لهم، وأن يُسلِّمهم من الوقوع في الشرك، وأن يَقيَهم الوسائل والذرائع الموصلة إليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه.
جعل بعضهم حجة على بعض، عند التنازع في المسائل العلمية1، وإنَّما يوجب ذلك التعاون بينهم فيأخذ القويُّ بيد الضعيف، ويكشف عن غامض المسائل وأدلَّتها، ويدله على طرق الاستدلال حتى ينهض ويصير في عداد العلماء، ثم ذكر مسألة تحريم رفع القبور والبناء عليها على سبيل المثال؛ ليوضح بذلك طريقة العلماء في الرجوع عند التنازع إلى الكتاب والسنة، فذكر الأحاديث الكثيرة في تحريم رفع القبور والبناء عليها ووجوب هدم ما كان مبنيًّا عليها، وتحريم اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ولعن مَن فعل ذلك، وبيَّن وجه الاستدلال بها على المطلوب، والحكمة التي روعيت في ذلك، وأفاض في ذكر الفتن التي تنشأ عن هذه البدع، وأنَّها ذريعة إلى الشرك الأكبر، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا وإيَّاه في دار كرامته، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين".
1 في المطبوع: "وأذن في العلماء وإن تفاوتوا في تحمل المسئولية وفي الفضل والجزاء تبَعاً لتفاوتهم في العلم والإمامة والوجاهة، ولا يصح أن يتعلَّل بذلك في جعل بعضهم حجة بعض
…
"، ولعل الصواب ما أثبته.
الفصل الثاني: في بيان تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبيَّة وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
الإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وأنَّه سبحانه وتعالى متَّصفٌ بكلِّ كمال يليق به، منَزَّهٌ عن كلِّ نقص، فيجب توحيده بربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته.
وتوحيده بربوبيَّته الإقرارُ بأنَّه واحد في أفعاله، لا شريك له فيها، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة، وتدبير الأمور والتصرّف في الكون، وغير ذلك مِمَّا يتعلَّق بربوبيَّته.
وتوحيد الألوهيَّة توحيده بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرَّجاء والتوكُّل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذَّبح والنَّذر، وغيرها من أنواع العبادة التي يجب إفراده بها، فلا يُصرف منها شيء لغيره، ولو كان ملَكاً مقرَّباً أو نبيًّا مرسَلاً، فضلاً عمَّن سواهما.
وأمَّا توحيد الأسماء والصفات، فهو إثبات كلِّ ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تكييف أو تمثيل، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، كما قال الله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فجمع في هذه الآية بين الإثبات والتنزيه، فالإثبات في قوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والتنزيه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فله سبحانه وتعالى سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وهكذا يُقال في كلِّ ما ثبت لله من الأسماء والصفات.
وهذا التقسيم لأنواع التوحيد عُرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسُّنَّة، ويتَّضح ذلك بأوَّل سورة في القرآن، وآخر سورة؛ فإنَّ كلاًّ منهما مشتملةٌ على أنواع التوحيد الثلاثة.
فأمَّا سورة الفاتحة، فإنَّ الآيةَ الأولى فيها، وهي:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مشتملةٌ على هذه الأنواع؛ فإنَّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فيها توحيد الألوهية؛ لأنَّ إضافةَ الحمد إليه من العباد عبادةٌ، وفي قوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو كون الله عز وجل ربَّ العالمين، والعالَمون هم كلُّ مَن سوى الله؛ فإنَّه ليس في الوجود إلَاّ خالقٌ ومخلوق، والله الخالقُ، وكلُّ مَن سواه مخلوق، ومن أسماء الله الرب، وقبله لفظ الجلالة في هذه الآية.
وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مشتملٌ على توحيد الأسماء والصفات، والرحمن والرحيم اسمان من أسماء الله يدُلَاّن على صفة من صفات الله، وهي الرَّحمة، وأسماءُ الله كلُّها مشتقَّةٌ، وليس فيها اسم جامد، وكلُّ اسم من الأسماء يدلُّ على صفة من صفاته.
و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو سبحانه مالك الدنيا والآخرة، وإنَّما خصَّ يوم الدِّين بأنَّ اللهَ مالكُه؛ لأنَّ ذلك اليوم يخضعُ فيه الجميعُ لربِّ العالَمين، بخلاف الدنيا، فإنَّه وُجد فيها من عتا وتَجبَّر، وقال:{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
فيه إثباتُ توحيد الألوهية، وتقديمُ المفعول وهو {إِيَّاكَ} يُفيد الحصرَ، والمعنى: نخصُّكَ بالعبادة والاستعانة، ولا نشرك معك أحداً.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الفصل الأول: في التعريف بالإمامَين الصنعاني والشوكاني وكتابيهما "تطهير الاعتقاد" و"شرح الصدور" من كلام شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله، نقلا من تقديمه للجامع الفريد طبعة الجميح.
أوَّلاً: الإمام الصنعاني:
"هو العالم الفاضل محدِّث وقته وفقيه زمانه الشيخ محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الكحلاني ثم الصنعاني، وُلد بكحلان عام (1099هـ) ، وحُبِّبت إليه الرحلة في طلب العلم، وانتقل إلى صنعاء وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى الحجاز وأخذ عن كبار علماء مكة والمدينة، ثم عاد إلى صنعاء لنشر العلم، وإحياء السنة والقضاء على البدعة، فجلس للتدريس وبذل فيه جهده، حتى اشتهر أمرُه وعلا قدرُه وارتفع سهمه، وصار مرجعاً لأهل العلم ببلاده، ونهض بالدعوة إلى الإصلاح، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصدع بالحقِّ وشدَّد في النكير على المبتدعة والمنحرفين، لا يُبالي بما يُصيبه من أذاهم، ولا يخشى في الله لومة لائم، فكفاه الله غائلتَهم، واجتمع حوله خلق كثير، وكان له من الأثر المحمود ما نرجو أن يجزيه الله به خير الجزاء.
وإلى جانب ما قام به بعد التدريس والوعظ والإصلاح، ألَّف كتباً ورسائل كثيرة، منها:"سبل السلام شرح بلوغ المرام"، و"العدة"، وهي تعليقات حشَّى بها الإحكام لابن دقيق العيد على "عمدة الأحكام"، و"قصب السكر نظم نخبة الفكر" لابن حجر، وشرحه بكتاب سمَّاه "إسبال المطر"، و"إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد"،
و"تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، وهو الكتاب الذي نقدِّمه للقراء.
إنَّ هذا الكتاب مع صغر حجمه عَظُم نفعه وعمَّت فائدتُه، وقد رتَّبه المؤلِّف على مقدمة وخمسة أصول وجملة فصول، أمَّا المقدمة فذكر فيها ما حمله على تأليفه من انتشار الشرك في الأمصار والبلاد بتعظيم السواد الأعظم من الناس للقبور ومن فيها تعظيماً لا ينبغي أن يكون إلَاّ لله وحده، واعتقادهم في الكهنة الذين يزعمون الكشف وعلم الغيب، وتصديقهم إيَّاهم في ذلك، وأمَّا الأصول ففي بيان أنَّ القرآن حقٌّ وقولٌ صدق، وأنَّ الرسلَ إنَّما بُعثوا بتوحيد الألوهية، وأنَّه أساس صحة العبادة وقبولها، أمَّا توحيد الربوبية فهو مركوز في الفطر، وقد أقرَّ به المشركون، ولكنَّه لا يُغني عنهم شيئاً لإخلالهم بتوحيد العبادة، وأمَّا الفصول فقد فصل فيها ما أجمله في الأصول الخمسة من أنواع العبادة والاستدلال عليها، وذكر فيها كثيراً من الشبه التي يتعلَّل بها المبتدعة لشركهم وأجاب عنها، وجعل ذلك على صورة السؤال والجواب؛ تحديداً للمطلوب وتيسيراً للفهم حتى تقوم الحجة ويتم الإعذار، فالله أسأل أن يغفر لنا وله ويفيض علينا من رحماته ويسكننا فسيح جنَّاته، إنَّه مجيب الدعاء، وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
ثانياً: الإمام الشوكاني:
"هو العالم الفاضل الشيخ محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني، وُلد في ذي القعدة عام (1172هـ) ، وتوفي في جمادى الآخرة عام (1250هـ) رحمه الله.
حفظ القرآن وجوَّده على جماعة من المعلمين بصنعاء، وحفظ كثيراً من المتون في الفقه وأصوله وفي النحو والبلاغة والمنطق وأدب البحث والمناظرة وغيرها من الفنون المختلفة، ثم حضر مجالس العلماء فتلقَّى عنهم شروح هذه المتون وغيرها من المؤلفات، وبذل جهده في ذلك حتى تفوَّق في كثير من علوم الشريعة واللغة العربية، واشتغل بالتدريس والتأليف حتى لقي ربَّه فانتفع به خلق كثير، وانتشرت مؤلفاته بين المتعلمين في الأمصار والبلاد، وهي كثيرة منها:"نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"، و"إرشاد الفحول في علم الأصول"، و"الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد"، و"مفيد المستفيد في الردِّ على من أنكر الاجتهاد من أهل التقليد"، و"رسالة شرح الصدور في تحريم رفع القبور"، وهي التي نقدِّمها للقراء.
بدأ المؤلِّفُ هذه الرسالة ببيان وجوب الردِّ عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنَّهما الحكم العدل الذي يفصل بين الحقِّ والباطل عند الاختلاف، واستدلَّ على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، وأنَّ العلماء وإن تفاوتوا في تحمل المسئولية وفي الفضل والجزاء تبَعاً لتفاوتهم في العلم والإمامة والوجاهة، فلا يصح أن يتعلَّل بذلك في
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فيه إثبات توحيد الألوهية؛ فإنَّ طلبَ الهداية من الله دعاءٌ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدعاءُ هو العبادة"، فيسأل العبدُ ربَّه في هذا الدعاء أن يَهديَه الصرطَ المستقيمَ الذي سلكه النبيُّون والصدِّيقون والشهداء والصالِحون، الذين هم أهل التوحيد، ويسأله أن يُجنِّبَه طريقَ المغضوب عليهم والضالِّين، الذين لَم يحصل منهم التوحيدُ، بل حصل منهم الشِّركُ بالله وعبادةُ غيره معه.
وأمَّا سورة الناس، فقوله:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثباتُ أنواع التوحيد الثلاثة؛ فإنَّ الاستعاذةَ بالله فيه توحيد الألوهيَّة.
و {بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات توحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، وهو مثل قول الله عز وجل في أول الفاتحة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ} فيه إثباتُ الربوبيَّة والأسماء والصفات.
و {إِلَهِ النَّاسِ} فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات.
والنسبةُ بين أنواع التوحيد الثلاثة هذه أن يُقال: إنَّ توحيدَ الربوبيَّة وتوحيدَ الأسماء والصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهيَّة متضمِّنٌ لهما، والمعنى أنَّ مَن أقرَّ بالألوهيَّة فإنَّه يكونُ مُقرًّا بتوحيد الربوبيَّة وبتوحيد الأسماء والصفات؛ لأنَّ مَن أقرَّ بأنَّ اللهَ هو المعبودُ وحده فخصَّه بالعبادة ولم يجعل له شريكاً فيها، لا يكون منكراً أنَّ اللهَ هو الخالقُ الرازقُ المُحيي المميتُ، وأنَّ له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى.
وأمَّا مَن أقرَّ بتوحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، فإنَّه يلزمه أن يُقرَّ بتوحيد الألوهيَّة، وقد أقرَّ الكفَّارُ الذين بُعث فيهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بتوحيد الربُوبيَّة، فلَم يُدخلهم هذا الإقرارُ في الإسلام، بل قاتَلَهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى يَعبدوا اللهَ وحده لا شريك له، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن تقريرُ توحيد الربوبيَّة الذي أقرَّ به الكفَّارُ؛ لإلزامهم بالإقرار بتوحيد الألوهيَّة، ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
ففي كلِّ آية من هذه الآيات تقريرُ توحيد الربوبيَّة للإلزام بتوحيد الألوهيَّة، فيقول في كلِّ آية من هذه الآيات الخمس عقب تقرير توحيد الربوبيَّة:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ، والمعنى أنَّ مَن تفرَّد بهذه الأفعال التي هي من أفعال الله وحده، يجبُ أن يُخصَّ بالعبادة وحده؛ لأنَّ مَن اختصَّ بالخلْق والإيجاد وغيرها من أفعال الله يَجب أن يُخصَّ بالعبادة وحده، وكيف يُعقل أن تكون المخلوقات التي كانت عَدَماً، وقد أوجدَها الله، كيف يُعقل أن يكون لها نصيبٌ من العبادة وهي مخلوقةٌ لله؟!
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان (3/409 ـ 414) عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} : "فمِن ذلك توحيد الله جلَّ وعلا، فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده جلَّ وعلا في ربوبيَّته وفي عبادته، وفي أسمائه وصفاته، وقد دلَّ استقراء القرآن العظيم على أنَّ توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده في ربوبيَّته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُُ} الآية، وقال:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}
، وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} تجاهل من عارف أنَّه عبدٌ مربوب؛ بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} الآية، وقوله:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} ، وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلَاّ بإخلاص العبادة لله، كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدًّا.
الثاني: توحيده جلَّ وعلا في عبادته، وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى (لا إله إلَاّ الله) ، وهي متركِّبةٌ من نفي وإثبات، فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت، ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
ومن الآيات الدَّالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ وقوله لِذَ نْبِكَ} الآية، وقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ،:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وقوله:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ، وقوله:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنَّ ما أوحى إليه محصور في هذا النوع من التوحيد؛ لشمول كلمة (لا إله إلَاّ الله) لجميع ما جاء في الكتب؛ لأنَّها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده، فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة.
النوع الثالث: توحيده جلَّ وعلا في أسمائه وصفاته، وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين:
الأول: تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله، كما قال بعد قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتِّصاف، قال تعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، وقد قدَّمنا هذا المبحث مستوفى موضحاً بالآيات القرآنية في سورة الأعراف.
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيَّته
جلَّ وعلا على وجوب توحيده في عبادته، ولذلك يُخاطبُهم في توحيد الربوبيَّة باستفهام التقرير، فإذا أقرُّوا بربوبيَّته احتجَّ بها عليهم على أنَّه هو المستحق لأن يُعبد وحده، ووبَّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنَّه هو الرب وحده؛ لأنَّ مَن اعترف بأنَّه هو الربُّ وحده لزمه الاعتراف بأنَّه هو المستحق لأن يُعبد وحده.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} فلمَّا أقرُّوا بربوبيَّته وبَّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره بقوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} .
ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ َسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ، فلمَّا اعترفوا وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، فلمَّا أقرُّوا وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ثم قال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ، فلمَّا أقرُّوا وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ الاعتراف وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}
ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ إقرارُهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله:{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ،
وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ إقرارُهم وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} ، وقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره: هو أنَّ القادرَ على خلق السموات والأرض وما ذكر معها خير من جماد لا يقدر على شيء، فلمّا تعيَّن اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، ثم قال تعالى:{أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله، فلمّا تعيَّن اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ، ثم قال جلَّ وعلا:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب كما قبله، فلمَّا تعيَّن إقرارهم بذلك وبَّخهم منكراً عليهم بقوله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، ثم قال تعالى:{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب كما قبله، فلمَّا تعيَّن إقرارهم بذلك وبَّخهم منكراً عليهم بقوله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب كما قبله، فلمَّا تعيَّن الاعتراف وبَّخهم منكراً عليهم بقوله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وقوله:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو: لا! أي ليس من شركائنا مَن يقدر على أن يفعل شيئاً من ذلك المذكور من الخلق والرَّزق والإماتة والإحياء، فلمَّا تعيَّن اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} والآيات بنحو هذا كثيرة جدًّا، ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع أنَّ كلَّ الأسئلة المتعلِّقة بتوحيد الربوبيَّة استفهامات تقرير، يُراد منها أنَّهم إذا أقرُّوا رتَّب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار؛ لأنَّ المقرَّ بالربوبيَّة يلزمه الإقرارُ بالألوهيَّة ضرورة، نحو قوله تعالى:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} ، وقوله:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} ، وإن زعم بعض العلماء أنَّ هذا استفهام إنكار؛ لأنَّ استقراء القرآن دلَّ على أنَّ الاستفهام المتعلِّق بالربوبيَّة استفهام تقرير وليس استفهام إنكار؛ لأنَّهم لا ينكرون الربوبيَّة كما رأيت كثرة الآيات الدَّالَّة عليه. والكلام على أقسام التوحيد ستجده إن شاء الله في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك، بحسب المناسبات في الآيات التي نتكلَّم على بيانها بآيات أخر".
الفصل الثالث: في اتِّفاق دعوة الرسل على إفراد الله بالعبادة، واتِّفاق أقوامهم على معارضتهم واتِّباعهم لِملَّة الآباء.
خلق الله الخلق ليعبدوه، فقال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ، أي: خلقهم لأمرهم بعبادة الله وحده ونهيهم عن عبادة كلِّ مَن سواه، وقد جاءت آيات الكتاب العزيز دالَّة على هذه الدعوة إجمالاً وتفصيلاً، وجاءت الآيات أيضاً إجمالاً وتفصيلاً دالَّة على كفر أقوامهم بهم وبقائهم على ما كان عليه آباؤهم.
فمن الآيات الدَّالَّة إجمالاً على دعوة الرسل أممهم إلى إفراد الله بالعبادة قول الله عز وجل في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَا أَنَا فَاتَّقُونِ} ، وقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقوله في سورة الأنبياء:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
ومن الآيات الدالة إجمالاً على كفر أقوامهم بهم وبقائهم على ما كان عليه آباؤهم قول الله عز وجل في سورة إبراهيم: {لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
وقد أخبر الله في هاتين الآيتين عن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلَاّ الله أنَّهم قالوا لرسلهم: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} ، وأنَّهم قالوا:{إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ومنها قوله تعالى في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، وقوله في سورة الزخرف:{كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} ، وقوله في سورة الذاريات:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وأمَّا الآيات الدالة تفصيلاً على دعوة كلِّ رسول قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ورد قومه عليه بالكفر به والبقاء على ما كان عليه الآباء فقد قال الله عن نوح في سورة الأعراف: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، وقال في سورة هود:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌأَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} ، وقال في سورة المؤمنون:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقال في سورة الشعراء:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وقال في سورة نوح:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ َنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}
وقال عن ردِّ قومه عليه في سورة المؤمنون: {َقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} وقال عن هود في سورة الأعراف: {إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقال في سورة هود:{َإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} ، وقال في سورة المؤمنون:{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ َأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، قيل: هو هود، وقيل: هو صالح، وقال في سورة الشعراء:{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وقال في سورة فصلت:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} ، وقال في سورة الأحقاف:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقال عن ردِّ قومه عليه في سورة الأعراف: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ، وقال في سورة هود:{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} ، وقال في سورة الأحقاف:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وقال عن صالح في سورة الأعراف: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ،
وقال في سورة هود: {إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ، وقال في الشعراء:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وقال في النمل:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} ، وقال في فصلت:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} وقال عن ردِّ قومه عليه في سورة هود: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} وقال عن لوط في الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وقال في القمر: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ}
وقال عن إبراهيم في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، وقال في سورة إبراهيم:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} ، وقال في مريم:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} ، وقال في الأنبياء:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} ، وقال: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ} ، وقال في سورة الشعراء:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، وقال في العنكبوت:{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقال أيضاً:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ، وقال في الصافات:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقال:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، وقال في الزخرف:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وقال في الممتحنة:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وقال في ردِّ قومه عليه: جواب أبيه في سورة مريم: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} ، وقال في الأنبياء:{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} ، وقال: {قَالُوا حَرِّقُوهُ
وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ، وقال في الشعراء:{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وقال عن شعيب في الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ، وقال في هود:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} ، وقال في الشعراء:{كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وقال في العنكبوت:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} وقال عن ردِّ قومه عليه في الأعراف: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ، وقال في هود:{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقال عن يعقوب في البقرة: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقال عن موسى في البقرة: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} ، وقال في آل عمران:{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال في الأعراف:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، وقال: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ
عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ، وقال:{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} ، وقال في الانفال:{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال:{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} وقال في التوبة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} ، وقال في يونس:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ بِآياتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} ، وقال في هود:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} ، وقال في إبراهيم:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وقال: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} وقال في الإسراء: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلَاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} ، وقال:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراًقَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} ، وقال في طه:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} ، وقال في المؤمنون: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} ، وقال في الفرقان:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} ، وقال في الشعراء:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} ، وقال في النمل:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، وقال في العنكبوت:{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} ، وقال في غافر:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ، وقال في الزخرف:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} ، وقال في القمر:{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} ، وقال في المزمل:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} ، وقال في النازعات:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} وقال عن ردِّ قومه عليه في يونس: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} ، وقال في القصص:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} وقال عن عيسى في آل عمران: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، وقال في المائدة:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ، وقال:{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ، وقال في التوبة:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وقال في مريم:{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، وقال في الزخرف:{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، وقال في الصف:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} وقال عن سليمان في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ، وقال عن إلياس في الصافات:{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} وقال عن يونس في الصافات: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يزيدون
وقد ختم الله الرسالات برسالة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجنِّ والإنس، فدلَّ أمَّته على كلِّ خير، وحذَّرها من كلِّ شرٍّ، وأعظمُ شيء دعاها إليه إفراد الله بالعبادة، وأعظمُ شيء نهاها عنه أن يُشرك معه أحد في العبادة، وقد أعلن ذلك أول ما بعثه الله بقوله صلى الله عليه وسلم:"يا أيُّها الناس! قولوا لا إله إلَاّ الله تفلحوا" أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح (16603) ، وقد جاء في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة في دعوته إلى التوحيد وتحذيره من الشرك، وآيات كثيرة في ردِّ قومه عليه، وأنَّهم باقون على ملَّة آبائهم، فمن الآيات في الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك قوله عز وجل في البقرة:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقد ابتُدئت الآية الأولى بالأمر بعبادة الله وحده، وخُتمت الآية الثانية بالنهي عن الشرك، وقوله في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، وقوله في الأعراف:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وقال في الحج:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ، وقوله في الكهف وفصلت:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، وقوله في الذاريات:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، وقوله:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ومن الآيات في ردِّ قومه عليه قوله تعالى في البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، وقوله في المائدة:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، وقوله في يونس:{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} ، وقوله في الأنبياء:{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} ، وقوله في الفرقان:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ، وقوله في لقمان:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، وقوله في سبأ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} ، وقوله في الصافات:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، وقوله في ص:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}
ولَمَّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعوده وعنده رجلان، فقال له: يا عم! قل لا إله إلَاّ الله؛ كلمة أحاجُّ لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملَّة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: على ملَّة عبد المطلب" رواه البخاري (3884) ومسلم (24) .
وقد تبيَّن بهذه الآيات الكثيرة الدالَّة إجمالاً وتفصيلاً على دعوة الرسل أقوامهم إلى إفراد الله بالعبادة أنَّ الواجبَ الاهتمام والعناية بالدعوة إلى توحيد الألوهية، اقتداءً برسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام؛ لأنَّه التوحيد الذي خلق الله الخلق لأَمْرهم به ونهيهم عن صرف العبادة لأحد سواه، وهو الذي من أجله أُرسلت الرسل وأُنزلت الكتب، ولا يجوز التشاغل عنه بالاهتمام والعناية بتقرير توحيد الربوبية؛ لأنَّ ذلك مركوزٌ في الفطر ولَم تُنكره الأُمم، بل هي مقرَّةٌ به، ولم يُدخلهم إقرارُهم به في الإسلام، ومن الآثار السيِّئة المترتِّبة على اشتغال كثير من المنتسبين إلى العلم بتقرير توحيد الربوبية وعدم عنايتهم بتقرير توحيد الألوهية، ما ابتُلي به كثيرٌ من الناس في مختلف البلاد الإسلامية من الافتتان بالقبور والبناء عليها واتخاذها مساجد، وما يحصل من كثير من الناس من دعاء أهلها والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وغير ذلك مِمَّا لا يجوز أن يُطلب من غير الله.
ومن باب أولى ما يفعله بعضُ الناس من التشاغل عن تقرير توحيد الألوهية ودعوة المسلمين إلى إخلاص العبادة لله وحده وتحذيرهم من الشرك الذي ابتُلي به المفتونون بالقبور، وذلك باشتغالهم بتقرير إثبات وجود الله بغية إقناع الشيوعيِّين؛ فإنَّ هذا وإن كان مطلوباً في الجملة، إلَاّ أنَّه لا يجوز أن يكون على حساب إهمال المحافظة على سلامة عقائد المسلمين، فإنَّ المحافظة على رأس المال مقدَّمةٌ على البحث عن الرِّبح، ومَثل من يكون كذلك كالذي يُحاول أن يعمرَ قصراً وهو يهدم مصراً، وكالذي يُحاول أن يصيد الطير في الهواء وهو لم يحافظ على ما في حوزته من الطيور، وأوَّلُ شيء عمله أبو بكر الصديق رضي الله عنة في خلافته أنَّه صرف همَّته إلى إصلاح الخلل الداخلي الذي حصل بعد وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من حصول الرِّدَّة من بعض المسلمين ومنعهم الزكاة، ثم بعد ذلك اتَّجه إلى إرسال الجيوش لغزو الفرس وغيرهم.
الفصل الرابع: في تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد وما يُفضي إليه من الشرك بدعاء أهلها والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وغير ذلك مِمَّا لا يُطلب إلَاّ من الله.
الشرك بالله عبادة غير الله معه، وهو أعظمُ ذنب عُصي الله به، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، قال الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} في آيتين من سورة النساء، وهو الذنب الذي يُخلَّد صاحبُه في النار أبد الآباد، ولا سبيل له للخروج منها، كما قال الله عز وجل:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} ، وقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} ، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} ، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} ، وقال:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} ، وفي صحيح البخاري (4761) ومسلم (141) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك" الحديث.
وقد كثرت نصوص الكتاب والسنة في النهي عن الشرك والتحذير منه وبيان خطره، بل جاءت النصوص في سدِّ الذرائع التي تؤدِّي إليه، من ذلك البناء على القبور وتعظيمها واتِّخاذها مساجد، وقد تواترت
الأحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين (3/151) في الوجوه التسعة والتسعين التي أوردها في سدِّ الذرائع قال:"الوجه الثالث عشر: أنَّ النَّبيَّّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولَعَن مَن فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتِّخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتِّخاذها عيداً، وعن شدِّ الرحال إليها؛ لئلَاّ يكون ذلك ذريعةً إلى اتِّخاذها أوثاناً والإشراك بها، وحرم ذلك على مَن قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه سدًّا للذريعة".
ومن أبواب كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "باب: ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جَنَاب التوحيد وسدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك"، و"باب ما جاء أنَّ الغلوَّ في قبور الصالحين يُصيِّرها أوثاناً تُعبدُ من دون الله"، و"باب ما جاء أنَّ سببَ كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلوُّ في الصالحين"، و"باب ما جاء من التغليظ فيمن عَبَد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبَده؟! "، وقد أورد آيات وأحاديث وآثاراً في ذلك، كما هي طريقته رحمه الله في هذا الكتاب.
ومن الأحاديث الواردة في تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد وغير ذلك مِمَّا هو وسيلة إلى الشرك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي الهيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: "ألَا أبعثُكَ على ما بعثنِي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تَدَعَ تِمثالاً إلَاّ طمَستَه، ولا قبراً مُشرفاً إلَاّ سوَّيتَه"، وفي لفظ:"ولا صورةً إلَاّ طَمستَها".
وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما
قالا: "لَمَّا نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفِق يطرحُ خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، يُحذِّرُ ما صنعوا".
وقولهما رضي الله عنهما في الحديث: "لَمَّا نُزل" يَعنيَان الموتَ، وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الدعاء على اليهود والنصارى باللَّعن.
الأمر الثاني: بيان سبب اللَّعن، وهو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
والأمر الثالث: بيان الغرض من ذكر ذلك، وهو تحذيرُ هذه الأمَّة من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، فيستحقُّوا اللَّعنة، قال الحافظ في الفتح (1/532) في شرح هذا الحديث:"وكأنَّه صلى الله عليه وسلم علم أنَّه مرتحلٌ من ذلك المرض، فخاف أن يُعظَّم قبرُه كما فعل مَن مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمِّ مَن يفعلُ فعلَهم".
وثبت في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله البَجَليِّ أنَّه قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ، وهو يقول:"إنِّي أبرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً، ألَا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالِحيهم مساجد، ألَا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، إنِّي أنهاكم عن ذلك".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتَل الله اليهودَ؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد"، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها وصْفُ الذين يَبنونَ المساجد على القبور بأنَّهم شرارُ الخَلق عند الله.
وقد ذكر هذه الأحاديث وغيرها الشوكاني في كتابه شرح الصدور، ويأتي تخريجها حيث ذكرها.
وهذه الأحاديثُ الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتملت على التحذير من اتِّخاذ القبور مساجد مطلقاً، وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك منه قبل أن يموت بخمسٍ، وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك عند نزول الموتِ به، وفي ذلك أوضحُ دليل على أنَّ هذا الحكمَ محكمٌ غير منسوخ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك ولَم يعش بعده، حتى يكون هناك مجالٌ للنسخ.
والتحذيرُ من ذلك جاء على صِيَغٍ متعدِّدة، فجاء بصيغة الدعاء باللَّعنة على اليهود والنصارى، وجاء بصيغة الدعاء بمقاتلَة الله لليهود، وجاء بوصف فاعلي ذلك بأنَّهم شرارُ الخَلق عند الله، وجاء بصيغة "لا" الناهية في قوله:"ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد"، وبصيغة لفظ النَّهي بقوله:"إنِّي أنهاكم عن ذلك".
وهذا مِن كمال نُصحِه لأمَّتِه صلى الله عليه وسلم، وحرصِه على نَجاتِها وشفقتِه عليها، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وجزاه أوفَى الجزاء، وأثابَه أَتَمَّ مثوبَة.
واتِّخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم في النصارى:"أولئك إذا كان فيهم الرَّجل الصالِح فمات بَنَوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصُّوَر، أولئك شرارُ الخلق عند الله"، وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها.
ويَشمل قَصدَها واستقبالَها في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تجلِسوا على القبور، ولا تُصلُّوا إليها"، أخرجه مسلم (972) من حديث أبي مَرثَد الغنَويِّ رضي الله عنه. ويَشمل السجودَ على القبر من باب أولى؛ إذ هو أخصُّ من الصلاة إليه.
وذكر الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء (8/27) في ترجمة عبد الله بن لهيعة أنَّ الدَّفنَ في البيوت من خصائص النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
أقول: وأمَّا دفنُ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في حجرة عائشة رضي الله عنها، فإنَّما جاء تَبَعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فضل الله عز وجل على هذين الرجلين العظيمين أن جعلهما رفيقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الملازمَين له في الدنيا، وجارَيْه في القبر، وبعد البعث والنشور يكونان معه في الجنة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وأورد ابنُ كثير في البداية والنهاية ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن ابن زيد القرشية الهاشمية في حوادث سنة (208هـ)، ونقل عن ابن خلِّكان أنَّه قال:"ولأهل مصر فيها اعتقاد"، ثم قال ابنُ كثير: "وإلى الآن قد بالغَ العامَّةُ في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيراً جدًّا، ولا سيما عوامُّ مصر، فإنَّهم يُطلقون فيها عبارات بَشِعة، فيها مجازَفةٌ تؤدِّي إلى الكفر والشِّرك، وألفاظاً كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنَّها لا تجوز
…
"، إلى أن قال: "
…
والذي ينبغي أن يُعتقد فيها: ما يليق بِمِثلِها من النساء الصالحات، وأصلُ عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسِها، والمغالاةُ في البَشَر حرامٌ
…
".
وكانت وفاةُ ابنِ كثير رحمه الله سنة (774هـ) .
ولا يجوز أن يُصَلَّى في المساجد التي بُنيت على قبور، والواجب هدم المسجد الذي بُني على القبر إذا كان القبر هو السابق، وإن كان الميت دُفن في المسجد فيجب نبشُه وإخراجه من المسجد، وأمَّا مسجد نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ففضله ثابت والصلاة فيه مضاعفةٌ، وهي خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلَاّ المسجد الحرام، كما ثبتت بذلك السنة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في ذلك ما كان قبل دخول القبر أو بعد دخوله.
وليس لأحد أن يتعلَّق بوجود قبره صلى الله عليه وسلم في مسجده لتجويز بناء المساجد على القبور أو دفن الموتى في المساجد؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم هو الذي بنى مسجدَه صلى الله عليه وسلم، وبنى بجواره بيوت أزواجه خارجاً منه، وبعد موته صلى الله عليه وسلم دُفن في بيت عائشة، وقد بقيت البيوت على ما هي عليه خارج المسجد في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعهد معاوية رضي الله عنه، وفي عهد خلفاء آخرين من خلفاء بني أمية وفي أثناء عهد بني أميَّة وُسِّع المسجد وأُدخل القبر فيه، وقد مرَّ ذكر جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من بناء المساجد على القبور، وهي أحاديث محكمة، منها ما قاله صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمس، ومنها ما قاله في لحظاته الأخيرة صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ترك هذه الأحاديث المحكمة والتعويل على عمل حصل في أثناء عهد بني أميَّة.
الفصل الخامس: حكم دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم، ومتى يُحكم على مَن دعاهم واستغاث بهم بالكفر؟
البناءُ على القبور واتِّخاذها مساجد من البدع المحرَّمة التي تؤدِّي إلى الشرك والكفر بالله، وأمَّا دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، فهو شرك أكبر مُخرجٌ من الملَّة، ويُقال لهذا الفعل: شرك وكفر، ولا يُقال لكلِّ من فعل ذلك إنَّه مشرك كافر؛ فإنَّ من فعل ذلك وهو جاهل معذورٌ لجهله حتى تُقام عليه الحجَّة ويفهمها ثمَّ يُصرُّ على ذلك، فإنَّه حينئذ يُحكم بكفره وردَّته، والفتنة في القبور من الأمور التي يكون فيها لَبسٌ عند كثير من الناس، مِمَّن نشأ في بيئة تعتبر تعظيم القبور ودعاء أصحابها من محبَّة الصالحين، لا سيما إذا كان بينهم أحد من أشباه العلماء الذين يتقدَّمونهم في تعظيم القبور والاستغاثة بأصحابها، زاعمين أنَّهم وسائط تقرِّب إلى الله.
والعذرُ بالجهل في مسائل التكفير والتبديع للشخص المعيَّن هو الذي عليه كثيرون من أهل العلم، وهذه نماذج من أقوالهم في ذلك:
1 ـ قال الإمام الشافعي رحمه الله (204هـ) : "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحجة فإنَّه يُعذرُ بالجهل؛ لأنَّ علم ذلك لا يُدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنُثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ". فتح الباري (13/407) .
2 ـ وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله (543هـ) : "فالجاهل والمخطئ من هذه الأمَّة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه
مشركاً أو كافراً، فإنَّه يُعذر بالجهل والخطأ حتى تتبيَّن له الحجَّة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً، ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، مِمَّا أجمعوا عليه إجماعاً جليًّا قطعيًّا يعرفه كلٌّ من المسلمين من غير نظر وتأمًُّل". محاسن التأويل للقاسمي (5/1307 ـ 1308) .
3 ـ وقال ابن قدامة رحمه الله (620هـ) : "وكذلك كلُّ جاهل بشيء يُمكن أن يجهله، لا يُحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك". المغني (12/277) .
4 ـ وقال النووي رحمه الله (676هـ) : "وكذلك الأمر في كلِّ من أنكر شيئاً مِمَّا أجمعت الأمة عليه من أمور الدِّين، إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام، إلَاّ أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده، فإذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر". شرح صحيح مسلم (1/205) .
5 ـ وقال ابن تيمية رحمه الله (728هـ) في مجموع الفتاوى (12/523 ـ 524) : "من كان مؤمناً بالله ورسوله مطلقاً ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب، فإنَّه لا يُحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجَّة التي من خالفها كفر؛ إذ كثير من الناس يخطئ فيما يتأوله من القرآن ويجهل كثيراَ مِمَّا يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمَّة، والكفر لا يكون إلَاّ بعد البيان".
وقال أيضاً (12/501) : "فليس لأحد أن يكفِّر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجة، وتبين له المحجَّة، ومن ثبت إيمانه
بيقين، لم يَزُل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلَاّ بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".
وقال أيضاً (7/619) : "والتحقيق في هذا أنَّ القول قد يكون كفراً: كمقالات الجهمية الذين قالوا: إنَّ الله لا يتكلَّم، ولا يُرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنَّه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إنَّ الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعيَّن حتى تقوم عليه الحجة".
وقال أيضاً في الرد على البكري (ص:258 ـ 260) : "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفِّرون مَن خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفِّرهم؛ لأنَّ الكفرَ حكمٌ شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله؛ لأنَّ الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلَاّ من كفَّره الله ورسوله، وأيضاً فإنَّ تكفير الشخص المعيَّن وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجَّة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلَاّ فليس كلُّ من جهل شيئاً من الدِّين يكفر".
إلى أن قال: "وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله: (إذا أنا متُّ فاسحقوني ثم ذروني في اليمِّ، فوالله! لئن قدر الله عليَّ ليعذِّبني عذاباً ما عذَّبه أحداً من العالمين، فأمر الله البَرَّ فردَّ ما أخذ منه، وأمر البحر فردَّ ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: خشيتك يا ربِّ! فغفر له) ، فهذا اعتقد أنَّه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، وأنَّه لا يُعيده أو جوَّز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلاً لم يتبيَّن له الحقُّ بياناً يكفر بمخالفته فغفر الله له".
6 ـ وقال ابن القيم رحمه الله (751هـ) في طريق الهجرتين (ص:546) : "إنَّ العذاب يُستحقُّ بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها.
الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها.
فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأمَّا كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل".
7 ـ وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1206هـ) : "وأمَّا الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنَّا نكفِّر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنَّا نكفِّر مَن لم يكفر ومن لم يُقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكلُّ هذا من الكذب والبهتان الذي يصدُّون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنَّا لا نكفِّر مَن عبَد الصنمَ الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم مَن يُنبِّههم، فكيف نكفِّر من لم يشرك بالله إذا لم يُهاجر إلينا، أو لم يكفر ويُقاتل، سبحانك هذا بهتان عظيم". الدرر السنية (1/66) .
وهذا آخر التقديم لكتابَي تطهير الاعتقاد وشرح الصدور للإمامَين الصنعاني والشوكاني، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شرح الصدور بتحريم رفع القبور
…
القبر وصاحبه والمغالاة في الاعتقاد فيه، ما لا يعود به إلى الإسلام سالِماً، نعوذ بالله من الخذلان.
ولا شكَّ أنَّ غالب هؤلاء المغرورين المخدوعين لو طلب منهم طالبٌ أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبر ميت على ما هو طاعة من الطاعات وقُربة من القُربات لم يفعل، ولا كاد.
فانظر إلى أين بلغ تلاعبُ الشيطان بهؤلاء، وكيف رمى بهم في هوة بعيدة القعر، مُظلمة الجوانب، فهذه مفسدة من مفاسد رفع القبور وتشييدها، وزخرفتها وتجصيصها.
ومن المفاسد البالغة إلى حدٍّ يَرمى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويُلقيه على أمِّ رأسه مِن أعلى مكان من الدين: أنَّ كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يَملكه مِن الأنعام، وأجود ما يَحوزه من المواشي، فينحرُه عند ذلك القبر، متقرِّباً به إليه، راجياً ما يضمر حصوله له منه، فيُهلُّ به لغير الله، ويتعبَّد به لوثن من الأوثان؛ إذ إنَّه لا فرق بين النحائر لأحجار منصوبة يسمُّونها وثناً، وبين قبر لميت يسمُّونه قبراً، ومجرَّد الاختلاف في التسمية لا يُغني من الحقِّ شيئاً، ولا يؤثر تحليلاً ولا تحريماً، فإنَّ مَن أطلق على الخمر غيرَ اسمها وشربها، كان حكمُه حكمَ مَن شربها وهو يُسمِّيها باسمها، بلا خلاف بين المسلمين أجمعين.
ولا شكَّ أنَّ النَّحرَ نوعٌ من أنواع العبادة التي تعبَّد اللهُ العبادَ لها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرِّب بها إلى القبر والناحر لها عنده لَم يكن له غرضٌ بذلك إلَاّ تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه واستدفاع الشرِّ به، وهذه عبادة لا شكَّ فيها، وكفاك من شرِّ سماعه، ولا حول ولا قوة إلَاّ بالله العلي العظيم، إنَّا لله وإنا إليه راجعون،
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا عَقر في الإسلام"، قال عبد الرزاق:"كانوا يعقرون عند القبر، يعني بقراً وشياهاً" رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أنس بن مالك1.
وبعد هذا كلِّه، فاعلم بما سقناه من الدلالة وما هو كالتوطيد لها، وما هو كالخاتمة تختم بها البحث، يقضى أبلغ قضاء وينادى أرفع نداء، ويدل أوضح دلالة، ويفيد أجلى مفاد، أنَّ ما رواه صاحب البحر عن الإمام يحيى، غَلَطٌ من أغاليط العلماء، وخطأٌ من جنس ما يقع للمجتهدين، وهذا شأن البشر، والمعصومُ مَن عصمه الله، وكلُّ عالِم يُؤخذ من قوله ويُترك، مع كونه رحمه الله من أعظم الأئمة إنصافاً، وأكثرهم تحريًّا للحقِّ وإرشاداً وتأثيراً، ولكنَّنا رأيناه قد خالف مَن عداه بما قال مِن جواز بناء القباب على القبور، رددنا هذا الاختلافَ إلى ما أوجب الله الرد إليه، وهو كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فوجدنا في ذلك ما قدَّمنا ذكرَه من الأدلة الدالة أبلغ دلالة، والمنادية بأعلى صوت بالمنع من ذلك والنهي عنه، واللعن لفاعله والدعاء عليه، واشتداد غضبِ الله عليه، مع ما في ذلك من كونه ذريعةً إلى الشرك، ووسيلةً إلى الخروج عن الملَّة كما أوضحناه، فلو كان القائل بما قاله الإمام يحيى بعضَ الأئمة أو أكثرَهم لكان قولُهم ردًّا عليهم، كما قدمناه في أول هذا البحث، فكيف والقائل به فردٌ من أفرادهم؟ وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كلُّ أمر ليس عليه أمرنا فهو رَد"2، ورفع القبور وبناءُ القباب والمساجد عليها
1 سنن أبي داود (3222) ، وإسناده على شرط البخاري.
2 الحديث في صحيح البخاري (2697) وصحيح مسلم (1718) بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية عند مسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عرفناك ذلك فهو ردٌّ على قائله، أي مردودٌ عليه.
والذي شرع للناس هذه الشريعةَ الإسلامية هو الرَّبُّ سبحانه بما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فليس لعالم ـ وإن بلغ من العلم إلى أرفع رتبة وأعلى منزلة ـ أن يكون بحيث يُقتدى به فيما خالف الكتاب والسنة أو أحدهما، بل ما وقع منه من الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه يستحق به أجراً، ولا يجوز لغيره أن يتابعَه عليه، وقد أوضحنا هذا في أول البحث بما لا يأتي التكرار له بمزيد فائدة.
وأمَّا ما استدلَّ به الإمام يحيى حيث قال: "لاستعمال المسلمين ذلك، ولم ينكروه" فقولٌ مردود؛ لأنَّ علماءَ المسلمين مازالوا في كلِّ عصر يروون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن مَن فعل ذلك، ويقرِّرون شريعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسهم ومجالس حفاظهم، يرويها الآخرُ عن الأول، والصغير عن الكبير، والمتعلِّم عن العالم، مِن لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدِّثون في كتبهم المشهورة من الأمَّهات والمسندات والمصنفات، وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير، فكيف يقال: إنَّ المسلمين لَم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يروون أدلَّةَ النهي عنه واللعن لفاعله، خلفاً عن سلف في كلِّ عصر؟ ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه.
وقد حكى ابنُ القيم عن شيخه تقي الدين ـ رحمهما الله ـ وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفها، أنَّه قد صرَّح عامةُ