الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} : "فمِن ذلك توحيد الله جلَّ وعلا، فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده جلَّ وعلا في ربوبيَّته وفي عبادته، وفي أسمائه وصفاته، وقد دلَّ استقراء القرآن العظيم على أنَّ توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده في ربوبيَّته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُُ} الآية، وقال:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}
، وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} تجاهل من عارف أنَّه عبدٌ مربوب؛ بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} الآية، وقوله:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} ، وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلَاّ بإخلاص العبادة لله، كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدًّا.
الثاني: توحيده جلَّ وعلا في عبادته، وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى (لا إله إلَاّ الله) ، وهي متركِّبةٌ من نفي وإثبات، فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت، ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
ومن الآيات الدَّالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ وقوله لِذَ نْبِكَ} الآية، وقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ،:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وقوله:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ، وقوله:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنَّ ما أوحى إليه محصور في هذا النوع من التوحيد؛ لشمول كلمة (لا إله إلَاّ الله) لجميع ما جاء في الكتب؛ لأنَّها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده، فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة.
النوع الثالث: توحيده جلَّ وعلا في أسمائه وصفاته، وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين:
الأول: تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله، كما قال بعد قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتِّصاف، قال تعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، وقد قدَّمنا هذا المبحث مستوفى موضحاً بالآيات القرآنية في سورة الأعراف.
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيَّته
جلَّ وعلا على وجوب توحيده في عبادته، ولذلك يُخاطبُهم في توحيد الربوبيَّة باستفهام التقرير، فإذا أقرُّوا بربوبيَّته احتجَّ بها عليهم على أنَّه هو المستحق لأن يُعبد وحده، ووبَّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنَّه هو الرب وحده؛ لأنَّ مَن اعترف بأنَّه هو الربُّ وحده لزمه الاعتراف بأنَّه هو المستحق لأن يُعبد وحده.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} فلمَّا أقرُّوا بربوبيَّته وبَّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره بقوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} .
ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ َسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ، فلمَّا اعترفوا وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، فلمَّا أقرُّوا وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ثم قال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ، فلمَّا أقرُّوا وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ الاعتراف وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله:{اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}
ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ إقرارُهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله:{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ
شرح الصدور بتحريم رفع القبور
…
القبر وصاحبه والمغالاة في الاعتقاد فيه، ما لا يعود به إلى الإسلام سالِماً، نعوذ بالله من الخذلان.
ولا شكَّ أنَّ غالب هؤلاء المغرورين المخدوعين لو طلب منهم طالبٌ أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبر ميت على ما هو طاعة من الطاعات وقُربة من القُربات لم يفعل، ولا كاد.
فانظر إلى أين بلغ تلاعبُ الشيطان بهؤلاء، وكيف رمى بهم في هوة بعيدة القعر، مُظلمة الجوانب، فهذه مفسدة من مفاسد رفع القبور وتشييدها، وزخرفتها وتجصيصها.
ومن المفاسد البالغة إلى حدٍّ يَرمى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويُلقيه على أمِّ رأسه مِن أعلى مكان من الدين: أنَّ كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يَملكه مِن الأنعام، وأجود ما يَحوزه من المواشي، فينحرُه عند ذلك القبر، متقرِّباً به إليه، راجياً ما يضمر حصوله له منه، فيُهلُّ به لغير الله، ويتعبَّد به لوثن من الأوثان؛ إذ إنَّه لا فرق بين النحائر لأحجار منصوبة يسمُّونها وثناً، وبين قبر لميت يسمُّونه قبراً، ومجرَّد الاختلاف في التسمية لا يُغني من الحقِّ شيئاً، ولا يؤثر تحليلاً ولا تحريماً، فإنَّ مَن أطلق على الخمر غيرَ اسمها وشربها، كان حكمُه حكمَ مَن شربها وهو يُسمِّيها باسمها، بلا خلاف بين المسلمين أجمعين.
ولا شكَّ أنَّ النَّحرَ نوعٌ من أنواع العبادة التي تعبَّد اللهُ العبادَ لها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرِّب بها إلى القبر والناحر لها عنده لَم يكن له غرضٌ بذلك إلَاّ تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه واستدفاع الشرِّ به، وهذه عبادة لا شكَّ فيها، وكفاك من شرِّ سماعه، ولا حول ولا قوة إلَاّ بالله العلي العظيم، إنَّا لله وإنا إليه راجعون،
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا عَقر في الإسلام"، قال عبد الرزاق:"كانوا يعقرون عند القبر، يعني بقراً وشياهاً" رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أنس بن مالك1.
وبعد هذا كلِّه، فاعلم بما سقناه من الدلالة وما هو كالتوطيد لها، وما هو كالخاتمة تختم بها البحث، يقضى أبلغ قضاء وينادى أرفع نداء، ويدل أوضح دلالة، ويفيد أجلى مفاد، أنَّ ما رواه صاحب البحر عن الإمام يحيى، غَلَطٌ من أغاليط العلماء، وخطأٌ من جنس ما يقع للمجتهدين، وهذا شأن البشر، والمعصومُ مَن عصمه الله، وكلُّ عالِم يُؤخذ من قوله ويُترك، مع كونه رحمه الله من أعظم الأئمة إنصافاً، وأكثرهم تحريًّا للحقِّ وإرشاداً وتأثيراً، ولكنَّنا رأيناه قد خالف مَن عداه بما قال مِن جواز بناء القباب على القبور، رددنا هذا الاختلافَ إلى ما أوجب الله الرد إليه، وهو كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فوجدنا في ذلك ما قدَّمنا ذكرَه من الأدلة الدالة أبلغ دلالة، والمنادية بأعلى صوت بالمنع من ذلك والنهي عنه، واللعن لفاعله والدعاء عليه، واشتداد غضبِ الله عليه، مع ما في ذلك من كونه ذريعةً إلى الشرك، ووسيلةً إلى الخروج عن الملَّة كما أوضحناه، فلو كان القائل بما قاله الإمام يحيى بعضَ الأئمة أو أكثرَهم لكان قولُهم ردًّا عليهم، كما قدمناه في أول هذا البحث، فكيف والقائل به فردٌ من أفرادهم؟ وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كلُّ أمر ليس عليه أمرنا فهو رَد"2، ورفع القبور وبناءُ القباب والمساجد عليها
1 سنن أبي داود (3222) ، وإسناده على شرط البخاري.
2 الحديث في صحيح البخاري (2697) وصحيح مسلم (1718) بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية عند مسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عرفناك ذلك فهو ردٌّ على قائله، أي مردودٌ عليه.
والذي شرع للناس هذه الشريعةَ الإسلامية هو الرَّبُّ سبحانه بما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فليس لعالم ـ وإن بلغ من العلم إلى أرفع رتبة وأعلى منزلة ـ أن يكون بحيث يُقتدى به فيما خالف الكتاب والسنة أو أحدهما، بل ما وقع منه من الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه يستحق به أجراً، ولا يجوز لغيره أن يتابعَه عليه، وقد أوضحنا هذا في أول البحث بما لا يأتي التكرار له بمزيد فائدة.
وأمَّا ما استدلَّ به الإمام يحيى حيث قال: "لاستعمال المسلمين ذلك، ولم ينكروه" فقولٌ مردود؛ لأنَّ علماءَ المسلمين مازالوا في كلِّ عصر يروون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن مَن فعل ذلك، ويقرِّرون شريعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسهم ومجالس حفاظهم، يرويها الآخرُ عن الأول، والصغير عن الكبير، والمتعلِّم عن العالم، مِن لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدِّثون في كتبهم المشهورة من الأمَّهات والمسندات والمصنفات، وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير، فكيف يقال: إنَّ المسلمين لَم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يروون أدلَّةَ النهي عنه واللعن لفاعله، خلفاً عن سلف في كلِّ عصر؟ ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه.
وقد حكى ابنُ القيم عن شيخه تقي الدين ـ رحمهما الله ـ وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفها، أنَّه قد صرَّح عامةُ