المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خلق آدم في يوم الجمعة - إزالة الشبهة عن حديث التربة - ٥٠ - ٥١

[عبد القادر بن حبيب الله السندي]

الفصل: ‌خلق آدم في يوم الجمعة

قلت: هذا الذي ذكره لم يعزه إلى النقل الصحيح من الكتاب والسنة أو إجماع الأمة أو إلى مصادر أخرى ينبغي الاعتماد عليها. وأنا قد سألت عن هذا الموضوع بعض من يدرس العلوم الكيماوية والجيولوجية فقال: أن الأمر لصحيح مائة في المائة وقد تكلم على هذا الموضوع كلاما طويلا، ولكن البحث في حاجة إلى التدقيق والتحقيق العلمي والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 59

‌خلق آدم في يوم الجمعة

ثم تعرض حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في آخر ألفاظه لخلق آدم عليه الصلاة والسلام، كما قال الإمام النووي عند عقده الباب على هذا الحديث في شرحه على مسلم إذ قال رحمه الله تعالى:"باب ابتداء الخلق"، وخلق آدم عليه السلام، وجاء في هذا الحديث أن آدم خلقه الله تعالى يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل. وفي هذا اللفظ إشارة واضحة إلى تأخير خلق آدم عليه الصلاة والسلام عن خلق السماوات والأرض- في أخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، كما في حديث ابن عباس الذي أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره وأشار إلى هذا المعنى الواضح، نص القرآن الكريم في سورة البقرة كما مضى بيانه وإيضاحه وتحقيقه، ولهذا المعنى الوارد في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه شواهد كثيرة وهي صحيحة. وإني أحب إيرادها في هذا المقام لكي يتضح المعنى ويرفع الغبار وينجلي الشك.

فقد أخرج مسلم في الصحيح وأبو داود في السنن، وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسيريهما وكذا بن المنذر -كلهم- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط عنها، وفيه مات، وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة" وقد تعرض لهذا الموضوع الحافظ في الفتح 1: واثبت خلق آدم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة بروايات عديدة، وآثار كثيرة وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه 2 بإسناد صحيح، وقد أخرج

1 فتح الباري، 3/356.

2 تاريخ الطبري، 1/58.

ص: 59

الإمام أحمد في مسنده هذا المعنى بإسناد صحيح في مواضع عديدة 1؛ وذلك في مسند أبي ريبة رضي الله تعالى عنه، وقد أخرج هذا المعنى أيضا الإمام أحمد في مسنده 2 بإسناد حسن، وذلك في مسند أبي لبابة بن المنذر البدري رضي الله تعالى عنه إذ قال رحمه الله تعالى: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا زهير يعني ابن محمد، عن عبد الله ابن محمد بن عقيل، عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن أبى لبابة البدري بن المنذر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها عنده، وأعظم عند الله عز وجل من يوم الفطر، ويوم الأضحى، وفيه خمس خلال، خلق الله فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض

"، ثم ذكر الحديث بطوله، وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه من هذا الوجه 3، وأخرج أيضا هذا المعنى بإسناد صحيح 4 وذلك في مسند أوس ابن أبي أوس الثقفي وهو أوس بن حذيفة رضي الله تعالى عنه، وفيه: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا علّي من الصلاة"، وقد عزا الإمام السيوطي في الدر المنثور 5 هذا الحديث إلى ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم في المستدرك.

قلت: وأخرجه أيضا القاضي الإمام إسماعيل بن إسحاق المتوفى سنة 282 هـ في رسالته فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 6 حديث رقم 22 وهذه هي الشواهد الكثيرة التي فيها أن الله خلق آدم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة، وهي تؤيد معنى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي أنا بصدد الكلام حوله، والدفاع عن صحة إسناده، والرد على الشيخ أبي رية وغيره من أهل العصر الذين يتكلمون في مثل هذه المواضيع بدون علم ولا فقه، ثم يطعنون في السنة النبوية كلها، مع بعدهم عن حقائق هذه الدراسة الإسنادية

1 مسند الإمام أحمد بن حنبل، 2/418. 2/486. 2/504. 2/512. 2/540.

2 مسند الإمام أحمد بن حنبل، 3/430.

3 تاريخ الطبري، 1/56.

4 تاريخ الطبري، 4/85.

5 الدر المنثور، 6/226.

6 فضل الصلاة على النبي، ص 11.

ص: 60

والتخريجية؛ ومن هنا كان كلامه واتهامه لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه في وضع هذا الحديث من تلقاء نفسه دون أن يكون هناك صدق مما أخبر به الله تعالى عنه في زعم أبي هريرة، ولذا يقول العلامة المعلمي رادًّا عليه في هذا الاتهام: أقول: لم يقع شيخنا رضي الله تعالى عنه في هوة ولا قال أحد من أهل العلم أنه وقع فيها، أما إذا بنينا على صحة الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحق -إن شاء الله تعالى- فواضح. وأما على ما زعمه ابن المديني فلم يصح عن أبي هريرة ولا عمن روي عنه ولا عن الثالث شيء من هذا، قوله أخذ رسول الله بيدي فقال:"خلق الله التربة"، وأما على حدس البخاري، فحاصله أن أيوب غلط، وقع له عن أبي هريرة خبران أحدهما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: فذكر حديثا صحيحا غير هذا والثاني قال كعب: خلق الله التربة يوم السبت فالتبس المقولان على أيوب فجعل مقول كعب موضع مقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم اهـ.

قلت: هكذا العلم والتحقيق، وأما اتهامكم أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بالكذب قبل دراسة أحوال الرواة وظروفهم فهذا الشيء ينبئ عن عداوة شنيعة قبيحة في القلب، والله تعالى أعلم بها، وأما الجهل بحقيقة الحال أو وجود كلا الأمرين في الرجل، فالله تعالى أعلم به، وإني مع هذه النقول الكثيرة وقلة الإطلاع على ما قاله السلف في هذا الموضوع لا ادعي الصواب فيما نقلته واعتقدته من صحة هذا الحديث إسنادا ومتنا، وواقعة ولي حق أن أطمئن إلى أحد الطرفين في ضوء الحجة، فإني أدين الله تعالى بما ذهب إليه جملة كبيرة من أهل التحقيق والعلم من صحة هذا الإسناد والله تعالى أعلم بالصواب وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.

ص: 61

العلم.. والمثل العليا

إن الفصل بين الواقع الإنساني والمثل العليا، مهد للعلم المنشق عن الدين أن يزعم أنه يتعامل مع الموجود المادي الملموس، أي أنه لا يتعامل مع غايات الحياة وأهدافها ومقاصدها الرفيعة، وهكذا نجد أن كلّ نقد يوجه للدين الجزئي يمكن أن يوجه للعلم الجزئي كذلك، فالدين الذي يتجاهل الواقع البشري ويتعامى عن مشكلاته يتطابق مع العلم الذي يتعامى عن العقائد والمثل العليا ويفصلها عن الحياة. فإذا كان الأول يتجاهل الحياة الواقعية القائمة ويتجاهل خبرات الإنسان نفسها، فإن العلم القاصر عن المثل العليا يهبط إلى المادي الملموس والمسموع والمنظور، مجرداً من القيم الإنسانية، ويصبح سلعة تكنولوجيا يمكن لأي شخص أن يشتريها لأي غرض، ويصبح العلماء مرتزقة يتكسبون بالعلم في أي مكان، كما حدث لعلماء الإيمان الذي عملوا للأهداف النازية والشيوعية والأمريكية.

لقد علمتنا العقود الأخيرة القليلة بأن العلم قد يصبح خطراً يهدد مقاصد الإنسان العليا، وأن العلماء قد يصبحون وحوشا طالما أن العلم أصبح كلعبة الشطرنج، متعسفاً لا هدف له، غايته الوحيدة اكتشاف الوجود المحسوس. وبذلك ارتكب العلم الخطأ الفادح المصيري الذي يقصي أسمىَ الخبرات الذاتية من ميدان الوجود القابل للاكتشاف.

المجلة الإسلامية المغربية

ص: 62