الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي اَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً
ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها
فَاَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ اَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهمْ وَاَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ
ماذَا اَرَادَ الله بِهذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ اِلَاّ الْفَاسِقِينَ
26 الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما اَمَرَ الله بِهِ اَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الاْرْضِ اُولئِك هُمُ الْخاسِرُونَ 27
اعلم! ان في هذه الآية أيضاً الوجوه الثلاثة النظمية وان مآل المجموع ينظر الى سوابقه والى لواحقه والى مجموع القرآن الكريم.
وأما نظمها بالنظر الىلواحقها فاعلم! ان القرآن لما مثّل بالذباب والعنكبوت وبحث عن النمل والنحل انتهز الفرصةَ - للاعتراض- اليهودُ واَهلُ النفاق والشركِ فتحمقوا وقالوا: أيتنزل الله تعالى مع عظمته الى البحث عن هذه الأمور الخسيسة التي يستحي من بحثها أهل الكمال؟ فضرب القرآن بهذه الآية ضرباً على أفواههم.
وأما نظمها بالقياس الى سوابقها، فاعلم! أن القرآن لما أثبت النبوّة بالإعجاز والإعجاز بالتحدِّي والتحدِّي بسكوتهم.. وكذلك أثبت في رأس السورة ان القرآن مشتمل على صفات عالية ومزايا كاملة لا تجتمع في كلام؛ سكتوا في نقطة التحدي حتى لم ينبض لهم عرق عصبية لكن اعترضوا وغالطوا في نقطة كماله وقالوا ان التمثيل في امثال (كمثل الذي استوقد ناراً) و (كصِّيب من السماء) من الأمور العادية سبب لنزالة درجة الكلام فيشبه المحاورة العادية بين الناس؛ فالقرآن ألقمهم حجراً وأفحمهم بهذه الآية.
وايضاحه: ان لهم شبهات واهية منشؤها أوهام متسلسلة مبناها مغالطات:
احداها: القياس مع الفارق ومنشؤه انهم ينظرون الى كل شئ بمرآة مألوفهم. فحينما يرون الانسان ذهنه جزئي وفكره جزئي ولسانه جزئي وسمعه جزئي؛ لا يتعلق
كلٌ بأمرين معا بالذات، ويعرفون أن مقياس الهمة موضوع المشغلة والاهتمام، ويرون ان القيمة والعظمة بنسبة الهمة حتى انهم لا يسندون أمراً حقيراً نزيلاً الى شخص عال جليل؛ ظناً منهم انه لايتنزل للاشتغال بمثله ولايسع ذلك الأمر الحقير همته العظيمة، ينظرون بهذا النظر المشط الى الواجب تعالى ويقولون: كيف يتنزل بعظمته وجلاله للتكلم مع البشر بمثل محاورة الانسان وللبحث عن هذه الأمور الجزئية لاسيما هذه الأشياء المحقّرة؟ أفلا يعقل هؤلاء السفهاء ان ارادة الله تعالى وعلمه وقدرته كلية عمومية شاملة محيطة وليس مقياس عظمته تعالى الاّ مجموع آثاره، وما ميزان تجليه الاّ كافة كلماته التي لو كان البحر مداداً لها مانفدت. مثلاً (ولله المثل الأعلى) اذا القت الشمس - بعد فرض كونها مختارة عاقلة - ضياءها على ذرّة ملوّثة، أيُقال لها كيف تنزلت بعظمتها للاشتغال والاهتمام بمثل هذه الذرة؟
نعم! ان الله تعالى كما خلق العالم واتقنه صنعاً واهتم به؛ كذلك خلق الجوهرَ الفردَ وأتقن صنعه. ففي نظر القدرة الجواهر الفردة كالنجوم السيارة، لأن قدرته تعالى وعلمه وارادته وكلامه لازمة للذات، وذاتية، فليست متجددة ولا قابلة للزيادة والنقصان ولا متغيرة حتى يتداخل فيها المراتب؛ اذ العجز ضدٌ لها لا يمكن تداخله بينها. فلا فرق بين الذرة والشمس. اذ الممكنُ بتساوي طرفَيه كالميزان ذي الكفتين، لا فرق في صرف القوة التي ترفع كفة وتضع أخرى بين ان يكون في الكفتين شمسان أو ذرتان، وهكذا نسبة المقدورات بالنسبة الى القدرة الذاتية اللازمة. وأما بالنسبة الى قوة الممكنات العارضة المتغيرة المتداخل بينها العجز فلا موازنة.
والحاصل: ان الذرات والأمور الخسيسة لما كانت مخلوقة له تعالى كانت معلومة له بالضرورة، فلا مُشاحّة بالبداهة أن يبحث عنها. وعلى هذا السر قال (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) 1 فكيف لا يبحث عنها ولا يتكلم بها مَنْ عَلِم وهو العزيز الحكيم.
وثانية المغالطات: هي انهم يزعمون انهم يرون في اسلوب القرآن خلف المتكلم تمثال انسان، بدليل البحث عن هذه الأشياء الحقيرة والأمور العادية كأسلوب محاورة البشر. أفلا يتذكر هؤلاء المتجاهلون ان الكلام كما ينظر الى متكلمه بجهة؛ كذلك
1 سورة الملك: 14.
ينظر الى المخاطب به بجهات، على ما تقتضيه البلاغة للتطبيق على مقتضى حال المخاطب. فلما كان المخاطب بشراً وكان البحث عن أحواله والمقصد تفهيمه، لبس القرآن اسلوبَ البشر الممزوج بحسيّاته المسمى بـ"التنزّلات الالهية الى عقول البشر" للتأنيس.. ألا تراك اذا حاورت مع صبيّ تتصبّى له؟
فان قلت: ان حقارة الأشياء وخساستها تنافي عظمة القدرة ونزاهة الكلام؟
قيل لك: ان الحقارة والخساسة والقبح وأمثالها انما هي بالنظر الى مُلك الأشياء وجهتها الناظرة الينا وبالنظر الى نظرنا السطحيّ. وقد وُضعت الأسباب الظاهرية للتوسط في هذه الجهة لتنزيه العظمة. وأما بالنظر الى ملكوتية الأشياء فكلها شفّافة عالية. وهذه الجهة هي محل تعلق القدرة، لايخرج من التعلق شئ؛ فكما اقتضت العظمة وضع الأسباب في الظاهر كذلك تستلزم الوحدة والعزة شمول القدرة لكلٍ واحاطة الكلام به؛ على ان القرآن المكتوب على ذرّة بالجواهر الفردة ليس بأقل جزالةً من القرآن المكتوب على صحيفة السماء بمداد النجوم، وان خلقة الذباب ليست بأدنى صنعا من خلقة الفيل. فالكلام كالقدرة.
فان قلت: الى أيّ شئ تعود الحقارة الظاهرية في هذه التمثيلات؟
قيل لك: انما تعود الى الممثَّل له دون الممثِّل، فكلما كانت مطابقته للممثَّل له أحسن، كانت درجة الكلام أعلى ونظام البلاغة أرفع. ألا ترى ان السلطان اذا أعطى راعيه ما يليق به من اللباس وألقى الى الكلب ما يشتهيه من العظم.. الخ. لايقال انه فعل بدعة، بل يقال انه أحسن بوضع كل شئ في موضعه. فاذاً كلما كان الممثل حقيراً كان مثاله حقيراً، وان كان عظيماً فعظيماً. ولما كانت الأصنام أدنى الامور سلط الله الذباب على رؤوسها. ولما كانت عبادتها أهون الأشياء جعل الله تعالى نسج العنكبوت عنوانها.
وثالثة المغالطات: انهم يقولون ما الحاجة الى امثال هذه التمثيلات المومئة الى العجز عن اظهار الحقيقة؟.
الجواب: لما كان المقصد من انزال التنزيل ارشاد الجمهور، والجمهور عوام، والعوام لايرون الحقائق المحضة والمجردات الصرفة عراة عن متخيلاتهم ـ ألبس الله تعالى بلطفه واحسانه الحقائق لباس مألوفاتهم لتحسن الُفتهم كما عرفت في سرّ المتشابهات.
أما نظم الجمل بعض مع بعض، فاعلم! أن (ان الله لا يستحيي ان يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) ردٌّ وطرد لاعتراضات متسلسلة. كأنهم يقولون أية حكمة في مكالمة الله تعالى مع البشر، وعتابه عليهم، والتشكِّي منهم؛ فانها علامة ان للانسان أيضاً تصرفاً آخر في العالم؛ لاسيما كالمحاورة الجارية بين الناس فانها علامة انه كلام البشر.. ولاسيما يتراءى من خلف الكلام تمثال انسان.. ولاسيما بتصويرات وتمثيلات فانها علامة العجز عن اظهار الحقيقة.. ولاسيما اذا كانت التمثيلات عادية فانها علامة انحصار ذهن المتكلم.. ولا سيما بأمور حقيرة فانها علامة خفة المتكلم.. ولاسيما اذا كانت مما لا اضطرار اليه وكان تركه أولى.. ولاسيما اذا كان بعض تلك الأمور مما يستحي أهلُ العزّة عن البحث عنه.. ولاسيما اذا كان الباحث ذا العظمة والجلال.. فأجاب القرآن هدما لهذه السلسلة من المبدأ الى المنتهى بضربة واحدة فقال (ان الله لايستحيي
…
) الخ؛ لان جهة الملكوتية لا تنافي العظمة والجلال فلا يتركها ولا يهملها؛ اذ الالوهية تقتضي كذلك. فاذاً يمثَّل بالأمور المحقّرة للمعاني المحقّرة؛ اذ حكمته مع سر البلاغة هكذا تقتضي.. فاذاً يذكر التمثيلات العادية بناء على انها الموافقة للتربية والارشاد. . فاذاً يصوّر الحقائق بتمثيلات - بناء على ما تقتضيه العناية مع التنزلات الالهية.. فاذاً يختار اسلوب محاورة البشر بعض مع بعض بناء على ما تقتضيه الربوبية مع التربية.. فاذاً يتكلم مع الناس بناءً على ماتقتضيه الحكمة مع النظام.
والحاصل: ان الله تعالى لما أودع في الانسان جزءاً اختيارياً وجعله مصدراً لعالم الأفعال، أرسل كلامه لينظم ذلك العالم.
وان نظم جملة (فاما الذين آمنوا فيعلمون انه الحق من ربهم) هو: انه لما ذكر في الأولى المدعى، أشار بهذه الى طريق دليله. وكذا رمز وأومأ الى وجه دفع الأوهام، أي من نظر بنور الايمان ومن جانب الله تعالى ومن جهة قدرته جاعلا حكمته وعنايته وربوبيته نصب العين، علم انه حق وبلاغة. واما من نظر من جانب حضيض نفسه، ومن جهة الممكنات، فلا جرم ستهوي به الأوهام.. ومثلهما كمثل شخصين صعدا منحدراً رأيا جداول ماء. أما أحدهما فيصعد ويرى رأس العين ويذوق فيعلم ان الماء كله عذب؛ فكلما يصادف قطعة ماء من تفرعات الجداول
يتفطن - ولو بامارة ضعيفة - انه عذب، فلا تقدر الأوهام ولو قوية على تغليطه. وأما الآخر فيتسفل وينظر من جانب التفرعات ولا يرى منبع العين فيحتاج لمعرفة عذوبة كل قطعة ماء الى دليل قطعي. فأدنى وهمٍ يُورطه في الشبهة. أو كمثال شخصين بينهما مرآة ينظر أحدهما الى الوجه الشفّاف، والآخر الى الوجه الملوّن.
والحاصل: انه لابد في النظر الى صنعه تعالى ان ينظر اليه من جانبه تعالى مع ملاحظة عنايته وربوبيته وليس هذا النظر الا بنور الايمان ولاتكون الأوهام حينئذ - ولو قوية - إلا أوهن من بيت العنكبوت. ولو نظر اليه من جهة الممكنات بنظر المشتري وبفكره الجزئي لقويت في عينه الأوهامُ الضعيفة فيتستر عنه الحقيقةُ كما يمنع جناحُ بعوضةٍ رؤية العين لجبل الجوديّ.
وان نظم جملة: (وأما الذين كفروا..) الخ هو: انه لما ارى طريق فهم حكمة اسلوب التمثيلات - وهي النظر بنور الايمان من جانب الواجب الوجود - بيّن هنا الطريق المقابل الذي هو منشأ الأوهام والتعللات بأن ينظر من طرف نفسه بظلمة الكفر التي تصور كل شئ مظلما مع مرض القلب الذي يثقل به اخفّ وَهْم. ثم يضل طريق الحق ثم يتردد ثم يستفهم ثم ينكر. فالقرآن بالايجاز والكناية أورد - اشارةً الى استفهامهم الانكاري - قوله: (ماذا أراد الله بهذا مثلا) بدل "لايعلمون" مع انه المطابق للسابق ظاهراً.
وان نظم جملة: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً) هو: انها جواب عن صورة استفهامهم فلغاية الايجاز نزلت الغاية والعاقبةُ منزلة العلة الغائية كأنهم يسألون ويقولون: لأي شئ كان هكذا؟ ولِمَ لم يكن اعجازه بديهيا؟ ولِمَ لم يكن كونه كلام الله ضرورياً؟ ولِمَ صار معرض الأوهام بسبب هذه الأمثال؟ فأجاب القرآن بقوله: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً) أي: لأجل ان من تفكر فيه بنور الايمان ازداد نوراً. ومن تفكر بظلمة الكفر والتنقيد ازداد ظلمة.. وهذا لأجل انه نظريّ ليس بديهياً.. وهذا لأجل تفريق الأرواح الصافية العلوية عن الأرواح الكدرة السفلية.. وهذا لأجل تمييز الاستعدادات العالية بالنشوء والنماء عن الاستعدادات الخبيثة.. وهذا لأجل تمييز الفطرة الصحيحة بالتكمل والمجاهدة والاجتهاد عن الفطرة المتفسخة الفاسدة.. وهذا لأجل ان أمتحان البشر يستلزمه.. وهذا لأجل ان الابتلاء يقتضيه..
وهذا لأجل ان سر التكليف لتكميل البشر وسعادته يستلزمه. فأوجز التنزيل في الجواب.
ان قلت: قد قلت ان التكليف لتأمين سعادة البشر مع انه يكون سببا لوقوع الأكثر في الشقاوة، ولولاه لما صار التفاوت بهذه الدرجة؟.
قيل لك: ان الله تعالى كما كلّف الجزء الاختياريَّ بكسبه تشكيل عالم الأفعال الاختيارية؛ كذلك جعل التكليف سبب اسقاء وانبات البذور الغير المحصورة المودوعة في روح البشر. ولولاه لبقيت الحبوبات يابسة. واذا تأملت في أحوال النوع بنظر نافذ رأيت كل ترقيات الروح المعنوية، وكل تكملات الوجدان الالهية، وتكملات العقل، وترقيات الفكر المثمرة بدرجة تحير فيها العقول انما وجدت كافة بالتكليف.. وانما استيقظت ببعثة الأنبياء.. وانما تلقحت بالشرائع.. وانما ألهمت من الأديان. ولولاها لبقي الانسان حيوانا ولانعدمت هذه الكمالات الوجدانية وتلك المحاسن الاخلاقية. أما القسم القليل فقبلوا التكليف اختيارا ففازوا بالسعادة الشخصية وصاروا سببا للسعادة النوعية. وأما القسم الكثير كميةً فهم وان كفروا بقلوبهم وفيما هم فيه مختارون لكن لما لم يكن كل حال كل كافر كافراً وكل صفته كافرة يابسة كانوا بسبب ايقاظ البعثة للحسِّيات الوجدانية، وتنبيه النبوة للسجايا الاخلاقية، وبتسامع الشرائع، وتعارف آثارها بحيث قد قبلوا أنواعاً من التكليف اضطراراً.
فان قلت: سعادة القليل مع شقاوة الكثير كيف تكون مظهراً لسعادة النوع حتى تكون الشريعة رحمة، مع ان سعادة النوع انما تكون بالكل او الأكثر؟
قيل لك: اذا كان لك مائة بيضة ووضعتها تحت طير، فافرخت عشرين وأفسدت ثمانين؛ أفلا تقول قد تكمل هذا النوع؟ اذ حياة عشرين تساوي ألوف بيضةٍ. أو كان لك مائة نواة تمر فأسقيتها بالماء فصار عشرون منها نخلات باسقات وتفسخ ثمانون، أفلا تقول: الماء سعادة لهذا النوع؟ او كان لك معدن فسلطت عليه النار فأصفت خُمسه ذهبا وصيرت الباقي فحماً ورماداً، افلا تكون النار سبب كماله وسعادته؟ وقس على هذا!.. فاذاً نشوء الحسيات العالية ونموّ الأخلاق انما هو بالمجاهدة، وتكمل الأشياء انما هو بمقابلة الأضداد ومزاحمتها. ألاترى ان حكومة اذا جاهدت ينمو فيها الجسارة واذا تركت انطفأت.. تأمل!..
وان نظم جملة (وما يضل به الاّ الفاسقين) هو: انه لما ابهم في (يضل به كثيراَ) انتبه ذهن السامع وخاف فاستفسر قائلاً: من هم الضالون؟ وما السبب؟ وكيف تجئ الظلمة من نور القرآن؟.. فأجاب: بأنهم الفاسقون، وان الاضلال جزاء لفسقهم، وبالفسق ينقلب النور في حق الفاسق ناراً والضياء ظلمة. ألا ترى ان ضياء الشمس يعفن ما استقذرت مادته. وان وجه التوصيف بقوله (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض) هو انه شرحٌ وكشف للفسق اذ الفسق عدول عن الحق وتجاوز عن الحد وخروج من القشر الحصين. وان الفسق انما هو بالافراط أو التفريط في القوى الثلاث التي هي القوّة العقلية والغضبية والشهوية.. وان الافراط والتفريط سببان للعصيان في مقابلة الدلائل التي كالعهود الالهية في الفطرة.. وكذا وسيلتان لمرض الحياة النفسية وأشير الى هذا بالصفة الأولى.. وكذلك محرِّكان للعصيان في مقابلة الحياة الاجتماعية وتمزيق الروابط والقوانين الاجتماعية وأشير الى هذا بالصفة الثانية.. وأيضا هما سببان للفساد والاختلال المنجر الى فساد نظام الأرض وأشير الى هذا بالصفة الثالثة. نعم! ان الفاسق بتجاوز القوة العقلية عن حد الاعتدال يكسر رابطة العقائد ويمزق القشر الحصين اي الحياة الأبدية.. وبتجاوز القوة الغضبية يمزق قشر الحياة الاجتماعية.. وبتجاوز القوة البهيمية واتباع الهوى يزيل عن قلبه الشفقة الجنسية فيفسد ويورط الناس فيما تورط فيه فيكون سببا لضرر النوع وفساد نظام الأرض.
وان نظم جملة (أولئك هم الخاسرون) هو: انه لما ذكر جنايات الفاسق ورهب بها أكد التهديد بنتيجتها وجزائها ليؤثر الترهيب. فقال: هم الذين خسروا ببيع الآخرة بالدنيا واستبدال الهدى بالهوى.. 1
ولنشرع في نظم هيئات جملة جملة، فاعلم! ان الآيات وجملها وهيئاتها كأميال الساعة التي تعدّ الثواني والدقائقَ والساعاتِ، فكلما يثبت هذا شيئاً يؤيده ذاك بدرجته ويمده ذلك بنسبته، وكذا اذا اراد هذا شيئاً عاونه ذاك وساعده الآخر بحيث يُخطر الحال ما قيل:
عِبَارَاتُنا شَتّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌ الى ذَاكَ الْجَمالِ يُشِيرُ
1 لعله: استبدال الهوى بالهدى.
ولهذا السر قد بلغت سلاسة القرآن وعلوّ طبقته ودقة نقشه الى مرتبة الاعجاز.
أما هيئات جملة (ان الله لايستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) فاعلم! ان (ان) للتحقيق وردّ التردد والانكار فهي اشارة الى الترددات المتسلسلة المذكورة.. وان لفظة "الله" لتنبيه الذهن على الخطأ في القياس المذكور.. وان ايثار (لايستحيي) على "لايترك" مع ان الحياء - وهو انقباض النفس - محال في حقه تعالى ونفى المحال لا فائدة فيه، اشارة الى ان الأسباب من الحكمة والبلاغة وغيرهما تقتضي حسن التمثيل فلا علة للترك الا الحياء، والحياء عليه تعالى محال فلا سبب للترك أصلا فألزمهم أشدّ إلزام وألطفه.. وكذا رمز بمشاكلة الصحبة الى كلمتهم الحمقاء من قولهم:"أما يستحي ربّ محمد من التمثيل بهذه المحقّرات".. وان ايثار (ان يضرب) على "من المثل الحقير" مع انه الأنسب، اشارة الى اسلوب لطيف وهو: ان التمثيل كضرب الخاتم للتصديق والاثبات، أو كضرب السكة للقيمة والاعتبار. وفي الاشارة رمز الى حسن التمثيل طرداً للأوهام، وكذا اشارة الى ان التمثيل منهاج مشهور مستحسن، لأن ضروب الأمثال من القواعد المعروفة.. وان ايثار (ان يضرب) على "ضرب" مع انه الأوجز للايماء الى أن منشأ الاعتراض ليس إلاّ الخساسة. لأن (ان يضرب) لعدم استقلاله كأنه لطيف يُمرّ القصدَ الى المفعول.. وأما "ضرب" فلاستقلاله كأنه كثيف يستوقف القصد.. وان (مثلا) ايماء الى خاصية التمثيل من تصوير المعقول بالمحسوس، والموهوم بالمحقق، والغائب بالشاهد. ومنه ايماء الى رد الوهم.. وتنكير (مثلا) رمز الى ان مدار النظر هو ذات التمثيل، وأما الصفات فمحمولة على طبيعة المقام وحال الممثَّل له.. وان التعميم في (ما) اشارة الى تعميم القاعدة لئلا يختص الجواب بما اعترضوا به فالممثَّل له أية صورة أقتضى استحسنتها البلاغة. وان تخصيص (بعوضة) اشارة الى كثرة استعمال البلغاء للتمثيل بها كقولهم "أضعف من البعوضة" 1 و"أشد عنادا من البعوضة" و "كلفتني مخ البعوضة" و "أعزّ من مخ البعوضة" 2 و "قالت البعوضة للنخلة استمسكي انا أطير" و "الدنيا لا توزن عندالله جناج بعوضة" وقس.. وفي الاشارة رمز الى ضعف وهمهم.. وان المعنى بـ (ما فوقها) مادونها في الصغر وما
1 جمهرة الامثال للعسكرى 2/.3.
2 جمهرة الامثال للعسكرى 2/33.
فوقها في قيمة البلاغة أو في الصغر أيضا فالتعبير بـ (مافوقها) اشارة الى ان الصغير اغرب بلاغة وأعجب خلقة.
واعلم! ان الهيئات كخيوط الحرير باجتماعها يظهر النقش الحسن.
وأما هيئات جملة (فأما الذين آمنوا فيعلمون انه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) فاعلم! ان الفاء للتفريع، والتفريع اشارة الى دليل ضمني ينتج هذه الجملة ذات الشقين: أي لايترك التمثيل لأن البلاغة تقتضيه؛ فمن انصف يعرف انه بليغ وحق وكلام الله تعالى. ومن نظر بالعناد لايعلم الحكمة فيتردد.. فيسأل.. فينكر.. فيستحقر. فانتج: ان المؤمن - لأنه منصف - يصدق انه كلام الله، والكافر - لأنه معاند - يقول ما الفائدة فيه؟ وان "اما" فلانها شرطية لزومية في الوضع اشارة الى ان الخبر لازم للمبتدأ وضروريّ له، يعني من شأن المبتدأ هذا الخبر.. وان ايراد (الذين آمنوا) بدل "المؤمنين" اشارة الى التنصيص على ان الايمان هو سبب العلم بحقيته وان العلم بحقيته ايمان 1.. وان (انه الحق) بدل "انه البليغ" الأنسب بالمقام اشارة الى آخر نتيجة اعتراضهم اذ غرضهم نفى كونه كلام الله.. وان حصر "انه الحق" اشارة الى ان هذا هو المستحسن الذي لا يستقبح بخلاف ما يزعمون اذ السلامة من العيب لاتثبت الكمال.. وان (من ربهم) اشارة الى ان هدف غرضهم انكار النزول.. وان "اما" في "واما الذين كفروا" للتأكيد والتحقيق والتفصيل.. وان ايراد (الذين كفروا) بدل "الكافرين" الأوجز ايماء كما مر الى ان انكارهم يجئ من الكفر ويذهب الى الكفر.. وان ايثار (فيقولون) على "فلا يعلمون" مع انه الظاهر كما مر فلاختيار طريق الكناية للايجاز أي: من كفر لايعرف الحقيقة فينجر الى التردد.. فينجر الى الانكار.. فينجر الى الاستحقار بصورة الاستفهام.. وأيضاً في "يقولون" رمز الى أنهم كما كانوا ضالّين، كذلك كانوا مضلين بأقوالهم.
1 الظاهر: ان ههنا حذفاً من نسيان النساخ - كما انه نسي تحليل ماذا اراد الله بهذا مثلاً برمته - مع الاسف - يُعلم من عدم ارتباط الكلام، ومن فقد كلمة "فيعلمون " ومن عديله "الذين كفروا " مع الاحالة هناك على ما هنا. فاقول بدلاً عن المؤلف على نسق ما يأتي، فان حلّ محله فبها والاّ فعليّ:
ان ايراد الذين آمنوا بدل "المؤمنين " الاوجز ايماء الى ان انصافهم يجئ من الايمان، ويذهب الى الايمان.. وان ايثار "فيعلمون " على "فيقولون " الانسب بما يأتي اشارة الى التنصيص على ان الايمان هو سبب العلم بحقيقته، وان العلم بحقيقيته ايمان (ش) .
وأما هيئات جملة (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراَ) فاعلم! ان الترتيب يقتضي تقديم الثانية لكن لما كان الغرض ردّ اعتراض المتردِّد المستفهِم المستنكِر المستقبح كان (يضل) أهمّ. أما العدول عن "الضلالة والهداية" المناسبتين للسؤال الى صورة الفعل المضارع فاشارة الى ان كفرهم يتكاثف ظلمة على ظلمة بنسبة تزايد النزول تجدداً؛ كما ان المؤمن يتزايد ايمانه بدرجات النزول نوراً على نور.. وكذا في الفعل - بناء على كونه جوابا - رمز الى بيان حال الفريقين وبيان السبب. وأما (كثيراً) ففي الأُولى كمية وعدداً، وفي الثانية قيمة وكيفية. نعم! ان كرام الناس كثيرون وان قلّوا. فالتعبير بالكثير في الثانية رمز الى سرّ كون القرآن رحمة للبشر 1. تأمل..
وأما جملة (وما يضل به الاّ الفاسقين) فاعلم! انه لما ذكر الكثير في الاولى دفع الوسوسة والخوف والتردد وتهمة النقص في القرآن ببيان: ان الضالين من هم؟ وان منشأ الضلالة فسقهم، وان سببها كسبهم، وان القصور منهم لا من القرآن، وان خلق الضلالة جزاء لفعلهم..
ثم اعلم! ان كل واحدة من هذه الجمل كما انها كشّافة لسابقتها؛ كذلك مفسَّرة بلاحقتها كأنها دليل للسابقة نتيجة للاحقة.
وايضاحه: ان فيها سلسلتين.
إحداها هكذا: انه لايستحي.. لأنه لايترك.. لأنه بليغ
…
لأنه حق.. لأنه كلام الله.. لان المؤمن يعلمه.
والثانية هكذا: انه لايستحي كما يقول المنكر.. لأنهم يقولون يلزم تركه.. لأنهم لايعلمون حكمته.. لأنهم يقولون ما الفائدة فيه.. لأنهم ينكرونه.. لأنهم يستحقرونه.. لأنهم يقعون في الضلالة بسماعه.. لأنهم يضلهم القرآن.. لأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن قشرهم.. لأنهم نقضوا عهد الله.. لأنهم مزقوا ما اتصل بأمر التكوين والتشريع.. لأنهم يفسدون النظام الالهيّ في الارض. فاذاً هم الخاسرون في الدنيا باضطراب الوجدان وبقلق القلب وبتوحش الروح، وفي الآخرة بالعذاب الأبديّ وبغضب الله، فتأمل في سلاسة السلسلتين!.. (2)
1 اِذ من لطف القرآن وشمول رحمته للناس اظهار فضائل المهتدين القليلين كثيرةً، وبيان ان صاحب فضلية وهداية اولى" من الفٍ من المحرومين منها، لذا فالكرام كثيرون وان قلّوا (ت: 196)
(2)
جزاك الله خيراً كثيراً لقد أحسنت في فهم السلسلتبن وتفهيمهما (بخط المؤلف على نسخة مطبوعة)
وأما هيئات جملة (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به ان يوصل ويفسدون في الأرض) فاعلم! ان توصيف الفاسقين المشككين في اعجازه ونظمه بهذه الأوصاف في هذا المقام، انما هو لمناسبة لطيفة عالية. كأن القرآن يقول: ليس ببعيد من الفساق - الذين لم يروا اعجاز القدرة في نظام الكائنات التي هي القرآن الأكبر - ان يترددوا ويجهلوا اعجاز نظم القرآن؛ اذ كما يرون نظام الكائنات تصادفيا، والتحولات المثمرة عبثا اتفاقية فتستر عنهم - لفساد روحهم - حِكَمَه؛ كذلك بفطرتهم السقيمة وتهوسهم الفاسد رأوا النظم المعجز مشوشا ومقدماته عقيمة وثمراته مرّة.
اما جملة (ينقضون عهد الله) فلأن النقض لغةً تفريق خيوط الحبل وتمزيقها اشارة الى اسلوب عال، كأن عهده تعالى حبل نوراني فتل بالحكمة والعناية والمشيئة فامتد من الازل الى ان اتصل بالأبد. فتجلى في الكائنات بصورة النظام العمومي وأرسلت تلك السلسلة سلاسلها الى الأنواع وامتدّ أَعْجُبُها 1 الى نوع البشر فاورثت واثمرت في روح البشر بذور استعدادات وقابليات تسقى وتتزاهر بالجزء الاختياريّ المعدَّل بالأمر التشريعيّ، أي الدلائل النقلية. فوفاء العهد صرف الاستعدادات فيما وضعت له؛ ونقض العهد خلافه وتفريقه، كالايمان ببعض الأنبياء وتكذيب بعض.. وقبول بعض الأحكام ورد بعض.. واستحسان بعض الآيات واستنكار بعض.. فانه يخل بالنظام والنظم والانتظام.
وأما جملة (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) فاعلم! ان هذا الأمر عام للأمر التشريعيِّ والأمر التكوينيِّ المندمج في القوانين الفطرية والعادات الالهية. فالقطع لما أمر بوصله شرعاً كقطع صلة الرحم وقطع قلوب المؤمنين بعض عن بعض. وعلى هذا القياس!.. وتكويناً كقطع العمل عن العلم.. وقطع العلم عن الذكاء.. وقطع الذكاء عن الاستعداد. وقطع معرفة الله عن العقل.. وقطع السعي عن القوة.. وقطع الجهاد عن الجسارة وهكذا!.. اذ إعطاء القوة أمر معنوي تكويني بالسعي، وإعطاء الذكاء أمر معنوي بالعلم.. الى آخره
…
وأما جملة (ويفسدون في الأرض) فاعلم! ان من فسد وتورط في الوحل يطلب أن يكون له رفقاء متورطون ليتخفف عنه دهشة الحال بسر "اذا عمّت البلية
1 جمع عجب وهو الدنب.
طابت" وكذا اذا وقع في قلب أحد اختلالٌ، تخرب في قلبه الكمالاتُ وتتساقط الحسيات العالية، فيتولد فيه ميل التخريب فينتج له لذة في التخريب فيتحرى لذته في الافساد والاختلال.
- فان قلت: كيف يؤثر فساد فاسق في عموم الأرض المشار اليه بلفظ في الأرض؟
قيل لك: الذي فيه نظام ففيه موازنة، حتى ان النظام مبني على الموازنة فتداخل شئ حقير بين دواليب ماكينة تتأثر به، وان لم يُحس. والميزان الذي في كفتيه جبلان يتأثر بوضع جوزة على كفة..
وأما جملة (اولئك هم الخاسرون) فاعلم! ان حق العبارة "هم خاسرون في عدم الهداية به " فلفظ "اولئك" ولفظ "هم" والتعريفُ والاطلاقُ لنكت:
أما (اولئك) فلأن وضعه لإِحضار محسوسٍ، فالإِحضار المستفاد منه اشارة الى ان السامع اذا سمع حالهم الخبيثة من شأنه ان يحصل له حدّة عليهم ونفرة منهم. فلتطمين نفرته وتشفّي حدّته يطلب أن يستحضروا إلى خياله ليشاهدهم وقت اتصافهم بالعاقبة الوخيمة. . والمحسوسية اشارة الى أن أوصافهم الرذيلة تكثرت بدرجة تجسمهم محسوسين نصب نظر النفرة. فمن الإِشارة ايماء إلى علة الحكم بالخسارة. . والبعدية إشارة إلى أنهم قد بعدوا عن طريق الحق بدرجة لايرجعون فيستحقون الذم والتشنيع بخلاف من كان في معرض الندامة ومسافة الرجوع.. و (هم) اشارة الى ان الخسارة منحصرة عليهم حتى ان خسارات المؤمنين لبعض اللذائذ الدنيوية ليست خسارة. وكذا خسارات أهل الدنيا في تجاراتهم ليست خسارة بالنسبة إلى خساراتهم.. والألف واللام اشارة الى تصوير الحقيقة أي من أراد أن يرى حقيقة الخاسرين فلينظر اليهم. . وكذا ايماء الى أن مسلكهم محض خسارة لا كالخسارات الأخر التي فيها وجوه من النفع لكن الضر أكثر. فالتعريف اما للكمال أو للبداهة أو لتصوير الحقيقة.. واطلاق الخسارة اشارة باعانة المقام الخطابيّ الى عموم أنواع الخسارات. أي خسروا في وفاء العهد بالنقض، وفي صلة الرحم بالقطيعة، وفي الاصلاح بالإِفساد، وفي الايمان بالكفر، وبالشقاوة خسروا السعادة الأبدية..
* * *