المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ان الذين كفروا سواء عليهمءانذرتهم ام لم تنذرهم لايؤمنون - إشارات الإعجاز

[بديع الزمان النورسي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الترجمة التركية

- ‌ البقرة

- ‌الم

- ‌ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ

- ‌(اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)

- ‌وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ اِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

- ‌(اُولئِك عَلَى هُدىً مِنْ رَبٍّهِمْ)

- ‌اِنًّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَاَنْذَرْتَهُمْ اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لايُؤْمِنُونَ

- ‌خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ

- ‌وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ امَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤمِنِينَ

- ‌يُخادِعُونَ الله

- ‌وَاِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا

- ‌وَاِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا

- ‌واِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا

- ‌اُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ

- ‌مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ

- ‌اَوْ كَصَيِّب مِنَ السَّماءِ

- ‌يَا اَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ

- ‌وَإنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا

- ‌وَبَشِّر الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ

- ‌اِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي اَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً

- ‌كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالله وَكُنْتُمْ اَمْوَاتاً فَاَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

- ‌هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى اِلَى السَّماءِ فَسَوّيهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

- ‌وَاذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلئِكَةِ

- ‌وَعَلَّمَ ادَمَ الاْسْماءَ كُلَّها

الفصل: ‌ان الذين كفروا سواء عليهمءانذرتهم ام لم تنذرهم لايؤمنون

‌اِنًّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَاَنْذَرْتَهُمْ اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لايُؤْمِنُونَ

6

وجه النظم:

اعلم! ان للذات الاحديِّ في عالم صفاته الازلية تجلِّيَيْن جلاليّ وجماليّ. فبتجليهما في عالم صفات الافعال يتظاهر اللطف والقهر والحسن والهيبة. ثم بالانعطاف في عالم الافعال يتولد التحلية والتخلية والتزيين والتنزيه. ثم بالانطباع في العالم الأُخروي من عالم الآثار يتجلى اللطف جنة ونوراً، والقهر جهنم وناراً. ثم بالانعكاس في عالم الذكر ينقسم الذكر الى الحمد والتسبيح. ثم بتمثلهما في عالم الكلام يتنوع الكلام الى الأمر والنهي. ثم بالارتسام في عالم الارشاد يقسمانه الى الترغيب والترهيب والتبشير والانذار. ثم بتجليهما على الوجدان يتولد الرجاء والخوف.. وهكذا. ثم ان من شأن الارشاد ادامة الموازنة بين الرجاء والخوف، ليدعو الرجاء الى ان يسعى بصرف القوى، والخوف الى ان لايتجاوز بالاسترسال فلا ييأس من الرحمة فيقعد ملوماً، ولا يأمن العذاب فيتعسف ولا يبالي. فلهذه الحكمة المتسلسلة مارغّب القرآن إلاّ وقد رهَّب، وما مدح الابرار الا وقرنه بذمّ الفجار.

- ان قلت: فلِمَ لم يعطف هنا كما عطف في (اِنَّ الابْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ _ وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)1.؟

قيل لك: ان حسن العطف ينظر الى حسن المناسبة، وحسن المناسبة يختلف باختلاف الغرض المسوق له الكلام. ولما اختلف الغرض هنا وهنالك، لم يستحسن العطف هنا؛ اذ مدحُ المؤمنين منجر ومقدمة لمدح القرآن، ونتيجة له، وسيق له. وأما ذم الكافرين فللترهيب لايتصل بمدح القرآن.

ثم انظر الى اللطائف المندمجة في نظم اجزاء هذه الآية!

فأولا: استأنس بـ (إنّ) و (الذين) فانهما أجْوَلُ وأسْيَرُ ما يصادفك في منازل التنزيل. ولأمر مّا أكثر القرآنُ من ذكرهما؛ اذ معهما من جوهر البلاغة نكتتان عامتان غير ماتختص كل موقع.

1 سورة الانفطار: 13، 14

ص: 72

أما (إنّ) فان من شأنها ان تثقب السطح نافذة الى الحقيقة، وتوصل الحكم اليها؛ كأنها عرق الدعوى اتصلت بالحق. مثلا: ان هذا كذا.. أي الحكمُ وهذه الدعوى ليست خيالية ولا مبتدعة ولا اعتبارية ولا مستحدثة؛ بل هي من الحقائق الجارية الثابتة. وما يقال من أن "إنّ" للتحقيق فعنوان لهذه الحقيقة والخاصية. والنكتة الخصوصية هنا هي أن "إنّ" الذي شأنه رد الشك والانكار مع عدمهما في المخاطب للاشارة الى شدة حرص النبي عليه السلام على ايمانهم.

واما (الذين) فاعلم! ان "الذي" من شأنه الاشارة الى الحقيقة الجديدة التي أحس بها العقل قبل العين، وأخذت في الانعقاد ولم تشتد، بل تتولد من امتزاج أشياء وتآخذ أسباب مع نوع غرابة. ولهذا ترى من بين وسائط الاشارة والتصوير في الانقلاب المجدد للحقائق لفظ "الذي" أسيرَ على الالسنة وأكثر دورانا. فلما ان تجلى مؤسس الحقائق وهو القرآن، اضمحل أنواعٌ ونقضت فصولُها وتشكلت انواع اُخر وتولدت حقائق اخرى. اما ترى زمان الجاهلية كيف تشكلت الانواع على الروابط الملّية وتولدت الحقائق الاجتماعية على العصبيات القومية؟ فلما ان جاء القرآن قطع تلك الروابط وخرب تلك الحقائق فأسس بدلَا عنها انواعاً، فصولها الروابط الدينية. فتأمل!.. فلما أشرق القرآن على نوع البشر تزاهر بضيائه واثمر بنوره قلوب فتحصلت حقيقة نورانية هي فصل نوع المؤمنين. ثم لخبث بعض النفوس تعفنت في مقابلة الضياء تلك النفوسُ فتولدت حقيقة سمّية هي خاصة نوع مَن كفر 1..

وايضا بين "الذين" و"الذين" تناسب. 2

اعلم! ان الموصول كالالف واللام يستعمل في خمسة معان اشهرها العهد. فـ"الذين" هنا اشارة الى صناديد الكفر امثال ابي جهل وابي لهب وأُمية بن خلف وقد ماتوا على الكفر. فعلى هذا في الآية إخبار عن الغيب. وامثال هذا لمعاتٌ يتولد منها نوعٌ من الاعجاز من الانواع الاربعة للاعجاز المعنوي.

واما لفظ (كفروا) فاعلم! ان الكفر ظلمة تحصل من انكار شئ مما عُلِمَ ضرورةً مجئ الرسول عليه السلام به.

1 فلأجل الاشارة الى هذه الحقيقة الكفرية، ذكر "الذين" (ت: 72)

2 لأن كلاً منهما يدلان على حقيقة مضادة للاخرى (ت: 72)

ص: 73

ان قلت: ان القرآن من الضروريات وقد اُختلف في معانيه؟

قيل لك: ان في كل كلام من القرآن ثلاث قضايا:

احداها: "هذا كلام الله".

والثانية: "معناه المراد حق"؛ وانكار كلٍّ من هاتين كفر.

والثالثة: "معناه المراد هذا"؛ فان كان مُحْكَماً أو مفسراً فالايمان به واجب بعد الاطلاع، والانكار كفر. وان كان ظاهراً، او نصاً يحتمل معنى آخر، فالانكار بناء على التأويل - دون التشهّي - ليس بكفر 1. ومثل الآية الحديث المتواتر؛ الا ان في انكار القضية الاولى من الحديث تأملا. 2

ان قلت: الكفر جهل وفي التنزيل (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ اَبْنَاءهُمْ) 3 فما التوفيق؟

قيل لك: ان الكفر قسمان:

جهليّ ينكِر لأنه لا يعلم. والثاني جحودي تمردي يعرف لكن لايقبل، يتيقّن لكن لايعتقد، يصدِّق لكن لايذعن وجدانُه. فتأمل!..

ان قلت: هل في قلب الشيطان معرفة؟

قيل لك: لا، اذ بحكم صنعته الفطرية يشتغل قلبُه دائما بالاضلال ويتصور عقلُه دائماً الكفر للتلقين فلا ينقطع هذا الشغل، ولا يزول ذلك التصور عن عقله حتى تتمكن فيه المعرفة.

- ان قلت: الكفر صفة القلب فكيف كان شدّ الزُنّار - وقد قيس عليه "الشَّوْقَة" 4 - كفراً؟

قيل لك: ان الشريعة تعتبر بالامارات على الامور الخفية حتى اقامت الاسباب الظاهرية 5 مقام العلل. ففي شد الزُنَّار المانع بعضُ نوعه عن اتمام الركوع، وإلباس

1 واختلاف المفسرين ليس الاّ في هذا القسم (ت: 73)

2 اى ثبوت صحته وتواتره (ت: 73)

3 سورة البقرة: 146

4 القبعة.

5 التى هى ليست عللاً (ت: 74)

ص: 74

"الشَوْقَة" المانعة عن تمام السجود علامة الاستغناء عن العبودية، والتشبه بالكفرة المومِئ باستحسان مسلكهم وملّيتهم. فما دام لم يُقطَع بانتفاء الامر الخفي يُحكَم بالامر الظاهر.

ان قلت: اذا لم يُجدِ الانذار فلِمَ التكليف؟

قيل لك: لإلزام الحجة عليهم. 1

ان قلت: الاخبار عن تمردهم يستلزم امتناع ايمانهم فيكون التكليف بالمحال؟

قيل لك: ان الاخبار وكذا العلم والارادة لا تتعلق بكفرهم مستقلا مقطوعاً عن السبب، بل انما تتعلق بكفرهم باختيارهم. كما يأتيك تفصيله. ومن هنا يقال:"الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار".

ان قلت: ايمانهم بعدم ايمانهم 2 محال عقليّ يشبه "الجذر الاصم الكلاميّ".؟ 3

قيل لك: انهم ليسوا مكلفين بالتفصيل حتى يلزم المحال.

ثم في ايراد (كفروا) فعلاً ماضياً، اشارة الى انهم اختاروا الكفر بعد تبين الحق فلذا لايفيد الانذار.

واما (سواء) فمجاز عن: "انذارك كعدم الانذار في عدم الفائدة او في صحة الوقوع" اي لاموجب للانذار ولا لعدمه.

واما (عليهم) ففيه ايماء الى انهم اخلدوا الى الارض فلا يرفعون رؤوسهم ولا يصغون الى كلام آمرهم.. وفيه أيضا رمز الى انه ليس سواء عليك، لان لك الخير في التبليغ؛ اذ (مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاّ البَلاغُ)4.

1 اذ يمكنهم ان يقولوا لم نبلّغ بالتكليف ولا علم لنا به، ويكون هذا مدار نجاتهم من الجزاء (ت: 74)

2 كما في "لايؤمنون" وامثالها من الآيات (ت: 74)

3 مغلطة الجذر الاصم هى هذه: قيل ان اجتماع النقيضين واقع، لانه لو قال قائل كل كلامي في هذه الساعة كاذب والحال انه لم يقل في تلك الساعة غير هذا الكلام، فلا يخلو من ان يكون هذا الكلام، صادقاً أوكاذباً. وعلى التقديرين يلزم اجتماع النقيضين. اما اذا كان صادقاً فيلزم كذب كلامه في تلك الساعة، وهذا الكلام مما تكلم به في تلك الساعة ولم يتكلم بغيره؛ فيلزم كذب كلامه. والتقدير انه صادق فيلزم اجتماع النقيضين وان كان كاذباً يلزم ايضاً اجتماع النقيضين لانه يلزم ان يكون بعض افراد كلامه صادقاً في تلك الساعة لكن ما وجد عنه في تلك الساعة سوى هذا الكلام فيلزم صدقه، والمفروض كذبه فيلزم اجتماع النقيضين. وهذه المغلطة مشهورة تحير جميع العلماء في حلّها. (ب)

4 سورة المائدة: 99.

ص: 75

واما (ءَاَنذرتهم ام لم تنذرهم) فالهمزة واَمْ هنا في حكم "سواء حرفي"، تأكيد لسواء الاول. أو تأسيس نظراً الى اقتسامهما المعنيين المذكورين للمساواة.

ان قلت: فلِمَ عبّر عن المساواة بصورة الاستفهام؟

قيل لك: اذا اردت ان تنبه المخاطب على عدم الفائدة في فعل نفسه بوجه لطيف مقنع لابد ان تستفهم ليتوجه ذهنُه الى فعله فينتقل منه الى النتيجة فيطمئن.. ثم العلاقة بين الاستفهام والمساواة تضمنه لها؛ اذ السائل يتساوى في علمه الوجود والعدم.. وايضا كثيرا مايكون الجواب هذه المساواة الضمنية.

ان قلت: لِمَ عبّر عن الانذار في "أنذرتهم" بصورة الماضي؟

قيل لك: لينادي "يا محمد قد جرَّبْتَ" فقس!

ان قلت: لِمَ ذكر (ام لم تنذرهم) مع ان عدم فائدة عدم الانذار ظاهر؟

قيل لك: كما قد ينتج الانذار اصراراً، كذلك قد يجدي السكوت انصاف المخاطب.

ان قلت: لِمَ انذر بالترهيب فقط مع انه بشير نذير؟

قيل لك: اذ الترهيب هو المناسب للكفر، ولان دفع المضار أولى من جلب المنافع وأشد تأثيراً، ولأن الترهيب هنا يهز عِطف الخيال ويوقظه لان يتلقى ويجتني بعد قوله (لايؤمنون)"أبشّرتهم ام لم تبشرهم".

ثم اعلم! كما ان لكل حكمٍ معنى حرفياً ومقصدا خفياً؛ كذلك لهذا الكلام معان طيارة ومقصد سيق له هو تخفيف الزحمة، وتهوين الشدة عن النبي عليه السلام، وتسليته بتأسّيه بالرسل السالفين. اذ خوطب اكثرهم بمثل هذا الخطاب، حتى قال نوح بعده (لا تَذَرْ عَلَى الَارْضِ مِنَ الْكَافِرينَ دَيَّاراً)1.. ثم لأن آيات القرآن كالمرايا المتناظرة، وقصص الانبياء كالهالة للقمر تنظر الى حال النبي عليه السلام؛ كان كأن هذا الكلام يقول: هذا قانون فطريّ الهيّ يجب الانقياد له.

1 سورة نوح: 26

ص: 76

واعلم بعد هذا التحليل!

ان مجموع هذه الآية الى (ولهم عذاب عظيم) سيقت: مشيرةً بعقودها الى تقبيح الكفر وترذيله، والتنفير منه والنهي الضمني عنه، وتذليل أهله، والتسجيل عليهم، والترهيب عنه، وتهديدهم.. منادية 1 بكلماتها بأن في الكفر مصائب عظيمة، وفوات نِعَم جسيمة، وتولد آلام شديدة، وزوال لذائذ عالية.. مصرحةً بجملها بأن الكفر أخبث الاشياء وأضرها.

اذ أشار بلفظ (كفروا) بدل "لم يؤمنوا" الى انهم بعدم الايمان وقعوا في ظلمة الكفر الذي هو مصيبة تفسد جوهر الروح وايضا هو معدن الآلام.

وبلفظ (لايؤمنون) بدل "لايتركون الكفر" الى انهم مع تلك الخسارة سقط من ايديهم الايمان الذي هو منبع جميع السعادات.

وبلفظ (ختم الله على قلوبهم) الى ان القلب والوجدان - الذي حياته وفرحه وسروره وكمالاته بتجلي الحقائق الالهية بنور الايمان - بعدما كفروا صار كالبناء الموحش الغير المعمور المشحون بالمضرات والحشرات، فاُقْفِل واُمْهِر 2 على بابه ليُجتَنب، وتُرك مفوضاً للعقارب والافاعي.

وبلفظ (وعلى سمعهم) الى فوات نعمة عظيمة سمعية بسبب الكفر؛ اذ السمع من شأنه - اذا استقر خلف صماخه نورُ الايمان واستند اليه - الاحتساس بنداء كل العالم وفهم اذكارها، وسمع صياح الكائنات وتفهم تسبيحاتها.. حتى ان السمعَ ليسمعُ من ترنمات هبوب الريح، ومن نعرات رعد الغيم، ومن نغمات امواج البحر، ومن صرخات دقدقة الحجر، ومن هزجات نزول المطر، ومن سجعات غناء الطير كلاماً ربانياً، ويفهم تسبيحا علويا، كأن الكائنات موسيقية عظيمة له، تهيّج في قلبه حزناً علوياً وعشقاً روحانياً فيحزن بتذكر الأحباب والانيس فيكون الحزن لذة؛ لا بعدم الاحباب فيكون غماً.. واذا اظلم ذلك السمع بالكفر صار اصم من تلك الاصوات اللذيذة، ولايسمع من الكائنات إلا نياحات المأتم ونعيات الموت، فلا يلقي

1 بالنصب، عطف على قوله: مشيرةً. وكذا مصرحة.

2 اى ختم على بابه. والمهر- بالضم - هو الختم الذى يطبع ويوقع به. والكلمة اعجمية استعملها تفنناً. وله من الحسن مقام (ش)

ص: 77

في القلب الا غم اليتمة - اي عدم الاحباب - ووحشة الغربة - اي عدم المالك والمتعهد - فبناء على هذا السر أحل الشرع بعض الاصوات وهو ماهيّج عشقاً علوياً وحزناً عاشقياً، وحرّم بعضها وهو ما انتج اشتهاء نفسياً وحزناً يتمياً، ومالم يُرِكَ الشرع فمَيِّزْه بتأثيره في روحك ووجدانك.

وبكلمة (وَعلى ابصارهم غشاوة) الى زوال نعمة جسيمة بسبب الكفر؛ اذ البصر من شأنه اذا استضاء نوره واتصل بنور الايمان الساكن خلف شُبيكته ممداً ومحركاً له كان كل الكائنات كجنة مزينة بالزهر والحور، ويصير نور العين نحلا تطير عليها فتجتنى من تلك الازاهير عصارة العبرة والفكرة والانسية والاستيناس والتحبب والتهنئة، فتأخذ حميلتها فتتخذ في الوجدان شهد الكمالات.. واذا أظلم - العياذ بالله - ذلك البصرُ بالكفر طمس، وصارت الدنيا في نظره سجناً، وتسترت عنه الحقائق وتوحشت عليه الكائنات وتلقى الى قلبه آلاماً تحيط بوجدانه من الرأس الى القدم..

وبلفظ (ولهم عذاب عظيم) الى ثمرة شجرة زقوم الكفر في العالم الاخروي من عذاب جهنم ومن نكال الغضب الالهي. هذا.

واما "لايؤمنون" فتأكيد لـ "سواء" ينص على جهة المساواة.

***

ص: 78