الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الحديد
مدنية وآياتها 29 نزلت بعد الزلزلة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الحديد) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هذا التسبيح المذكور هنا وفي أوائل سائر السور المسبحات يحتمل أن يكون حقيقة، أو أن يكون بلسان الحال لأن كل ما في السموات والأرض دليل على وجود الله وقدرته، وحكمته، والأول أرجح لقوله: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] ، وذكر التسبيح هنا وفي الحشر والصف بلفظ سبح الماضي، وفي الجمعة والتغابن بلفظ يسبح المضارع، وكل واحد منهما يقتضي الدوام هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ أي ليس لوجوده بداية ولا لبقائه نهاية وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ أي الظاهر للعقول بالأدلة، والبراهين الدالة على الباطن، الذي لا تدركه الأبصار، أو الباطن الذي لا تصل العقول إلى معرفة كنه ذاته، وقيل: الظاهر: العالي على كل شيء فهو من قولك: ظهرت على الشيء إذا علوت عليه، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه، والأول أظهر وأرجح. ودخلت الواو بين هذه الصفات لتدل على أنه تعالى جامع لها، مع اختلاف معانيها، وفي ذلك مطابقة لفظية، وهي من أحسن أدوات البيان ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد ذكر في الأعراف [53] وكذلك ما بعده وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ يعني أنه حاضر مع كل أحد بعلمه وإحاطته. وأجمع العلماء على تأويل هذه الآية بذلك يُولِجُ اللَّيْلَ ذكر في الحج ولقمان [29] وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني الإنفاق في سبيل الله وطاعته، وروي أنها نزلت في الإنفاق في غزوة تبوك، وعلى هذا روي أن قوله «فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا» نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهز جيش العسرة يومئذ،
ولفظ الآية مع ذلك عام وحكمها باق لجميع الناس، وقوله مستخلفين فيه يعني أن الأموال التي بأيديكم إنما هي أموال الله لأنه خلقها، ولكنه متّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، ويحتمل أن يكون جعلكم مستخلفين عمن كان قبلكم فورثتم عنه الأموال، فأنفقوها قبل أن تخلفوها لمن بعدكم، كما خلفها لكم من كان قبلكم، والمقصود على كل وجه: تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ معناه أي شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة؟ فقوله: ما لكم استفهام يراد به الإنكار. ولا تؤمنون في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم.
في قوله والرسول يدعوكم واو الحال وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما جعل في العقول من النظر الذي يؤدي إلى الإيمان، أو يكون الميثاق الذي أخذه على بني آدم حين أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ يعني سيدنا محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، والعبودية هنا للتشريف والاختصاص، والآيات هنا القرآن وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية: معناه أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ والله يرث ما في السموات والأرض إذا فني أهلها. ففي ذلك تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ الفتح هنا فتح مكة، وقيل: صلح الحديبية، والأول أظهر وأشهر، ومعنى الآية التفاوت في الأجر والدرجات بين من أنفق في سبيل الله وقاتل قبل فتح مكة، وبين من أنفق وقاتل بعد ذلك، فإن الإسلام قبل الفتح كان ضعيفا، والحاجة إلى الانفاق والقتال كانت أشد، ويؤخذ من الآية أن من أنفق في شدة أعظم أجرا ممن أنفق في حال الرخاء، وفي الآية حذف دل عليه الكلام تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل. ثم حذف ذلك لدلالة قوله: أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وفي هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه «1» ، يعني السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وخاطب بذلك من جاء بعدهم من سائر الصحابة، ويدخل في الخطاب كل من يأتي إلى يوم القيامة وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي
(1) . رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري ج 3 ص 11، 63.
كل واحدة من الطائفتين الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح وبعده وعدهم الله الجنة.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» ذكر في [البقرة: 245] يَوْمَ تَرَى العامل في الظرف أجر كريم أو تقدير اذكر يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ قيل: إن هذا النور استعارة يراد به الهدى والرضوان، والصحيح هو قول الجمهور أنه حقيقة، وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى على هذا أن المؤمنين يكون لهم يوم القيامة نور يضيء قدّامهم وعن يمين كل واحد منهم. وقيل: يكون أصله في إيمانهم يحملونه فينبسط نوره قدامهم، وروي أن نور كل أحد على قدر إيمانه، فمنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يضيء ما قرب من قدميه، ومنهم من يضيء مرة ويهمّ بالإطفاء مرة، قال ابن عطية: ومن هذه الآية أخذ الناس مشي المعتق بالشمعة قدّام معتقه إذا مات بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي يقال لهم ذلك.
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ يوم بدل من يوم ترى أو متعلق بالفوز العظيم، أو بمحذوف: تقديره اذكر ومعنى الآية: أن كل مؤمن مظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نورا فيبقى نور المؤمنين وينطفئ نور المنافقين، فيقول المنافقون للمؤمنين، انظرونا نقتبس من نوركم أي نأخذ منه ونستضيء به. ومعنى انظرونا:
انتظرونا. وذلك لأن المؤمنين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف، والمنافقون ليسوا كذلك. ويحتمل أن يكون من النظر أي انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فاستضاءوا بنورهم. ولكن يضعف هذا لأن نظر إذا كان بمعنى النظر بالعين يتعدى بإلى، وقرئ أنظرونا «2» بهمزة قطع ومعناه أخرونا أي أمهلونا في مشيكم حتى نلحقكم قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً يحتمل أن يكون هذا من قول المؤمنين، أو قول الملائكة ومعناه الطرد للمنافقين، والتهكم بهم لأنهم قد علموا أن ليس وراءهم نور، ووراءكم ظرف العامل فيه ارجعوا وقيل: إنه لا موضع له من الإعراب، وأنه كما لو قال:
ارجعوا ومعنى هذا الرجوع، ارجعوا إلى الموقف فالتمسوا فيه النور، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل الإيمان أو ارجعوا خائبين، وتنحوا عنا فالتمسوا نورا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين بسور يفصل بينهم، وفي ذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه وقيل: إن هذا السور هو الأعراف وهو سور بين الجنة والنار. وقيل: هو الجدار الشرقي من بيت المقدس وهذا بعيد
(1) . بقية الآية: فيضاعفه له. قرأ عاصم بفتح الفاء وقرأ نافع وغيره فيضاعفه بضم الفاء وقرأ ابن كثير: فيضعّفه.
(2)
. قرأ حمزة: أنظرونا بهمزة القطع أي: أمهلونا. وقال الفراء هي أيضا بمعنى: انتظرونا.
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ باطنه هو جهة المؤمنين، وظاهره هو جهة المنافقين وهي خارجه. كقوله ظاهر المدينة أي خارجها. والضمير في باطنه وظاهره يحتمل أن يكون للسور أو للباب والأول أظهر يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي ينادي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم: ألم نكن معكم في الدنيا؟ يريدون إظهارهم الإيمان فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أهلكتموها وأضللتموها بالنفاق وَتَرَبَّصْتُمْ أي أبطأتم بإيمانكم وقيل:
تربصتم الدوائر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين وَارْتَبْتُمْ أي شككتم في الإيمان وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي طول الأمل والتمني، ومن ذلك أنهم كانوا يتمنون أن يهلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أو يهزمون إلى غير ذلك من الأماني الكاذبة حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي الفتح وظهور الإسلام، أو موت المنافقين على الحال الموجبة للعذاب الْغَرُورُ هو الشيطان هِيَ مَوْلاكُمْ أي هي أولى بكم، وحقيقة المولى الولي الناصر، فكان هذا استعارة منه، أي لا وليّ لكم تأوون إليه إلا النار.
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ «1» معنى ألم يأن: ألم يحن. يقال:
أنى الأمر إذا حان وقته، وذكر الله يحتمل أن يريد به القرآن أو الذكر، أو التذكير بالمواعظ وهذه آية موعظة وتذكير قال ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن، وسمع الفضيل بن عياض قارئا يقرأ هذه الآية فقال: قد آن فكان سبب رجوعه إلى الله. وحكي أن عبد الله بن المبارك أخذ العود في صباه ليضربه فنطق بهذه الآية فكسره ابن المبارك، وتاب إلى الله وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ عطف ولا يكونوا على أن تخشع ويحتمل أن يكون نهيا، والمراد التحذير من أن يكون المؤمنون كأهل الكتب المتقدمة وهم اليهود والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي مدة الحياة وقيل: انتظار القيامة، وقيل: انتظار الفتح والأول أظهر اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يحييها بإنزال المطر وإخراج النبات، وقيل: إنه تمثيل للقلوب أي: يحيى الله القلوب بالمواعظ كما يحيى الأرض بالمطر، وفي هذا تأنيس للمؤمنين الذين ندبوا إلى أن تخشع قلوبهم، والأول أظهر وأرجح لأنه الحقيقة.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بتشديد الصاد من الصدقة وأصله المتصدقين، وكذلك
(1) . بقية الآية: وما نزل من الحق. هكذا قرأها نافع وحفص وقرأ الباقون: وما نزّل من الحق بالتشديد.
قرأ أبيّ بن كعب وقرأ بالتخفيف من التصديق، أي صدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وَأَقْرَضُوا اللَّهَ معطوف على المعنى، كأنه قال إن الذين تصدقوا وأقرضوا، وقد ذكرنا معنى أقرضوا في قوله: من ذا الذي يقرض الله
الصِّدِّيقُونَ مبالغة من الصدق أو من التصديق، وكونه من الصدق أرجح لأن صيغة فعّيل لا تبنى إلا من فعل ثلاثي في الأكثر، وقد حكي بناؤها من رباعي كقولهم: رجل مسّيك من أمسك وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يحتمل أن يكون الشهداء مبتدأ وخبره ما بعده، أو يكون معطوفا على الصديقين، فإن كان مبتدأ ففي المعنى قولان: أحدهما أنه جمع شهيد في سبيل الله فأخبر أنهم عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والآخر أنه جمع شاهد، ويراد به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم يشهدون على قومهم، وإن كان معطوفا ففي المعنى قولان، أحدهما: أنه جمع شهيد فوصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء: أي جمعوا الوصفين، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مؤمنو أمتي شهداء «1» وتلا هذه الآية، والآخر أنه جمع شاهد، لأن المؤمنين يشهدون على الناس كقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ هذا خبر عن الشهداء خاصة إن كان مبتدأ، أو خبر عن المؤمنين إن كان الشهداء معطوفا، ونورهم هو النور الذي يكون لهم يوم القيامة، حسبما ذكره في هذه السورة، وقيل: هو عبارة عن الهدى والإيمان، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ الآية معناها تشبيه الدنيا بالزرع الذي ينبته الغيث في سرعة تغيره بعد حسنه، وتحطمه بعد ظهوره والكفّار هنا يراد به الزراع فهو من قوله: كفرت الحبّ إذا سترته تحت الأرض: وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالزرع والفلاحة، فلا يعجبهم إلا ما هو حقيق أن يعجب، وقيل: أراد الكفار بالله وخصهم بالذكر لأنهم أشد إعجابا بالدنيا وأكثر حرصا عليها.
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة، فقيل: المعنى كونوا في أول صف من القتال، وقيل: احضروا تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقيل: كونوا أول داخل إلى المسجد، وأول خارج منه وهذه أمثلة، والمعنى العام:
المسابقة إلى جميع الأعمال الصالحات، وقد استدل بها قوم على أن الصلاة في أول الوقت
(1) . روى هذا الحديث الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى البراء بن عازب.
أفضل وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ السماء هنا يراد به جنس السموات بدليل قوله في آل عمران [133] ، وقد ذكرنا هناك معنى عرضها ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها المعنى أن الأمور كلها مقدرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» «1» وعرشه على الماء، والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يصيب من خير أو شر، وقيل: أراد به المصيبة في العرف وهو ما يصيب من الشر، وخص ذلك بالذكر لأنه أهم على الناس، وفي الأرض يعني القحوط والزلازل وغير ذلك، وفي أنفسكم يعني الموت، والفقر، وغير ذلك ونبرأها معناه: نخلقها والضمير يعود على المصيبة أو على أنفسكم أو على الأرض، وقيل: يعود على جميعها لأن المعنى صحيح في كلها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ المعنى فعل الله ذلك وأخبركم به لكيلا تتأسفوا على ما فاتكم، ومعنى لا تأسوا: لا تحزنوا أي فلا تحزنوا على ما فاتكم منها ولا تفرحوا فيها، وقرأ الجمهور بما آتاكم بالمدّ أي بما أعطاكم الله من الدنيا، وقرأ أبو عمرو بما أتاكم بالقصر أي بما جاءكم من الدنيا فإن قيل: إن الإنسان لا يملك نفسه أن يفرح بالخير ويحزن للشر كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أتي بمال كثير اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، فالجواب: أن النهي عن الفرح إنما هو عن الذي يقود إلى الكبر والطغيان، وعن الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ المختال صاحب الخيلاء، والفخور شديد الفخر على الناس الَّذِينَ يَبْخَلُونَ «2» بدل من كل مختال فخور أو خبر ابتداء مضمر تقديره: هم الذين أو منصوب بإضمار: أعني أو مبتدأ وخبره محذوف وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ الكتاب هنا جنس الكتب والميزان العدل وقيل: الميزان الذي يوزن به، وروي أن جبريل نزل بالميزان ودفعه إلى نوح وقال له: مر قومك يزنوا به وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ خبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال وقيل: بل أنزله حقيقة، لأن آدم نزل من الجنة ومعه المطرقة والإبرة فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني أنه يعمل منه سلاح
(1) . لم أعثر عليه فيما بين يدي من مصادر.
(2)
. بقية الآية: فإن الله هو الغني الحميد. قرأ نافع وابن عامر: فإن الله الغني الحميد.. بدون هو.
للقتال ولذلك قال: وليعلم الله من ينصره ورسله والمنافع للناس: سكك الحرث والمسامير وغير ذلك
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي من ذرية نوح وإبراهيم مهتدون قليلون، وأكثرهم فاسقون لأن منهم اليهود والنصارى وغيرهم.
وَقَفَّيْنا ذكر في البقرة [87] وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً هذا ثناء عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بأنهم رحماء بينهم وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها الرهبانية هي الانفراد في الجبال، والانقطاع عن الناس في الصوامع، ورفض النساء وترك الدنيا، ومعنى ابتدعوها أي أحدثوها من غير أن يشرعها الله لهم، وإعراب رهبانية معطوف على رأفة ورحمة أي جعل الله في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية، وابتدعوها صفة للرهبانية، والجعل هنا بمعنى الخلق. والمعتزلة يعربون رهبانية مفعولا بفعل مضمر يفسره ابتدعوها لأن مذهبهم أن الإنسان يخلق أفعاله، فأعربوها على مذهبهم، وكذلك أعربها أبو علي الفارسي وذكر الزمخشري الوجهين ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ كتبنا هنا بمعنى، فرضنا وشرعنا وفي هذا قولان: أحدهما أن الاستثناء منقطع، والمعنى ما كتبنا عليهم الرهبانية، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم، ابتغاء رضوان الله، والآخر أن الاستئناف متصل والمعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله والأول أرجح لقوله «ابتدعوها» ولقراءة عبد الله بن مسعود: ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي لم يدوموا عليها، ولم يحافظوا على الوفاء بها، يعني أن جميعهم لم يرعوها وإن رعاها بعضهم. والضمير في رعوها للذين ابتدعوا الرهبانية وكان يجب عليهم إتمامها، وإن لم يكتبها الله سبحانه وتعالى عليهم، لأن من دخل في شيء من النوافل يجب عليه إتمامه وقيل: الضمير لمن جاء بعد الذين ابتدعوا الرهبانية من أتباعهم.
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ إن قيل: كيف خاطب الذين آمنوا وأمرهم بالإيمان وتحصيل الحاصل لا ينبغي؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أن معنى آمنوا دوموا على الإيمان وأثبتوا عليه، والآخر أنه خطاب لأهل الكتاب فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤيد هذا قوله: يؤتكم كفلين من رحمته أي نصيبين، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي «1» الحديث وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يحتمل أن يريد النور
(1) . رواه أحمد عن أبي موسى الأشعري ج 4 ص 402، 405. [.....]
الذي يسعى بين أيدي المؤمنين يوم القيامة، أو يكون عبارة عن الهدى ويؤيد الأول أنه مذكور في هذه السورة، ويؤيد الثاني قوله: وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لا في قوله لئلا زائدة، والمعنى: ليعلم أهل الكتاب وكذلك قرأها ابن عباس وقرأ ابن مسعود لكيلا يعلم، والمعنى: إن كان الخطاب لأهل الكتاب: يا أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أن لا يقدروا على شيء من فضل الله الذي وعد من آمن منكم، وهو تضعيف الأجر والنور والمغفرة، لأنهم لم يسلموا، فلم ينالوا شيئا، من ذلك، وإن كان الخطاب للمسلمين، فالمعنى: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أنهم لا يقدرون أن ينالوا شيئا مما أعطى الله المسلمين من تضعيف الأجر والنور والمغفرة، وقد روي في سبب نزول الآية:
أن اليهود افتخرت على المسلمين فنزلت الآية في الرد عليهم، وهو يقوي هذا القول، وروي أيضا أن سببها أن الذين أسلموا من أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المسلمين بأنهم يؤتيهم الله أجرهم مرتين فنزلت الآية معلمة أن المسلمين مثلهم في ذلك.