الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتقد به غيرها، والكبريت تتقد به كل نار وإن ضعفت، فإن صح هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلعله عني به أن الأحجار كلها لتلك النار كالحجارة الكبريت لسائر النيران. ولما كانت الآية مدنية نزلت بعد ما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ. وسمعوه صح تعريف النار. ووقوع الجملة صلة «بإزائها» فإنها يجب أن تكون قصة معلومة.
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم. وقرئ: «أعتدت» من العتاد بمعنى العدة، والجملة استئناف، أو حال بإضمار قد من النار لا الضمير الذي في وقودها، وإن جعلته مصدراً للفصل بينهما بالخبر. وفي الآيتين ما يدل على النبوة من وجوه:
الأول: ما فيهما من التحدي والتحريض على الجد وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن، ثم إنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادة لم يتصدوا لمعارضته، والتجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج.
الثاني: أنهما يتضمنان الإخبار عن الغيب على ما هو به، فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر.
الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم لو شك في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة، مخافة أن يعارض فتدحض حجته. وقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ دل على أن النار مخلوقة معدة الآن لهم.
[سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ عطف على الجملة السابقة، والمقصود عطف حال من آمن بالقرآن العظيم ووصف ثوابه، على حال من كفر به، وكيفية عقابه على ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب، تنشيطاً لاكتساب ما ينجي، وتثبيطاً عن اقتراف ما يردي، لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطلب له ما يشاكله من أمر أو نهي فيعطف عليه أو على فاتقوا، لأنهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدي ظهر إعجازه، وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب، ومن آمن به استحق الثواب، وذلك يستدعي أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء، وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عالم كل عصر، أو كل أحد يقدر على البشارة بأن يبشرهم. ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة، تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنأوا بما أعد لهم.
وقرئ «وَبَشّرِ» على البناء للمفعول عطفاً على أعدت فيكون استئنافاً. والبشارة: الخبر السار فإنه يظهر أثر السرور في البَشْرة، ولذلك قال الفقهاء البشارة: هي الخبر الأول، حتى لو قال الرجل لعبيده: من بشرني بقدوم ولدي فهو حر، فأخبروه فرادى عتق أَوَلُهُم، ولو قال: من أخبرني، عتقوا جميعاً، وأما قوله تعالى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فعلى التهكم أو على طريقة قوله: تَحِيَّةٌ بينهم ضرب وجيع.
والصَّالِحاتِ جمع صالحة وهي من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء كالحسنة، قال الخطيئة:
كَيْفَ الهِجَاءُ وما تَنْفَكُّ صالحة
…
من آل لامٍ بظُهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني
وهي من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه، وتأنيثها على تأويل الخصلة، أو الخلة، واللام فيها للجنس، وعطف العمل على الإيمان مرتباً للحكم عليهما إشعاراً بأن السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين
والجمع بين الوصفين، فإن الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أَسٌّ، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناءَ بأْسٍ لا بناء عليه، ولذلك قلما ذكرا منفردين. وفيه دليل على أنها خارجة عن مسمى الإيمان، إذ الأصل أن الشيء لا يعطفُ على نفسه ولا على ما هو داخل فيه.
أَنَّ لَهُمْ منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه، أو مجرور بإضماره مثل: الله لأفعلن. والجنة:
المرة من الجن وهو مصدر جنة إذا ستره، ومدار التركيب على الستر، سمي بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة كأنه يستر ما تحته سترة واحدة قال زهير:
كأنَّ عَيني في غَربي مقتلَة
…
من النواضِحِ تَسْقي جَنَّةً سُحُقا
أي نخلاً طوالاً، ثم البستان، لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة، ثم دار الثواب لما فيها من الجنان، وقيل: سميت بذلك لأنه ستر في الدنيا ما أعد فيها للبشر من أفنان النعم كما قال سبحانه وتعالى:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وجمعها وتنكيرها لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعِلِّيُون، وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال. واللام في لَهُمْ تدل على استحقاقهم إياها، لأجل ما ترتب عليه من الإِيمان والعمل الصالح، لا لذاته فإنه لا يكافئ النعم السابقة، فضلاً عن أن يقتضي ثواباً وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع، ومقتضى وعده تعالى لا على الإطلاق، بل بشرط أن يستمر عليه حتى يموت وهو مؤمن لقوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وأشباه ذلك، ولعله سبحانه وتعالى لم يقيد هاهنا استغناء بها.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها، كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها. وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود: واللام في الْأَنْهارُ للجنس، كما في قولك لفلان: بستان في الماء الجاري، أو للعهد، والمعهود: هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ الآية. والنهر بالفتح والسكون: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، كالنيل والفرات، والتركيب للسعة، والمراد بها ماؤها على الإضمار، أو المجاز، أو المجاري أنفسها. وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها الآية.
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة. كأنه لما قيل: إن لهم جنات، وقع في خلد السامع أثمارها مثل ثمار الدنيا، أو أجناس أخر فأزيح بذلك، وكُلَّما نصب على الظرف، ورِزْقاً مفعول به، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال، وأصل الكلام ومعناه: كل حين رزقوا مرزوقاً مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، قيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنات، وابتداؤه منها بابتدائه من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقاً وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال، ويحتمل أن يكون من ثمره، بياناً تقدم كما في قولك: رأيت منك أسداً، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا كقولك مشيراً إلى نهر جار: هذا الماء لا ينقطع، فإنك لا تعني به العين المشاهدة منه، بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه، فالمعنى هذا مثل رزقنا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة.
مِنْ قَبْلُ أي: من قبل هذا في الدنيا، جعل ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أول ما يرى، فإن الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غيره، ويتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه، إذ لو كان جنساً لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك، أو في الجنة لأن طعامها متشابه في الصورة، كما حكى ابن كثير عن الحسن رضي الله عنهما: (أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول
ذلك، فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف) . أو كما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «والذي نفس محمد بيده، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه، حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها»
. فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والأول أظهر لمحافظته على عموم كُلَّما فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة.
وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً اعتراض يقرر ذلك، والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدارين فإنه مدلول عليه بقوله عز من قائل هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ ونظيره قوله عز وجل: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي بجنسي الغني والفقير، وعلى الثاني إلى الرزق. فإن قيل: التشابه هو التماثل في الصفة، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء. قلت: التشابه بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم، وهو كاف في إطلاق التشابه. هذا: وإن للآية الكريمة محملاً آخر، وهو أن مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات، متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها، فيحتمل أن يكون المراد من هذَا الَّذِي رُزِقْنا أنه ثوابه، ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والمزية وعلو الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله:
ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الوعيد.
وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهن، كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق، فإن التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال. وقرئ:«مطهرات» وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن، وهن فاعلة وفواعل، قال:
وإذَا العَذَارى بالدّخَانِ تَقَنَّعَت
…
واسْتَعَجلتْ نَصْبَ القُدورِ فملَّت
فالجمع على اللفظ، والإِفراد على تأويل الجماعة، ومطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة، ومطهرة أبلغ من طاهرة ومطهرة للإشعار بأن مطهراً طهرهن وليس هو إلا الله عز وجل. والزوج يقال للذكر والأنثى، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف، فإن قيل: فائدة المطعوم هو التغذي ودفع ضرر الجوع، وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع، وهي مستغنى عنها في الجنة. قلت: مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات، وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل، ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها.
وَهُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون. والخلد والخلود في الأصل الثبات المديد دام أم لم يدم، ولذلك قيل للأثافي والأحجار خوالد، وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حياً خلد، ولو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً لغوا واستعماله حيث لا دوام، كقولهم وقف مخلد، يوجب اشتراكاً، أو مجازاً. والأصل ينفيهما بخلاف ما لو وضع للأعم منه فاستعمل فيه بذلك الاعتبار، كإطلاق الجسم على الإنسان مثل قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ لكن المراد به هاهنا الدوام عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن.
فإن قيل: الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية، معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنان. قلت: إنه تعالى يعيدها بحيث لا يعتورها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلاً متقاومة في الكيفية، متساوية في القوة لا يقوي شيء منها على إحالة الآخر، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن.
هذا وإن قياس ذلك العالم وأحواله على ما نجده ونشاهده من نقص العقل وضعف البصيرة. واعلم أنه