المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير سورة المعارج - تفسير العثيمين: من جزء قد سمع وتبارك - ط مكتبة الطبري - جـ ١٤

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌تفسير سورة المعارج

‌تفسير سورة المعارج

قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ} [المعارج: 1، 2] وهنا يتبادر إلى الذهن أن يكون الكلام: سأل سائلٌ عن عذاب واقع؛ لأن سأل تتعدَّى بـ (عن)، ولا تتعدَّى بالباء، والكلام هنا أوجِّهه إلى طلبة العلم - ولا سيما الذين يعرفون العربية؛ النحو -، فإنه قد يقول قائل: كيف عُدِل عن (عن) إلى الباء؟

والجواب عن ذلك: أن علماء النحو اختلفوا في مثل هذا؛ فمنهم من قال: إن الاستعارة في الحرف، ومنهم من قال: إن الاستعارة في الفعل.

فالأولون يقولون: إن الباء هنا بمعنى: عن؛ أي: سأل سائلٌ عن عذاب واقع، فأُجيب.

ومنهم من قال: إن عن هنا لا تُقصَد، وأن الاستعارة في سأل، وأنه ضُمِّن معنى الإجابة، كأنه قيل: سأل، فأُجيب بعذاب واقعُ أي: بهذا الجواب.

ثم قال: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 2 - 4] فاللّه عز وجل ذو المعارج، كما قال في آية أخرى:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} ؛ لأنه سبحانه وتعالى عليٌّ على خلقه، مُستوٍ على عرشه، وعلوُّه عز وجل ينقسم إلى قسمين:

علو ذات، وعلو صفات.

فأما علو الذات: فإن معناه: أن اللّه بذاته فوق كل شيء، وأنه سبحانه وتعالى مُستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته.

وأما علو الصفات: فإنه ما من صفة كمال إلا وللّه تعالى أعلاها وأكملها، قال اللّه تعالى:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

واعلم أن علو الصفات قد اتفق عليه أهل القبلة، وأما علو الذات فأنكره من أنكره من أهل البدع، وقالوا: إن الله عز وجل ليس عاليًا بذاته، ثم انقسموا إلى قسمين:

قسم الحلولية، وقسم المُعطِّلة، وليس هذا موضع ذكر المسألة، وحسبُنا أن نؤمن بأن اللّه عز وجل فوق خلقه، مُستوٍ على عرشه.

سأل الإمام مالكًا رحمه الله رجلٌ، فقال: يا أبا عبد اللّه! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ؛ كيف استوى؟ وكان مالك رحمه الله في حلقة أصحابه وتلاميذه، فأطرق برأسه حتى علاه الرُّحَضاء -

ص: 344

أي: العرق - خجلًا وتحمُّلًا لهذا السؤال العظيم، ثم رفع رأسه قائلًا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

ما معنى قوله: الاستواء غير مجهول؟

أي: أن الاستواء معلومٌ في اللغة العربية، فإن جميع موارده في القرآن يُعرَف معناها من سياقها، فاستوى وردت في القرآن على ثلاثة أوجه: مُعدَّاة بـ (إلى)، ومُعدَّاة بـ (على)، ومُطلقة غير مُعدَّاةٍ بحرف، واستُعمِلَت أيضًا في اللغة العربية مقرونة بالواو، فاستعمالاتها في اللغة العربية إذًا على أربعة أوجه.

فإذا عُدِّيَت بـ (على): صار معناها العلو والاستقرار، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} ، ومنه قوله:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .

والقسم الثاني: مُعدَّاة بـ (إلى): ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} ، وهي هنا بمعنى: القصد؛ أي: قصد إلى السماء، وقيل: بمعنى: على، فلعلماء السلف فيها قولان، وكلاهما لا يُنافي الآخر.

أما القسم الثالث: فأن تأتي مُطلقة غير مُعدَّاة بـ (إلى)، و (على): ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ، وحينئذ تكون بمعنى الكمال، أي: كمال الشيء وانتهائه، فبلغ أشده؛ يعني: بلغ غاية قوته العقلية والجسمية، واستوى؛ أي: تم، ومنه قول العامة إذا طبخوا الطبيخ يقولون: إنه استوى؛ أي: كمُل نضجُه.

أما القسم الرابع: فأن تأتي مقرونة بالواو، وهي في هذا بمعنى: تساوى؛ كقولهم: استوى الماء والخشبة؛ أي: تساويا وصار الماء إلى الخشبة.

إنما نحن نؤمن بأن الاستواء الذي وصف اللّه به نفسه بمعنى: العلو والاستقرار، فإذا قلتَ: أليس اللّه عاليًا على كل شيء؟

فالجواب: بلى، ولكن استواءه على العرش استواءٌ خاصٌّ بالعرش، وليس هو العلو العام لجميع المخلوقات.

وأما قول الإمام مالك رحمه الله: والكيف غير معقول، فالمعنى: أننا لا نُدرِك كيفية استواء اللّه بعقولنا، لأن اللّه عز وجل أعظم من أن تُدرِكه العقول، وتُحيط به العقول، كما قال اللّه تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ، وقال تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} .

وإذا كان العقل لا سبيل له إلى إدراك كيفية استواء اللّه على عرشه، بقي عندنا السمع، فهل دلَّ السمع على كيفيته؟ لا؛ لأن اللّه أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يُخبرنا: كيف استوى، فإذا انتفى عنه الدليلان: العقلي والسمعي، وجب علينا الكفُّ عنه، وألَّا نسأل عن كيفيته؛ لأن هذا

ص: 345

أمرٌ لا يمكن إدراكُه، ولهذا قال رحمه الله: والسؤال عنه بدعة، عن كيفيته؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم، وهم واللّه أحرص منا على العلم ما كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم: كيف استوى ربنا على العرش، لكن سألوه: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ أما هذا فلم يسألوا عنه، وشيءٌ لم يذهب إليه سلفُ هذه الأمة مما يتعلَّق بدين اللّه، فإن الذهاب إليه بدعة، ولهذا قال: السؤال عنه بدعة.

أما الإيمان به فواجبٌ؛ لأن اللّه أخبر به، وكل ما أخبر اللّه به فإنه يجب علينا أن نؤمن به.

يقول عز وجل: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] والمراد بالروح هنا: جبريل، وهو من الملائكة، ولكنه خصَّه بالذكر اعتناءً به وتعليةً لشأنه، ومثل هذه الآية في تخصيص جبريل: قوله تعالى في ليلة القدر: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} .

وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الجار والمجرور تقديره: يقع في يوم، وإن شئتَ فقل: إنه متعلق بكلمة واقع، وليس متعلِّقًا بـ (تعرج)؛ لأن عروج الملائكة والروح إليه في كل وقت، لكن العذاب الواقع يقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وفيه من الأهوال العِظام ما يجعل الولدان شيبًا، ولكن هذا اليوم على صعوبته ومشقته هو يسيرٌ على المؤمن - أسأل اللّه أن يجعلني وإياكم منهم -، كما قال تعالى:{وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} أي: لا على المؤمنين، وقال عز وجل:{عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} ، وأما المؤمنون فهو يسيرٌ عليهم.

ثم ذكر اللّه عز وجل أن هؤلاء المُكذِّبين يستبعدونه، ويرونه بعيدًا، وهو قريب يسيرٌ على اللّه؛ لأن اللّه إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} ، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} .

وقوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 8 - 10] الحميم: الصاحب والقريب، لا يسأل حميمٌ عن حميم؛ لأن لكل واحدٍ منهم شأنًا يُغنيه.

{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} يعني: يُقدِّم ابنَه فداءً له، في الدنيا تُقدِّم نفسك فداءً لولدك، وقد ذُكِر في قصة قوم نوح، حين أمر اللّه عز وجل السماء أن تُمطِر، والأرض أن تنبُت، قال اللّه عز وجل:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} ، ذُكِر أن امرأة كان لها صبي، فلما رأت الماء يرتفع، ذهبت إلى جبل، ورقِيَت عليه، فارتفع الماء، ثم ارتفعت، فارتفع الماء، ثم ارتفعت، فارتفع الماء إلى قمة الجبل، ثم ارتفع الماء حتى ألجَمَ المرأة، فأخذت صبيَّها ورفعته فوق يدها، تريد أن تموت قبل أن يموت الصبي، وجاء في هذا: لو كان اللّه راحمًا أحدًا، لرحِمَ أم الصبي، لكن يوم القيامة ليس كحال الدنيا، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ} أي: عشيرته {الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي

ص: 346

الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ}، ولكن الأمر ليس باختياره، وليس بيده، ولا يمكن أن يفتدي بشيء ينفعه. يقول عز وجل:{كَلَّا} فدية، ولا خلاص، ولا وَزَرَ، كما في سورة القيامة:{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} ، قال اللّه عز وجل:{كَلَّا لَا وَزَرَ} ، ولهذا ينبغي الوقوف على هذه الجملة، ثم تستأنف فتقول:{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} ، لا مُعين، لا مُغيث لا مفر.

{كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} ولظى اسم من أسماء النار، {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} - والعياذ باللّه -، {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} ائتِ إليَّ، فيتساقط أهلها فيها.

ثم قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} وما معنى هلوعًا؟ فسَّره اللّه {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} إذا مسَّه الشر، وأُصيب بالفقر جزِع وتضجَّر، وإذا مسَّه الخير، وأُعطي المال الكثير، كان منوعًا لا يُنفِق.

{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} وما أنفع الصلاة للقلب، والبدن، والمجتمع، {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، لم ينجُ من هذا الوصف الذي وُصِف به الإنسان من حيث هو إنسان إلا المُصلِّين {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} لا يملُّون، ولا يسأمون، ولا يُؤخِّرونها عن أوقاتها، ولا يُفرِّطون في واجباتها؛ بل هم دائمون عليها.

{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أي: حق معلومٌ شرعًا، أو معلومٌ عُرْفًا، فإن كان مما قدَّره الشرع فهو معلومٌ شرعًا؛ مثل: الزكاة، وإن كان مما لم يُقدِّره الشرع، فهو معلومٌ عُرْفًا؛ كالنفقة.

{لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} السائل الذي يسأل، فالسائل له حقٌّ، فإذا جاءك أحد يسألك فإنك تُعطيه لسؤاله، والمحروم يقول العامة في تفسيره: إنه البخيل الذي حُرِم الانتفاع بماله، ولكن هذا ليس بصحيح، فإن البخيل ليس له حقٌّ في مال الكريم، البخيل يُضرَب حتى يُخرِج ما أوجب اللّه عليه، وإنما المراد بالمحروم: الفقير الذي حُرِم من المال، ولم يُعطَ منه شيءٌ.

{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي: بوقوعه وما يقع فيه، فالإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان بوقوعه، والإيمان بما يقع فيه، ففيه مثلًا: الحساب، ونشر الكتب، وفيه أيضًا: الميزان، والصراط، ودنو الشمس من الناس، وغير ذلك من الأشياء التي ذُكِرَت في الكتاب والسنة، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بفتنة القبر، ونعيم القبر، وعذاب القبر، أما الفتنة فإن الناس يُفتنون في قبورهم، إذا مات الإنسان ودُفِن وتولى عنه أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان، فيُقعِدانه، وتُعاد إليه روحه، فيُسأل عن ثلاثة أمور: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيثبِّت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

يقول المؤمن: ربي اللّه، وديني الإسلام، ونبي محمد، فيُنادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي،

ص: 347

فألبِسوه من الجنة، وافرِشوا له من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، فيكون بذلك منتقلًا من نعيم الدنيا إلى نعيم الآخرة، ويكون عشية يومه الذي مات فيه أسرَّ منه في صباح يومه الذي مات فيه؛ لأنه خرج من دار النكد، والتعب، والهم، والغم، والعناء إلى دار النعيم، والسرور، وفُتِح له بابٌ إلى الجنة، فجعل ينظر إليها في قبره، وأُلبِس من الجنة، وفُرِش من الجنة، ونادى منادٍ من السماء - وهو اللّه عز وجل: أن صدق عبدي، ما بالُك بسرور شخص يناديه ربه: أن صدق عبدي، يُصدِّقه اللّه عز وجل على ما قال من صواب الجواب، أما المنافق أو الكافر، فإنه إذا قيل: من ربك، ما دينك، من نبيك؟ يقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتُه؛ لأن هذا الإيمان لم يدخل إلى قلبه، وإنما هو شيءٌ سمِعَه فقاله، ما وقر الإيمان في قلبه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أقوام يقرأون القرآن، ويصلون، حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم، لكن إيمانهم لا يتجاوز حناجرهم - والعياذ باللّه -، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، والسهم إذا دخل في الرمية مرق منها بسرعة، فإيمانهم - والعياذ باللّه - لا يتجاوز حناجرهم، ولذلك أنصح نفسي وإياكم بأن نتفقَّد قلوبنا: هل وقر الإيمان فيها؟ هل وصل إليها، أم نحن كالأعراب الذين قالوا: آمنا، فقال اللّه لنبيه:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} .

لننظر ليس العمل مجرد رسوم يقوم بها الإنسان، لكن الإيمان كما قال الحسن البصري رحمه الله: ما وقر في القلب، وصدَّقته الأعمال، فتِّش أولًا عن قلبك، انظر أين اتجاهك، هل هو إلى اللّه؟ تبتغي وجه اللّه، تريد وجه اللّه، تريد ثواب اللّه، أو إلى أمرٍ تريده من الدنيا، إلى هوًى في نفسك تقصده، إلى مال، إلى رئاسة، إلى جاهٍ، إنك إذا أصلحتَ قلبك صلح أمرك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"أَلَا وإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ"، طهِّر قلبك من الرياء، طهِّر قلبك من الحقد، طهِّر قلبك من الغل، طهِّر قلبك من الفتنة في الدنيا بجميع زهرتها، وبجميع زينتها، عن جميع ما ذكر الله عز وجل في قوله:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} ، كل هذا زينة، ولكن هل هذا هو النعيم، هل هذا هو الغاية؟ قال:{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} الاستفهام هنا يراد به: التشويق، ما هو الشيء الذي هو خير من ذلك؟ {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يبقون فيها مدة، ثم يموتون؟ لا، {خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} رضا من اللّه عز وجل، يُحِلُّ عليهم سبحانه وتعالى رضاه فلا يسخط عليهم بعده أبدًا، {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ، فمن هم الذين اتقوا

ص: 348

والذين لهم هذا الثواب؟ {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} اللهم اجعلنا ممن يقول ذلك {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} لماذا يستغفرون باللّه؟ لأنهم قاموا للّه، فجافت جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، فلما أكملوا قيامهم نظروا في أمرهم، وعاملوا أنفسهم معاملة المذنب المُقصِّر، فجعلوا بعد هذا العمل يستغفرون اللّه عز وجل: اللهم اغفر لنا، اللهم إنا نستغفرك، وما أشبه ذلك من دعوات الله عز وجل بالاستغفار.

يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} مُشفِقون خائفون من هذا العذاب، ومن خاف من شيءٍ حذِرَه، ومن حذِرَ شيئًا تجنَّب أسبابه، فإذا كانوا خائفين من عذاب اللّه فلابد أن يحذروا منه، وأن يتجنَّبوا أسبابه، وأسباب عذاب اللّه إما تفريطٌ فيما أوجب، وإما وقوعٌ فيما حرَّم، وعلى هذا فهم يجِدُّون كل جِدٍّ في أن يقوموا بما أوجب الله عليهم، يجِدُّون كل الجِد بأن يتجنَّبوا ما حرَّم اللّه عليهم، فهم من عذاب ربهم مشفقون.

يقول اللّه عز وجل: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} وصدق ربنا جل وعلا، من يأمن عذاب اللّه؟ هل أحد يأمن أن يأتيه عذاب اللّه بغتةً أو جهرةً؟ أبدًا، لا يأمن عذاب اللّه إلا القوم الخاسرون، قال اللّه تعالى:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .

ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} يحفظون فروجهم إلا من هذين الصنفَيْن من النساء: الأزواج، وما ملكت الأيمان، من هنَّ الذين ملكوهم؟ هنَّ الإماء التي تُباع وتُشترى، فإن الأَمَة يجوز لسيدها أن يستمتع بها كما يستمتع الزوج بزوجته.

يقول الله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} لا يُلامُون على ما يحصل بينهم وبين أزواجهم، أو بينهم وبين ما ملكت أيمانهم، ولهذا يجوز للإنسان أن يستمتع بزوجته بكل متعة أحلَّها اللّه، ويمتنع من كل متعة منعها اللّه، والمتعة التي منعها اللّه متعتان: المتعة في الفرج في حال الحيض والنفاس، فإن ذلك محرم، لا يجوز للرجل أن يُجامِع زوجته في حال الحيض والنفاس.

والمتعة الثانية: المتعة في الدبر، فلا يحل للإنسان أن يأتي زوجته في دُبُرها.

ويجوز للإنسان أن يستمتع بزوجته فيما عدا ذلك؛ لأن اللّه عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ويدخل في الآية الكريمة: غضُّ البصر، إلا عن الأزواج والمملوكات؛ لأن إطلاق البصر يؤدِّي إلى الفتنة، ثم الوقوع في المحظور، حتى لا يستطيع الإنسان إذا أطلق لنفسه النظر لا يستطيع أن يُحصِّن فرْجَه، فيكون في هذه الحال غير

ص: 349

حافظٍ له.

واستدلَّ أهل العلم بهذه الآية الكريمة: على أنه يحرم على الإنسان أن يستمني بيده، أو بفراشه، أو بأي شيءٍ كان، وهي ما يُعرف عند الناس بـ (العادة السرية)، فإنها حرام، ودليلها هذه الآية الكريمة؛ لأن اللّه قال بعد ذلك:{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} يعني: من قال بالاستمتاع بغير هذين الصنفين فإنهم عادُون، فمن استمتع بيده، أو بفراشه، أو ما أشبه ذلك فإنه عادٍ، والعادي هو الجائر الظالم.

ويدل لتحريمها: قول مُرشدنا ومُعلِّمنا، ومن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم محمد رسول اللّه:"يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلفَرْجِ"، وخاطب الشباب؛ لأنهم ذوو القوة في هذا الأمر "وَمَنْ يَسْتَطِعْ فَعلَيْهِ بِالصَّومِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: من لم يستطع فليُخرِج شهوته بما أراد؛ بل قال: "فَعلَيْهِ بِالصَّومِ"، ونحن نعلم أنه لو كان إخراج الشهوة جائزًا لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن إخراج الشهوة أيسر من التزام الصوم، ولأن في إخراج الشهوة نوعًا من المتعة واللذة، فلو كان هذا جائزًا ما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عنه إلى الأمر الشاق؛ لأن هذا الدين يُسْرٌ، ولا تجد خصلةً مُيسَّرة يعدِل عنها هذا الدين إلا لأنها لا تجوز في شريعة اللّه، وعلى هذا فنستدل على تحريم العادة السرية بالقرآن والسنة.

كما أن هناك أدلة عقلية طبية على تحريمها لما فيها من الضرر العظيم على الجسم، وعلى الغريزة الجنسية، وعلى مستقبل هذه المادة التي هي مادة خلق بني آدم.

ثم قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} الذين إذا ائتُمِنوا أو عاهدوا راعَوا الأمانة والعهد، فلا يخونون بأمانة، ولا يغدرون بعهد.

يجب على كل من عاهد عهدًا أن يرعَى العهد، كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعاهد المشركين، ويفِي لهم، فإذا نقضوا العهد انتقض العهد، لما صالح قريشًا في غزوة الحديبية على ترك القتال لمدة عشر سنين، ومضى على هذا الصلح سنتان، ما الذي حصل؟ نقض المشركون العهد، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم.

إذا لم ينقض المُعاهَد عهده، ولكني خِفتُ أن ينقض {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} ، لا تفجأهم بالحرب إذا خِفتَ الخيانة، ولكن ابعث إليهم، وقل لهم: إنه لا عهد بيننا وبينكم، فالمُعاهَد له ثلاث حالات:

إما أن يفي بعهده، ويستقيم عليه، فقد قال اللّه فيه:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .

الحال الثانية: أن ينقض العهد، وفي هذه الحال لا عهد لهم؛ لأنهم نقضوا العهد.

ص: 350

والحال الثالثة: أن يُخاف منهم نقض العهد، ولم ينقضوه، فنحن ننبذ إليهم على سواء.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} وأيضًا نُوجِّه الخطاب لننتقل من الطالب إلى الرئيس والمدير، وما أشبه ذلك ممن يخونون الأمانة فيما وُلُّوا عليه.

{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} يقومون بالشهادة على الوجه المطلوب، فإذا دُعوا إلى الشهادة تحمُّلًا تحمَّلوا، وإذا دُعوا إلى الشهادة أداءً أدَّوا، لا يُحابون أحدًا في ذلك.

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} انظر إلى عناية اللّه سبحانه وتعالى بالصلاة، ذكرها في أول الصفات، وفي آخر الصفات، ففي أول الصفات على سبيل الديمومة، وفي آخرها على سبيل المحافظة.

ونظير ذلك: قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 1 - 9] مما يدل على أهمية الصلاة، وأنها آكَدُ أركان الإسلام بعد الشهادتين.

أسأل اللّه تعالى أن يجعلني وإياكم من المصلين، المحافظين على هذه الصفات، الذين مآلهم أن يكونوا في جنات مكرمون.

***

ص: 351