المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير سورة الإنسان - تفسير العثيمين: من جزء قد سمع وتبارك - ط مكتبة الطبري - جـ ١٤

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌تفسير سورة الإنسان

‌تفسير سورة الإنسان

قال اللّه تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} .

الاستفهام هنا للتحقيق، والمعنى: قد أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، وهذا حقٌّ، فإن الإنسان قبل أن يُخلَق هل هو شيءٌ مذكور؟ لا، وقد أتى عليه حينٌ من الدهر طويل لم يكن شيئًا مذكورًا، ولا يُعرَف عن فلان الذي خُلِق بعد ذلك.

وبيَّن اللّه عز وجل ابتداء هذا الخلق، فقال:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} .

النطفة هي الماء القليل، والمراد بها هنا: منيُّ الرجل، والأمشاج هي كما قال المتأخرون: هي الحيوانات المنويَّة، فإن هذه النطفة تشتمل على حيوانات منوية كثيرة جدًّا.

ومعنى قوله تعالى: {نَبْتَلِيهِ} أي: نختبره، وذلك بخلق السمع والبصر له، ولهذا قال:{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وهذا اختبار من اللّه ليختبر العبد في ماذا يستعمل هذا السمع، وفي ماذا يستعمل هذا البصر، قد يستعمل الإنسان سمعَه في الاستماع إلى ما حرَّم اللّه؛ كالاستماع إلى الأغاني الماجنة، والاستماع إلى الموسيقى وآلات الطرب، إلا ما استُثنِي منها، ومما استُثنِي من آلات الطرب: الدف في الأفراح والأعراس؛ في الأفراح: كأيام الأعياد، وفي الأعراس: كأيام الدخول، دخول الإنسان بزوجته، فإن هذا مما رُخِّص فيه.

ويبتلي الله عز وجل الإنسان بالبصر، أعطاه البصر ليبتليه؛ ينظر هل يُبصِر فيما أحلَّ اللّه له، أو فيما حرَّم اللّه عليه، ومن الإبصار فيما حرَّم اللّه عليه: أن يُطلِق الإنسان بصرَه بالنظر إلى ما حرَّم اللّه؛ كنظر المرأة الأجنبية، ونظر الصور الخالعة، وما أشبه ذلك، فجعل اللّه للإنسان سمعًا وبصرًا ابتلاءً واختبارًا.

ثم بيَّن عز وجل أنه هدى الإنسان السبيل؛ أي: بيَّن له الطريق {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} أي:

ص: 356

بيَّن اللّه الطريق للإنسان سواءً كان شاكرًا أو كان كفورًا.

فمن هو الإنسان الشاكر الذي يشكر نعمة الله على هدايته لهذا الطريق؟ هو المؤمن، والكافر هو الجاحد لهذه النعمة، فانقسم الناس بعد هداية اللّه لهم إلى قسمين:

إلى شاكرٍ قام بطاعة المُنعِم، وإلى كافرٍ جحَدَ نعمة المُنعِم، ولم يقُم بالشكر ولا بالطاعة.

ثم بيَّن اللّه بعد ذلك جزاء هؤلاء وهؤلاء، فقال:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} أعتدنا بمعنى: هيّأنا، والسلاسل: ما يُربَط به المُجرِم الكافر، والأغلال: أن تُغلَّ يداه إلى عُنُقه، والسعير: النار المُحرِقة - والعياذ بالله -.

وهذا الجزاء مُجمَلٌ في ثلاث كلمات: {سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} .

ثم انتقل عز وجل إلى الأبرار الذين هم ضد الكافرين والفُجَّار، فقال:{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5، 6]، وأطال سبحانه وتعالى في وصف ثواب الأبرار؛ لأن اللّه تعالى فصَّل أعمالهم، فقال:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 7 - 10]، فتجِدون أن الله عز وجل فصَّل أعمالهم، وكان مُقابِل هذا التفصيل في الأعمال أن يُقابَل ذلك بتفصيل الجزاء، أما الكفار فإن اللّه ذكر عملهم مُجمَلًا، فذُكِر جزاؤهم مجُمَلًا، وهذا من بلاغة القرآن.

فلو قال قائل: لماذا أطال اللّه عز وجل في ذكر ثواب الأبرار، وأجمل في ذكر جزاء الكافرين؟

الجواب: لأن اللّه فصَّل أعمال الأبرار في عدة آيات: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ، {وَيَخَافُونَ يَوْمًا} ، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} ، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} ، {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} ، فذكر أعمالًا مُتعدِّدة، فكان مقابل ذلك أن يُذكر جزاؤهم مُفصَّلًا كما ذُكِرت أعمالهم مُفصَّلة، أما الكفار فذُكِرت أعمالهم مُجمَلة، وكان مُقابل ذلك أن يُذكَر جزاؤهم مُجمَلًا.

يقول اللّه تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21]، وفي آيات أخرى:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]، فهل هناك تناقُض بين هذه الآيات؟

الجواب: لا؟ بل هم يُحلَّون بحُليٍّ بعضُه فضة، وبعضُه ذهب، وبعضُه لؤلؤ، وأنت تصوَّر لو تجد الحُلِي بالفضة البيضاء اللامعة، والذهب الأحمر، واللؤلؤ الصافي لوجدتَ منظرًا عظيمًا يُطرِب

ص: 357

الأعيُن، ويسرُّ النفس.

وإلى أين يكون هذا الحُلِيُّ؛ هل هو في جزءٍ من الذراع، أو في جميع الذراع؟

يكون في جميع الذراع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ"، والوضوء يبلُغ إلى المرافق، وعلى هذا يكون الذراع كله مملوءًا بالحلية، نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يُحلَّون بهذا الحُلِيِّ.

ثم قال اللّه تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان: 23] القرآن هو كلام اللّه الذي بين أيدينا في المصاحف، مكتوبٌ في المصاحف، محفوظٌ في الصدور، وكلام اللّه مُنزَّل غير مخلوق؛ لأن اللّه تعالى ذكر في عدة آيات أنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فتارةً يقول:{أَنزَلْنَاهُ} ، وتارةً يقول:{نَزَّلْنَا} ؛ وذلك لأن القرآن ينزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا فشيئًا، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} ، فالتعبير بـ (أنزل) باعتباره كاملًا، والتعبير بـ (نزَّل) باعتباره مُجزَّأً، ينزل شيئًا فشيئًا، هنا يقول:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} يعني: شيئًا فشيئًا {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} ، فلما ذكر اللّه منته عليه بتنزيل القرآن أمره أن يصبر لحكم اللّه، وقد يرِد على الإنسان سؤال في نفسه؛ حيث يقول: من المُتوقَّع أنه لما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} أن يقول: فاشكر نعمة اللّه؛ لأن تنزيل القرآن عليه نعمة، فلماذا قال اللّه عز وجل:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} ؟

نقول: لأن تنزيل القرآن عليه عهدٌ وميثاقٌ أن يُبلِّغه إلى الأمة، وتبليغُه إلى الأمة يحتاج إلى صبر ومعاناة؛ لأنه سوف يُكذَّب، وسوف يُؤذَى على هذا الوحي، فيحتاج إلى صبر، ولهذا نقول لكل من منَّ اللّه عليه بعلمٍ: اصبر على ما أعطاك اللّه من العلم، ابذُل هذا العلم تعليمًا، ودعوة، وخُلُقًا، وأدبًا، وعبادة؛ لأن اللّه لم يُحمِّلك هذا العلم إلا سيسألك عنه يوم القيامة.

وقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} هل المراد: الحكم الكوني، أو القدري أو هما جميعًا؟ هما جميعًا، اصبر لحكم اللّه الشرعي؛ حيث ألزمه اللّه بأن يُبلِّغ ما أُنزِل إليه من ربه، وللحكم الكوني إذا جرى عليه من عباد الله ما يكره، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم جرى عليه من الأذية ما وصل بالصبر عليه إلى قمة الصابرين، فقد أُوذِي عنه عليه الصلاة والسلام إيذاءً شديدًا، حتى إنه كان ذات يومٍ ساجدًا تحت الكعبة، فجاء ملأُ قريش، بسلا جزور - يعني: فرْثَها وما في بطنها -، جاءوا به فوضعوه عليه وهو ساجد عليه الصلاة والسلام، كل هذا إغاظةً له، وإلا فمن المعلوم أن قُريشًا

ص: 358

تُكرِم من يأتي إلى هذا البيت، حتى إنهم يسقون الحُجَّاج الماء المُنقَّع به زبيب، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحق الناس بالتكريم، يؤذونه هذا الإيذاء، فأُمِر أن يصبر لحكم اللّه.

قوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} الآثم: العاصي، والكفور: الكافر؛ يعني: لا تُطِع لا هؤلاء، ولا هؤلاء، وأما المؤمنون فقد أمر اللّه تعالى نبيَّهم أن يخفِض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين.

ثم قال اللّه عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} ، {إِنَّ هَذِهِ} المُشار إليه: السورة وما ذُكِر فيها {تَذْكِرَةٌ} يتذكَّر بها الإنسان ويتَّعِظ، ثم ينقسم الناس إلى مُنتفعٍ بهذه التذكرة، وغير منتفع، ولهذا قال:{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29، 30]، وهنا قد يقول قائل: كيف قال: {فَمَنْ شَاءَ} ، ثم قال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ؟

والجواب: أن نقول: إن مشيئة الإنسان مخلوقةٌ لله عز وجل، فهو الذي خلقها، فلا يشاء الإنسان إلا بعد أن يخلق اللّه فيه المشيئة؛ لأن اللّه خالق كل شيء.

وبيَّن عز وجل أن الأمر إليه، لأجل أن نتَّجِه إلى اللّه عز وجل، وألَّا نفخر بأنفسنا إذا وُفِّقنا للطاعة، فلنعلم علم اليقين أن ذلك من كرم اللّه، ونعمته، وإحسانه.

ثم قال عز وجل: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي: في جنته، {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي: مؤلمًا.

نسأل اللّه أن يُنجينا وإياكم من عذاب النار، وأن يُدخِلنا في رحمته دار الأبرار، إنه جوادٌ كريم، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

***

ص: 359