الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير قوله تعالى: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون)
يقول تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)) وهم كفار قريش.
((كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ)) أي: استهزاءً بهم لإيمانهم بالله وحده، وبما أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذهم ما ألفوا عليه آباءهم، فإذا تأملنا كلمة:((كانوا)) وجدنا أن المشهد يتكلم عن موقف يوم القيامة، فكل الآلام التي عاناها المؤمنون في الدنيا صارت ذكريات ماضية وانتهت، وصارت العاقبة للتقوى فما أعظم ما تواسينا هذه الكلمة، فربنا سبحانه وتعالى يصف هؤلاء بالإجرام، فهذا يفيد أن الكافر في ميزان الله مجرم.
((كانوا)) استرجاع لما كان يعانيه المؤمنون في الدنيا في سبيل الله تبارك وتعالى، وفي سبيل دينهم، مثل قوله:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] يعني: لو أن هؤلاء المجرمين ينقمون منهم أنهم سرقوا أموالهم واعتدوا على أعراضهم أو ظلموهم ونهبوهم، لكان هناك ما يسوغ، لكن أن ينقموا منهم وليس لهم جريمة سوى أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، أو أنهم يقيمون دين الله تبارك وتعالى أو يدعون إليه، فهذا هو الذي لا يمكن أن يسوغ لهم المعاداة للدين وأهله.
(إن الذين أجرموا) هم المعتدون الأثمة الذين خبثت نفوسهم، وصمت آذانهم عن سماع دعوة الحق، هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا؛ وذلك لأنه حين رحم الله هذا العالم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدهماء وفي ضلال العامة، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته صلى الله عليه وسلم، ثم يُسِرُّ بها بعض من يليه، ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم، فيسروا بها إلى من يرجون، ولا يستطيعون الجهر بها لمن يخافون قتله وبطشه.
ومن شأن القوي المستعد بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه بالمبدأ ويدعوه إلى غير ما يعرفه، وهو أضعف منه قوة وأقل عدداً.
فطبيعة الإنسان إذا استغنى بكثرة المال أو كثرة الولد والقوة أن ينظر إلى من هو دونه بمنطق القوة لا بمنطق الحق، فهم يعتمدون على حق القوة، أما المؤمنون فيعتمدون على قوة الحق، حتى لو كانوا ضعفاء في عددهم أو عدتهم، أما الآخرون فيعتمدون على حق القوة، أي: بما أنه قوي ومتغلب فهو يسخر ممن هو دونه حتى ولو كان الحق له، فكذلك كان شأن جماعة من قريش كـ أبي جهل والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأشياعهم، وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان.
فمتى عمت البدع، وتفرقت الشيع، وخفي طريق الحق بين طرق الباطل، وضيع معنى الدين، وأزهقت روحه من عباراته وأسانيده، ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن، وحركات أركان لا تسايرها السرائر، وتحكمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياسة والمناصب والألقاب، وتشبثت الهمم بالأمل الكاذب، وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل، واستوى في ذلك الصغير والكبير، والأمير والمأمور، والجاهل والملقب بلقب العالم.
إذا صار الناس إلى هذه الحال ضعف صوت الحق، وازدرى التابعون قول الداعي إليه، وانطبق عليهم نص الآية الكريمة:((إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ))؛ لأنهم يستندون إلى حق القوة.
((وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ)) أي: إذا مروا بالمؤمنين فإنهم يتغامزون فيما بينهم استهزاء وسخرية بالمؤمنين، كما يحصل الآن من السخرية بالإخوة والأخوات المتدينين من هؤلاء القوم.
والغمز هو الإشارة بالجفن والحاجب.
قال السيوطي: في هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين، والضحك منهم، والتغامز عليهم.
ولذلك عد العلماء من المكفرات معاداة المؤمن لأجل دينه.
يعني: لو كان الواحد يعادي مؤمناً بسبب الاعتداء على أرض أو على مال أو أي شيء من الدنيا -بغض النظر من المحق ومن المبطل- فقد يكون المتدين هو المبطل فلا مشكلة هنا، لكن عندما تعاديه من أجل تدينه فقد عد العلماء هذا من المكفرات.