الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفاتحة
هي مكية، وقيل: مدنية، والأصح أنها مكية، نزلت بمكة حين فرضت الصلاة، ثم نزلت بالمدينة حين حولت القبلة إلى الكعبة المشرفة، وسبب ذلك التنبيه على فضلها وشرفها، وارتفاع مكانتها عند الله وعند رسوله، وتسمّى أمّ القرآن لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن» . رواه البخاريّ، ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن، فهي خداج-يقولها ثلاثا-» . أي غير تمام، وسميت أمّ القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن، كما ذكرته لك سابقا.
وتسمّى سورة الوافية، قاله سفيان بن عيينة؛ لأنها لا تنتصف، ولا تحتمل الاختزال، ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة، ونصفها الآخر في ركعة، أي بعد الفاتحة لأجزأ. وتسمّى الكافية، قال يحيى بن أبي كثير: لأنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها. وتسمّى سورة الكنز، لقوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن قول الله عز وجل:«فاتحة الكتاب كنز من كنوز عرشي» . وسورة الشّفاء، والشّافية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء إلاّ السّام» وفي رواية آخرى: «فاتحة الكتاب شفاء من كلّ سمّ» . أخرجه الدارمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وسورة المثاني، سميت بذلك؛ لأنها تثنّى في كلّ ركعة، قال تعالى في سورة (الحجر) رقم [87] {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}. وتسمى سورة الصّلاة؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله تعالى: مجّدني عبدي، فإذا قال: {إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ..}. إلخ؛ قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل» . رواه مسلم.
وتسمّى سورة الحمد؛ لأنّ فيها ذكر الحمد، كما يقال: سورة الأعراف، والأنفال، ونحوها. وتسمّى سورة الأساس، فإنها أساس القرآن، قال ابن عباس-رضي الله عنهما:«إذا اعتللت، أو اشتكيت؛ فعليك بالأساس» . وشكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن؛ فاتحة الكتاب. وتسمّى سورة الرّقية، ثبت ذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل الذي رقى سيّد الحي: «وما أدراك أنّها رقية؟» فقال: يا رسول الله! شيء ألقي في روعي. الحديث مشهور، خرّجه الأئمة.
وسمّيت فاتحة الكتاب؛ لأنها تفتتح قراءة القرآن بها لفظا، وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطّا وتفتتح بها الصلوات، والمرجّح: أنها أوّل سورة كاملة نزلت، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعلها أول القرآن، وانعقد الإجماع على ذلك، وهي سبع آيات بالاتفاق، فمن عدّ البسملة آية منها لا يقف على:{الْمُسْتَقِيمَ} ومن لم يعدّها آية منها يقف على {الْمُسْتَقِيمَ} وهي سبع وعشرون كلمة، ومائة وأربعون حرفا.
حكمها في الصّلاة: هي ركن في كلّ ركعة من ركعات الصلاة: الفرض، والنفل عند الشافعي، وأحمد، وعند مالك في القول الثاني له، وهو المعتمد في مذهبه لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن، فهي خداج-ثلاثا-» وقد تقدّما لحديثان قريبا. ولا تعدّ ركنا في ركعات الصلاة عند أبي حنيفة، بل تعدّ واجبا، الواجب عنده دون الفرض والرّكن، وهو: ما ثبت بدليل ظنّي، واستدل بقول الله تعالى:{فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمسيء الصلاة: «ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن» ، فتصح الصلاة إذا قرأ في صلاته غير الفاتحة، ولكن فيها نقص، فيجب إعادتها، وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر.
فدل هذا الحديث على أنّ قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «اقرأ ما تيسّر معك من القرآن» ما زاد على الفاتحة، وهو تفسير قوله تعالى:{فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} .
حكم الفاتحة بالنسبة للمأموم: يقرؤها خلف الإمام في كلّ ركعة عند الشافعي، وأحمد، ومالك في المشهور عنه في السّرية، والجهرية، إلا المسبوق إذا أدرك الإمام راكعا، فإن الإمام يحمل عنه القراءة لإجماعهم على أنه أدركه راكعا: وإنه يكبر تكبيرة الإحرام قائما منتصبا، ولا يقرأ شيئا بشرط أن لا يشتغل بسنة من تعوّذ، وتوجّه.
وعند أبي حنيفة: لا يقرأ المأموم خلف الإمام في السّرية، ولا في الجهرية؛ لعموم قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [204]:{وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} انظر شرحها هناك، فإنّه جيّد، والحمد لله.
تنبيه بل فائدة: من تعذّر عليه بذل جهده، فلم يقدر على تعلم الفاتحة، أو شيء من القرآن، ولا علق منه بشيء لزمه أن يذكر الله في موضع القراءة بما أمكنه، من تكبير، أو تهليل، أو تحميد، أو تسبيح، أو تمجيد، أو لا حول ولا قوة إلا بالله؛ إذا صلى وحده، أو مع إمام فيما أسرّ به الإمام، فقد روى أبو داود، وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فعلمني ما يجزئني منه، قال: «قل:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله». قال: يا رسول الله! هذا لله؛ فما لي؟ قال: «قل: اللهم ارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني» .
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)}
الشرح: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-قال العلماء: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قسم من ربنا، أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده: إنّ هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حقّ، وإني أوفي لكم بجميع ما ضمنت هذه السورة من وعدي، ولطفي، وبرّي. ولم أره لغيره، وليس فيها معنى القسم، والبسملة مما أنزله الله تعالى في كتابنا خصوصا بعد سليمان، علي نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وقد تضمّنت جميع الشرع؛ لأنّها تدل على الذّات وعلى الصّفات، لذا فالقول: إن القرآن تضمّن كل ما في الكتب السابقة من أمور الدنيا والآخرة، والفاتحة تضمّنت كل ما في القرآن الكريم، والبسملة تضمّنت كل ما في الفاتحة، وجميع ذلك في الباء من البسملة، وكأنّ الله عز وجل يقول: بي كان، وما يكون، وما سيكون في الدنيا والآخرة. والله أعلم بمراده، وأسرار كلامه.
قال سعيد بن أبي سكينة: بلغني أنّ عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه، نظر إلى رجل يكتب:{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فقال له: جوّدها، فإن رجلا جوّدها، فغفر له، وقال سعيد أيضا: وبلغني أنّ رجلا نظر إلى قرطاس فيه: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فقبّله، ووضعه على عينيه، فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي، فإنّه لمّا رفع الرقعة التي فيها اسم الله من مكان ممتهن، وطيّبها بمسك بعد أن نظّفها، وأزال عنها الأقذار؛ طيّب الله اسمه؛ أي: رفع ذكره بين الناس، ويحكى: أنه قيل له في المنام: كما طيبت اسمنا لنطيبنّ اسمك.
وروى النّسائيّ عن أبي المليح عن ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عثرت بك الدابّة؛ فلا تقل: تعس الشّيطان، فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي صنعته، ولكن قل: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ،} فإنه يتصاغر حتّى يصير مثل الذّباب» .
وروى وكيع بن الأعمش، عن أبي وائل: عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر، فليقرأ:{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فيجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنّة من كل واحد، فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} وهم يقولون في كل أفعالهم:{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. هذا وكسرت الباء الجارة في البسملة وغيرها، لتكون حركتها مشبهة لعملها، وقيل: كسرت ليفرق بين ما يخفض، ولا يكون إلا حرفا، نحو الباء، واللام الجارة، وبين ما يخفض، وقد يكون اسما، نحو الكاف في قول العجاج:[الرجز]
بيض ثلاث كنعاج جمّ
…
يضحكن عن كالبرد المنهمّ
وهذا هو الشاهد رقم [326] من كتابنا فتح القريب المجيب فانظره، وما ألحقته به، فإنه جيد، والحمد لله ربّ العالمين.
هذا وقد ندبنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى افتتاح جميع أمورنا بالبسملة تيمّنا، وتبرّكا، كالأكل، والشرب، والنّحر، والجماع، والطّهارة، وركوب الدابة، والسيارة، والطيّارة، وغير ذلك من الأفعال، فقد روى الخطيب في كتاب الجامع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«كلّ أمر ذي بال، لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أبتر» وفي رواية: «فهو أقطع» والمعنى: قليل البركة، أو معدومها، لذا سمّيت الخطبة التي ألقاها زياد ابن أبيه في العراق: البتراء؛ لأنه لم يبدأها بالبسملة.
بعد هذا ينبغي أن تعلم: أنّ البسملة آية من سورة الفاتحة، وآية من كلّ سورة ما عدا براءة عند الشّافعي، ولا تعدّ آية في كلّ ذلك عند مالك، وأبي حنيفة، وإنّما هي للفصل بين كلّ سورتين، وأحمد بن حنبل يعدّها آية من أول سورة الفاتحة، وليست آية في غيرها، رضي الله عنهم-أجمعين، واحتجّ الشافعي-رضي الله عنه-بما رواه الدّارقطني من حديث أبي بكر عبد الحميد بن جعفر الحنفي عن نوح بن أبي بلال، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا قرأتم {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} فاقرءوا: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} إنّها أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسّبع المثاني» . قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا؛ إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟! قال: «نزلت عليّ آنفا سورة» . فقرأ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ..} . إلخ، وذكر الحديث، وذكرته بكماله في سورة الكوثر، والحمد لله.
(اسم): اختلفوا في اشتقاقه، فقال البصريّون: أصله: سمو، بضم السين وكسرها، من السّمو، وهو العلوّ، والارتفاع، فاسم الشيء ما علاه؛ حتى ظهر به، وعلا عليه، فكأنه علا على معناه، وصار علما له، فحذفت لامه، وعوض عنها همزة الوصل في أوله، وقال الكوفيون:
أصله: وسم من السّمة، وهي العلامة، فكأنه علامة لمسمّاه، حذفت فاؤه، وعوض عنها همزة الوصل. وحجّة البصريين: أنه لو كان اشتقاقه من السّمة، لكان تصغيره: وسيم، وجمعه:
أوسام؛ لأن التصغير والتكسير يردّان الأشياء إلى أصولها، وقد أجمعوا على أن تصغيره: سميّ، وجمعه: أسماء، وجمع الجمع: أسام، وقد حذفت الألف من {بِسْمِ اللهِ..} . إلخ للخفّة، ولكثرة الاستعمال، وأثبتت في قوله تعالى:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} لقلّة الاستعمال، هذا و (اسم) أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السّكون، فإذا نطقوا بها مبتدءين، زادوا همزة الوصل في أولها توصلا للابتداء بالسّاكن، علما بأن هذه الهمزة تسقط في وصل الكلام؛ وإن كتبت، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضّرورة، كقول الأحوص:[الطويل]
وما أنا بالمخسوس في جذم مالك
…
ولا من تسمّى، ثمّ يلتزم الاسما
انظر مبحثها في كتاب قواعد اللغة العربية بشرحنا، هذا وذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أن لفظة:(اسم) صلة، أي: زائدة، واستشهد على ذلك بقول لبيد بن ربيعة الصّحابي-رضي الله عنه-انظره تبعا ملحقا للشاهد [976] من كتابنا فتح القريب المجيب، ونصّه:[الطويل]
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما
…
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
واختلفوا في معنى زيادته، فقال قطرب: زيدت؛ لإجلال ذكره تعالى، وتعظيمه.
وقال الأخفش: زيدت؛ ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك؛ لأن أصل الكلام: بالله.
{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:} اسمان من أسماء الله الحسنى، وقيل: صفتان مأخوذتان من الرحمة، وهما في حقه سبحانه وتعالى بمعنى: المحسن، أو: مريد الإحسان، لكن الأول بمعنى المحسن بجلائل النعم، والثاني بمعنى المحسن بدقائق النّعم، وإنما جمع بينهما في البسملة، إشارة إلى أنه ينبغي أن يطلب منه تعالى النعم الحقيرة، كما ينبغي أن يطلب منه النعم العظيمة، وقد يوصف ب {الرَّحِيمِ} المخلوقون، وأما {الرَّحْمنِ} فلا يوصف به إلا الله تعالى، ومن وصف مسيلمة الكذاب، فقد تعنت حيث قال فيه:[البسيط]
أسموت بالمجد يا بن الأكرمين أبا
…
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
هذا واشتقاق {الرَّحِيمِ} من الرحمة لا خلاف فيه، وفي اشتقاق {الرَّحْمنِ} خلاف، والجمهور من الناس ذهبوا إلى أنه مشتق من الرّحمة أيضا، مبني على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة، الذي لا نظير له فيها، فلذلك لا يثنى، ولا يجمع، كما يثنى {الرَّحِيمِ} ويجمع، قال ابن الحصار: ومما يدلّ على الاشتقاق ما خرّجه الترمذيّ، وصحّحه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت الرّحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» : أو قال: «بتتّه» وهذا نصّ في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وما وجب له، وقد قال الله في سورة (الفرقان) رقم [60]:{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ..} .
إلخ، وقال تعالى في سورة (الزخرف) رقم [45]:{أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ،} ولما تجرأ مسيلمة الكذاب وتسمى ب «رحمان اليمامة» كساه الله جلباب الكذاب، وشهر به، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذاب، فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر، والمدر.
فائدة: قال سعيد بن جبير-رضي الله عنه: كان المشركون يحضرون المسجد، فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قالوا: هذا محمّد يذكر «رحمان اليمامة» يعنون:
مسيلمة الكذاب، فأمر أن يخافت ب {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ونزل:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً} الآية رقم [110] من سورة (الإسراء)، فبقي ذلك إلى يومنا
هذا؛ وإن زالت العلة، كما بقي الرمل في الطواف؛ وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النّهار، وإن زالت العلّة، وهذا جواب لمن يسأل: لماذا الإسرار بالنّهار، والجهر في الليل في الصلوات الخمس؟ والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف، تقديره: أقرأ، أو أتلو؛ إذا أراد الشخص القراءة، وقس على ذلك جميع الأعمال التي يقوم بها المسلم، ويسمّي الله عليها، فمثلا: الآكل، والشارب، والقائم، والقاعد، تقدير المحذوف عنده: آكل، أو أشرب
…
إلخ، وتقدير المحذوف فعلا مذهب الكوفيين، وهم يقدّرونه مؤخرا، ليفيد الاختصاص، وأما البصريّون؛ فيقدرون المحذوف اسما، والتقدير عندهم: ابتدائي، أو أكلي، أو قراءتي بسم الله
…
إلخ، وعليه فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، والتقدير: أكلي، أو شربي كائن بسم الله، ويشهد لقول الكوفيين قوله تعالى:{اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ويشهد لقول البصريين قوله تعالى: {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها} الآية رقم [41] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقال المرحوم سليمان الجمل: والأحسن أن يقدر متعلق الجار هنا: قولوا؛ لأن المقام مقام تعليم، وهذا الكلام صادر عن حضرة الربّ تعالى. انتهى. و (اسم) مضاف و {اللهِ} مضاف إليه، وعلى اعتبار لفظ:(اسم) صلة، فيكون مقحما بين الجار والمجرور، {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:} بدلان من لفظ الجلالة، وهذا على اعتبارهما اسمين من أسماء الله الحسنى، وهو المعتمد، وقيل: هما صفتان للفظ الجلالة، هذا ويجوز في العربية رفعهما على أنهما خبران لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الرّحمن الرحيم، كما يجوز نصبهما على أنهما مفعول لفعل محذوف، التقدير: أمدح، ونحوه، وهذان الوجهان على القطع، أعني به قطع النّعت عن المنعوت، انظر ما ذكرته في الاستعاذة، وجملة البسملة على الوجهين مبتدأة، لا محلّ لها.
{الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)}
الشرح: {الْحَمْدُ:} هو في اللغة: الثناء بالكلام الجميل الاختياري على جهة التبجيل، والتعظيم، سواء أكان في مقابلة نعمة، أم لا. فالأول كمن يحسن إليك، والثاني كمن يجيد صلاته، وهو في اصطلاح علماء التوحيد: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث كونه منعما على الحامد، أو غيره، سواء أكان ذلك قولا باللّسان، أو اعتقادا بالجنان، أو عملا بالأركان؛ التي هي الأعضاء، كما قال الأخطل التغلبي، وبعضهم يعتبر ما في البيت تفسيرا للشّكر:[الطويل]
أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة
…
يدي ولساني والضّمير المحجّبا
وممّا هو جدير بالذكر: أنّ معنى الشكر في اللغة هو معنى الحمد في الاصطلاح، وأما معنى الشكر في الاصطلاح فهو: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله. هذا؛ والحمد أربعة أقسام: حمد قديم لقديم، كحمد الله لذاته، وحمد قديم لحادث، كحمد الله لأنبيائه، والصّالحين من عباده، وحمد حادث لقديم، كحمدنا الله عز وجل، وحمد حادث لحادث، كحمد بعضنا بعضا، ولا تنس: أنّ المدح أعمّ من الحمد؛ لأنّه يكون للحيّ والميت، وللجماد، كما يمدح الطعام، والمكان، ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان، وبعده على الصفات المتعدّية، واللازمة أيضا فهو أعمّ، والألف واللام في {الْحَمْدُ} لاستغراق جميع أنواع الحمد، وصنوفه، كما جاء في الحديث الشريف من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم لك الحمد كلّه، وبيدك الخير كلّه، وإليك يرجع الأمر كلّه» ، فهذا الحديث من كلام جبريل عليه السلام بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بروايات مختلفة: عن أنس بن مالك، وعن مصعب بن سعد عن أبيه، وعن أبي سعيد الخدري، منها مطوّل، ومنها مختصر بتخريج البيهقيّ، وابن أبي الدنيا، انظر: الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، رحمه الله تعالى!.
وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «أفضل الذكر: لا إله إلاّ الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله» . رواه الترمذيّ، وقال: حسن غريب. وعن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «ما أنعم الله على عبد نعمة، فقال: {الْحَمْدُ لِلّهِ} إلا كان الّذي أعطى أفضل ممّا أخذ» . رواه ابن ماجة.
وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم: «أن عبدا من عباد الله قال: يا ربّ لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فعضّلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها؟! صعدا إلى السماء، فقالا: يا ربّنا! إنّ عبدك قد قال مقالة، لا ندري كيف نكتبها؟! قال الله-وهو أعلم بما قال عبده-: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب! إنه قد قال: يا ربّ لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي؛ حتّى يلقاني، فأجزيه بها» . رواه أحمد، وابن ماجة.
وعن أبي أيوب الأنصاري-رضي الله عنه-قال: قال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صاحب الكلمة؟» فسكت الرجل، ورأى أنه قد هجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء يكرهه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من هو؟ فإنه لم يقل إلاّ صوابا!» . فقال الرجل: أنا قلتها يا رسول الله، أرجو بها الخير! فقال:«والّذي نفسي بيده لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك؛ أيّهم يرفعها إلى الله تعالى» . رواه ابن أبي الدنيا، والطّبراني بإسناد حسن، والبيهقيّ.
{رَبِّ} يطلق، ويراد به: المالك، والسّيد، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف، على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ} وقوله أيضا: {أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً،} وقال الأعشى: [الكامل]
ربّي كريم، لا يكدّر نعمة
…
وإذا تنوشد في المهارق أنشدا
كما يقال: ربّ الدار، وربّ الأسرة، أي: مالكها، ومتولي شئونها، كما يراد به المربّي، والمصلح، يقال: ربّ فلان الضيعة، يربّها: إذا أصلحها، والله ربّ العالمين: مالكهم، ومربّيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا فشيئا، بجعل النطفة علقة، ثم بجعل العلقة مضغة، ثم بجعل المضغة عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه خلقا، وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه، وينشيه حتى يجعله رجلا أو امرأة كاملين. هذا ولا يطلق لفظ الرّبّ على غير الله تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك، وقد قالوه في الجاهلية للملك، قال الحارث بن حلّزة في معلّقته رقم [39]:[الخفيف]
وهو الربّ والشّهيد على يو
…
م الحيارين والبلاء بلاء
والربّ: المعبود بحق، وهو المراد منه عند الإطلاق، ومنه قول راشد بن عبد ربه السّلمي الصّحابي-رضي الله عنه-وهو الشاهد رقم [157] من كتابنا فتح القريب:[الطويل]
أربّ يبول الثّعلبان برأسه؟!
…
لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالب
ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام لصاحبي السّجن:{أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السّابقة قال الشاعر: [الطويل]
هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم
…
وللآكلين التّمر مخمس مخمسا
وهو اسم فاعل بجميع معانيه السّابقة، أصله: رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدخال أحد المثلين في الآخر.
{الْعالَمِينَ:} جمع عالم بفتح اللام، وجمع لاختلاف أنواعه، وهو جواب عمّا يقال:
إنّه اسم جنس يصدق على كل ما سوى الله، والجمع لا بد أن يكون له أفراد ثلاثة، فأكثر، وجمع بالياء والنون تغليبا للعقلاء على غيرهم، وهو يقال لكل ما سوى الله، ويدلّ له قوله تعالى حكاية عن قول موسى-على نبينا وعليه أفضل الصّلاة، وأتم التسليم-لمّا قال له فرعون:{وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} {قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ،} هذا والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام، وهي منتشرة في هذا الكون المترامي الأطراف في البرّ، والبحر؛ إذ كل جنس من المخلوقات يقال له: عالم، ولا واحد له من لفظه، مثل: رهط، وقوم.
وقال مقاتل: العالمون ثمانون ألف عالم، أربعون ألف عالم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر، انتهى. وجمع جمع المذكر السالم، وذلك بتغليب من يعقل على ما لا يعقل، والعالم مشتق من العلامة؛ لأنه دالّ على وجود خالقه، وصانعه، وعلى وحدانيته جلّ، وعلا، كما قال ابن المعتز:[المتقارب]
فيا عجبا كيف يعصى الإله
…
أم كيف يجحده الجاحد
وفي كلّ شيء له آية
…
تدلّ على أنّه واحد
الإعراب: {الْحَمْدُ:} مبتدأ، {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبره، التقدير: واجب، أو مستحقّ لله، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {رَبِّ:} صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه، و {رَبِّ} مضاف و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، هذا ويجوز في العربية الرفع والنصب في {رَبِّ} فالرفع على إضمار مبتدأ، التقدير: هو ربّ، والنصب على المدح بفعل محذوف، قال الزمخشري: وقرأ زيد بن عليّ-رضي الله عنهما: «رب العالمين» بالنصب على المدح، أو على النداء.
قاله مكيّ، وهذان الوجهان على القطع، انظر ما ذكرته في الاستعاذة.
الشرح: وصف الله تعالى نفسه بعد {رَبِّ الْعالَمِينَ} بأنّه {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} لأنه لما كان في اتصافه ب {رَبِّ الْعالَمِينَ} ترهيب؛ قرنه ب {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} لما تضمنه من الترغيب؛ ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته، وأمتع، كما قال عز وجل في سورة (الحجر) رقم [49 و 50]:{نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ} وقال جل ذكره في أول سورة (غافر): {غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ،} وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة؛ ما طمع بجنّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرّحمة؛ ما قنط من جنّته أحد» .
وقد شرحت الاسمين الكريمين في البسملة، فلا معنى لإعادته، هذا؛ وذكرت لك فيما تقدم:
أنّ {الرَّحْمنِ} أبلغ من {الرَّحِيمِ،} وذكر {الرَّحِيمِ} بعده، فهو من ذكر الخاص بعد العام، لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى:{وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} رقم [43] من سورة (الأحزاب).
الإعراب: يجوز فيهما ما جاز في البسملة من أوجه الإعراب.
الشرح: {مالِكِ} قرئ: («ملك») من غير مد، وبكسر الكاف فيهما، وقرأ محمد بن السّميقع بنصب («مالك»)، والمالك: هو المتصرّف في الأعيان المملوكة كيف شاء، من: الملك.
والملك هو المتصرف بالأمر، والنهي في المأمورين، من: الملك. انتهى. بيضاوي.
وجمع مالك: ملاّك، وملّك، وجمع ملك: أملاك، وملوك، هذا وفيه لغتان أخريان ملك بسكون اللام، وجمعه على هذا: أملك، وملوك. ومليك فمن الأول قول عمرو بن كلثوم في معلّقته رقم [30]:[الوافر]
وأيّام لنا غرّ طوال
…
عصينا الملك فيها أن ندينا
ومن الثاني قول لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه-في ملعقته، رقم [84][الكامل]
فاقنع بما قسم المليك فإنّما
…
قسم الخلائق بيننا علاّمها
هذا وذكر {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بعد ذكر: {رَبِّ الْعالَمِينَ} هو من ذكر الخاص بعد ذكر العام، وفيه ما فيه من التهويل، ورفعة الشأن، والتنبيه على مكانته، وعلوّ قدره. هذا وقيل:
{مالِكِ} أبلغ من («ملك») لأن فيه زيادة حرف، فلقارئه عشر حسنات زيادة عمّن يقرأ:(«ملك»).
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة ب («ملك») وفيه من المعنى ما ليس في {مالِكِ} لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى ملكا كان ملكا ومالكا بلا ريب. قال ابن الحصار: إنما كان ذلك؛ لأن المراد من ({مالِكِ}) الدلالة على الملك بكسر الميم، وهو لا يتضمّن الملك بضم الميم، و («ملك») يضمن الأمرين جميعا، فهو أولى بالمبالغة، ويتضمّن أيضا الكمال، لذا استحق الملك على من دونه.
{يَوْمِ الدِّينِ:} يوم الجزاء، ومنه: كما تدين تدان، أي كما تفعل تجازى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما-قال:{يَوْمِ الدِّينِ} يوم حساب الخلائق، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، إلا من عفا الله عنه، والأمر أمره، ثم قال:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} هذا و {الدِّينِ} أيضا: الملّة، والشريعة، ومنه قوله تعالى في سورة (يوسف) رقم [76]:{ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ،} و {الدِّينِ} اسم لجميع ما يعبد به الله تعالى. هذا ويطلق {الدِّينِ} على العادة، والشأن، والحال، كما في قول امرئ القيس في معلقته رقم [10]:[الطويل]
كدينك من أمّ الحويرث قبلها
…
وجارتها أمّ الرّباب بمأسل
هذا والدّين-بفتح الدال-: القرض المؤجّل، وجمع الأول: أديان، وجمع الثاني: ديون، وأدين. هذا؛ والدينونة: القضاء، والحساب، والدّيانة: اسم لجميع ما يتعبّد به الله. هذا وتخصيص {يَوْمِ الدِّينِ} بالإضافة له سبحانه، مع أنه مالك لجميع الأشياء في جميع الأوقات، والأيام؛ لأنه في ذلك اليوم ينسلخ عن ملوك الدنيا ما كان لهم من الملك الظاهر، وينفرد الجبّار فيه بالملك، ونفوذ الأمر، كما يقول الله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ} الآية رقم [16] من سورة (غافر)، وكما قال الله تعالى في وصف ذلك اليوم في آخر سورة الانفطار:{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ،} وانظر شرح «يوم» في الآية رقم [48] من سورة (البقرة).
الإعراب: {مالِكِ:} يجوز فيه الجر، والرفع، والنصب كما في البسملة، فالنصب على الحال، أو على النداء، وعلى المدح بفعل محذوف، وعلى النعت ل {رَبِّ} على قول من نصبه، قاله مكي. كما في الأسماء السابقة، و {مالِكِ} مضاف و {يَوْمِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و {يَوْمِ} مضاف و {الدِّينِ} مضاف إليه، هذا وقيل:
إنّ إضافة {مالِكِ} ل {يَوْمِ} من إضافة اسم الفاعل للظرف، ومفعوله محذوف، التقدير: مالك الأمر كله يوم الدين.
{إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}
الشرح: {نَعْبُدُ:} العبادة: غاية التذلل، ولا يستحقّها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذلك يحرم السجود لغير الله تعالى، وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. والاستعانة: طلب المعونة من الله تعالى على أمور الدنيا، والآخرة، وإنّما قدم:{إِيّاكَ نَعْبُدُ} على ({إِيّاكَ نَسْتَعِينُ}) لأن العبادة لله هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والأصل أن يقدم ما هو الأهم، فالأهم، وقدم المفعول في الجملتين للاهتمام والحصر؛ إذ المعنى: لا نعبد إلا إيّاك، ولا نستعين إلا بك، وهذا هو كمال الطاعة، والدّين يرجع كلّه إلى هذين المعنيين، فالأول: تبرؤ من الشرك، والثاني: تبرؤ من الحول، والقوة، وتفويض إلى الله عز وجل، هذا وأصل {نَسْتَعِينُ:} نستعون، وإعلاله مثل إعلال {الْمُسْتَقِيمَ} في الآية التالية، ومصدره: استعانة، والأصل: استعوان، فقل في إعلاله:
اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علّة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى العين، وتحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها بحسب الحال، فقلبت ألفا، فاجتمع ألفان: الألف المنقلبة، وألف الاستفعال، فحذفت ألف الاستفعال لالتقاء الساكنين، وعوض عنها التاء في الآخر، وقد يستغنى عن هذه التاء في حال الإضافة، منه قوله تعالى:{رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ} أي: إقامتها.
والإعلال المتقدم إنما هو إعلال بالنقل، والقلب، والحذف معا، ومثل هذا المصدر قولك:
استعاذ استعاذة، واستقام استقامة.
والضمير بالفعلين إنما هو لجماعة المتكلّمين، والمراد: جميع الموحّدين المصلّين، ففيه إيحاء إلى أداء الصلاة في الجماعة، يدرج المصلي عبادته في تضاعيف صلاة إخوانه المؤمنين لعلّها تقبل ببركتهم، فكأنّ المصلّي يقول: إلهي! عبادتي مشوبة بأنواع التقصير، لكنها مخلوطة بعبادة جميع العابدين، فاقبلها مني ببركة خلّص عبادك المؤمنين، فيا خسارة المهملين لصلاة الجماعة، كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاة الرجل في الجماعة تضعّف على صلاته في بيته
وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك: أنه إذا توضّأ، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد -لا يخرجه إلاّ الصّلاة-لم يخط خطوة إلاّ رفعت له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلّى؛ لم تزل الملائكة تصلّي عليه ما لم يحدث: اللهمّ صلّ عليه، اللهمّ ارحمه! ولا يزال في صلاة ما انتظر الصّلاة». رواه الستة ما عدا النّسائي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-والمشهور، والمأمول بعون الله: أنّ صلاة الجماعة بسبع وعشرين صلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة» . رواه البخاريّ، ومسلم، ومالك، والترمذيّ، والنّسائيّ عن ابن عمر-رضي الله عنهما.
وهناك أحاديث ترغب في صلاتي الفجر، والعشاء في جماعة؛ مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من صلّى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف اللّيل، ومن صلّى الصبح في جماعة فكأنّما صلّى اللّيل كلّه» . رواه مالك، ومسلم، وأبو داود عن عثمان بن عفان-رضي الله عنه.
وشدّد النبي صلى الله عليه وسلم النكير على المتخلفين عن الجماعة، وخذ ما يأتي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر-أي: في الجماعة-ولو يعلمون ما فيهما؛ لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصّلاة، فتقام، ثمّ آمر رجلا، فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم، لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار» رواه البخاريّ، ومسلم، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [43] من سورة (البقرة).
تنبيه: ينبغي أن تعلم: أنّ الكلام في الآيات السابقة، إنما هو للغيبة، وفي هذه الآيات للخطاب، وهذا يسمّى في فنّ البلاغة: التفاتا التفات من أسلوب لآخر، وهذا جيد؛ لأنه لمّا ذكر: أنّ الله جدير بالحمد، وبأنّه ربّ العالمين، وأنّه مالك الناس أجمعين يوم لا ينفع مال ولا بنون، والكلام كلّه في الغيبة؛ حسن التوجه بالخطاب إليه سبحانه وتعالى، وتخصيصه بالعبادة، والاستعانة.
الإعراب: {إِيّاكَ:} ضمير نصب منفصل، مبني على الفتح في محل نصب مفعول به مقدم.
{نَعْبُدُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وإعراب الجملة الثانية مثلها بلا فارق، وتقديم المفعول في الجملتين يفيد الاختصاص.
«إلى» كما في قوله تعالى في سورة (الصّافات) رقم [23]{فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} وقد يعدّى باللام، كما في قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [43]{وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} .
{الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو في لغة العرب: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، قال جرير في مدح عبد الملك بن مروان:[الوافر]
أمير المؤمنين على صراط
…
إذا اعوجّ الموارد مستقيم
وقال عامر بن الطفيل: [الوافر]
شحنّا أرضهم بالخيل حتّى
…
تركناهم أذلّ من الصّراط
ثمّ إن العرب تستعير (الصّراط) في كلّ قول، وعمل وصف باستقامة، أو اعوجاج، واختلفت عبارات المفسرين من السّلف والخلف في تفسيره هنا، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو امتثال أمر الله فيما أمر، وفيما نهى، والأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، فقيل: هو كتاب الله، وقيل: إنّه الإسلام، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو دين الله الذي لا اعوجاج فيه. قال ابن الحنفية: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره. وانظر ما ذكرته في قوله تعالى في الآية رقم [153] من سورة (الأنعام): {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ..} . إلخ و {الصِّراطَ} يقرأ بالصاد، والسين، والزاي، وهو يذكّر، ويؤنث، والأول أكثر.
{الْمُسْتَقِيمَ:} هو الذي لا اعوجاج فيه، والأصل فيه:«مستقوم» لأنّه من استقام، وهو أجوف واوي، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف بعد سلب سكونها، فصار:«مستقوم» ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة.
{صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ:} اختلف الناس في المنعم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين: إنّه صراط النبيين، والصديقين، والشهداء، والصّالحين، وقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [69]:{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} يعمّ، ويشمل جميع ما قيل، فلا معنى لتعدد الأقوال، والله المستعان، وهو وليّ التوفيق.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: في هذه الآية ردّ على القدرية، والمعتزلة، والإمامية؛ لأنهم يعتقدون: أنّ إرادة الإنسان كافية في صدور أفعال منه، طاعة كانت، أو معصية؛ لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربّه، وقد أكذبهم الله في هذه الآية؛ إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، فلو كان الأمر إليهم، والاختيار بيدهم دون ربهم؛ لما سألوه الهداية، ولا كرّروا السؤال في كلّ صلاة، وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه، وهو ما
يناقض الهداية، حيث قالوا:{صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالِّينَ} فكما سألوه أن يهديهم؛ سألوه أن لا يضلّهم، وكذلك يدعون، فيقولون:{رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا..} . إلخ رقم [8] من سورة (آل عمران)، انتهى.
{غَيْرِ:} اسم شديد الإبهام، ك «مثل» لا يتعرف بالإضافة لمعرفة، وغيرها، وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها إن فهم المعنى، أو تقدمت عليها كلمة ليس، يقال: قبضت عشرة ليس غير، وهو مبني على الضم، أو على الفتح، خلاف، وإن أردت الزيادة؛ فانظر مبحثها في كتابنا:«فتح القريب المجيب» .
{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالِّينَ:} اختلفت في المغضوب عليهم، والضّالين من هم؟ وجاء ذلك مفسرا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبيد بن حاتم الطائي، وقصّة إسلامه حيث قال: هم اليهود، وعن قوله تعالى:{وَلا الضّالِّينَ} قال: هم النصارى، أخرجه أبو داود، والتّرمذيّ، وأحمد، ويشهد لهذا التّفسير أيضا قوله تعالى في اليهود:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} الآية رقم [61] من سورة (البقرة)، وقوله تعالى في سورة المائدة رقم [60]:
{مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ} . وقال جل ذكره في النصارى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ} هذا وفي الآية الكريمة تحذير للمؤمن من مسالك أهل الباطل؛ لئلا يحشر مع سالكيه يوم القيامة، ومن تشبّه بقوم فهو منهم.
هذا والأصل في {الضّالِّينَ:} (الضّاللين) حذفت حركة اللام الأولى، ثمّ سكنت، ثم أدغمت اللام في اللام، فاجتمع ساكنان: مدّة الضاد بالألف، واللام المدغمة، وقرأ أيوب السختياني:(«ولا الضألين») بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة، حكاها أبو زيد، قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ قوله تعالى في سورة (الرحمن): ({فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}) فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة، قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كثير عزّة: [الطويل]
…
إذا ما العوالي بالعبيط احمأرّت
انتهى قرطبي. هذا وقد راجعت قصيدة كثير عزة التائية في شرحي شواهد المغني للسيوطي والبغدادي، فلم أجد هذه الشطرة فيها، ومن أبياتها الشواهد رقم [728 و 773 و 852] من كتابنا فتح القريب المجيب.
تنبيه: يسن للقارئ أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة في الصلاة وخارجها بعد سكتة على نون ({وَلا الضّالِّينَ}): آمين؛ ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن، وقد أطال القرطبي رحمه الله تعالى الكلام في فضله وفضائله، آخذا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف الصالح، والصحيح:
أن معناه: استجب، فهو اسم فعل أمر، وهو مبني على السكون، وحرّك بالفتح لأجل الياء قبل آخره، كما فتحت (أين) والفتح فيها أقوى؛ لأن ما قبل الياء كسرة، فلو كسرت النون على أصل التقاء الساكنين؛ لوقعت الياء بين كسرتين.
ويجهرها الإمام والمأموم في الجهرية. وفي الموطأ، والصحيحين: قال ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين. وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: ترك الناس آمين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالِّينَ} قال: آمين، حتى يسمعها أهل الصف الأول ليرتج بها المسجد. ويسن ختم الفاتحة به، وكل دعاء. وفيه لغتان:
المدّ على وزن: «فاعيل» ك «ياسين» كقول قيس المجنون: [البسيط]
يا ربّ لا تسلبني حبّها أبدا
…
ويرحم الله عبدا قال: آمينا
ولهذا البيت حكاية مذكورة في شرح شواهد الكشاف للمرحوم محب الدين الخطيب، ولولا الإطالة عليك لذكرتها، وقال آخر:[البسيط]
آمين آمين لا أرضى بواحدة
…
حتّى أبلّغها ألفين آمينا
والقصر، قال الشاعر في القصر:[الطويل]
تباعد مني فطحل إذ سألته
…
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
فطحل: اسم رجل استمنحه القائل فما منحه، فدعا عليه بالبعد. وتشديد الميم قاله الجوهري. وقد روي عن الحسن، وجعفر الصادق-رضي الله عنهما-التشديد، وهو قول الحسين بن الفضل، من: أمّ: إذا قصد، أي: نحن قاصدون نحوك، ومنه قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [3]:{وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ} .
الإعراب: {اِهْدِنَا} فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» و (نا): مفعول به أول. {الصِّراطَ:}
مفعول به ثان، كما في قوله تعالى:{وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً} وقيل: هو منصوب على نزع الخافض، وانظر الشرح، والجملة الفعلية مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.
{الْمُسْتَقِيمَ:} صفة {الصِّراطَ} . {صِراطَ:} بدل مما قبله، بدل كل من كل، أو هو عطف بيان، ومثله قوله تعالى حكاية عن قول الطاغية فرعون في سورة (غافر) رقم [36 - 37]:{لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ..} . إلخ. {صِراطَ} مضاف و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة.
{أَنْعَمْتَ:} فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد الضمير المجرور محلاّ ب (على).
{غَيْرِ:} بالجر صفة {الَّذِينَ} أو هو بدل منه، وقيل: بدل من الهاء، والميم. ويقرأ بالنصب، وخرّج على ثلاثة أوجه: أحدها: النّصب على الحال من الهاء، الثاني: النصب على الاستثناء، الثالث: النصب على إضمار فعل، التقدير:«أعني غير» وحكي عن الخليل. وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وإذا رأيت «غير» يصلح في موضعها «لا» فهي حال.. وإذا صلح في موضعها «إلا» فهي استثناء، فقس عليه. و {غَيْرِ} مضاف، و {الْمَغْضُوبِ} مضاف إليه.
{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالمغضوب، وهما في محل رفع نائب فاعله. {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): صلة للتوكيد عند البصريين، وظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية.
{الضّالِّينَ:} معطوف على المغضوب على قول البصريين، ومضاف إليه على قول الكوفيين، وعلى الاعتبارين فهو مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. تأمل، وتدبر؛ وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.
انتهت سورة الفاتحة شرحا وإعرابا بحمد الله وتوفيقه، والحمد لله ربّ العالمين.