المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة البقرة مدنية سورة البقرة مدنية، نزلت في مدد شتّى: من أول - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ١

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة البقرة مدنية سورة البقرة مدنية، نزلت في مدد شتّى: من أول

‌سورة البقرة

مدنية

سورة البقرة مدنية، نزلت في مدد شتّى: من أول الهجرة إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي مائتان وست، أو سبع وثمانون آية، وستة آلاف، ومائة وإحدى وعشرون كلمة، وخمسة وعشرون ألف حرف، وخمسمائة حرف، انتهى. خازن.

وقد ورد في بيان فضلها وثواب قراءتها أحاديث كثيرة مشهورة، أذكر منها ما يلي: عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنّ الشيطان يفرّ من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» . أخرجه مسلم، والنسائيّ، والترمذيّ، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكلّ شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيّدة القرآن» .

رواه الترمذيّ، وقال: حديث غريب، ومن حديث أبي أمامة الطويل الذي خرّجه مسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اقرءوا سورة البقرة، فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» .

قال معاوية بن سلام: بلغني: أنّ البطلة: السحرة، سمّوا بذلك لمجيئهم بالباطل.

وعن سهل بن سعد-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإنّ من قرأها في بيته ليلا، لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» . رواه الطبرانيّ، وابن حبّان، وابن مردويه.

قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر! انتهى. وهذا وسميت سورة البقرة لذكر بقرة بني إسرائيل؛ التي كانت معجزة باهرة لموسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-كما ستقف عليها مفصّلا إن شاء الله تعالى.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

ص: 29

السّلف التفويض، ومذهب الخلف التأويل، فالصّحابة، والتابعون لهم بإحسان لم يخوضوا في تفسيرها، ويكلون العلم بها إلى الله تعالى، فعن أبي بكر الصدّيق-رضي الله عنه-أنه قال: في كتاب الله سرّ، وسر الله في القرآن أوائل السور. وعن عمر، وعثمان، وابن مسعود-رضي الله عنهم: أنهم قالوا: الحروف المقطعة من السرّ المكتوم؛ الذي لا يفسّر، وعن عليّ-رضي الله عنه-وكرّم وجهه: أنّه قال: إنّ لكلّ كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي. وعن ابن عباس، وعليّ أيضا-رضي الله عنهما: إنّ الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنّا لا نعرف تأليفه منها.

ولكن بعد أن اتسعت رقعة البلاد الإسلامية، ودخل أكثر أهل البلاد المفتوحة في الدين الإسلامي الحنيف، وظهرت الملل، والنحل، خصوصا في العصر العباسيّ اضطر علماء المسلمين للخوض في تفسير هذه الحروف، وأعني بهؤلاء: الخلف، وبمذهبهم: مذهب الخلف، وكثرت الأقوال، والتفاسير في ذلك، فقيل: هي أسماء للسّور؛ الّتي بدئت بها. وقيل: كل حرف مفتاح اسم من أسماء الله تعالى، فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه اللطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، ومعين، ومتين، وقيل: الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه. وقيل: هي أسماء مقطعة لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، ألا ترى أنك تقول:({الر}، و {حم}، و {ن}) فيكون مجموعها الرحمن، وكذلك سائرها، ولكن لم يتهيأ تأليفها جميعا، وروى أبو الضحى عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله تعالى:{الم} قال: أنا الله أعلم، وفي:{الر} أنا الله أرى، وفي:{المص} أنا الله أفصل، فالألف تؤدي معنى:«أنا» واللام تؤدي عن معنى: «اسم الله» والميم تؤدي عن معنى: «أعلم» واختار هذا القول الزجاج، قال: أذهب إلى أنّ كل حرف منها، يؤدّي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها، ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقول زهير، قاله القرطبي، وقال المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد: من ذلك قول لقيم بن أوس أحد بني ربيعة بن مالك يخاطب امرأته: [الرجز]

إن شئت أشرفنا كلانا فدعا

الله جهدا ربّه فأسمعا

بالخير خيرات وإن شرّا فا

ولا أريد الشّرّ إلاّ أن تا

أراد: وإن شرّا فشرّ، إلا أن تشائي، وقول الآخر:[الرجز]

نادوهم ألا الجموا ألا تا

قالوا جميعا كلّهم ألا فا

أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا. ومن ذلك قول حكيم بن معية التميمي: [الرجز]

قد وعدتني أمّ عمرو أن تا

تدهن رأسي وتفلّيني

وتمسح القنفاء حتّى تنتا

ص: 30

المعنى: قد وعدتني أن تدهن رأسي، وأن تخرج القمل منه، وأن تسرح لحيتي حتى تصبح جيدة. ومثل ذلك كثير في الكلام العربي شعرا، ونثرا، هذا ويرى كثيرون من أهل العلم: أنّ هذه الحروف، إنما ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن، وأنّ الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطّعة؛ التي يتخاطبون بها. حكاه الرازي عن المبرد، وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء، وقرّره الزمخشري، ونصره أتمّ نصر، وإليه ذهب الإمام ابن تيمية، وشيخنا الحافظ أبو الحجّاج المزي. انتهى مختصر ابن كثير.

{ذلِكَ الْكِتابُ} أي الذي وعد به على لسان موسى، وعيسى-على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام-وإنما أدخل اللام على اسم الإشارة، وهي للبعد، والقرآن الكريم في متناول اليد، وذلك للإيذان بعلوّ شأنه، ورفعة قدره، وكونه في الغاية القصوى من الفضل، والشرف، وعلوّ المكانة، فكأنّه بسبب ذلك بعيد كل البعد، فنزل بعد المرتبة منزلة البعد الحسي.

{لا رَيْبَ فِيهِ:} فقد نفى الله عنه الريب، أي: الشك على سبيل الاستغراق، وقد ارتاب فيه كثيرون؛ لأن المنفي كونه متعلقا للريب، ومظنّة له؛ لأنه من وضوح الدلالة، وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه، لا أن أحدا لا يرتاب، ومن ارتاب فيه، أو في بعضه، فالريب حصل له من فهمه السّقيم، وعقله العقيم، وخذ قول المتنبي:[الوافر]

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السّقيم

ولكن تأخذ الآذان منه

على قدر القريحة والفهوم

ورحم الله البوصيري إذ يقول: [البسيط]

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم

ورحم الله أحمد شوقي إذ يقول: [الوافر]

وما ضرّ الورود وما عليها

إذا المزكوم لم يطعم شذاها

وما أحسن قول بعضهم: [البسيط]

عاب الكلام أناس لا خلاق لهم

وما عليه إذا عابوه من ضرر

ما ضرّ شمس الضحى في الأفق طالعة

ألاّ يرى ضوءها من ليس ذا بصر

وخذ قول أبي الطيب المتنبي أيضا: [الوافر]

ومن يك ذا فم مريض

يجد مرّا به الماء الزّلالا

هذا وتقول: رابني هذا الأمر، أي: أوقعني في ريبة، أي في شك، وحقيقة الريبة: قلق النفس، واضطرابها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . أخرجه الترمذيّ،

ص: 31

والنّسائيّ عن الحسن بن عليّ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته-رضي الله عنه-وقد يستعمل الرّيب في التهمة، قال جميل بن معمر العذريّ:[الطويل]

بثينة قالت يا جميل أربتني

فقلت كلانا يا بثين مريب

واستعمل أيضا في الحاجة كما قال كعب بن مالك الصّحابيّ الأنصاريّ رضي الله عنه: [الوافر]

قضينا من تهامة كلّ ريب

وخيبر ثمّ أجممنا السّيوفا

{هُدىً:} أصله: هديا، أو هدي، بضم الهاء وفتح الدال، وتحريك الياء منونة، قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الألف، والتنوين الذي يرسم ألفا في حالة النصب بحسب الأصل، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار {هُدىً} وإنما أتوا بياء أخرى لتدل على الياء الأصلية المحذوفة، بخلاف ما إذا لم يأتوا بها، وقالوا:«هدا» ، فلا يوجد ما يدلّ عليها، وهذا الإعلال يجري في كل اسم مقصور مجرد من ال، والإضافة.

{لِلْمُتَّقِينَ:} جمع متق، فهو مأخوذ من التقوى، وهي: حفظ النفس من العذاب الأخرويّ بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ، والتحرز من المهالك دنيا، وأخرى، وفيه تغليب الرّجال على النساء؛ إذ ما من شك: أنّ في النساء متّقيات مهتديات بالقرآن الكريم، هذا شيء معلوم لا ينكره مسلم عاقل. هذا؛ وخصّ الله تعالى المتقين بهدايته، وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم؛ لأنهم آمنوا، وصدّقوا بما فيه، وإسناد الهداية للقرآن من الإسناد للسبب، والهادي في الحقيقة هو الله، ففيه مجاز عقليّ.

الإعراب: {الم:} في إعراب هذا اللفظ وجوه، الأول: أنّ محله الرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هذه الم، أو هو مبتدأ خبره ما بعده، والثاني: أنّ محله النصب على أنه مفعول به لفعل محذوف، التقدير: اقرأ، أو اتل الم، قاله ابن كيسان النحوي. أو هو منصوب على تقدير حذف حرف القسم، كما تقول: الله لأفعلنّ، والناصب فعل محذوف أيضا، التقدير:

التزمت الله، أو اليمين به، والثالث: أنّ محله الجر على القسم، وحرف الجر محذوف، وبقي عمله بعد الحذف؛ لأنه مراد، فهو كالملفوظ به، وتقدير الكلام على هذا: أقسم، أو أحلف ب «الم»؛ لقول ابن عباس-رضي الله عنهما: إنها أقسام أقسم الله بها، وضعّف هذا سليمان الجمل، فقال: وهذا ضعيف؛ لأن ذلك-أي: حذف الجار وإبقاء عمله-من خصائص الجلالة المعظمة، لا يشركها فيه غيرها، ولا محل لها من الإعراب على اعتبارها، وأمثالها حروفا مقطعة، أو مختصرة من أسماء.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، {الْكِتابُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية هنا في محل رفع خبر المبتدأ، الذي هو:{الم} على الوجه الثاني من وجهي الرفع، كما رأيت، والرابط اسم الإشارة على

ص: 32

اعتبار الإشارة عائدة على: {الم} ويجوز أن يكون {ذلِكَ} خبر: {الم} و {الْكِتابُ} بدلا منه، أو عطف بيان عليه، والصفة هنا لا تجوز؛ لأنه اسم جامد.

{لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» ، {رَيْبَ} اسم {لا:} مبني على الفتح في محل نصب. {فِيهِ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا} والجملة الاسمية في محل نصب حال من {الْكِتابُ} على اعتباره خبر المبتدأ: {ذلِكَ،} والعامل في الحال اسم الإشارة، مثل قوله تعالى:{هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} أو هي في محل رفع خبر المبتدأ، الذي هو ذلك، على اعتبار الكتاب بدلا منه، والرابط على الوجهين الضمير المجرور في {فِيهِ،} كما جوز أن تكون الجملة في محل رفع خبر ثان للمبتدإ {ذلِكَ} .

{هُدىً:} يجوز فيه وجهان: الرفع، والنصب، أما الرفع؛ فعلى اعتبارين: الأول: اعتباره مبتدأ، و {فِيهِ} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وعليه فالجملة اسمية، وهي مستأنفة، ويكون الوقف على {لا رَيْبَ} ولم يرتضه ابن هشام، واستشهد بأول سورة السجدة على خلافه.

والثاني: على اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: هو هدى، وعليه فالجملة اسمية، وهي في محل نصب حال من الضمير المجرور في {فِيهِ} كما جوز أن يكون خبرا للمبتدإ {ذلِكَ} أو خبرا ثانيا له، وأما النصب فعلى الحال من الضمير المجرور، ويجب تأويله باسم الفاعل «هاديا» والرفع، أو النصب مقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها.

{لِلْمُتَّقِينَ:} جار ومجرور متعلقان ب {هُدىً} أو بمحذوف صفة له على الاعتبارين فيه، التقدير: كائن، أو: كائنا، أو هما متعلقان ب {هُدىً} نفسه؛ لأنه مصدر. وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، و {لِلْمُتَّقِينَ} في الحقيقة صفة لموصوف محذوف كما هو واضح.

تنبيه: من الإعراب المتقدم يتبين لك: أنّ ما تقدّم يمكن عدّه أربع جمل متناسقة، يقرر اللاحقة منها السابقة، ولذلك لم يدخل العاطف بينها، ف {الم} مع المبتدأ المحذوف، أو مع الفعل المحذوف جملة، و {ذلِكَ الْكِتابُ} جملة، و {لا رَيْبَ فِيهِ} جملة:{هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} جملة، أو تستتبع كل واحدة منها ما تليها استتباع الدليل للمدلول. انتهى. بيضاوي.

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

الشرح: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ:} يصدّقون. {بِالْغَيْبِ:} كل ما غاب عنّا من أمر البعث يوم القيامة، والحساب، والصراط، والجنّة، والنّار. هذا والغيب: ما غاب عن الإنسان، ولم تدركه حواسّه، قال الشاعر المسلم:[الطويل]

ص: 33

وبالغيب آمنّا وقد كان قومنا

يصلّون للأوثان قبل محمّد

ورحم الله من قال: [الطويل]

إذا ما خلوت الدّهر يوما فلا تقل

خلوت ولكن عليّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة

ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب

هذا؛ وإيماننا بمحمد صلى الله عليه وسلم إيمان بالغيب، كما بينت ذلك الأحاديث الشريفة، هذا والإيمان الصحيح هو: الإقرار باللّسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان، ولمّا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؛ قال:«الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، خيره وشرّه من الله تعالى» . والإيمان يزيد، وينقص على المعتمد، كما بينته في الآية رقم [2] من سورة الأنفال، وله شعب كثيرة، وفروع عديدة، وهي سبع وسبعون، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، وهو بفتح الهمزة: جمع يمين بمعنى الحلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو باسم من أسمائه، وقال الله تعالى:{وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ} الآية رقم [224] الآتية، واليمين أيضا: اليد اليمنى، وتجمع أيضا على: أيمان، كما في قوله تعالى:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وهو كثير في القرآن الكريم، ولا يجمع بالمعنى الأول؛ لأنه مصدر، والمصدر لا يثنّى، ولا يجمع.

{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ:} يؤدّونها في أوقاتها، ويحافظون على طهارتها، وركوعها، وسجودها، وخشوعها، ومن لم يؤدّها على الوجه الأكمل، يقال عنه: صلّى، ولا يقال: أقام الصلاة، وأصل «يُقِيمُونَ» يؤقومون، حذفت الهمزة للتخفيف حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل:

«أأقوم» الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار:«يقومون» ، ثم يقال في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو، وهي الكسرة إلى القاف، فصار (يقومون) ثم قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي مزيدة الهمزة في أوله، مثل:

أجاب يجيب، وأكرم يكرم

إلخ، كما حذفت الهمزة الثانية من {يُؤْمِنُونَ} لأنّ ماضيه: آمن، وأصله أأمن، والمضارع يؤأمن، أؤمن، فتحذف من الأول، وتسهل في الثاني، وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور، كما في قول أبي حيان الفقعسي:[الرجز]

فإنّه أهل لأن يؤكرما

ولا تنس أنّ هذه الهمزة تحذف من اسمي الفاعل والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم، ومكرم، والقياس مؤكرم ومؤكرم، وقس على ذلك، وانظر شرح {الصَّلاةَ} في الآية [43].

ص: 34

{رَزَقْناهُمْ:} أعطيناهم، وملكناهم.

{يُنْفِقُونَ:} يتصدّقون على الفقراء، والمساكين، ويكون الإنفاق فرضا كالزكاة الواجبة، والكفارات على أنواعها، ويكون تطوعا وتقربا إلى الله تعالى، وانظر شرح الآيات [261] وما بعدها، إن شاء الله تعالى، هذا والفعل الماضي «أنفق» وهو رباعي الحروف، مضارعه: يؤنفق، حذفت الهمزة على مثال ما قبله، ويكون ثلاثيا:«نفق» . قال الزمخشري رحمه الله تعالى: إنّ كلّ ما فاؤه نون، وعينه فاء، يدل على معنى الخروج، والذّهاب، مثل: نفق، ونفخ، ونفد، ونفش

إلخ.

الإعراب: {الَّذِينَ:} فيه وجوه: الأول: الإتباع ل: (المتقين) على البدلية، أو على النعت، الثاني: في محل نصب على المدح بفعل محذوف. الثالث: في محل رفع على اعتباره خبر مبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ خبره ما يأتي بعده، وهو مبني على الفتح في محل جر على الأول، أو في محل نصب على الثاني، أو في محل رفع على الثالث. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {بِالْغَيْبِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:({يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}) معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. ({وَمِمّا}): الواو: حرف عطف.

({مِمّا}): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة، والمصدرية ضعيفة، {رَزَقْناهُمْ:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني، التقدير: ومن الذي، أو من شيء رزقناهم إيّاه؛ لأن الفعل:«رزق» ينصب مفعولين، كالفعل الذي هو بمعناه، وهو: أعطى، ومنح، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، التقدير: من رزقنا إيّاهم المال، وهو ركيك معنى، كما ترى. {يُنْفِقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجار والمجرور (ممّا) في محل المفعول به، وتقديمه للاهتمام به، وللمحافظة على رءوس الآي.

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}

الشرح: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ:} المراد به القرآن الكريم. {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ:}

يعني: الكتب السابقة، والمراد: المؤمنون الصادقون من المسلمين، ومن آمن من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وأمثاله، بخلاف اليهود والنصارى الذين بقوا على أديانهم، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما أخبر الله عنهم بقوله:{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ} الآية رقم [91] الآتية: وفي حديث أبي ذر-رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله! كم كتابا أنزل الله؟ قال: «أنزل مائة كتاب وأربعة كتب: أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة، والإنجيل، والزّبور، والفرقان» . ويقال: لما

ص: 35

نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قالت اليهود، والنصارى: نحن نؤمن بالغيب، فلمّا قال الله تعالى:{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} قالوا: نحن نقيم الصلاة، فلما قال الله تعالى:{وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} قالوا: نحن ننفق، ونتصدّق، فلما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} نفروا من ذلك، ومثل ذلك في الآيتين رقم [155 و 156] من سورة (الأعراف).

{وَبِالْآخِرَةِ:} المراد بالآخرة: الحياة التي تكون بعد الموت، وما فيها من نعيم مقيم، أو عذاب اليم، وهي الحياة الثانية الأبدية؛ التي تكون بعد البعث، والنشور، وبعد الحساب، والجزاء، وهي في الجنة لمن آمن، وعمل صالحا، وفي النّار لمن كفر، وعمل سيئا، ورحم الله من يقول:[البسيط]

الموت باب وكلّ النّاس داخله

فليت شعري بعد الباب ما الدّار؟

ورحم الله من أجابه بقوله: [البسيط]

الدّار جنّة عدن إن عملت بما

يرضي الإله وإن خالفت فالنّار

هما محلاّن ما للنّاس غيرهما

فانظر لنفسك ماذا أنت مختار؟

و (الآخرة): مشتقة من التأخّر، لتأخرها عنّا، وتأخّرنا عنها، كما أنّ الدنيا مشتقة من الدّنو، كما ستعرفه. {يُوقِنُونَ:} أي: بما بعد الموت، عالمون علما ثابتا دون شك؛ إذ الإيقان: العلم بنفي الشك والشبهة عند الاستدلال. وأصل الفعل: «يؤيقنون» فحذفت الهمزة على مثال ما سبق، فصار الفعل «يويقنون» ثم حذفت الياء الساكنة لالتقائها ساكنة مع الواو، فصار الفعل {يُوقِنُونَ} .

الإعراب: ({الَّذِينَ}) معطوف على ما قبله في الآية السابقة على جميع الوجوه المعتبرة فيه.

{يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.

{بِما} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): اسم موصول، وضعف أبو البقاء الموصوفة، قال: لأنه لا عموم فيه على هذا، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء.

{أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، والجملة الفعلية صلتها، {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، وعليه ف {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما) والكاف في محل جر بالإضافة.

({بِالْآخِرَةِ}): متعلقان بالفعل بعدهما. {هُمْ} مبتدأ، وجملة {يُوقِنُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{يُؤْمِنُونَ..} . إلخ، لا محل لها مثلها، وهو أقوى من اعتبارها حالا.

ص: 36

{أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}

الشرح: {أُولئِكَ:} الإشارة إلى الذين وصفوا بالآيتين السّابقتين بالصفات الحميدة، والأعمال المجيدة، هذا؛ و {أُولئِكَ} جمع: ذلك، وقد يجمع على أولالك، وأنشد ابن السكيت:[الطويل]

أولالك قومي لم يكونوا أشابة

وهل يعظ الضّلّيل إلا أولالكا؟!

و {أُولئِكَ} لجماعة العقلاء، وربما جاء في غير العقلاء، قال جرير من قصيدة يهجو بها الفرزدق وهو الشاهد رقم [80] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الكامل]

ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيّام

وقال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [36]: {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} . هذا؛ وقد قال العلماء: إنّ في قوله تعالى: {مِنْ رَبِّهِمْ} ردّا على القدرية، والمعتزلة، والإمامية في قولهم: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه-تعالى الله عن قولهم-ولو كان كما قالوا؛ لقال: «من أنفسهم» وقد تقدم الكلام فيه، وفي الهدى. انتهى القرطبي. هذا وفي قوله تعالى:{عَلى هُدىً} استعارة تبعية بالحرف، أي: تمكّنوا من الهداية التامة، ويقال في إجرائها: شبّه مطلق ارتباط بين مهدي وهدى، بمطلق ارتباط بين مستعل ومستعلى عليه بجامع التمكّن في كلّ، فسرى التشبيه من الكليين للجزئيات، ثم استعيرت «على» من جزئي من جزئيات المشبّه به لجزئي من جزئيات المشبّه على طريق الاستعارة التّصريحية التّبعيّة.

{وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ:} الفائزون برضا الله، الناجون من غضبه، وعقابه، فهو جمع اسم فاعل، من: أفلح الرجل: فاز ببغيته، ومراده، وأصله، «مؤفلح» فعل فيه ما فعل بما قبله، وتكرّر اسم الإشارة لإظهار مزيد العناية بشأن المشار إليهم، وأنهم جديرون بذلك الفضل الذي خصّهم الله به، ومنحهم إياه، هذا و «الفلح» أصله في اللغة: الشقّ، والقطع، ومنه فلاحة الأرضين؛ أي: شقها للحرث، ولذلك سمي الأكّار فلاحا، ويقال للذي شقّت شفته السفلي، أو العليا: أفلح، والفلاح: البقاء، والدوام، قال الأضبط بن قريع السّعدي في الجاهلية الجهلاء:[الرجز]

لكلّ همّ من الهموم سعه

والمسي والصّبح لا فلاح معه

يقول: ليس مع كر اللّيل والنهار بقاء، وقال آخر:[الطويل]

نحلّ بلادا كلّها حلّ قبلنا

ونرجوا الفلاح بعد عاد وحمير

ص: 37

الإعراب: {أُولئِكَ} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {عَلى هُدىً:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان بمحذوف صفة: {هُدىً} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل رفع خبر المبتدأ:({الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ..}.) إلخ، وما عطف عليه، على وجه مرّ ذكره، ({أُولئِكَ}): مبتدأ مثل سابقه، {هُمُ:} ضمير فصل لا محل له. {الْمُفْلِحُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، هذا ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ ثانيا و {الْمُفْلِحُونَ:} خبره، والجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ:

معطوفة على سابقتها على الوجهين المعتبرين فيها.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)}

الشرح: لمّا ذكر الله المؤمنين، وأحوالهم؛ ذكر الكافرين، ومآلهم، وتلك سنّة اقتضتها حكمة العليم الحكيم، ورحمته في كتابه الكريم؛ بأن لا يذكر التكذيب، والكافرين، والمنافقين؛ إلا ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الإيمان إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنّة، ونعيمها إلا ويذكر النّار وجحيمها، ولا يذكر الرحمة إلا ويذكر الغضب، والسخط؛ ليكون المؤمن راغبا راهبا، راجيا خائفا، وهذا ما يسمّى بالمقابلة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا والكفر: ضدّ الإيمان، وهو المراد في الآية، وقد يكون بمعنى: جحود النعمة، والإحسان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في النساء في حديث الكسوف:«ورأيت النار، فلم أر منظرا كاليوم قطّ أفظع! ورأيت أكثر أهلها النّساء» قيل: بم يا رسول الله؟! قال: «بكفرهنّ» قيل:

أيكفرن بالله؟! قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدّهر كلّه، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ!» . أخرجه البخاري، وغيره. ويروى بأطول من هذا من رواية أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه، وأصل الكفر في كلام العرب: الستر، والتغطية، قال لبيد-رضي الله عنه-في معلّقته رقم [42] في وصف بقرة وحشية:[الكامل]

يعلو طريقة متنها متواتر

في ليلة كفر النّجوم غمامها

وسمّي الزّارع: كافرا؛ لأنه يلقي البذر في الأرض، ويغطيه، ويستره بالتّراب، قال تعالى في تشبيه حال الدنيا في سورة (الحديد) رقم [20] {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ}. ويسمّى الليل:

كافرا؛ لأنه يستر كلّ شيء بظلمته. قال لبيد في معلقته رقم [65]: [الطويل]

ص: 38

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

ويطلق لفظ الكافر على النّهر، قال المتلمس حين ألقى الصحيفة في النّهر:[الطويل]

وألقيتها بالثّني من جنب كافر

كذلك ألقي كلّ رأس مضلّل

رضيت لها بالماء لمّا رأيتها

يجول بها التيّار في كلّ جدول

هذا وكفر فلان النعمة، يكفرها كفرا، وكفورا، وكفرانا: إذا جحدها، وأسرّها، وأخفاها.

قال تعالى في سورة إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-الآية رقم [7]:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} وقال القطامي، وهو الشاهد رقم [531] من كتابنا فتح رب البريّة:[الوافر]

أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المئة الرّتاعا

{سَواءٌ عَلَيْهِمْ:} {سَواءٌ} مصدر بمعنى الاستواء، فلذا صح الإخبار به عن متعدد.

وقيل: بمعنى: مستو، وهو لا يثنى، ولا يجمع، قالوا: هما، وهم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى، قالوا: سيّان، وإن شئت قلت: سواآن، وفي الجمع: هم أسواء، وهذا كله ضعيف، ونادر، وأيضا على غير القياس: هم سواس، وسواسية، أي: متساويان، ومتساوون. هذا ويأتي بمعنى: الوسط، كما في قوله تعالى:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} رقم [55] من سورة (الصافات) ويأتي بمعنى: العدل، كما في قوله تعالى:{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} الآية رقم [58] من سورة (الأنفال) وسواء السبيل: ما استقام منه، كما في الآية رقم [108] الآتية:{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} وسواء الجبل: ذروته، وسواء الشيء: غيره، قال الأعشى:[الطويل]

تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي

وما عدلت عن أهلها لسوائها

{أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ:} الإنذار: الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في التخويف من عذاب الله، وتناذر القوم لأمر: إذا خوفه بعضهم بعضا، ففي الآية الكريمة تيئيس من إيمان الكفار، سبقت للتنبيه، على غلوّهم في الكفر، والطغيان، وعدم استعدادهم للإيمان، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم {إِنَّ} . {كَفَرُوا:} ماض وفاعله، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {سَواءٌ:} خبر مقدم. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان ب (سواء أأنذرتهم). {أَأَنْذَرْتَهُمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتسوية. ({أَنْذَرْتَهُمْ}): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية، وهمزة التسوية في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر. {أَمْ:} حرف

ص: 39

عطف معادل لهمزة التسوية. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تُنْذِرْهُمْ:} مضارع مجزوم ب {لَمْ،} والفاعل مستتر تقديره: «أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية هذه مؤوّلة بمصدر معطوف على سابقه، وتقدير الكلام: إنذارك وعدمه سواء، وقال محمد بن يزيد:{سَواءٌ:} يرفع بالابتداء، والمصدر المؤول خبر عنه. وقال أبو البقاء:{سَواءٌ:} مبتدأ، والمصدر المؤوّل في محل رفع فاعل ب {سَواءٌ} سد مسدّ خبره، والتقدير: يستوي عندهم الإنذار، وتركه. والأول أقوى؛ لأن {سَواءٌ} نكرة كما ترى، ولا مسوغ لوقوعه مبتدأ، وعلى كلّ فالجملة الاسمية في محل رفع فاعل به. {لا:} نافية، {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال مؤكدة لمضمون ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها، ورجّحه ابن هشام في المغني على غيره، أو هي في محل رفع خبر (إنّ) فتكون الجملة الاسمية:{سَواءٌ..} . إلخ المعترضة لا محل لها، أو هي في محل رفع خبر ثان ل {إِنَّ} أقوال، وأرجح الأول، وهو الحالية، هذا ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (إبراهيم) رقم [21]:{سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ،} وقوله تعالى في سورة (المنافقون) الآية رقم [6]: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وقوله تعالى في سورة (الشعراء) رقم [136]: {قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ} ولا تنس الآية رقم [10] من سورة (ياسين). و (أم) في هذه الآيات، وأمثالها تسمى: متصلة؛ لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وتسمى أيضا معادلة لمعادلتها للهمزة في إفادة التسوية، والمنقطعة بخلاف ذلك، انظر مبحث «أم» في كتابنا فتح القريب المجيب، تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك؛ فإنه جيد، والحمد لله.

{خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)}

الشرح: {خَتَمَ اللهُ} قال الزجّاج: الختم: التغطية؛ لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه تغطية له؛ لئلا يطّلع عليه أحد. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: طبع الله على قلوبهم، فلا يعقلون الخير. وقال النسفي: وحاصل الختم والطّبع خلق الظلمة، والضيق في صدر العبد عندنا، فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه. انتهى.

أقول: ولعل هذه الظلمة حاصلة من الرّان الذي ذكره الله بقوله: {كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} سورة (المطففين) رقم [14]، وخذ ما يلي: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المؤمن إذا أذنب ذنبا؛ كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب، ونزع، واستغفر؛ صقل منها، وإن زاد؛ زادت حتّى يغلّف بها قلبه، فذلك الرّان الّذي ذكر الله في كتابه:

{كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»} . رواه الترمذيّ، والنّسائي، وابن ماجة، وابن حبّان.

ص: 40

هذا وفي هذه الآية دليل واضح على أنّ الله سبحانه خالق الهدى، والضلال، والكفر، والإيمان، فاعتبروا أيها السّامعون، وتعجّبوا أيها المفكرون من عقول القدرية والمعتزلة القائلين بخلق إيمانهم، وهداهم، فإنّ الختم هو الطّبع، فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا؛ وقد طبع على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فمتى يهتدون؟! أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم، وأصمهم، وأعمى أبصارهم {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضلّه، وخذله؛ إذ لم يمنعه حقّا وجب له، فتزول صفة العدل، وإنّما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم، لا ما وجب لهم. انتهى. قرطبي.

أقول: ولو تركهم وشأنهم؛ لما اختاروا غير الكفر قطعا، هذا وقد شبه قلوبهم لتأبّيها الحق، وأسماعهم وأبصارهم لارتفاعها عن تقبل نور الهداية بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغشى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، واستعار لفظ الختم، والغشاوة لذلك بطريق الاستعارة التصريحية؛ لأنه ليس تغشية على الحقيقة، وإنما المراد بها أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر، والمعاصي، واستقباح الإيمان، والطاعات. قال سليمان الجمل- رحمه الله تعالى-: وحيث أطلق القلب في لسان الشرع؛ فليس المراد به الجسم الصنوبري الشّكل؛ فإنه للبهائم، والأموات، بل المراد به معنى آخر، سمّي بالقلب أيضا، وهو جسم لطيف قائم بالقلب اللحماني، قيام العرض بمحله، أو قيام الحرارة بالفحم، وهذا القلب هو الذي يحصل منه الإدراك، وترتسم فيه العلوم والمعارف. انتهى.

تنبيه: وحّد السمع دون القلوب والأبصار لأمن اللّبس، ولأنه في الأصل مصدر، يقال:

سمعت الشيء سمعا، وسماعا، والمصدر لا يثنى، ولا يجمع؛ لأنه اسم جنس، يقع على القليل، والكثير، فلا يحتاج فيه إلى تثنية، أو جمع، انتهى. نسفي. وقيل: وحّد السّمع؛ لأن مدركاته نوع واحد، وهو الصّوت، ومدركات القلب والبصر مختلفة، وإنّما خصّ الله تعالى هذه الأعضاء بالذكر؛ لأنها طرق العلم، فالقلب محل العلم، وطريقه إما السّماع وإما الرؤية. انظر سورة (الملك) جيدا.

{وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} قوي مستمرّ، فهو وعيد، وبيان لما يستحقّونه، والعذاب: كالنكال وزنا ومعنى، تقول: عذب عن الشيء، ونكل عنه: إذا أمسك، ومنه: الماء العذب؛ لأنه يقمع العطش، ويردعه، ولذلك سمي نقاحا، وفراتا.

الإعراب: {خَتَمَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {عَلى قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، وفيها معنى التعليل لعدم قبولهم الإيمان. {وَعَلى سَمْعِهِمْ:} معطوفان على ما قبلهما. {وَعَلى أَبْصارِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {غِشاوَةٌ:}

مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين، هذا وقال الأخفش:{غِشاوَةٌ} فاعل بالجار والمجرور، وهذا يوجب تقدير

ص: 41

فعل، فيكون التقدير: ووضع أو: وثبت على أبصارهم غشاوة، فتكون الجملة فعلية على هذا التقدير، هذا ويقرأ «غشوة» بالنصب على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة، قال القرطبي:

فيكون من باب قوله، وهو الشاهد رقم [1074] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الكامل]

علفتها تبنا وماء باردا

حتّى بدت همّالة عيناها

وانظر ما ذكرته في تفسير قوله تعالى في سورة (الحشر) رقم [9]: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ..} . إلخ، وانظر سورة (الحج) رقم [20]، وسورة (الفرقان) رقم [12]، والهاء في الكلّ ضمير متصل في محل جر بالإضافة. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {عَظِيمٌ:} صفة عذاب، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، فلا محل لها على الاعتبارين. هذا والحالية ممكنة من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، وساغ مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأن المضاف جزؤه. هذا وإن اعتبرت {عَذابٌ} فاعلا بالجار والمجرور على قول الأخفش، فتكون الجملة فعلية، ومعطوفة على ما قبلها.

تنبيه استدل بالآية الكريمة من فضّل السّمع على البصر لتقدمه عليه باللفظ، ومثلها كثير.

وقال لتبرير قوله: والسّمع يدرك به الجهات السّت، وفي النور، والظلمة، ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة، وبواسطة من ضياء، وشعاع. وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر على السّمع؛ لأن السمع لا يدرك إلا الأصوات، والكلام.

والبصر يدرك به الأجسام، والألوان، والهيئات كلّها، قالوا: فلما كانت تعلقاته أكثر؛ كان أفضل، وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات السّت. انتهى قرطبي بتصرف.

{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}

الشرح: لمّا تقدم وصف المؤمنين في صدر السّورة بأربع آيات، ثم عرف حال الكافرين بآيتين شرع الله تعالى في بيان حال المنافقين؛ الّذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر. ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس؛ أطنب بذكرهم في ثلاث عشرة آية؛ لينبّه إلى عظيم خطرهم، وكبير ضررهم، ووصفهم بصفات متعدّدة، كلّ منها نفاق، كما أنزل سورة (براءة) وسورة (المنافقين) فيهم، وذكرهم في سورة (النّور) وغيرها من السور تعريفا بأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبّس بها أيضا.

والنّفاق: هو إظهار الخير، وإسرار الشرّ، إظهار الإيمان، وإخفاء الكفر، وهو نوع اعتقاديّ، وهو الذي يخلد صاحبه في النّار، وعمليّ بأن يتصف إنسان بصفاتهم، ويعمل بأعمالهم من الكذب، والخيانة، والفجور، وخلف الوعد، وغير ذلك.

ص: 42

عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ، كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . رواه البخاريّ، ومسلم.

{النّاسِ:} اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: قوم، ورهط

إلخ، واحده: إنسان، وإنسانة من غير لفظه، وتصغيره: نويس، وناس، وإنسان، وأناسيّ، وإنس من مادّة واحدة. وهو يطلق على الإنس، والجن، لكن غلب استعماله في الإنس، قال تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وأصله: الأناس:

حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، ولا يكاد يقال:

الأناس، وقد نطق القرآن الكريم بهذا الأصل، ولكن بدون لام التعريف، قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [71]:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} وقوله تعالى في الآية رقم [60] الآتية:

{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} وقيل: إن أصله النوس، ولم يحذف منه شيء، وإنّما قلبت الواو ألفا لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها.

هذا وقيل: «النّاس» مأخوذ من النّوس، وهو الحركة، يقال: ناس، ينوس: إذا تحرك، وقيل: أصله من: نسي، فأصل ناس: نسي، قلب، فصار: نيس، تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثم دخلت الألف واللام، فقيل: النّاس، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نسي آدم عهد الله فسمّي إنسانا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نسي آدم فنسيت ذرّيّته» وقال تعالى في سورة (طه) رقم [115]: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً،} وعلى هذا فالهمزة زائدة. قال الشاعر: [الكامل]

لا تنسين تلك العهود فإنّما

سمّيت إنسانا لأنك ناسي

وقال آخر: [البسيط]

فإن نسيت عهودا منك سالفة

فاغفر فأوّل ناس أوّل النّاس

وقيل: سمي: إنسانا؛ لأنسه بحواء، وقيل: لأنسه بربّه، قال الشاعر:[الطويل]

وما سمّي الإنسان إلا لأنسه

ولا القلب إلاّ أنّه يتقلّب

وأضيف: إن الله أطلق لفظ الناس على شخص واحد، وهو نعيم بن مسعود-رضي الله عنه، وذلك بقوله تعالى في سورة آل عمران رقم [173]{الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ..} . إلخ.

(اليوم {الْآخِرِ}): هو آخر أيّام الدنيا، فيه الحشر، والنشر، والحساب، والجزاء، ودخول أهل الجنّة الجنّة بالفضل الإلهي، ودخول أهل النّار النّار بالعدل الرّباني.

{وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ:} هذا ردّ لما ادّعوه من الإيمان على أكمل وجه. هذا؛ وما قاله

ص: 43

الزمخشري عن المنافقين: كانوا يهودا؛ غير مسلّم له، بل إنّ المنافقين كانوا من العرب سكان المدينة المنورة، ورئيسهم عبد الله بن أبيّ خزرجيّ الأصل.

الإعراب: {وَمِنَ النّاسِ:} الواو حرف عطف عطفت قصّة المنافقين على ما قبلها. ({مِنَ النّاسِ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، هذا هو المتعارف عليه في هذه الجملة، وقيل: إن الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمبتدإ محذوف، التقدير: وفريق كائن من الناس، على حد قوله تعالى في سورة (الجنّ) رقم [11]:{وَمِنّا دُونَ ذلِكَ} والأصح: أنّ مضمون الجار والمجرور مبتدأ. و ({مِنَ}) هي الخبر؛ لأنّ ({مِنَ}) الجارة دالة على التبعيض، أي: وبعض الناس، وجمع الضمير يؤيد ذلك، ويؤيده قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [110]:{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} ف ({أَكْثَرُهُمُ}) معطوف على مضمون {مِنْهُمُ،} وقوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [69]: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ} ف ({كَثِيرٌ}) معطوف على مضمون {مِنْهُمْ،} وخذ قول الحماسيّ: [الكامل]

منهم ليوث لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب

حيث قابل لفظ: «منهم» بما هو مبتدأ، أعني لفظة:«بعضهم» وهذا مما يدلّ على أنّ مضمون «منهم» مبتدأ، هذا و «ليوث» جمع: ليث، وهو السّبع، لا ترام: لا تقصد. قمشت:

جمعت من هنا، وهناك، والمراد: رذالة الناس، والقمش: الرديء من كل شيء.

{يَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى من، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {آمَنّا:} فعل، وفاعل. {بِاللهِ:}

متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} معطوفان على ما قبلهما. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» . {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسمها. {بِمُؤْمِنِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (مؤمنين):

خبر (ما) منصوب وعلامة نصبه الياء المقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالياء التي جيء بها لمناسبة حرف الجر الزائد، ويقال: مجرور لفظا منصوب محلاّ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من البعض المفهوم ممّا سبق، والضمير في الفعل:{يَقُولُ} والرابط الواو، والضمير. هذا وبنو تميم يهملون (ما) فتكون الباء زائدة في خبر المبتدأ، ولكن جاء القرآن بلغة الحجازيّين.

تنبيه: الباء حرف جر زائد، ويقال في القرآن: حرف صلة تأدّبا؛ لأنه لا زيادة في القرآن الكريم، ولا نقص، وهو وأمثاله يفيد التوكيد، ولكن يقول النّحويّون: زائد من حيث الاصطلاح، وهو ضروري عند علماء البلاغة لتوكيد الكلام، وتقويته.

ص: 44

{يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)}

الشرح: {يُخادِعُونَ اللهَ:} الخداع، والمخادعة: أن يوهم المرء صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه؛ ليوقعه فيه من حيث لا يشعر، أو: يوهمه المساعدة على ما يريد هو به ليغترّ بذلك، وكلا المعنيين مناسب للمقام، فإنّهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطّلعوا على أسرار المؤمنين، فيذيعوها إلى المنابذين، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائر الكفرة.

قال العلماء: معنى {يُخادِعُونَ اللهَ} أي: يخادعونه عند أنفسهم، وعلى ظنّهم.

وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الحسن، وغيره؛ لأنّ خداع رسول الله خداع لله. أو المعنى: إن معاملة رسول الله معاملة الله؛ من حيث إنّه خليفته في تشريع الأحكام، وتنفيذ الحدود، قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ} الآية رقم [80] من سورة (النّساء)، وقال تعالى في سورة (الفتح) رقم [10]:{إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ،} وكذلك إذا خادعوا المؤمنين؛ فقد خادعوا الله. هذا؛ ومن قولهم: خدع الضب، إذا توارى في جحره، والأخدعان: عرقان خفيّان في العنق، وقال أهل اللغة: أصل الخدع في كلام العرب:

الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد قول سويد بن كاهل:[الرمل]

أبيض اللّون لذيذ طعمه

طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع

{وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ:} أي: إن دائرة الخداع راجعة إليهم، وضررها يحيق بهم، أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لمّا غروها بذلك، وخدعتهم أنفسهم حيث حدّثتهم بالأماني الفارغة، وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا تخادع الله، فإنّ من يخادع الله يخدعه، ونفسه يخدع؛ لو يشعر» قالوا: يا رسول الله! وكيف يخادع الله؟ قال: «تعمل بما أمرك الله به، وتطلب به غيره» ، أي: ترائي به النّاس، هذا؛ وقرئ:«يخدعون» في الموضعين.

{وَما يَشْعُرُونَ:} الشّعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ، ويخفى، مشتقّ من الشعر لدقته، وسمّي الشاعر: شاعرا لفطنته، ورقّة معرفته، والمعنى: وما يشعرون أنّ وبال خداعهم راجع على أنفسهم، وأنّهم سيحاسبون حسابا عسيرا، وسيعاقبون عقابا شديدا. ومحصّل ما ذكر: أنّ الآية من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث شبه حالهم في معاملتهم لله بحال المخادع مع صاحبه من حيث القبح، أو من باب المجاز العقلي في النسبة الإيقاعية. انتهى. جمل.

هذا وأما (النّفس) فإنها تجمع في القلة: أنفس، وفي الكثرة: نفوس. والنفس: مؤنث باعتبار الرّوح، وتذكر باعتبار الشخص؛ أي: فإنها تطلق على الذات أيضا، سواء أكان ذكرا أم

ص: 45

أنثى، فعلى الأول قيل: هي جسم لطيف مشتبك بالجسم اشتباك الماء بالعود الأخضر الرّطب.

فتكون سارية في جميع البدن، قال الجنيد-رحمه الله: الرّوح: شيء استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يجوز البحث عنه بأكثر من أنّه موجود، قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [85]:{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} وقال بعضهم: إنّ هناك لطيفة ربّانيّة لا يعلمها إلا الله تعالى، فمن حيث تفكّرها تسمى: عقلا، ومن حيث حياة الجسد بها تسمّى: روحا، ومن حيث شهوتها: تسمّى نفسا، فالثلاثة متّحدة بالذات، مختلفة بالاعتبار، وهذا ما تدل عليه الآثار الصّحاح. هذا؛ ومن الدليل على أن النفس هي الروح قوله تعالى في سورة (الزّمر) رقم [42]:{اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} يريد الأرواح، وذلك بين في قول بلال-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب:«أخذ بنفسي يا رسول الله الّذي أخذ بنفسك» . وهذا كان في الوادي الّذي ناموا فيه عن صلاة الصّبح حتى طلعت الشمس، وهم قافلون من غزوة تبوك. والنّفس أيضا: الدم، يقال: سالت نفسه، قال الشاعر:[الطويل]

تسيل على حدّ الظّبات نفوسنا

وليست على غير الظّبات تسيل

وقال إبراهيم النّخعي، وهو المقرّر في الفقه:(ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجّس الماء إذا مات فيه)، والنّفس أيضا: الجسد، قال شاعر:[الكامل]

نبّئت أنّ بني سحيم أدخلوا

أبياتهم تامور نفس المنذر

والتّامور أيضا: الدم. وانظر الآية رقم [144] الآتية.

هذا وقد ذكر القرآن الكريم للنفس خمس مراتب: الأمارة بالسّوء، واللّوامة، والمطمئنّة، والراضية، والمرضية، ويزاد: الملهمة، والكاملة، فالأمارة بالسوء هي التي تأمر صاحبها بالسّوء، ولا تأمر بالخير إلا نادرا، وهي مقهورة، ومحكومة للشّهوات. وإن سكنت لأداء الواجبات الإلهية، وأذعنت لاتباع الحق؛ لكن بقي فيها ميل للشّهوات؛ سمّيت: لوّامة، وإن زال هذا الميل، وقويت على معارضة الشّهوات، وزاد ميلها إلى عالم القدس، وتلقّت الإلهامات؛ سمّيت: ملهمة.

فإن سكن اضطرابها، ولم يبق للنفس الشّهوانية حكم أصلا؛ سميت: مطمئنّة، فإن ترقّت من هذا، وأسقطت المقامات من عينها، وفنيت على جميع مراداتها؛ سميت: راضية، فإن زاد هذا الحال عليها؛ صارت مرضية عند الحقّ، وعند الخلق، فإن أمرت بالرّجوع إلى العباد لإرشادهم، وتكميلهم؛ سمّيت كاملة، فالنفس سبع طبقات، ولها سبع درجات، كما ذكرت، وقدمت.

وأخيرا خذ ما ذكره القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «ما تقولون في صاحب لكم، إن أكرمتموه، وأطعمتموه، وكسوتموه؛ أفضى بكم إلى شرّ غاية، وإن أهنتموه، وأعريتموه، وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية؟» .

ص: 46

قالوا: يا رسول الله هذا شرّ صاحب! قال: «فو الّذي نفسي بيده إنّها لنفوسكم التي بين جنوبكم!» . انتهى.

الإعراب: {يَخْدَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب معطوف على لفظ الجلالة.

{آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{يَخْدَعُونَ..} . إلخ: بدل اشتمال من جملة:

{يَقُولُ..} . إلخ؛ لأنّ قولهم كذا مشتمل على الخداع، وتحتمل أن تكون مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر، وهو: ما بالهم قالوا: آمنا، وما هم بمؤمنين؟ فقيل:{يُخادِعُونَ اللهَ} . وجوز أبو البقاء اعتبارها حالا من فاعل: {يَقُولُ} المستتر، أو من الضمير المستتر ب (مؤمنين) {وَما:} الواو واو الحال. (ما) نافية. {يُخادِعُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله. {إِلاّ} حرف حصر لا محل له.

{أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو، والضمير، فتكون حالا متداخلة على قول أبي البقاء، وغير متداخلة على الوجهين المعتبرين في الجملة السابقة، {وَما يَشْعُرُونَ} إعرابها كإعراب ما قبلها، وهي معطوفة عليها، فهي في محل نصب حال مثلها، وقيل: مستأنفة لا محل لها، ولا وجه له، وحذف مفعول الفعل للعلم به، التقدير: وما يشعرون: أن وبال خداعهم راجع على أنفسهم. هذا؛ ولا تنس: أنّه روعي لفظ (من) بإرجاع فاعل يقول إليها، وروعي معناها بإرجاع الضّمير بقوله:(وهم لا يشعرون).

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)}

الشرح: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ:} أي: شكّ، ونفاق، فهو يمرض قلوبهم، أي: يضعفها، وذلك بضعف الإيمان فيها، والمرض: حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، وقد يؤدّي إلى الموت، والمرض هنا: عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم، وذلك إما أن يكون شكّا، ونفاقا، وإما جحدا، وتكذيبا، والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوّها من الإيمان، والعصمة، والتوفيق، والرّعاية، والتأييد من الله.

{فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً:} قيل: هو دعاء عليهم، ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكّا، ونفاقا جزاء على كفرهم، وخبثهم. وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدّعاء على المنافقين، والطرد لهم من رحمة الله؛ لأنهم شر خلق الله، وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم، أي: فزادهم الله مرضا إلى مرضهم، كما قال في سورة (التوبة) رقم [125]:{فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} وقال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: بأن طبع الله على قلوبهم لعلمه

ص: 47

تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكير، والإنذار، وقيل: زادهم كفرا بزيادة التكاليف الشّرعية؛ لأنهم كانوا كلما ازدادت التكاليف بنزول الوحي؛ يزدادون كفرا. انتهى نقلا من أبي السعود.

هذا وزاد، يزيد: ضد نقص، ينقص، يكون لازما، كقولك: زاد المال درهما، ويكون متعديا لمفعولين، كما في الآية الكريمة، وقولك: زاد الله خالدا خيرا؛ بمعنى: جزاه الله خيرا، وأما قولك: زاد المال درهما، والبر مدّا، فدرهما، ومدّا تمييز، ومثله قل في: نقص، فمن المتعدّي قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} الآية رقم [4] من سورة (التوبة)، ومن اللازم قوله تعالى في سورة ق رقم [4]:{قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} .

{وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:} أي: موجع، مثل السّميع، بمعنى: المسمع، وآلم: إذا أوجع.

والإيلام: الإيجاع، والألم: الوجع، والتألّم: التوجّع. هذا وقال المرحوم سليمان الجمل:

مؤلم بفتح اللام على طريق الإسناد المجازي، حيث أسند الألم للعذاب، وهو في الحقيقة إنما يسند إلى الشخص المعذّب، يقال: ألم، من باب: طرب، فهو أليم: كوجع، فهو وجيع، أي:

متألّم ومتوجّع، ولا يقال: إنّه بكسر اللام اسم فاعل على طريق الإسناد الحقيقي، كسميع بمعنى:

مسمع لخلوّه من دعوى المبالغة الحاصلة على كونه بفتح اللام؛ حيث يقتضي: أن العذاب لشدّة إيلامه للمعذبين، صار هو كأنه مؤلم، أي: معذب، فهو على حد: جدّ جدّه. انتهى. هذا؛ وعذاب: اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر: تعذيب؛ لأنه من: عذّب، يعذّب بتشديد الذال فيهما، وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، ومثله عطاء، وسلام، وثبات؛ لأعطى، وسلم، وأثبت، هذا والعذاب كل ما شقّ على الإنسان، ومنعه عن مراده، وهو كالنّكال وزنا ومعنى.

تنبيه: وحكمة كفّه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم ما ثبت في الصحيحين:

أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر-رضي الله عنه: «أكره أن يتحدّث العرب: أنّ محمدا يقتل أصحابه» .

وفي رواية ثانية: «معاذ الله أن يتحدث الناس أنّي أقتل أصحابي!» . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم لمصلحة، وهي تأليف القلوب عليه لئلا تنفر منه، علما بأن أقرباء بعض المنافقين جاءوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأذنونه بقتل ذويهم، الذين ظهر منهم إيذاء له صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل عبد الله-رضي الله عنه ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلول، الذي جاءه يستأذنه في قتل أبيه حينما تكلّم كلاما مسيئا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي المال من أسلم حديثا تألّفا لهم مع علمه بضعف إيمانهم، ولكن جاء التّهديد، والوعيد من الله لهم على العموم، مثل قوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [60]:

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاّ قَلِيلاً} قال قتادة: معناه: إذا هم أعلنوا النفاق.

هذا وزيادة النفاق في قلوبهم كانت تحصل من نزول القرآن آية بعد آية، فكانوا كلّما كفروا بآياته؛ ازدادوا كفرا، ونفاقا، والمؤمنون بعكس ذلك، كانوا كلما تليت عليهم آيات القرآن؛ ازدادوا إيمانا، ويقينا. انظر الآية رقم [2] من سورة (الأنفال).

ص: 48

الإعراب: {فِي قُلُوبِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة، {مَرَضٌ:} مبتدأ مؤخّر، هذا؛ ويجيز الأخفش اعتباره فاعلا بالجار والمجرور من غير اعتماد على نفي، أو استفهام، وهو ممّا ينفرد به، والتقدير عنده: ثبت، أو استقر في قلوبهم مرض، فهو في الحقيقة فاعل بمتعلق الجار والمجرور. والجملة على الاعتبارين بمنزلة التوكيد لقوله تعالى:{وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} أو هي تعليل لعدم إيمانهم. (زادهم):

فعل ماض، والهاء مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {مَرَضاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها بالفاء العاطفة على الوجهين المعتبرين فيها. ({لَهُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والميم في الجميع حرف دال على جماعة الذكور. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر، وقيل فيه ما رأيته في سابقه عن الأخفش. {أَلِيمٌ:} صفة عذاب، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها أيضا. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب {أَلِيمٌ} أو بمحذوف صفة ثانية ل {عَذابٌ} وقال أبو البقاء: صفة: {أَلِيمٌ} . و (ما) تحتمل الموصولة، والمصدرية، فعلى الأول مبنية على السكون في محل جر بالباء، {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، {يَكْذِبُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان) وجملة:{كانُوا..} . إلخ: صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير بسبب الذي كانوا يكذبونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بكونهم يكذبون، وعلى هذا القول بأن ل (كان) مصدرا، وهو الصحيح عند بعضهم للتّصريح به في قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [223] من كتابنا فتح رب البرية:[الطويل]

ببذل وحلم ساد في قومه الفتى

وكونك إيّاه عليك يسير

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ:} لهؤلاء المنافقين، والقائل هو الله، عز وجل، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بعض المؤمنين، وهذا شروع في تعديد بعض قبائحهم. {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} قال ابن جرير -رحمه الله تعالى-: أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم، وركوبهم ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكّهم في دينه، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم مقيمون عليه من الشّكّ، والرّيب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله، وكتبه، ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، كالذي حصل منهم، كمودتهم لقريش، ومصافاتهم لقبائل اليهود؛ الذين كانوا يسكنون المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، فذلك إفساد المنافقين في الأرض.

وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون في الأرض، قال تعالى في سورة (فاطر) رقم [8]:

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} وقال تعالى في سورة (الكهف) رقم [103 - 104]: {قُلْ}

ص: 49

{هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} فالمنافق لمّا كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، وغرّهم بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمرّ على حاله الأول؛ لكان شرّه أخفّ، وخذ ما يلي:

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لا أخاف على أمّتي مؤمنا، ولا كافرا، أمّا المؤمن فيحجزه إيمانه، وأمّا الكافر فيقمعه كفره، ولكن أخاف على أمّتي كلّ منافق عليم اللّسان» . أخرجه الطّبرانيّ عن عليّ-رضي الله عنه، وكرم الله وجهه.

{قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي: نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين، والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء، وهؤلاء. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. انتهى. وخذ قوله تعالى في بيان حقيقتهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ} رقم [143] من سورة (النساء).

هذا و ({الْأَرْضِ}) مؤنثة، وهي اسم جنس، وكان حق الواحدة أن يقال: أرضة، ولكنهم لم يقولوا، والجمع: أرضات لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليس فيه هاء التأنيث بالألف، والتاء، لقولهم: عرسات، ثم قالوا: أرضون، فجمعوا بالواو والنون، والمؤنث لا يجمع بالواو، والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة، وظبة، ولكنهم جعلوا الواو والنون عوضا عن حذفهم الألف، والتاء، وتركوا فتحة الراء على حالها، وربما سكنت، وقد تجمع على أروض.

وزعم أبو الخطاب: أنّهم يقولون: أرض، وأراض، مثل: أهل، وأهال، والأراضي أيضا على غير قياس، كأنّهم جمعوا أرضا، وكل ما سفل فهو أرض، وأرض أريضة؛ أي: زكية بينة الأراضة، وقد أرضت بالضم؛ أي: زكت، قال أبو عمرو: نزلنا أرضا أريضة، أي: معجبة للعين. ويقال: لا أرض لك! كما يقال: لا أمّ لك! والأرض أسفل قوائم الدّابة، قال حميد بن ثور الهلالي يصف فرسا:[الرجز]

ولم يقلّب أرضها البيطار

ولا لحبليه بها حبار

والأرض: النّفضة، والرّعدة، قال ابن عباس-رضي الله عنهما-وقد زلزلت الأرض:

زلزلت الأرض أم بي أرض؟ أي: نفضة، ورعدة. وقال ذو الرّمّة يصف صائدا:[البسيط]

إذا توجّس ركزا من سنابكها

أو كان صاحب أرض أو به الموم

والأرض: الزّكام. وقد آرضه الله إيراضا؛ أي: أزكمه، فهو مزكوم. والأرضة بالتّحريك:

دويبة تأكل الخشب، يقال: أرضت الخشبة، تؤرض أرضا-بالتسكين-فهي مأروضة: إذا أكلتها. انتهى صحاح الجوهري بحروفه.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. ({إِذا}): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قِيلَ:} فعل

ص: 50

ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» ، يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام، التقدير: وإذا قيل قول، وقيل: الجار والمجرور {لَهُمْ} في محل رفع نائب فاعل، وقيل: جملة: {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ:} هي في محل رفع نائب فاعل، وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، أو نائبا عنه، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:(يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه). وهذا لا غبار عليه، وقال ابن هشام في المغني: فليس هذا من باب الإسناد إلى الجملة لما بينا، أي: من أنّ الجملة إذا قصد لفظها؛ يحكم لها بحكم المفرد؛ ليجوز حينئذ وقوعها مبتدأ، أو فاعلا، أو نائبا عنه، وانظر الشاهد [793] من كتابنا فتح القريب المجيب، ومثّل لذلك في شذور الذهب بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضل ما قلته أنا، والنبيّون من قبلي: لا إله إلاّ الله» . {لا:} ناهية جازمة. {تُفْسِدُوا:}

فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مفسرة لنائب الفاعل على اعتباره ضميرا، أو هي في محل نصب مقول القول، أو هي في محل رفع نائب فاعل، كما رأيت، فتكون على الحكاية، وهو المعتمد، وجملة:{قِيلَ..} . إلخ في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها، على القول المرجوح، وهو المشهور، أقول هذا دائما؛ لأن ابن هشام رجح تعليق «إِذا» بفعل شرطها، وأكد ذلك إذا اقترن جوابها بالفاء، فإنه لا يعمل ما بعد الفاء بما قبلها، وهو كثير؛ مثل قوله تعالى:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً} [النصر: 1 - 3]، انظر مبحث «إذا» في مغني اللبيب، وقد خطّأ أبو البقاء من يرجّح ذلك، وهو المخطئ بلا ريب.

{قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتّفريق. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة، {نَحْنُ مُصْلِحُونَ:}

مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ: جواب ({إِذا}) لا محل لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له، وقيل: معطوف على جملة:

{يَكْذِبُونَ} الواقعة خبرا ل (كان)، وقيل: معطوف على جملة: {يَقُولُ..} . إلخ الواقعة صلة ل ({مِنَ})، وأرجّح الأوّل من هذه الأقوال.

{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)}

الشرح: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ:} هذا ردّ عليهم، وتكذيب لقولهم، وانظر شرح إفسادهم في الآية السابقة، ولا تنس تأكيد هذا الردّ ب (إنّ) وبضمير الفصل، وتعريف الخبر، ب {أَلا} الاستفتاحية في الردّ عليهم لما ادعوه من قولهم:{إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فإنهم أخرجوا الجواب جملة اسمية مؤكّدة ب {إِنَّما} ليدلوا بذلك على ثبوت الوصف لهم، فردّ الله عليهم بأبلغ، وأوكد ممّا ادّعوه.

ص: 51

{وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ:} قال ابن كيسان رحمه الله تعالى: يقال: ما على من لم يعلم أنّه مفسد من الذّم، إنّما يذمّ إذا علم: أنّه مفسد، ثم أفسد على علم. قال: ففيه جوابان: أحدهما أنهم كانوا يعملون الفساد سرّا، ويظهرون الصّلاح، وهم لا يشعرون أنّ أمرهم يظهر عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والوجه الآخر أن يكون فسادهم عندهم صلاحا، وهم لا يشعرون: أنّ ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحقّ واتّباعه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَلا:} حرف تنبيه، واستفتاح يسترعى به انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام، {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {هُمُ:}

ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {الْمُفْسِدُونَ} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، هذا ويجوز اعتبار:{هُمُ} ضمير فصل لا محل له من الإعراب، كما يجوز اعتباره توكيدا لاسم (إنّ) على المحل. فيكون {الْمُفْسِدُونَ} على هذين الاعتبارين خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {وَلكِنْ:}

الواو: حرف عطف. ({لكِنْ}): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {لا:} نافية. {يَشْعُرُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، فهي في محل رفع مثلها، وقيل: بل معطوفة على جملة {إِنَّهُمْ..} . إلخ، والتقدير: ولكنهم لا يشعرون.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ..} . إلخ: القائل لهم هم المؤمنون: {آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ} أي كإيمان الناس بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والجنّة، والنار، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به. وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر، وترك الزواجر.

{قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ:} يعنون-لعنهم الله-أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل: عمّار، وبلال، وصهيب، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة، وعلى طريقة واحدة؟! قال البيضاوي: وإنما سفّهوهم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء، ومنهم موال، كصهيب، وبلال، أو للتجلّد، وعدم المبالاة بمن آمن منهم؛ إن فسر ({النّاسِ}) بعبد الله بن سلام، وأشياعه، وهذا القول من المنافقين إنّما كانوا يقولونه في خفاء، واستهزاء، فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك.

وقيل: إنّ السفه، ورقّة الحلوم، وفساد البصائر إنّما هي في حيزهم، وصفة لهم، وأخبر:

أنهم هم السّفهاء، ولكن لا يعلمون للرّين الّذي على قلوبهم.

ص: 52

هذا و {السُّفَهاءُ:} جمع: سفيه، وهو الجاهل. والسّفه: سخافة العقل، ومن ركب متن الباطل كان سفيها، فكل هذه المعاني يجوز إطلاقها على السّفه، والسّفيه. انظر:{سَفِهَ} في الآية رقم [130] الآتية، وانظر {سَفِيهاً} في الآية رقم [281]، ولا تنس: أن الاستفهام في هذه الآية، إنّما هو بمعنى النفي؛ إذ المعنى: لا نؤمن

إلخ، هذا وإنما سمّى الله المنافقين سفهاء؛ لأنهم كانوا عند أنفسهم عقلاء رؤساء، فقلب ذلك عليهم، وسمّاهم: سفهاء؛ لأنهم يجهلون حقيقة أنفسهم.

وينبغي أن تعلم: أنّ الله-جلّت قدرته-قد ذكر هنا: {لا يَعْلَمُونَ،} وقال فيما تقدم: {لا يَشْعُرُونَ} لأنه قد ذكر هنا السّفه، وهو جهل محض كما رأيت، فكان ذكر العلم به أحسن به طباقا، ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر، واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة، أمّا الفساد في الأرض؛ فأمر مبني على العادات، فهو كالمحسوس، ولكن المنافقين لشدة جهلهم، وغباوتهم لا يشعرون به، أي: لا يحسّون، فهم كالبهائم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا:} إعراب هذه الكلمات مثل إعراب الكلمات الموجودة في الآية رقم [11] بلا فارق. هذا و {قِيلَ} أصله: (قول) بضم القاف وكسر الواو، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها بعد سلب حركتها، فصار:(قول) بكسر القاف وسكون الواو، ثم قلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة بعد كسرة، فصار: قيل. {آمِنُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كَما:} الكاف حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {آمَنَ:} فعل ماض. {النّاسُ:} فاعله. و (ما) المصدرية، والفعل في تأويل مصدر في محل جرّ بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: آمنوا إيمانا مثل إيمان الناس المؤمنين الصادقين، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدّم، وإنّما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأنّ حذف الموصوف وإقامة الصّفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. انتهى. جمل نقلا عن السّمين، ومثله في إعرابه، واعتباره قوله تعالى:{كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} .

{قالُوا:} فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع مقولها جواب ({إِذا}) لا محل لها. {أَنُؤْمِنُ:} الهمزة: حرف استفهام وإنكار معناه النفي، ({نُؤْمِنُ}): فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» والجملة الفعلية وما يتعلق بها كل ذلك في محل نصب مقول القول، و ({إِذا}) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هو معطوف على مثله في الآية رقم [11]. {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية السابقة، فهو مثله بلا فارق.

هذا؛ ونقل أبو حيّان عن الزّمخشري، وأبي البقاء، أنّهما قالا: إنّ (ما) كافة للكاف عن العمل،

ص: 53

مثلها في: (ربّما قام زيد). ويرد أبو حيّان ذلك، ويقول: ينبغي ألا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية.

{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)}

الشرح: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا:} ويقرأ: («لاقوا») فأصل {لَقُوا:} لقيوا بوزن: شربوا، فحذفت الضمّة التي على الياء لثقلها، فالتقى ساكنان، الياء، والواو، فحذفت الياء لعلة الالتقاء؛ لأنها حرف علة، ثم أبدلت كسرة القاف ضمة لمناسبة الواو. هذا؛ ومعنى لقي:

صادف، وله مصادر كثيرة، منها: اللّقيّ بضم اللام وكسر القاف، واللّقى بضم اللام مقصورا، واللّقاء بكسرها ممدودا ومقصورا، وأصل: لاقوا، لاقيوا، تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار: لاقاوا، فاجتمع ساكنان: الألف، والواو، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار: لاقوا، وبقيت الفتحة على القاف دليلا على الألف المحذوفة. ويقال في إعلاله أيضا:

استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان: ياء العلة وواو الجماعة، فحذفت الياء، وبقيت واو الجماعة. وما ذكرته يجري في إعلال كلّ ناقص، مثل: نجا، ورمى، وسعى، ودعا، وغزا. هذا وتحرك واو الجماعة في («لاقوا») بالضمة إذا لقيها ساكن، كما في قوله تعالى:

{أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} ولم تحرك بالكسرة؛ لأن الكسرة لا تناسبها، وقيل:

حركت بالضم دون غيره؛ ليفرق بين الواو الأصلية وبين واو الجماعة في نحو قولك: (لو اجتهدت لنجوت). وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة، وقيل: ضمت لأن الضمة هنا أخف من الكسرة؛ لأنها من جنس الواو، وقيل غير لك، فإن قيل: لم ضمت الواو في: لاقوا إذا لقيها ساكن، ولا تضم في: لقوا؟ فالجواب: أن قبل الواو التي في لقوا ضمة، فلو حركت بالضم، لثقل على اللسان النطق بها، فحذفت لثقلها، وحركت في: لاقوا؛ لأن قبلها فتحة فلم تثقل مثل تلك. {قالُوا آمَنّا:} أي بالله، ورسوله، واليوم الآخر

إلخ. {وَإِذا خَلَوْا:} رجعوا.

وخلوت بفلان، وإليه: إذا انصرفت إليه، ولذا صح وصل الفعل بإلى، وكان حقه أن يوصل بالباء، فيقال: خلوا بشياطينهم، ومنه قول الفرزدق، وهو الشاهد رقم [1166] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الرجز]

كيف تراني قالبا مجنّي؟

قد قتل الله زيادا عنّي

إذ المعنى: صرف الله زيادا عنّي. هذا؛ وإعلال {خَلَوْا} مثل إعلال (لاقوا). {إِلى شَياطِينِهِمْ:} جمع شيطان على التكسير، وقد تقدم القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة.

والمراد ب {شَياطِينِهِمْ:} رؤساء الكفر، والنفاق؛ الذين ماثلوا الشيطان في الإفساد، والفساد،

ص: 54

والمكر، والخداع، لذا يصح القول: إنّ من البشر شياطين بثياب البشر، قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [112]:{وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ..} . إلخ. {قالُوا إِنّا مَعَكُمْ:} أي: في الدّين، والاعتقاد، خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، والشياطين بالجملة الاسمية المؤكّدة ب (إنّ) لأنهم قصدوا بالأول دعوى إحداث الإيمان، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه من الفساد، والضلال. {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ:} أي بهؤلاء الذين تبعوا محمدا، وصدقوه، ويصدّقونه بكلّ ما يقوله لهم، ويأمرهم به.

تنبيه: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ، وأصحابه، وذلك لأنّهم خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه: انظروا كيف أردّ هؤلاء السّفهاء عنكم! فأخذ بيد أبي بكر-رضي الله عنه فقال: مرحبا بالصديق، سيد بني تميم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه، وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم أخذ بيد عمر-رضي الله عنه-فقال: مرحبا بسيد بني عدي ابن كعب، الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم أخذ بيد عليّ-رضي الله عنه-فقال: مرحبا بابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه، وسيد بني هاشم، ما خلا رسول الله! فقال له عليّ-كرّم الله وجهه-: اتق الله يا عبد الله، ولا تنافق، فإن المنافقين شرّ خليقة الله تعالى! فقال: مهلا يا أبا الحسن! إني لا أقول هذا نفاقا، والله إن إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم! ثم تفرقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فأثنوا عليه خيرا. انتهى.

خازن.

أقول وبالله التوفيق: في زمننا هذا كثير من الناس يهزءون بالإسلام، وبتعاليمه، وبالمسلمين الصّادقين، ولا يقيمون لله فرضا، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم سنّة، ثم يدّعون الإسلام، والإيمان، ويقولون لمن ينتقدهم: أنتم لستم أحسن منّا، نحن مسلمون مثلكم، وإسلامنا مثل إسلامكم.

الإعراب: ({إِذا}): انظر الآية رقم [11]، هذا و ({إِذا}): ظرف لما يستقبل من الزمان، وفيه معنى الشرط، واختلف في ناصبها، بالجواب، واعترض بأنّ الجواب قد يقترن بالفاء، وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وقيل: بالشرط، واعترض أيضا بأنها مضافة للشرط، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، وأجيب عن هذا الاعتراض بأن القائلين: إنّ الناصب هو الشّرط، لا يقولون بإضافة «إِذا» إليه، فلذا كان الثاني أرجح من الأول، وإن كان الأول أشهر، فقول المعربين:

خافض لشرطه، منصوب بجوابه، جرى على غير الرّاجح، ولذا كانت عبارة سيبويه محتملة لما تريد من احتمالات.

{لَقُوا:} فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق، هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب

ص: 55

الحقيقي أن تقول: فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضمّ الذي جيء به لمناسبة واو الجماعة، ويقال اختصارا: فعل وفاعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. وجملة: {لَقُوا..} . إلخ: في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على المشهور المرجوح.

{قالُوا:} فعل وفاعل والألف للتفريق. {آمَنّا:} فعل ماض مبني على السكون لاتصاله ب: (نا)، و (نا): ضمير متصل في محل رفع فاعل، وهذا الإعراب هو المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول: فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالسكون العارض، كراهة توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة.

وهكذا قل في إعراب كلّ فعل ماض اتصل به ضمير رفع متحرك، مثل: حفظت حفظنا، حفظن

إلخ، ويقال اختصارا: فعل وفاعل، وجملة:{آمَنّا} مع المتعلق المحذوف في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالُوا..} . إلخ: جواب ({إِذا}) لا محل لها من الإعراب، و ({إِذا}) ومدخولها كلام معطوف على مثله في الآية السابقة.

{وَإِذا:} الواو: حرف عطف، و ({إِذا}): مثل ما قبلها. {خَلَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة مثل ما قبلها. {إِلى شَياطِينِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{قالُوا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مع مقولها جواب ({إِذا}) لا محل لها. {إِنّا} حرف مشبه بالفعل، و (نا) ضمير متصل في محل نصب اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها.

{مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف في محل رفع خبر: (إنّ) والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة مفيدة للحصر.

{نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية مؤكدة لقولهم:{إِنّا مَعَكُمْ} أو هي بدل منه، أو هي مستأنفة مبنية على سؤال مقدر نشأ من دعاء التبعية. انتهى. جمل، ونسفي بتصرف.

{اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}

الشرح: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي: ينتقم منهم، ويعاقبهم، ويسخر بهم، ويجازيهم على استهزائهم، فسمّى العقوبة باسم الذّنب، هذا قول الجمهور من العلماء، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، من ذلك قول عمرو بن كلثوم التغلبي في معلّقته رقم [114]:[الوافر]

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فسمّى انتصاره جهلا، والجهل لا يفخر به ذو عقل، وإنما قاله ليزدوج الكلام، فيكون ذلك أخفّ على اللسان من المخالفة بينهما، وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له،

ص: 56

وجزاء؛ ذكروه بمثل لفظه؛ وإن كان مخالفا له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن، والسنة، قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} الآية رقم [194] الآتية، انظر ما ذكرته فيها، وقال تعالى في سورة (الشورى) رقم [40]:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداء؛ لأنه وجب بحقّ، وهو كثير في كتاب الله، قد شرحته في محالّه، والحمد لله! وتختلف في المعنى كقول ابن الشّمقمق في المشاكلة:[الكامل]

أصحابنا قصدوا الصّبوح بسحرة

وأتى رسولهم إليّ خصّيصا

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا

هذا والاستهزاء بالناس حرام، فقد نهى الله ورسوله عنه، قال تعالى في سورة الحجرات:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ..} . إلخ. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان مصير المستهزءين بالناس ومآلهم يوم القيامة: «إنّ المستهزءين بالناس يفتح لأحدهم في الآخرة باب من الجنّة، فيقال له: هلمّ! فيجيء بكربه، وغمّه، فإذا جاءه؛ أغلق دونه، ثمّ يفتح له باب آخر، فيقال له: هلمّ! هلمّ! فيجيء بكربه، وغمّه، فإذا جاءه؛ أغلق دونه، فما يزال كذلك؛ حتّى إنّ أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنّة، فيقال له: هلمّ! فما يأتيه من الإياس» . رواه البيهقيّ مرسلا من رواية الحسن البصريّ-رضي الله عنه، وانظر ما ذكرته في سورة (المطففين) رقم [34] فإنّه جيد، والحمد لله! وانظر الآية رقم [211] الآتية.

{وَيَمُدُّهُمْ:} أي يطيل لهم المدّة، ويمهلهم، ويملي لهم، كما قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [178]:{إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ،} وقال تعالى في سورة (ن) رقم [44] وفي سورة (الأعراف) أيضا برقم [182] و [183]{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} قال بعض العلماء في هذه الآية: كلّما أحدثوا ذنبا؛ أحدث لهم نعمة، وهم لا يعلمون: أنه استدراج. وعن عقبة بن عامر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحبّ، وهو مقيم على معصيته؛ فذلك منه تعالى استدراج» ، ثم تلا قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [44]:{فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} . ذكره البغوي بغير سند، وأسنده الطّبري، ولا تنس قوله تعالى في سورة (مريم) رقم [75]:{قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} .

{فِي طُغْيانِهِمْ:} كفرهم، وضلالهم، وأصل الطّغيان: مجاوزة الحد، يقال: طغى، يطغى، ويطغو طغيانا، وطغوانا: جاوز الحد، وكلّ مجاوز حدّه في العصيان طاغ، قال تعالى في حق فرعون:{إِنَّهُ طَغى} أي: أسرف في الدعوى؛ حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} والمعنى في الآية:

يمدّهم بطول العمر؛ حتى يزيدوا في الطّغيان، فيزيدهم في عذابهم. هذا؛ وطغى البحر: هاجت

ص: 57

أمواجه. وطغى السيل: جاء بماء كثير، قال تعالى في سورة الحاقة رقم [11]:{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} .

{يَعْمَهُونَ:} يتردّدون متحيّرين في الكفر، لا يعرفون ما يلحقهم من ضرّ، أو نفع.

وحكى أهل اللغة: عمه الرجل، يعمه عموها، وعمها، فهو عمه، وعامه: إذا حار، وجمعه: عمه، وذهبت إبله العمهى: إذا لم يدر أين ذهبت، وعن بعض الأعراب: أنه دخل السّوق، وما أبصرها قطّ، فقال: رأيت الناس عمهين، أراد: مترددين في أشغالهم، وأعمالهم، قال رؤبة بن العجاج:[الرجز]

ومهمه أطرافه في مهمه

أعمى الهدى بالحائرين العمّه

هذا والعمه قريب من العمى، لكنّ العمى يطلق على ذهاب نور العين وعلى الخطأ في الرأي، والعمه لا يطلق إلا على الثاني، وهو ما يعبّر عنه بعمى القلب، قال تعالى في سورة (الحج) رقم [46]:{فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . وفي المصباح:

عمه، يعمه، عمها، من باب تعب: إذا تردد متحيّرا، وتعامه مأخوذ من قولهم: أرض عمهاء، إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النّجاة، فهو عمه، وأعمه، وهذا الفعل لم أر له ماضيا، ولا أمرا، فيظهر: أنّه فعل جامد، لا يأتي منه غير المضارع، وإن ذكر في كتب اللغة ماض له، لكنّه لا يستعمل، ولم يتداول، وهو بلفظ المضارع كثير في القرآن الكريم.

قال القاضي البيضاوي-رحمه الله تعالى-: والمعتزلة لمّا تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره؛ قالوا: لمّا منعهم الله تعالى ألطافه التي يمنحها المؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم، وإصرارهم، وسدّهم طريق التوفيق على أنفسهم، فتزايدت بسببه قلوبهم رينا، وظلمة؛ تزايد قلوب المؤمنين انشراحا ونورا، أو مكّن الشيطان من إغوائهم، فزادهم طغيانا، أسند ذلك كلّه إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازا، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم: أنّ إسناد الفعل إليه على الحقيقة، ومصداق ذلك: أنه لما أسند إلى الشّياطين، أطلق الغيّ، قال:

{وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ} . انتهى. وهذا على اعتقاد المعتزلة بأنّ العبد يخلق أفعال نفسه، وقد فنّدت رأيهم في سورة النّحل، وسورة الصّافات، والحمد لله!.

الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ، {يَسْتَهْزِئُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى الله، {بِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. ({يَمُدُّهُمْ}): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ} والهاء في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل

ص: 58

رفع مثلها. {فِي طُغْيانِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله.

{يَعْمَهُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، أو من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرابط واو الجماعة فقط.

{أُولئِكَ الَّذِينَ اِشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)}

الشرح: {أُولئِكَ:} أي: الموصوفون بالصفات السابقة من قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ} إلى هنا. {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى:} الشّراء هنا مستعار، والمعنى: استحبّوا الكفر على الإيمان، كما قال الله تعالى في سورة (فصلت) رقم [17]:{وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} فعبّر عنه بالشراء؛ لأن الشراء إنّما يكون فيما يحبه مشتريه، فأما أن يكون بمعنى شراء المعاوضة فلا؛ لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين، فيبيعون إيمانهم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، ومعناه: استبدلوا، واختاروا الكفر على الإيمان، وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسعا؛ لأنّ الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كلّ من استبدل شيئا بشيء، قال أبو ذؤيب الهذلي، وهو الشاهد رقم [771] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]

فإن تزعميني كنت أجهل فيكمو

فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل

هذا والباء بمعنى: «بدل» وقد دخلت على المتروك.

{فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ:} أسند الله تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم:

ربح بيعك، وخسرت صفقتك، وقولهم: ليل قائم، ونهار صائم، والمعنى: ربحت، وخسرت في بيعك، وقمت في ليلك، وصمت في نهارك، أي: فما ربحوا في تجارتهم، قال الشاعر:[الطويل]

نهارك هائم وليلك نائم

كذلك في الدّنيا تعيش البهائم

و (الهدى) المراد به الإيمان، وإنّما أخرج الاستبدال بلفظ الشّراء والتجارة توسعا على سبيل الاستعارة؛ لأن الشراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر، فقد جعلوا لتمكنهم من الإيمان، كأنّه في أيديهم، فإذا تركوه إلى الضلالة؛ فقد عطّلوه، واستبدلوه بها. انتهى. خازن بتصرف، وقال النسفي: وإنّما قال: {اِشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} ولم يكونوا على هدى؛ لأنّها في قوم آمنوا، ثمّ كفروا، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمّد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه:{فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا}

ص: 59

{بِهِ} انتهى. {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} أي لم يكونوا موفّقين في هذه التجارة، والباء في هذه الآية للعوض والمقابلة، وهي تدخل على المتروك كما هنا، وخذ قول الشاعر:[الرجز]

أخذت بالجمّة رأسا أزعرا

وبالثّنايا الواضحات الدّردرا

وبالطّويل العمر عمرا حيدرا

كما اشترى المسلم إذ تنصّرا

والمراد بالمسلم الذي تنصّر: جبلة بن الأيهم أمير بني غسان، وكان على دين النّصرانية، وقد أسلم، فقدم مكّة في أحسن زيّ، وبينما هو يطوف بالكعبة، وطئ رجل من قبيلة فزارة إزاره، فلطمه جبلة على عينه، فشكاه إلى عمر-رضي الله عنه-فحكم عليه أن يقتصّ منه باللّطمة، فقال له: تأخذ الملوك بالسّوقة؟! فقال له الفاروق: إن الإسلام قد سوّى بينكما، فسأله جبلة أن يؤخره إلى الغد، فسار ليلا، ولحق بالرّوم، وتنصّر، ثم ندم على ما فعل، وقال قبل موته:[الطويل]

تنصّرت بعد الحقّ عارا للطمة

ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر

ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة

وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

وأدركني فيها لجاج حمية

وبعت لها العين الصّحيحة بالعور

ويا ليت لي بالشّام أدنى معيشة

أجالس قومي ذاهب السّمع والبصر

فيا ليت أمّي لم تلدني وليتني

صبرت على القول الّذي قاله عمر

وملخص الكلام في الآية الكريمة: أنّ مطلوب التّجار سلامة رأس المال والرّبح، وهؤلاء قد أضاعوهما، فرأس مالهم الهدى، ولم يبق مع الضلالة، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة، لم يوصفوا بإصابة الربح؛ وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية؛ لأن الضال خاسر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله: قد ربح. انتهى. نسفي.

هذا واستبدالهم الغيّ بالرشاد، والكفر بالإيمان استعارة تصريحيّة، وذكر ربح التجارة هو التّرشيح؛ الذي يبلغ بالاستعارة الذروة العليا. قال الزمخشري: وهذا من الصنعة البديعية التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ.

{اِشْتَرَوُا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، وحرّكت بالضم لالتقاء الساكنين. {الضَّلالَةَ:} مفعول به، والجملة

ص: 60

الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {بِالْهُدى:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضّلالة، التقدير: مستبدلة بالهدى، وعلامة الجر كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{فَما:} الفاء: حرف عطف، (ما): نافية. {رَبِحَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، حرف لا محل له. {تِجارَتُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية السابقة لا محل لها مثلها، وقال الجمل: معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. هذا؛ وقال النّسفي: وقيل: {الَّذِينَ} صفة {أُولئِكَ،} والجملة الفعلية: {فَما رَبِحَتْ..} .

إلخ: في محل رفع خبر {أُولئِكَ} . وعليه: فالفاء زائدة. وقيل: الجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، وتكون الفاء زائدة أيضا. ومثل هذه الآية في إعرابها الآية رقم [86] الآتية.

(ما): نافية. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{مُهْتَدِينَ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وهو أقوى من اعتبار الحالية فيها.

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)}

الشرح: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-نزلت في المنافقين، يقول: مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة، فاستدفأ، ورأى ما حوله، فاتّقى ممّا يخاف، فبينما هو كذلك؛ إذ طفئت ناره، فبقي في ظلمة حائرا متخوّفا، فكذلك حال المنافقين أظهروا كلمة الإيمان، فأمنوا بها على أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، وناكحوا المسلمين، وقاسموهم في الغنائم، فذلك نورهم، فلمّا ماتوا عادوا إلى الظّلمة، الخوف. انتهى. خازن بحروفه.

هذا وربنا ذكر لنا في سورة (الحديد) رقم [13] حال المنافقين يوم القيامة حينما يطفأ نورهم، وينادون المؤمنين:{اُنْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} انظر شرح هذه الآية فإنّه جيد، والحمد لله! هذا؛ وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: لما جاء بحقيقة حالهم؛ عقّبها بضرب المثل زيادة في التوضيح، والتقرير، فإنه أوقع في القلب، وأقمع للخصم الألد، لأنه يريك المتخيّل محققا، والمعقول محسوسا، ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال، وفشت في كلام الأنبياء، والحكماء.

هذا ولفظ {الَّذِي} مفرد، ومراد به الجمع، قيل: المعنى: كمثل الذين استوقدوا، ولذلك قال:{ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ..} . إلخ، فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع، ومثل

ص: 61

هذه الآية قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [69]: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} وبه قيل في قوله تعالى: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} الآية رقم [33] من سورة (الزمر)، ومثل هذه الآيات قول الأشهب بن زميلة النهشلي، وهو الشاهد رقم [346] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]

وإنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

هذا؛ و {اِسْتَوْقَدَ} بمعنى: أوقد، مثل: استجاب بمعنى: أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي من قصيدة يرثي فيها أخاه شبيبا، ومن أبياتها، وهو الشاهد رقم [727] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي: يجبه عند ذاك مجيب، هذا والمثل-بفتح الميم، والثاء-بمعنى: مثل، ومثيل، وشبه، وشبيه. ومثل: اسم متوغل في الإبهام لا يتعرف بإضافته إلى الضمير وغيره من المعارف، ولذلك نعتت به النكرة في قوله تعالى حكاية عن قول فرعون وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} الآية رقم [47] من سورة المؤمنون. ويوصف به المفرد، والمثنى، والجمع تذكيرا وتأنيثا، كما في الآية الكريمة. وتستعمل على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى الشبيه، كما في الآية الكريمة، والثاني: بمعنى نفس الشيء، وذاته، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رقم [11] من سورة (الشورى)، والثالث: زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} الآية رقم [137] من سورة (البقرة) أي: بما آمنتم.

وأما المثل في مثل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية رقم [24] من سورة (إبراهيم) على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام؛ فهو القول السائر بين الناس، والذي فيه غرابة من بعض الوجوه. والمثل بمضربه؛ أي: هو الحالة الأصلية التي ورد الكلام فيها، وما أكثر الأمثال في اللغة العربية، علما بأن الأمثال لا تغيّر، تذكيرا، وتأنيثا، إفرادا، وتثنية، وجمعا، بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل، أي: أصله، مثل (الصّيف ضيّعت اللّبن) فإنه يضرب لكل من أفرط في تحصيل شيء في أوانه، ثم طلبه بعد فواته.

{ناراً:} أصله: نور، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وهي من المؤنث المجازي، وقد تذكر، وتصغيرها: نويرة، والجمع: أنور، ونيران، ونيرة، ويكنى بها عن جهنم، التي سيعذب الله بها الكافرين والفاسقين، كما أنّها تستعار للشدّة، والضيق، والبلاء، قال الشاعر:[الطويل]

وألقى على قيس من النّار جذوة

شديدا عليها حرّها وتلهابها

ص: 62

فهي مستعارة في هذا البيت لشدة النكاية التي أذاقها قبيلة قيس. والفعل: نار، ينور، يستعمل لازما ومتعديا إذا بدئ بهمزة التعدية، كما في قولك: أنارت الشمس الكون.

{أَضاءَتْ:} أنارت، وأشرقت، كذلك يستعمل متعديا كما في هذه الآية، ولازما كما في الآية رقم [20] الآتية. وأصل الفعل:«أضوأ» يقال في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علّة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى الضاد، ثم يقال: تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا، والمصدر:

«الضوء» بفتح الضّاد وضمّها، وكذا الاسم منه، كما يأتي المصدر، والاسم أيضا:«ضياء» .

{حَوْلَهُ:} ظرف مكان، وهو لا يتصرف، فهو ملازم للظرفية أبدا، يقال: قعد حوله وحواله، وحوليه، وحواليه، ولا تقل: حواليه بكسر اللام، وقعد بحياله، وحياله؛ أي: بإزائه، وإزاءه، وقيل للعام: حول؛ لأنه يدور، ثم يرجع كما بدأ.

{ظُلُماتٍ:} جمع: ظلمة، وقد جمعت باعتبار تعدد معانيها؛ إذ المراد: ظلمة الكفر، وظلمة النّفاق، وظلمة يوم القيامة. أو المراد: ظلمة شديدة، كأنها ظلمات متراكمة. انتهى بيضاوي بتصرف. هذا؛ والظلمات تستعار من ظلمة الليل الحقيقية لكل ما ذكر، والجامع بينهما عدم الاهتداء في كلّ منهما، كما أنّ النور يستعار من نور النّهار، أو من نور المصباح المضيء للإيمان، والإسلام، والجامع بينهما الاهتداء في كلّ منهما.

الإعراب: {مَثَلُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {كَمَثَلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، وجوز أبو البقاء اعتبار الكاف اسما على أنها خبر المبتدأ، وأرى: أنه لا وجه له هنا على اعتبار المثل بمعنى القصّة، والحكاية، وهذا يناقض ما ذكرته في الشرح، وتكون الكاف مضافا، و (مثل) مضافا إليه، هذا واعتبار الكاف اسما واقع في العربية كثيرا، انظر الشاهد رقم [326] من كتابنا فتح القريب المجيب تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، و (مثل) مضاف، و {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة.

{اِسْتَوْقَدَ:} فعل ماض، والفاعل يعود على {الَّذِي} وهو العائد. {ناراً:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{مَثَلُهُمْ..} . إلخ: في محل نصب حال من واو الجماعة في الآية السابقة، والرابط الضمير فقط، هذا؛ إن أردت اتصال الكلام بسابقه، أو هي مستأنفة لا محل لها؛ إن أردت انقطاع الكلام من سابقة، {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:«حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني.

{أَضاءَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى {ناراً} تقديره:

ص: 63

هي. {ما حَوْلَهُ:} {ما:} اسم موصول أو نكرة موصوفة، مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وهذا على اعتبار الفعل قبلها متعديا، وأما على اعتباره لازما؛ فهي زائدة، والمعتمد الأول، قال الشاعر:[الطويل]

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبة

{حَوْلَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ({ما}) على اعتبارها موصولة، أو بمحذوف صفتها على اعتبارها نكرة موصوفة، أي: مكانا حوله، ومتعلق بالفعل قبله على اعتبار ({ما}) زائدة، وجملة:{أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ:} ابتدائية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، وعلى اعتبارها متعلقة بالجواب. {ذَهَبَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {بِنُورِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} جواب (لمّا) لا محل لها، هذا وقيل: الجواب محذوف، التقدير: فلما أضاءت ما حوله؛ خمدت، فبقوا خابطين في ظلام متحيّرين. وعليه فجملة:{ذَهَبَ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها، أو هي بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان.

انتهى كشاف. و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{وَتَرَكَهُمْ:} الواو: حرف عطف. ({تَرَكَهُمْ}): فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}) تقديره:

هو، والهاء مفعول به أول، والميم في كلّ ما تقدم حرف دالّ على جماعة الذكور. {فِي ظُلُماتٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لا يُبْصِرُونَ} في محل نصب مفعول به ثان؛ لأن ({تَرَكَهُمْ}) بمعنى: صيّرهم، هذا ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف مفعول به ثان، التقدير: وتركهم متحيرين في ظلمات، وتكون الجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، وأرى جواز اعتبارها من تعدد المفعول الثاني ل:(ترك). ومثل الآية الكريمة قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [21] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الرجز]

لا تتركنّي فيهمو شطيرا

إنّي إذن أهلك أو أطيرا

وجملة: ({تَرَكَهُمْ..}.) الخ: معطوفة على جملة: {ذَهَبَ..} . إلخ على الوجهين المعتبرين فيها، ومفعول ({يُبْصِرُونَ}) محذوف للتعميم، أو للاختصار.

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)}

الشرح: {صُمٌّ:} جمع أصم، هو فاقد السّمع، والصّمم في كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء: إذا لم تكن مجوّفة، وصممت القارورة: إذا سددتها. فالأصم من انسدت خروق مسامعه. {بُكْمٌ} جمع: أبكم، وهو الذي لا ينطق، ولا يفهم، فإذا فهم؛ فهو الأخرس، وقيل: الأخرس والأبكم واحد، وهو الذي لا يقدر على النطق لعاهة في لسانه. {عُمْيٌ:}

ص: 64

جمع: أعمى، وهو فاقد البصر، وتعامى الرّجل: أرى ذلك من نفسه، وعمي عليه الأمر: إذا التبس، ومنه قوله تعالى في سورة (القصص) رقم [66]:{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ} هذا ولم يكن المنافقون والكافرون صمّا، ولا بكما، ولا عميا، وإنّما المراد أنّهم صمّ عن الحقّ، فلا يسمعونه سماع قبول، وأنّهم بكم؛ أي: خرس عن الحقّ، والهدى، فلا ينطقون به، وأنّهم عمي عن طريق الهدى، والنور، فلا يبصرونه. وقال الزمخشري، وتبعه النّسفي، والبيضاويّ: كانت حواسّهم سليمة، ولكن لمّا سدّوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا، ويتبصّروا بعيونهم؛ جعلوا كأنما ماتت مشاعرهم، وانتفت قواهم، كقول قعنب ابن أمّ صاحب، وهو الشاهد رقم [1176] من كتابنا فتح القريب، والشاهد رقم [164] من كتابنا فتح رب البرية:[البسيط]

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا

منّي وما يسمعوا من صالح دفنوا

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذّنوا

وقال آخر: [الطويل]

أصمّ عن الشّيء الّذي لا أريده

وأسمع خلق الله حين أريد

هذا وفي قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} تشبيه بليغ؛ لأنه حذف منه وجه الشبه، وأداة التشبيه، فأصبح بليغا.

{فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي: عن غيّهم، وضلالهم إلى الحقّ الذي باعوه، وإلى الهدى الّذي ضيّعوه، وعن الضلالة التي استبدلوها بالهدى، والنّور. هذا؛ والفعل: رجع، يرجع يستعمل لازما، وهو كثير كما في هذه الآية، ومتعدّيا، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ} الآية رقم [83] من سورة (التوبة)، وقوله تعالى في سورة (سبأ) رقم [31]:{يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ} معناه: يتلاومون فيما بينهم.

الإعراب: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} يجوز أن تكون هذه الأسماء أخبارا متعددة لمبتدإ محذوف، وأن تكون أخبارا لمبتدآت محذوفة، والجملة الاسمية الواحدة، أو الجمل المتعددة في محل نصب حال من واو الجماعة في الآية السابقة، والرابط: الضمير فقط، وهو المبتدأ المقدّر ب «هو» والاستئناف ممكن، فلا يكون لها محلّ من الإعراب.

{فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف، وسبب. (هم): ضمير منفصل مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية المنفية:{لا يَرْجِعُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها.

ص: 65

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)}

الشرح: {أَوْ كَصَيِّبٍ..} . إلخ: المعنى: ومثلهم في نفاقهم كمثل مطر نزل من السّماء

إلخ، ففيه، وفي قوله تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي..} . إلخ: تشبيه تمثيلي، شبه في الآية السابقة المنافق بالمستوقد للنّار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النّار، وفي هذه الآية شبه الإسلام بالمطر؛ لأن القلوب تحيا به كحياة الأرض بالماء، وشبه شبهات المنافقين، والكافرين بالظّلمات، وما في القرآن من الوعد، والوعيد بالرّعد، والبرق

إلخ.

هذا و (الصّيّب): المطر، وأصله: صيوب من صاب، يصوب؛ أي: نزل، ينزل، فقل في إعلاله: اجتمعت الياء، والواو، وسبقت إحداهما بالسّكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. وقل مثله في إعلال: ميّت، وسيّد، وهيّن

إلخ، وهو على حذف مضاف؛ أي: مثلهم في نفاقهم كمثل أصحاب صيّب.

و {السَّماءِ:} يذكر، ويؤنث، وهو كل ما علاك، فأظلّك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء، والسماء يطلق على المطر، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. قال معاوية بن مالك: [الوافر]

إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

أراد بالسّماء: المطر، ثمّ أعاد الضمير عليه في رعيناه بمعنى النّبات، وهذا يسمّى في فن البديع بالاستخدام. وأصل «سماء»: سماو، فيقال في إعلاله: تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة لأنّها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة. {ظُلُماتٌ:} المراد هنا: ظلمة السّحاب، وظلمة المطر، وظلمة اللّيل مجتمعة، وانظر تفسيرها بغير هذا في الآية رقم [17].

({رَعْدٌ وَبَرْقٌ}): مصدران لا يجمعان، فالأول: مصدر: رعد، يرعد، والثاني: مصدر: برق يبرق. و (الرّعد): اسم ملك يسوق السّحاب، و (البرق): لمعان سوط من نور يزجر به السّحاب، قاله ابن عباس، رضي الله عنهما. وفي العلم الحديث: الرّعد: صوت احتكاك أجرام السّحاب، والبرق: مما ينقدح من احتكاكها. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: من سمع صوت الرعد، فقال: سبحان من يسبح الرّعد بحمده، والملائكة من خيفته، وهو على كل شيء قدير، فإن أصابته صاعقة؛ فعليّ ديته، وكان يقول: إنّ الوعيد لأهل الأرض شديد، انظر قوله تعالى في سورة (الرّعد) رقم [13]:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما:

ص: 66

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرّعد، والصّواعق، قال:«اللهمّ لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» . أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث غريب.

{يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ} أي: من أجل الصواعق، والمراد: رءوس الأصابع، وهي الأنامل، لأن دخول الأصابع كلها في الآذان لا يمكن، فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، وهذا ما يسمّى المجاز المرسل، و {الصَّواعِقِ:} جمع: صاعقة. قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: إذا اشتدّ غضب الرّعد الذي هو الملك، طار النّار من فيه، وهي الصّواعق. وكذا قال الخليل: هي الواقعة الشّديدة من صوت الرّعد، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه.

وقرأ الحسن البصري: («من الصّواقع») بتقديم القاف، ومنه قول أبي النّجم العجلي:[الرجز]

يحكون بالصّواقع القواطع

تشقّق البرق عن الصّواقع

قال النحاس: وهي لغة تميم، وبني ربيعة، ويقال: صعقتهم السّماء: إذا ألقت عليهم الصّاعقة، والصاعقة أيضا: صيحة العذاب، قال الله تعالى في كثير من الآيات:{فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ} والمراد: صيحة العذاب، والهلاك. هذا و (الأصابع): جمع: إصبع، فلم تذكر بلفظ المفرد أبدا في القرآن الكريم، وقد ذكرت بلفظ الجمع هنا، وفي سورة (نوح) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام، والأنامل: ذكرت بلفظ الجمع في سورة (آل عمران) رقم [119] فقط، ولم تذكر في غيرها، والأنملة: رأس الإصبع، ففيها وفي إصبع تسع لغات: تثليث همزتها، وتثليث ميم أنملة، وتثليث بإصبع، وتزيد أصبوعا، وقد نظم ذلك بعضهم، فقال:[البسيط]

بإصبع ثلّثن مع ميم أنملة

وثلّث الهمز أيضا وارو أصبوعا

{حَذَرَ الْمَوْتِ:} خوف الموت، و ({حَذَرَ})(«حذار») قراءتان، وهما بمعنى واحد. هذا؛ و {الْمَوْتِ:} هو انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته، وموت القلب: قسوته، فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنّصائح. {مُحِيطٌ:} أي عليم علما دقيقا بالكافرين، فلا يفوتونه، ولا يعجزونه، يقال: أحاط السلطان بفلان: إذا أخذه أخذا حاصرا من كلّ جهة، فهو من باب المجاز، بل هي استعارة تبعيّة في الصّفة سارية إليها من صدرها، انتهى جمل نقلا من كرخي.

قال الشاعر: [الطويل]

أحطنا بهم حتّى إذا ما تيقّنوا

بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السّلم

ومنه قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [43]: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ،} وقال تعالى في آخر سورة (الطلاق): {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . هذا؛ و {مُحِيطٌ} أصله: (محوط) لأنه من: أحاط، يحيط، أو من: حاط، يحوط، وهو أولى، فهو من الباب الأول، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح

ص: 67

أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى الحاء، فصار:(محوط) ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها.

الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف، قال القرطبي: قال الطبري: {أَوْ} بمعنى الواو، وقاله الفراء، وأنشد قول توبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية، وهو الشاهد رقم [95] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]

وقد زعمت ليلى بأنّي فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها

وقول جرير في مدح الخليفة الصّالح عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه-وهو الشاهد رقم [96] من كتابنا المذكور: [البسيط]

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

أي: وكانت له قدرا. وقيل: {أَوْ} للتخيير، أي: مثّلوهم بهذا، أو بهذا لا على الاقتصار على أحد الأمرين. انتهى. القرطبي بتصرف كبير. {كَصَيِّبٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: أو حالهم وشأنهم كحال أصحاب صيّب، وإن اعتبرت الكاف اسما، فلها المحل كما رأيت في الآية رقم [17] والجملة الاسمية معطوفة عليها، وعليه فالآية السابقة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف صفة (صيّب) أو هما متعلقان به. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ظُلُماتٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل جر صفة ثانية ل (صيب) أو في محل نصب حال منه وصفه بما تقدم، وجوز الزمخشري أن يكون {فِيهِ} متعلقين ب (صيّب) أو بمحذوف صفة له. و {ظُلُماتٌ} فاعل فيه، أي: بالجار والمجرور، لاعتماده على الموصوف، وهو:(صيّب) ورجّحه ابن هشام في المغني. ({رَعْدٌ وَبَرْقٌ}): معطوفان على {ظُلُماتٌ} بالواو العاطفة على الوجهين المعتبرين فيه.

{يَجْعَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {أَصابِعَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي آذانِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف في محل نصب حال من {أَصابِعَهُمْ} .

{مِنَ الصَّواعِقِ:} متعلقان بالفعل: {يَجْعَلُونَ،} و {مِنَ} بمعنى: من أجل، وقيل: سببية.

{حَذَرَ:} مفعول لأجله، وهو مضاف و {الْمَوْتِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، وجملة:{يَجْعَلُونَ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدّر، فكأن قائلا قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد والبرق؟ فقيل:

{يَجْعَلُونَ..} . إلخ.

وجوز مكي اعتبارها حالا من الضمير المنصوب، وجوز أبو البقاء اعتبارها صفة:«أصحاب صيب» والواو عائدة عليهم، على الاعتبارين فالرابط الواو. {وَاللهُ} الواو: حرف استئناف.

ص: 68

(الله): مبتدأ. {مُحِيطٌ:} خبره. {بِالْكافِرِينَ:} متعلقان ب {مُحِيطٌ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وقال الزمخشري: معترضة، وكأنه يعني بذلك: أنّ جملة: {يَجْعَلُونَ..} . إلخ، وجملة:

({يَكادُ..}.) الخ شيء واحد؛ لأنهما من قصّة واحدة. انتهى. جمل.

{يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}

الشرح: {يَكادُ..} . إلخ: أي: يقرب، يقال: كاد الفعل، ولم يفعل، فهو يدل على وقوع مقاربة الفعل بعدها، ولذا لم تدخل عليه «أن» لأنها تخلص الفعل للاستقبال، وإذا دخل عليها حرف نفي دل على أن الفعل بعدها وقع، كما في قوله تعالى في الآية رقم [71] الآتية:{فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ،} وإذا لم يدخل عليها حرف النفي، لم يكن الفعل بعدها واقعا، ولكنه قارب الوقوع، والفعل منها واوي العين، ف (كاد) أصله: كود بكسر الواو كخوف، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصار: يكاد بوزن: يخاف، ومصدره: الكود، وهذا في «كاد» الناقصة، وأما «كاد» التامة، فهي يائية العين المفتوحة في الماضي، كباع، المكسورة العين في المضارع ك «يبيع» ، ومصدره: الكيد، ك «البيع» ، فهو من الباب الثاني، بخلاف الناقص فإنه من الباب الرابع، ولذا جاء المضارع في القرآن مختلفا، فمن الأول قوله تعالى في سورة (النّور) رقم [35]:{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ} ومن الثاني قوله تعالى في آخر سورة (الطّارق): {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} ومعنى الأول: المقاربة، ومعنى الثاني: المكر، والأول ناقص التصرف، ويحتاج إلى مرفوع، ومنصوب، والثاني تامّ التصرف، ويكتفي بالفاعل، وينصب المفعول به.

فائدة: قد تأتي «كاد» بمعنى: أراد، قاله محبّ الدين الخطيب، شارح شواهد الكشاف، وجعل منه قول الراقدة الأودي، والبيت:[البسيط]

فإن تجمّع أسباب وأعمدة

وساكن بلغوا الأمر الّذي كادوا

أي: الّذي أرادوا، ومنه قول الآخر:[الكامل]

كدنا وكدت، وتلك خير إرادة

لو عاد من زمن الصّبابة ما مضى

أي: أردنا، وأردت، دليله:«تلك خير إرادة» . هذا وقد شاع على الألسن أنّ نفي كاد إثبات، وإثباتها نفي، ولذا ألغز المعريّ بقوله:[الطويل]

أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لساني جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود

ص: 69

فأجابه الشّيخ جمال الدين محمد بن مالك صاحب الألفية بقوله: [الطويل]

نعم هي كاد المرء أن يرد الحمى

فتأتي لإثبات بنفي ورود

وفي عكسها ما كاد أن يرد الحمى

فخذ نمها فالعلم غير بعيد

وقد اتفقت كلمة النحاة على أن (كاد) كسائر الأفعال، وكلامهم متقارب المعنى في هذا الشأن، ومتشابه، انظر الشاهد رقم [1127] من كتابنا فتح القريب المجيب، والأشموني، وغيرهما، وها أنا ذا أسوق لك ما ذكره السّيوطي رحمه الله تعالى في كتابه:(همع الهوامع) لتكون على بصيرة من أمرك، قال رحمه الله تعالى: والتحقيق: أنها كسائر الأفعال نفيها نفي، وإثباتها إثبات، إلا أن معناها المقاربة لا وقوع الفعل، فنفيها نفي لمقاربة الفعل، ويلزم منع نفي الفعل ضرورة أن من لم يقارب الفعل لم يقع منه الفعل، وإثباتها إثبات لمقاربة الفعل، ولا يلزم من مقاربته وقوعه، فقولك:«كاد زيد يقوم» معناه: قارب القيام، ولم يقم، ومنه قوله تعالى في سورة (النور) رقم [35] {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} أي: يقارب الإضاءة إلا أنه لم يضيء، وقولك:«لم يكد زيد يقوم» معناه لم يقارب القيام، فضلا عن أن يصدر منه، ومنه قوله تعالى في سورة (النّور) رقم [40]:{إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها} أي: لم يقارب أن يراها، فضلا عن أن يرى، وقوله تعالى في سورة إبراهيم، على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [17]:{يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} أي: لا يقارب إساغته، فضلا عن أن يسيغه، وعلى هذا الزجاجي. وغيره، وذهب قوم، منهم ابن جني إلى أنّ نفيها يدلّ على وقوع الفعل ببطء كما في الآية:{وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} رقم [71] من سورة (البقرة)، فإنّهم فعلوا بعد بطء، والجواب: أنّها محمولة على وقتين؛ أي: فذبحوها بعد تكرار الأمر عليهم بذبحها، وما كادوا يذبحونها قبل ذلك، ولا قاربوا الذّبح، بل أنكروا أشدّ الإنكار، بدليل ما حكى الله عنهم:

{قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً} .

وقال ابن هشام في مغنيه: فالجواب: أنه إخبار عن حالهم في أول الأمر، فإنهم كانوا أولا بعداء عن ذبحها بدليل ما يتلى علينا من تعنّتهم، وتكرار سؤالهم. انتهى.

وقوله مشابه لقول السّيوطي المتقدّم.

{يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ:} يأخذها بسرعة، وخطف، يخطف من باب: فهم، وعلم. قال تعالى في سورة (الصافات) رقم [10]:{إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ،} ومجيئه من باب: ضرب، يضرب لغة، وقد قرئ بها. و {كُلَّما،} (كلّ) هي هنا ظرف، وكذلك في كلّ موضع كان لها جواب، وهذا يعني: أنها متضمنة معنى الشرط، وهذا هو المشهور، و (ما) مصدرية، والزمان محذوف. وقيل: هي هنا نكرة موصوفة ومعناها الوقت {أَضاءَ لَهُمْ:} انظر الآية رقم [17].

{مَشَوْا:} انظر إعلال مثله في الآية رقم [14]. {قامُوا:} وقفوا عن المشي بسبب الظلمة التي

ص: 70

تحيط بهم. {شاءَ:} أصله: شئ على فعل بكسر العين بدليل قولك: شئت شيئا، وقد قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومفعوله محذوف، التقدير: ولو شاء الله إذهاب سمعهم، وأبصارهم، وكثر حذف مفعوله، ومفعول «أراد» حتى كاد لا ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل قوله تعالى في سورة الأنبياء رقم [17] {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ} وقال الشاعر الخزيمي:[الطويل]

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع

وينبغي أن تعلم: أنّه يكثر حذف مفعول هذين الفعلين بعد «لو» . (سمعهم): بمعنى:

أسماعهم بقرينة: ({أَبْصارَهُمْ}) وانظر الآية رقم [7]{شَيْءٍ:} هو في اللغة عبارة عن كل موجود، إمّا حسّا كالأجسام، وإمّا حكما كالأقوال، نحو قلت شيئا، وجمع الشيء: أشياء، غير منصرف، واختلف في علته اختلافا كثيرا، والأقرب ما حكي عن الخليل-رحمه الله تعالى-: إنّ وزنه: شياء، وزان: حمراء، فاستثقل وجود همزتين في تقدير الاجتماع، فنقلت الأولى إلى أول الكلمة، فبقيت وزن: لفعاء، كما قلبوا أدؤرا، فقالوا: أدر وشبهه، وجمع الأشياء: أشايا.

هذا وقال الخازن-رحمه الله تعالى-: وهذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين، ووجه التمثيل:

أنّ الله-عز وجل-شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة، أصابهم مطر فيه ظلمات، وهي: ظلمة الليل، وظلمة المطر، وظلمة السّحاب، من صفة تلك الظلمات: أنّ الساري لا يمكنه المشي فيها، ورعد من صفته أن يضم سامعوه أصابعهم إلى آذانهم من هوله، وبرق من صفته أن يخطف أبصارهم، ويعميها من شدته، فهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن، وصنيع الكافرين، والمنافقين معه.

فالمطر هو القرآن؛ لأنه حياة القلوب، كما أن المطر حياة الأرض، والظلمات في القرآن من ذكر الكفر، والشرك، والنفاق. والرّعد ما خوفوا به من الوعيد، وذكر النار، والبرق ما فيه من الهدى، والبيان، والوعد، وذكر الجنة، فالكافرون والمنافقون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن، وسماعه مخافة أن تميل قلوبهم إليه؛ لأن الإيمان به عندهم كفر، والكفر موت، وقيل غير ذلك. انتهى. وفي البيضاوي، والقرطبي ما يشبهه.

الإعراب: يكاد فعل مضارع ناقص. البرق: اسمه. يخطف: فعل مضارع، والفاعل يعود إلى البرق. أبصارهم: مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب خبر يكاد، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وهي عند الزمخشري بمنزلة البدل من جملة ({يَجْعَلُونَ..}.) إلخ.

{كُلَّما:} (كلّ): ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. (ما): مصدرية توقيتية. {أَضاءَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى

ص: 71

{الْبَرْقُ} والفعل إما متعدّ، والمفعول محذوف، بمعنى: كلّما نوّر لهم طريقهم، وإمّا لازم بمعنى:

كلّما لمع لهم مشوا في موضع نوره. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) والفعل {أَضاءَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كلّ) إليه، التقدير: كلّ وقت إضاءة الطريق لهم، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل (كلّ)، انظر مبحث:«كلّما» في كتابنا فتح القريب المجيب، وقيل:(ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى: وقت أيضا، والمدرسون يقولون: أداة شرط غير جازمة، ولا يعرفون هذا الإعراب والتفصيل.

{مَشَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب {كُلَّما} لا محل لها، و {كُلَّما} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا:} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [11]، و ({إِذا}) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله، هذا وذكر مع {أَضاءَ} {كُلَّما} وهي مفيدة للتكرار، ومع {أَظْلَمَ} ({إِذا}) لشدّة حرصهم على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، ولا كذلك التوقف في الظلمة. {وَلَوْ:} الواو: حرف عطف. ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله، ومفعوله محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَذَهَبَ:}

اللام: واقعة في جواب ({لَوْ})، (ذهب): فعل ماض. {اللهُ:} فاعل. {بِسَمْعِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، ({أَبْصارَهُمْ}): معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور، وجملة:{لَذَهَبَ..} . إلخ جواب ({لَوْ}) لا محل لها، و ({لَوْ}) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، وقيل: مستأنف، ولا محل له على الاعتبارين.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، لأنه اسم فاعل بمعنى قادر، فهو صيغة مبالغة، و {كُلِّ} مضاف و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:}

خبر {إِنَّ} والجملة الاسمية تعليلية، أو مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين.

{يا أَيُّهَا النّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}

الشرح: لما ذكر الله تعالى الأصناف الثلاثة: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، وذكر ما تميّزوا به من سعادة، أو شقاوة، أو إيمان، أو نفاق، وضرب الأمثال، ووضح طرق الضّلال؛ أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على وحدانية ربّ العالمين، وعرّف الناس بنعمه؛ ليشكروه عليها، وأقبل عليهم بالخطاب:{يا أَيُّهَا النّاسُ} وهو خطاب لجميع الفئات ممتنّا عليهم بما خلق، ورزق. انتهى صفوة التفاسير.

ص: 72

هذا؛ ونقل عن علقمة بن قيس-رضي الله عنه-قوله: ما في القرآن: {يا أَيُّهَا النّاسُ} فهو خطاب لأهل مكة، وما فيه:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو خطاب لأهل المدينة. انتهى.

ولكن إذا علمت أنّ تعاليم القرآن وأحكامه صالحة لكلّ زمان ومكان إلى يوم القيامة؛ علمت أنّ النّداءين لا يتقيّدان بزمان، ولا بمكان. كيف لا وقد علمت: أن سورة (البقرة) مدنيّة، وأيضا سورة (النّساء) وسورة (المائدة) وفيهنّ من لفظ:{يا أَيُّهَا النّاسُ} الكثير؟!.

فائدة: النداء على سبع مراتب: نداء مدح، ونداء ذمّ، ونداء تنبيه، ونداء إضافة، ونداء نسبة، ونداء تسمية، ونداء تضيّف، فالأول كقوله تعالى:{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ،} {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ،} والثاني كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا،} {يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا،} والثالث كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ،} {يا أَيُّهَا النّاسُ،} والرابع كقوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ،} والخامس كقوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ،} {يا بَنِي إِسْرائِيلَ،} والسادس كقوله تعالى: {يا نُوحُ،} {يا إِبْراهِيمُ،} والسّابع كقوله تعالى:

{يا أَهْلَ الْكِتابِ} .

فائدة: وفي السمين ما نصّه: وإذا ورد «لعلّ» في كلام الله تعالى، فللناس فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن «لعلّ» على بابها من الترجي، والإطماع، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين، أي: لعلكم تتقون على رجائكم، وطمعكم. وكذلك قال سيبويه في قوله تعالى:{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} أي: اذهبا على رجائكما. والثاني: أنّها للتقليل؛ أي: اعبدوا ربكم لكي تتقوا، وبه قال قطرب، والطّبريّ، وغيرهما. والثالث: أنّها للتعرّض للشيء، كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرّضين لأن تتقوا. انتهى.

جمل. وقريب منه في القرطبيّ.

هذا ولا تنس ما ذكرته من القول: والترجّي في هذه الآية وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأنّ الله تعالى لا يحصل منه ترجّ ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ذكرت هذا فيما صدر لنا كثيرا، وهذا أشمل، وأخصر، والله ولي التوفيق. والترجّي في هذه الآية، ونحوها إطماع من ربّ كريم، فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه، وأصل {تَتَّقُونَ:} توتقيون، فأبدل من الواو تاء، ثم أدغمت التاء في التاء، وسكنت الياء بعد حذف ضمّتها، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فصار:«تَتَّقُونَ» ، ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو.

الإعراب: ({يا}): حرف نداء ينوب مناب: أدعو، أو أنادي. ({أَيُّهَا}): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب (يا) و «ها» : حرف تنبيه لا محل له من الإعراب، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة، لأنه يجب حينئذ نصب المنادى. {النّاسُ:} بعضهم يعرب هذا وأمثاله: نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل: أنّ الاسم الواقع بعد أي، واسم الإشارة، إن كان مشتقا؛ فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا؛ فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع، أعني:(أيّ) منصوب محلاّ، وكذا التابع، أعني:{النّاسُ} فهو

ص: 73

منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية، وإنما أتبعت ضمة البناء مع أنّها لا تتبع؛ لأنها وإن كانت ضمة بناء، لكنها عارضة، فأشبهت ضمة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده العلامة الصبّان؛ لأنه قال: والمتّجه وفاقا لبعضهم أن ضمة التابع إتباع لا إعراب، ولا بناء، وقيل: إن رفع التابع المذكور إعراب، واستشكل بعدم المقتضي للرفع، وأجيب بأنّ العامل يقدر من لفظ عامل المتبوع مبنيّا للمجهول، نحو يدعى. وهو مع ما فيه من التكلف يؤدي إلى قطع المتبوع، وقيل: إنّ رفع التابع المذكور بناء؛ لأن المنادى في الحقيقة هو المحلّى بال، ولكن لمّا لم يمكن إدخال حرف النداء عليه؛ توصلوا إلى ندائه ب «أيّ» أي مع قرنها بحرف التنبيه، وردّه بعضهم بأنّ المراعى في الإعراب اللفظ، وأن الأول منادى، والثاني تابع، والإعراب الشائع الآن أن تقول: مرفوع تبعا للفظ.

{اُعْبُدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف هي الفارقة بين واو العلّة، وواو الضمير، هذا هو الإعراب المتعارف عليه، والمشهور بين الناس، والأصل أن يقال في مثل ذلك: فعل أمر مبني على سكون مقدّر على آخره، منع من ظهوره إرادة التخلص من التقاء الساكنين، وحرّك بالضمة لمناسبة واو الجماعة، وما أجدرك أن تلاحظ هذا في كل فعل أمر مسند إلى واو الجماعة، أو إلى الألف الاثنين، مثل: اعبدا، قد حرك بالفتحة لمناسبة ألف الاثنين، أو إلى ياء المخاطبة مثل: اعبدي، وقد حرّك بالكسرة لمناسبة ياء المخاطبة.

{رَبَّكُمُ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة أو بدل من {رَبَّكُمُ،} أو هو منصوب على المدح بفعل محذوف؛ التقدير: أمدح الذي، أو هو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الذي، وهذان الوجهان على القطع. والإتباع هنا أقوى، بخلافه في الآية رقم [3]، وفي الآية التالية.

{خَلَقَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب معطوف على الكاف، التقدير: وخلق الذين. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، أي: الذين وجدوا من قبلكم. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه، والميم في كل ما تقدم حرف دال على جماعة الذكور. {تَتَّقُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله، والمفعول محذوف، التقدير: لعلكم تتقون الكفر، أو المعاصي، أو تتقون الله. وهو الأولى، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعلّ) والجملة الاسمية محتملة للتعليل، والحالية؛ أي: لتتقوا الله، وتخافوا عقابه، أو حال كونكم متقين الله، أو متعرضين للتقوى، وفي المغني لابن هشام: هي

ص: 74

مفيدة للتّحقيق؛ أي أنتم أحقّ بتقوى الله من جميع المخلوقات، أقول: والتعليل أقوى لعطف مثلها على التعليل في الآيتين رقم [150] و [184]:

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}

الشرح: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً} {جَعَلَ} من الأفعال العامة، يجيء على ثلاثة أوجه: يأتي بمعنى: أخذ، طفق، فيكون من أفعال الشّروع، فلا يتعدى، كقول الشاعر:[الطويل]

وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة

لضغمهماها يقرع العظم نابها

وأيضا قول رجل من بني بحتر بن عتود، وهو الشاهد رقم [425] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]

وقد جعلت قلوص بني سهيل

من الأكوار مرتعها قريب

ويأتي بمعنى: أوجد، وخلق، فيتعدّى لواحد، ومنه قوله تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} ويأتي بمعنى: صير، كما في الآية، فيتعدّى لمفعولين، ويأتي بمعنى: سمّى، فيتعدّى لمفعولين أيضا، كما في قوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً} أي: سمّوهم إناثا، وقال القرطبي: وقد تأتي زائدة، كما في قول الآخر:[البسيط]

وقد جعلت أرى الاثنين أربعة

والواحد اثنين لمّا هدّني الكبر

وعند التأمّل يتبيّن لك: أنّ المعنى: «قد صرت أرى

إلخ».

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَاُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)}

الشرح: {كُنْتُمْ:} أصله كونتم، فقل في إعلاله: تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان: الألف وسكون النون، فحذفت الألف فصار (كنتم) بفتح الكاف، ثم أبدلت الفتحة ضمة لتدل على الواو المحذوفة، فصار (كنتم)، وهناك إعلال آخر، وهو أن تقول: أصل الفعل كون، فلما اتصل بضمير رفع متحرك نقل إلى باب فعل، فصار «كونت» ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبله، صار «كونت» فالتقى ساكنان: العين المعتلة ولام الفعل، فحذفت العين، وهي الواو لالتقائهما فصار «كنت» وهكذا قل في إعلال كل فعل أجوف واوي.

مسندا إلى ضمير رفع متحرك، مثل: قال وقام وغيرهما. {رَيْبٍ:} انظر الآية رقم [2]. {عَبْدِنا:}

المراد به: سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فكنى عنه بالعبودية، وهي مقام عظيم، والإضافة للتشريف،

ص: 75

«وتنويه بذكره، وتنبيه على أنه مختص به، منقاد لحكمه تعالى» ، ولم يذكر عليه الصلاة والسلام باسمه الصريح في القرآن إلا قليلا؛ ذكر باسم محمد في سورة آل عمران، وسورة الأحزاب، وسورة محمد، وسورة الفتح، وذكر باسم أحمد في سورة الصف، وذكر باسم طه في سورة طه، وذكر باسم ياسين في سورة (يس)، وانظر «نا» في الآية [52]. {فَأْتُوا:} فعل أمر ماضيه أتى يأتي، وهذا الفعل يستعمل لازما إن كان بمعنى حضر وأقبل، ومتعديا إن كان بمعنى وصل وبلغ، فمن الأول قوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} ومن الثاني قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظّالِمُونَ} . وأصل الأمر «اأتيوا» بهمزتين، الأولى للوصل، وهي مكسورة، فإذا انفتح ما قبلها قلبت ألفا كما في هذه الآية، فإذا بدأت بها قلبت الثانية ياء، فتقول: ايتيوا، ثم حذفت لام الفعل على نحو ما رأيت في «لَقُوا» في الآية رقم [14]. {بِسُورَةٍ:} هي الطائفة من القرآن، محتوية على أنواع من العلم، احتواء سور المدينة على ما فيها، أو من السّورة، وهي الرتبة، لأن السور كالمراتب والمنازل، يرتقي فيها القارئ، ولها مراتب في الطول، والقصر، والفضل، والشرف، وثواب القراءة. قال النابعة:[الطويل]

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب

والحكمة في تفصيل القرآن، وتقطيعه سورا كثيرة، منها: أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف؛ كان أحسن من أن يكون بيانا واحدا، ومنها أن القارئ إذا ختم سورة، ثم أخذ في أخرى؛ كان أنشط له وأبعث على القراءة منه لو استمر على القرآن بطوله، ومن ثم جزأ القراء القرآن أسباعا، وأجزاء، وعشورا، وأخماسا، ومنها أن الحافظ إذا حفظ سورة؛ اعتقد:

أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها، لها فاتحة وخاتمة، فيعظم عنده ما حفظه، ويجل في نفسه، ومنه حديث أنس-رضي الله عنه:«كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ فينا» أي عظم، ولذا أنزل الله تعالى التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائر ما أوحاه على أنبيائه مسورة مترجمة السور، وبوب المصنفون في كل فن من كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم. انتهى.

نسفي بتصرف. {مِثْلِهِ:} انظر الآية رقم [17]. {شُهَداءَكُمْ:} جمع شهيد، وهو بمعنى الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر والمعين. {دُونِ:} من الدنو، وهو القرب، ومثله أدنى وانظر الآية [16] ومنه: تدوين الكتب لأنه إدناء، أي تقريب البعض من البعض، ثم استعير للترب، فيقال: زيد دون عمرو، أي في الشرف والسيادة، ثم اتسع فيهما فاستعملا في كل تجاوز حد، إلى حد، هذا ويأتي دون بمعنى قدام، قال الشاعر:[الطويل]

تريك القذى من دونها وهي دونه

إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق

تنبيه: قال تعالى في هذه الآية: {مِمّا نَزَّلْنا} وقال في كثير من الآيات: {أَنْزَلْنا؛} لأن الأول يفيد: أن القرآن نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع، ومقتضيات

ص: 76

الأحوال، على ما نرى عليه أهل الشعر والخطابة، وهذا مما يريبهم، كما حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} فبين سبحانه الحكمة من ذلك بقوله: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} .

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف، ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {فِي رَيْبٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر كان. {مِمّا:} أصله «من ما» جار ومجرور متعلقان بريب لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، و (ما) تحتمل أن تكون موصولة، ونكرة وموصوفة. {نَزَّلْنا:}

فعل وفاعل، وانظر {آمَنّا} في الآية [14]، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط، محذوف، التقدير: نزلناه، وجملة {كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. على عبدنا: متعلقان بالفعل قبلهما، و «نا» في محل جر بالإضافة.

{فَأْتُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ائتوا): إعرابه مثل إعراب {اُعْبُدُوا} في الآية رقم [21]، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها معطوف على قوله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً} في الآية السابقة. وقيل: مستأنف. {بِسُورَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{مِنْ مِثْلِهِ:} متعلقان بمحذوف صفة سورة، وقيل: متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. والواو: حرف عطف. ({اُدْعُوا}): إعرابه مثل إعراب {اُعْبُدُوا،} {شُهَداءَكُمْ:} مفعول به. والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل ادعوا، أو ب {شُهَداءَكُمْ،} لأنه جمع شاهد كما رأيت، أو هما متعلقان بمحذوف في محل نصب حال من:{شُهَداءَكُمْ،} التقدير: منفردين عن الله. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} إعراب هذا مثل إعراب سابقه، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب الشرط الأول عليه، وهو قوله:{فَأْتُوا،} والشرط، ومدخوله بمنزلة التوكيد للشرط الأول، ومدخوله.

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)}

الشرح: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا:} أي: فإن لم تأتوا بسورة لعجزكم، ثم أكد هذا العجز بالجملة المعترضة بين فعل الشرط وجوابه، وصدّر سبحانه الجملة الشرطية ب (إن) التي للشك، والحال يقتضي (إذا) التي للجزم والتحقق، لأنه سبحانه لم يكن شاكّا في عجزهم، ولذلك نفى إتيانهم بالجملة المعترضة تهكما بهم، أو خطابا معهم على حسب ظنهم أنهم يقدرون. (اتقوا): انظر التقوى في الآية رقم [2]، وأصله «اتقيوا» فعل به ما فعل ب:{فَأْتُوا} حيث حذفت الضمة على

ص: 77

الياء للثقل، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ثم قلبت كسرة القاف ضمة لمناسبة واو الجماعة. {النّارَ:} انظر الآية رقم [17]. {وَقُودُهَا:} بفتح الواو، أي ما توقد به النار، وأما بضمها فهو المصدر، وكذلك الاسم منه، وبعضهم قال: كلّ من الفتح والضم يجري في الآلة والمصدر، وكذا يقال في الوضوء والسحور والطهور ونحو ذلك، ولكن المشهور الأول، وقرئ بفتح الواو وضمها أيضا. {النّاسُ:} انظر الآية رقم [8]. {وَالْحِجارَةُ:} المراد به الأصنام التي عبدوها في الدنيا، وأمّلوا نفعها وشفاعتها، قال تعالى مخاطبا الكافرين في الدنيا:{إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} وعن ابن عباس رضي الله عنهما:

أنها حجارة الكبريت، فهي أشد توقدا، وأبطأ خمودا، وأنتن رائحة، وألصق بالبدن. والحجارة جمع حجر، كجمالة جمع جمل، وهو قليل غير منقاس. {أُعِدَّتْ:} هيئت، وفيه دليل على أن النار مخلوقة، موجودة، وكذا الجنة. (الكافرين): انظر الآية رقم [6].

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَفْعَلُوا:} فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، وهي في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لأنها ابتدائية

إلخ. الواو: واو الاعتراض. {وَلَنْ:} حرف ناصب. {تَفْعَلُوا:} فعل مضارع منصوب بلن

إلخ. والجملة الفعلية معترضة لا محل لها من الإعراب. {فَاتَّقُوا:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (اتقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، وانظر {اُعْبُدُوا} في الآية رقم [21]. {النّارَ:} مفعول به. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة النار. {وَقُودُهَا:} مبتدأ، وها: في محل جر بالإضافة. {النّاسُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وجملة {فَاتَّقُوا..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وانظر الآية السابقة. {أُعِدَّتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى النار، والتاء للتأنيث. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة {أُعِدَّتْ..} . إلخ في محل نصب حال من النار، والرابط الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» وقيل: مستأنفة، والأول أقوى.

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)}

الشرح: {وَبَشِّرِ:} أمر من البشارة، وهي الإخبار بما يسر المخبر به، وقد تستعمل بالشر وبما يسوء على سبيل التهكم والاستهزاء، كما في قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} .

{آمَنُوا:} صدقوا، وانظر الإيمان في الآية رقم [3]. {الصّالِحاتِ:} الأعمال الصالحات على

ص: 78

اختلاف مراتبها ودرجاتها، من فعل مأمورات، واجتناب منهيات. {جَنّاتٍ:} جمع جنة، وهي البستان من النخل والشجر الكثير المتكاثف الذي يجن، أي: يستر ما يكون متداخلا فيه، وسميت دار الثواب جنة لما فيها من النعيم الذي لا ينفد، وجمع الجنة على جنات يدل على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان، واللام في {لَهُمْ:} للملك وهي تدل على أنهم استحقوا الجنات بسبب أعمالهم الصالحة. {مِنْ تَحْتِهَا:} أي من تحت قصورها وأشجارها. {الْأَنْهارُ:} جمع نهر، وهو معروف في الدنيا، ولكن شتان ما بين أنهار الجنة وأنهار الدنيا، هذا ويجمع النهر على أنهر ونهر ونهور، وهاء النهر تسكن وتفتح. {وَأُتُوا بِهِ:} جيئوا به {مُتَشابِهاً:} أي يشبه بعضه بعضا في اللون، ويختلف في الطعم. {أَزْواجٌ:} جمع زوج، وهو يطلق على الذكر والأنثى، وقد يقال للأنثى: زوجة.

{مُطَهَّرَةٌ:} من الحيض وكل قذر يكون في الدنيا. «وكذلك مطهرة من دنس الطبع، وسوء الخلق، وغير ذلك، سواء كن من نساء الدنيا أم من الحور العين» . وينبغي أن يلاحظ أن ذلك للذكور والإناث الصالحات، وإن كان الكلام بصيغة جمع الذكور، فيمكن أن يكون من باب تغليب الذكور على المؤمنات الصالحات، وتبشرهن بجنة عرضها الأرض والسموات.

{خالِدُونَ:} ماكثون أبدا لا يفنون، ولا يخرجون، روى مسلم عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس، ولكن طعامهم ذلك جشاء، ورشحهم كرشح المسك» .

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:

{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. ({عَمِلُوا}): فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الصّالِحاتِ:} صفة لمفعول به محذوف، التقدير: الأعمال الصالحات، فهو منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وجملة:({بَشِّرِ..}.) إلخ: معطوفة على جملة:

{فَاتَّقُوا..} . إلخ، كما تقول: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم. أو جملة وصف بها ثواب المؤمنين معطوفة على جملة وصف بها عقاب الكافرين، كقولك: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمرا بالعفو والإطلاق. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لَهُمْ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {أَنَّ} تقدم على اسمها. {جَنّاتٍ:}

اسمها مؤخر منصوب، وعلامة نصبه مثل {الصّالِحاتِ،} {تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بما قبلهما، و «ها» في محل جر بالإضافة.

{الْأَنْهارُ:} فاعل: {تَجْرِي} والجملة الفعلية في محل نصب صفة {جَنّاتٍ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وقيل: في محل جر بحرف جر محذوف،

ص: 79

التقدير: بأن، والجار والمجرور متعلقان بالفعل ({بَشِّرِ}). هذا وقرئ:(«بشّر») بصيغة الماضي المبني للمجهول، على اعتباره معطوفا على:{أُعِدَّتْ} .

{كُلَّما:} انظر إعرابها مفصلا في الآية رقم [20]. {رُزِقُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {مِنْها:} جار مجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ ثَمَرَةٍ:} بدل من {مِنْها} بدل اشتمال. {رِزْقاً:} مفعول به ثان، وهو بمعنى: مرزوقا، وليس مصدرا؛ لأن المصدر لا يؤتى به متشابها، إنما يؤتى بالمرزوق كذلك، و (ما) والفعل {رُزِقُوا} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كلّ) إليه. {قالُوا:} ماض وفاعله. {هذَا} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {رُزِقْنا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون، و «نا»: نائب فاعل، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني، وهو العائد محذوف، التقدير: الذي رزقناه.

{مِنْ:} حرف جر. {قَبْلُ:} اسم مبني على الضم، لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى في محل جرّ ب {مِنْ} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، وجملة:{قالُوا} إلخ: جواب {كُلَّما} لا محل لها، و {كُلَّما} ومدخولها في محل نصب صفة ثانية ل {جَنّاتٍ} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدّم، أو هي مستأنفة لا محل لها. وقيل: في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، ولا وجه له. تأمل.

{وَأُتُوا:} الواو: واو الحال. ({أُتُوا}): فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مُتَشابِهاً:} حال من الضمير المجرور بالباء، وجملة:({أُتُوا..}.) إلخ: في محل نصب حال من مفعول {رُزِقْنا} المحذوف، والرابط الواو والضمير المجرور في ({بِهِ}) و «قد» مقدرة قبل الفعل، ويكون {مُتَشابِهاً} حالا متعددة، أو متداخلة، وقيل: يجوز أن تكون مستأنفة، وقال الجمل: جملة:

{وَأُتُوا..} . إلخ: معترضة مقررة لما قبلها، ولا وجه له. {وَلَهُمْ:} الواو: واو الاستئناف.

(لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {فِيها:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وبعضهم يعتبرهما متعلقين بمحذوف حال من:{أَزْواجٌ،} وكثير لا يجيزون مجيء الحال من المبتدأ، {أَزْواجٌ:} مبتدأ مؤخر. {مُطَهَّرَةٌ:} صفة له، والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها، وقال الجمل: الجملة صفة ل {جَنّاتٍ} والواو مانعة من الوصفية، ولو قال: إنها في محل نصب حال من {جَنّاتٍ} لكان وجها مقبولا. {وَهُمْ:} الواو: حرف عطف. ({هُمْ}): مبتدأ.

{فِيها:} متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها.

ص: 80

{إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في رواية أبي صالح عنه: لمّا ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعني:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً..} . الآية رقم [17]، وقوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ..} . إلخ الآية رقم [19]، وفي رواية عطاء عن ابن عباس-رضي الله عنهما أيضا، قال: لما ذكر الله آلهة المشركين، فقال:{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} رقم [73] من سورة (الحج) وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت؛ أي: في الضعف، والمهانة، وذلك في قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} الآية رقم [41] من سورة (العنكبوت)؛ قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية، وقال الحسن، وقتادة-رضي الله عنهما: لمّا ذكر الله الذباب، والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل؛ ضحكت اليهود، وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله! فأنزل الله الآية الكريمة. انتهى قرطبي بتصرف.

هذا؛ والأمثال من هذا القبيل كثيرة، مثل الآيتين رقم [75] و [76] من سورة (النحل)؛ ففيهما بحث جيد انظرهما. {لا يَسْتَحْيِي:} أصله يستحيي، عينه، ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء، فسكنت، واسم الفاعل على هذا مستحيي، والجمع:

مستحيون، ومستحيين. وقرأ ابن محيصن:(«يستحي») بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة، ورويت عن ابن كثير، وهي لغة تميم وبكر وائل، وهي قراءة شاذة، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء، واسم الفاعل مستح، والجمع مستحون ومستحين. انتهى قرطبي، وقاله الجوهري.

هذا؛ والحياء بالنسبة للإنسان هو: انقباض النفس من الشيء، وتركه خوفا من اللوم، وهو ملكة تمنع الإنسان من ارتكاب الرذائل، والحياء خير ما يتحلّى به إنسان، فإذا ذهب الحياء من الإنسان، فقد ذهب منه كلّ خير، كما قال الشاعر الحكيم:[الوافر]

إذا لم تخش عاقبة اللّيالي

ولم تستحي فاصنع ما تشاء

فلا وأبيك ما في العيش خير

ولا الدّنيا إذا ذهب الحياء

ص: 81

والحياء بالمعنى المتقدم مستحيل في حقّ الله تعالى، بل المراد منه في حقه تعالى: التّرك اللازم للانقباض، كما ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله حييّ كريم يستحيي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا خائبتين» . أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه عن سلمان الفارسي-رضي الله عنه، وقال الزمخشري: أي: لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها. وقول له آخر: هو من باب المشاكلة.

{أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً:} معناه: يبيّن، فيتعدّى لواحد، وقيل: معناه: التصيير، فيتعدّى لاثنين، نحو: ضربت الطين لبنا، وقال بعضهم: لا يتعدّى لاثنين إلا مع المثل خاصّة.

{بَعُوضَةً:} واحدة البعوض، وهو صغار البق، واشتقاقه من البعض، وهو القطع، ومنه بعض الشيء؛ لأنه قطعة منه، وقد بعضته تبعيضا، أي: جزأته، فتبعّض، وسميت البعوضة بذلك لصغرها. {فَما فَوْقَها} . والبعوض من عجيب خلق الله تعالى فإنه في غاية الصّغر، وله ستة أرجل، وأربعة أجنحة، وذنب، وله خرطوم مجوف، وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل، والجاموس، والجمل، فيبلغ منه الغاية؛ حتى إنّ الجمل ليموت من قرصه. انتهى.

خازن. قال القرطبي: والفاء بمعنى «إلى» أي: إلى ما فوقها، وهذا قول الكسائي، والفراء أيضا. وهذا قاله ابن هشام في مغني اللبيب في الآية نفسها، واستأنس بهذه الآية، ليثبت: أنّ الفاء وقعت بمعنى «إلى» في قول امرئ القيس في أول معلقته، وهو الشاهد رقم [293] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

انظر الكلام عليه إن كنت من أهل مغني اللبيب تجد الكلام عليه طويلا وعريضا، واعتبر من العكس، أي: مجيء «إلى» بمعنى الفاء في قول كثير عزّة، وهو الشاهد رقم [295] من كتابنا المذكور:[الطويل]

وأنت الّتي حبّبت شغبا إلى بدا

إليّ وأوطاني بلاد سواهما

هذا وفي الفوقية قولان: أحدهما: فما دونها في الصّغر، والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشّحّ، فيقول السامع: نعم هو فوق ذلك، يعني: فيما وصفت، وهذا قول أكثر المحققين، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لو كانت الدّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» . رواه ابن ماجة، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح عن أبي سهل بن سعد رضي الله عنه. والثاني: {فَما فَوْقَها} لما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر، ولا أصغر من البعوضة. وهذا قول قتادة بن دعامة، واختيار ابن جرير، فإنه يؤيد ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة» .

ص: 82

فأخبر الله: أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا، ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة.

فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب، والعنكبوت. انتهى مختصر ابن كثير بتصرف.

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا:} أي: بالله، ورسوله. {فَيَعْلَمُونَ:} فيعتقدون، ويوقنون:{أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} الحق: خلاف الباطل وضده، قال الراغب-رحمه الله تعالى-: أصل الحق:

المطابقة، والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقّه لدورانه على الاستقامة، والحقّ يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى: هو الحق، وللموجود بحسب مقتضى الحكمة: حقّ، ولذلك يقال الشيء نفسه، نحو اعتقاد زيد في الجنة حقّ، وللفعل، والقول الواقعين بحسب ما يجب؛ أي أثبته حقّا، أو حكمت بكونه حقّا. بغدادي.

{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا:} قال القرطبي رحمه الله تعالى: لغة تميم وبني عامر في «أَمَّا» :

«أيما» يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة، وهو الشاهد رقم [84] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت

فيضحى وأمّا بالعشيّ فيخصر

وانظر الشاهد رقم [89] منه أيضا فإنه جيد، والكلام عليه أجود.

{ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً} أي: وأما الذين كفروا؛ فيتعجبون، ويقولون: ما الذي أراده الله من ضرب الأمثال بهذه الأمور الحقيرة، وإنما سمّوه مثلا؛ لأنه استعارة من المثل المضروب؛ لأنه ما غرب من الكلام وبدع استغرابا منهم لهذا المثل، واستبعادا له، وتحقيرا له أيضا.

{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً:} أي يضل بهذا المثل كثيرا من الكافرين لكفرهم به، ويهدي به كثيرا من المؤمنين لتصديقهم به، فيزيد أولئك ضلالة، وهؤلاء هدى. هذا؛ ومثل هذه الآية الآية رقم [31] من سورة المدثر. {وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ} أي: وما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إلا الخارجين عن طاعة الله الجاحدين بآياته.

هذا؛ وقال علماء التوحيد: ليس معنى إضلال الله لفريق، وهدايته لفريق آخر: أنه تعالى يجبر كلاّ منهما على الضلالة، والهدى، ولا أنه سبحانه يكرههم على سلوك سبيلي الخير والشر، كلاّ، فإن هذا الإكراه مناف للعدل الإلهي، بل مناف لحكمة التشريع السّماوي، ولا يتفق مع نصوص الشريعة المتواترة، القاطعة الدالة على أن العبد له إرادة، واختيار، هما مناط التكليف، والمؤاخذة، وكذلك فهم الصحابة والسلف الصالح، سأل رجل عليّا-رضي الله عنه فقال: أكان مسيرك إلى الشام يعني: «لقتال أهلها» بقضاء الله، وقدره، فقال له: ويحك! لعلّك ظننت قضاء لازما، وقدرا حاتما! ولو كان كذلك؛ لبطل الثواب، والعقاب، وسقط الوعد، والوعيد، إنّ الله سبحانه أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، وكلّف يسيرا، ولم يكلف عسيرا،

ص: 83

ولم ينزل الكتاب عبثا، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا {ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ} . وعلى ضوء هذا يفهم معنى الهداية، والإضلال. انتهى. صابوني.

ولا تنس المقابلة بين: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} وهو من المحسنات البديعية.

هذا؛ وقدم الإضلال على الهداية؛ ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوءهم، ويفتّ أعضادهم، وأوثرت صيغة الاستقبال إيذانا بالتجدد، والاستمرار.

هذا و (القول) يطلق على خمسة معان: أحدها: اللفظ الدّال على معنى. الثاني: حديث النفس، ومنه قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ} الآية رقم [8] من سورة (المجادلة). الثالث: الحركة، والإمالة، يقال: قالت النّخلة؛ أي: مالت. الرابع: ما يشهد به الحال، كما في قوله تعالى في سورة (فصلت) رقم [11]:{قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} . الخامس:

الاعتقاد. كما تقول: هذا قول الأشاعرة، وهذه مقالة المعتزلة؛ أي: ما يعتقدونه. وانظر شرح الكلام في الآية رقم [75].

أمّا الإرادة فهي: نزوع النفس، وميلها إلى الفعل؛ بحيث يحملها عليه، ويقال للقوة الّتي هي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل، والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به، ولذا اختلف في معنى إرادته، فقيل: إرادته لأفعاله: أنّه غير ساه، ولا مكره، ولأفعال غيره: أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته.

وقيل: علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح. انتهى بيضاوي بتصرف.

وانظر الآية رقم [184] الآتية تجد ما يسرك. هذا؛ و (الإضلال): خلق فعل الضلال في العبد، و (الهداية) خلق فعل الاهتداء فيه، هذا هو الحقيقة عند أهل السنة. انتهى نسفي.

قال تعالى في سورة الأعراف رقم [29]: {فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق الخلق في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلّ» . أخرجه الترمذيّ.

وقد يعترض بعض الناس على خلق فعل الضلال في العبد، فيقول: إذا لا مؤاخذة على العبد، والجواب: أن معنى خلق

إلخ، تقدير ضلاله، وهذا التقدير مبني على علم الله الأزلي بأن هذا العبد لو ترك وشأنه لم يختر سوى الكفر والضلال، ولذا قدره الله عليه، هذا بالإضافة إلى اختياره الضّلال بعد أن بين الله الخير، والشر، والحسن، والقبيح، كما قال تعالى في سورة (البلد):{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بينا له طريق الخير والشر. وأخيرا خذ قوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [23]: {لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} . ومذهب المعتزلة بخلاف هذا؛ لأنهم يقولون: إن العبد يخلق أفعال نفسه بقدرة خلقها الله فيه.

وأخيرا: ف {الْفاسِقِينَ} جمع: فاسق، وهو الخارج عن حدّ الإيمان، وأصل الفسق:

الخروج عن حد القصد، والفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله بارتكاب المعاصي، وله ثلاث

ص: 84

درجات: الأولى: التغابي، وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إيّاها. والثانية: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها. والثالثة: الجحود، وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها، فإذا شارف هذا المقام، وتخطى خططه؛ خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر، وما دام في درجة التغابي، أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن، لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان. انتهى بيضاوي.

وخذ ما قاله الزمخشري رحمه الله تعالى، وهو من نظمه:[الكامل]

يا من يرى مدّ البعوض جناحها

في ظلمة اللّيل البهيم الأليل

ويرى عروق نياطها في نحرها

والمخّ في تلك العظام النّحّل

اغفر لعبد تاب من فرطاته

ما كان منه في الزّمان الأوّل

ولعلّها توبته من الاعتزال، والله أعلم بحقيقة الحال، وإليه المرجع والمآل.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَسْتَحْيِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر يعود إلى الله، تقديره هو، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ({إِنَّ})، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها.

({إِنَّ}): حرف ناصب. {يَضْرِبَ:} فعل مضارع منصوب ب {إِنَّ،} والفاعل يعود إلى {اللهَ} أيضا، و {إِنَّ} والفعل والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:

من ضرب، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهذا عند الخليل، وأما سيبويه فيعتبر المصدر في محل نصب بنزع الخافض، وبعضهم يعتبره مفعولا به بإجراء اللازم مجرى المتعدي.

{مَثَلاً ما بَعُوضَةً} في هاتين الكلمتين أعاريب واعتبارات: الأول: اعتبار الفعل {يَضْرِبَ} بمعنى «يجعل» نصب {مَثَلاً} و {بَعُوضَةً} مفعولين، و {ما} صفة:{مَثَلاً،} أو زائدة.

والثاني: اعتبار {بَعُوضَةً} عطف بيان من {مَثَلاً} و {ما} صفة، أو زائدة. والثالث: اعتبار ({بَعُوضَةً}) بدلا من {مَثَلاً} و {مَثَلاً} مفعول به، و {ما} صفة أو زائدة للتأكيد. والرابع: اعتبار {بَعُوضَةً} مفعولا به و {مَثَلاً} حال منها؛ لتقدّمه عليها. والخامس: اعتبار {ما} نكرة صفة {مَثَلاً} أو بدل منها، و {بَعُوضَةً} عطف بيان على {ما} . هذا؛ وقال القرطبي، وهو في مغني اللبيب أيضا: نصبت {بَعُوضَةً} على تقدير إسقاط الجار، المعنى: أن يضرب مثلا ما بين بعوضة، فحذفت «بين» وأعربت بعوضة بإعرابها، والفاء بمعنى «إلى» أي: إلى ما فوقها، وهذا قول الكسائي، والفراء أيضا، وأنشد أبو العباس لمجهول لم يسمّ، وهو الشاهد رقم [294] من كتابنا فتح القريب المجيب:[البسيط]

يا أحسن النّاس ما قرنا إلى قدم

ولا حبال محبّ واصل تصل

ص: 85

أراد ما بين قرن، فلمّا أسقط «بين» نصب. انتهى قرطبي. وعليه فالتقدير في الآية:«ما بين بعوضة» فحذفت «بين» وانتصب {بَعُوضَةً} مكانها، وذكرت لك في الشرح أن القرطبي قال:

والفاء بمعنى «إلى» ، وهو في مغني اللبيب أيضا، وانظر الشواهد رقم [293 و 294 و 295] من كتابنا فتح القريب المجيب إن كنت من أهل النّحو، والإعراب.

هذا وقرئ شاذّا: («بعوضة») بالرفع، قال أبو الفتح ابن جني: ووجه ذلك: أن {ما} اسم بمنزلة: «الذي» و («بعوضة») رفع على إضمار مبتدأ. التقدير: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول، وهو مبتدأ، ومثله قراءة بعضهم في قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم 154]:(«ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن») أي: هو أحسن، وعليه ف ({ما}) موصولة حذف صدر صلتها، أو هي موصوفة بالجملة كذلك، ومحلّها النصب بالبدلية من {مَثَلاً} على الوجهين، أو هي استفهامية على أنها مبتدأ و («بعوضة») خبرها، والمعنى: أي شيء البعوضة فما فوقها في الحقارة، وعليه فالجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{فَما:} الفاء: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون، أو هي نكرة موصوفة معطوفة على {بَعُوضَةً} . {فَوْقَها} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) أو صفة لها. (أمّا) أداة شرط، وتفصيل، وتوكيد، أما كونها أداة شرط؛ لأنها قائمة مقام أداة الشرط وفعله بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل: مهما يك من شيء؛ فالذين آمنوا فيعلمون

إلخ، فأنيبت (أمّا) مناب: مهما يك من شيء، فصار:(أما {الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ}). وأما كونها أداة تفصيل؛ لأنها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله، ويعلم ذلك من تتبع مواقعها. وأما كونها أداة توكيد؛ لأنها تحقق الجواب، وتفيد أنه واقع لا محالة لكونها علقته على أمر متيقن.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آمَنُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {فَيَعْلَمُونَ:} الفاء: واقعة في جواب (أما)، (يعلمون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {الْحَقُّ:} خبره. {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْحَقُّ} التقدير:

ثابتا، أو كائنا، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و (أن) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي (يعلمون)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، وهي في الوقت نفسه جواب (أمّا) والجملة الاسمية:({أَمَّا الَّذِينَ..}.) إلخ، لا محل لها من الإعراب؛ لأنها مفرعة عما قبلها، وهي بمنزلة الاستئناف. {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ:} إعراب هذه الجملة كإعراب سابقتها، وهي معطوفة عليها لا محل لها مثلها.

ص: 86

{ماذا:} ({ما}): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. ({ذا}): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ ويجوز أن يكون: {ماذا} اسما مركبا مبنيّا على السكون في محل رفع مبتدأ، أو هو في محل نصب مفعول به مقدّم، والأول أقوى؛ لأن مفعول {أَرادَ} يحذف كما رأيت في الآية رقم [20].

{أَرادَ:} فعل ماض. {اللهَ:} فاعله. {بِهذا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه لا محل له، مقحم بين الجار والمجرور، وجملة:{أَرادَ..} . إلخ: صلة الموصول لا محل لها، وهذا على الوجه الأول في إعراب {ماذا،} أو في محل رفع خبره على الوجه الثاني فيه، أو هي جملة فعلية على الوجه الثالث في إعرابه، وعلى جميع الوجوه؛ فجملة:{ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا:} في محل نصب مقول القول. {مَثَلاً:} تمييز لاسم الإشارة، أو حال. {يُضِلُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {كَثِيراً:} مفعول به، وهو صفة لموصوف محذوف، التقدير: خلقا، أو ناسا كثيرا، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وجوز أبو البقاء اعتبارها صفة مثلا، أو حالا من لفظ الجلالة، كما جوز الاستئناف، وصوّبه ابن هشام في المغني وجملة:({يَهْدِي بِهِ كَثِيراً}):

معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {يُضِلُّ:}

فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ} {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلاَّ} حرف حصر. {الْفاسِقِينَ} مفعول به منصوب

إلخ. والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {يُضِلُّ} و ({يَهْدِي}) المستتر، والرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)}

الشرح: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ:} النقض: فك التركيب، وأصله: فك طاقات الحبل، واستعماله في إبطال العهد استعارة، حيث شبه العهد بالحبل، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو النقض على سبيل الاستعارة المكنية. {عَهْدَ اللهِ:} قيل: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود:

الأول: العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام بأن يقرّوا بربوبيته، وهو قوله تعالى:

في سورة (الأعراف) رقم [171]: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} . والعهد الثاني: خصّ به النبيين أن يبلغوا الرسالة، ويتمّوا الدين، وهو قوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [7]:{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ} . والعهد الثالث:

خصّ به العلماء من كل أمّة وهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} .

ص: 87

{مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ:} الميثاق: العهد المؤكد باليمين، والجمع: مواثيق على الأصل؛ لأنّ أصل ميثاق: موثاق، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ومثله: ميزان، وميعاد، ونحوهما.

{وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} من الإيمان بالرّسول صلى الله عليه وسلم وصلة الأرحام، وموالاة المؤمنين، وعدم التفرقة بين الرسل، والكتب في التصديق، فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل، والرحم جزء من هذا. {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالكفر، والمعاصي، والظّلم، وإثارة الفتن، والتعويق عن الإيمان، والصدّ عن سبيل الله بالتّرغيب أحيانا، وبالتّرهيب أحيانا أخرى.

{أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} حيث استبدلوا المعصية بالطاعة، والفساد بالصلاح، والعقاب بالثواب.

هذا وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: في هذه الآية دليل على أنّ الوفاء بالعهد، والتزامه، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه، فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذمّ الله تعالى من نقض عهده، وقد قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]. انتهى.

هذا وقيل في تفسير الخازن: إنّه جعل لكلّ واحد من بني آدم منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة، وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار، فذلك هو الخسران، وأيّ خسران أعظم من هذا الخسران؟! وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلاّ له منزلان:

منزل في الجنّة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله» فذلك قوله تعالى في سورة (المؤمنون)، الآية رقم [10]:{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ} . هذا؛ والآية الكريمة مذكورة في سورة (الرّعد) رقم [25].

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب بدلا من {الْفاسِقِينَ} أو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره: أذم، أو هو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين، أو هو مبتدأ خبره ما يأتي بعده.

{يَنْقُضُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {عَهْدَ:} مفعول به، وهو مضاف و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: عهدهم الله، أي معاهدتهم الله. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل:{مِنْ} زائدة. وليس بشيء. {بَعْدِ} مضاف و {مِيثاقِهِ:} مضاف إليه. والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله على اعتباره عائدا على «العهد» وفاعله مستتر فيه، أو من إضافة المصدر لفاعله على اعتباره عائدا على {اللهِ،} وجملة: {يَنْقُضُونَ..} . إلخ: صلة الموصول لا محل لها. {وَيَقْطَعُونَ:} الواو: حرف عطف. ({يَقْطَعُونَ}): فعل مضارع مرفوع وفاعل. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{أَمَرَ اللهُ بِهِ:} صلته.

{أَنْ:} حرف ناصب. {يُوصَلَ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ} ونائب الفاعل يعود إلى الموصول، وهو العائد: و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بدل من

ص: 88

الضمير بدل ظاهر من مضمر، وقيل: في محل نصب بدل من {ما} والأول أولى لقربه، وجوز أن يكون المصدر في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الوصل: وقيل: مفعول لأجله على حذف المضاف، التقدير: كراهة أن يوصل، أو التقدير: لئلا يوصل: ومثل ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته المشهورة رقم [97] وهو الشاهد رقم [48] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الوافر]

نزلتم منزل الأضياف منّا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

وجملة: ({يَقْطَعُونَ..}.) إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وجملة:({يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}): معطوفة أيضا. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُمُ:} ضمير فصل لا محل له. {الْخاسِرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، هذا ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ ثانيا، و {الْخاسِرُونَ} خبره، والجملة الاسمية هذه في محل رفع المبتدأ الأول، وعلى الوجهين فالجملة مستأنفة لا محل لها.

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}

الشرح: {كَيْفَ:} اسم استفهام المراد به التعجب من كفرهم، وذلك من قبل العباد، والمراد به التوبيخ والتقريع من جهة الله تعالى، ولذلك أتبعه بالبرهان القاطع على سفاهتهم؛ حيث كفروا به، وعبدوا من لا يستحق العبادة {وَكُنْتُمْ أَمْواتاً..}. إلخ: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين، والحياتين، وكم من موتة وحياة للإنسان؟

فقال ابن عباس، وابن مسعود-رضي الله عنهم: أي: كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا، فأحياكم؛ أي: خلقكم، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثمّ للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها؛ قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له لا حجّة عليها.

وقيل: كنتم أمواتا؛ أي نطفا في أصلاب الرجال، وأرحام النّساء، ثم نقلكم من الأرحام، فأحياكم، ثم يميتكم من هذه الحياة، ثمّ يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر، وهي الحياة التي ليس بعدها موت، فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات، انتهى. هذا؛ وقال تعالى في سورة (غافر) رقم [11]:{قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ..} . إلخ، انظر شرحها هناك، وقال تعالى في سورة الجاثية رقم [26]:{قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} .

ص: 89

{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيحاسبكم على ما تعملون، من صغير، وكبير، وانظر الآية رقم [18].

هذا؛ وقد عطف سبحانه الإحياء الأول بالفاء على «الموت» وعطف البواقي ب {ثُمَّ} لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة، والحياة الثانية كذلك تتراخى عن الموت، وكذلك الرّجوع إليه سبحانه يتراخى عن الإحياء بسبب طول يوم القيامة.

تنبيه: جاء في مغني اللّبيب ما نصّه: وتستعمل «كيف» على وجهين: أحدهما: أن تكون شرطا، فيقتضي فعلين متفقي اللفظ والمعنى غير مجزومين، نحو كيف تصنع أصنع، ولا يجوز:

كيف تجلس أذهب، باتّفاق، ولا: كيف تجلس أجلس بالجزم عند البصريين إلا قطربا لمخالفتها لأدوات الشرط بوجوب موافقة جوابها لشرطها كما مرّ، وقيل: يجوز مطلقا، وإليه ذهب قطرب، والكوفيون، وقيل: يجوز بشرط اقترانها ب «ما» قالوا: ومن ورودها شرطا قوله تعالى: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ،} وقوله تعالى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ،} وقوله: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ،} وجوابها في ذلك كله محذوف لدلالة ما قبله عليه، وهذا يشكل على إطلاقهم أنّ جوابها يجب مماثلته لشرطها.

وقد استدرك بعض المعلّقين على المغني، فقال: أجاب بعضهم بأنّه يمكن أن يقدر الجواب موافقا للشرط بأن يقدر الجواب فعل مشيئة متعلق بالفعل السابق، وهو دال عليه؛ لأن الفعل الاختياري يستلزم المشيئة، والأصل: كيف يشاء أمرا يشاء التصوير في الأرحام، كيف يشاء أمرا يشاء الإنفاق. كيف يشاء أمرا يشاء بسطه، غاية الأمر: أنّ متعلق الفعلين مختلف، وهذا جواب بعيد؛ لأنهم قالوا: لدلالة ما قبله عليه؛ لأن المتبادر: أنه دال على الجواب، وعلى دفع الإشكال، فيكون ما قبلها دالاّ على متعلق جوابها، لا على نفس جوابها، وقد علمت دفع هذا بأن الفعل الاختياري وهو الفعل الواقع قبلها يستلزم المشيئة، وهو الجواب المحذوف. انتهى.

الإعراب: {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال، عامله الفعل بعده، وصاحبه: واو الجماعة. {تَكْفُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {بِاللهِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وجملة:({كُنْتُمْ أَمْواتاً}) في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو، والضمير، و «قد» مقدّرة قبل الفعل الماضي الناقص لتقربه من الحال.

(أحياكم): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وجملة:{يُمِيتُكُمْ:} معطوفة أيضا.

{يُحْيِيكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله) والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا، فهي في محل نصب حال أيضا. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {تُرْجَعُونَ:}

فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة معطوفة على ما قبلها.

ص: 90

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ:} معناه: اخترع، وأوجد بعد العدم، وقد يقال في الإنسان:

«خَلَقَ» عند إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:[مجزوء الكامل]

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليله

هذا وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: الفرق بين خلق، وجعل الذي له مفعول واحد: أن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التضمين. هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله: وفي أصل الخلق وجهان: الأول: الإنشاء، والاختراع، والإبداع، قال الله تعالى:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} الآية رقم [17] من سورة (العنكبوت). والثاني: التقدير، يقال: خلقت الأديم للسّقاء: إذا قدّرته، قبل القطع، قال الشاعر:[الكامل]

ولأنت تفري ما خلقت، وبع

ض القوم يخلق ثمّ ولا يفري

ومعنى {لَكُمْ:} لأجلكم، ولانتفاعكم به في دنياكم، ودينكم، أما الانتفاع الدّنيوي، فظاهر، وأما الانتفاع الدّيني؛ فالنظر فيه، وما فيه من عجائب الصّنع الدّالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة، وبثوابها، وعقابها

إلخ، ولذا أوجز بعضهم القول فيه، فقال: إنه دليل على التوحيد، والاعتبار، يدلّ عليه ما قبله، وما بعده من نصب العبر:

الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء، وتسويتها. وقد استدل بهذه الآية، وما كان مثلها، كقوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} الآية رقم [13] من سورة الجاثية ومثلها كثير: أنّ أصل الأشياء الّتي ينتفع بها الإباحة؛ حتى يقوم الدّليل على الحظر، والمنع.

{ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ:} الاستواء في اللغة: الارتفاع، والعلوّ على الشّيء، قال تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [28]:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ،} وقال جل ذكره في سورة (الزخرف) رقم [13]: {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ} ويقال: استوت الشمس على رأسي، واستوت الطّير على قمة رأسي، بمعنى: علا. وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه: قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها، ولا نفسّرها، وذهب إليه كثير من الأئمّة، وهذا كما روي عن مالك-رحمه الله: أنّ رجلا سأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء، أخرجوه! وقال بعضهم: نقرؤها، ونفسّرها على ما يحتمل ظاهر اللّغة، وهذا

ص: 91

قول المشبّهة، وقال بعضهم: نقرؤها، ونتأوّلها، ونجعل حملها على ظاهرها. انتهى قرطبي بحروفه.

أقول: وهذا الأخير هو الذي يفسر بقصد إرادته ومشيئته، وهذا مذهب التأويل، والأوّل مذهب التفويض، والثاني مذهب التشبيه، ويقول أهل مذهب التأويل أيضا: استوى: استولى، كما قال الشاعر:[الرجز]

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

هذا وتفيد هذه الآية: أنّ الله تعالى خلق الأرض قبل السّماء، كذلك قوله تعالى في سورة (فصلت) رقم [11]:{ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ..} . إلخ. انظر شرحها هناك، فإنه جيد، والحمد لله! وقال في سورة (النازعات) رقم [27]:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها} فوصف خلقها، ثم قال:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وهذا قول قتادة رضي الله عنه: إنّ السّماء خلقت أولا.

وقال مجاهد، وغيره من المفسّرين: إن الله تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه، فجعله أرضا، وثار منه دخان فارتفع، فجعله سماء، فصار خلق الأرض قبل خلق السماء، ثم قصد أمره إلى السّماء، فسواهنّ سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وكانت إذ خلقها غير مدحوّة.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وقول قتادة يخرّج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو:

أنّ الله تعالى خلق أولا دخان السماء، ثم خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فسوّاها، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وقد شرحت ذلك، وفصلته في سورة (فصلت) والحمد لله!.

قال القرطبي: ذكر الله تعالى: أنّ السموات سبع، ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى في آخر سورة الطلاق:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ،} وقد اختلف فيه، فقيل:

ومن الأرض مثلهنّ في العدد؛ لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار، فتعيّن العدد، وقيل:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي: في غلظهنّ وما بينهنّ. وقيل: هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض، قال الداودي: والصّحيح الأول، وأنها سبع كالسّماوات. روى مسلم عن سعيد ابن زيد رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين» . ومن حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقّه إلاّ طوّقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة» . رواه مسلم أيضا. ومعنى: (سواهنّ): سوى سطوحهن بالإملاس، وقيل: جعلهنّ سواء، وقيل: خلقهن مستويات لا عوج فيهنّ، ولا شقوق.

{عَلِيمٌ:} من صيغ المبالغة، ومعناه: الواسع العلم؛ الذي أحاط علمه بجميع الأشياء، قال أبو حيان: وصف تعالى نفسه ب (عالم، وعليم، وعلام) وهذان للمبالغة، وقد أدخلت العرب

ص: 92

الهاء لتأكيد المبالغة في: (علاّمة) لا يجوز وصفه به تعالى، فالله هو العالم، والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم، أزليّ، واحد، قائم بذاته، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلميّة، وقالت الجهميّة: عالم بعلم قائم لا في محل، تعالى الله عن قول أهل الزيغ، والضلالات، وقد وصف الله نفسه بالعلم، فقال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ} وقال جلّ ذكره: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} وقال تعالت قدرته: {وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، لا محل لها، التقدير: يوجد في الأرض. {جَمِيعاً:} حال من {ما} . {ثُمَّ:} حرف عطف.

{اِسْتَوى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى ({الَّذِي}) أيضا، والجملة الفعلية لا محل لها معطوفة على ما قبلها، {إِلَى السَّماءِ:} متعلقان بما قبلهما.

(سوّاهن): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} أيضا، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{سَبْعَ:} مفعول به ثان على اعتبار: (سوّى) بمعنى: صيّر، قيل: بدل من الضمير المنصوب، وقيل: تمييز، وقيل: تفسير للضمير. وقال الأخفش: انتصب على الحال، وأقواها الأوّل.

({هُوَ}): ضمير منفصل مبتدأ. {بِكُلِّ:} متعلقان ب {عَلِيمٌ} بعدهما، و (كلّ): مضاف، و {شَيْءٍ:}

مضاف إليه. {عَلِيمٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية السابقة، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين، إن اعتبرتها في محل نصب حال من الفاعل المستتر؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير.

{وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)}

الشرح: لمّا امتن الله تعالى على العباد بنعمة الخلق، والإيجاد، وأنّه سخّر لهم ما في الأرض جميعا، وأخرجهم من العدم إلى الوجود؛ أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتنّ عليهم بتشريف

ص: 93

أبيهم، وتكريمه، بجعله خليفة، وإسكانه دار الكرامة، وإسجاد الملائكة تعظيما لشأنه، ولا شك: أنّ الإحسان بذلك؛ لأنه من وجوه النّعم الّتي أنعم بها عليهم. انتهى. صفوة التفاسير.

{وَإِذْ قالَ:} «إذ» و «إذا» حرفا توقيت، ف «إذ» للماضي، و «إذا» للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى، وقال المبرّد: إذا جاء «إذ» مع مستقبل، كان معناه ماضيا، نحو قوله تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ} وقوله جلّ ذكره: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ} معناه: إذ مكروا، وإذ قلت، وإذا جاء «إذا» مع الماضي؛ كان معناه مستقبلا، كقوله تعالى:{فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ،} {فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ} وقوله تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} معناه: يجيء، ويجب إضافتهما إلى الجمل ك «حيث» في المكان، وبنيتا تشبيها لهما بالموصولات، واستعملتا للتعليل، والمجازاة، ومحلهما النصب أبدا بالظرفية، فإنهما من الظروف الغير متصرفة.

{لِلْمَلائِكَةِ:} جمع: ملك. والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله: الصّلادمة، والصّلادم: الخيل الشداد، واحدها: صلدم، وقيل: هي للمبالغة كعلاّمة، ونسابة. وقال أرباب المعاني: خاطب الله الملائكة لا للمشورة، لكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات، والعبادة، والتسبيح، والتقديس، ثم ردهم إلى قيمتهم، فقال عز وجل:{اُسْجُدُوا لِآدَمَ} .

هذا؛ والملائكة: أجسام نورانية لطيفة، قادرة على التشكّل، والتمثّل بأيّة صورة أرادوا، لا يأكلون، ولا يشربون، لا يبولون، ولا يتغوطون، لا ينامون، ولا يموتون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لا يتناسلون، ولا يتناكحون، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، لا يوصفون بذكورة، ولا بأنوثة، فمن وصفهم بذكورة فسق، ومن وصفهم بأنوثة كفر، ولهم قدرة خارقة، ولا تحكم عليهم الصّورة، وهم كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، قال تعالى في سورة المدثر الآية رقم [31]:{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} يقومون بأعمال مختلفة، كلّ فيما وكل إليه من أعمال. ورؤساؤهم عشرة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ورقيب، وعتيد، ومنكر، ونكير، ورضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار. ويتشكّلون بأشكال حسنة. ومعنى لا تحكم عليهم الصورة: أنّ الملك إذا تصور بصورة ما، وسدّد إنسان سهما نحوه، أو جني عليه بجناية؛ فلا يناله شيء من الأذى، بخلاف الجنّي إذا تصور بصورة ما؛ فيجري عليه حكم الصورة بلحوق الأذى إليه. وانظر ما ذكرته في سورة (الجنّ) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{خَلِيفَةً:} يخلفني في تنفيذ أحكامي في الأرض. وأفاد كلام ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما-وجميع أهل التأويل: أن المراد آدم، عليه الصلاة والسلام، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه، وأوامره، لأنه أول رسول إلى الأرض، كما في حديث أبي ذرّ-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! أنبيّا كان مرسلا؟ قال: «نعم» . وقد كان آدم رسولا إلى ولده، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا، في كل بطن ذكر، وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، كما قال

ص: 94

تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً} رقم [1] من سورة (النساء).

وأنزل عليه تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وعاش ألف سنة، والله أعلم.

{قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها:} أي بالمعاصي، والمنكرات. {وَيَسْفِكُ الدِّماءَ:} السّفك:

الصّبّ، والإراقة، ولا يستعمل إلا في الدم، قال في المصباح: وسفك الدم: أراقه، وبابه ضرب، والمراد: يقتل، ويستحلّ. وهذا السؤال ليس اعتراضا على الله، وإنما هو على سبيل التعجب، لا على سبيل الإنكار، والاعتراض، فإن قيل: من أين عرفوا: أن هذا الخليفة، وذرّيته يفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء؟ فالجواب: إنما عرفوا ذلك بإخبار الله تعالى، أو من جهة اللّوح المحفوظ، أو قاسوا أحد الثقلين، أي: الإنس على الآخر، وهم الجنّ، فإن الله تعالى لما خلق الأرض أسكن فيها الجنّ، وأسكن في السماء الملائكة، فأفسدت الجنّ في الأرض، فبعث إليهم طائفة من الملائكة، فطردتهم إلى جزائر البحار، ورءوس الجبال، وأقاموا مكانهم.

{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي: نقول: سبحان الله، وبحمده، وهي صلاة الخلق، وبهما يرزقون، فعن أبي ذرّ-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفى الله لملائكته، أو لعباده: سبحان الله وبحمده» . رواه الإمام مسلم. والتسبيح لله أينما كان؛ فمعناه تنزيه الله، وتبرئته عن السّوء. روى طلحة بن عبيد الله-رضي الله عنه، أحد العشرة المبشرين بالجنة-، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير «سبحان الله» فقال: «هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء» . وخذ ما يلي: فعن سليمان بن يسار عن رجل من الأنصار: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال نوح لابنه: إنّي موصيك بوصيّة، وقاصرها؛ لكي لا تنساها، أوصيك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين، أمّا اللتان أوصيك بهما؛ فيستبشر الله بهما وصالح خلقه، وهما يكثران الولوج على الله، أوصيك: بلا إله إلا الله، فإنّ السموات والأرض لو كانتا حلقة قصمتهما، ولو كانتا في كفّة وزنتهما، وأوصيك: بسبحان الله وبحمده، فإنّهما صلاة الخلق، وبهما يرزق الخلق {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً}. وأمّا اللتان أنهاك عنهما، فيحتجب الله منهما وصالح خلقه: أنهاك عن الشّرك والكبر» . رواه النسائي.

{وَنُقَدِّسُ لَكَ} التقديس: التعظيم، والتطهير، والمعنى: نطهرك عن النقائص وعن كل سوء، ونصفك بما يليق بعزك، وجلالك من العلوّ، والعظمة، ونطهّر ذكرك مما نسبه إليك الملحدون. {قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد؛ التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني أجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصدّيقون، والشهداء، والصّالحون، والعبّاد، والزهّاد، والأولياء، والأبرار، والمقرّبون، والعلماء العاملون، والخاشعون، والمحبّون له تبارك وتعالى، المتّبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم.

ص: 95

وقد استدل القرطبيّ وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن ارتكاب الفواحش

إلى غير ذلك من الأمور المهمة، التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويجب أن يكون الخليفة ذكرا، حرّا، بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، مجتهدا، بصيرا، سليم الأعضاء، خبيرا بالحروب والآراء، قرشيّا على الصّحيح، ولا يشترط الهاشمي، ولا المعصوم من الخطأ، خلافا للغلاة، والروافض. مختصر ابن كثير.

{الدِّماءَ:} أصله: الدماي، لأنه جمع دم الذي أصله: دمي، فقلبت الياء همزة كما رأيت في (بناء) في الآية رقم [22]، والأصح: أن أصل المفرد دمو، فيكون الجمع: الدّماء، وقلبت الواو همزة، كما رأيت في سماء في الآية رقم [19]، وفي الصحاح: الدم أصله دمو بالتحريك.

وإنما قالوا: دمي يدمى لحال الكسرة التي قبل الياء، كما قالوا: رضي يرضى، وهو من الرضوان، قال الشاعر:[الوافر]

فلو أنّا على حجر ذبحنا

جرى الدّميان بالخبر اليقين

وبعض العرب يقول في تثنيته: دموان.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِذْ}): ظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، التقدير: اذكر، أو هو مفعول به للفعل المحذوف، وقيل: هو خبر لمبتدإ محذوف، تقديره: ابتداء خلقي إذ قال، وقيل: زائدة، وهذان الوجهان ضعيفان، وقال الجمل: والأحسن جعله منصوبا ب {قالُوا أَتَجْعَلُ} أي: قالوا ذلك القول وقت قول الله عز وجل لهم: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} لأنه أسهل الأوجه. انتهى.

نقلا عن كرخي. وهو تكلف لا داعي له، وابن هشام-رحمه الله تعالى-لم يذكر في مغني اللبيب سوى كونها ظرفا، أو كونها مفعولا به.

{قالَ:} فعل ماض. {رَبُّكَ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {خَلِيفَةً} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {جاعِلٌ:} خبرها، وفاعله مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنا» والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

{فِي الْأَرْضِ:} جار ومجرور متعلقان ب {جاعِلٌ} على أنهما مفعول به ثان له تقدّم على الأول وهو {خَلِيفَةً} .

{قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَتَجْعَلُ:} الهمزة:

حرف استفهام وتعجب. ({تَجْعَلُ}): فعل مضارع، والفاعل تقديره: أنت. {فِيها:} جار ومجرور

ص: 96

متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة {قالُوا..}. إلخ: مستأنفة لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب عن سؤال مقدر، فكأن قائلا قال: ماذا قالت الملائكة؟ قيل: {قالُوا..} . إلخ، {يُفْسِدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ} وهو العائد. {فِيها} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، وجملة:({يَسْفِكُ الدِّماءَ}): معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {وَنَحْنُ:} الواو: واو الحال. ({نَحْنُ}): ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {نُسَبِّحُ} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو فقط، وإن اعتبرتها حالا من فاعل ({تَجْعَلُ}) فالرابط: الواو، والضمير، والمعنى عليه أقوى. {بِحَمْدِكَ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {نُسَبِّحُ} أي: متلبسين بحمدك، فهي حال متداخلة.

وجملة: ({نُقَدِّسُ لَكَ}): معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، واللام زائدة، وعليه فالكاف في محل نصب مفعول به، والأصل:«نقدسك» وقيل: ليست زائدة، فهي جارة للكاف، والجار والمجرور متعلقان بالفعل ({نُقَدِّسُ}) على أنّهما في محل نصب مفعول به. {قالَ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبُّكَ}. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها.

{أَعْلَمُ:} خبر (إنّ)، واعتبره أبو البقاء اسما بمعنى: عالم، كما جوز اعتباره فعلا مضارعا، فاعله مستتر تقديره: أنا، والجملة الفعلية خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ: لا محل لها مثل جملة: {قالُوا..} . إلخ، {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ل {أَعْلَمُ} على الاعتبارين المذكورين فيه. {لا:} نافية.

{تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، أو صفة {ما} إن كانت نكرة موصوفة، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا لا تعلمونه.

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)}

الشرح: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها:} تعليم الله لآدم ذلك بإلهام علمه ضرورة، ويحتمل أن يكون ذلك بواسطة جبريل عليه السلام، قال ابن عطاء: لو لم يكشف لآدم علم تلك الأسماء؛ لكان أعجز من الملائكة في الإخبار عنها، وهذا واضح. وكنيته في الجنّة أبو محمد، وفي الأرض أبو البشر. و {آدَمَ} اسم علم أعجمي مشتق من الأدمة بمعنى السّمرة، أو من أديم الأرض، أي: من وجهها وترابها، أو من الأدمة بمعنى الألفة، قال سعيد بن جبير-رضي الله عنه: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وإنما سمي إنسانا لأنه نسي، وأصله «أأدم»

ص: 97

بهمزتين، قلبت الثانية مدّا، مجانسا لحركة الأولى، كما قلبت في إيمان، فإنّ أصله ب:«إئمان» وكما قلبت في أومن، فإنّ أصله:«أؤمن» ، {الْأَسْماءَ:} جمع: اسم، انظر اشتقاقه في البسملة.

هذا واختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علمها الله لآدم عليه السلام، فقال ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد، وابن جبير-رضي الله عنهم أجمعين-: علمه أسماء الأشياء كلها: جليلها، وحقيرها، لذا قيل: والمراد بالأسماء أسماء الأشياء، والأجناس التي خلقها، مثل: هذا فرس، وهذا بعير، وهذا باب، وهذا ثوب. وقيل: المراد بالأسماء:

اللغات، مثل العربية، والتركية، أقول: وكل ذلك صحيح، علّمه كل شيء حتى القصعة، والقصيعة، والمغرفة

إلخ، وبالجملة فقد علمه أسماء الأجناس، وعرّفه منافعها، هذا كذا، وهو يصلح لكذا، وعلمه جميع اللغات، ولقّنها بنيه؛ لكنهم تفرقوا، فحفظ بعضهم العربيّة ونسي غيرها، وبعضهم التركية ونسي غيرها

إلخ.

{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ:} عرض الأسماء، ومعلوم: أنّ من الأسماء أسماء من يعقل، وأسماء من لا يعقل، فغلب العقلاء على غيرهم، وجمعهم هذا الجمع، هذا وقرئ:(«عرضهنّ») و («عرضها») فيكون من تغليب غير العقلاء على العقلاء. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: إني لم أخلق خلقا إلا كنتم أفضل منه، وأعلم. {فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ} أي: أخبروني. هذا؛ والنبأ:

الخبر وزنا ومعنى، ويقال: النبأ أخصّ من الخبر؛ لأنّ النبأ لا يطلق إلا على كلّ ما له شأن وخطر من الأخبار، وقال الراغب: النبأ: خبر ذو فائدة، يحصل به علم، أو غلبة ظن، لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمّن هذه الأشياء الثلاثة، وحقه أن يتعرّى عن الكذب، كالمتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا؛ وقد يجيء الفعل من نبأ غير مضمن معنى أعلم، فلذلك يعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف الجر، وانظر الآية [3] من سورة التحريم.

أما صفة خلق آدم عليه السلام، فقد قال وهب بن منبه: لمّا أراد الله أن يخلق آدم؛ أوحى الله إلى الأرض: إني خالق منك خليقة، منهم من يطيعني، ومنهم من يعصيني، فمن أطاعني؛ أدخلته الجنة، ومن عصاني؛ أدخلته النار، قالت الأرض: أتخلق مني خلقا يكون للنار فيه نصيب؟ قال: نعم. فبكت الأرض، فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة، فبعث الله إليها جبريل عليه السلام ليأتيه بقبضة منها، من أحمرها، وأسودها، وأبيضها، وطيّبها، وخبيثها، فلما أتاها ليقبض منها؛ قالت: أعوذ بعزة الله الذي أرسلك إليّ أن لا تأخذ مني شيئا يكون للنار فيه نصيب، فرجع جبريل عليه السلام إلى ربّه، وقال: يا رب استعاذت بك منّي، فكرهت أن أقدم عليها. فقال الله لميكائيل عليه السلام: انطلق، فائتني بقبضة من الأرض، فلما أتاها ليقبض منها؛ قالت له مثل ما قالت لجبريل، فرجع إلى ربه، فقال له ما قالت له، فقال لعزرائيل عليه السلام: انطلق فائتني بقبضة من الأرض، فلما أتاها؛ قالت له الأرض: أعوذ بعزة الله الذي

ص: 98

أرسلك أن لا تأخذ مني شيئا، يكون للنار فيه نصيب. فقال: وأنا أعوذ بعزّته أن أعصي له أمرا، وقبض منها قبضة من جميع بقاعها: من عذبها، ومالحها، وحلوها، ومرّها، وطيّبها، وخبيثها، وصعد بها إلى السماء، فسأله ربّه، عز وجل، وهو أعلم بما صنع، فأخبره بما قالت، وبما ردّ عليها، فقال الله-عز وجل: وعزّتي، وجلالي لأخلقنّ ممّا جئت به خلقا، ولأسلطنّك على قبض أرواحهم لقلّة رحمتك، ثمّ جعل الله تلك القبضة، نصفها في الجنّة، ونصفها في النّار، ثم تركها ما شاء الله، ثمّ أخرجها، فعجنها بيده لكيلا يتكبّر إبليس عنه، فعجنها طينا لازبا، قال تعالى في سورة الصافات رقم [11]:{إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} وقال تعالى في سورة المؤمنون رقم [12]: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} فكان جسدا من طين أربعين سنة، ثمّ كان حمأ مسنونا مدّة؛ أي: طينا منتنا، قال تعالى في سورة الرحمن رقم [14]:{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ} . ثم كان جسدا ملقى على باب الجنة مدّة، فكانت الملائكة يعجبون من صفة صورته، لأنّهم لم يكونوا رأوا مثله.

وكان إبليس يمرّ عليه، ويقول: لأمر ما خلق هذا، ونظر إليه؛ فإذا هو أجوف. فقال: هذا خلق لا يتمالك، ودخل من فمه، وخرج من دبره، وقال للملائكة: إن فضّل هذا عليكم ماذا تصنعون؟ فقالوا: نطيع الله، ولا نعصيه، فقال إبليس في نفسه: لئن فضّل عليّ؛ لأعصينّه، ولئن فضّلت عليه؛ لأهلكنّه.

فلما أراد الله تعالى أن ينفخ فيه الروح؛ أمرها أن تدخل في جسده، فنظرت فرأت مدخلا ضيقا، فقالت: يا ربّ! كيف أدخل هذا الجسد، قال الله عز وجل: ادخليه كرها، وستخرجين منه كرها، فدخلت في يافوخه، فوصلت إلى عينيه، فجعل ينظر إلى سائر جسده طينا، فسارت إلى أن وصلت إلى منخريه، فعطس، فلما بلغت لسانه: قال: الحمد لله ربّ العالمين، وهي أول كلمة قالها، فناداه الله تعالى: رحمك الله يا أبا محمد! ولهذا خلقتك، ولما بلغت جوفه؛ اشتهى الطّعام، ولما بلغت الركبتين همّ ليقوم، فلم يقدر، كما قال تعالى في سورة الأنبياء رقم [37]:

{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} فلما بلغت الساقين، والقدمين، استوى قائما بشرا سويّا، لحما، ودما، وعظما، وعروقا، وعصبا، وأحشاء، وكسي لباسا من ظفر، يزداد جسده جمالا وحسنا كل يوم، وجعل في جسده تسعة أبواب: سبعة في رأسه، وهي الأذنان يسمع بهما، والعينان يبصر بهما، والمنخران يشم بهما، والفم فيه اللسان يتكلم به، والأسنان يطحن بها ما يأكله، ويجد لذة المطعومات بها، وبابين في أسفله، وهما القبل، والدبر، يخرج منهما ثفل طعامه، وشرابه، وجعل عقله في دماغه، وفكره، وصرامته في قلبه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وفرحه، وحزنه في وجهه.

فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم، وينطق بلحم، ويعرف بدم، وركب فيه الشهوة، وحجزه بالحياء.

ص: 99

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم عليه السلام على صورته، وطوله ستون ذراعا، ثمّ قال: اذهب، فسلّم على أولئك-نفر من الملائكة-فاسمع ما يحيّونك به، فإنّها تحيّتك، وتحيّة ذرّيّتك، فقال: السّلام عليكم! فقالوا: السّلام عليك، ورحمة الله! فزادوه: ورحمة الله، قال: فكلّ من يدخل الجنة على صورة آدم، وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن» . متفق عليه، قال الإمام النووي-رحمه الله تعالى-: هذه الرواية ظاهرة في أنّ الضمير في صورته عائد إلى آدم، وأنّ المراد: أنّه خلق في أول نشأته على صورته التي كان عليها في الأرض، وتوفي عليها. انتهى. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا صوّر الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنّه لا يتمالك» . أخرجه مسلم. وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسّهل، والحزن، والطّيب، والخبيث» أخرجه الترمذيّ، وأبو داود.

الإعراب: {وَعَلَّمَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. ({عَلَّمَ}): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبُّكَ} المذكور في الآية السابقة. {آدَمَ:} مفعول به أول. {الْأَسْماءَ} مفعول به ثان. {كُلَّها:} توكيد للأسماء، و «ها» في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (قال

) إلخ، فهي في محل جر مثلها، وقيل: مستأنفة لا محل لها، والعطف أقوى.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {عَرَضَهُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبُّكَ،} والهاء مفعول به.

{عَلَى الْمَلائِكَةِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، و {ثُمَّ} للتراخي.

{فَقالَ:} الفاء: حرف عطف وتعقيب. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبُّكَ} أيضا.

{أَنْبِئُونِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِأَسْماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{هؤُلاءِ:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له، و (أسماء): مضاف، و (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر بالإضافة، وجملة: (قال

) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [23]، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم صادقين فيما تقولون؛ فأنبئوني

إلخ.

{قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}

الشرح: {قالُوا:} أي: قال الملائكة. {سُبْحانَكَ:} تنزيها لك عن جميع المعايب، والنقائص، وانظر الآية رقم [30]، و (سبحان): اسم مصدر، وقيل: مصدر، مثل: غفران، وليس بشيء؛ لأن الفعل: سبّح بتشديد الباء، والمصدر: تسبيح، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا

ص: 100

منصوبا بإضمار فعله، مثل: معاذ الله، وقد أجري علما على التّسبيح بمعنى التنزيه على الشّذوذ في قول الأعشى:[السريع]

قد قلت لمّا جاءني فخره:

سبحان من علقمة الفاخر

وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار، والجهل بحقيقة الحال، لذلك جعل مفتاح التوبة بقوله تعالى حكاية عن قول يونس-على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام-:{سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} وقد نزّه الله ذاته في كثير من الآيات تنزيها يليق بجلاله، وعظمته. وجملة القول فيه: هو اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكّن؛ لأنه لا يجري بوجوه الإعراب، من رفع، وجرّ، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجئ من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء، ولم ينصرف؛ لأن في آخره زائدتين: الألف، والنون، ومعناه: التنزيه، والبراءة لله-عز وجل من كل نقص-فهو ذكر لله تعالى، لا يصلح لغيره، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [30].

والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه؛ إذ لم يجر له فعل من لفظه، وذلك مثل: قعد القرفصاء، فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها، فوقع سبحان الله مكان قولك:

تنزيها لله، وانظر الإعراب.

{لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا} أي: إنك أجلّ من أن نحيط بشيء من علمك إلا ما علّمتنا، فهو اعتراف بالعجز، والقصور، وإشعار بأنّ سؤالهم كان استفسارا، ولم يكن اعتراضا، وأنّه قد بان لهم ما قد خفي عليهم من فضل الإنسان، والحكمة في خلقه، وإظهار لشكر نعمته بما عرفهم، وكشف لهم ما اعتقل عليهم، ومراعاة للأدب بتفويض العلم كلّه إليه. انتهى. بيضاوي.

{الْعَلِيمُ:} الذي لا يخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، فهو:«فعيل» للمبالغة والتكثير في المعلومات في خلق الله تعالى. {الْحَكِيمُ} معناه: الحاكم، وبينهما مزيد المبالغة، وقال قوم:{الْحَكِيمُ:} المانع من الفساد، ومنه سمّيت حكمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرس من الجري، والذهاب في غير قصد، قال جرير:[الكامل]

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إنّي أخاف عليكم أن أغضبا

أي: امنعوهم من الفساد، هذا؛ و {الْحَكِيمُ} هو الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة، وقدم {الْعَلِيمُ} على {الْحَكِيمُ} لأنه هو المفضل به في قوله:{وَعَلَّمَ} وقوله: {لا عِلْمَ لَنا} فناسب اتصاله به، ولأن الحكمة ناشئة عن العلم، وأثر له، ولا تنس: أنهما من صيغ المبالغة.

فائدة: قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: «الله أعلم، ولا أدري» اقتداء بالملائكة، والأنبياء، والفضلاء من العلماء، ولكن قد أخبر الصّادق المصدوق: أنّ بموت العلماء يقبض العلم، فيبقى ناس جهّال يستفتون، فيفتون في رأيهم، فيضلّون، ويضلّون.

ص: 101

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتّى إذا لم يبق عالما؛ اتّخذ الناس رءوسا جهّالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا، وأضلّوا» . أخرجه البخاري. فهذا الذي عناه القرطبي، ولم يذكره، ثم ذكر ما يلي، فقال: روى النّسائيّ في المسند الصّحيح له عن ابن عمر: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ البقاع خير؟ قال: «لا أدري حتّى أسأل جبريل، فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتّى أسأل ميكائيل. فجاء، فقال: خير البقاع المساجد، وشرّها الأسواق» . وقال الحافظ المنذريّ: رواه الطبرانيّ في الكبير، وابن حبّان في صحيحه.

هذا وقد كان الكثير من العلماء يعتذرون عن الإجابة، ويقول أحدهم: لا أدري، فقد روي عن ابن عبّاس-رضي الله عنهما: أنه قال: أتريدون أن تجعلوا رقابنا جسورا تعبرون عليها إلى جهنّم؟! وقال الإمام مالك-رحمه الله تعالى-: سمعت أبا هريرة يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده: لا أدري؛ حتى يكون أصلا في أيديهم، فإذا سئل أحدهم عمّا لا يدري؛ قال: لا أدري. وذكر ابن الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. انتهى قرطبي.

أقول: في هذه الأيام كثرت الفتاوى بعلم، أو بغير علم، والرّسول صلى الله عليه وسلم يقول:«أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النّار» ، فترى بعض الجهال ينصب نفسه مفتيا، وقاضيا؛ ليضلّ الناس، ويقطع من مال هذا، ويعطي ذاك، والطّامّة الكبرى عند ما ينصب نفسه مفتيا للطّلاق، ويسلب أموال الناس بفتاواه الضّالة المضلّة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنّة، رجل قضى بغير الحقّ فعلم ذاك، فذاك في النّار، وقاض لا يعلم، فأهلك حقوق الناس، فهو في النّار، وقاض قضى بالحقّ، فذلك في الجنة» . رواه أبو داود، والترمذيّ وابن ماجة عن أبي بريدة، عن أبيه-رضي الله عنه-وهذا لفظ التّرمذيّ.

الإعراب: {قالُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {سُبْحانَكَ:} مفعول مطلق، فعله محذوف، كما رأيت، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الحاصلة منه ومن فعله المحذوف في محل نصب مقول القول، وهذا عند الخليل، وسيبويه، وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف، وهو ضعيف لا يعتدّ به. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» ، {عِلْمَ:}

اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها.

{إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدل من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء، أو هو في محل رفع بدل من {لا} وما عملت فيه؛

ص: 102

لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء، كما يجوز أن يكون بدلا من الضمير المستكنّ في الخبر المحذوف، وهو الأقوى. {عَلَّمْتَنا:} فعل وفاعل ومفعول به أول، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، وهو المفعول الثاني؛ إذ التقدير: الذي علمتنا إيّاه. هذا ويجوز اعتبار: {ما} مصدرية، فتؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر، ويجوز بالمصدر الأوجه الثلاثة المذكورة آنفا. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ:} خبران للمبتدإ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ). هذا ويجوز اعتبار الضمير توكيدا لاسم (إنّ) على المحل كما يجوز اعتباره ضمير فصل لا محل له، وعليهما ف:{الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} خبران ل (إنّ) وقيل: {الْحَكِيمُ} صفة {الْعَلِيمُ} ولا وجه له البتّة.

والجملة الاسمية: {إِنَّكَ..} . إلخ: في محل نصب مقول القول، والاستئناف ممكن بالإعراض عمّا قبلها.

{قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}

الشرح: {قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ:} وذلك لمّا ظهر عجز الملائكة. فسمّى كلّ شيء باسمه، وذكر وجه الحكمة التي خلق لأجلها، وذلك ليعلموا: أنّه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله، وعلوّ شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدّمه عليهم، وأسجدهم له، وجعلهم تلامذته، وأمرهم بأن يتعلموا منه، فحصلت له رتبة الجلال والعظمة، وفي هذا دليل على فضل العلم وأهله.

هذا؛ ولقد اختلف العلماء في هذا الباب: أيّهما أفضل: الملائكة، أم بنو آدم؟ على قولين:

فذهب قوم إلى أنّ الرسل من البشر أفضل من الرّسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة، والعوام من البشر أفضل من عوام الملائكة. وذهب آخرون إلى أنّ الملأ الأعلى أفضل.

احتج من فضل الملائكة بقوله تعالى: {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الآيتان رقم [26 - 27] من سورة (الأنبياء)، وقوله تعالى في سورة (التحريم) الآية رقم [6]:{لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ،} وفي الحديث القدسيّ: يقول الله عز وجل: «وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» . رواه البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة، عن الرسول صلى الله عليه وسلم، واحتجّ من فضل بني آدم بقوله تعالى في سورة البينة الآية رقم [7]:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ،} وقوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس به علما؛ سهّل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع

إلخ» الحديث. رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما، عن أبي الدرداء-رضي الله

ص: 103

عنه-، وبما جاء في أحاديث من أنّ الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل، والله أعلم. انتهى قرطبي بتصرف.

{فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} فيه دليل على أنّ أحدا لا يعلم الغيب؛ إلا ما أعلمه الله تعالى، كالأنبياء، والأولياء، والصدّيقين، فالمنجّمون والكهّان، وغيرهم كذبة، قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [59]:{وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ..} . إلخ، وقال تعالى في آخر سورة (لقمان):{إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ..} . إلخ.

انظر شرحهما هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا ودخول الاستفهام على النفي في {أَلَمْ} يفيد التوبيخ، والتأنيب، والتقرير.

{وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ} أي: ما تظهرون من قولكم؛ أي: {أَتَجْعَلُ فِيها..} . إلخ. {وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ:} تخفون، وتسرّون من قولكم: لا يخلق ربنا خلقا أكرم عليه منّا.

وقال ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير-رضي الله عنه: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر، والمعصية، قال ابن عطية: وجاء {تَكْتُمُونَ} للجماعة، والكاتم واحد في هذا القول دليل على تجوّز العرب، واتساعها، كما يقول لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا؛ أي: منكم فاعله، وهذا مع قصد تعنيف. هذا و «كتم» من باب نصر، وربما عدّي «كتم» على مفعولين، فيقال: كتمت زيدا الحديث، وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [42]:{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً،} والأكثر أن يتعدّى إلى الثاني بحرف الجر، قال تعالى في الآية رقم [159] الآتية:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى..} . إلخ، وتزاد «من» جوازا في المفعول الأول، فيقال: كتمت من زيد الحديث، وكتم الشيء: بالغ في كتمانه، أي في إخفائه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» . قال صاحب القاموس: والكتم محركة والكتمان بالضم: نبت يخلط بالحنّاء، ويخضّب به الشعر، ويصنع منه مداد الكتابة. انتهى. ورحم البوصيري إذ يقول:[البسيط]

فإنّ أمّارتي بالسّوء ما اتّعظت

من جهلها بنذير الشّيب والهرم

ولا أعدّت من الفعل الجميل قرى

ضيف ألمّ برأسي غير محتشم

لو كنت أعلم أنّي ما أوقّره

كتمت سرّا بدا لي منه بالكتم

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى {رَبُّكَ،} والجملة الفعلية مع مقولها مستأنفة لا محل لها، وهي بمنزلة جواب لسؤال مقدر كالتي قبلها. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو أنادي. (آدم): مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا)، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {أَنْبِئْهُمْ:} فعل أمر، وفاعله تقديره: أنت، والهاء مفعول به. {بِأَسْمائِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية

ص: 104

في محل نصب مقول القول أيضا. {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [17].

{أَنْبَأَهُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({آدَمُ})، والهاء مفعول به. {بِأَسْمائِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية على اعتبار (لمّا) حرفا، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، وعلى اعتبارها متعلقة بجوابها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({رَبُّكَ}). {أَلَمْ:}

الهمزة: حرف استفهام وتقرير. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم. {أَقُلْ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) والفاعل تقديره: أنا. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها.

{أَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره: أنا. {غَيْبَ} مفعولا به وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، هذا ويجوز اعتبار {أَعْلَمُ} اسما بمعنى عالم، فيكون خبرا مفردا ل (إنّ)، ويبقى {غَيْبَ} مفعولا به له، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول أيضا. {وَأَعْلَمُ} معطوف على ما قبله على الوجهين المعتبرين فيه، وعليه فالإضافة من إضافة «عالم» لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {تُبْدُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، وهو العائد، أو الرابط على اعتبار. {ما} نكرة موصوفة؛ إذ التقدير: أعلم الذي تبدونه. {وَما} معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها.

{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{تَكْتُمُونَ} في محل نصب خبره، والجملة:{كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} صلة (ما) أو صفتها، والعائد والرابط محذوف؛ إذ التقدير: وما كنتم تكتمونه. هذا؛ واعتبار: ({أَعْلَمُ}) بالجملتين بمعنى: عالم، فيكون ليس على بابه من التفضيل، ومثل ذلك قول الفرزدق، وهو الشاهد رقم [112] من كتابنا فتح ربّ البريّة:[الكامل]

إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول

أي: عزيزة وطويلة، وأيضا قول الشّنفرى، وهو الشاهد رقم [965] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]

وإن مدّت الأيدي إلى الزّاد لم أكن

بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاِسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)}

الشرح: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ:} السجود في الأصل تذلّل مع تطامن، وفي الشرع: وضع الجبهة [على الأرض] على قصد العبادة، والمأمور به إمّا المعنى الشّرعي؛

ص: 105

فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة سجودهم تعظيما لشأنه، أو سببا لوجوبه، كما جعلت الكعبة قبلة للصّلاة، والصّلاة لله، فمعنى «اسجدوا له» أي: إليه. وإمّا المعنى اللّغوي، وهو التواضع لآدم تحية، وتعظيما له، كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى:

{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} فلم يكن فيه وضع الجبهة بالأرض، إنّما كان الانحناء، فلمّا جاء الإسلام؛ أبطل ذلك بالسّلام. انتهى جمل نقلا من تفسير الخطيب.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: وهذا السجود المنهيّ عنه قد اتخذه جهال المتصوّفة عادة في سماعهم، وعند دخولهم على مشايخهم، واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال -بزعمه-يسجد للأقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه. ضلّ سعيهم، وخاب عملهم! انتهى بحروفه.

{فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ} مأخوذ من: أبلس، يبلس، إبلاسا بمعنى سكت غمّا، وأيس من رحمة الله، وخاب، وخسر، وهو من الملائكة، كذا قال عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، رضي الله عنهم-وهو اختيار أبي الحسن، وقال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل، وكان من أشرف الملائكة، وكان من أولي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد، فلمّا عصى الله؛ غضب الله عليه، فلعنه: فصار شيطانا، ولأن الأصل في الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه، ولهذا قال تعالى له:{ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} الآية رقم [12] من سورة (الأعراف)، وقوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [50]:{كانَ مِنَ الْجِنِّ} معناه: صار من الجانّ، كقوله تعالى في سورة (هود) رقم [43]:{فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .

وقيل: الاستثناء منقطع؛ لأنه لم يكن من الملائكة، بل كان من الجنّ بالنّصّ، قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: إنّ الجنّ سبط من الملائكة، خلقوا من نار، وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور. وقال ابن زيد، والحسن، وقتادة أيضا: إبليس أبو الجن، كما أنّ آدم أبو البشر، ولم يكن ملكا، واستدلوا بقوله تعالى في سورة (الكهف):{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} رقم [51] أي: عصى الله، واستكبر عن أمره تعالى، والملائكة {لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} سورة (التحريم) الآية [6]، واستدلوا بأنّه كان له ذرية بنصّ القرآن:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي} .

ولا نسل للملائكة قطعا، وعن الجاحظ: إن الجنّ والملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم؛ فهو ملك، ومن خبث منهم؛ فهو شيطان، ومن كان بين بين فهو جنّ. وهو غير مسلّم له.

{أَبى:} ماض من الإباء، وهو الامتناع، وأشدّه. وإباء الله: قضاؤه ألا يكون الأمر، أو عدم قضائه أن يكون، قال تعالى في صيغة المضارع:{وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} الآية رقم [32] من سورة (التوبة)، ويكون متعديا إذا كان بمعنى: كره، ولازما إذا كان بمعنى: امتنع، وهذا الفعل يتضمن النفي، والإيجاب؛ لأنه بمعنى: لا يقبل إلا

إلخ،

ص: 106

هذا: وأبى، يأبى من الباب الثّالث شاذّ؛ لأنه لم يكن عينه أو لامه حرفا من حروف الحلق، ولم يجئ منه إلاّ قلى، يقلى، وغسى، يغسى، وجبى، يجبى، وعسى، يعسى. والّذي حمل إبليس على عدم السجود لآدم هو الكبر، والحسد، فدليل كبره قوله تعالى حكاية عن قوله في سورة (الأعراف) رقم [12]:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ،} وحسده لمّا رأى الملائكة سجدت لآدم تعظيما، وإكراما؛ حسده على هذه المنزلة الرفيعة، والمكانة العالية؛ لذا كان مبدأ العصيان هو الكبر، والحسد، فليحذر المسلم من هاتين الخصلتين الذّميمتين اللّتين سببتا لإبليس الطرد من رحمة الله! وخذ ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد؛ اعتزل الشّيطان يبكي، ويقول: يا ويلتي أمر ابن آدم بالسّجود، فسجد، فله الجنّة، وأمرت بالسّجود، فأبيت، فلي النّار» . أخرجه مسلم.

هذا وقد قال عبد الوهاب النّجار-رحمه الله تعالى-في كتابه (قصص الأنبياء): هل آدم هذا هو أبو البشر ولم يكن أحد من قبله من جنسه؟ والجواب: أن العقل لا يجعل من المحال أن يكون الله خلق آدم غير آدم هذا، ولكن الله تعالى لم يذكر سوى آدم الّذي نعرفه أبا البشر، فالقول بوجود غيره مجازفة بلا برهان، وقد وجد من البشر في الأزمان الغابرة والحاضرة من يدّعون:

أن عمران بلادهم أقدم من خلق آدم، كأهل الهند، وقد كانوا في الزمان السابق يدّعون أنّ آدم كان عبدا من عبيدهم هرب إلى الغرب، وجاء بأولاده، وإلى هذا يشير المعرّي بقوله:[الوافر]

تقول الهند آدم كان قنّا

لنا فسعى إليه مخبّبوه

وإلى القول بوجود أوادم سوى آدم يشير بقوله: [الخفيف]

جائز أن يكون آدم هذا

قبله آدم على إثر آدم

وقوله: [الطويل]

وما آدم في مذهب العقل واحدا

ولكنّه عند القياس أوادم

وهناك فريق من الناس يرجّح: أنه ليس أوّل نوعه، ويستأنسون لذلك بقول الملائكة:

{أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ،} ويقول: إنّ الملائكة لم يقولوا ذلك إلا لرؤيتهم من تقدّموا قبل آدم من الخلق الذين على صورته قد فعلوا ذلك، وأنّ آدم عليه السلام إنما كان خليفة عن بشر كانوا من جنسه، وبادوا. وكل هذه الأقوال لا تستند إلى نصّ قطعي الثبوت والدلالة.

انتهى بحروفه.

بعد هذا لقد علمت نقلا، وعقلا، وواقعيّا: أن الله خلق كلّ مخلوق من أبوين بطريق التزاوج، إلا آدم-على نبينا وحبيبنا وعليه ألف صلاة وسلام-فقد خلقه الله بيده من طين، ثم

ص: 107

نفخ فيه من روحه، فآدم لم يخلق من أبوين، إنّما نموذجا فردا، كما صرّحت الآيات القرآنية بذلك، وقد صرحت أيضا أنّه أبو البشر. قال تعالى في أول سورة (النّساء):{يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ..} . إلخ، وقال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [189]:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها..} . إلخ، وقال في ثلاث آيات من سورة (الأعراف) أيضا:{يا بَنِي آدَمَ،} وفي حديث الشّفاعة المرويّ في الصّحيحين: «أن الناس يأتون لآدم فيقولون له: يا آدم أنت أبو البشر

».

هذا وما قاله داروين من أنّ أصل البشر بدأ بجرثومة صغيرة ظهرت على سطح الماء، ثم تحولت إلى حيوان صغير، ثم تدرّج هذا الحيوان فأصبح ضفدعا، فسمكة، فقردا، ثمّ ترقى هذا القرد، وتمدّن، فصار إنسانا، فالإنسان بنظره قرد متمدّن. وهذه النّظرية تناقض المنقول، والمعقول، والواقع، فليكن داروين وأتباعه المقتنعون بنظريته المتحمّسون لها القردة، وأولاد القردة، أما نحن المؤمنون بالقرآن، والمصدّقون بما جاءت به الرّسل الكرام؛ فلا نرضى إلا أن نكون من نسل آدم عليه السلام، قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [70]:{وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ..} . إلخ، وقال تعالى في سورة (التّين) رقم [4]:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ،} وإذا كانت نظرية داروين صحيحة؛ فلماذا لم يتطوّر سائر القردة، ويتمدّنوا، ونحن نعيش في عصر التطوّر، والتمدّن؟!.

هذا وإذا عرفنا أن داروين يهوديّ الأصل، وأنه دهريّ ملحد، يعتقد بألا خالق لهذا الوجود، ولا صانع لهذا العالم، فهو كافر بكلّ القيم الرّوحية؛ الّتي جاءت بها الشرائع السّماوية؛ إذا عرفنا هذا؛ نضرب به، وبنظريته، وبأتباعه عرض الحائط، هذا؛ وقال المرحوم عبد الوهاب النّجار بعد أن ناقش النظرية في كتابه (قصص الأنبياء): أقول: كلّما فكرت في ذلك جزمت بأنّ ذلك محال، وقطعت بأن القرد لا بدّ أن يبقى قردا مدى الدّهر، وأنّ القردة لا تلد إلا قردة. انتهى.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف، ({إِذْ}): معطوفة على مثلها في الآية رقم [30].

{قُلْنا:} فعل وفاعل. {لِلْمَلائِكَةِ:} متعلقان بما قبلهما. {اُسْجُدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

{لِآدَمَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة، وجملة:{قُلْنا..} . إلخ: في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها.

{فَسَجَدُوا:} الفاء: حرف عطف. (سجدوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {قُلْنا} فهي في محل جرّ مثلها.

{إِلاّ:} أداة استثناء. {إِبْلِيسَ:} مستثنى متّصل، أو منقطع، انظر شرح المفردات.

{أَبى:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذّر، والفاعل يعود إلى {إِبْلِيسَ،}

ص: 108

والجملة الفعلية في محل نصب حال من {إِبْلِيسَ} والرابط الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها، وجملة:({اِسْتَكْبَرَ}) معطوفة عليها، وهي في محل نصب مثلها. ({كانَ}): فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {إِبْلِيسَ} أيضا. {مِنَ الْكافِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر كان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا.

{وَقُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ (35)}

الشرح: {وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أي: اتخذها مأوى، ومنزلا، وليس معناه الاستقرار، والثبوت؛ لأنه لم يقل: أسكنتك الجنّة؛ لأنه خلق لعمارة الأرض، ولمّا أسكن الله آدم في الجنّة؛ بقي وحده، وليس معه من يستأنس به، ويجالسه، فألقى الله عليه النوم، ثم أخذ ضلعا من أضلاع جنبه الأيسر، وهو الأقصر، فخلق منه زوجته حوّاء، ووضع مكان الضّلع لحما من غير أن يحسّ بذلك، ولم يجد ألما، ولو وجد؛ لما عطف رجل على امرأة قطّ. وسمّيت: حواء؛ لأنها خلقت من حيّ، فلمّا استيقظ من نومه، ورآها جالسة كأحسن ما خلق الله تعالى، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا زوجتك حوّاء، قال: ولماذا خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ، وأسكن إليك.

وفي القرطبيّ: أنّ الملائكة قالوا له: أتحبّها يا آدم؟! قال: نعم! فقالوا لحواء: أتحبينه؟ قالت: لا! وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبّه لها. قالوا: فلو صدقت المرأة في حبّها لزوجها؛ لصدقت حوّاء، وقال العلماء: ولهذا كانت المرأة عوجاء مهما تعلّمت، وتثقّفت؛ لأنها خلقت من أعوج وهو الضّلع، وخذ ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنّساء، فإنّ المرأة خلقت من ضلع، وإنّ أعوج شيء في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه؛ كسرته، وإن تركته؛ لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنّساء» . رواه البخاريّ، ومسلم، وغيرهما، وفي رواية لمسلم وحده:

«إنّ المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمعت بها؛ وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها؛ كسرتها، وكسرها طلاقها» . ورحم الله من قال: [الطويل]

هي الضّلع العوجاء لست تقيمها

ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها

أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى

أليس عجيبا ضعفها واقتدارها

هذا وهناك من يتبجّح، ويقول: إنّ الله خلق حواء بدون واسطة، وهذا يعني: أنّ الله خلقها من تراب، كما خلق آدم، ولذا فهم يقدّرون مضافا محذوفا، فيقولون: الأصل: منها أي: من البشر، وذلك في قوله تعالى في كثير من الآيات:({خَلَقَ مِنْها زَوْجَها}).

ص: 109

{وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما:} الرّغد: العيش الدّارّ الهنيّ؛ الّذي لا عناء فيه.

قال الشاعر: [الرمل]

بينما المرء تراه ناعما

يأمن الأحداث في عيش رغد

ورغد العيش: من باب: ظرف، فهو راغد، وهو في رغد من العيش، أي: في رزق واسع، وأرغد القوم: أخصبوا. و (حيث) ظرف مكان اتفاقا، وقد ترد للزّمان، قال الأخفش: وبه قيل في قول طرفة بن العبد: [المديد]

للفتى عقل يعيش به

حيث تهدي ساقه قدمه

أي: في زمن هدايته، وتحتمل المكان أيضا، وفيها ستّ لغات، بالياء مع الضم والفتح والكسر، وبالواو مع الضم، والفتح، والكسر، وهي: حيث، وحيث، وحيث، وحوث، وحوث، وحوث، وانظر مبحثها وشواهدها في كتابنا فتح القريب المجيب.

{وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ:} لقد اختلف في تعيين هذه الشجرة اختلافا كبيرا، قال العلامة أبو جعفر بن جرير-رحمه الله تعالى-: والصّواب في ذلك أن يقال: إنّ الله تعالى نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنّة، دون سائر أشجارها، فأكلوا منها، ولا علم عندنا بأيّ شجرة كانت تدل على التّعيين؛ لأنّ الله تعالى لم يضع دليلا على ذلك في القرآن، ولا ورد في السنة الصّحيحة بيان له، وقد قيل: كانت شجرة البرّ. وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التّين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم-إذا علم-لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل؛ لم يضره جهله، والله أعلم. مختصر ابن كثير. هذا ولقد نهى الله عن قرب هذه الشجرة؛ لأنه أبلغ في النهي عن الأكل، كما في قوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها} الآية رقم [186] الآتية، انظر شرحها هناك؛ فإنه جيد، والحمد لله!.

هذا ويقال: إنّ أول من أكل من الشجرة حوّاء بإغواء إبليس إيّاها، وإن أول كلامه كان معها؛ لأنّها وسواس المخدّة، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء، فقال: ما منعتما من هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد، لأنّه علم منهما: أنهما كانا يحبان الخلد، فأتاهما من حيث أحبّا، فلما قالت حواء لآدم؛ أنكر عليها، وذكر العهد، فألحّ على حواء، وألحّت حواء على آدم إلى أن قالت: أنا آكل قبلك حتى إذا أصابني شيء؛ سلمت أنت، فأكلت، فلم يضرّها، فأتت آدم، فقالت: كل فإني أكلت فلم يضرّني، فأكل، فبدت لهما سوآتهما، وحصلا في حكم الذنب لقوله تعالى:{وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} فجمعهما في النّهي، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتّى وجد المنهي عنه منهما جميعا، هذا وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم؛ لرجح حلمه» . وقد قال الله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} سورة (طه) رقم [115].

ص: 110

الإعراب: ({قُلْنا}): فعل، وفاعل. ({يا}): أداة نداء. ({آدَمُ}): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب بأداة النداء. {اُسْكُنْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَنْتَ:} ضمير منفصل في محل رفع توكيد للضمير المستتر ب {اُسْكُنْ،} {وَزَوْجُكَ:} معطوف على الضمير المستتر، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْجَنَّةَ:} مفعول به، وانظر إعراب {هذِهِ الْقَرْيَةَ} في الآية رقم [58] الآتية. (كلا): فعل أمر مبني على حذف النون، والألف فاعله. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وهناك محذوف؛ إذ التقدير: كلا من ثمرها، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. {رَغَداً:} صفة مفعول مطلق؛ إذ التقدير: كلوا أكلا رغدا، ويمكن اعتباره نائب مفعول مطلق، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال، تقديره: كلا مستطيبين، متهنئين. {حَيْثُ:} ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب متعلق بالفعل ({كُلا})، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون بدلا من {الْجَنَّةَ} فيكون {حَيْثُ} مفعولا به؛ لأن {الْجَنَّةَ} مفعول به وليس بظرف. {شِئْتُما:} فعل، وفاعل، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَقْرَبا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله. {هذِهِ:}

اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به، والهاء حرف تنبيه لا محل له.

{الشَّجَرَةَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {فَتَكُونا:} الفاء: للسببية، (تكونا): فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد الفاء السببية، وعلامة نصبه حذف النون، وألف الاثنين اسمه. {مِنَ الظّالِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (تكونا)، و «أن» المضمرة بعد الفاء، والفعل (تكونا) في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق؛ إذ التقدير:

لا يكن منكما قرب من الشجرة، فظلم لنفسيكما. هذا؛ وجوز أن تكون الفاء عاطفة، وأنّ الفعل مجزوم بسبب العطف على النّهي، والأول أقوى معنى، وأتمّ سبكا. بعد هذا فالآية كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:({قُلْنا..}.) إلخ: معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة. هذا؛ والآية مذكورة برقم [19] من سورة (الأعراف) انظر شرحها هناك، ففيه كبير فائدة.

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)}

الشرح: {فَأَزَلَّهُمَا} ويقرأ: («أزالهما») وهما بمعنى: أذهبهما، وأبعدهما، وصرفهما عمّا كانا عليه من الطاعة إلى المعصية، يقال منه: أزللته، فزلّ، قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [155]:{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا} وقيل: إن معنى أزلهما من: زلّ عن المكان:

إذا تنحّى، قال امرؤ القيس في معلقته رقم [65]:[الطويل]

ص: 111

كميت يزلّ اللّبد عن حال متنه

كما زلّت الصّفواء بالمتنزّل

يزلّ الغلام الخفّ عن صهواته

ويلوي بأثواب العنيف المثقّل

{عَنْها} عن الجنّة. {فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ} أي: من نعيم الجنة، وسرورها، ولم يقصد إبليس لعنه الله إخراجه من الجنة فقط، وإنما أراد إسقاطه من مرتبته، وإبعاده من رحمة الله تعالى، كما أبعد هو، وطرد، فلم يدرك طرده، بل ازداد سخنة عين، وغيظ نفس، وخيبة ظنّ، قال الله تعالى في سورة (طه) رقم [122]:{ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره، وكم بين الخليفة والجار من فرق! ونسب الإخراج إلى إبليس؛ لأنه كان بسببه وإغوائه.

واختلف في كيفية دخول إبليس الجنّة، ووسوسته لآدم وحواء، فقال ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم-وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [21]:{وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ} وكان قد رآهما على باب الجنّة؛ لأنّهما كانا يخرجان منها، وكان إبليس بقرب الباب، فوسوس لهما. والمقاسمة: ظاهر المشافهة، وقال بعضهم، وذكر عبد الرزاق عن وهب بن منبه: إنه دخل الجنة في فم الحيّة، وذلك أنّ إبليس لعنه الله تعالى. أراد أن يدخل الجنّة، فمنعه الخزنة، فأتى الحيّة وكانت صديقة لإبليس، وكانت من أحسن الدوابّ، لها أربع قوائم كقوائم البعير، فسألها أن تدخله في فمها، فأدخلته، ومرّت به على الخزنة، وهم لا يعلمون، وكان ذلك لأنه طرد من الجنّة حينما عصى الله، وأبى أن يسجد لآدم، فقال الله له:{اُخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً} الآية رقم [18] من سورة (الأعراف).

فلما دخل؛ أخذ يوسوس لهما وذلك: أنّ آدم لمّا دخل الجنة، ورأى ما فيها من النعيم؛ قال: لو أن خلدا!، فاغتنم إبليس ذلك منه، وأتاه من قبل الخلد، وقال لهما:{ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ} رقم [20] من سورة (الأعراف). وقيل: لما دخل الجنّة، وقف على آدم، وحواء، وهما لا يعلمان: أنّه إبليس، فبكى، وناح نياحة أحزنهما، وهو أوّل نائح، فقالا: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما؛ لأنكما تموتان، فتفارقان ما أنتما فيه من النّعمة، فوقع ذلك في أنفسهما، واغتمّا، ومضى إبليس، ثمّ أتاهما بعد ذلك. وقال:{يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى} سورة (طه) رقم [120]، فأبى أن يقبل منه، ف {وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ} فاغترّا، وما ظنّا: أنّ أحدا يحلف بالله كذبا، فبادرت حواء إلى الشّجرة، فأكلت منها، ثم ناولت آدم، فأكل منها، قال إبراهيم بن أدهم-رحمه الله تعالى-:«أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا» .

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: «قال الله تعالى: يا آدم! ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشّجرة؟ قال: بلى وعزّتك! ولكن ما ظننت أنّ أحدا يحلف بك كذبا، قال: فبعزتي

ص: 112

لأهبطنّك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش فيها إلا نكدا! فأهبط من الجنّة، وعلّم صنعة الحديد، وخلق الله ثورا، وبقرة، وقال له: احرث، فحرث، وزرع، وسقى؛ حتّى إذا بلغ، واشتدّ؛ حصده، ثم درسه، ثم ذرّاه، ثم طحنه، ثمّ عجنه، وخبزه، ثمّ أكله، فلم يصل إلى حلقه حتّى بلغ منه الجهد».

وفي رواية أخرى عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ الله تعالى قال: يا آدم! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب زينته لي حواء، قال: فإنّي قد أعقبتها ألا تحمل إلا كرها، ولا تضع إلا كرها، ودميتها في الشهر مرّتين، فرنت حواء عند ذلك، فقيل: عليك الرنّة، وعلى بناتك. والرنّة: الصّوت، فلما أكلا من الشجرة؛ تساقطت عنهما ثيابهما، وبدت لهما سوآتهما، وهو صريح قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [22]، وفي سورة (طه) [121]:{فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} .

{وَقُلْنَا اهْبِطُوا:} الهبوط: النزول من أعلى إلى أسفل، والخطاب لآدم، وحواء، والحيّة، وإبليس، وفي سورة (الأعراف) رقم [24] مثله، وفيها رقم [13]:{فَاهْبِطْ مِنْها} على أنه خطاب لإبليس وحده، وفي سورة (طه) رقم [123]:{اِهْبِطا مِنْها جَمِيعاً} على أنه خطاب لآدم وحواء، أو لآدم وإبليس، فأهبط آدم بسرنديب من الهند بجبل يقال له: بوذ، ومعه ريح الجنّة، فعلق بشجرها، وأوديتها، فامتلأ ما هنالك طيبا، فمن ثم يؤتى بالطّيب من هناك، وهو من ريح آدم عليه السلام، وفي البخاريّ عن أبي هريرة-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا» . وأهبطت حواء بجدّة، وإبليس بالأبلّة، والحيّة سجستان وهي أكثر بلاد الله حيّات، ولولا العربد الذي يأكلها ويفني كثيرا منها، لأخليت سجستان من أجل الحيّات، ذكره أبو الحسن المسعودي. انتهى قرطبي. قال الجوهري: والعربدّ: حية تنفخ، ولا تؤذي، وزاد صاحب القاموس: أو حية حمراء خبيثة.

{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ:} {عَدُوٌّ} ضدّ صديق، وهو على وزن فعول بمعنى فاعل، مثل:

صبور، وشكور، وما كان على هذا الوزن يستوي فيه المذكر، والمؤنث، والمفرد، والمثنّى، والجمع؛ إلا لفظا واحدا جاء نادرا، قالوا: هذه عدوة الله. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} الآية رقم [6] من سورة (فاطر)، فقد عبّر عنه به عن مفرد، وقال تعالى حكاية عن قول إبراهيم-على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام-:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} الآية رقم [77] من سورة (الشعراء)، فقد عبّر به عن جمع، ومثل ذلك: صديق، أي في إتيانه بلفظ واحد للمفرد، والمثنّى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وجمع عدو: أعداء، وأعاد، وعداة، وعدى، وقيل: جمع أعداء، فيكون جمع الجمع، وفي القاموس المحيط: والعدا بالضم، والكسر: اسم الجمع. هذا وسمي العدو: عدوّا؛ لعدوه عليك عند أول فرصة تسنح له للإيقاع

ص: 113

بك، والقضاء عليك كما يسمّى الصديق صديقا؛ لصدقه فيما يدعيه لك من الألفة، والمودة، والمحبّة.

هذا؛ والحكمة من إهباط آدم عليه السلام إلى الأرض ما كان قدّره في الأزل، وهي نشر نسله فيها؛ ليكلفهم، ويمتحنهم، ويرتّب على ذلك ثوابهم، وعقابهم الأخرويّ؛ إذ الجنّة ليست بدار تكليف، وكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنّة، ولله أن يفعل ما يشاء، وقد قال الله للملائكة حين توجهت إرادته لخلق آدم:{إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وهذه منقبة عظيمة، وفضيلة كريمة شريفة. هذا فقد روي: أنّ روح موسى التقت مع روح آدم عليهما السلام، فقال موسى: يا آدم! أكلت من الشجرة حتّى سبّبت لذريتك العناء، والشقاء! فقال آدم: يا موسى! أنت رسول الله، وكليمه، تلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني بآلاف السّنين؟ فحجّ آدم موسى؛ أي: غلبه بالحجّة.

هذا ويسأل: آدم معصوم، فكيف يخالف النّهي؟! وأجيب بوجوه، منها: أنه اعتقد أن النّهي للتنزيه، لا للتّحريم، ومنها: أنّه نسي النّهي، وهو صريح قوله تعالى في سورة (طه) رقم [115]:

{فَنَسِيَ} ومنها: أنه ظنّ نسخه بسبب مقاسمة إبليس له: أنه من النّاصحين، وهو صريح قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [21]:{وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ} فاعتقد: أنه لا يحلف أحد بالله كذبا. وقد اختلف: هل كان ذلك من آدم قبل النبوة، أو بعدها؟ والظاهر: أنه أعطي النبوة في الأرض. وإلى الذين يكدسون الذنوب والمعاصي، ويؤملون الآمال العراض في دخول جنّة عرضها الأرض والسموات، اذكر قول القائل:[الكامل]

تضع الذّنوب على الذّنوب وترتجي

درج الجنان وطيب عيش العابد

ونسيت أنّ الله أخرج آدما

منها إلى الدّنيا بذنب واحد

هذا؛ وقال ابن المنير-رحمه الله تعالى-: مقتضاه تأويل الآي. ومشعر ظاهرها بعدم وقوع الصّغائر من الأنبياء، تنزيها لهم عنها. وعلى أن تجويز الصغائر عليهم قد قال به طوائف من أهل السنة، وفي طيّ وقوعها ألطاف، وزيادة في الالتجاء إلى الله تعالى، والتواضع له، والإشفاق إلى الخطّائين، والدعاء لهم بالتوبة والمغفرة، كما نقل عن داود-على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام: أنه كان بعد ابتلاء الله له يدعو للخطّاءين كثيرا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [106] من سورة (النساء)، وفي الآية رقم [43] من سورة (التوبة)، والآية رقم [68] من سورة (الأنفال).

{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ:} موضع استقرار، وقال السدي: مستقر يعني: القبور، وقوله تعالى:{جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً} يحتمل المعنيين، والله أعلم، ومنه سمّيت متعة النكاح؛

ص: 114

لأنها تمتّع به، انظر الآية رقم [235] الآتية، وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه:[الطويل]

وقفت على قبر غريب بقفرة

متاع قليل من حبيب مفارق

هذا واختلف في الحين، فقال قوم: إلى الموت، هذا قول من يقول: المستقر: هو المقام في الدنيا. وقيل: إلى قيام السّاعة، وهذا قول من يقول: المستقر هو في القبور. وقال الربيع: ({إِلى حِينٍ}): إلى أجل، والحين: الوقت البعيد، وربما أدخلوا عليه التاء، قال أبو وجرة:[الكامل]

العاطفون تحين ما من عاطف

والمطعمون زمان أين المطعم؟

والحين: المدّة، ومنه قوله تعالى:{هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} والحين: الساعة. قال تعالى في سورة (الزمر) رقم [58]: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ،} وقال ابن عرفة: الحين:

القطعة من الدّهر، كالساعة، فما فوقها، وقوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [54]:{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّى حِينٍ} أي: حتى تفنى آجالهم. وقوله تعالى في سورة (إبراهيم) -على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام-رقم [25]: {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها؛} أي: كل سنة، وقيل: بل كل ستة أشهر، وقيل: بل غدوة وعشيّا، وقال الأزهريّ: الحين: اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها، طالت، أو قصرت، والمعنى: أنه ينتفع بها في كلّ وقت، ولا ينقطع نفعها البتة. قال:

والحين: يوم القيامة، والحين: الغدوة، والعشية، قال الله تعالى في سورة (الروم) رقم [17]:

{فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ويقال: عاملته محاينة من الحين، وأحينت بالمكان.

إذا أقمت فيه حينا، وحان حين كذا؛ أي: قرب، قالت بثينة:[الطويل]

وإنّ سلويّ عن جميل لساعة

من الدّهر ما حانت ولا حان حينها

وقال ابن العربي، والفراء: الحين حينان: مجهول، ومعلوم، فالحين المجهول لا يتعلق به حكم، والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام، ويرتبط به التكليف، وأكثر المعلوم سنة.

انتهى قرطبي بتصرف. هذا وجمع الحين: أحيان، وجمع الجمع: أحايين، والحين بفتح الحاء:

الهلاك، والموت.

وأخيرا أفاد قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} وقوع العداوة بين آدم وذريته، وبين إبليس والحية، أما عداوة إبليس فقد ذكرها الله تعالى في كثير من الآيات القرآنية؛ ولم يذكر عداوة الحية لذريّة آدم، والثابت: أنها لعنت كما لعن إبليس، وردّت قوائمها في جوفها، وجعلت العداوة بينها وبين آدم وذريته إلى يوم القيامة، وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم عداوتها في أحاديثه الشريفة الصحيحة؛ لذا أمر بقتلها. وخذ ما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ-يعني: الحيّات-ومن ترك قتل شيء منهن خيفة؛ فليس منا» ، رواه

ص: 115

أبو داود، وابن حبّان. وعن ابن عبّاس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الحيات مخافة ظلمهن؛ فليس منا، ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ» . رواه أبو داود. وعن أبي ليلى رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن جنان البيوت، فقال:«إذا رأيتم منهنّ شيئا في مساكنكم، فقولوا: أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم نوح، أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم سليمان أن لا تؤذونا، فإن عدن؛ فاقتلوهنّ» رواه أبو داود، والترمذي، والنّسائيّ.

وعن أبي لبابة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن قتل الجنّان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين، فإنهما اللّذان يخطفان البصر، ويتبعان ما في بطون النساء. رواه أبو داود. الأبتر: جنس من الحيات كأنه مقطوع الذنب، وقيل: هو صنف من الحيّات أزرق مقطوع الذنب، إذا نظرت إليه الحامل؛ ألقت حملها، قاله النضر بن شميل، والطفيتان هما: الخطّان الأسودان في ظهر الحيّة، وقد يكون الخطّان أبيضين.

وقال الربيع بن بدر رحمه الله تعالى: الجانّ من الحيات التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلها.

هي التي تمشي مستقيمة ولا تلتوي. وعن علقمة بن قيس نحوه. بعد هذا خذ الإعراب، والله الموفق للحقّ والصّواب.

الإعراب: {فَأَزَلَّهُمَا:} الفاء: حرف عطف. (أزلّهما): فعل ماض. والهاء: مفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {الشَّيْطانُ:} فاعله. {عَنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:({قُلْنَا..}.) إلخ في الآية السابقة، فهي في محل جر مثلها، وإن اعتبرتها مستأنفة فلا محل لها. {فَأَخْرَجَهُما:} الفاء: حرف عطف، (أخرجهما):

فعل ماض، والهاء مفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والفاعل يعود إلى الشيطان، تقديره هو، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة؛ إذ التقدير: فأكلا منها، فأخرجهما، فتكون الفاء في الجملة المحذوفة مفيدة للسبب.

{مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جرّ ب (من). {كانا:} فعل ماض ناقص، وألف الاثنين اسمه.

{فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان)، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ ب (في).

(قلنا): فعل وفاعل. {اِهْبِطُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:({قُلْنَا..}.) إلخ معطوفة على جملة: (أزلهما). {بَعْضُكُمْ:} مبتدأ، والكاف: في محل جر بالإضافة. {لِبَعْضٍ:} متعلقان بما بعدهما. {عَدُوٌّ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط. ({لَكُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان

ص: 116

ب {مُسْتَقَرٌّ} بعدهما الذي هو مبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، وقيل: مستأنفة، والعطف أقوى. {وَمَتاعٌ:} معطوف على ما قبله عطف مفرد على مفرد {إِلى حِينٍ:} متعلقان ب ({مَتاعٌ})، أو صفة له، التقدير: ممتدّ إلى حين.

{فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (37)}

الشرح: {فَتَلَقّى..} . إلخ، استقبلها بالأخذ، والقبول، والعمل بها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقّى الوحي؛ أي: يستقبله، ويأخذه، ويعمل به. هذا؛ وقرئ بنصب («آدم») ورفع («كلمات») والمعنى لا يتغير؛ لأنّ ما تلقيته فقد تلقّاك، وما تلقّاك فقد تلقّيته، ومثل هذه الآية بالقراءتين قوله تعالى في الآية رقم [124] الآتية:{قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} حيث يقرأ بالواو أيضا، والمعنى واحد؛ لأنّ ما نلته فقد نالك، وما نالك فقد نلته. واختلف في الكلمات التي تلقاها آدم، فقال ابن عباس، والحسن البصريّ، وسعيد بن جبير، والضّحاك، ومجاهد-رضي الله عنهم: هي قوله تعالى: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} الآية رقم [23] من سورة (الأعراف)، وقيل غير ذلك.

{فَتابَ عَلَيْهِ} أي: قبل توبته، ووفّقه للتوبة، وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم الجمعة، فعن أبي لبابة بن عبد المنذر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يوم الجمعة سيّد الأيام، وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى، ويوم الفطر، وفيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه؛ ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرّب، ولا سماء، ولا أرض، ولا رياح، ولا جبال، ولا بحر، إلا وهنّ يشفقن من يوم الجمعة» ، رواه الإمام أحمد، وغيره.

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: إن قيل: لم قال: {عَلَيْهِ} ولم يقل: عليهما، وحواء مشاركة في الذنب بإجماع، وقد قال:{وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} و {قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا؟} فالجواب: أن آدم عليه السلام لمّا خوطب في أول القصّة بقوله تعالى: {اُسْكُنْ} خصّه بالذكر في التلقّي، فلذلك كملت القصّة بذكره وحده، وأيضا: فلأن المرأة حرمة مستورة، فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله تعالى في سورة (طه) رقم [121]:{وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى} وأيضا: لما كانت المرأة تابعة للرّجل في غالب الأمر لم تذكر، ولذا طوى ذكر النّساء في كثير من الآيات القرآنية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما ذكر مشاركة حواء لآدم في الدعاء والتوبة في سورة (الأعراف)، وغيرها.

{إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} وصف الله نفسه بأنه التّواب، وتكرّر هذا اللفظ في القرآن معرّفا، ومنكرا، واسما، وفعلا، وقد يطلق على العبد أيضا: تواب، قال تعالى في الآية الآتية رقم

ص: 117

[222]

: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وقال ابن عربي: ولعلمائنا في وصف الربّ بأنه توّاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز في حق الربّ سبحانه وتعالى، فيدعى به كما في الكتاب، والسنة، ولا يتأول. وقال آخرون: هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى. وتوبة الله على العبد:

رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة، وقال آخرون: توبة الله على العبد: قبوله توبته، وذلك يحتمل أن يرجع قوله سبحانه وتعالى: قبلت توبتك، وأن يرجع إلى خلقه الإنابة، والرجوع في قلب المسيء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة. وإنما قيل لله عز وجل: تواب لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه، هذا ويقرأ بكسر همزة «إنه» وفتحها.

تنبيه: اعلم: أنه ليس لأحد قدرة على خلق التوبة؛ لأن الله تعالى هو المنفرد بخلق الأعمال، خلافا للمعتزلة، ومن قال بقولهم، وكذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه، ولا أن يعفو عنه، قال العلماء: وقد كفرت اليهود والنّصارى بهذا الأصل العظيم في الدين، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله عز وجل، وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر، أو الراهب، فيعطيه شيئا، ويحط عنه ذنوبه:{اِفْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} سورة (الأنعام) رقم [140].

وقال سعيد بن جبير-رضي الله عنه: لما أهبط الله آدم إلى الأرض لم يكن فيها شيء غير النسر في البرّ، والحوت في البحر، فكان النسر يأوي إلى الحوت، فيبيت عنده، فلما رأى النسر آدم، قال: يا حوت أهبط إلى الأرض اليوم شيء يمشي على رجليه، ويبطش بيديه، فقال الحوت: لئن كنت صادقا ما لي منه في البحر منجى، ولا لك في البر منه مخلص. انتهى كلّه من القرطبي بتصرف مني.

هذا و {كَلِماتٍ} جمع: كلمة، وفيها ثلاث لغات: الأولى: كلمة على وزن: نبقة، وهي الفصحى، ولغة أهل الحجاز، وبها نطق القرآن الكريم في آيات كثيرة، وجمعها: كلم كنبق، والثانية: كلمة على وزن سدرة، والثالثة: كلمة على وزن: تمرة، وهما لغتا تميم، وجمع الأولى: كلم، كسدر، والثانية: كلم، كتمر، وكذلك كل ما كان على وزن فعل، وفعل، ك: كبد، وكتف، فإنه يجوز فيه اللغات الثلاث، فإن كان الوسط حرف حلق، جاز فيه لغة رابعة وهي: إتباع الأول للثاني في الكسر، نحو: فخذ، وشهد، وهي في الأصل: قول مفرد، مثل:

محمد، وقام، وقعد، وفي، ولن، وقد تطلق على الجمل المفيدة، كما في قوله تعالى:{كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} إشارة إلى قوله: {اِرْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم:

«أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» : [الطويل]

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل

المراد بكلمة لبيد: الشّطر الأول بكامله، وتقول: قال فلان كلمة، والمراد بها كلام كثير، وهو شائع، ومستعمل عربيّة في القديم، والحديث، وفي القرآن، وأحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 118

الإعراب: (تلقى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {آدَمُ:} فاعله.

{مِنْ رَبِّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز تعلقهما بمحذوف حال من {كَلِماتٍ؛} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا

إلخ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كَلِماتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:(تلقى) مستأنفة لا محل لها. (تاب): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبِّهِ،} {عَلَيْهِ} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها. {إِنَّهُ:}

حرف مشبه بالفعل والهاء اسمها، {هُوَ:} ضمير فصل لا محل له، أو هو توكيد لاسم (إنّ)، {التَّوّابُ:} خبر أول ل (إنّ). {الرَّحِيمُ:} خبر ثان، هذا وإن اعتبرت الضمير مبتدأ؛ ف {التَّوّابُ} و {الرَّحِيمُ} يكونان خبرين له، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، مستأنفة لا محل لها. هذا؛ ويقرأ بفتح همزة («إنّ») وعليه فهي تؤول مع اسمها، وخبرها بمصدر في محل جر بلام محذوفة، التقدير: لأنه

إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (تاب). تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}

الشرح: {قُلْنَا اهْبِطُوا..} . إلخ: كرر الأمر على جهة التغليظ، وتأكيده. وقيل: كرر الأمر لما علّق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة، وبالثاني إتيان الهدى.

وقيل: الهبوط الأول من الجنّة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض، وعلى هذا يكون فيه دليل على أنّ الجنة في السماء السابعة. {فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ:} الخطاب لآدم، وحواء، وذريتهما.

{مِنِّي هُدىً:} المراد به هنا: الرسول صلى الله عليه وسلم، أو القرآن الكريم، أو المراد جميع الرسل، والكتب التي تنزل عليهم، وهو أليق بالمقام، وفي قوله تعالى:{مِنِّي} إشارة إلى أنّ أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية، والمعتزلة، وغيرهم. {فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ:} قرئ: («هديّ») وهي لغة هذيل، يقولون: هديّ، وعصيّ، ومحييّ، وأنشد النّحويون لأبي ذؤيب يرثي بنيه:[الكامل]

سبقوا هويّ وأعنقوا لهوا همو

فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع

قال النّحاس: وعلّة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه: أنّ سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها، فلما لم يجز أن تتحرك الألف، أبدلت ياء وأدغمت، ومعنى: تبع الهدى: آمن بي، وعمل بطاعتي. {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، وليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين، لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة، إلا أنه يخفّف عن

ص: 119

المطيعين، وإذا صاروا إلى رحمته؛ فكأنهم لم يخافوا، قال بعض العارفين بالله: سابق العناية لا يؤثر فيه حدوث الجناية، ولا يحطّ عن رتبة الولاية، فمخالفة آدم التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة لم تخرجه عن دار حظيرة القدس، ولم تسلبه رتبة الخلافة، بل أجزل الله له في العطية، فقال تعالى في سورة (طه):{ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} رقم [122] وقال الشاعر: [الكامل]

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد

جاءت محاسنه بألف شفيع

وقد قيل: إنّ آدم لما نزل على الأرض؛ مكث ثلاثمائة سنة، لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى، وقيل: لو أنّ دموع أهل الأرض جمعت؛ لكانت دموع داود أكثر، ولو أنّ دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت؛ لكانت دموع آدم أكثر. انتهى خازن.

هذا وأما ثيابه التي نزعت عنه، فإنها تجمعت على رءوس أصابع يديه ورجليه، فلذا كان إذا نظر إلى أظافره؛ بكى؛ لأنها من آثار الجنّة، وصارت طبيعة في بني آدم، كلّ واحد إذا استغرق في الضحك؛ فلينظر إلى أظافره؛ فيذهب ضحكه.

هذا؛ والحزن: ضد السرور، ولا يكون إلا على ماض. وحزن الرجل، وأحزنه غيره، وحزّنه أيضا، مثل سلّكه، وأسلكه، قال اليزيديّ: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بها.

الإعراب: {قُلْنَا:} فعل ماض، وفاعله. {اِهْبِطُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {جَمِيعاً:} حال من واو الجماعة، وهي حال مؤكدة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

وجملة: {قُلْنَا:} مستأنفة لا محل لها. {فَإِمّا:} الفاء: حرف استئناف وتفريع. (إما):

أصلها: (إن ما) إن: حرف شرط جازم، وما: صلة للتأكيد؛ لأنّ معنى (إن) في الأصل الشك، فزال هذا المعنى بسبب (ما) ولذا أكد الفعل بعدها بنون التوكيد. {يَأْتِيَنَّكُمْ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط، والنون حرف لا محل له، والكاف مفعول به. {مِنِّي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز أن يكونا متعلّقين بمحذوف حال من {هُدىً} كان صفة له {هُدىً:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثانية دليل عليها، وليست عينها، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَمَنْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَبِعَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره هو. {هُدايَ:}

مفعول به منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية مهملة، ولا يجوز إعمالها

ص: 120

إعمال «ليس» لأنها تكررت. {خَوْفٌ:} مبتدأ. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل خبر المبتدأ. ويجوز تعليقهما ب ({خَوْفٌ}) لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، وعليهما فالخبر محذوف، تقديره: حاصل، أو موجود. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية مهملة، أو هي صلة لتأكيد النفي. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{يَحْزَنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على سابقتها؛ التي هي في محل جزم جواب الشرط، وقد اختلف في خبر (من) الواقعة مبتدأ، فابن هشام يرجّح: أن الخبر جملة الشرط. وبعضهم يقول: هو جملة الجواب. ويرجح المعاصرون: أن الخبر إنما هو جملتا الشرط، والجواب. والجملة الاسمية:

(من تبع) في محل جزم جواب (إن) الشرطية، وهو قول سيبويه، وقال الكسائي: جملة: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جواب الشرطين جميعا.

هذا وقرأ جماعة: («فلا خوف») بفتح الفاء على اعتبار (لا) عاملة عمل «إنّ» لنفي الجنس، والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء؛ لأنّ الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع؛ لأن (لا) لا تعمل في معرفة، فاختاروا في الأول الرفع أيضا؛ ليكون الكلام من وجه واحد، ويجوز أن تكون (لا) في قولك:{فَلا خَوْفٌ} بمعنى ليس. انتهى قرطبي. أقول: وذكرت لك:

أنها إذا تكررت؛ أهملت، أي: لا تعمل عمل ليس، و (إمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب.

تنبيه: أفرد الفاعل في الفعل {تَبِعَ} وجمع الضمير في قوله: {عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} مع كونهما عائدين على (من) التي هي اسم شرط جازم، ومبتدأ، لأن الفاعل عائد على لفظه، والضمير عائد على معناه، أو تقول: إن (من) تدل على العموم، أي: أيّ شخص تبع الهدى؛ فلا خوف عليهم.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا:} أي: بقلوبهم. {وَكَذَّبُوا:} أي: بألسنتهم، والمراد: الكافرون، ويشمل المنافقين. {أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ:} جعل الكفار أصحاب النار بمعنى مالكيها بملازمتهم لها، وعدم انفكاكهم عنها، وقل مثله في أصحاب الجنة. {هُمْ فِيها خالِدُونَ:} مقيمون ماكثون لا محيد لهم عنها، ولا محيص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما أهل النار الذين هم أهلها؛ فإنّهم يموتون فيها، ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بخطاياهم، فأماتتهم إماتة؛ حتى إذا صاروا فحما؛ أذن بالشّفاعة» . رواه مسلم في كتاب الإيمان من حديث شعبة عن أبي مسلمة-رضي الله عنه، والمذكورون في آخر الحديث عصاة المسلمين، يدخلون النار، ويعذّبون على حسب

ص: 121

جرائمهم، ثم يخرجون منها حمما، ثم يدخلون الجنّة، ويكتب بين عيونهم: هؤلاء عتقاء الله من النار، بعد أن يغتسلوا بعين على باب الجنة تدعى عين الحياة وتعود إليهم أبشارهم، وجمالهم.

هذا و {أَصْحابُ} جمع: صاحب، ويكون بمعنى: المالك، كما هنا، ويكون بمعنى:

الصديق، ويجمع أيضا على: صحب، وصحاب، وصحابة، وصحبة، وصحبان، ثم يجمع أصحاب على أصاحيب أيضا، ثم يخفّف، فيقال: أصاحب. هذا؛ والصّحابي: هو من جالس النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ولو ساعة بشرط أن يكون مسلما موحّدا، فإن اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجالسه في حياته وهو غير مسلم، ثمّ أسلم بعد وفاته مثل:«كعب الأحبار» فيقال عنه: تابعي، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَفَرُوا وَكَذَّبُوا:} فعلا ماض مبنيان على الضم، والواو فاعلهما، والألف للتفريق، {بِآياتِنا:} متعلقان بأحد الفعلين السابقين على التنازع فيهما، والجملة الأولى صلة الموصول والثانية معطوفة عليها لا محل لها مثلها. و (نا) في محل جر بالإضافة. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَصْحابُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف. و {النّارِ:} مضاف إليه من إضافة جمع اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:({الَّذِينَ..}.) إلخ:

معطوفة على جملة: (من اتبع الهدى) في الآية السابقة، فهي في محل جزم مثلها؛ لأنها قسيمة لها، أي: مقابلة لها في المعنى، ودخلت الفاء في الخبر الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد، والمسامحة في الوعيد، وهذا يؤكّد اعتبار (من) اسما موصولا. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيها:} متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {أَصْحابُ النّارِ،} والعامل في الحال اسم الإشارة؛ لما فيه من معنى التشبيه، والرابط الضمير فقط، وفيها معنى التأكيد للكلام السابق، وجوز اعتبارها خبرا ثانيا ل {أُولئِكَ} والأول أقوى؛ لأن لها نظائر مثل قوله تعالى:{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً} .

{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ (40)}

الشرح: {يا بَنِي:} أصله: بنين، حذفت النون للإضافة، وهو جمع: ابن، مأخوذ من البناء؛ لأن الابن مبني أبيه، لذلك ينسب المصنوع إلى الصانع. {إِسْرائِيلَ:} هو نبيّ الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة وألف سلام، ومعناه في اللغة العربية: صفوة الله، أو عبد الله، ف «إسرا» هو العبد، أو الصفوة، و «إيل» هو الله، وفيه سبع

ص: 122

لغات قرئ بها كلها. وتميم يقولون: «إسرائين» . قال الشاعر، انظر الشاهد رقم [332] من كتابنا:

«فتح ربّ البرية» وما يتعلّق به: [الوافر]

قالت وكنت رجلا فطينا

هذا-لعمر الله-إسرائينا

فعلى ما تقدم يكون ليعقوب اسمان، وممّن له اسمان: يونس، ويسمّى: ذا النون، وإلياس، ويسمى: ذا الكفل في بعض الأقوال، وعيسى عليه السلام، يقال له: المسيح، وقد سمّاه الله:

روحا، وكلمة، وكانوا يسمّونه: أبيل الأبيلين، ذكره الجوهري في صحاحه، ونبينا صلى الله عليه وسلم له أسماء كثيرة تزيد عن المائتين، وهي مذكورة بجدران مسجده الشّريف، وبنو إسرائيل هم المنتسبون لأولاد يعقوب الاثني عشر، ويطلق عليهم الأسباط، كما في الآية [136] الآتية.

{اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ:} المراد جميع النعم التي أنعم الله بها على آبائهم، ممّا عدد عليهم في هذه السورة الكريمة: من الإنجاء من فرعون وعذابه، ومن الغرق في البحر، ومن العفو عن اتخاذ العجل، والتوبة عليهم، وتظليل الغمام في التيه، وإنزال المن والسلوى لهم فيه أيضا، وهذا من تذكير الأبناء بما أنعم الله به على الآباء، ويضاف إلى ذلك ما أنعم الله به عليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلم المبشّر به في التوراة والإنجيل، وقد هاجر آباؤهم من بلاد الشّام إلى الحجاز ليسبقوا الناس إلى الإيمان به، كما ستعرفه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} انظر ما ذكرته في الآية رقم [27]، والوفاء بعهده: القيام بطاعته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ولا يتم هذا إلا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن المنزل عليه، والعمل بما فيه، لذا قال الله لهم:{خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} رقم [63] الآتية، وقال تعالى في سورة (المائدة) رقم [12]:{وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} وقال تعالى في الآية رقم [187] من سورة (آل عمران): {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} . وقيل: هو عام في جميع أوامر الله، ونواهيه، ووصاياه، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة، وغيره، وهذا قول الجمهور من العلماء وهو الصحيح، وعهده سبحانه وتعالى الذي عهده لهم هو أن يدخلهم الجنة، ويرحمهم برحمته الواسعة. وانظر الآية رقم [51] الآتية.

تنبيه: وما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد مطلوب منّا، قال تعالى في سورة (المائدة):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ،} وقال تعالى في سورة (النحل) رقم [91]: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها} .

{وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} أي: خافوني دون غيري، والرّهب، والرّهبة: الخوف. قال تعالى في سورة (القصص) رقم [32] لموسى-عليه السلام: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ..} .

إلخ. هذا وقد خرج الأمر في الآية إلى معنى التّهديد. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 123

تنبيه: قال ابن جزي الكلبي في تفسيره: لمّا قدم الله تعالى دعوة الناس عموما، وذكر مبدأهم؛ دعا بني إسرائيل خصوصا، وهم اليهود، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب:

{سَيَقُولُ السُّفَهاءُ} الآية رقم [142] الآتية، فتارة دعاهم بالملاطفة، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتّخويف، وتارة بإقامة الحجّة عليهم، وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر عقوبتهم، التي عاقبهم بها، فذكر من النّعم عشرة أشياء:

وهي: {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ،} {بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ،} {عَفَوْنا عَنْكُمْ،} {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ} {آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً،} {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ،} {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} .

وذكر من سوء أعمالهم عشرة، وهي قوله:

{سَمِعْنا وَعَصَيْنا،} و {اِتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ،} وقولهم: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً،} و {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا،} و {لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ} و {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ،} و {تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ،} و {قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} و {وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} .

وذكر من عقوبتهم عشرة أشياء، وهي:

{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ،} و {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ،} و {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ،} و {كُونُوا قِرَدَةً،} و {فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ،} و {فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ} و {وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً} و {حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} .

وهذا كله جرى لآبائهم المتقدّمين، وخوطب به المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم متّبعون لهم، راضون بأحوالهم، وقد وبّخ الله المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم به توبيخات، وهي عشرة أيضا:

كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم به، و {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ،} و {يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ،} و {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ،} و {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ} و (حرصهم على الحياة)، وعداوتهم لجبريل عليه السلام، واتباعهم السّحر، وقولهم:{نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} وقولهم: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} . انتهى بتصرّف من حاشية الجمل.

الإعراب: ({يا}): أداة نداء تنوب مناب: أدعو، ({بَنِي}): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء، نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة. و ({بَنِي}) مضاف و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، ويقال: للعلمية، والتركيب المزجي.

{اُذْكُرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، كالجملة الندائية قبلها. {نِعْمَتِيَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء

ص: 124

ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {نِعْمَتِيَ} . {أَنْعَمْتُ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. والعائد محذوف، التقدير: التي أنعمتها. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. ({أَوْفُوا}): فعل أمر، مثل:

{اُذْكُرُوا} في إعرابه. {بِعَهْدِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ. {أُوفِ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء. والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:

أنا، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط مقدر عند الجمهور، التقدير: إن توفوا بعهدي أوف بعهدكم. {بِعَهْدِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. والكاف في محل جر بالإضافة.

{وَإِيّايَ:} الواو: حرف عطف، ({إِيّايَ}): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به مقدم لفعل محذوف، التقدير: وإياي ارهبوا. والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَارْهَبُونِ:} الفاء: قيل: إنها عاطفة على محذوف، التقدير: تنبهوا، فارهبوا. وقيل: هي زائدة. وأفاد البيضاوي: أنّها الفصيحة دالة على شرط مقدر، كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا؛ فارهبون، وإعراب (ارهبون) مثل إعراب: اذكروا، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة المدلول عليها بالكسرة في محل نصب مفعول به. والجملة الفعلية هذه مؤكدة للجملة المقدرة قبلها. وقال القرطبي: ويجوز في الكلام: «وأنا فارهبون» على الابتداء، والخبر، ويكون {فَارْهَبُونِ} الخبر على تقدير الحذف، المعنى: وأنا ربكم فارهبون. انتهى.

وبقوله قال مكي.

{وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتَّقُونِ (41)}

الشرح: {وَآمِنُوا:} أمر لبني إسرائيل الممثلين باليهود في كل مكان، وزمان. {بِما أَنْزَلْتُ:} على محمد صلى الله عليه وسلم. والمراد: القرآن الكريم. {مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ} أي: من التوراة، والإنجيل، والقرآن مصدّق؛ أي: موافق التوراة في التوحيد، وفي كثير من الأحكام، {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ:} الضمير في {بِهِ} هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم. قاله أبو العالية، وقال ابن جريج: هو عائد على القرآن؛ إذ تضمّنه قوله: {بِما أَنْزَلْتُ،} وقيل: هو عائد على التوراة؛ إذ تضمّنها قوله: {لِما مَعَكُمْ} . {وَلا تَكُونُوا..} . إلخ. والمراد أول فريق كافر، وقال:{أَوَّلَ} وقد كفر قبلهم كفار قريش الذين أنزل في بلدهم، وسمعوه قبل غيرهم، فإنما معناه: من أهل الكتاب؛ إذ هم منظور إليهم في مثل هذا؛ لأنهم حجّة مظنون بهم علم، وكذلك يراد بالأولوية في حقّهم بالنسبة لمن بعدهم من ذرّيتهم وغيرهم، فيحملون وزرهم، ووزر أتباعهم.

ص: 125

{وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً} نهاهم الله عن أن يكونوا أول من كفر، وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا؛ أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم الموجودة في التوراة شيء، وكان الأحبار يفعلون ذلك، فنهوا عنه. وقيل: المعنى: ولا تشتروا بتغيير أوامري، ونواهي، وآياتي ثمنا قليلا، والمراد:

الدنيا، والعيش الّذي هو منها، فإنه نزر لا خطر له، ولا شأن بجانب الجنة، ونعيمها الدائم؛ الذي أعدّه الله للعاملين بما يعلمون.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وهذه الآية وإن كانت نزلت ببني إسرائيل، فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير حقّ، أو إبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه-وقد تعيّن عليه-حتى يأخذ عليه أجرا؛ فقد دخل في مقتضى هذه الآية. وقد روى أبو داود-رحمه الله-عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما ممّا يبتغى به وجه الله، لا يتعلّمه إلا ليصيب به عرضا من الدّنيا؛ لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة» . عرف الجنّة: ريحها. وهو بفتح العين.

هذا واختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والعلم لهذه الآية، وما كان في معناها، فمنع ذلك الزّهري، وأصحاب الرأي، وقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم؛ لأنّ تعليمه واجب من الواجبات؛ التي يحتاج فيها إلى نية التقرّب، والإخلاص، فلا يؤخذ عليها أجرة، كالصّلاة، والصيام، وقد قال تعالى:{وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً} . وروى أبو هريرة-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! ما تقول في المعلمين؟ قال: «درهمهم حرام، وثوبهم سحت، وكلامهم رياء» . وروى عبادة بن الصّامت-رضي الله عنه-قال: علّمت ناسا من أهل الصّفّة القرآن، والكتابة، فأهدى إليّ رجل منهم قوسا، فقلت: ليست بمال، وأرمي عنها في سبيل الله! فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إن سرّك أن تطوّق بها طوقا من نار؛ فاقبلها» .

وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن: مالك، والشّافعيّ، وأحمد، وأبو ثور، وأكثر العلماء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-في حديث الرّقية:«إنّ أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» . أخرجه البخاريّ، وهو نصّ يرفع الخلاف، فينبغي أن يعوّل عليه. قال ابن المنذر: وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة، ويجوّز أن يستأجر الرّجل يكتب له لوحا، أو شعرا، أو غناء معلوما بأجر معلوم، فيجوّز الإجارة فيما هو معصية، ويبطلها فيما هو طاعة. ولا بد من القول: إنّ المعلم إذا لم يكن له دخل يكفيه لمعيشته، ومعيشة من يعول: فكيف يستطيع التّعليم، بل والتفرّغ للقيام بالشّعائر الدّينيّة، وهو بحاجة إلى لقمة العيش؟!

وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «خير الناس، وخير من يمشي على جديد الأرض المعلّمون، كلّما خلق الدّين جدّدوه. أعطوهم، ولا تستأجروهم، فتحرجوهم، فإنّ المعلّم إذا قال للصبي: قل: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال الصّبيّ: بسم الله الرحمن الرحيم، كتب الله براءة للصّبيّ، وبراءة للمعلم، وبراءة لأبويه من النّار» .

ص: 126

هذا و {أَوَّلَ} فيه مسائل:

الأولى: الصّحيح: أنّ أصله «أوأل» بوزن: أفعل، قلبت الهمزة الثانية، واوا، ثم أدغمت بما قبلها فصار أوّل، بدليل قولهم في الجمع أوائل، وقيل: أصله: ووّل بوزن فوعل، قلبت الأولى همزة، وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.

الثانية: الصحيح: أن أوّل لا يستلزم ثانيا، وإنّما معناه: ابتداء الشيء، ثمّ قد يكون له ثان، وقد لا يكون، تقول: هذا أول مال اكتسبته، وقد تكتسب بعده شيئا، وقد لا تكتسب. وقيل: إنّه يستلزم ثانيا كما أنّ الآخر يقتضي أولا، فلو قال: إن كان أوّل ولد تلدينه ذكرا؛ فأنت طالق، فولدت ذكرا ولم تلد غيره، وقع الطلاق على الأول دون الثاني.

الثالثة: ل: (أول) استعمالان: أحدهما: أن يكون صفة؛ أي: أفعل تفضيل بمعنى:

الأسبق، فيعطى هذا حكم أفعل التفضيل، من منع الصرف، وعدم تأنيثه بالتاء، ودخول من عليه، نحو: هذا أوّل هذين، ولقيته عاما أوّل. والثاني: أن يكون اسما مصروفا نحو لقيته عاما أولا، ومنه قولهم: ما له أوّل ولا آخر، قال أبو حيان رحمه الله تعالى في محفوظي: إن هذا يؤنّث بالتاء، ويصرف أيضا، فيقال: أوّلة، وآخرة بالتنوين. انتهى جمع الجوامع شرح همع الهوامع للسّيوطي، رحمه الله تعالى.

الإعراب: ({آمِنُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، {بِما:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {أَنْزَلْتُ:} فعل وفاعل. والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء أنزلته. {مُصَدِّقاً} حال من (ما) أو من الضمير العائد عليها، وأجيز اعتبار (ما) مصدرية، وهو ضعيف معنى. {لِما:} جار ومجرور متعلقان ب {مُصَدِّقاً} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة أيضا. {مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) أو بمحذوف صفتها، التقدير: للذي يوجد معكم، أو لشيء كائن معكم. والكاف في محل جر بالإضافة. هذا؛ وابن هشام رحمه الله تعالى يعتبر اللام في مغنيه زائدة، وسمّاها لام التقوية، فإذا (ما) مجرورة لفظا، منصوبة محلاّ مثل قوله:{لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ} وقوله تعالى في كثير من الآيات: {مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ،} {نَزّاعَةً لِلشَّوى،} {وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ} وأورد قول حاتم الطائي، وقيل: هو من قول قيس بن عاصم المنقري-رضي الله عنه وهذا هو الشاهد رقم [398] من كتابنا فتح القريب المجيب: [الطويل]

إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

وجملة: ({آمِنُوا..}.) إلخ: معطوفة على جملة: {اُذْكُرُوا..} . إلخ لا محل لها. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَكُونُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه

ص: 127

حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، وهو ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {أَوَّلَ:}

خبر: {تَكُونُوا} وهو مضاف و {كافِرٍ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وجملة:({لا تَشْتَرُوا}) معطوفة أيضا، وإعرابها مثلها. {بِآياتِي:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة. {وَإِيّايَ فَاتَّقُونِ:} إعراب هذا التركيب مثل إعراب: {وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ} في الآية السابقة بلا فارق.

{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}

الشرح: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ:} اللبس: الخلط، يقال: لبست عليه الأمر ألبسه: إذا مزجت بيّنه بمشكله، وحقّه بباطله، قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [9]:{وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} ومن هذا المعنى قول عليّ-رضي الله عنه-للحارث بن حوط: يا حار إنّه ملبوس عليك، إنّ الحق لا يعرف بالرّجال، اعرف الحق تعرف أهله. وقالت الخنساء-رضي الله عنها:[البسيط]

ترى الجليس يقول الحقّ تحسبه

رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا

صدّق مقالته واحذر عداوته

والبس عليه أمورا مثل ما لبسا

وروى سعيد بن جبير عن قتادة، يقول: لا تلبسوا اليهودية والنّصرانية بالإسلام، وقد علمتم:

أنّ دين الله؛ الذي لا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به الإسلام، وأنّ اليهودية والنّصرانية بدعة، وليست من الله. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما، وغيره: لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل، وهو التغيير، والتبديل. وقال أبو العالية: قالت اليهود: محمد مبعوث، ولكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حقّ، وجحدهم أنه بعث إليهم باطل. {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ:} قال ابن عباس: يعني: كتمانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفونه.

{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ:} أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم حقّ، فكفرهم به كان كفر عناد، ولم يشهد لهم الله بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، ودلّ هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم؛ وأنّه أعصى من الجاهل. انتهى. قرطبي. والآية المذكورة بحروفها ومعناها في الآية رقم [71] من (آل عمران).

هذا؛ وانظر شرح الحق في الآية رقم [26]، والكتمان في الآية رقم [33]. هذا؛ و (الباطل) ضد الحق، و (الباطل) بمعنى الفاسد، والبطلان: عبارة عن عدم الشيء، إما بعدم ذاته، أو بعدم فائدته، ونفعه. هذا و «بطل» من باب دخل، والبطل بفتحتين: الشجاع، والبطل بضم فسكون:

الباطل، والكذب، والزور، والبهتان. والبطالة: التعطّل، والتفرّغ من العمل، ويجمع باطل على أباطيل شذوذا، كما شذ: أحاديث، وأعاريض، وأفاظيع في جمع: حديث، وعريض، وفظيع.

ص: 128

هذا؛ و «مبطل» اسم فاعل من أبطل الرباعي. هذا؛ و (الباطل) في قوله تعالى في سورة (فصلت) رقم [42]: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ،} قال السدي، وقتادة: الباطل: الشيطان، لا يستطيع أن يغير في القرآن شيئا، ولا يزيد، ولا ينقص منه. وقوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [24]:{وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ} الباطل: الشرك، والبطلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا تستطيعها البطلة» أي: لا تستطيع قراءة سورة البقرة السّحرة. وانظر الآية رقم [187].

هذا والفعل {تَعْلَمُونَ} من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

لعلم عرفان وظنّ تهمه

تعدية لواحد ملتزمه

بخلافه من العلم اليقيني، فإنه ينصب مفعولين، أصلهما مبتدأ وخبر. وأيضا فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأن متعلقها الذوات دون النسب، بخلاف العلم فإن متعلقه المعاني، والنسب.

وتفصيل ذلك بأنك إذا قلت: عرفت زيدا، فالمعنى أنك عرفت ذاته، ولم ترد أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا المعنى؛ لم يتجاوز مفعولا؛ لأنّ العلم والمعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك، وإذا قلت: علمت زيدا عالما، أو قائما، لم يكن المقصود: أن العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنّما المعنى: أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَلْبِسُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِالْباطِلِ} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْحَقَّ} أي: ملتبسا بالحق. {وَتَكْتُمُوا:} معطوف على سابقه، فهو مجزوم مثله، ويحتمل أن يكون منصوبا ب «أن» مضمرة بعد واو المعية، وعلامة الجزم أو النصب حذف النون

إلخ، والواو فاعله. {الْحَقَّ:} مفعول به، وعلى نصبه؛ ف:«أن» المضمرة والفعل في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق.

التقدير: لا يكن منكم لبس للحق بالباطل، وكتمان الحق. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [22]، ومفعول {تَعْلَمُونَ} محذوف، التقدير: تعلمون أنه الحق. والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاِرْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ (43)}

الشرح: {وَأَقِيمُوا} أمر معناه الوجوب، وأصله:«أقوموا» ، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علّة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها، فصار:(أقوموا) ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها، ومعنى:({أَقِيمُوا الصَّلاةَ}): أدوها في أوقاتها، وحافظوا على طهارتها، وأتمّوا لها ركوعها،

ص: 129

وخشوعها، ومن لم يؤدّها على الوجه الأكمل، يقال عنه: صلى، ولا يقال: أقام الصلاة. هذا؛ والصّلاة في اللّغة: الدعاء، والتّضرّع، وهي في الشرع: أقوال وأفعال مخصوصة، مبتدأة بالتكبير، مختتمة بالتّسليم، ولها شروط، وأركان، ومبطلات، ومكروهات، ومندوبات مذكورة في الفقه الإسلامي. والصّلاة من العبد معناها: التّضرّع، والدّعاء، ومن الملائكة على العبد معناها: الاستغفار، وطلب الرّحمة له، ومن الله على عباده معناها: الرحمة، وإنزال البركات، وقد جمعت الأنواع الثلاثة في قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الآية رقم [56] من سورة (الأحزاب)، وانظر الآية رقم [153] الآتية.

{وَآتُوا الزَّكاةَ:} أمر يقتضي الوجوب أيضا، والإيتاء: الإعطاء. يقال: آتيته: أعطيته، قال الله تعالى حكاية عن قول المنافق في سورة (التوبة) رقم [75]:{لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} وأتيته بالقصر من غير مدّ: جئته، فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مدّ، ومنه الحديث: ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه هذا. وأصل (آتوا): «آتيوا» فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء والواو، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، فصار:(آتوا) ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو. هذا والزكاة في اللغة: التّطهير، والإصلاح، والنّماء، والمدح. يقال: زكا الزرع، والمال، يزكو: إذا كثر، وزاد، وسمّي الإخراج من المال: زكاة، وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة، قال تعالى في سورة (سبأ):{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} رقم [39]، كما يقال: زكا فلان؛ أي: طهر من دنس الجرحة، والإغفال، فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمى ما يخرج من الزكاة: أوساخ الناس، وقد قال الله تعالى في سورة (التوبة) رقم [103]:

{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} .

والزكاة في الشرع: اسم لما يخرج عن مال، أو بدن على وجه مخصوص، وهي أحد أركان الإسلام الخمسة؛ التي بني عليها الإسلام، ومن ثم يكفر جاحدها على الإطلاق، وفي القدر المجمع عليه، ويقاتل الممتنع من أدائها، وتؤخذ منه قهرا، كما فعل الصدّيق، رضي الله عنه.

وتدفع الزكاة لأشخاص معلومين، مذكورين في الآية رقم [60] من سورة (التوبة). وزكاة الفطر لا نصّ صريحا في القرآن عليها إلا ما تأوله بعض المفسرين في قوله تعالى في سورة الأعلى:

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى} وسأتحدث عنها إن شاء الله عند الكلام على الصيام، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان.

هذا وخصّ الله تبارك وتعالى الصّلاة والزّكاة بالذّكر؛ لأنّ الصلاة أفضل العبادات البدنية، وشرعت لذكر الله، والزكاة أفضل العبادات المالية، وشرعت للعطف على الفقراء، والمساكين، ومجموعهما التعظيم لأمر الله تعالى، والشّفقة على خلق الله. هذا؛ وأضيف: أنّ الزكاة قرينة

ص: 130

الصّلاة، فقد روي: أن أعرابيّا جاء إلى ابن عباس-رضي الله عنهما-فقال له: يا بن عباس أنت حبر الأمة، وترجمان القرآن، قد علّمك الله أسرار الكتاب، وفقّهك في الدين، فقل لي بربّك:

لماذا قرن الله الصلاة إلى الزكاة في القرآن في أكثر من ثلاثين آية؟ فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: ذلك لتعلم: أن الصلاة، والزكاة توأمان، لا يقبل الله إحداهما بدون الأخرى، تلك حقّ الله، وهذه حقّ الناس. رضي الله عن الصدّيق الّذي سوّى بين المرتدين، ومانعي الزكاة في القتال، والمحاربة، كما هو معلوم، ومشهور. وخذ قول أحمد شوقي رحمه الله تعالى:[الوافر]

ولم أر مثل جمع المال داء

ولا مثل البخيل به مصابا

عجبت لمعشر صلّوا وصاموا

ظواهر خشية وتقى كذابا

وتلفيهم حيال المال صمّا

إذا داعي الزّكاة بهم أهابا

لقد كتموا نصيب الله منه

كأنّ الله لم يحص النّصابا

ومن يعدل بحبّ الله شيئا

كحبّ المال ضلّ هوى وخابا

وخذ قول أبي العتاهية الصّوفي رحمه الله تعالى: [الكامل]

أقم الصّلاة لوقتها بشروطها

فمن الضّلال تفاوت الميقات

وإذا اتّسعت برزق ربّك فاجعلن

منه الأجلّ لأوجه الصّدقات

في الأقربين وفي الأباعد تارة

إنّ الزّكاة قرينة الصّلوات

هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-في غير هذا الموضع: وفي حديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فرّق بين ثلاث؛ فرق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة: من قال: أطيع الله، ولا أطيع الرسول، والله يقول: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}. ومن قال: أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة، والله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ}. ومن فرّق بين شكر الله، وشكر والديه، والله عز وجل يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» }.

أمّا (الركوع) فهو في اللغة الانحناء في الشخص، وكلّ منحن راكع، قال لبيد-رضي الله عنه:[الطويل]

أخبّر أخبار القرون الّتي مضت

أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع

وقيل: الانحناء يعمّ الركوع والسجود، ويستعار أيضا للانحطاط في المنزلة، كما في قول الأضبط بن قريع السعدي، وهو الشاهد رقم [70] من كتابنا:«فتح ربّ البرية» . والشاهد [1099] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الخفيف]

ص: 131

لا تهن الفقير علّك أن تر

كع يوما والدّهر قد رفعه

هذا؛ واختلف الناس في تخصيص الركوع بالذّكر دون ذكر بقية الأركان، فقال قوم: جعل الركوع عبارة عن الصلاة كلها. وقيل: عبر عن الصّلاة بالركوع ردّا على اليهود، والنصارى؛ لأن صلاتهم لا ركوع فيها. فكأنّ الله تعالى قال لهم: صلوا الصّلاة ذات الركوع في جماعة المسلمين.

هذا وفي قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ} أمر صريح بالصّلاة جماعة مع المصلين. وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة في الجماعة، فالذي عليه الجمهور: أن الصلاة في الجماعة من السنن المؤكدة، وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضا على الكفاية.

وفي بيان ثوابها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» . أخرجه مسلم-رحمه الله تعالى-من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما. وقال الإمام أحمد، وداود الظاهري: الصّلاة في الجماعة فرض على كلّ أحد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» . أخرجه أبو داود، وصحّحه أبو محمد عبد الحق، وهو قول عطاء، وأبي ثور، وغيرهما. وقال الشافعي-رحمه الله تعالى-: لا أرخص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر، حكاه ابن المنذر. أقول: والقول بالوجوب هو الحقّ للأحاديث الصّحيحة. وخذ ما يلي:

عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع المنادي، فلم يمنعه من اتّباعه عذر-قالوا: وما العذر؟ قال: «خوف، أو مرض-لم تقبل منه الصّلاة التي صلّى» .

رواه أبو داود، وابن حبّان في صحيحه، وابن ماجة بنحوه.

وعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو، لا تقام فيهم الصّلاة إلا استحوذ عليهم الشّيطان. فعليكم بالجماعة، فإنّما يأكل الذئب من الغنم القاصية» . رواه أحمد، وأبو داود، والنّسائي، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبّان.

وعن معاذ بن أنس-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «الجفاء كلّ الجفاء والكفر والنّفاق من سمع منادي الله ينادي إلى الصّلاة، فلا يجيبه» . رواه الإمام أحمد، والطّبراني. وعن عمرو بن أم مكتوم-رضي الله عنه-قال:«قلت: يا رسول الله! أنا ضرير شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي، قال: أتسمع النّداء؟ قال: نعم، قال: ما أجد لك رخصة» . رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن خزيمة، وانظر ما ذكرته في تفسير قوله تعالى في سورة الفاتحة:{إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} . هذا وفي هذه الأيام كثر الهراء بمنع المرأة من الحضور إلى المساجد، واستدلّوا بأحاديث لم يفهموا مغزاها، ولم يدركوا معناها، ولم يعرفوا أسبابها، ومرماها، وقد ثبت: أنّ النّساء دخلن

ص: 132

المسجد، وصلّين مع النبي صلى الله عليه وسلم فيه الجمعة، والعيدين، بل والصلوات الخمس، وصلّين مع الخلفاء الرّاشدين الجماعة، والجمعة، والعيدين، والأدلّة كثيرة لا أطيل الكلام بذكرها هنا، والذي يفهم قول الفاروق-رضي الله عنه-وسببه: أخطأ رجل، وأصابت امرأة؛ يفهم ما يفهم.

الإعراب: {وَأَقِيمُوا:} الواو: حرف عطف. ({أَقِيمُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق. {الصَّلاةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. لا محل لها أيضا، والتي بعدها معطوفة عليها. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {الرّاكِعِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)}

الشرح: {أَتَأْمُرُونَ النّاسَ..} . إلخ: هذا استفهام معناه: التوبيخ، والتأنيب، والتقريع.

والمراد: علماء اليهود بالإجماع، ومثلهم علماء المسلمين المنافقين في كلّ زمان، ومكان، كما ستقف عليه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان يهود المدينة يقول الرّجل منهم لقريبه، ولصديقه من المسلمين: اثبت على ما أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرّجل؛ فإن أمره حقّ.

يريدون النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكانوا يأمرون غيرهم بذلك، ولا يفعلونه.

وعنه أيضا كان الأحبار من اليهود يأمرون مقلّديهم، وأتباعهم باتّباع التوراة، وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جريج: كان الأحبار يحضّون على طاعة الله، وكانوا هم يواقعون المعاصي. وقال النّسفي، وغيره: نزلت الآية الكريمة في ذمّ أحبار اليهود، فقد كانوا يأمرون النّاس بالصّدقة، ولا يتصدّقون، وإذا أتوا بالصدقة ليفرّقوها؛ خانوا فيها.

هذا وقد جاء التّحذير، بل والنّكير، والوعيد الشّديد، والتّهديد لمن يخالف فعله قوله، وينهى غيره، وينسى نفسه في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وخذ من ذلك ما يلي: فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالرّجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها، كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان! ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن الشرّ، وآتيه» . قال: وإني سمعته يقول: «مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء خطباء أمّتك الّذين يقولون ما لا يفعلون» . رواه البخاريّ، ومسلم.

وعن أبي برزة الأسلميّ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الّذي يعلّم الناس الخير، وينسى نفسه، مثل الفتيلة، تضيء للنّاس، وتحرق نفسها» . رواه البزّار. وعن أبي هريرة

ص: 133

-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه» .

رواه الطّبرانيّ في الصغير، والبيهقيّ. والأحاديث في ذلك كثيرة. وقد قال تعالى في سورة الجمعة رقم [5] في حقّ علماء اليهود، وينطبق على علماء السّوء المسلمين:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً} . وخذ نبذة من شعر الشّعراء في هذا الباب؛ من ذلك قول منصور الفقيه: [مجزوء الكامل]

إنّ قوما يأمرونا

بالّذي لا يفعلونا

لمجانين وإن هم

لم يكونوا يصرعونا

وقال أبو العتاهية الصّوفي-رحمه الله تعالى-: [الطويل]

وصفت التّقى حتّى كأنك ذو تقى

وريح الخطايا من ثيابك تسطع

وقيل: من وعظ بقوله؛ ضاع كلامه، ومن وعظ بفعله؛ نفذت سهامه.

وقال أبو الأسود الدؤلي من قصيدته المشهورة، ومنها الشاهدان رقم [386] و [674] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الكامل]

يا أيّها الرّجل المعلّم غيره

هلاّ لنفسك كان ذا التّعليم

تصف الدّواء لذي السّقام وذي الضّنى

كيما يصحّ به وأنت سقيم

وأراك تصلح بالرّشاد عقولنا

أبدا وأنت من الرّشاد عديم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يسمع ما تقول ويشتفى

بالقول منك وينفع التّعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وقال أبو عثمان الحيري الزّاهد-رحمه الله تعالى-: [الطويل]

وغير تقيّ يأمر النّاس بالتّقى

طبيب يداوي والطّبيب مريض

وقال إبراهيم النّخعيّ-رحمه الله تعالى-: إني لأكره القصص (الوعظ، والإرشاد) لثلاث آيات: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ..} . إلخ. وقوله تعالى: في سورة (الصّف) رقم [2]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ} . وقوله تعالى في سورة (هود) رقم [88] حكاية عن قول شعيب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} . وقال الجماز ابن أخت سلم بن عمرو الخاسر: [السريع]

ما أقبح التّزهيد من واعظ

يزهّد النّاس ولا يزهد

ص: 134

لو كان في تزهيده صادقا

أضحى وأمسى بيته المسجد

إن رفض الدّنيا فما باله

يستمنح النّاس ويسترفد

والرّزق مقسوم على من ترى

يناله الأبيض والأسود

أما (البرّ) بكسر الباء: فهو كلمة جامعة لخصال الخير الدنيويّة، والأخرويّة، وانظر أعمال البر التي ذكرها الله تعالى في الآية رقم [176] الآتية، و «البرّ» بضم الباء: القمح، وبفتحها:

الإجلال والتعظيم، ومنه ولد بار، وبرّ؛ أي: يعظم والديه، ويكرمهما ومن أسماء الله تعالى (البرّ). هذا؛ والبرّ: الأرض الفلاة، والأرض اليابسة ما عدا البحر.

({تَنْسَوْنَ}): أصله «تنسيون» فيقال في إعلاله: تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:«تنساون» ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار:(تنسون) ويقال أيضا: استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين. هذا والنسيان: مصدر: نسيت الشيء، أنساه. وهو مشترك بين معنيين: أحدهما: ترك الشيء عن ذهول، وغفلة. ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«نسي آدم، فنسيت ذريّته» . ومنه أيضا قوله تعالى حكاية عن قول فتى موسى-على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} . والثاني: الترك عن تعمّد، وقصد، وهو المراد في الآية، وفي قوله تعالى في سورة (التّوبة) رقم [67]:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ،} وقوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [44]، وفي سورة (الأعراف) رقم [165]:{فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ،} وقوله تعالى في الآية رقم [237] الآتية: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} .

{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ:} تقرءون التوراة. وفيه الوعيد الشديد، والتوبيخ العظيم على مخالفة القول العمل لعلماء اليهود، ومن فعل فعلهم كان مثلهم بلا ريب. {أَفَلا تَعْقِلُونَ:} أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم؟ ولا ينبغي أن ينتفي عنكم العقل، وما ينتج عنه من ثمرات. هذا؛ والعقل: المنع، ومنه عقال البعير؛ الذي تشدّ به ركبته؛ لأنه يمنع من الحركة، وقد سمّي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه: أي: يمنعه من فعل الرذائل، لذا فإنّ كل شخص لا يسير على الجادة المستقيمة لا يكون عاقلا بالمعنى الصحيح، فقد ورد: أنه مرّ رجل معتوه على مجلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال الصحابة-رضوان الله عليهم-: هذا رجل مجنون، فقال صلى الله عليه وسلم:«هذا مصاب، إنما المجنون من أصر على معصية الله» . والعقل: الدّية، سميت بذلك؛ لأن الإبل المؤداة، تعقل بباب وليّ المقتول. والعقال أيضا: صدقة عام، قال الشاعر يهجو عاملا على الصّدقات:[البسيط]

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟

لأصبح النّاس أوبادا ولم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

هذا؛ والعقل: ثوب أحمر، تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج، قال علقمة:[البسيط]

ص: 135

عقلا ورقما تكاد الطّير تخطفه

كأنّه من دم الأجواف مدموم

هذا والعقل: جوهر لطيف في البدن ينبت شعاعه منه بمنزلة السّراج في البيت، يفصل به بين حقائق المعلومات، ثم اختلفوا في محلّه. فقالت طائفة منهم: محلّه الدّماغ؛ لأنّ الدّماغ محل الحسّ. وقالت طائفة أخرى: محلّه القلب؛ لأنّ القلب معدن الحياة، ومادة الحواس، ويردّ هذين القولين: أنّ فاقد العقل لم يفقد دماغه، ولا قلبه، بل هما موجودان فيه. بل القول الصّحيح: إنّ هناك لطيفة ربانيّة لا يعلمها إلا الله تعالى: فمن حيث تفكّرها تسمى: عقلا، ومن حيث حياة الجسد بها تسمّى: روحا، ومن حيث شهوتها تسمّى: نفسا. انظر الآية رقم [9].

وقال الخازن رحمه الله تعالى: والعقل قوّة تهيئ قبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيد منه الإنسان بتلك القوّة: عقل، ومنه قول عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه:[الهزج]

وإنّ العقل عقلان

فمطبوع ومسموع

ولا ينفع مطبوع

إذا لم يك مسموع

كما لا تنفع الشّمس

وضوء العين ممنوع

هذا؛ والهمزة في قوله: {أَفَلا} للإنكار كما رأيت، وهي في نية التأخير عن الفاء؛ لأنها حرف عطف، وكذا تقدّم على الواو، وثمّ، تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو قوله تعالى:

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ، {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} . وأخواتها تتأخر عن حروف العطف، كما هو قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ،} {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ..} . إلخ.

هذا مذهب سيبويه والجمهور، وخالف في ذلك جماعة، أوّلهم الزمخشري، فزعموا: أنّ الهمزة في الآيات المتقدمة في محلها الأصلي، وأنّ العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، فيقولون: التقدير في: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..} . إلخ، {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} أمكثوا في الأرض فلم يسيروا؟ أنهملكم، فنضرب عنكم؟ أتؤمنون في حياته، فإن مات، أو قتل

إلخ. ويضعف قولهم ما فيه من التكلّف، وأنه غير مطّرد في جميع المواضع.

انتهى مغني اللبيب بتصرف. وانظر الآية رقم [100].

الإعراب: {أَتَأْمُرُونَ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. ({تَأْمُرُونَ}): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {النّاسَ:} مفعول به. {بِالْبِرِّ} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وجملة:({تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}): معطوفة عليها، لا محل لها مثلها.

{وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمْ}) ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{تَتْلُونَ:} فعل مضارع وفاعله. الكتاب: مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو، والضمير.

ص: 136

{أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام، وتقريع، وتأنيب. الفاء: حرف استئناف، أو حرف عطف. {تَعْقِلُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة مقدرة، التقدير:

أطبع على قلوبكم، فلا تعقلون؟! والكلام كلّه معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف، ولا محل له على الاعتبارين.

{وَاِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)}

الشرح: {وَاسْتَعِينُوا:} اطلبوا، والتمسوا المعونة على أموركم الدّينية، والدنيويّة.

وانظر الاستعانة في سورة الفاتحة، هذا وقيل: إنّ المخاطبين بهذا هم المؤمنون؛ لأن من ينكر الصلاة، والصبر على دين محمد صلى الله عليه وسلم لا يقال له: استعن بالصّبر، والصلاة، فلا جرم وجب صرفه إلى من صدّق محمدا صلى الله عليه وسلم وآمن به. وقيل: يحتمل الخطاب لبني إسرائيل؛ لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك نظم القرآن، ولأنّ اليهود لم ينكروا أصل الصّلاة، والصبر، لكنّ صلاتهم غير صلاة المؤمنين، فعلى هذا القول: إن الله تعالى لمّا أمرهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والتزام شريعته، وترك الرئاسة، وحبّ الجاه، والمال؛ قال لهم:({اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}).

انتهى. وقيل: إنّ المراد بالصّبر: الصوم.

هذا و (الصبر): حبس النفس عن الجزع عند المصيبة، وحبس اللّسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التّشويش، وهو مرّ المذاق يكاد لا يطاق، إلا أنه حلو العواقب، يفوز صاحبه بأسنى المطالب، كما قال القائل:[البسيط]

الصّبر مثل اسمه مرّ مذاقته

لكن عواقبه أحلى من العسل

وبالجملة: فنفع الصبر مشهور، والحضّ عليه في الكتاب والسنّة مقرر مسطور، وهو على ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء. ولا تنس أنّ من أسماء الله تعالى (الصّبور)؛ وفسّر بالذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الرّعد) رقم [22]:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: طلبا لمرضاته، وهذا الصبر المحمود، وهو أن يكون الإنسان صابرا لوجه الله تعالى، محتسبا أجره على الله، فهذا هو الصبر الذي يدخل صاحبه رضوان الله، وأما صبر العبد؛ ليقال: ما أعظم صبره، وما أشد قوته على تحمل النوائب! أو يصبر؛ لئلا يعاب على الجزع، أو يصبر؛ لئلا تشمت به الأعداء، فهذا كلّه مذموم، لا ينيل صاحبه الدّرجات العلى، والمقام الرفيع عند الله، وقد يعرضه لشديد غضب الله، ونقمته.

هذا؛ والصبر على أنواع: الصّبر عن المعصية، فله ثلاثمائة درجة، والصبر على الطاعة، فله ستمائة درجة، والصبر على البلاء، فله تسعمائة درجة، لكن ذلك لا يكون إلا بالصبر عند الصدمة

ص: 137

الأولى، كما روى البخاري عن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قال:«إنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى» . أخرجه مسلم بأتم منه، وقال الأستاذ أبو علي: الصّبر حدّه: ألا تعترض على التقدير، فأما إظهار البلوى على غير وجه الشّكوى؛ فلا ينافي الصبر، قال تعالى في قصة أيوب -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} وبعد أخبر عنه: أنه قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} .

ثمّ اعلم: أن الصبر ذكر في القرآن الكريم في خمسة وتسعين موضعا، ومن أجمعها الآية رقم [155] الآتية، وما بعدها:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ،} ومن آنفها قوله تعالى في سورة (ص) في حقّ أيوب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً} حيث قرن هاء الصبر بنون العظمة، ومن أبهجها قوله تعالى في سورة (الرّعد) في الآيتين [23 و 24]:{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ} ومن أعظمها بشارة قوله تعالى في سورة (الزّمر) رقم [10]{إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}

فائدة: قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً،} وقال جل ذكره: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ،} وقال تعالى جل شأنه: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} . قالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكاية معه، والصفح الجميل هو الذي لا عقاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذية معه.

{وَالصَّلاةِ:} أفردها الله بالذكر من بين العبادات تعظيما لشأنها؛ لأنها جامعة لأنواع العبادات النّفسانية، والبدنيّة، من الطهارة، وستر العورة، وصرف المال فيها، والتوجّه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النية بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الحق، وقراءة القرآن، والتكلّم بالشهادتين، وكف النفس عن شهوتي الفرج، والبطن. انتهى. جمل نقلا من كرخي.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر؛ فزع إلى الصلاة، وكان إذا سمع بلالا ينادي: إلى الصّلاة؛ نهض مسرعا، وسعى متشوقا، وهو يقول:«أرحنا بها يا بلال» . قالت السيدة عائشة-رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّثنا، ونحدّثه حتى إذا جاء وقت الصلاة؛ قام كأنه لا يعرفنا، ولا نعرفه؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم أحبّ الصلاة من كلّ قلبه؛ حتى استولت على لبّه، فكان دائما مشغولا بها، كلما فرغ منها؛ عاد إليها، لم ينسها في جهاده، ولم يتركها في مرضه، فلمّا جاء الأجل؛ أخذ يذكرها، ويحثّ أصحابه على فعلها، وسمع في حالة الغرغرة يقول:«أوصيكم بالصّلاة، أوصيكم بالصّلاة، أوصيكم بالصّلاة» . حتى خرجت روحه إلى مولاه، فكان آخر كلامه في الدّنيا الوصية بالصّلاة.

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوما، فقال:«من حافظ عليها؛ كانت له نورا، ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها؛ لم يكن له نور، ولا برهان، ولا نجاة، وحشر يوم القيامة مع فرعون، وهامان، وقارون، وأبيّ بن خلف» .

ص: 138

قال العلماء: وسبب ذكر هؤلاء: أن من ترك الصلاة بسبب الملك والسلطان حشر مع فرعون، ومن تركها بسبب السياسة والرئاسة حشر مع هامان، ومن تركها بسبب جمع المال حشر مع قارون، ومن تركها بسبب الخصام والجدال حشر مع أبيّ بن خلف.

وعن عبادة بن الصّامت-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد، فمن جاء بهنّ، ولم يضيع منهنّ شيئا استخفافا بحقّهنّ؛ كان له عند الله عهد أن يدخله الجنّة، ومن لم يأت بهنّ؛ فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنّة» . رواه مالك، وأبو داود، والنّسائيّ.

وكان السّلف يرون في الصلاة أيضا تفريج همومهم، والتنفيس عن كروبهم، فقد روي: أن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-نعي له أخوه: قثم، وقيل: بنت له، وهو في سفر، فاسترجع. وقال: عورة سترها الله، ومئونة كفاها الله، وأجر ساقه الله، ثم تنحّى عن الطّريق، وصلّى، ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأ:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} وانظر الآية رقم [43].

{وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ:} قال القرطبي رحمه الله تعالى: اختلف المتأولون في عود الضمير؛ فقيل:

على الصّلاة وحدها خاصّة؛ لأنها تشقّ على النفوس ما لا يشق الصوم، فالصلاة فيها سجن النفوس، والصّوم إنّما فيه منع الشهوة، فليس من منع شهوة واحدة، أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات، فالصّائم إنّما منع شهوة النساء والطّعام، والشراب، ثم ينبسط في سائر الشّهوات من الكلام، والمشي، والنّظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق، فيتسلّى بتلك الأشياء عمّا منع، والمصلّي يمنع من جميع ذلك، فجوارحه كلّها مقيّدة بالصّلاة عن جميع الشّهوات، وإذا كان ذلك؛ كانت الصلاة أصعب على النفس، ومكابدتها أشقّ، فلذلك قال تعالى:{وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ} .

وقيل: يعود الضمير عليهما، ولكنّه كنى عن الأغلب، وهو الصّلاة، كقوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [34]:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ،} وقوله تعالى في سورة (الجمعة): {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها} فرد الكناية إلى الفضّة؛ لأنها الأغلب والأعم، وإلى التجارة؛ لأنها الأفضل والأهم. وقيل: إنّ الصبر لمّا كان داخلا في الصّلاة؛ أعاد عليها الضمير وحدها كما قال تعالى في سورة (التّوبة) رقم [62]: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فلم يقل: يرضوهما؛ لأنّ رضا الرّسول داخل في رضا الله، عز وجل. انتهى.

{إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ:} جمع خاشع، وهو المتواضع، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون، وتواضع. وقال قتادة رحمه الله تعالى: الخشوع في القلب، وهو الخوف، وغضّ البصر في الصّلاة. وقال الزجّاج: الخاشع الذي يرى أثر الذلّ، والخشوع عليه كخشوع الدّار بعد الإقواء.

قال سفيان الثّوري-رحمه الله تعالى-: سألت الأعمش عن الخشوع، فقال: يا ثوري! أنت تريد أن تكون إماما للناس، ولا تعرف الخشوع؟! سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع، فقال:

ص: 139

أعيمش تريد أن تكون إماما للناس، ولا تعرف الخشوع؟! ليس الخشوع بأكل الخشن، ولبس الخشن، وتطأطؤ الرأس، ولكنّ الخشوع أن ترى الشريف، والدنيء في الحقّ سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك. ونظر عمر-رضي الله عنه-إلى شابّ؛ قد نكّس رأسه، فقال: يا هذا! ارفع رأسك، فإنّ الخشوع لا يزيد على ما في القلب. وقال عليّ كرم الله وجهه: الخشوع في القلب، وأن تلين كفّيك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك. انتهى قرطبي. وانظر ما ذكرته في مطلع سورة (المؤمنون).

الإعراب: {وَاسْتَعِينُوا:} الواو: حرف عطف. ({اِسْتَعِينُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها من جمل.

{بِالصَّبْرِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالصَّلاةِ:} معطوف على ما قبلها. {وَإِنَّها:} الواو: واو الحال. ({إِنَّها}): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَكَبِيرَةٌ:} اللام هي المزحلقة. (كبيرة):

خبر (إنّ) والجملة الاسمية في محل نصب حال من ({الصَّلاةِ})، والرابط الواو والضمير، أو هي معترضة في آخر الكلام على رأي من يجوّزه. {إِلاّ:} حرف حصر. {عَلَى الْخاشِعِينَ:} متعلقان ب (كبيرة)، أو بمحذوف صفة لها.

{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)}

الشرح: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ:} يوقنون. هذا؛ والظن في الأصل: الاعتقاد الرّاجح مع احتمال النقيض، والظنّ في الشريعة قسمان: محمود، ومذموم، فالمحمود منه: ما سلم معه دين الظانّ، ودين المظنون عند بلوغه، والمذموم ضدّه، بدليل قوله تعالى:{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} الآية رقم [12] من سورة (الحجرات)، وقوله تعالى في سورة (النّور) رقم [12]:{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً،} وقوله تعالى في سورة (الفتح) رقم [12] أيضا: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} . هذا؛ وينبغي للإنسان أن يحسن ظنّه بالنّاس، ولا يسيء ظنّه بهم، استجابة لأمر الله تعالى في آية (الحجرات):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} إلا إذا ظهر من أحدهم ما يخالف الشّرع الشّريف، ولا يسيء بهم الظنّ إلا الذي أعماله سيئة، قال الشاعر:[الطويل]

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهّم

وكذلك ينبغي للمسلم أن يحسن ظنّه بالله تعالى بأنّ الله يرحمه، ويعفو عنه، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بي

» إلخ، ولكن ينبغي أن يقرن حسن ظنه بالله بحسن العمل، وإلا؛ فهو ظنّ خاطئ، وزعم فاسد، ففي الحديث الشّريف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

«ليس الإيمان بالتمنّي، ولا بالتحلّي، ولكن ما ورد في القلب، وصدّقه العمل، إن قوما ألهتهم

ص: 140

الأماني حتّى خرجوا من الدّنيا؛ ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ بالله، كذبوا.. لو أحسنوا الظنّ؛ لأحسنوا العمل». وخذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث» .

وهذا إذا كان ظنّ سوء، وأما الظنّ الحسن؛ فلا بأس به، بل هو ممدوح، كما قرّرته لك، وانظر الآية رقم [78] الآتية.

{مُلاقُوا رَبِّهِمْ:} أصله: ملاقيو، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ثم قلبت كسرة القاف ضمة لمناسبة الواو. وفسر اللقاء بالرؤية، وملاقو ربهم بما عاينوه بلا كيف. والمانعون للرؤية يفسّرونها بما يناسب المقام، كلقاء ثوابه، أو الجزاء مطلقا، وترد الملاقاة بمعنى الاجتماع، والمصير، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا} رقم [7] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. أي: لا يخافون المصير إلينا.

{وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ:} لا تكرار بين هذا، وما قبله؛ لأن المراد بالأول: أنهم ملاقو ثواب ربهم على الصبر، والصّلاة، والمراد بالثاني: أنهم يوقنون بالبعث، وبحصول الثّواب على ما ذكر.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بدل من {الْخاشِعِينَ} أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف. التقدير: أعني، وأمدح، أو هو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين. {يَظُنُّونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {أَنَّهُمْ} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مُلاقُوا} خبرها مرفوع وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة. و {مُلاقُوا} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي:{يَظُنُّونَ} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {أَنَّهُمْ} حرف مشبه بالفعل والهاء اسمها. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {راجِعُونَ} خبر (أنّ) مرفوع

إلخ، والمصدر المؤول من (أنّ) واسمها، وخبرها معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مثله.

{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)}

الشرح: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ..} . إلخ: انظر الآية رقم [40]. {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ:} أي عالمي زمانهم، يريد الله به تفضيل آبائهم الذين كانوا في عصر موسى-عليه، وعلى نبينا ألف صلاة، وألف سلام-وبعد موسى قبل أن يغيروا ما منحهم الله تعالى من العلم، والإيمان، والعمل الصالح، وجعلهم أنبياء، وملوكا مقسطين. هذا؛ ولقد كرر هذا الكلام ثانية للتأكيد، وتذكيرا للتفضيل الذي هو من أجلّ النّعم، خصوصا. وقد ربطه بالوعيد الشّديد الآتي تخويفا لمن غفل عنها، وأخلّ بحقوقها. والكلام من تذكير اليهود الموجودين في عهد محمّد صلى الله عليه وسلم بما أنعم الله على آبائهم الأولين.

ص: 141

هذا؛ ولقد قال أرباب المعاني: ربط الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النّعمة، وأسقطه على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى ذكره، فقال عز وجل:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} الآية رقم [152] الآتية، ليكون نظر الأمم من النّعمة إلى المنعم، ونظر أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المنعم إلى النّعمة. قرطبي.

الإعراب: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ..} . إلخ: انظر مثله في الآية رقم [40]. {فَضَّلْتُكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أن)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب معطوف على {نِعْمَتِيَ}. {عَلَى الْعالَمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون بدل من التنوين في الاسم المفرد.

{وَاِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}

الشرح: {وَاتَّقُوا:} أصله: اتقيوا، وانظر إعلال مثله فيما تقدّم، وانظر شرح التقوى أيضا فيما تقدّم، والأمر معناه التهديد، والوعيد. {يَوْماً:} المراد به يوم القيامة، وما فيه من الحساب، والعذاب، والأهوال، وقد ذكر الله تعالى طوله في سورة (الحج) بقوله:{وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ} رقم [47]، هذا واليوم في الدنيا هو الوقت من طلوع الشّمس إلى غروبها، وهذا في العرف، وأما اليوم الشرعي فهو من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، كما يطلق اليوم على اللّيل، والنهار معا، وقد يراد به الوقت مطلقا، تقول: ذخرتك لهذا اليوم، أي:

لهذا الوقت، والجمع: أيام، وأصله: أيوام، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وجمع الجمع: أياويم. وأيام العرب: وقائعها، وحروبها، وأيّام الله: نعمه، ونقمه، قال تعالى في سورة (يونس) رقم [102]:{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أَيّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ،} وقال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللهِ} ويقال: فلان ابن الأيام، أي: العارف بأحوالها، ويقال: أنا ابن اليوم، أي: أعتبر حالي فيما أنا فيه. وخذ قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [140]: {وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ} وانظر شرح اللّيل والنّهار في الآية رقم [51] الآتية.

{لا تَجْزِي نَفْسٌ..} . إلخ: لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئا. تقول: جزى عنّي هذا الأمر، يجزي، كما تقول: قضى عنّي. وقرئ بضم التاء. قيل: هما بمعنى واحد، وقد فرق بينهما قوم. فقالوا:«جزى» بمعنى: قضى، وكافأ. و «أجزأ»: بمعنى: أغنى، وكفى.

وأجزأني الشيء، يجزئني، أي: كفاني. قال الشاعر: [الطويل]

وأجزأت أمر العالمين ولم يكن

ليجزي إلاّ كامل وابن كامل

ص: 142

{وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ:} الشّفاعة: التوسل، وابتغاء الخير، والذي يكون منه التوسّل يسمّى:

الشفيع، والشّفاعة في الدّنيا تكون حسنة، وتكون سيّئة، فالأولى هي الّتي روعي فيها حقّ مسلم، ودفع بها عنه شرّ، أو جلب إليه الخير، وابتغي به وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله، ولا في حقّ من حقوق العباد. والسّيئة ما كانت بخلاف ذلك. وقيل: الشفاعة الحسنة: هي الدعوة للمسلم؛ لأنّها بمعنى الشفاعة إلى الله تعالى، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من دعا لأخيه بظهر الغيب؛ استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك» .

فذلك النصيب الذي ذكر بقوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} رقم [85] من سورة (النساء).

وروى مسلم عن أمّ الدرداء-رضي الله عنها-قالت: حدّثني سيّدي: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب؛ قالت الملائكة: ولك بمثله» .

ولا ريب: أنّ المراد بالشّفاعة في هذه الآية: الشفاعة يوم القيامة. والشّفاعة العظمى مختصّة بنبينا صلى الله عليه وسلم، ثمّ يتلوها شفاعات أخرى، كما هو معلوم من الدّين، وأحكامه، وهو مذهب أهل الحقّ، والسّنّة، والجماعة.

وأنكر المعتزلة الشّفاعة، وخلّدوا المذنبين من المؤمنين الذين دخلوا النّار في العذاب، والأخبار متظاهرة بأنّ من كان من العصاة المذنبين الموحّدين من أمم النبيّين هم الذين تنالهم شفاعة الشّافعين من الملائكة، والنّبيين، والشّهداء، والصالحين. قال ابن المنير المعلّق على الكشاف: أمّا من جحد الشفاعة؛ فهو جدير بأن لا ينالها، وأما من آمن بها، وصدّقها-وهم أهل السّنّة والجماعة-فأولئك يرجون رحمة الله. ومعتقدهم: أنها تنال العصاة من المؤمنين، وإنّما ادخرت لهم في الآخرة. انتهى. أقول: والأحاديث في الشفاعة كثيرة مشهورة، وفي كتب الأحاديث مسطورة.

قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: فإن قالوا: قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب ردّ هذه الأخبار، مثل قوله تعالى في سورة (غافر):{ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون. وقال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} وفي هذه الآية: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} .

قلنا: ليست هذه الآيات عامّة في كلّ ظالم، والعموم لا صيغة له، فلا تعمّ هذه الآيات كلّ من يعمل سوءا وكلّ نفس، وإنما المراد بها: الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك.

وانظر قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [79]: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} تجد ما يسرّك، وقد أجمع المفسرون على أنّ المراد ب ({نَفْسٌ}) في هذه الآية النّفس الكافرة، لا كلّ نفس. انتهى بتصرف.

{وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ:} العدل هو بفتح العين: هو الفداء، وهو بكسرها: المثل. يقال: عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن، والقدر. ويقال: عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا، وإن لم

ص: 143

يكن من جنسه. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [91]: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ} وقال في سورة (يونس) رقم [54]: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} وقال تعالى في سورة (الرّعد) رقم [18]: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ} ومثلها في سورة (الزمر) رقم [47] وقال تعالى في سورة (المائدة) رقم [36]:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ،} وقال تعالى في سورة (الحديد) رقم [15]: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا،} وقال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [70]: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها} .

{وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي: يعانون، والنّصر: العون، والأنصار: الأعوان، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول عيسى-على نبيّنا وعليه ألف صلاة وألف سلام-:{مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ} أي:

من يعينني، ومن يضمّ نصرته إلى نصرتي؟.

وكان سبب نزول هذه الآية فيما ذكروا: أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وأبناء أنبيائه، وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله تعالى: أنّ يوم القيامة لا تقبل فيه شفاعات، ولا يؤخذ فيه فديه. وإنّما خص الشفاعة، والفدية، والنصر بالذّكر؛ لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا، فإن الواقع في الشدّة لا يتخلص من شدته إلا بأن يشفع له، أو ينصر، أو يفتدى. انتهى قرطبي. هذا؛ وجمع الضمير في آخر الآية، وهو يعود على النفس؛ لأنّ المراد بها جنس الأنفس، وإنما عاد الضمير مذكرا، وإن كانت النّفس مؤنثة؛ لأن المراد بها العباد، والأناسيّ. انتهى جمل نقلا من السّمين.

الإعراب: ({اِتَّقُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{يَوْماً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، لا محل لها مثلها.

{لا:} نافية. {تَجْزِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل.

{نَفْسٌ:} فاعله. {عَنْ نَفْسٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من {شَيْئاً} ولا وجه له. {شَيْئاً} مفعول به، وجملة:{لا تَجْزِي:} في محل نصب صفة {يَوْماً} ورابط الصفة محذوف، التقدير: لا تجزي فيه

إلخ. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}):

نافية. {يُقْبَلُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{شَفاعَةٌ} كان نعتا له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها يعرب حالا» . {شَفاعَةٌ:} نائب فاعل {يُقْبَلُ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {لا تَجْزِي..} . إلخ، فهي في محل نصب مثلها، والتي بعدها معطوفة عليها، وهي مثلها إعرابا، ومحلاّ. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُنْصَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع،

ص: 144

والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ:} معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب حال مثلها.

{وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}

الشرح: {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ:} نجا، ينجو: فعل لازم، وتعديته تكون بتضعيف ثانيه كما هنا، أو بزيادة الهمزة في أوّله، كما ستراه في آيات كثيرة، ومعنى {نَجَّيْناكُمْ:} ألقيناكم على نجوة من الأرض، وهي ما ارتفع منها، هذا هو الأصل، ثمّ سمّي كلّ فائز ناجيا، فالنّاجي من خرج من ضيق إلى سعة، أو من شدّة إلى فرجة. هذا؛ والخطاب به، وبما بعده للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما أنعم على آبائهم، فهو تذكير لهم بنعمة الله تعالى؛ ليؤمنوا، وأيضا نجاة آبائهم سبب في وجود الأبناء.

{مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ:} {آلِ} أصله: أهل، فأبدلت الهاء همزة ساكنة، فصار:«أأل» ثم أبدلت الهمزة الثانية الساكنة، على القاعدة: إذا اجتمع همزتان: الأولى متحركة، والثانية ساكنة قلبت الثانية مدّا مجانسا لحركة الهمزة الأولى، وذلك: مثل آدم، وإيمان، وأومن، وقلب الهاء همزة سائغ مستعمل لغة كما في: أراق، فإن أصله: هراق، وهو كثير مستعمل في الشعر العربيّ، وغيره، وهذا مذهب سيبويه. وقال الكسائي: أصله: «أول» ك «جمل» من: آل، يؤول، تحرّكت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وقد صغروه على أهيل، وهو يشهد للأوّل، وعلى «أويل» وهو يشهد للثاني، ولا يستعمل (آل) إلا فيما له خطر، وشأن بخلاف «أهل» يقال:

آل النبي، وآل الملك، ولا يقال: آل الحجّام، ولكن: أهله، ولا ينتقض بآل فرعون، فإنّ له شرفا باعتبار الدّنيا. واختلف في جواز إضافته إلى المضمر، فمنعه الكسائي، والنّحاس، وزعم أبو بكر الزبيدي: أنّه من لحن العوام، والصحيح جوازه، كما في قول عبد المطلب بن هاشم جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم:[مجزوء الكامل]

لا همّ إن المرء يمن

ع رحله فا منع رحالك

وانصر على آل الصّلي

ب وعابديه اليوم آلك

وفي الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم صل على محمد وعلى آله» . و {آلِ فِرْعَوْنَ:} قومه، وأتباعه، وأهل دينه، وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هم على دينه، وملّته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له، أو لم يكن، ومن لم يكن على دينه وملّته، فليس من آله، ولا أهله وإن كان نسيبه، وقريبه، خلافا للرّافضة، حيث قالت: إن آل الرسول صلى الله عليه وسلم فاطمة،

ص: 145

والحسن، والحسين وذريّتهما فقط، دليلنا الآية الكريمة، وقوله تعالى:{وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ} الآية التالية، وقوله تعالى في سورة (غافر) رقم [46]:{وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} أي: آل دينه وملته؛ إذ لم يكن له ذرية، ولا أب، ولا عم، ولا أخ، ولا عصبة، ولأنه لا خلاف: أنّ من ليس بمؤمن ولا موحّد فإنّه ليس من آل محمد، وإن كان قريبا له، ولأجل هذا يقال: إنّ أبا لهب، وأبا جهل ليسا من أهله، ولا من أهل ملّته، وإن كان بينهما، وبين النّبيّ قرابة، ولأجل هذا قال تعالى في ابن نوح:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سرّ يقول: «ألا إن آل أبي-يعني: فلانا-ليسوا منّي» .

هذا و {فِرْعَوْنَ} قال الجمل: قال المسعودي: ولا يعرف لفرعون تفسير في العربيّة، وظاهر كلام الجوهري: أنه مشتقّ من معنى «العتوّ» فإنه قال: والفراعنة: العتاة، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة؛ أي: دهاء، ومكر.

قال الزمخشري في الكشاف: وفرعون علم لمن ملك العمالقة في مصر، كقيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، ولعتوّ الفراعنة اشتقوا: تفرعن فلان إذا عتا، وتجبّر، وفي ملح بعضهم:[الكامل]

قد جاءه الموسى الكلوم فزاد في

أقصى تفرعنه وفرط عرامه

هذا، والموسى: ما يحلق به شعر الرأس، والكلوم: فعول من: الكلم، وهو الجرح، والعرام: الشر، والخبث. وضمير (جاءه) راجع إلى ذكر الصّبيّ، وهذا كناية عن الختان، وبه النمو، والفتوة، لا كناية عن حلق العانة، كما قيل. قال المولى سعد الدين: وهذا مع وضوحه، وشهرته فقد خفي؛ حتى قيل: إنّه كناية عن حلق العانة.

وكان فرعون موسى مصعب بن الرّيان. وقيل: ابنه الوليد من بقايا قوم عاد، وفرعون يوسف -على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام-ريان بن الوليد، وبينهما أكثر من أربعمائة سنة، وكان فرعون موسى قد عاش ستمائة وعشرين سنة، ولم ير مكروها قط، ولو حصل له في تلك المدّة جوع يوم، أو وجع يوم، أو حمّى يوم؛ لما ادّعى الرّبوبية. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:

«فرعوني أشدّ من فرعون موسى» . يريد: أبا جهل. {يَسُومُونَكُمْ:} يذيقونكم، من: سامه خسفا:

إذا أولاه ظلما، أو أذاقه قهرا، قال عمرو بن كلثوم في معلّقته رقم [108]:[الوافر]

إذا ما الملك سام النّاس خسفا

أبينا أن نقرّ الخسف فينا

وقيل: معناه: يديمون تعذيبكم. والسّوء: كل ما يغمّ الإنسان من أمر دنيويّ، أو أخرويّ، وهو في الأصل مصدر، ويؤنث بالألف كما في قوله تعالى:{ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ}

ص: 146

كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ الآية رقم [10] من سورة (الروم). وقيل: إنّ {السُّواى} تأنيث الأسوأ، كما أنّ الحسنى تأنيث الأحسن.

{يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ:} المراد به: الصّبيان. ({يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ}): يتركون بناتكم أحياء.

وسبب ذلك: أن فرعون-لعنه الله تعالى-رأى في نومه: أنّ نارا أقبلت من بيت المقدس، فأحاطت بمصر، وأحرقت كلّ قبطيّ بها، ولم تتعرّض لبني إسرائيل، فشقّ ذلك عليه، وسأل الكهنة عن هذه الرؤيا، فقالوا له: إنّ مولودا يولد في بني إسرائيل، يكون سببا لذهاب ملكك، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل، حتّى قتل من أولادهم اثني عشر ألفا، وأسرع الموت في شيوخهم، فجاء رؤساء القبط إلى فرعون، وقالوا له: إن الموت قد وقع في بني إسرائيل، فتذبح صغارهم، ويموت كبارهم، فيوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة، ويتركوا سنة، فولد هارون في السّنة التي لا يذبح فيها، وولد موسى في السنة التي يذبح فيها، انظر تفصيل ذلك في أول سورة (القصص). والله وليّ التوفيق. هذا؛ ويقرأ:«يذبحون» بتخفيف الباء، وتشديدها.

هذا وقال وهب بن منبه: كان بنو إسرائيل أصنافا في أعمال فرعون: فالقوي يقطع الحجر من الجبال، (هذا صنف) وصنف ينقل الحجارة، والطّين لبناء قصوره، وصنف يضرب اللّبن، ويطبخ الآجرّ، وصنف نجّار، وآخر حداد، والضعفاء منهم يضرب عليهم الجزية، والنّساء يغزلن الكتان، وينسجنه. هذا؛ وأصل ({يَسْتَحْيُونَ}):«يستحييون» بياءين: الأولى عين الكلمة مكسورة، والثانية لامها مضمومة. فقيل: حذفت الأولى، فصار وزنه: يستفاون. وقيل: حذفت الثانية، فصار وزنه: يستفعون، وطريق الحذف على الأول أن يقال: استثقلت الكسرة على الياء الأولى، فحذفت فالتقى ساكنان:(الياء الأولى مع الحاء) فحذفت الياء لعلّة الالتقاء، فصار:({يَسْتَحْيُونَ}) وطريق الحذف على الثاني أن يقال: حذفت الثانية اعتباطا، وتخفيفا، فصار:«يَسْتَحْيُونَ» ثمّ ضمّت الأولى لمناسبة الواو. والمراد بالنساء: الأطفال، وإنّما عبر عنهنّ بالنّساء؛ لمآلهن إلى ذلك، وعكسه قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [2]:{وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} فهو باعتبار ما كان؛ لأنّهم بلغوا الرّشد، ولم يبقوا يتامى.

هذا؛ و (نساء): اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ لأن مفرده: امرأة، وجمعها في القلّة:

نسوة. وفي الكثرة: نساء، وتجمع أيضا على: نسوان، ونسون، ونسنين، وهذه الجموع كلّها مأخوذة من النّسيان؛ الذي رأيت شرحه في الآية رقم [44] فهي مطبوعة عليه، إما إهمالا، وإما كذبا. ويقال لكلّ واحد من هذه الجموع: اسم جمع لا واحد له من لفظه. أما المرأة: فهي مأخوذة من المرء. وهو الرّجل، فلذا سمّيت بذلك، والأمّ الأولى: حواء-عليها ألف سلام- سميت بذلك، لأنها مأخوذة من حي، وهو آدم، على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

ص: 147

انظر ما ذكرته في الآية رقم [35]. هذا؛ و ({أَبْناءَكُمْ}): جمع: ابن، وأصله: أبناوكم، وأصل ابن:

بنو، ونساء أصله: نساو، وأيضا: آباء أصله أباو؛ لأنه جمع أب، وأصله أبو، فقل في الثلاثة:

تحركت الواو وانفتح ما قبلهما، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين.

فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة، ولقد سئلت عمّا يلي:

همزة المصدر «استغفار» ونحوه همزة وصل، فإذا جمع: استغفارات، ونحوه؛ تبقى الهمزة همزة وصل، وهمزة «ابن» همزة وصل، فلمّا جمع: أبناء، صارت الهمزة همزة قطع، فما الفرق بينهما؟ فالجواب: إنّ همزة المصدر أصليّة، وأما همزة (ابن) فليست أصلية؛ إذ أصله:(بنو) كما رأيت، فالهمزة فيه بدل من حرف علّة أصلي. فلما جمع على (أبناء) فهذه الهمزة همزة أفعال، وليست همزة ابن، كما قد يتوهم.

{وَفِي ذلِكُمْ:} الإشارة إلى جملة الأمر؛ إذ هو خبر، فهو كمفرد حاضر؛ أي: وفي فعل الفراعنة بكم ذلك {بَلاءٌ} أي: امتحان، واختبار، و {بَلاءٌ} أيضا: نعمة، ومنه قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [17]:{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} . قال أبو الهيثم: البلاء يكون حسنا، ويكون سيئا، وأصله: المحنة، والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل؛ ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها؛ ليمتحن صبره، فقيل للحسن: بلاء. وللسيّئ: بلاء. حكاه الهروي، والقرطبي. وخذ قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [168]:{وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [35]: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال ابن كيسان: ويقال: أبلاه، وبلاه في الخير، والشرّ. وأنشد قول زهير في ممدوحيه: هرم بن سنان والحارث بن عوف المرّيين: [الطويل]

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم

وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو

فجمع بين اللغتين. وقيل: الأكثر في الخير: أبليته، وفي الشر: بلوته، وفي الاختبار:

ابتليته، وبلوته. قاله النحاس. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الفجر) في الخير، وفي الشرّ:

{فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ..} . إلخ، وقال تعالى في الاختبار، والامتحان:{وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ..} .

إلخ رقم [124] الآتية، وبلاء أصله: بلاو، فإعلاله مثل إعلال أبناء

إلخ.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو حرف عطف. ({إِذْ}): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بمحذوف معطوف على اذكر في الآية رقم [47] وقال مكيّ، والقرطبيّ، وغيرهما: معطوف على نعمتي، وهو يفيد: أنه مفعول به للفعل المقدّر، والمعنى واحد، والنّتيجة واحدة. {نَجَّيْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة ({إِذْ}) إليها، و {مِنْ آلِ} متعلقان بما قبلهما، و {آلِ} مضاف و {فِرْعَوْنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلميّة، والعجمة. {يَسُومُونَكُمْ:}

ص: 148

فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والكاف مفعول به أول. {سُوءَ} مفعول به ثان، و {سُوءَ} مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {آلِ فِرْعَوْنَ} والرابط: الضمير فقط، وجملة:{يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} مفسرة لمضمون الجملة قبلها، فهي في محل نصب مثلها، وهو المعتمد؛ وإن قال الكثيرون: لا محل لها، وجوز أن تكون حالا من واو الجماعة والمعنى يؤيده، فتكون حالا متداخلة، كما جوز أن تكون بدلا مما قبلها، وجوز فيها الاستئناف، وهذا وجه ضعيف. هذا؛ والبدلية واضحة في قوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [68 و 69]:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ} انظرها هناك، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ وفي سورة (إبراهيم) على نبيّنا وعليه ألف صلاة، وألف سلام، رقم [6]:{وَيُذَبِّحُونَ} بالواو؛ لأن المعنى يعذبونكم بالذّبح، وبغيره، فالذبح جنس آخر من العذاب، لا تفسير لما قبله. ويحتمل أن تكون الواو زائدة، انظر ما ذكرته هناك، وفي سورة (الأعراف) رقم [141] بدون واو كما هنا، وذلك قوله تعالى:{يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ} وجملة:

{وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ:} معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها.

{وَفِي:} الواو: حرف عطف. ({فِي}): حرف جرّ. {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر ب ({فِي}) والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بَلاءٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، وإن اعتبرتها حالا؛ فلست مفنّدا، والاستئناف ممكن بلا ضعف. {مِنْ رَبِّكُمْ:}

متعلقان ببلاء، لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، والكاف في محل جرّ بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {عَظِيمٌ:} صفة {بَلاءٌ} .

{وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}

الشرح: {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ:} فصلنا بين أجزائه، وأصل الفرق: الفصل، ومنه: فرق الشعر، ومنه: الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل؛ أي: يفصل، ومنه قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [41]:{وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ} يعني: يوم بدر، كان فيه فرق بين الحق والباطل. هذا؛ ويقرأ بتشديد الرّاء. هذا؛ و {الْبَحْرَ} معروف، سمي بذلك لاتساعه. ويقال: فرس بحر: إذا كان كثير الجري، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في «مندوب» فرس أبي طلحة:«وإن وجدناه لبحرا» . والبحر: الملح، والماء الكثير، والجمع: بحور، وبحار، وأبحر. انتهى قاموس. {فَأَنْجَيْناكُمْ} أي: أخرجناكم من البحر سالمين.

{وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ:} أي في البحر. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إلى ما حلّ بهم من الغرق. وهذا من تذكير الله لليهود الموجودين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أنعم على آبائهم الأولين، وكذلك

ص: 149

التوبيخ، والتقريع الموجّه إليهم بما فعل آباؤهم من عبادة العجل، ونقض العهود، وخلف الوعود، وغير ذلك من سيّئ الأعمال، وفاحش الفعال، والأقوال.

هذا وذكر الطّبريّ: أنّ موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل، كما قال تعالى في سورة طه:{أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي} فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي، والمتاع من نساء القبط، -وأحل الله لهم ذلك؛ لأنهم حربيّون، ويجوز أخذ مال الحربي بأية طريقة كانت-فسرى بهم موسى من أول الليل، فأعلم فرعون بذلك. فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الدّيكة، فلم يصح تلك الليلة ديك، وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط، فاشتغلوا في الدّفن، وخرجوا في صباح تلك الليلة مشرقين، كما قال تعالى في سورة الشعراء:{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه، وكانت عدّة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف، وكانت عدّة قوم فرعون ألف ألف ومائتي ألف.

هذا وقال الخازن-رحمه الله تعالى-: فلمّا أرادوا السير؛ ضرب عليهم التيه، فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل، وسألهم عن ذلك، فقالوا: إن يوسف عليه السلام لمّا حضره الموت أخذ عهدا على إخوته، وعلى بنيهم أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم، فلذلك انسدّ عليهم الطريق، فسألهم عن موضع قبره، فلم يعلموه، فجعل ينادي: أنشد الله كلّ من يعلم أين قبر يوسف إلا أخبرني، فسمعته عجوز منهم. فقالت له: أرأيتك إن دللتك على قبره، أتعطيني كل ما أسألك؟ فأبى عليها. وقال: حتى أسأل ربي، فأمره الله أن يعطيها سؤالها. فقالت: إني عجوز لا أستطيع المشي، فاحملني معك، وأخرجني من مصر في هذه الدنيا، وأما في الآخرة، فأسألك أن لا تنزل غرفة من غرف الجنة إلا أنزلتني معك! قال: نعم.

قالت: إنّه في النيل في جوف الماء، فادع الله أن يحسر عنه الماء، فدعا الله، فحسر عنه الماء، ودعا الله أن يؤخّر عنه طلوع الفجر؛ حتى يفرغ من أمر يوسف، ثم حفر موسى ذلك الموقع، فاستخرجه وهو في صندوق من مرمر، وحمله حتى دفنه بفلسطين، بجوار أبيه يعقوب، وجدّه إسحاق، وإبراهيم، على نبينا، وعليهم ألف صلاة وألف سلام. انتهى خازن بتصرف.

والمحفوظ: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان جالسا يقسّم غنائم هوازن في وادي حنين، فوقف عليه رجل من الناس، فقال: إنّ لي عندك موعدا يا رسول الله! قال: «صدقت، فاحتكم ما شئت» . فقال:

أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها. قال: «هي لك، وقد احتكمت يسيرا، ولصاحبة موسى الّتي دلّته على عظام يوسف؛ كانت أحزم منك، وأجزل حكما منك حين حكمها موسى. فقالت: حكمي أن تردني شابة، وأن أدخل معك الجنّة، فقال لها: لك ذلك» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [101] من سورة (يوسف) عليه السلام.

ص: 150

والمعروف: أنّ يعقوب دخل مصر في ستّة وسبعين نفسا من ولده، وولد ولده، فأنمى عددهم وبارك في ذرّيته؛ حتى خرجوا إلى البحر هربا من فرعون، وهم ستمائة ألف. فانطلق موسى بقومه؛ حتى انتهى إلى البحر فقال له: افرق، فقال له البحر: لقد استكبرت يا موسى! وهل فرقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك؟! وقال بنو إسرائيل لموسى لمّا أدركهم فرعون بجنوده: أين المخرج، والمخلص، والبحر أمامنا، وفرعون وراءنا، وقد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم. فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه، فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، وكشف الله عن وجه الأرض، وأيبس لهم البحر، فلحق فرعون وكان على حصان أدهم، وخلفه عسكره، وصار في البحر اثنا عشر طريقا، لكل سبط طريق يتراءون وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقان وشبابيك، يرى منها بعضهم بعضا، فلمّا خرج قوم موسى من البحر، وصار قوم فرعون كلّهم داخل البحر؛ التطم عليهم البحر، فأغرقهم، وألجم فرعون الغرق، فقال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ} فدسّ جبريل عليه السلام في فمه طين البحر. فقد روى الترمذيّ عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا أغرق الله فرعون، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد! لو رأيتني، وأنا آخذ من أوحال البحر، وأدسّه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وانظر ما ذكرته في سورة (طه) و (الشعراء) وغيرهما.

قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: ذكر الله الإنجاء، والإغراق، ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه، فقد روى مسلم-رحمه الله تعالى-عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:«ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى، وقومه، وأغرق فرعون، وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نحن أحقّ، وأولى بموسى منكم» فصامه، وأمر بصيامه. وصيامه صلى الله عليه وسلم ليوم عاشوراء ليس اقتداء بموسى عليه السلام، لما روته السيدة عائشة رضي الله عنها-قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان؛ ترك صيام يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. أخرجه البخاريّ، ومسلم.

ولا يقال: إنّ قريشا صامته بإخبار اليهود لها؛ لأنّ اليهود كانوا أهل علم. وصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة قبل النبوة، وبعدها، ولمّا هاجر إلى المدينة، ووجد اليهود يصومونه، قال:«نحن أحقّ، وأولى بموسى منكم» . فصامه اتباعا لموسى عليه الصلاة والسلام، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بمن قبله من الرّسل بالتّوحيد، وبأصول الدّين، التي لا تختلف من شريعة إلى شريعة، وأما فروع الشرائع فالاختلاف واقع فيها، باختلاف الأزمنة.

وهذا واضح لا خفاء فيه، انظر ما ذكرته في سورة (الأنعام) رقم [90] تجد ما يسرك.

ص: 151

ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر المحرم، وندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صوم اليوم التاسع، ولكنّه لم يصمه، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس-رضي الله عنهما، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع» ، ولكنّه صلى الله عليه وسلم توفي، وانتقل إلى الله قبل مجيء العام القابل، والغرض من صوم التاسع مخالفة اليهود في صومهم، فقد روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال:«صوموا التاسع مع العاشر، وخالفوا اليهود» . وخذ ما يلي:

عن أبي قتادة-رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السّنة التي قبله» . أخرجه مسلم، والترمذيّ. ولكن أيّ ذنوب يكفرها صوم يوم عاشوراء وغيره من المعاصي؟ إنّما يكفر الصّغائر فقط، أما الكبائر؛ فلا يكفرها صوم، ولا صلاة، ولا حجّ، ولا زكاة، وأكبر الكبائر، وأعظم الجرائم أكل حقوق العباد، والاعتداء على حرمات الناس. هذا؛ وانظر شرح قوله تعالى في سورة (يونس) رقم [92]:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} فإنه جيّد. والحمد لله!.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. ({إِذْ}): معطوفة على ما قبلها. {فَرَقْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. {بِكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، أي: ملتبسا بكم، والأول أقوى. {الْبَحْرَ:} مفعول به، وجملتا:(أنجيناكم، {وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ}) معطوفتان على ما قبلهما فهما في محل جر مثلهما.

{وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{تَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع مبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{آلَ فِرْعَوْنَ} والرابط: الواو فقط، وإن قدّرت مفعولا محذوفا وأنتم تنظرون أغرقهم، أو إغراقهم، فالرابط يكون الواو، والضمير، وهو كلام جيد لا غبار عليه.

{وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)}

الشرح: {وَإِذْ واعَدْنا:} ويقرأ: («وعدنا») بدون ألف. هذا والوعد يستعمل في الخير، وفي الشرّ. فإذا قلت: وعدت فلانا من غير أن تتعرض لذكر الموعود به؛ كان ذلك خيرا. وإذا قلت:

أوعدت فلانا من غير ذكر الموعود به؛ كان شرّا، وهو ما في بيت طرفة بن العبد من معلقته رقم [120]:[الطويل]

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وهذا هو قول الجوهري، وقول كثير من أئمة اللغة، وأما عند ذكر الموعود به، أو الموعد به؛ فيجوز أن يستعمل (وعد) في الخير وفي الشر، فمن الأول قوله تعالى:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا}

ص: 152

{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} الآية رقم [29] من سورة (الفتح)، ومن الثاني قوله تعالى:{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الآية رقم [72] من سورة (الحج) وأنشدوا قول الشاعر: [الطويل]

إذا وعدت شرّا أتى قبل وقته

وإن وعدت خيرا أراث وعتّما

كما يستعمل أوعد فيهما أيضا. كقولك: أوعدت الرجل خيرا، وأوعدته شرّا. هذا والمركز في الطبائع: أن من مكارم الأخلاق، وجميل العادات: أنك إذا وعدت غيرك أن تنزل به شرّا؛ كان الخلف محمدة، وإذا وعدته خيرا كان الخلف منقصة، وهذا ما أراده طرفة بن العبد في بيته المتقدّم.

هذا؛ والثابت عند الأشاعرة: أنه يجوز إخلاف الوعيد في حقّه تعالى كرما، وعند الماتريدية لا يجوز، وأما الوعد فلا يجوز الخلف في حقّه تعالى اتفاقا، ودليل الأشاعرة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«من وعده الله على عمل ثوابا، فهو منجز له، ومن أوعده على عمل عقابا، فهو بالخيار، إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه» . هذا والوفاء بالوعد حلية الأنبياء، وشعار ذوي التقى، والفضل من الأصفياء، ورمز الثقة، والاحترام من ذوي الرأي، والحكمة من العقلاء، وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر العهد، وشدّد في طلب الوفاء بالوعد، وبيّن: أنّ من أخلف الوعد، ونكث العهد؛ فقد خان الله ورسوله، وباع آخرته بدنياه، وخرج من دينه، ودخل في النّفاق، فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» . رواه الإمام أحمد، والطّبراني. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» . رواه البخاريّ، ومسلم، وزاد مسلم في رواية له:«وإن صلّى، وصام، وزعم أنه مسلم» . وزاد أبو يعلى من رواية أنس بن مالك: «وإن صام، وصلّى، وحجّ، واعتمر، وقال: إنّي مسلم» . وقال الشاعر: [الطويل]

فإن تجمع الآفات فالبخل شرّها

وشرّ من البخل المواعيد والمطل

ولا خير في وعد إذا كان كاذبا

ولا خير في قول إذا لم يكن فعل

ومن أحسن ما قيل في تشبيه من يخلف الوعيد بمسيلمة الكذاب قول بعضهم: [الكامل]

ووعدتني وعدا حسبتك صادقا

فبقيت من طمعي أجيء وأذهب

فإذا جلست أنا وأنت بمجلس

قالوا مسيلمة وهذا أشعب

{مُوسى:} هو ابن عمران، بن يصهر، بن قاهث، بن لاوي، بن يعقوب، إسرائيل الله، ابن إسحاق، بن إبراهيم، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام.

ص: 153

و «مُوسى» : هو في الأصل: «موشى» بالشين، وهو اسم أعجمي، لا ينصرف للعلمية، والعجمة: مركب من اسمين: الماء، والشجر، فالماء يقال له في العبرانية:«مو» والشجر يقال له: «شا» فعرّبته العرب، وقالوا:«مُوسى» بالسين، وسبب تسميته بذلك: أنّ امرأة فرعون التقطته من نهر النيل بين الماء، والشجر لما ألقته أمّه فيه، كما هو مذكور في سورة (طه) و (القصص).

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [40].

{أَرْبَعِينَ لَيْلَةً:} خص الليالي بالذكر دون الأيام؛ لأن الليل أسبق من النّهار، فهي قبله في المرتبة، ولذلك وقع بها التاريخ، فالليالي أول الشهور، والأيام تبع لها. وقال النقاش: في هذه الآية إشارة إلى صلة الصّوم؛ لأنه لو ذكر الأيام؛ لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر باللّيل، فلما نصّ على الليالي اقتضت قوة الكلام: أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها، قال ابن عطية:

سمعت أبي يقول: سمعت الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل الجوهري-رحمه الله-يعظ الناس في الخلوة بالله، والدنوّ منه في الصّلاة ونحوها، وأنّ ذلك يشغل عن كلّ طعام، وشراب، ويقول: أين حال موسى في القرب منه، ووصل ثمانين من الدّهر من قوله حين سار للخضر لفتاه في بعض يوم:{آتِنا غَداءَنا} رقم [62] من سورة (الكهف).

{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} أي: اتخذتموه من بعد ذهابه إلى جبل الطور إلها من بعد موسى، وأصل الفعل:«ائتخذتم» من: الأخذ، ووزنه افتعلتم، سهّلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين، فصار (ايتخذتم) فاضطربت الياء في التّصريف، جاءت ألفا في (ياتخذ) وواوا في (موتخذ) فبدلت بحرف ثابت من جنس ما بعدها، وهي التاء، ثمّ أدغمت التاء في التاء، ثم اجتلبت ألف الوصل للنطق بها، وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التّقرير كقوله تعالى:{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً} الآية رقم [80] الآتية، فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير، ومنه قوله ذي الرّمّة:[البسيط]

أستحدث الرّكب عن أشياعهم خبرا

أم راجع القلب من أطرابه طرب

ومثله قوله تعالى في سورة (مريم) رقم [78]: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} وقوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [153]: {أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ} وقوله تعالى في سورة (ص) رقم [75]: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} وقوله تعالى في سورة (المنافقون) رقم [6]: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} انظر شرح هذه الآيات في محالّها.

{الْعِجْلَ} المراد به: الذي صنعه لهم السامريّ من ذهب، كما سترى تفصيله في سورة طه.

هذا والأربعون ليلة في قول المفسرين هي: ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد أن أنجاهم الله من كيد فرعون، وغرقه في البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فذهب موسى لمناجاة ربه على جبل الطور، وليطلب منه الكتاب الذي وعد قومه به، فصنع لهم السامريّ العجل، قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [148]:{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ}

ص: 154

{حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ} وقال جلّ ذكره في سورة (طه) رقم [88] في حق السامري:

{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى} . هذا؛ وسمّي العجل عجلا، لاستعجالهم عبادته، والعجل: ولد البقرة، والعجّول مثله، والجمع: العجاجيل، والأنثى عجلة، وبنو عجل قبيلة من ربيعة.

هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [142]: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} انظر شرحها هناك فإنه جيد والحمد لله. وقد قال القرطبي رحمه الله تعالى في سبب فتنتهم زيادة العشر فوق الثلاثين، وزلق رحمه الله تعالى. فقال: فخرج إلى الطّور في سبعين من خيار بني إسرائيل، يعني: ليسأل الكتاب، والمعتمد: أن خروجه في السّبعين لطلب التوبة من عبادة العجل، خذ قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [155]:{وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا} انظر شرحها هناك يتبيّن لك وجه الحقيقة.

هذا والليلة: واحدة مفردة، أما الليل فهو واحد، بمعنى الجمع، واحدته ليلة، مثل تمر، وتمرة، وقد يجمع على ليالي، فزادوا فيه الياء على غير قياس، ونظيره: أهل، وأهال، وشبه، ومشابه، وحاجة، وحوائج، وذكر، ومذاكر، وكأن ليالي في القياس جمع: ليلاة. وقد استعملوا ذلك في الشعر، وأنشد ابن الأعرابي، وهو الشاهد رقم [66] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز]

يا لك من ذي جمل ما اشقاه

في كلّ ما يوم وكلّ ليلاه

هذا واللّيل الشّرعي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وهو أحد قولين في اللّغة، والقول الآخر: هو من غروب الشمس إلى طلوعها. هذا؛ والنّهار ضدّ الليل، وهو لا يجمع كما لا يجمع العذاب، والسراب فإن جمعته قلت في الكثير: نهر بضمتين كسحاب، وسحب، وفي القليل: أنهر وقال ابن فارس: النهر معروف، والجمع أنهر، وأنهار. ويقال: إن النّهار يجمع على نهر، قال الشاعر:[الرجز]

لولا الثّريدان لمتنا بالضّمر

ثريد ليل وثريد بالنّهر

والنّهار من طلوع الفجر، أو من طلوع الشمس على ما تقدّم في نهاية الليل إلى غروب الشمس، وقد يطلق عليهما اسم اليوم، كما رأيت في الآية رقم [48]، هذا والليل يطلق على الحبارى، أو فرخها، وفرخ الكروان، والنّهار يطلق على فرخ القطا، انتهى. قاموس، وقد ألغز بعضهم بقوله:[الوافر]

إذا شهر الصّيام إليك وافى

فكل ما شئت ليلا أو نهارا

الإعراب: ({إِذْ}): معطوف على مثله في الآيتين السابقتين. {واعَدْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. {مُوسى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة

ص: 155

على الألف للتعذّر. {أَرْبَعِينَ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، وهو على حذف مضاف؛ إذ الأصل: تمام أربعين. {لَيْلَةً:} تمييز. {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِتَّخَذْتُمُ:} فعل وفاعل. {الْعِجْلَ:} مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلها.

{مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وليس بشيء. ولو قيل:

متعلقان بمحذوف صفة إلها المحذوف؛ لكان وجها مقبولا، وجملة:{اِتَّخَذْتُمُ..} . إلخ: معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير، وقال الزّمخشري، وتبعه البيضاويّ، والنّسفيّ: معترضة في آخر الكلام. وقيل: مستأنفة.

{ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}

الشرح: {ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ:} صفحنا عنكم، فالعفو: محو الذنب، أي: محونا ذنوبكم، وتجاوزنا عنكم، وهو بهذا المعنى كثير في القرآن كثرة لا تعدّ، ولا تحصى، كما يأتي «عفا» بمعنى الكثرة، قال تعالى:{ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا} الآية رقم [95] من سورة (الأعراف) أي: حتى كثروا، ونموا في أنفسهم، وأموالهم. من قولهم: عفا النبات، وعفا الشّحم، والوبر: إذا كثر، قال الحطيئة:[الطويل]

بمستأسد الغربان عاف نباته

بأسؤق عافيات الشّحم أكوم

وعفا المنزل، يعفو عفاء: إذا انمحت آثاره، وذهبت معالمه، قال الأخطل التّغلبيّ، وهو الشاهد رقم [498] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

وبالصّريمة منهم منزل خلق

عاف تغيّر إلاّ النّؤي والوتد

وعفو المال: ما يفضل عن النفقة، قال تعالى:{وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} رقم [219] الآتية، والعافي: طالب المعروف، والإحسان، قال عروة بن الورد العبسيّ المعروف بعروة الصّعاليك:[الطويل]

وإنّي امرؤ عافي إنائي شركة

وأنت امرؤ عافي إنائك واحد

وجمع العافي: عفاة، قال الأعشى في مدح ممدوحه:[المتقارب]

تطوف العفاة بأبوابه

كطوف النّصارى ببيت الوثن

وانظر إعلال (عفوا) فيما تقدّم.

{مِنْ بَعْدِ ذلِكَ:} من بعد عبادة العجل. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . هذا؛ والفعل «شكر» يتعدّى بنفسه،

ص: 156

وبحرف الجر، تقول: شكرته، وشكرت له. كما تقول: نصحته، ونصحت له، وباللام أفصح. هذا؛ ومن أسماء الله تعالى (الشّكور) ومعناه: هو الذي يجازي على يسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة. وخذ ما قيل في معنى الشّكر لله:

فقال سهل بن عبد الله: الشّكر: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السرّ، والعلانية. وقالت فرقة أخرى: الشّكر: هو الاعتراف في تقصير الشّكر للمنعم، ولذلك قال تعالى:{اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} سورة (سبأ) رقم [13] فقال داود-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-: يا رب! كيف أشكرك يا رب؛ والشّكر نعمة منك عليّ؟ قال: الآن عرفتني، وشكرتني؛ إذ قد عرفت أن الشكر منّي نعمة عليك. وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك، لا يجازى بها عملي كلّه، فأوحى الله إليه: يا موسى الآن شكرتني. وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: الشّكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان، والإفضال. انتهى قرطبي بتصرف.

هذا؛ وشكر الله يستوجب المزيد من النعم، قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} وجحدها يستوجب سلبها، وردها بها. قال تعالى في الآية نفسها رقم [7]:{وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} . لذا قيل: الشكر قيد النّعمة الموجودة، وبه تنال النعمة المفقودة، وينبغي أن تعلم: أن فائدة الشكر تعود على الشاكر نفسه، قال تعالى في سورة (النّمل) رقم [40]:{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} وقال جل ذكره في سورة (لقمان) رقم [12]: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} . هذا؛ والشكر مطلوب لكل منعم، ومحسن، ولو كان من البشر؛ لذا فقد ندبنا الرسول المعظم صلى الله عليه وسلم قال:«من أعطي عطاء، فوجد؛ فليجز به، فإن لم يجد فليثن، فإنّ من أثنى؛ فقد شكر، ومن كتم؛ فقد كفر، ومن تحلّى بما لم يعط؛ كان كلابس ثوبي زور» . الترمذي. وعن أسامة بن زيد-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا؛ فقد أبلغ في الثّناء» .

وعن النّعمان بن بشير-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يشكر القليل؛ لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس؛ لم يشكر الله، والتّحدّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يشكر الله من لا يشكر النّاس» . قال الخطابي-رحمه الله تعالى: هذا الكلام يتأوّل على معنيين: أحدهما: أنّ من كان طبعه كفران نعمة الناس، وترك الشكر لمعروفهم؛ كان من عادته كفران نعم الله عز وجل، وترك الشكر له.

والوجه الآخر: أنّ الله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه، إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه، ويكفر معروفهم؛ لاتصال الأمرين بالآخر، ورحم الله من قال:[الطويل]

ومن لم يؤدّ الشّكر للناس لم يكن

لإحسان ربّ النّاس يوما بشاكر

ص: 157

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {عَفَوْنا:} فعل وفاعل. {عَنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{واعَدْنا..} .

إلخ؛ فهي في محل جرّ مثلها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل {عَفَوْنا} أيضا، و {بَعْدِ} مضاف و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَعَلَّكُمْ} حرف مشبه بالفعل والكاف اسمه. {تَشْكُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ) والجملة الاسمية مفيدة للتعليل المفهوم من التّرجّي.

{وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}

الشرح: {وَإِذْ آتَيْنا:} أعطينا. {الْكِتابَ:} التوراة، وانظر الآية رقم [2]. {وَالْفُرْقانَ:}

اختلف فيه. فقيل: الواو صلة، والمعنى: آتينا موسى الكتاب الفرقان، والواو قد تزاد في النّعوت. كقولهم: فلان حسن وطويل، وأنشدوا:[المتقارب]

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

أراد إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة، ودليل هذا التأويل قوله-عز وجل-في سورة (الأنعام) رقم [154]:{ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي:

بيّن الحلال والحرام، والكفر والإيمان، والوعد والوعيد، وغير ذلك. وقيل: الفرقان: الفرق بينهم وبين قوم فرعون، أنجى هؤلاء، وغرّق أولئك، ونظيره قوله تعالى:{يَوْمَ الْفُرْقانِ} في سورة (الأنفال) رقم [41] فهو يوم بدر بلا شك، نصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأهلك أبا جهل وأصحابه، وقال ابن زيد: الفرقان: انفراق البحر له حتى صار فرقا، فعبروا. وقيل: الفرقان:

الفرج من الكرب، لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط، ومنه قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً} أي: فرجا، ومخرجا الآية رقم [29] من سورة (الأنفال)، وقيل:

الفرقان: هو الكتاب أعيد ذكره باسمين مترادفين تأكيدا، وحكي هذا عن الفرّاء، ومنه قول عديّ بن زيد:[الوافر]

فقدّمت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا

وقال الحطيئة، وهو الشاهد رقم [43] من كتابنا فتح ربّ البريّة:[الطويل]

ألا حبّذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النأي والبعد

فنسق البعد على النأي والمين على الكذب، لاختلاف اللفظين، ومنه قول عنترة في معلّقته رقم [10]:[الكامل]

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم

ص: 158

قال النحاس: وهذا إنّما يجيء في الشّعر، وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد: فرقا بين الحق والباطل، أي الذي علّمه إيّاه. وقيل: المراد بالفرقان: المعجزات التي أجراها الله تعالى على يد موسى مثل: العصا، واليد، وغير ذلك. وفي الكشاف يعني: الجامع بين كونه كتابا منزلا، وفرقانا بين الحقّ، والباطل. كقولك: رأيت الغيث، واللّيث. تريد الرّجل الجامع بين الجود، والجرأة، ونحوه قوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [48]:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} يعني: الكتاب الجامع بين كونه فرقانا، وضياء، وذكرا.

{تَهْتَدُونَ:} أي إلى طريق الحق، والخير، والتّقوى.

هذا والترجي في هذه الآية، وغيرها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، ولقد أحسن ابن المنير في الردّ على الزمخشري القائل: إرادة أن تشكروا النّعمة في العفو عنكم، فقال: التفسير الصحيح في: (لعلّ) هو الذي حرّره سيبويه-رحمه الله تعالى-في قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} من سورة عبس.

قال: الرجاء منصرف إلى المخاطب، كأنه قال: كونا على رجائكما في تذكّره، وخشيته، وكذلك هذه الآية معناها: لتكونوا على رجاء الشّكر لله-عز وجل-ونعمه، فينصرف الرّجاء إليهم، وينزّه الله تعالى.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. ({إِذْ}): معطوفة على مثلها في الآيات السابقة.

{آتَيْنا:} فعل وفاعل. {مُوسَى:} مفعول به أول. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. (الفرقان): معطوف على ما قبله، أو هو صفة له، أو هو بدل منه، انظر الشرح. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} مثل إعراب:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} مفردات، ومحلاّ.

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (54)}

الشرح: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ:} قوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، ومعشر، فإن المفرد لهذه الأسماء إنّما هو رجل، وجمعها: أقوام، وأراهط، ومعاشر. هذا و «قوم» يطلق على الرجال دون النساء بدليل قوله تعالى في سورة (الحجرات) رقم [11]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} .

وقال زهير بن أبي سلمى: [الوافر]

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء؟

ص: 159

وهذا هو الشاهد رقم [55] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وربما دخل فيه النّساء على سبيل التبع للرّجال، كما في إرسال الرسل لأقوامهم؛ إذ إن كل لفظ {يا قَوْمِ} في القرآن الكريم، إنما يراد به الرجال، والنّساء جميعا، كما هنا، وهو يذكر، ويؤنث، قال تعالى في غير ما آية:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وتأنيثه باعتبار المعنى، وهو أنّهم أمّة، وطائفة، وجماعة، وسمّوا قوما؛ لأنهم يقومون مع داعيهم بالشّدائد، والمتاعب، إمّا بالمعاونة على كشفها، وإما بالمضايقة، والإيذاء إن عارضوا، وهذا حال أعداء الخير، والإصلاح في كلّ زمان ومكان.

{إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ:} استغنى بالجمع القليل عن الكثير، والكثير:«نفوس» ، كما رأيت في الآية رقم [9] وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلّة، والقليل موضع الكثرة، ويقال لكلّ من فعل فعلا قبيحا: إنما أسأت إلى نفسك. {بِاتِّخاذِكُمُ:} أصله: باوتخاذكم، فقلبت الواو تاء، وأدغمت في التاء، فهو مصدر: اتّخذ، يتّخذ. الأصل: اوتخذ، يوتخذ، قلبت الواو فيها تاء، وأدغمت في التاء. {فَتُوبُوا:} ارجعوا. وقيل: اعزموا على التوبة. قال سفيان بن عيينة-رضي الله عنه: التوبة نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم، وكانت توبة بني إسرائيل القتل.

{بارِئِكُمْ:} خالقكم، وبينهما فرق، وذلك: أن البارئ هو المبدع المحدث، والخالق هو المقدّر، الناقل من حال إلى حال. {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: ليقتل بعضكم بعضا، فقاموا صفين، وبيدهم الخناجر، والسيوف، فقتل بعضهم بعضا، لا يسأل والد عن ولده، ولا ولد عن والده، ولا أخ عن أخيه، كلّ من استقبله ضربه بالسيف، وضربه الآخر بمثله. وقيل: أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة. روي: أنّ الرجل منهم كان يلقى ابنه، أو أخاه، فلم يقدر على المضي لأمر الله، فأرسل الله عليهم ضبابة، أو سحابة، فجعلوا لا يعرف بعضهم بعضا، فأخذوا يقتلون من الغداة إلى العشي، حتى دعا موسى، وهارون، فانكشفت السّحابة، ووضع موسى التوراة التي أتى بها من جبل الطور، ونزلت توبتهم من السّماء، وكان القتلى سبعين ألفا، فكان ذلك شهادة للمقتول، وتوبة للحيّ.

{ذلِكُمْ:} أي: القتل، والخضوع لأمر الله، والانقياد لما يريد. {خَيْرٌ:} أفضل، وهو أفعل تفضيل، أصله: أخير، نقلت حركة الياء إلى الخاء؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثم حذفت الهمزة استغناء عنها بحركة الخاء، ومثله قل في: حبّ، وشرّ اسمي تفضيل، إذ أصلهما أحبب، وأشرر، فنقلت حركة الباء الأولى، والراء الأولى إلى ما قبلهما، ثم أدغم الحرفان المتماثلان في بعضهما، ثم حذفت الهمزة من أولهما استغناء عنها بحركة الحاء، والشّين، وقد يستعمل خير، وشر على الأصل، كقراءة بعضهم قول الله تعالى في سورة (القمر):

(«سيعلمون غدا من الكذاب الأشرّ») بفتح الشين، ونحو قول رؤبة بن العجاج:[الرجز]

يا قاسم الخيرات وابن الأخير

ما ساسنا مثلك من مؤمّر

ص: 160

وخير، وحبّ يستعملن بصيغة واحدة للمذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والجمع؛ لأنهنّ بمعنى «أفعل» كما رأيت. {فَتابَ عَلَيْكُمْ} قبل توبتكم، قال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنّسفي: الفاء الأولى للتّسبيب؛ لأنّ الظلم سبب التوبة، والثانية للتعقيب، لأن المعنى فاعزموا على التوبة، فاقتلوا أنفسكم؛ إذ إنّ الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، والثالثة متعلقة بشرط محذوف. كأنه قال: فإن فعلتم القتل؛ فقد تاب الله عليكم. {إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} انظر الآية رقم [37].

الإعراب: ({إِذْ}): معطوفة على مثلها في الآيات السابقة. {قالَ مُوسى:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. {لِقَوْمِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء ضمير في محل جر بالإضافة. ({يا}): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» . ({قَوْمِ}): منادى منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصّة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء الساكنة، فيقول:(يا قومي) ومنهم من يثبتها ويحركها بالفتحة. فيقول: (يا قومي) ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول:(يا قوما)، ومنهم من يحذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها فيقول:(يا قوم)، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

واجعل منادى صحّ إن يضف ل «يا»

كعبد عبدي عبد عبدا عبديا

ويزاد سادسة وهي لغة القطع: (يا قوم) بضم الميم، ففي الحديث الشريف، يقول:(يا ربّ، يا ربّ). وقرئ في سورة (يوسف) الآية رقم [33]: («قال ربّ السّجن أحبّ إليّ»). والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {ظَلَمْتُمْ:} فعل وفاعل. {أَنْفُسَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {بِاتِّخاذِكُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {الْعِجْلَ:} مفعول به أول للمصدر، والمفعول الثاني محذوف؛ إذ التقدير: باتخاذكم العجل إلها، وجملة:{ظَلَمْتُمْ..} .

إلخ: في محل رفع خبر (إنّ) وجملة: {إِنَّكُمْ..} . إلخ: في محل نصب مقول القول.

{فَتُوبُوا:} الفاء: حرف عطف على قول من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها في مثل ذلك للسّببية المحضة، وأراها الفاء الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التّقدير: وإذا كان ذلك قد حصل منكم؛ {فَتُوبُوا..} . (توبوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{ظَلَمْتُمْ} على الوجهين الأولين المعتبرين في الفاء، ولا محل لها على اعتبار الفاء الفصيحة، وعليه فالجملة الشرطية معطوفة برمّتها. {إِلى بارِئِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله أو من إضافة الصّفة المشبهة، وفاعله مستتر فيه. {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ:}

هذه الجملة معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وإعرابها لا خفاء فيه.

ص: 161

{ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {خَيْرٌ:} خبره. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْرٌ} . {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب {خَيْرٌ} أيضا، و {عِنْدَ} مضاف، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{ذلِكُمْ خَيْرٌ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها. {فَتابَ:} الفاء: واقعة في جواب شرط مقدر محذوف، التقدير: إن فعلتم ما أمرتم به؛ فقد تاب، وهذا إن كان من كلام موسى لهم. أو الفاء: حرف عطف، تعطف الجملة على كلام محذوف؛ إن جعلته من كلام الله تعالى على طريق الالتفات. كأنه قال لهم: فعلتم ما أمرتم به، فتاب عليكم بارئكم. {إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ:} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [32] و [37] والجملة الاسمية مفيدة للتعليل لا محل لها.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}

الشرح: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى:} هذا من خطاب الأبناء بما فعل الآباء. {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} أي: لن نصدقك حتى نرى الله عيانا، وسبب ذلك: أنّ الله تعالى أمر موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-أن يأتيه بأناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار سبعين رجلا من صلحائهم. وقال لهم: صوموا، وتطهّروا. ففعلوا، وخرج بهم إلى طور سيناء. فقالوا لموسى:

اطلب لنا أن نسمع كلام ربّنا. فأسمعهم الله قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا} أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني، ولا تعبدوا غيري. فلمّا سمعوا كلام ربّ العزة؛ استحلوا كلامه، فطلبوا رؤيته، وهذه طبيعة البشر، فكل من استحلى صوتا يحبّ أن يرى صاحبه. انظر الآية رقم [155] من سورة (الأعراف). {فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ:} الصيحة، وهي صوت هائل سمعوه من جهة السماء. وقيل: هي نار، وفي سورة (الأعراف):{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وهي الزلزلة، ويمكن الجمع بأنهم حصل لهم الجميع. انتهى. جمل. فقام موسى يبكي، ويدعو الله ويقول:{رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا} فناشد به حتّى أحياهم رجلا رجلا بعد أن مكثوا ميتين يوما وليلة. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي: إلى حالكم، وما نزل بكم من الموت، وآثار الصعقة.

هذا وقال الزمخشري: وفي هذا الكلام دليل على أنّ موسى-عليه الصلاة والسلام-رادّهم القول، وعرّفهم: أن رؤية ما لا يجوز عليه

إلخ: قال أحمد بن المنير رحمه الله تعالى: لقد انتهز الزمخشري ما اعتقده فرصة من هذه الآية التي لا مطمع له عند التحقيق في التشبث بها، فبنى الأمر على أنّ العقوبة سببها طلب ما لا يجوز على الله تعالى من الرؤية على ظنّه، وأنّى له ذلك؟! وثمّ سبب ظاهر في العقوبة سوى ما ادّعاه هو كل السبب، وذلك: أنّ موسى عليه السلام لمّا علم جواز رؤيته تعالى طلبها في آية (الأعراف) رقم [143] فأخبره الله تعالى: أنه لا يراه في الدنيا،

ص: 162

وصار في ذلك عنده، وعند بني إسرائيل أصلا مقررا، كما هو عندنا الآن معاشر أهل السنة: أن الله لا يرى في الدنيا، لأنه أخبر: أنّه لا يرى، والخبر واجب الصدق، وكما أنه أخبره أنه لا يرى في دار الدنيا، فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة، وتخصيص ذلك بالمؤمنين، وبعد استقرار هذا المعتقد طلب بنو إسرائيل الرؤية تعنّتا، أو شكّا في الخبر، فأنزل الله تعالى بهم العقوبة. وكيف تخيّل الزمخشري وشيعته: أنّ موسى عليه السلام طلب من الله ما لا يجوز عليه، وهل هو لو كان الأمر على ما تخيّله إلا كبني إسرائيل؟! ومعاذ الله لقد برأه الله من ذلك، وكان عند الله وجيها! هذا وطلب رؤية الله في الدنيا ليست أول مفاسد بني إسرائيل، وجرائمهم، فقد ذكر أبو بكر بن أبي شيبة، عن قيس بن عباد: أنّ بني إسرائيل قالت: ما مات فرعون، وما كان ليموت أبدا! قال: فلم يعد أن سمّع الله تكذيبهم نبيّه عليه السلام، فرمى به على ساحل البحر، كأنه ثور أحمر يتراآه بنو إسرائيل، قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} رقم [92] فلمّا اطمأنوا، وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون، حتى نقلوا كنوزه، وغرقوا في النّعمة؛ رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم {قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} فزجرهم موسى، وقال:{أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} الآيتان من سورة (الأعراف) رقم [138، 140].

ثمّ أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدّسة، التي كانت مساكن آبائهم، ويتطهروا من أرض فرعون، وكانت الأرض المقدّسة في أيدي الجبّارين، قد غلبوا عليها، فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال. فقالوا: أتريد أن تجعلنا لقمة للجبّارين، فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيرا لنا؟! قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام:{يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} إلى قوله:

{قاعِدُونَ} سورة (المائدة) رقم [21] وما بعدها؛ حتى دعا الله عليهم، وسمّاهم فاسقين فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة لهم، قال تعالى في سورة (المائدة) رقم [26]:{قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} .

ثمّ رحمهم الله، فمنّ عليهم بالمنّ، والسّلوى، والغمام، انظر الآية رقم [57] الآتية، ثمّ سار موسى إلى طور سيناء ليجيئهم بالتّوراة، فاتّخذوا العجل، كما رأيت في الآية رقم [51] ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس، فادخلوا الباب سجّدا، وقولوا: حطّة، الآية رقم [58] الآتية، وكان موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-شديد الحياء ستّيرا، فقالوا:

إنه آدر، فلما اغتسل وضع على الحجر ثوبه، فعدا به الحجر إلى مجالس بني إسرائيل، وموسى على أثره عريان؛ وهو يقول: يا حجر ثوبي، فذلك قوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [69]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمّا قالُوا} .

ثمّ لما مات هارون في التيه. قالوا له: أنت قتلت هارون، وحسدته، حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميّت عليه. انظر ما ذكرته في آية المائدة رقم [26]. ثمّ سألوه أن يعلموا آية في

ص: 163

قبول قربانهم، فجعلت نار تجيء من السماء، فتقبل قربانهم. ثمّ سألوه أن يبيّن لهم كفارات ذنوبهم في الدّنيا، فكان من أذنب منهم ذنبا أصبح على بابه مكتوب، عملت كذا، وكفارته قطع عضو من أعضائك يسمّيه له، ومن أصابه بول لم يطهر حتّى يقرضه، ويزيل جلدته، ثمّ بدلوا التوراة، وافتروا على الله، وكتبوا بأيديهم، واشتروا به عرضا. الآية رقم [79] الآتية، ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم، ورسلهم، فهذه معاملتهم مع ربّهم، وسيرتهم في دينهم، وسوء أخلاقهم، وانظر ذلك في مواضعه التي ذكرتها لك. انتهى. قرطبي بتصرف كبير مني.

هذا و {نَرَى:} مضارع، ماضيه: رأى، فالقياس نرأي، وقد تركت العرب الهمزة في مضارعه لكثرته في كلامهم، وربما احتاجت إلى همزة، فهمزته، كما في قول سراقة بن مرداس البارقي، وهو الشاهد رقم [504] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]

أري عينيّ ما لم ترأياه

كلانا عالم بالتّرّهات

وربما جاء ماضيه بغير همزة، وبه قرأ نافع في:({أَرَأَيْتَكُمْ}) و ({أَرَأَيْتَ}): («أريتكم») و («أريت») بدون همزة، قال الشاعر:[الخفيف]

صاح هل ريت، أو سمعت براع

ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب

وإذا أمرت منه على الأصل قلت: «ارء» : وعلى الحذف: «ره» بهاء السكت، وقل في إعلال {نَرَى} أصله:«نرأي» قلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ثمّ حذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على الراء للتخفيف.

الإعراب: ({إِذْ}): معطوفة على ما قبلها في الآيات السابقة. {قُلْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. (يا) أداة تنوب مناب:«أدعو» . ({مُوسى}): منادى مفرد علم مبني على الضم المقدر على الألف المقصورة في محل نصب ب (يا) النائبة مناب أدعو، والجملة الندائية مع ما بعدها في محل نصب مقول القول. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال.

{نُؤْمِنَ:} فعل مضارع منصوب ب {لَنْ} والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: نحن. {لَكَ} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة، وهي بمعنى «إلى» هنا. {نَرَى} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد حتى، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف، والفاعل تقديره: نحن. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {جَهْرَةً:} مفعول مطلق نوعي؛ لأن الجهر بعض الرؤية. وقيل: هو حال من الفاعل المستتر، أو من لفظ الجلالة. وقيل: مفعول مطلق لفعل محذوف. التقدير: جهرتم جهرة، وتعود الجملة هذه فتكون في محل نصب حال، و «أن» المضمرة والفعل {نَرَى} في تأويل مصدر في محل جر ب «حتى» والجار والمجرور متعلقان بالفعل {نُؤْمِنَ}. {فَأَخَذَتْكُمُ:} الفاء: حرف عطف. (أخذتكم): فعل ماض، والتاء للتأنيث،

ص: 164

والكاف مفعول به. {الصّاعِقَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قُلْتُمْ} فهي في محل جرّ مثلها. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الكاف الواقعة مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير، وجوز اعتبارها معترضة في آخر الكلام، ومستأنفة.

{ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}

الشرح: {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ} أي: أحييناكم من بعد موتكم. قال قتادة: ماتوا، وذهبت أرواحهم، ثم ردّوا لاستيفاء آجالهم، وأرزاقهم، ولإظهار آثار قدرة الله، ولو ماتوا بآجالهم؛ لم يحيوا إلى يوم القيامة. وكان موتهم عقوبة، ومنه قوله في الآية رقم [243]:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ} . هذا؛ وبقي تكليفهم على الأصحّ، لئلا يخلو عاقل من تعبّد، وانظر إحياء الموتى في الآية رقم [73] الآتية.

{ثُمَّ:} حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والتّرتيب، والمهلة؛ وفي كلّ منها خلاف مذكور في مغني اللبيب، وقد تلحقها تاء التأنيث السّاكنة، كما تلحق «ربّ» و «لا» العاملة عمل ليس، فيقال:«ثمّت، وربّت، ولات» ، والأكثر تحريك التاء معهنّ بالفتح، هذا و {ثُمَّ} هذه غير «ثمّ» بفتح الثاء، فإنها اسم يشار به إلى المكان البعيد، كما في قوله تعالى في سورة (الشعراء) رقم [64] وهي ظرف لا يتصرف، ولا يتقدّمه حرف التنبيه، ولا يتّصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة، فيقال:(ثمّة).

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {بَعَثْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية، معطوفة على جملة:{فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ} في الآية السابقة. {مِنْ بَعْدِ} متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَعْدِ} مضاف، و {مَوْتِكُمْ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر الميمي لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: من بعد إماتتنا إيّاكم. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [52].

{وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}

الشرح: {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ:} سترناكم بالسّحاب الرّقيق من حرّ الشمس، وكان هذا في التّيه. و {الْغَمامَ:} جمع: غمامة، كسحابة، وسحاب. وقال الفرّاء: ويجوز: غمائم، وهي السّحاب؛ لأنها تغمّ السماء، أي: تسترها، وكل مغطّى مغموم، ومنه المغمى على عقله. روي:

ص: 165

أنهم لبثوا أربعين سنة في تسعة فراسخ

(1)

من أرض فلسطين يسيرون من الصّباح إلى المساء، فإذا هم في المكان الذي ارتحلوا عنه، ويسيرون من المساء إلى الصباح، فإذا هم في المكان نفسه، وكان ذلك في التيه عقوبة لبني إسرائيل، ما خلا موسى، وهارون، ويوشع، وكالب، فإنّ الله سهّله عليهم، وأعانهم عليه، كما سهّل النار على إبراهيم، وجعلها بردا وسلاما، وكانوا أكثر من ستمائة ألف، وبقاء هذا الجمع العظيم في هذه المساحة من الأرض مدّة أربعين سنة، بحيث لم يخرج منه أحد إنّما هذا من باب خرق العادة، وهو في زمن الأنبياء غير مستبعد، ولمّا آذاهم حرّ الشمس؛ أرسل عليهم الغمام يظلّهم في النّهار، وأرسل عليهم عمودا من نور يطلع عليهم في اللّيل، فيضيء لهم طريقهم، ويسهّل عليهم تحرّكاتهم، وكان طعامهم المنّ والسّلوى. هذا؛ والآية مذكورة بحروفها في سورة الأعراف رقم [159]. (وكان ماؤهم من الحجر الذي يحملونه معهم، فيضربه موسى بعصاه، فينفجر منه اثنتا عشرة عينا)، كما ستعرفه في الآية رقم [60] الآتية، وأيضا في سورة الأعراف رقم [160] وكانت ثيابهم لم تبل في هذه المدّة، ولا تتّسخ وكانت تطول معهم، كما تطول الصّبيان، قال ابن عباس-رضي الله عنهما:«خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق، ولا تدرن» ، أي: لا يصيبها وساخة، ولا قذارة.

هذا واختلف في المنّ ما هو؟ فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان المنّ ينزل على الأشجار، فيغدون إليه، فيأكلون ما شاءوا. وقال قتادة: كان المنّ ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج، أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإن ادّخر منه شيئا؛ فسد عليه إلا يوم الجمعة، فإنّهم كانوا يدّخرون فيه ليوم السبت، فلا يفسد عليهم؛ لأن يوم السبت يوم عبادة، وما كان ينزل عليهم فيه شيء. وقال عبد الرحمن بن أسلم: إنّه العسل. وليس بشيء.

هذا؛ وقيل: المنّ مصدر، يعم جميع ما منّ الله به على عباده من غير تعب، ولا زرع، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن عمرو بن نفيل (أحد العشرة المبشرين بالجنة-رضي الله عنه):«الكمأة من المنّ الّذي أنزل الله على بني إسرائيل، وماؤها شفاء للعين» . رواه مسلم.

قال أبو عبيد رحمه الله تعالى: إنّما شبهها بالمنّ؛ لأنه لا مئونة فيها ببذر، ولا سقي، ولا علاج، فهي منه، أي من جنس منّ بني إسرائيل في أنّه كان دون تكلّف. قال بعض أهل العلم بالطّبّ: الكمأة شفاء للعين، إما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة، فتستعمل بنفسها مفردة، وإما لغير ذلك، فمركبة مع غيرها. وذهب أبو هريرة-رضي الله عنه-إلى استعمالها بحتا في جميع أمراض العين، وهذا كما استعمل أبو وجزة العسل في جميع الأمراض

1) الفرسخ: مسافة تبلغ ثلاثة أميال هاشمية، والميل الهاشمي (5760) مترا (المعجم المدرسي).

ص: 166

كلّها حتى في الكحل. ({السَّلْوى}): قال ابن عطية: طير بإجماع المفسرين. وقيل: هو السّمانى بعينه، وقد غلط خالد بن زهير الهذليّ، فظنّه العسل، فقال:[الطويل]

وقاسهما بالله جهدا لأنتم

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها

وقال المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير، وهو ابن عمر السّدوسي: إنّه العسل، واستدل ببيت الهذلي، وذكر: أنه كذلك بلغة كنانة، سمّي به؛ لأنه يسلى به، ومنه عين السّلوان، وأنشد قول الشاعر:[الرجز]

لو أشرب السّلوان ما سليت

ما بي غنى عنك وإن غنيت

وقال الجوهريّ: والسّلوى: العسل، وذكر بيت الهذلي، لذا ما ادّعاه ابن عطية من الإجماع من أنه طير لا يصحّ، ويمكن القول: أنه يطلق على الطير المذكور وعلى العسل، والسّلوانة بالضم: خرزة كانوا يقولون: إذا صبّ عليها ماء المطر، فشربه العاشق سلا، قال الشّاعر:[الطويل]

شربت على سلوانة ماء مزنة

فلا وجديد العيش يا ميّ ما أسلو

واسم ذلك الماء: السّلوان، وقال بعضهم: السّلوان: دواء يسقاه الحزين، فيسلو، والأطباء يسمّونه المفرّح. ويقال: سليت، وسلوت لغتان، هذا وقال الأخفش: السّلوى: جمع لا واحد له من لفظه، مثل: الخير، والشر. وقال الخليل: واحده: سلواة، وأنشد قول الشاعر:[الطويل]

وإنّي لتعروني لذكراك سلوة

كما انتفض السّلواة من بلل القطر

{كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ:} هو على تقدير: وقلنا لهم: كلوا من حلالات ما رزقناكم، ولا تدّخروا لغد. فخالفوا، وادخروا، فدوّد، وفسد: فقطع الله عنهم ذلك، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطّعام، ولم يخنز اللّحم، ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها الدّهر» . متّفق عليه، لم يخنز اللّحم: لم ينتن، ولم يتغيّر. هذا والأمر أمر إباحة، وإرشاد، وامتنان. {وَما ظَلَمُونا} أي: بكفرهم، وجحودهم هذه النّعم. ويقدّر قبله:

فعصوا، ولم يقابلوا هذه النعم بالشّكر. {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمقابلتهم النعم بالمعاصي.

وكلّ من خالف أوامر الله فإنما يظلم نفسه؛ لأن وبال ذلك يعود عليه. وهذه الجملة تكرر ذكرها في عشر آيات، وخذ قوله تعالى في سورة (فصلت) رقم [46]:{مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} . هذا والجمع بين صيغتي الماضي، والمضارع:{ظَلَمُونا} و {يَظْلِمُونَ} للدلالة على تماديهم في الظلم، واستمرارهم على الكفر.

الإعراب: ({ظَلَّلْنا}): فعل وفاعل. {عَلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْغَمامَ:}

مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة. ({أَنْزَلْنا}): فعل وفاعل.

{عَلَيْكُمُ:} متعلقان به. {الْمَنَّ:} مفعول به. ({السَّلْوى}): معطوف على ما قبله منصوب مثله،

ص: 167

وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {كُلُوا:}

فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف. التّقدير: وقلنا: كلوا.. والجملة الفعلية على هذا التقدير معطوفة على ما قبلها. {مِنْ طَيِّباتِ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، و {طَيِّباتِ:} مضاف. و {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة. {رَزَقْناكُمْ:} فعل وفاعل ومفعول به أول، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني؛ إذ التقدير: من طيبات الذي، أو شيء رزقناكموه. {وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {ظَلَمُونا:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والمتعلق محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة المحذوفة مع الفعل، انظر تقديره في الشرح، والرابط الواو والضمير، والكلام المقدر مستأنف؛ لأنه بمنزلة جواب لسؤال مقدّر، فكأن قائلا قال: ما فعلوا بهذه النّعم؟ قيل: فكفروا هذه النعم

إلخ. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنْ}): حرف استدراك مهمل لا عمل له.

{كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {أَنْفُسَهُمْ:}

مفعول به مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَظْلِمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان) وجملة: {كانُوا..} . إلخ: معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{وَإِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَاُدْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}

الشرح: {وَإِذْ قُلْنَا} القائل هو الله، والتعبير بمثل هذا كثير في القرآن الكريم، قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى في كتابه:(الجواب الصّحيح لمن بدل دين المسيح): وقوله تعالى: ({كَتَبْنا})، ({جَعَلْنَا})، ({إِنّا})، ({نَحْنُ نَقُصُّ})، ({نُسْئَلُ}): لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء، وعلى الواحد العظيم المطاع؛ الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكونوا له شركاء ولا نظراء، والله تعالى خلق ما سواه فيمتنع أن يكون له شريك، أو مثل، والملائكة وسائر العالمين جنوده، فإذا كان الواحد من الملوك يقول: إنا، نحن، وكتبنا، وفعلنا

إلخ، ولا يريدون: أنّهم ثلاثة ملوك، فما بالك الملك ربّ العالمين، وربّ كل شيء، ومليكه هو أحقّ بأن يقول:(إنا) و (نحن)

إلخ مع أنه ليس له شريك ولا مثل، بل له جنود السموات والأرض. انتهى.

أقول: و (نا) هذه تسمى نون العظمة، وليست دالة على الجماعة، فالله تعالى لا شريك له في ذاته، ولا صفاته، ولا في أفعاله، وكثيرا ما يتكلم بها العبد، فيقول: أخذنا، وأعطينا، وليس معه أحد، وهذا واقع ومستعمل في اللغة العربيّة كثيرا.

ص: 168

هذا وفي سورة (الأعراف): {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ} والقائل لهم موسى قبل أن يموت في التيه، أي: قال لهم: إذا خرجتم من التيه. أو القائل لهم هو يوشع، وهذا كان لما خرجوا من التيه، وقد أكد ابن كثير: أنّ القائل لهم هو موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وأنّ القرية إنّما هي بيت المقدس. وقال آخرون: هي أريحا، وأن القائل هو يوشع، هذا وإذا تأملنا قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [21]:{يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} وعرفنا عنادهم، وعصيانهم، وأنّ ذلك كان سببا لتيههم أربعين سنة، وهذا كان في حياة موسى، وبعد نجاة بني إسرائيل قطعا؛ تبيّن لنا: أنّ القائل لهم إنّما هو يوشع بلا شكّ، ودليل ذلك: أنهم لم يدخلوا القرية في عهد موسى، ولم يقولوا غير الذي قيل لهم. وهذا الذي أرتئيه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه! يبقى الاختلاف في القرية التي قال لهم يوشع: ادخلوا أو اسكنوا؛ هل هي بيت المقدس أو أريحاء؟.

هذا و {الْقَرْيَةَ} اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة، وغيرها، كيف لا؟ وقد جعل الله مكة المكرمة أم القرى في قوله تعالى في الآية رقم [92] من سورة (الأنعام):{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} كما تطلق على الضّيعة الصغيرة، وهي مأخوذة من: قريت الماء في المكان: جمعته، وفي القاموس المحيط: القرية بكسر القاف، وفتحها، والنسبة إليها قروي، وقريي. والفتح أقوى.

{فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ:} الأمر للإباحة مثل الآية السابقة. {رَغَداً:} انظر الآية رقم [35] فالبحث فيها واف كاف. {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً:} منحنين متواضعين: كالراكع، ولم يرد به السّجود الشّرعي بوضع الجبهة على الأرض، هذا وجمع {الْبابَ:} أبواب، وقد يجمع على أبوبة للازدواج، قال الشاعر:[البسيط]

هتّاك أخبية، ولّاج أبوبة

يخلط بالبرّ منه الجدّ واللّينا

{وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي: حطّ عنا ذنوبنا. قال سعيد بن جبير-رحمه الله: معناه الاستغفار.

وقال أبان بن تغلب: معناه التوبة. قال الشاعر: [الخفيف]

فاز بالحطّة الّتي جعل الل

هـ بها ذنب عبده مغفورا

وقال ابن فارس في المجمل: {حِطَّةٌ:} كلمة أمر بها بنو إسرائيل، لو قالوها؛ لحطّ أوزارهم. وقاله الجوهري في الصّحاح. وانظر الحديث في الآية التالية. {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ:}

قال الفرّاء: جمع خطيّة بلا همز، كما تقول: هديّة، وهدايا، فهو جمع تكسير، وأصل خطية:

خطيئة، فقلبت الهمزة ياء، وأدغمت الياء في الياء، فصار: خطيّة. هذا؛ وقرئ بسورة (الأعراف): «خطيئتكم» وقرئ بسورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:

«خطيئتكم» على أنها جمع خطيئة، فهما جمع تصحيح مثل: صحائف، وصحيفة، وأصله:

ص: 169

خطايئ مثل: صحايف، فقل في إعلاله: تحركت الياء فيهما، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الأصلية والألف المنقلبة عن الياء، فقلبت هذه همزة فصار (خطائئ) على وزن فعالل، فلما اجتمعت الهمزتان، قلبت الثانية ياء لأن قبلها كسرة، ثم استثقلت، والجمع ثقيل، وهو معتل مع ذلك، فقلبت الياء ألفا، ثم قلبت الأولى ياء لخفائها بين الألفين.

وقال القرطبيّ، ومكي، وغيرهما: واختلف في أصل خطايا جمع خطيئة بالهمزة، فقال الخليل: الأصل في خطايا أن يقول: خطايئ، ثم قلب، فقيل: خطائي بهمزة بعدها ياء ثم تبدل من الياء ألفا بدلا لازما. فتقول: خطاءا، فلما اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الألف صرت كأنك جمعت بين ثلاث ألفات، فأبدلت من الهمزة ياء فقلت: خطايا. وأما سيبويه فمذهبه:

أن الأصل خطايئ، ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن، فتقول: خطائئ، ولا تجتمع همزتان في كلمة فأبدلت من الثانية ياء، فقلت خطائى، ثم عملت كما عملت في الأول، ففيه خمسة أعمال: قلب الياء التي قبل الهمزة همزة، ثم قلبت الثانية ياء، ثم قلبت كسرة الأولى فتحة، ثم قلب الثانية ألفا، ثم قلبت الأولى ياء، وقول الفراء المتقدّم أسهل، وأخصر.

{وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ:} أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدّم عندهم، والمحسن من صحّح عقد توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على فرائضه، وكفى المسلمين شرّه. وفي حديث جبريل عليه السلام، الّذي أخرجه مسلم:«ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك. قال: صدقت» . هذا؛ وفي سورة (الأعراف) رقم [161]: {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} بدون واو، قال الزمخشري: موعد بشيئين: بالغفران، وبالزيادة، وطرح الواو لا يخلّ بذلك؛ لأنه استئناف مرتّب على تقدير قول القائل: وماذا بعد الغفران؟ فقيل له: سنزيد المحسنين. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو حرف عطف. ({إِذْ}) ظرف متعلق بفعل محذوف مبني على السكون في محل نصب، التقدير: اذكروا، أو مفعول به لهذا المقدّر، وهذه الجملة معطوفة على جمل مقدّرة قبلها في الآيات السابقة. {قُلْنَا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها.

{اُدْخُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعله، والألف للتفريق. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب على الظرفية المكانية عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحقّقون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السّعة بإجراء اللازم مجرى المتعدّي، ومثل ذلك قل في:«دخلت المدينة» ، «ونزلت البلد» . «وسكنت الشام» . وأيضا قوله في الآية رقم [61]{اِهْبِطُوا مِصْراً} وهذا إذا كان الفعل ثلاثيّا، وأما إذا كان رباعيّا بأن دخلت عليه همزة التعدية،

ص: 170

ونصب مفعولين، فالمفعول الثاني يقال فيه ما ذكر في مفعول الثلاثي، والمفعول الأول يكون صريحا مثل:«أدخلت خالدا البيت» . {الْقَرْيَةَ:} بدل من اسم الإشارة أو عطف بيان عليه، وبعضهم يعربه صفة، ولا وجه له؛ لأنه غير مشتق، وجملة ({اُدْخُلُوا}): في محل نصب مقول القول.

{فَكُلُوا:} الفاء: حرف عطف. (كلوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله.

{مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والتقدير: من ثمرها. {حَيْثُ:} ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب متعلق بالفعل قبله، وقيل: متعلق بمحذوف حال، أي: منتقلين، ومتقلبين. {شِئْتُمْ:} فعل وفاعل، والمفعول محذوف، كما رأيت فيما تقدّم، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها. {رَغَداً:} حال من واو الجماعة. قاله أبو البقاء. التقدير: كلوا مستطيبين، متهنئين. ويمكن اعتباره نائب مفعول مطلق، أو هو صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: كلوا أكلا رغدا. وجملة: (كلوا) معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وأيضا جملة:{وَادْخُلُوا الْبابَ:} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثل إعراب سابقتها بلا فارق. {سُجَّداً:} حال من واو الجماعة. ({قُولُوا}): أمر، وفاعله. {حِطَّةٌ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: مسألتنا حطة، وقرئ بالنصب على أنه مفعول مطلق محذوف، التقدير:

أن تحطّ عنا ذنوبنا حطة، أي: حطّا. وقيل: هو منصوب ب ({قُولُوا}) وعلى هذا ف «أن» والفعل في تأويل مصدر في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: مسألتنا الحط من ذنوبنا. والجملة على الاعتبارين في محل نصب مقول القول، وجملة:({قُولُوا}) في محل نصب مقول القول ل {قُلْنَا} .

{نَغْفِرْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الأمر، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، التقدير: إن تقولوا نغفر، والفاعل مستتر تقديره: نحن، وقرئ بالتاء على أنه مبني للمجهول. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {خَطاياكُمْ:} مفعول به، أو هو نائب فاعل، فهو منصوب، أو مرفوع، والنصب، أو الرفع مقدر على الألف المقصورة للتعذّر، وجملة:

{نَغْفِرْ} لا محل لها على اعتبارها جوابا للأمر، أو جوابا لشرط مقدّر، وتعود لتكون في محل نصب مقول القول. {وَسَنَزِيدُ:} الواو: واو الاعتراض. السين: حرف استقبال. (نزيد): فعل مضارع والفاعل تقديره: نحن. {الْمُحْسِنِينَ:} مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير:

ثوابا، أو خيرا. والجملة الفعلية معترضة بين المتعاطفتين، مفيدة للتأكيد، وتقوية المغفرة.

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)}

الشرح: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ..} . إلخ فيه حذف، وتقديره: فبدل الذين ظلموا بالّذي قيل قولا غير الّذي قيل لهم. و (بدّل) يتعدّى إلى مفعول واحد بنفسه، وإلى آخر بالباء، فالذي مع الباء

ص: 171

متروك والذي بغير باء موجود، ومثل الآية قول أبي النّجم العجلي، وهو الشاهد رقم [719] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز]

وبدّلت والدّهر ذو تبدّل

هيفا دبورا بالصّبا والشّمأل

فالذي انقطع عنها: الصّبا، والذي صار لها: الهيف. وقال أحمد بن يحيى: يقال: بدّلته، أي: غيرته، ولم أزل عينه، وأبدلته: أزلت عينه، وشخصه، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا:

حطّة نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبّة في شعرة». وأخرجه البخاريّ: «وقالوا: حطّة حبّة في شعرة» . وفي غير الصحيحين: «حنطة في شعر» . وقيل: قالوا: هطّا سمهاثا، وهي لفظة عبرانيّة، تفسيرها: حنطة حمراء. حكاها ابن قتيبة. وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به، فعصوا، وتمرّدوا، واستهزءوا، فعصوا بالقول، والفعل، فعاقبهم الله بالرّجز، وهو العذاب؛ قال ابن زيد-رحمه الله تعالى-: كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا.

{فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا:} وضع الله الظاهر مكان الضّمير؛ فلم يقل: فأنزلنا عليهم؛ لزيادة التقبيح، والمبالغة في زيادة التّوبيخ، والمبالغة في الذّمّ، والتّقريع. هذا؛ والرّجز: العذاب، والمراد: الطاعون، كما تقدّم، وقوله تعالى:{مِنَ السَّماءِ} تنبيه على أنه لا يمكن ردّه، ودفعه، بخلاف عذاب، وبلاء في الأرض يقع من يد آدمي، فهذا يمكن ردّه، ودفعه، كالهدم، والغرق، ونحوهما. {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} أي: بفسقهم، وعصيانهم، وتمرّدهم على الله تعالى. وانظر الآية رقم [26] لشرح الفسق، وفي آية الأعراف:{بِما كانُوا يَظْلِمُونَ} .

تنبيه: الآية الكريمة، وسابقتها كلتاهما موجودتان بسورة الأعراف رقم [160 و 161] بمعنى واحد تنصّان على حادثة واحدة مع اختلاف في بعض الكلمات، وإبدال حرف بحرف، وهذا لا يغيّر المعنى، وإن تغيّر الإعراب من بعض الوجوه. وذكرت لك فيما تقدّم: أن الحادثة جرت في عهد يوشع بن نون بعد خروج بني إسرائيل من التّيه، ووفاة موسى، وهارون، على نبينا وعليهم جميعا ألف صلاة وألف سلام، مع وجود الاختلاف في القرية الّتي أمروا بدخولها، هل هي بيت المقدس، أو أريحاء؟.

الإعراب: (بدّل): فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قُلْنَا..} . إلخ، فهي في محل جرّ مثلها. {ظَلَمُوا:}

فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {قَوْلاً:} مفعول به ل (بدّل). {غَيْرَ:} صفة: {قَوْلاً} و {غَيْرَ:} مضاف، و {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {قِيلَ:} ماض مبني

ص: 172

للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {الَّذِي} تقديره: هو، وهو العائد. ({لَهُمْ}): جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. (أنزلنا): فعل، وفاعل. {عَلَى الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{ظَلَمُوا} مع المفعول المحذوف صلة الموصول لا محل لها، وجملة:(أنزلنا): معطوفة على جملة: (بدّل) فهي في محل جر أيضا. {رِجْزاً:} مفعول به. {مِنَ السَّماءِ:} جار، ومجرور، متعلقان بمحذوف صفة {رِجْزاً}. {بِما:} الباء: حرف جر (ما): مصدرية، {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَفْسُقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانُوا،} و (ما) والفعل (كان) في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (أنزلنا)، واعتبار (ما) موصولة أو موصوفة فيه ضعف ظاهر؛ لأن المعنى بسبب فسقهم.

تنبيه: استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبّد بلفظها، أو بمعناها، فإن كان التعبّد بلفظها؛ فلا يجوز تبديلها؛ لذمّ الله تعالى من بدّل ما أمره بقوله. وإن كان التعبد بمعناها؛ جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه.

وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فحكي عن الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابهم: أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى، لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله، وهو قول الجمهور، ومنع ذلك جمع كثير من العلماء، منهم:

ابن سيرين، والقاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة، وقال مجاهد: أنقص من الحديث، ولا تزد فيه إن شئت، وكان مالك بن أنس يشدّد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاء، والياء، ونحو هذا.

وعلى هذا جماعة من أئمّة الحديث؛ لا يرون إبدال اللفظ، ولا تغييره حتّى إنهم يسمّونه:

ملحونا، ويعلمون ذلك، ولا يغيّرونه، وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد، قال: قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: من سمع حديثا، فحدّث به، كما سمع؛ فقد سلم، وكذا الخلاف في التقديم، والتأخير، والزيادة، والنقصان، فإن منهم من يعتد بالمعنى، ولا يعتد باللفظ ولكن أكثر العلماء على خلافه، والقول بالجواز هو الصّحيح، إن شاء الله تعالى.

وذلك: أنّ المعلوم من سيرة الصحابة-رضي الله عنهم، هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتّحدة بألفاظ مختلفة، وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني، ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث، ولا كتبها. وروي عن واثلة بن الأسقع-رضي الله عنه: أنّه قال: ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم، حسبكم المعنى. وقال قتادة عن زرارة بن أوفى: لقيت عدّة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاختلفوا علي باللفظ، واجتمعوا في المعنى.

ص: 173

وكان النّخعي، والحسن، والشعبي-رحمهم الله-يأتون بالحديث على المعاني. وقال الحسن: إذا أصبت المعنى؛ أجزأك. وقال الثوريّ-رحمه الله تعالى-: إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. واتّفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم، وذلك هو النقل بالمعنى، وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص علينا من أنباء ما قد سلف، فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربيّ، وهو مخالف لها في التقديم، والتأخير، والحذف، والإلغاء، والزيادة، والنقصان، وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية؛ فلأن يجوز بالعربية أولى. احتجّ بهذا المعنى الشافعي، والحسن.

وهو الصّحيح في الباب. انتهى قرطبي رحمه الله تعالى.

{وَإِذِ اِسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}

الشرح: {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ:} طلب لهم السّقيا، فالسين، والتاء للطّلب. وكان ذلك لمّا عطشوا في التيه. والاستسقاء إنّما يكون عند عدم الماء، وحبس المطر، وإذا كان ذلك فالغاية منه إظهار العبوديّة، والتذلّل، والمسكنة، والفقر مع التّوبة النّصوح، وقد استسقى نبيّنا، وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المصلّى متواضعا، متذلّلا، متخشّعا، متوسّلا، متضرعا، وحسبك به، وكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد، ومخالفة ربّ العباد؟! فأنّى نسقى؟! لكن قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر-رضي الله عنهما:«ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلاّ منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم؛ لم يمطروا» .

{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ:} العصا معروف، وهو اسم مقصور مؤنث، ألفه منقلبة عن واو، وأصله: عصو، وتثنيته: عصوان، وعصوين، ومقتضى القياس في جمعها عصوّ، فأبدل من الواو الثانية ياء؛ لأنها طرف ليس بينها وبين الضمة إلا حرف ساكن، فصار، عصوي، فقل في إعلاله: اجتمعت الواو والياء، والأول ساكن، فقلبت الواو ياء فصار:(عصي) ثم قلبت ضمة العين كسرة لمناسبة الياء، قال تعالى في سورة (طه) رقم [66]:{قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} وفي المثل: (العصا من العصية) وقولهم: ألقى عصاه؛ أي: أقام، وترك الأسفار، وهو مثل، قال معتمر بن حمار البارقي:[الطويل]

فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

وقد يعبر بالعصا عن الاجتماع، والافتراق، ومنه يقال في الخوارج: شقّوا عصا المسلمين؛ أي: اجتماعهم، وائتلافهم. وانشقت العصا؛ أي: وقع الخلاف. قال الشاعر-وهو الشاهد رقم [967] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، ونسب لجرير-:[الطويل]

ص: 174

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد

وقولهم: لا ترفع عصاك عن أهلك، يراد به الأدب. هذا؛ وكانت من آس الجنّة، طولها عشرة أذرع على طول موسى، ولها شعبتان تتّقدان في الظّلمة نورا، حملها آدم معه من الجنة، فتوارثها الأنبياء؛ حتى وصلت إلى شعيب، وأعطاها لموسى-على نبيّنا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام-لما استأجره لرعاية الغنم. {الْحَجَرَ:} «الحجر» معروف، وقياس جمعه في القلّة: أحجار، وفي الكثرة: حجار، وحجارة نادر، وهو كقولنا: جمل، وجمالة، وذكر، وذكارة. كذا قال ابن فارس، والجوهري. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وفي القرآن: {فَهِيَ كَالْحِجارَةِ،} {وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ،} {قُلْ كُونُوا حِجارَةً،} {تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ،} {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً} فكيف يكون نادرا؟! إلا أن يراد: أنه نادر في القياس، كثير في الاستعمال فصيح، والله أعلم.

قال وهب بن منبه-رحمه الله تعالى-: لم يكن حجرا معيّنا، بل كان موسى يضرب أي حجر كان، فينفجر عيونا، وهذا أعظم في الآية، والإعجاز. وقيل كان حجرا معيّنا، كان موسى يضعه في مخلاته، فإذا احتاجوا إلى الماء؛ وضعه، وضربه بعصاه، فيتفجّر الماء، فأخذوا كفايتهم منه، فإذا ضربه ثانية؛ فيمسك الماء. قال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: وهو الذي فرّ بثوبه حين اغتسل في النّهر، فأتاه جبريل عليه السلام حين فرّ بثوبه. وقال: إنّ الله يأمرك أن ترفع هذا الحجر معك، فوضعه في مخلاته، وحفظه، وكان من رخام كرأس الرّجل مربّع، وكان إذا ضربه تتفجّر منه اثنتا عشرة عينا بعدد القبائل المتفرعة عن أولاد يعقوب عليه السلام، من كل وجه ثلاث عيون، وكلّ قبيلة تعرف عينها، لا يشركها فيها غيرها.

والحكمة من ذلك: أنّ قوم موسى عليه السلام كانوا كثيرين، وكانوا في الصحراء، والناس إذا اشتدت الحاجة إلى الماء، أو إلى أي شيء من ضرورات الحياة، ثم وجدوه، فإنّه يقع بينهم تشاجر، وتنازع، فأكمل الله هذه النعمة عليهم بأن عيّن لكلّ سبط منهم ماء معينا على عددهم؛ لأنهم كانوا اثني عشر سبطا، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر، وهو فحوى قوله تعالى:

{فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} . هذا؛ وفي سورة الأعراف رقم [160]: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ..} . إلخ. قال المفسرون: انفجرت، وانبجست بمعنى واحد. وقيل:

انبجست؛ أي: عرقت، وانفجرت؛ أي: سالت.

قال القرطبي وغيره: ما أوتي نبيّنا، وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء، وانفجاره من يده، ومن بين أصابعه أعظم في المعجزة، فإنا نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار آناء اللّيل، والنّهار، ومعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم، لم تكن لنبيّ قبله، يخرج الماء من بين لحم ودم، روى الأئمة الثقات، والفقهاء الأثبات عن جمع من الصحابة، قالوا: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعطش الناس؛ حتّى كادوا يهلكون، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا من الماء، فأتي بوعاء صغير، كالإجّانة، فأدخل يده فيه، فأخذ

ص: 175

الماء يتفجّر، ويفور من بين أصابعه الشريفة، ويقول:«حيّ على الطّهور» . قال الأعمش:

فحدّثني سالم بن أبي الجعد، قال: قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفا وخمسمائة. انتهى قرطبي بتصرف. أقول: هذا العدد كان في الحديبية، وأما في غزوة تبوك فقد كان العدد أكثر من ذلك بكثير. انظر كتب السيرة.

هذا ولفظ «عشرة» على عكس المعدود في التّذكير والتأنيث، إن كان مفردا، وعلى وفقه إن كان مركبا، تقول: جاء عشرة رجال، وعشر نسوة، وخمسة عشر رجلا، وخمس عشرة امرأة.

وشينه تسكن مع المؤنث، وهي لغة أهل الحجاز، وقد تكسر، وهي لغة أهل نجد، وقرئ بها بالفتح أيضا، وهي لغة ثالثة.

{كُلُوا وَاشْرَبُوا..} . إلخ: الأمر للإباحة، ورزق الله الذي أمروا أن يأكلوا منه هو المنّ، والسّلوى، والماء الذي أمروا أن يشربوا منه هو الماء المتفجّر من الحجر، ومعنى {رِزْقِ اللهِ} أي:

من غير كدّ منكم، ولا تعب بل هو من خالص إنعام الله، وإفضاله. هذا؛ وقد حذف مفعول الفعلين. هذا؛ وقال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في المغني: إذا تعلق الإعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل، فيقتصر عليهما، ولا يذكر المفعول، ولا ينوى؛ إذ المنويّ كالثّابت، ولا يسمّى محذوفا؛ لأنّ الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول له، ومنه قوله تعالى:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الآية رقم [9] من سورة (الزمر)، وفي سورة (البقرة) رقم [258]:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ،} و {كُلُوا وَاشْرَبُوا} في هذه الآية، وفي سورة (الأعراف) رقم [31]، وقوله تعالى في سورة (الدّهر):{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ..} . إلخ؛ إذ المعنى: ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة. وهل يستوي من يتصف بالعلم، ومن ينتفي عنه العلم. وأوقعوا الأكل والشرب، وذروا الإسراف. وإذا حصلت منك رؤية هنالك. ومنه على الأصح قوله تعالى في سورة (القصص) رقم [23]:{وَلَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ..} . إلخ. ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام إنّما رحمهما، إذ كانتا على صفة الذياد، وقومهما على السّقي، لا لكون مزودهما غنما، ومسقيهم إبلا. وكذلك المقصود من قولها:

{نَسْقِي} السّقي لا المسقي، ومن لم يتأمل؛ قدّر: يسقون إبلهم، وتذودان غنمها، ولا نسقي غنمنا.

{وَلا تَعْثَوْا:} ولا تفسدوا، ولا تبالغوا فيها بالإفساد، نحو قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع، وكانوا يفعلون ذلك. هذا وفي مختار الصّحاح: عثا في الأرض: أفسد، وبابه سما، وعثي بالكسر عثيا أيضا، وعثى بفتحتين بوزن فتى، قال الأزهري: القراء كلهم متفقون على فتح الثاء، فدل على أنّ القرآن نزل باللغة الثانية، واسم الفاعل منه عاث، والأول من الباب الأول، والثاني من الباب الرّابع، والثالث من الباب الثالث. وعاث، يعيث، عيثا، وعيوثا، ومعاثا.

بعد هذا: للعصا فوائد ذكر موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لمّا سئل عما يحمله في يده من فوائدها فائدتين، وذلك في قوله تعالى في سورة (طه):{وَما تِلْكَ}

ص: 176

{بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى،} وذكر كثيرون للعصا منافع كثيرة، منهم ابن عباس-رضي الله عنهما، فقال: إذا انتهيت إلى رأس بئر، فقصر الرّشاء؛ وصلته بالعصا. وإذا أصابني حرّ الشمس غرزتها في الأرض، وألقيت عليها ما يظلّني. وإذا خفت شيئا من هوامّ الأرض قتلته بها. وإذا مشيت؛ ألقيتها على عاتقي، وعلّقت عليها القوس، والكنانة، والمخلاة، وأقاتل بها السّباع عن الغنم. هذا ومن فوائد العصا: أنّ الرّجل إذا كبر، وشاخ يعتمد عليها في مشيته، قال عمرو بن أحمد الباهليّ، وهو الشاهد رقم [988] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني

ثوبي فأنهض نهض الشّارب السّكر

وكنت أمشي على رجلين معتدلا

فصرت أمشي على أخرى من الشّجر

ومن فوائدها: التنبيه على الانتقال من هذه الدّار، كما قيل لبعض الزّهاد: مالك تمشي على العصا، ولست بكبير، ولا مريض؟ قال: إنّي أعلم أنّي مسافر، وأنّها دار قلعة، وأنّ العصا آلة السّفر، فأخذه بعض الشّعراء، فقال:[الطويل]

حملت العصا لا الضّعف أوجب حملها

عليّ ولا أني تحنيت من كبر

ولكنّني ألزمت نفسي حملها

لأعلمها أنّ المقيم على سفر

هذا وأما العين؛ فإنها تطلق على الماء الجاري، والنابع من الأرض، وجمعها في القلّة:

أعين، وفي الكثرة: عيون، قال تعالى في سورة (الذاريات) وغيرها:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ} وتجمع أيضا على: أعيان، وهذا غير مشهور، وقليل الاستعمال، كما تطلق على الجاسوس، كما في قولك: بث الأمير عيونه في المدينة، أي: جواسيسه، كما تطلق على ذات الشخص، كما في قولك: جاء خالد عينه، وتطلق على الشّمس. وعين الشيء: خياره. وتطلق على النّقد من ذهب، وغيره، وإليك قول الشاعر:[البسيط]

واستخدموا العين منّي وهي جارية

وقد سمحت بها أيام وصلهمو

فالمراد بالعين: نفسه وذاته، والمراد بجارية: عينه الباصرة، التي تجري بالدمع، والمراد بقوله (بها) نقد الذهب، وهذا يسمى في فن البديع استخداما، وتطلق العين على أشياء كثيرة أيضا، وعلى المطر الهاطل من السحاب، قال عنترة في معلقته رقم [29] وهو الشاهد رقم [359] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الكامل]

جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

هذا؛ وأعيان القوم: أشرافهم، وبنو الأعيان: الإخوة من الأبوين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

ص: 177

الإعراب: {وَإِذِ:} ({إِذِ}): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بمحذوف، تقديره: اذكروا، أو هو مفعول به لهذا المقدّر، وهو معطوف على مثله في الآيات السّابقة. {اِسْتَسْقى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {مُوسى:}

فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذِ}) إليها. {لِقَوْمِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. (قلنا): فعل وفاعل، والجملة مع مقولها معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جرّ مثلها. {اِضْرِبْ} فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت. بعصاك: متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:

{اِضْرِبْ..} . إلخ: في محل نصب مقول القول. {فَانْفَجَرَتْ:} الفاء: حرف عطف. (انفجرت):

فعل ماض، والتاء للتأنيث. {مِنْهُ:} متعلقان بما قبلهما. {اِثْنَتا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمّة؛ لأنّه ملحق بالمثنّى، وحذفت النون لما يشبه الإضافة. {عَشْرَةَ:} لفظ مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، لوقوعه موقع نون المثنّى، ولا يصح أن يقال: إنه مضاف إليه لتضمنه معنى العطف. {عَيْناً:} تمييز، وجملة:(انفجرت): معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فضرب الحجر، فانفجرت، والجملتان معطوفتان على جملة:{اِسْتَسْقى،} وجملة: (قلنا) فهما في محل جرّ مثلهما. هذا؛ وقد قيل: إنّ الفاء هي الفصيحة، التقدير: فإن ضربت؛ فقد انفجرت. ولا وجه له فيما أرى، ومثل ذلك في سورة (الأعراف) رقم [160].

{قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمَ:} فعل ماض. {كُلُّ:} فاعله، وهو مضاف و {أُناسٍ:} مضاف إليه. {مَشْرَبَهُمْ:} مفعول به، وهو اسم مكان، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{قَدْ عَلِمَ} في محل نصب حال من (قومه) والرابط محذوف. التقدير:

قد علم كلّ أناس منهم، والاستئناف ممكن. {كُلُوا وَاشْرَبُوا:} فعلا أمر مبنيان على حذف النون، والواو فاعلهما، والألف للتفريق، وانظر الشرح لحذف المفعول. {مِنْ رِزْقِ:} متعلقان بأحد الفعلين السابقين على التنازع، و {رِزْقِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. والجملتان في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقلنا لهم:

كلوا

، ومقوله معطوف على جملة:{قَدْ عَلِمَ} على الوجهين المعتبرين فيها، وهذا مما يقوّي الاستئناف. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}) ناهية جازمة. {تَعْثَوْا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُفْسِدِينَ:} حال من واو الجماعة مؤكدة للفعل؛ لأنها من معناه، منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، وجملة:({لا تَعْثَوْا}): معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا.

ص: 178

{وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)}

الشرح: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى:} هذا خطاب للأبناء بما فعل الآباء، والغرض من ذلك توجيه التوبيخ، والتقريع إليهم؛ لما بينهم وبين أصولهم من الخبث، والمكر، والخداع، ومخالفة الرّسل. {لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ} قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: كانوا نتانى؛ أهل كرّاث، وأبصال، وأعداس، فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء-والعكر بكسر الكاف: العادة، والديدن، وبالفتح دردي كل شيء-واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم. فقالوا: لن نصبر على طعام واحد، وكنوا عن المنّ، والسّلوى بطعام واحد، وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر. فلذلك قالوا: طعام واحد. وقيل: لتكرار هما في كل يوم غذاء، كما تقول لمن يداوم على الصّلاة، والصوم، والقراءة: هو على أمر واحد؛ لملازمته لذلك، انتهى. قرطبي بتصرف.

هذا؛ والطعام يطلق على ما يطعم، ويشرب، قال تعالى في الآية رقم [249] الآتية:{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} والمراد ماء النهر، وقال تعالى في سورة (المائدة) رقم [93]:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا} أي: ما شربوه من الخمر. هذا؛ والطّعم بالضم:

الطعام، قال أبو خراش:[الطويل]

أردّ شجاع البطن لو تعلمينه

وأوثر غيري من عيالك بالطّعم

وأغتبق الماء القراح فأنتهي

إذا الزاد أمسى للمزلّج ذا طعم

أراد بالأول الطّعام، وبالثاني ما يشتهى منه. {مِنْ بَقْلِها:} البقل معروف، وهو: كلّ نبات ليس له ساق مثل الخضر من السلق وغير ذلك، والشّجر: ما له ساق. {وَقِثّائِها} بكسر القاف، وقد تضم، وهو أيضا معروف، ويطلق على الخيار، وقيل في جمعه: قثّائيّ، مثل:

علباء، وعلابيّ، إلا أن قثاء من ذوات الواو. هذا؛ وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز عقليّ؛ لأن المنبت في الحقيقة هو الله تعالى.

فائدة: روى ابن ماجة: قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كانت أمي تعالجني للسّمنة،

ص: 179

تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما استقام لها ذلك حتّى أكلت القثّاء بالرّطب، فسمنت كأحسن سمنة. وهذا إسناد صحيح، وتريد بالدّخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم زفها له عروسا. والله أعلم. {وَفُومِها:} اختلف في الفوم، فقيل: هو الثّوم؛ لأنه المشاكل للبصل، والثاء تبدل من الفاء، كما قالوا: مغافير، ومغاثير لصمغ يسيل من شجر العرفط رائحته ليست طيبة، وجدث وجدف للقبر، وقرأ ابن مسعود-رضي الله عنه:(«ثومها») بالثاء، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال أميّة بن أبي الصّلت، الذي آمن شعره، ولم يؤمن قلبه:[البسيط]

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس والفومان والبصل

وقال حسّان بن ثابت-رضي الله عنه: [المتقارب]

وأنتم أناس لئام الأصول

طعامكم الفوم والحوقل

يعني: الثوم، والبصل، وهو قول الكسائي، والنضر بن شميل. وقيل: الفوم: الحنطة، روي عن ابن عباس أيضا، وأكثر المفسرين، واختاره النّحاس، وقال: وهو أولى، ومن قال به أعلى، وأسانيده صحاح، وإن كان الكسائيّ، والفرّاء، قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء، والإبدال لا يقاس عليه، وليس ذلك بكثير في كلام العرب، وأنشد ابن عباس رضي الله عنهما-لما سأله عن الفوم، وأنّه الحنطة قول أحيحة بن الجلاح:[الكامل]

قد كنت أغنى النّاس شخصا واحدا

ورد المدينة عن زراعة فوم

وقال أبو إسحاق الزجّاج: وكيف يطلب القوم طعاما لا برّ فيه؟ والبرّ أصل الغذاء، وقال الجوهري أبو نصر: الفوم: الحنطة، وأنشد الأخفش:[الوافر]

وقال ربيئهم لمّا أتانا

بكفّه فومة أو فومتان

تنبيه: الثّوم، والبصل، والفجل، والكرّاث من الخضراوات ذات الرّائحة المكروهة، فالرّسول صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل شيئا من هذه الخضراوات، وعلّل كراهته لأكلها لأحد أصحابه:«كلّ فإنّي أناجي من لا تناجي» . أخرجه مسلم. فهذا بيّن في الخصوص له، والإباحة لغيره، وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب-رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل عنده، في أول مقدمه المدينة مهاجرا، فصنع له طعاما فيه ثوم، فلمّا ردّ إليه سأل عن موضع أصابع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقيل له:

لم يأكل، ففزع، وصعد إليه، فقال: أحرام هو؟ قال: «لا؛ ولكنّي أكرهه» قال: فإني أكره ما تكره، أو ما كرهت. فالنّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحرم هذه الخضراوات على أمّته، وخذ ما يلي:

فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أكل البصل، والثّوم، والكرّاث، فلا يقربنّ مسجدنا، فإنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم» .

أخرجه مسلم، ورواه الطّبراني، في الأوسط، والصّغير، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل من هذه الخضراوات: الثّوم، والبصل، والكرّاث، والفجل، فلا يقربنّ مسجدنا، فإنّ

ص: 180

الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم». وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الثّوم، والبصل، وقيل: يا رسول الله! وأشد ذلك الثّوم، أفتحرمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كلوه فمن أكله منكم فلا يقرب المسجد حتّى يذهب ريحه منه» . رواه ابن خزيمة في صحيحه.

وعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: أنّه خطب يوم الجمعة، فقال في خطبته:«ثم إنكم يا أيها الناس تأكلون شجرتين، لا أراهما إلا خبيثتين: البصل، والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرّجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما؛ فليمتهما طبخا» . رواه مسلم، والنسائي.

{وَعَدَسِها} العدس: معروف، والعدسة بثرة تخرج بالإنسان، وربما قتلت و «عدس» زجر للبغال، قال يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، وهو الشّاهد رقم [837] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

عدس ما لعبّاد عليك إمارة

نجوت وهذا تحملين طليق

والعدس: شدّة الوطء والكدح أيضا، وعدست المنية إليه، أي: سارت، قال الكميت:[الطويل]

أكلّفها هول الظّلام، ولم أزل

أخا اللّيل معدوسا إليّ وعادسا

أي: يسار إليّ بالليل. وعدس: لغة في حدس. قاله الجوهري. ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عليّ-رضي الله عنه: أنه قال: «عليكم بالعدس: فإنه مبارك مقدّس، وإنه يرقّ القلب ويكثر الدّمعة، فإنّه بارك فيه سبعون نبيّا، آخرهم عيسى ابن مريم» . ذكره الثعلبي وغيره، قال الحليمي: والعدس، والزيت طعام الصّالحين، لو لم يكن له فضيلة: إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته، لا تخلو منه؛ لكان فيه كفاية، وهو يخفف البدن، فيجفّ للعبادة، ولا تثور منه الشّهوات كما تثور من اللّحم.

{قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ} الاستبدال: وضع الشيء موضع الآخر، ومنه البدل، أي: تطلبون إبداله، والسين والتاء للطلب. {أَدْنى} ألفه منقلبة عن واو؛ لأنه من: دنا، يدنو: إذا قرب، وله معنيان: أحدهما أن يكون المعنى ما تقرب قيمته بخساسته، ويسهل تحصيله، والثاني: أن يكون بمعنى القريب منكم؛ لكونه في الدنيا، والذي هو خير ما كان من امتثال أوامر الله؛ لأن نفعه متأخر إلى الآخرة. وقيل: الألف مبدلة من همزة؛ لأنه مأخوذ من دنؤ، يدنؤ، فهو دنيء، والمصدر: الدناءة، وهو من الشيء الخسيس، فأبدلت الهمزة ألفا. وقيل: أصله: أدون، من الشيء الدون فأخّرت الواو، فانقلبت ألفا، فوزنه الآن أفلع ومعنى الجملة: أتستبدلون البقل، والقثاء، والفوم، والبصل الذي هو أدنى بالمنّ، والسّلوى الذي هو خير؟! والخيرية بسبب: أنّ المن، والسّلوى ألذّ، وأطيب ممّا طلبوه، وأنهما لا كلفة فيهما، ولا تعب، والذي طلبوه لا

ص: 181

يجيء إلا بالحرث، والزّراعة، والتعب، وأنّهما لا مرية في حلّهما، وخلوصهما؛ لنزولهما من عند الله، وما يخرج من الأرض يتخلّله البيع، والغشّ، واللّفّ، والدّوران، فكان أدنى من هذه الوجوه.

{اِهْبِطُوا مِصْراً} أي: انزلوا، وأصل النزول من أعلى إلى أسفل، وانظر الآية رقم [36]، وصرف {مِصْراً} لأن المراد به مصر من الأمصار، فهو نكرة بسبب تنوينه، وهو قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، رضي الله عنه. وقيل: بل المراد مصر فرعون؛ التي كانوا فيها في عهده، واستدل القائلون بهذا بما في القرآن من أنّ الله أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون، وآثارهم. وأجازوا صرفها، قال الأخفش، والكسائيّ: لخفتها، وشبهها ب «هند» ، و «دعد» يعني بسكون الوسط، قال الشاعر:[المنسرح]

لم تتلفّع بفضل مئزرها

دعد ولم تسق دعد في العلب

وقال الحطيئة وهو الشاهد رقم [43] من كتابنا: «فتح رب البرية» : [الطويل]

ألا حبّذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النّأي والبعد

{فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ} أي: ما طلبتم من البقول، والنباتات المذكورة:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي: ألزموها، وقضي عليهم بها، كناية عن إحاطتها بهم، كما تحيط القبة بمن ضربت عليه. وهذا كان على قبائل اليهود، وعلى نسلهم إلى زمن قريب، ويسمّى ذلك استعارة بالكناية، قال الشاعر في مدح ابن الحشرج أمير خراسان:[الكامل]

إنّ السّماحة والمروءة والنّدى

في قبّة ضربت على ابن الحشرج

هذا؛ و {الذِّلَّةُ} الذلّ، والصّغار، والمسكنة، والفقر، فلا يوجد يهوديّ-وإن كان غنيّا- خاليا من زي الفقر، وخضوعه، ومهانته، ولقد أذلّهم الله كلّ حياتهم، فبخت نصّر المجوسي أذلّهم، وامتهنهم، كما سترى في أول سورة الإسراء، ثمّ النصارى ساموهم العذاب، ولمّا جاء الإسلام؛ طردهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، ثم طهّر الفاروق بلاد الحجاز من رجسهم، ثمّ لما فتح بيت المقدس؛ فرض عليهم الجزية، ولكن في هذه الأيام صار لهم صولة، ودولة بسبب تفرّق المسلمين، وإهمالهم لتعاليم دينهم، وتركهم لسنة نبيّهم، وتركهم الجهاد في سبيل الله، وإقبالهم على الدّنيا، وكأنّ الله نزع الذلّة، والمسكنة من رقاب اليهود، وألبسها أعناق المسلمين بسبب ذلك. وخذ ما يلي:

فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتى يعلنوا بها؛ إلاّ فشا فيهم الطاعون، والأوجاع؛ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين

ص: 182

مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسّنين وشدّة المئونة، وجور السّلطان عليهم.

ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم؛ لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله؛ إلا سلّط عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمّتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيّروا ممّا أنزل الله إلاّ جعل الله بأسهم بينهم». رواه ابن ماجة، وغيره.

وعن ثوبان-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن» .

فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: «حبّ الدنيا، وكراهية الموت» . أخرجه أبو داود، وأحمد، وغيرهما.

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاّ لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم» . أخرجه أبو داود. ومن قول عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، إذا طلبنا العزّة بغيره؛ أذلّنا الله.

{وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} أي: انقلبوا، ورجعوا بغضب من الله؛ أي: لزمهم ذلك، وصاروا أحقاء به، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سيد الاستغفار:«أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي» أي:

أعترف بنعمتك عليّ، وأرجع بذنبي إليك، لتغفره لي. وقال تعالى في سورة (المائدة) حكاية عن قول هابيل لأخيه قابيل:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} رقم [29]، وأصله في اللغة الرّجوع، ومثله «آب» بتقديم الهمزة على الباء، وقال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته رقم [77]:[الوافر]

فابوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا

أي: رجعوا، ورجعنا. وقد تقدّم معنى «الغضب» في سورة الفاتحة. {ذلِكَ} إشارة إلى الذلّة، والمسكنة، والغضب. {بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ} أي: بسبب كفرهم بآيات الله، أي: بالتوراة، أو بالمعجزات التي أجراها الله على يد موسى تأييدا لنبوّته، وتقوية لحجّته {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} مثل: يحيى، وزكريا، وشعياء. فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النّهار. رواه أبو داود الطيالسي، بمعنى: لا يهمهم ذلك، ولا يكترثون به، ولا يحسبون له حسابا، وكلمة «في اليوم» لا تعني كلّ يوم، ولكن في بعض الأيام، وعن ابن مسعود-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي، أو قتل نبيّا، وإمام ضلالة، وممثّل من الممثّلين» أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طعن أبيّ ابن خلف في غزوة أحد، وكان ذلك سببا لموته.

ص: 183

{بِغَيْرِ الْحَقِّ:} معلوم: أنّه لا يقتل نبيّ بحقّ، ولكن يقتل بالدّفاع عن الحقّ، فصرح بقوله:

{بِغَيْرِ الْحَقِّ} للتشنيع عليهم، فلم يأت نبيّ قط بشيء يوجب قتله. فإن قيل: كيف جاز أن يخلّى بين الكافرين، وقتل الأنبياء؟! قيل: ذلك كرامة لهم، وزيادة في علوّ مقاماتهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك خذلانا لهم. قال ابن عباس، والحسن-رضي الله عنهم: لم يقتل نبيّ قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكلّ من أمر بقتال؛ نصره. ومعلوم:

أنّ نبينا صلى الله عليه وسلم أمر بقتال، فنصر بذلك.

{ذلِكَ بِما عَصَوْا:} الإشارة إلى ما تقدّم، والعصيان: خلاف الطاعة. {وَكانُوا يَعْتَدُونَ} يتجاوزون حدود الله، فينتهكونها. ويؤخذ من هذا: أن صغار الذنوب يجرّ إلى كبارها، كما أنّ صغار الطّاعات يجرّ إلى كبارها، فاليهود جرّهم ارتكاب معصية الله إلى عظائم الأمور؛ حيث قتلوا الأنبياء، واستحلوا المحرّمات، وجرّهم ذلك أيضا إلى الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وتحريف التوراة، وغير ذلك ممّا ذكره القرآن الكريم عنهم.

هذا؛ و (نبيّون) جمع نبي، يقرأ بالهمز، وبدونه، وهو مأخوذ من النبأ، وهو الخبر؛ لأنّ النبيّ يخبر عن ربه. وقيل: بل مأخوذ من النّبوة، وهو الارتفاع؛ لأنّ رتبة النبيّ ارتفعت عن رتب الخلق. هذا؛ والنبيّ غير الرسول، بدليل عطفه عليه في قوله تعالى في سورة الحجّ رقم [52]:

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ..} . إلخ. وقيل: هو أعم منه؛ لأنّ كل رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسولا، أمّا تعريفهما؛ فالرّسول: ذكر، حرّ، من بني آدم، سليم عن منفّر طبعا، أوحي إليه بشرع يعمل به، ويؤمر بتبليغه، فإن لم يؤمر بالتبليغ؛ فهو نبيّ، وليس رسولا، فنبيّنا صلى الله عليه وسلم صار نبيّا بنزول سورة (اقرأ) عليه، وبعد ستة أشهر من نزولها صار رسولا، بنزول صدر سورة (المدثر) عليه.

هذا؛ ويروى: أنّ أبا ذرّ-رضي الله عنه-سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء، فقال:«مائة ألف، وأربعة وعشرون ألفا» قال: كم عدد الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم، وآخرهم نبيكم» . أخرجه الإمام أحمد، وفي بعض ألفاظه اختلاف بسيط، هذا: وأربعة منهم من العرب، هم: هود، وصالح، وشعيب، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وإسماعيل بن إبراهيم مستعرب لسكناه مكة مع قبيلة جرهم، وتزوّجه بامرأتين منهم. والمذكور من الرّسل في القرآن بأسمائهم خمسة وعشرون، ومعرفتهم بأسمائهم واجبة على كلّ مسلم، ومسلمة من المكلّفين، وأعني بمعرفتهم:

أنه لو عرض اسم رسول منهم على مسلم، فيجب عليه أن يعرف أهو من المرسلين، أم لا؟ هذا وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة (النساء) رقم [164]:{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وقال تعالى في سورة (غافر) رقم [78]: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} .

ص: 184

هذا؛ وقد روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: كلّ الرّسل من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا، وشعيبا، وهودا، وصالحا، ولوطا، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، ومحمدا، صلّى الله عليهم جميعا، وسلّم تسليما كثيرا. هذا؛ وذكروا من أنبياء العرب حنظلة بن صفوان بعث لأصحاب الرّس، وخالد بن سنان العبسي، انظر أصحاب الرّس في الآية رقم [38] من سورة (الفرقان) فإنّه جيد. والحمد لله!.

هذا؛ وقد ذكر الله في آيات (الأنعام) رقم [38] وما بعدها ثمانية عشر رسولا بأسمائهم من غير ترتيب، لا بحسب الزّمان، ولا بحسب الفضل؛ لأنّ الواو العاطفة لا تقتضي الترتيب، وبقي سبعة منهم لم يذكروا في سورة (الأنعام) وقد ذكروا في غيرها، هم: إدريس، وشعيب، وصالح، وهود، وذو الكفل، وهو ابن أيوب الذي ذكر في سورة (الأنبياء)، وآدم، ومحمد، صلّى الله عليهم جميعا، وسلّم تسليما كثيرا. فهؤلاء الخمسة والعشرون رسولا الذين يجب الإيمان بهم، ومعرفتهم، وقد نظموا في قول بعضهم:[البسيط]

حتم على كلّ ذي التّكليف معرفة

بأنبياء على التّفصيل قد علموا

في تلك حجّتنا منهم ثمانية

من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو

إدريس هود شعيب صالح وكذا

ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

ويعني قوله في ({تِلْكَ حُجَّتُنا}) آيات (الأنعام) المذكورة، وينبغي أن تعلم أن هؤلاء الرّسل ليسوا بدرجة واحدة من الفضل، بل أرفعهم درجة، وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وسيّد الجميع، وأفضل الخلق قاطبة محمّد صلّى الله عليهم جميعا، وسلّم تسليما.

والأنبياء-صلوات الله، وسلامه عليهم أجمعين-يجوز عليهم الأعراض البشرية، فهم يأكلون، ويشربون، ويصحّون، ويمرضون، وينكحون النّساء، ويمشون في الأسواق، وتعتريهم الأعراض البشرية من ضعف، وشيخوخة، إلا أنّهم يمتازون بخصائص كريمة عالية، ويتّصفون بصفات عظيمة جليلة، هي بالنسبة لهم من ألزم اللوازم، وهي ما يلي:«الصدق، والأمانة، والتّبليغ، والفطانة، والعصمة من المعاصي قبل النّبوّة، وبعدها، والسّلامة من العيوب المنفّرة، ويستحيل عليهم ضدّها» .

الإعراب: {وَإِذْ:} ({إِذْ}): معطوف على مثله في الآية السابقة. {قُلْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة ({إِذْ}) إليها. ({يا}): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» . ({مُوسى}):

مفرد علم مبني على ضم مقدر على الألف للتعذر في محل نصب ب ({يا}) النداء، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول {لَنْ} حرف ناصب. {نَصْبِرَ:} فعل مضارع منصوب، والفاعل

ص: 185

مستتر تقديره: نحن. {عَلى طَعامٍ:} متعلقان بما قبلهما. {واحِدٍ:} صفة {طَعامٍ} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {فَادْعُ:} الفاء هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وصحيحا؛ فادع

إلخ. (ادع): فعل أمر، وطلب، والتماس، مبني على حذف حرف العلّة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَبَّكَ:} مفعول به، والكاف في محل جرّ بالإضافة. من: إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب «إذا» والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول. {يُخْرِجْ:} فعل مضارع مجزوم بجواب الطلب المقدر، أو هو مجزوم بشرط محذوف، التقدير: إن تدع يخرج، والفاعل يعود إلى {رَبَّكَ} والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الجازم. {لَنا} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ومفعوله محذوف، التقدير:

يخرج لنا شيئا، أو مأكولا. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وتعليقهما بمحذوف صفة المفعول المحذوف يؤيده المعنى. هذا؛ وقال الأخفش:(من) زائدة في الإيجاب و (ما) هي المفعول به. {تُنْبِتُ:} فعل مضارع. {الْأَرْضُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: يخرج لنا من الذي، أو من شيء تنبته الأرض. {مِنْ بَقْلِها} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، الواقع مفعولا به. وقيل: هما بدل من {مِمّا} بدل بعض من كل. {وَقِثّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها:}

معطوفات على {بَقْلِها} بالواو العاطفة، و (ها) في محل جر بالإضافة.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى موسى. وقيل: بل الفاعل هو الله، والأوّل أقوى، والجملة الفعلية مع مقولها الآتي كلام مستأنف لا محل له من الإعراب؛ إذ هو بمنزلة جواب لسؤال مقدر. {أَتَسْتَبْدِلُونَ:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار، وتوبيخ. ({تَسْتَبْدِلُونَ}): فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَدْنى:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها. {بِالَّذِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وصلة الموصول الجملة الاسمية:{هُوَ خَيْرٌ} .

والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

{اِهْبِطُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِصْراً:}

مفعول به، وقل فيه مثل ما رأيت في الجملة:{اُدْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} في الآية رقم [58] فهي مثلها بلا فارق؛ لأن هبط بمعنى نزل، ودخل، وسكن، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول محذوف، وتقدير الكلام: فأبوا أن يرجعوا عن طلبهم، فدعا موسى ربه، فقال الله تعالى:

ص: 186

{اِهْبِطُوا مِصْراً..} . إلخ، ويبعد أن يكون من كلام موسى عليه السلام. {فَإِنَّ:} الفاء: حرف تعليل. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر (إنّ) تقدّم على اسمها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسمها مؤخرا. {سَأَلْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي سألتمونا إيّاه، وجملة: (إنّ

) تعليل للأمر لا محل لها.

{وَضُرِبَتْ:} الواو: واو الاعتراض. ({ضُرِبَتْ}): فعل ماض مبني للمجهول، والتاء تاء التأنيث. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الذِّلَّةُ:} نائب فاعله. {وَالْمَسْكَنَةُ:}

الواو: حرف عطف. ({الْمَسْكَنَةُ}): معطوف عليه، والجملة الفعلية معترضة بين قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْتُمْ} وبين قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ} الآتي، والغرض من هذا الاعتراض بيان ما حلّ باليهود من الصّغار، والهوان في الدنيا، ولعذاب الآخرة أنكى، وأخزى. ({باؤُ}): فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِغَضَبٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وقال أبو البقاء: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة؛ أي: رجعوا مغضوبا عليهم، وهو جيد، معنى.

{مِنَ اللهِ:} متعلقان بمحذوف صفة غضب، أو هما متعلقان به؛ لأنّه مصدر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمْ:} الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَكْفُرُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله. {بِآياتِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (آيات) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانُوا،} وهذه الجملة في رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. والجملة الاسمية:{ذلِكَ} مستأنفة لا محل لها. ({يَقْتُلُونَ}): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {النَّبِيِّينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: مبطلين بغير، و (غير) مضاف، و {الْحَقِّ} مضاف إليه، وجملة:

{وَيَقْتُلُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها.

{ذلِكَ} مبتدأ مثل سابقه. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {عَصَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، التقدير: ذلك بسبب عصيانهم، والجملة الاسمية هذه مستأنفة، وهي

ص: 187

مؤكّدة لسابقتها. ({كانُوا يَعْتَدُونَ}): إعرابها مثل إعراب: ({كانُوا يَكْفُرُونَ}) وهي معطوفة على سابقتها، تؤول مثلها بمصدر بسبب العطف، التقدير: ذلك بسبب عصيانهم، وبسبب اعتدائهم.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}

الشرح: لمّا بين الله تعالى حال من خالف أوامره، وارتكب زواجره، وتعدّى في فعل ما لا إذن فيه، وانتهك المحارم، وما أحلّ به من النّكال؛ فبيّن تعالى على أن من أحسن من الأمم السّالفة، وأطاع فإنّ له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كلّ من اتّبع الرسول النبيّ الأميّ؛ فله السّعادة الأبديّة، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلّفونه، كما قال تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية رقم [62] من سورة (يونس) على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

وعن مجاهد قال: قال سلمان الفارسي-رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم، وعبادتهم، فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا} . وقال السّدي: نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينما هو يحدث النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه:

فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصلّون، ويصومون، ويؤمنون بك، ويشهدون: أنّك ستبعث نبيّا.

فلما فرغ سلمان الفارسي من ثنائه عليهم؛ قال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا سلمان! هم من أهل النار» .

فاشتد ذلك على سلمان، فأنزل الله هذه الآية. فكان إيمان اليهود: أنّه من تمسك بالتوراة، وسنّة موسى-عليه السلام-حتى جاء عيسى، فلمّا جاء عيسى كان من تمسّك بالتوراة وأخذ بسنة موسى، فلم يدعها، ولم يتبع عيسى؛ كان هالكا. وإيمان النصارى: أنّ من تمسك بالإنجيل منهم، وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتّبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم، ويدع ما كان عليه من سنّة عيسى، والإنجيل، كان هالكا. انتهى. ابن كثير. وما يشبهه في أسباب النّزول للسّيوطي.

ثمّ قال ابن كثير: وهذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا} الآية، قال: فأنزل الله تعالى بعد ذلك {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} الآية رقم [85] من سورة (آل عمران)، فإنّ هذا الذي قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة، ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه به، فأمّا قبل ذلك، فكلّ من اتّبع الرّسول في زمانه، فهو على هدى، وسبيل، ونجاة. وهذا هو الحق.

ص: 188

هذا؛ والمراد ب {الَّذِينَ آمَنُوا} الّذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هم الذين آمنوا بالأنبياء السابقين قبل بعثته. وقال سفيان الثّوري: المراد: المنافقون، كأنّه قال: الذين آمنوا في ظاهرهم، فلذلك قرنهم باليهود، والنصارى، والصابئين، ثم بيّن حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم.

{وَالَّذِينَ هادُوا:} هم اليهود سمّوا بذلك لمّا تابوا من عبادة العجل، من:«هاد» بمعنى:

تاب، ورجع، ومنه قوله تعالى حكاية عن قولهم:{إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ} الآية رقم [156] من سورة (الأعراف)، أو سمّوا بذلك نسبة إلى يهودا بن يعقوب، وهو أكبر أولاده. ({النَّصارى}) جمع نصراني، سمّوا بذلك لأنّهم نصروا عيسى عليه السلام، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها:

نصران، أو ناصرة، فسمّوا باسمها، أو باسم من أسّسها، والأنثى نصرانة، كندمانة، قال أبو الأخزر الحماني في وصف ناقتين:[الطويل]

فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها

كما أسجدت نصرانة لم تحنّف

قال سيبويه: لا يستعمل نصران، ونصرانة إلا مع ياء النّسب، فيقال: نصراني، ونصرانيّة.

وقيل: سموا بذلك لقوله تعالى حكاية عن قول عيسى في آخر سورة (الصّف): {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ،} وأيضا في (آل عمران) رقم [52]. ({الصّابِئِينَ}) وقرأ نافع: («الصابين») بدون همز، جمع صابئ، واختلف فيهم، وأظهر الأقوال قول مجاهد، ومتابعيه، ووهب بن منبه: إنّهم قوم ليسوا على دين اليهود، ولا النّصارى، ولا المجوس، ولا المشركين، إنّما هم قوم باقون على فطرتهم، ولا دين لهم مقرّر يتّبعونه، ويقتفونه، ولهذا كان المشركون ينبذون من أسلم بالصّابئ؛ أي: أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك. وقال عبد الرحمن بن زيد-رحمه الله تعالى-:

الصابئون: أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل، ولا كتاب، ولا نبيّ، إلا قول: لا إله إلا الله. انتهى. مختصر ابن كثير بتصرف.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهم: لا تحلّ ذبائحهم، ولا مناكحتهم. وقيل: هم قوم بين اليهود والمجوس، لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم. وقيل: هم قوم بين اليهود، والنصارى يحلقون أوساط رءوسهم، وهم الذين أمر أبو بكر الصدّيق-رضي الله عنه-جيشه بقتلهم أينما وجدوا، وذلك في وصيته المعروفة المسطورة.

{مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ:} قال الخازن رحمه الله تعالى: فإن قلت: كيف قال في أول الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وقال في آخرها: {مَنْ آمَنَ بِاللهِ} فما فائدة التعميم أولا، ثمّ التخصيص آخرا؟ قلت: اختلف العلماء في حكم الآية، فلهم فيه طريقان: أحدهما: أنه أراد: إنّ الذين آمنوا على التّحقيق. ثمّ اختلفوا فيهم. فقيل: هم الذين آمنوا في زمن الفترة، وهم طلاب الدّين، مثل: حبيب النّجار، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وبحيرا الرّاهب، وأبي ذرّ الغفاري،

ص: 189

وسلمان الفارسي، فمنهم من أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يدركه، فكأنه تعالى قال: إنّ الذين آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا على الدّين الباطل المبدل من اليهود، والنصارى، والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم فلهم أجرهم عند ربهم.

وأمّا الطريقة الثانية: فقالوا: إنّ المذكورين بالإيمان في أوّل الآية إنّما هو على طريقة المجاز دون الحقيقة، وهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين، ولم يؤمنوا بك. وقيل: هم المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم، ولم يؤمنوا بقلوبهم، واليهود، والنصارى، والصابئين، فكأنه تعالى قال:

هؤلاء المطلوبون كلّ من آمن منهم الإيمان الحقيقي صار مؤمنا عند الله. انتهى. خازن.

هذا وفي عطف العمل الصالح على الإيمان في الآية الكريمة وغيرها إيحاء بأنّ العمل الصالح قرين الإيمان، وقد لا يجدي الإيمان بلا عمل، وهو ما أفاده قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«الإيمان والعمل قرينان، لا يقبل الله أحدهما بدون صاحبه» . كما أنّ الإيمان مشروط لقبول العمل الصالح، وهذا يسمّى في فن البديع احتراسا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {وَالَّذِينَ هادُوا:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. {وَالنَّصارى:} معطوف على اسم {إِنَّ} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف للتعذر. {وَالصّابِئِينَ:} معطوف على اسم {إِنَّ} أيضا منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {آمَنَ} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ} تقديره: هو، وهناك محذوف تقديره: منهم. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالْيَوْمِ:} معطوف على لفظ الجلالة. {الْآخِرِ} صفته. {وَعَمِلَ صالِحاً:} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها. {فَلَهُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَجْرُهُمْ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب {أَجْرُهُمْ} لأنه مصدر. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون في موضع الحال من المبتدأ، والتقدير: فلهم أجرهم ثابتا عند ربهم. وهو غير مسلّم له؛ لأن مجيء الحال من المبتدأ لا يجيزه كثير من النّحاة، وعلى رأسهم سيبويه؛ لأن الحال تبين هيئة الفاعل، أو المفعول، و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:(لهم أجرهم) في محل جزم جواب الشرط. وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه. فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين.

هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} اسما موصولا، فهي مبتدأ، وجملة:{آمَنَ} صلته، والعائد محذوف، التقدير: من آمن منهم

إلخ، والجملة الاسمية:(لهم أجرهم) في محل رفع خبره،

ص: 190

ودخلت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، فهي زائدة، والجملة الاسمية على هذين الوجهين في محل رفع خبر (إنّ). هذا؛ ويجوز أن يكون (من) بمعنى الّذي مبنيّا على السكون في محل نصب بدلا من اسم (إنّ) والعائد محذوف أيضا.

والجملة الاسمية: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} في رفع خبر {إِنَّ} . هذا؛ وقد حمل على لفظ {مَنْ آمَنَ} و ({عَمِلَ}) فوحّد الضمير، وحمل على معناها قوله:{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} فجمع الضمير. وهذا واقع في الآيات القرآنية؛ لأنّ {مَنْ} تصلح للمفرد والمثنى، والجمع. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية مهملة، ولا يجوز إعمالها إعمال «ليس» لأنها تكررت. {خَوْفٌ:} مبتدأ.

{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، ويجوز تعليقهما ب {خَوْفٌ} لأنّه مصدر، أو بمحذوف صفة له، وعليهما فالخبر محذوف، تقديره: حاصل، وموجود، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {وَلا:} الواو: حرف عطف.

({لا}): نافية مهملة. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَحْزَنُونَ:}

فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. هذا وقرأ جماعة:(«فلا خوف») بفتح الفاء على اعتبار ({لا}) عاملة عمل «إنّ» لنفي الجنس، والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء؛ لأنّ الثاني معرفة، لا يكون فيه إلا الرّفع؛ لأن ({لا}) لا تعمل في معرفة، فاختاروا في الأول الرّفع أيضا. ليكون الكلام من وجه واحد، ويجوز أن تكون (لا) في قولك:(فلا خوف) بمعنى: ليس. انتهى قرطبي. وقد ذكرت لك: أنّها إذا تكررت؛ أهملت؛ أي: لا تعمل عمل ليس.

تنبيه: الآية مذكورة بحروفها في سورة (المائدة) برقم [69]، والقراءة هناك ({وَالصّابِئُونَ}) انظر إعرابها وما ذكرته تبعا لها، فإنه جيد، والحمد لله!.

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}

الشرح: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ:} بهذه الآية تفسر معنى قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [171]: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ} الميثاق:

العهد، وأصله: الموثاق، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها، والجمع: المواثيق، فهو من: وثق، يثق، وإسناد أخذ الميثاق إليه تعالى من حيث: أنه أمر موسى بذلك؛ لأنه غيرممكن أن يحصل ذلك مباشرة بين الله وبينهم. هذا؛ و {الطُّورَ} يطلق في الأصل على جبل مخصوص في فلسطين كان موسى-على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام-يناجي ربه عليه، كلّما أراد مناجاته، ومخاطبته.

ومناسبة الآيات لما قبلها: أنه لما ذكّرهم الله بالنّعم الجليلة؛ الّتي أنعمها عليهم؛ أردف

ص: 191

ذلك ببيان ما حل بهم من نقم جزاء كفرهم، وعصيانهم، وتمرّدهم على الله، فقد كفروا النعمة، ونقضوا الميثاق، واعتدوا في السّبت، فمسخهم الله إلى قردة.

وهكذا شأن كلّ أمّة عتت عن أمر ربها، وعصت رسله. وإنما قال:{مِيثاقَكُمْ} ولم يقل:

مواثيقكم؛ لأن المراد ميثاق كل واحد منكم، كقوله تعالى في سورة (الحج) رقم [5]:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي: يخرج كلّ واحد منكم طفلا. وقال بعض أهل اللّطائف: كانت نفوس بني إسرائيل خبيثة من ظلمات عصيانها، تخبط في عشواء حالكة الجلباب، وتخطر في غلوائها، وعلوّها في حلّتي كبر، وإعجاب، فلما أمروا بأخذ التوراة، ورأوا ما فيها من أثقال؛ ثارت نفوسهم، فرفع الله عليهم الجبل، فوجدوه أثقل ممّا كلفوه، فهان عليهم حمل التوراة، قال الشاعر:[الطويل]

إلى الله يدعى بالبراهين من أبى

فإن لم يجب نادته بيض الصّوارم

هذا كلّه من صفوة التّفاسير بتصرّف بسيط.

كان سبب رفع الجبل فوقهم: أنّ بني إسرائيل سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من عند ربه؛ ليحكم بينهم فيه، فسأل ربّه، فأعطاه التّوراة، فلما رأوا ما فيها من التكاليف الشاقّة؛ كبرت عليهم، فأبوا قبولها، فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام، فقلع جبل الطّور من مكانه، وكان على قدر عسكرهم، وفوق رءوسهم قدر قامتهم كالظلة، وقيل لهم: إن لم تقبلوا التّوراة؛ وإلا أنزلته عليكم، فقبلوها مكرهين، وسجدوا على أنصاف وجوههم اليسرى، وجعلوا يلاحظون الجبل بأعينهم اليمنى، وهم سجود، فصار ذلك سنّة في سجود اليهود، لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم، وقالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبّلها الله، ورحم بها عباده، فلما رفع عنهم الجبل رجعوا إلى الامتناع. وهو ما تفيده الآية التالية.

{خُذُوا ما آتَيْناكُمْ:} اقبلوا التوراة، والتعاليم الإلهيّة. {بِقُوَّةٍ} بجدّ، واجتهاد، وكثرة درس، ونيّة، وإخلاص، واذكروا ما فيه، أي: تدبّروه، واحفظوا أوامره، ووعيده، ولا تنسوه، ولا تضيعوه. هذا؛ والمقصود من الكتب التي يقرؤها كلّ واحد أن يعمل بمقتضاها، ولا يكتفي بتلاوتها باللّسان، فإنّ ذلك نبذ لها على ما قاله الشّعبيّ، وابن عيينة. وقد روى النّسائي عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من شرّ النّاس رجلا فاسقا يقرأ القرآن، لا يرعوي إلى شيء منه» ، وقال الإمام مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. فما لزم إذا من قبلنا، وأخذ عليهم؛ فهو لازم لنا، وواجب علينا، قال الله تعالى في سورة (الزمر) رقم [55]:{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فأمرنا باتباع كتابه، والعمل بمقتضاه، لكن تركنا ذلك كما تركت اليهود، والنصارى، وبقيت أشخاص الكتب، والمصاحف لا تفيد شيئا لغلبة الجهل، وطلب الرئاسة، واتّباع الأهواء. وروى الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدّرداء رضي الله عنه-قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السّماء، ثم قال: «هذا أوان

ص: 192

يختلس فيه العلم من النّاس؛ حتّى لا يقدروا منه على شيء». فقال زياد بن لبيد الأنصاريّ: كيف يختلس منا؛ وقد قرأنا القرآن؟! فو الله لنقرأنّه، ولنقرئنّه نساءنا، وأبناءنا!.

فقال: «ثكلتك أمك يا زياد! وإن كنت لأعدّك من فقهاء المدينة، هذه التوراة، والإنجيل عند اليهود، والنصارى، فماذا تغني عنهم؟ أي: لم ينتفعوا بهما؛ لأنهم لم يعملوا بهما» . وانظر الترجّي في الآية رقم [21].

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. ({إِذْ}): معطوف على مثله في الآية رقم [61] ولذا كانت الآية السابقة، وما ذكرته من قوله تعالى:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ} في الآية قبلها اعتراضا بين المتعاطفين. {أَخَذْنا:} فعل، وفاعل. {مِيثاقَكُمْ:} مفعول به، والكاف: في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. ({رَفَعْنا}): فعل وفاعل. {فَوْقَكُمُ:}

ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {الطُّورَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل جر مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من (نا) فلست مفندا، ويكون الرابط الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها. {خُذُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {آتَيْناكُمْ:} فعل وفاعل ومفعول به أول، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، وهو المفعول الثاني، التقدير: خذوا الذي آتيناكموه، وجملة:{خُذُوا:} في محل نصب مقول القول لقول محذوف يقع حالا، التقدير:

ورفعنا حال كوننا قائلين

إلخ. {بِقُوَّةٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {خُذُوا} وهما في محل نصب مفعوله الثاني، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أو بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، العائد إلى (ما) وهو الأولى.

({اُذْكُرُوا}): فعل أمر وفاعله، والألف للتفريق. {ما} مفعول به. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: الذي يوجد فيه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي من مقول القول المحذوف. لعلّكم: حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {تَتَّقُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ) والجملة الاسمية مفيدة للترجي، والتعليل، انظر هذا الترجي في الآية رقم [21].

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)}

الشرح: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ:} تولّى: تفعّل، وأصله: الإعراض، والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر، والأديان، والمعتقدات اتّساعا، ومجازا.

ص: 193

{مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي: من بعد البرهان، وهو أخذ الميثاق، ورفع الجبل. {فَلَوْلا فَضْلُ اللهِ..}. إلخ: فضله: قبول التّوبة، و ({رَحْمَتُهُ}): عفوه. والأصل في الفضل: الزيادة على ما وجب، والزيادة في الخير، والإفضال: الإحسان. {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} في الدّنيا، والآخرة.

وانظر «الخسران» فيما تقدّم.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {تَوَلَّيْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:({أَخَذْنا..}.) إلخ، فهي في محل جر مثلها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بما قبلهما، و {بَعْدِ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جرّ بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {فَلَوْلا:} الفاء: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود.

{فَضْلُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله.

{عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالمصدر {فَضْلُ،} وخبر المبتدأ محذوف، تقديره:

موجود. ({رَحْمَتُهُ}): معطوفة على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {لَكُنْتُمْ:} اللام: واقعة في جواب (لولا). (كنتم): فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنَ الْخاسِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (كنتم) والجملة الفعلية جواب (لولا) لا محل لها، و (لولا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

تنبيه: قال ابن مالك-رحمه الله تعالى في ألفيته-: [الرجز]

وبعد لولا غالبا حذف الخبر

وقد بينت متى يكون الحذف واجبا، وجائزا، إذا كان كونا عامّا، أو خاصّا، وذلك في قول أبي العلاء المعري، وهو الشاهد رقم [495] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، فانظره هناك، وانظر موجز القول في لولا أيضا إن كنت من أهل الشهادات العالية، وهو ما يلي:[الوافر]

يذيب الرّعب منه كلّ عضب

فلولا الغمد يمسكه لسالا

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)}

الشرح: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ:} أي عرفتم، فيتعدّى لواحد فقط إذا كان من المعرفة، بخلافه من العلم اليقيني، فإنّه يتعدّى لمفعولين، أصلهما مبتدأ، وخبر، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

لعلم عرفان وظنّ تهمه

تعدية لواحد ملتزمه

والفرق بينهما: أن المعرفة تستدعي سبق جهل، وأنّ متعلقها الذوات دون النّسب، بخلاف العلم؛ فإنّ متعلقه المعاني، والنّسب، وتفصيل ذلك: أنك إذا قلت: عرفت زيدا، فالمعنى: أنك

ص: 194

عرفت ذاته، ولم ترد أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا المعنى، لم يتجاوز مفعولا؛ لأنّ المعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك، وإذا قلت: علمت زيدا قائما، لم يكن المقصود: أنّ العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنّما المعنى: أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصّفة.

{اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ:} تجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم في يوم السبت، وهو أحد أيام الأسبوع المعروفة. قال ابن عطية: والسبت إما مأخوذ من السبوت الذي هو الرّاحة، والدّعة، وإما من السبت وهو القطع؛ لأن الأشياء سبتت، وتمّ خلقها في أيام الأسبوع الستّة قبله. انتهى بتصرف. هذا والسّبت بكسر السين: الجلد المدبوغ بالقرظ، ولم ينجرد من شعره. وقال أبو زيد: السّبت جلود البقر خاصّة مدبوغة، قال عنترة في معلّقته، وهو الشاهد رقم [306] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الكامل]

بطل كأنّ ثيابه في سرحة

يحذى نعال السّبت ليس بتوأم

{فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا..} . إلخ: هذا الأمر معناه: الإهانة، والتّحقير، وقال بعضهم: هذا أمر تسخير، وتكوين، فهو عبارة عن تعلق القدرة بنقلهم من حقيقة البشرية إلى حقيقة القردة.

{خاسِئِينَ:} صاغرين، ذليلين، حقيرين، مبعدين من رحمة الله. هذا؛ وقرئ:(«قردة») بفتح القاف، وكسر الراء، و («خاسين») بدون همز.

تنبيه: ما ذكر في هذه الآية كان في زمن داود-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام- بقرية يقال لها: أيلة على شاطئ البحر الأحمر، وتدعى اليوم:«إيلات» وهي مرفأ هام لليهود على البحر الأحمر، يروى: أنّ الله تعالى اختار لهم يوم الجمعة، ليكون يوم راحة، وعبادة، ونظافة، وغير ذلك، فأبوا، وقالوا: فرغ ربّنا من خلق السموات والأرض يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فنحن نختاره لذلك، فشدّد الله عليهم بأن حرّم عليهم أي عمل دنيوي ما عدا العبادة، والنظافة، وأمثالها، وكانت معيشة أهل تلك البلدة من صيد الأسماك، لا مورد لهم غيره، فابتلاهم الله، أي: اختبرهم، فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السّبت، وأقبل نحوهم، فإذا مضى يوم السبت؛ ذهبت الحيتان في أعماق البحر، فلم يتمكّنوا من الصيد طوال أيام الأسبوع، كما قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [163]:{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} .

فظهر لهم الشّيطان، وقال لهم: احفروا حياضا قرب البحر، وافتحوا جداول بينها وبين البحر، وكانت الحيتان تدخل الحياض يوم السبت، ويصطادونها يوم الأحد، فنهاهم نبيهم عن فعلهم هذا، فصاروا ثلاث فرق، وكانوا سبعين ألفا، فرقة أمسكت، ونهت، وفرقة أمسكت، ولم

ص: 195

تنه، وفرقة اصطادت، واعتدت، فهذه هي التي مسخت قردة لهم أذناب يتعاوون. وقيل: مسخ الشبّان قردة، والشيوخ خنازير، فمكثوا ثلاثة أيام فقط، ثم هلكوا، ولم يأكلوا، ولم يشربوا، ولم يتوالدوا، ونجت الفرقتان الأخريان: الناهية، والساكتة عن النّهي، وقيل: هلكت أيضا.

ويقال: إنّ الناهين قالوا: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم، ولم يخرج من المعتدين أحد. فقالوا: إن للناس لشأنا، فعلوا الجدار، فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الأبواب، ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابهم من الإنس، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي أنسابهم من الإنس، فتشم ثيابه، وتبكي، فيقول لهم:

ألم ننهكم؟! فتقول القردة برأسها: نعم! وانظر تفصيلهم في سورة (الأعراف).

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لم يعش مسخ قطّ فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل، ولم يشرب، ولم ينسل. قال ابن عطية: وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وثبت: أنّ الممسوخ لا ينسل، ولا يأكل، ولا يشرب، ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، أما قول النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة، ولبني النّضير:

«يا أحفاد القردة!» لم يرد به إلا التّقريع، والتوبيخ، والله أعلم.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. هذا؛ وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم يعتبرها حرف استئناف، ويعتبرون الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف، ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: والله أقسم، أو: وأقسم والله.

واللام واقعة في جواب القسم المحذوف، وبعضهم يقول: اللام موطئة للقسم، والموطئة معناها: المؤذنة، وهذه اللام إنما تدخل على «إن» الشرطية؛ لتدلّ على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشّرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر)، افهم هذا، واحفظه فإنّه جيّد، والله ولي التّوفيق!.

فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم؛ فالجواب:

أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السّور. مثل قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ،} {وَالشَّمْسِ وَضُحاها} فإن التقدير: ورب النجم، ورب الشمس

إلخ، الدليل على ذلك التّصريح به في قوله تعالى:{فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} الآية رقم [23] من سورة (الذاريات)، وحذف المقسم به ظاهر في قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها..} . إلخ الآية رقم [71] من سورة (مريم)، وأظهر منه في قوله تعالى:{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} الآية رقم [73] من سورة (المائدة) قالوا: في الآيتين حرف قسم وجر. والمقسم به محذوف بلا ريب.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمْتُمُ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على

ص: 196

الفتح في محل نصب مفعول به. {اِعْتَدَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتّفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي السَّبْتِ:} متعلقان بما قبلهما. (قلنا): فعل، وفاعل. {كُونُوا:} فعل أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قِرَدَةً} خبر:{كُونُوا} . {خاسِئِينَ} خبر ثان. وقيل: صفة {قِرَدَةً} وهو ضعيف؛ لأن جمع المذكر السالم لا يكون صفة لما لا يعقل، وقيل:

حال من واو الجماعة، والأول أرجح وأقوى، فهو منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كُونُوا..} . إلخ: في محل نصب مقول القول، وجملة: (قلنا

) إلخ: معطوفة على جملة: ({اِعْتَدَوْا..}.) إلخ: لا محل لها مثلها، وهو أقوى من العطف على جملة:(قد {عَلِمْتُمُ..}.) إلخ.

روى النّسائيّ عن صفوان بن عسّال-رضي الله عنه-قال: قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النّبيّ، قال له صاحبه: لا تقل: نبيّ، لو سمعك؛ كان له أربعة أعين. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألاه عن {تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} ، فقال لهم:«لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم الله إلاّ بالحقّ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الرّبا، ولا تقذفوا المحصنة ولا تولّوا يوم الزّحف، وعليكم خاصّة يهود ألاّ تعدوا في السّبت» فقبّلوا يديه، ورجليه، وقالوا: نشهد: أنّك نبي! قال: «فما يمنعكم أن تتّبعوني؟» .

قالوا: إن داود دعا بأن لا يزال من ذرّيته نبيّ، وإنّا نخاف إن اتّبعناك أن تقتلنا يهود. أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح.

{فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}

الشرح: {فَجَعَلْناها:} الضمير عائد إلى العقوبة التي ذكرها الله تعالى في الآية السابقة، وهي مسخهم قردة. وقيل: عائد إلى القرية؛ إذ معنى الكلام يقتضيها. {نَكالاً:} عبرة تنكل من اعتبر بها: أي تمنعه من فعل المحرّمات، وتجاوز حدود الله، والنّكال: الزّجر، والعقاب، والنّكل، والأنكال: القيد، وسمّيت القيود: أنكالا؛ لأنّها ينكل بها؛ أي: يمنع. والتنكيل: إصابة الأعداء بعقوبة تنكل من وراءهم، أي: تخوفهم، وتردعهم، وقال تعالى في سورة (النّازعات) في حقّ فرعون اللّعين:{فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى} وقال في سورة (المائدة) رقم [38]: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ} . {لِما بَيْنَ يَدَيْها:} قال ابن عباس، والسّدي: لما بين يدي المسخة: ما قبلها من ذنوب القوم. {وَما خَلْفَها} لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، قال ابن عطيّة: وهذا قول جيد، والضّميران للعقوبة. وروى الحاكم عن مجاهد، عن ابن عباس-رضي الله عنهما: لمن حضر معهم، ولمن يأتي بعدهم، واختاره النّحاس. قال: وهو أشبه بالمعنى. هذا؛

ص: 197

والتعبير (ما {بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها}) كناية عمّن أتى قبلها، وأتى بعدها من الأمم، والخلائق، أو عبرة لمن تقدّم، ومن تأخر. والتّعبير بمثل هذا كثير في القرآن الكريم، وإن اختص كلّ موضع بمعنى حسب مقتضيات الأحوال، واختلافها، فمثلا قوله تعالى:{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} في الآية رقم [255]، ومثلها في الآية رقم [9] من سورة (سبأ) يفسر ما في هذه الآية، وكذلك رقم [110] من سورة (طه) تخالف معنى قوله تعالى:{لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا} الآية رقم [64] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا وعليها ألف صلاة، وألف سلام. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ:} الوعظ: التخويف، وقال الخليل: الوعظ: التذكير بالخير مما يرقّ له القلب، قال الماورديّ: وخصّ المتقين بالذكر، وإن كانت موعظة للعالمين؛ لتفردهم بها عن الكافرين المعاندين؛ أي: لأنهم هم المنتفعون بها بخلاف غيرهم من المنافقين، والفاسقين، والكافرين. وقال الزجّاج:{وَمَوْعِظَةً} لأمة محمّد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا من حرم الله ما نهاهم عنه، فيصيبهم ما أصاب أصحاب السّبت؛ إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم. انتهى. ولا تنس قوله تعالى في سورة (الذّاريات):{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . هذا؛ وأصل المتقين: الموتقيين بياءين مخففتين، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها، ثمّ حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وأبدلت الواو على أصلهم في اجتماع الواو، والتاء، مثل: اتصل، أصله: اوتصل، وأدغمت التاء في التّاء، فصار: للمتّقين. هذا؛ والتقوى: طاعة من غير عصيان، وذكر من غير نسيان، وشكر من غير كفران.

الإعراب: {فَجَعَلْناها:} فعل وفاعل، ومفعول به أوّل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وهو أقوى من العطف على ما قبلها. {نَكالاً:} مفعول به ثان. {لِما:} جار ومجرور متعلقان ب {نَكالاً؛} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ} مضاف، و {يَدَيْها:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنّى لفظا، وحذفت النون للإضافة، و «ها» في محل جر بالإضافة. (ما): معطوفة على ما قبلها بالواو العاطفة، فهي في محل جر مثلها. {خَلْفَها:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و «ها»: في محل جر بالإضافة. ({مَوْعِظَةً}) معطوف على {نَكالاً} . {لِلْمُتَّقِينَ:}

متعلقان ب ({مَوْعِظَةً}) أو بمحذوف صفة لها.

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)}

الشرح: لمّا ذكر الله تعالى بعض قبائح اليهود، وجرائمهم، من نقض المواثيق، والعهود، واعتدائهم في السّبت، وتمرّدهم على الله عز وجل في تطبيق شريعته المنزلة على موسى؛ أعقبه بذكر نوع آخر من مساوئهم، ألا وهو مخالفتهم للأنبياء، وتكذيبهم لهم، وعدم مسارعتهم لأوامر

ص: 198

الله الّتي يوحيها الله إليهم، ثمّ كثرة اللّجاج، والعناد للرّسل، صلوات الله، وسلامه عليهم، وجفاؤهم في مخاطبة نبيّهم الكريم موسى عليه السلام

إلى آخر ما هنالك من قبائح، ومساوئ. انتهى. صفوة التفاسير.

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً:} هي واحدة البقر، تقع على الذكر والأنثى، نحو حمامة، والصّفة تميّز الذكر من الأنثى، تقول: بقرة ذكر، وبقرة أنثى، وقيل: بقرة اسم للأنثى خاصّة من هذا الجنس، والذكر: الثّور، نحو ناقة، وجمل، وأتان، وحمار، وسمّي هذا الجنس بذلك؛ لأنه يبقر الأرض، أي: يشقها بالحرث. هذا؛ وأهل اليمن يسمّون البقرة:

باقورة، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصّدقة لأهل اليمن: في ثلاثين باقورة بقرة. مختار الصّحاح.

والباقر: جماعة البقر مع رعاتها، والتبقّر: التوسع في العلم، ومنه محمّد الباقر لأبي جعفر محمّد بن علي زين العابدين-رضي الله عنهم-أجمعين، لتبقّره في العلم؛ أي: لتبحره، وتعمّقه فيه، قال الأزهري: البقر: اسم للجنس، وجمعه: باقر، وفي لسان العرب: فأمّا بقر، وباقر، وبيقور، وباقور، وماقور، وباقورة؛ فأسماء للجمع. هذا؛ وقال أميّة بن أبي الصّلت، وهو الشّاهد رقم [595] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الخفيف]

سلع ما ومثله عشر ما

عائل ما وعالت البيقورا

وقال ودّاك بن ثميل المازني الطّائي وهو الشّاهد رقم [596] من كتابنا المذكور: [البسيط]

أجاعل أنت بيقورا مسلّعة

ذريعة لك بين الله والمطر

هذا؛ وقال الماوردي-رحمه الله تعالى-: وإنّما أمروا-والله أعلم-بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته، وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة، وليس بعلّة في جواب السائل، ولكنّ المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حيّ، فيكون أظهر لقدرة الله في اختراع الأشياء من أضدادها. {قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً} هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لمّا قال لهم:

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وذلك: أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم. قيل: اسمه عاميل، واشتبه أمر قاتله عليهم، ووقع بينهم خلاف. فقالوا: نقتتل؛ ورسول الله بين أظهرنا؟! فأتوه، فسألوه البيان، وذلك قبل نزول القسامة في التّوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله، فسأل موسى عليه السلام ربّه، فأمرهم بذبح بقرة، فلمّا سمعوا ذلك من موسى، وليس في ظاهره جواب عمّا سألوه، واحتكموا فيه عنده؛ قالوا:{أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟} .

هذا؛ و {هُزُواً} يقرأ بسكون الزاي، والهمز، وبضم الزاي بلا همز، وهو بجميع قراءاته مصدر هزأ، يهزأ هزأ من باب: فتح، ويأتي من باب: تعب. هذا؛ والاستهزاء بالناس حرام قطعا، وآية (الحجرات) النّاهية عن السّخرية، والاستهزاء بالنّاس معروفة، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الناهية عن ذلك كثيرة.

ص: 199

{أَعُوذُ بِاللهِ:} أستعيذ، وأستجير، وأتحصّن بالله. {الْجاهِلِينَ:} جمع: جاهل، والجهل هو السّفه والطيش، والحمق، والجاهل هو الذي يجهل ما يتعلق به من المكروه، والمضرة، ومن حقّ الحكيم العاقل ألا يقدم على شيء حتّى يعلم كيفيته، وحاله، ولا يشتري الحلم بالجهل، ولا الأناة بالطيش ولا الرفق بالخرق، كما قال أبو ذؤيب الهذليّ، وهو الشاهد رقم [771] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل

وإن لم يكن كذلك يصدق عليه أنّه من أكبر الجهّال، والحمار أفضل منه، كما قال الشاعر الحكيم:[الكامل]

فضل الحمار على الجهول بحركة

معروفة عند الّذي يدريها

إنّ الحمار إذا توهّم لم يسر

وتعاود الجهّال ما يؤذيها

تنبيه: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} مقدّم في التلاوة، وقوله:{قَتَلْتُمْ نَفْساً..} . إلخ الآية رقم [72] الآتية مقدّم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، وكأنّ الله أمرهم بذبح البقرة حتّى ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتيل، فأمروا أن يضربوه ببعضها، ويكون {وَإِذْ قَتَلْتُمْ} (مقدما) في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا؛ لأنّ الواو لا توجب الترتيب، ونظيره في التنزيل في قصّة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله جلّ ذكره في سورة هود:

{حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} إلى قوله: «إلا قليلا» فذكر إهلاك من هلك منهم، ثم عطف عليه قوله:{وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها} فذكر الركوب متأخرا في الخطاب، ومعلوم: أنّ ركوبهم كان قبل الهلاك، وكذلك قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً} وتقديره: أنزل على عبده الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا، ومثله في القرآن كثير، انتهى. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. ({إِذْ}): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: واذكروا إذ، وهو متعلق بهذا المحذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها.

وقال النسفي: وهو معطوف على {نِعْمَتِيَ} في قوله: {اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} كأنه قال: اذكروا ذاك، واذكروا إذ قال موسى، وكذلك في الظروف التي مضت. {قالَ مُوسى:}

فعل ماض وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها.

{لِقَوْمِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء: في محل جر بالإضافة. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَأْمُرُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والكاف مفعول

ص: 200

به. {إِنَّ:} حرف مصدري ونصب. {تَذْبَحُوا:} فعل مضارع منصوب بأن، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ تَذْبَحُوا} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جرّ محذوف، التقدير: بذبح البقرة، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هو منصوب بنزع الخافض، وبعضهم يعتبره مفعولا ثانيا لفعل أمر على حدّ قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وهو الشاهد رقم [597] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

{بَقَرَةً:} مفعول به، وجملة:{يَأْمُرُكُمْ} في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، {أَتَتَّخِذُنا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. ({تَتَّخِذُنا}): فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره: أنت، و (نا) مفعوله الأول. {هُزُواً:}

مفعوله الثاني، وهو مؤول باسم المفعول، أو هو على حذف مضاف، أي: ذوي هزؤ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا:} مستأنفة لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب عن سؤال مقدر، فكأنّ قائلا سأل: ماذا قالوا؟ {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مُوسى} .

{أَعُوذُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {إِنَّ:} حرف مصدري ونصب. {أَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب {إِنَّ،} واسمه تقديره: أنا. {مِنَ الْجاهِلِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر {أَكُونَ} و {إِنَّ،} والفعل {أَكُونَ} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جرّ محذوف، التقدير: من كوني جاهلا، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أَعُوذُ،} وجملة: {أَعُوذُ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها.

{قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68)}

الشرح: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ..} . إلخ: هذا تعنيت منهم، وقلّة طواعية، ولو امتثلوا الأمر، وذبحوا أيّ بقرة كانت؛ لحصل المقصود، لكنّهم شدّدوا على أنفسهم، فشدّد الله عليهم. قاله ابن عباس، رضي الله عنهما، وغيرهما. {يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ} أي: ما سنّها، وما حالها، وما شكلها؟ وليس المراد السؤال عن حقيقتها، فحقيقة البقرة معروفة.

{لا فارِضٌ} مسنّة كبيرة جدّا بحيث لا تلد، وقد فرضت، تفرض فروضا، أي: سنّت، ويقال للشيء القديم: فارض، قال الشاعر:[الرجز]

شيّب أصداغي فرأسي أبيض

محامل فيها رجال فرّض

يعني: رجال هرماء. وقال خفاف بن ندبة مخاطبا العباس بن مرداس السلمي-وكان بينهما مهاجاة، ومعارضة رضي الله عنهم:[الطويل]

ص: 201

لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا

تساق إليه ما تقوم على رجل

ولم تعطه بكرا فيرضى سمينة

فكيف تجازي بالمودّة والفضل؟

أي: قديمة. وقال آخر: [الرجز]

يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض

أي: ضغن قديم. {وَلا بِكْرٌ:} البكر الصغيرة التي لم تحمل. وحكى العتبي: أنها التي ولدت، والبكر الأول من الأولاد قال الشاعر:[الرجز]

يا بكر بكرين ويا خلب الكبد

أصبحت منّي كذراع من عضد

والبكر أيضا في إناث البهائم وبني آدم ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء، والجمع:

أبكار، والمصدر: البكارة، وبفتحها: الفتى من الإبل، والأنثى بكرة. {عَوانٌ:} بين ذلك.

والعوان: النّصف قد ولدت بطنا، أو بطنين، وهي أقوى ما تكون من البقر، وأحسنه بخلاف الخيل، قال الشاعر يصف فرسا:[الطويل]

كميت بهيم اللّون ليس بفارض

ولا بعوان ذات لون مخصّف

فرس أخصف: إذا ارتفع البلق من بطنه إلى جنبه. وقال مجاهد: العوان من البقر: هي التي قد ولدت مرة بعد مرّة، ويقال: إنّ العوان: النخلة الطويلة، وهي فيما زعموا لغة يمانية. وحرب عوان: إذا كان قبلها حرب بكر، قال زهير:[الطويل]

إذا لقحت حرب عوان مضرّة

ضروس تهرّ النّاس أنيابها عصل

أي: لا هي صغيرة، ولا هي مسنّة، وجمعها: عون بضم، وسكون، وسمع: عون بضمتين، كرسل، وقال أبو جهل الخبيث في غزوة بدر، وهو من شواهد مغني اللبيب رقم [63]:[الرجز]

ما تنقم الحرب العوان منّي

بازل عامين حديث سنّي

لمثل هذا ولدتني أمّي

{فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ:} تجديد للأمر، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّت. فما تركوه، بل زادوا منه، ودليله ما يأتي.

الإعراب: {قالُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {اُدْعُ:} فعل أمر والتماس مبني على حذف حرف العلّة من آخره، وهو الواو، والضمّة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر، تقديره:

أنت. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَبَّكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها. {يُبَيِّنْ:} فعل مضارع مجزوم

ص: 202

لوقوعه في جواب الأمر، والفاعل يعود إلى {رَبَّكَ}. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{ما:} اسم استفهام، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع خبره، ويجوز اعتباره مبتدأ مؤخرا و {ما:} خبرا مقدما، وعلى الوجهين فالجملة اسمية في محل نصب مفعول به، وجملة:{يُبَيِّنْ} لا محل لها؛ لأنها جواب الطلب، والأمر، وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا:} كلام مستأنف لا محل له.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({مُوسى}). {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه.

{يَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {رَبَّكَ}. {إِنَّها:} حرف مشبه بالفعل، و (ها): اسمها، {بَقَرَةٌ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُ} في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها. {لا:} نافية. {فارِضٌ:} صفة {بَقَرَةٌ:} وهي صفة منفية. {وَلا بِكْرٌ:} معطوف على سابقه وهو صفة منفية أيضا، وجوز أبو البقاء وغيره اعتبار الصفتين خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: لا هي فارض، ولا هي بكر، وتكون الجملتان في محل رفع صفة (بقرة). {عَوانٌ:} صفة {بَقَرَةٌ} أيضا، أو هي خبر لمبتدإ محذوف، والجملة الاسمية في محل رفع صفة {بَقَرَةٌ} أو هي في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة: {عَوانٌ} أو هو متعلق به نفسه. و {بَيْنَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، وانظر دلالة:{ذلِكَ} على المثنى في الآية رقم [150] من سورة (النساء). {فَافْعَلُوا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: إذا وجدتم البقرة الموصوفة بما ذكر ({فَافْعَلُوا}) وهذا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتّفريق. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به.

{تُؤْمَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: فافعلوا الذي، أو شيئا تؤمرون به، وجملة:{فَافْعَلُوا..} . إلخ: لا محل لها؛ لأنها جواب للشّرط المقدر ب «إذا» ، والشرط المقدر، وجوابه في محل نصب مقول القول أيضا.

{قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ (69)}

الشرح: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها} اللّون: واحد الألوان، وهو هيئة كالسواد، والبياض، والحمرة، والزرقة

إلخ، واللون: النوع، وفلان متلوّن: إذا كان لا يثبت على خلق واحد، وحال واحدة، قال الشاعر في هجاء متلوّن:[مجزوء الكامل]

ص: 203

كلّ يوم تتلوّن

غير هذا بك أجمل

{صَفْراءُ:} لونها أصفر. {فاقِعٌ لَوْنُها:} شديد الصفرة، وجمهور المفسّرين: أنها صفراء اللون من الصّفرة المعروفة، قال مكي عن بعضهم: حتّى القرن، والظّلف. وروي عن الزمخشري: ولعلّه مستعار من صفة الإبل؛ لأن سوادها تعلوه صفرة، وبه فسر قوله تعالى في سورة (المرسلات):{كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ} وقال الأعشى: [الخفيف]

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزّبيب

وردّ هذا التفسير بأنّ الفقوع خاص بالصّفرة، وهو تأكيد لها، كما يؤكد غيرها، فيقال:

أبيض ناصع، وأحمر قان، وأسود حالك، وأخضر ناضر، والمراد: تأكيد الصفات بما بعدها بمعنى شديدها. {تَسُرُّ النّاظِرِينَ:} تعجبهم لحسنها، وجمالها. والسّرور: لذّة في القلب عند حصول نفع، أو توقّعه، ومنه السرير ذو النعمة لإتمام سرورهم بالنّعمة، وسرير الميّت تشبيها له بذلك في الصّورة، وتفاؤلا بذلك. جمل.

روي عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه: أنه قال: من لبس نعلا صفراء قلّ همّه، وكثر سروره، لقوله تعالى:{صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها:} انظر الآية السابقة فهو مثله في إعرابه. {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ:} انظر الآية السابقة أيضا. {فاقِعٌ:} صفة ثانية ل {بَقَرَةٌ} .

{لَوْنُها:} فاعل ب {فاقِعٌ؛} لأنه صفة مشبهة، وليس اسم فاعل؛ لأنه صفة ثابتة، وليست متجدّدة، و «ها» في محل جر بالإضافة. هذا؛ ويجوز أن يكون {فاقِعٌ} خبرا مقدما، وفاعله مستتر فيه.

و ({لَوْنُها}): مبتدأ مؤخرا، والجملة الاسمية صفة ثانية ل {بَقَرَةٌ}. {تَسُرُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {بَقَرَةٌ}. {النّاظِرِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثالثة ل {بَقَرَةٌ} أو هي في محل نصب حال من {بَقَرَةٌ} بعد وصفها بما تقدم. هذا؛ وجوز أن يكون {لَوْنُها} مبتدأ، وجملة:{تَسُرُّ النّاظِرِينَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية على هذا صفة {بَقَرَةٌ} وأنّث الفعل {تَسُرُّ} لأن المبتدأ {لَوْنُها} اكتسب التأنيث من الضمير المؤنث:(ها) كما في قولهم: قطعت بعض أصابعه، وهذا يعني: أنّ فاعل {تَسُرُّ} يعود إلى {لَوْنُها} وأراه تكلفا لا داعي له، ولو قرئ:««يسرّ» » بياء المضارعة؛ لكان وجها صحيحا، ولكن لم أطلع على قراءة بذلك.

{قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}

الشرح: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ} أي: أهي مذلّلة بالعمل، أم هي متروكة بدون عمل، ودلّ على ذلك تفسيره بالآية الآتية. {الْبَقَرَ} جماعة البقر، وانظر الآية رقم [67]. {تَشابَهَ عَلَيْنا}

ص: 204

لكثرته، وكثرة ما يتّصف بالصّفتين المذكورتين في الآيتين السابقتين، وقرئ:(«تشابه») بضم الهاء وتخفيف الشين، كما قرئ بضم الهاء وتشديد الشين، وأصله: تتشابه، فأبدلت التاء الثانية شينا، وأدغمت في مثلها. هذا؛ ووجوه البقر تتشابه، ومنه حديث حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر فتنا كقطع الليل، تأتي كوجوه البقر، يريد أنها يشبه بعضها بعضا.

{وَإِنّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} أي: إلى البقرة المطلوبة. وقوله تعالى حكاية عن قولهم: {إِنْ شاءَ اللهُ} تعليق بمشيئة الله، وهذا يسمّى في الشرع استثناء، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لو لم يستثنوا؛ لما بيّنت لهم آخر الأبد» ، وفي رواية:«لو ما استثنوا؛ ما اهتدوا إليها أبدا» .

الإعراب: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ} انظر الإعراب في الآية رقم [68]. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْبَقَرَ:} اسمها. {تَشابَهَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الْبَقَرَ}. {عَلَيْنا:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الْبَقَرَ} تعليل للأمر، لا محل لها. ({إِنّا}): حرف مشبه بالفعل، و (نا) في محل نصب اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {إِنَّ} حرف شرط جازم. {شاءَ:}

فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {اللهُ:} فاعله، ومفعوله محذوف، كما رأيت فيما سبق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط عند سيبويه: جملة: {إِنَّ} وما عملت فيه. وعند أبي العباس المبرد:

محذوف، و {إِنَّ} ومدخولها كلام معترض بين اسم (إنّ) وخبرها. (مهتدون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:(إنا {لَمُهْتَدُونَ}) معطوفة على الجملة قبلها، فهي داخلة في التعليل، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)}

الشرح: {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} أي: غير مذلّلة بالعمل، أي: هي بقرة صعبة غير ريّضة. ولم يؤنث: {ذَلُولٌ} لأن فعول يستوي فيه المذكر، والمؤنث. تقول: رجل صبور، وامرأة صبور، فهو صيغة مبالغة. {تُثِيرُ الْأَرْضَ:} تقلّبها، وتحرّكها بالحراثة للزراعة، قال تعالى في سورة (الروم) رقم [9]:{وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها} . ومنه الحديث: «أثيروا القرآن: فإنه علم الأولين والآخرين» . {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ:} غير مستعملة في سقي الأرض المهيّأة للزراعة، والمزروعة. {مُسَلَّمَةٌ:} خالية من العيوب، وآثار العمل. {لا شِيَةَ فِيها} أي: لا لون فيها غير لونها الأصفر؛ حتى ظفرها، وقرنها، فهي صفراء كلّها، والشّية في الأصل مصدر:

ص: 205

وشى من باب: وعد، والمصدر:«وشيا» إذا خلط بلون آخر، فحذفت الواو من المصدر، وعوّض عنها التاء في الآخر، مثل: عدة، وزنة، والشّية مأخوذة من: وشي الثوب: إذا نسج على لونين مختلفين، وثور موشّى: في وجهه، وقوائمه سواد. ويقال: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، وثور أشيه. كلّ ذلك بمعنى البلقة. هكذا نصّ أهل اللغة.

{الْآنَ:} هذه الكلمة في هذه الآية وأمثالها ملازمة للظرفية الزمانية غالبا، مبنية على الفتح دائما لتضمّنها معنى الإشارة، وألفها منقلبة عن واو؛ لقولهم في معناها: الأوان، وقيل: عن ياء لأنه من: آن، يئين: إذا قرب، وقيل: أصله: أوان؛ قلبت الواو ألفا، ثمّ حذفت لالتقاء الساكنين. وردّ بأنّ الواو قبل الألف لا تقلب، كالجواد، والسواد. وقيل: حذفت الألف، وغيّرت الواو إلى الألف، كما قالوا: راح، ورواح، استعملوه مرة على فعل، ومرة على فعال كزمن وزمان. هذا؛ وقال ابن هشام رحمه الله تعالى في كتابه شذور الذّهب، والآن: اسم لزمن حضر جميعه، أو بعضه: فالأول: نحو قوله تعالى في سورة (البقرة): {قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} .

والثّاني: نحو قوله تعالى في سورة (الجن) رقم [9]: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً} . وقد تعرب كقول أبي صخر الهدبي: [الطويل]

لسلمى بذات الخال دار عرفتها

وأخرى بذات الجزع آياتها سطر

كأنّهما ملآن لم يتغيّرا

وقد مرّ للدّارين من بعدنا عصر

أصله: كأنهما من الآن فحذف نون (من) لالتقائها ساكنة مع لام الآن، ولم يحركها لالتقاء الساكنين كما هو الغالب، وأعرب «الْآنَ» فخفضه بالكسرة. وقد اختلف في علّة بنائه على الفتح اختلافا كثيرا.

قال الزجّاج: «الْآنَ» مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام؛ لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد. تقول: أنت إلى الآن هنا، فالمعنى إلى هذا الوقت، فبنيت، كما بني «هذا» وفتحت النون لالتقاء الساكنين، وهو عبارة عمّا بين الماضي، والمستقبل. وفحوى هذا:

أن الألف واللام لم تعرّفه، ولا هو علم، ولا مضمر، ولا شيء من أقسام المعارف، فيلزم أن يكون تعريفه باللام المقدرة، واللام زائدة زيادة لازمة، كما لزمت في «الذي» ونحوه. قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

وقد تزاد لازما كاللاّت

والآن والّذين ثمّ اللات

{بِالْحَقِّ} أي: الواضح، فتقدير هذه الصفة واجب، وإلا كان كفرا. {فَذَبَحُوها} بعد أن طلبوها بالصفات المذكورة: فوجدوها عند الولد البار بأمّه، فاشتروها بملء جلدها ذهبا. {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} أي: ما قاربوا الذّبح لغلاء ثمنها. وقيل: خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم. قاله وهب بن منبّه، وكلّه يدلّ على تثبيطهم في ذبحها وقلّة مبادرتهم إلى أمر الله.

ص: 206

هذا؛ وسقى، يسقي من الثلاثي، كما يأتي هذا الفعل من الرباعي: أسقى، والعرب تقول:

سقيته، وأسقيته لغتان بمعنى واحد. وتقول: سقى الله هذه البلاد الغيث، وأسقاها الغيث، فيكون بالهمزة تارة، وبدونها أخرى، وشاهد المهموز قوله تعالى:{وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً} وشاهد غير المهموز قوله تعالى: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً،} ويحتملهما قوله تعالى: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً،} وقوله جل ذكره: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ} وقد وردت اللغتان في قول لبيد رضي الله عنه: [الوافر]

سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال

ولكنّه حذف المفعول الثاني من كليهما، كما حذف المفعولان من الأفعال المذكورة في سورة القصص:{يَسْقُونَ،} {لا نَسْقِي،} {فَسَقى لَهُما،} {ما سَقَيْتَ لَنا} . هذا وفرق الأعلم بين المهموز، وغيره. فقال: تقول: سقيتك ماء: إذا ناولته إياه يشربه، وتقول: أسقيتك: إذا حصّلت له سقيا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى موسى، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وجملة:{إِنَّهُ يَقُولُ:} في محل نصب مقول القول، وجملة:{إِنَّها بَقَرَةٌ:} في محل نصب مقول القول ل {يَقُولُ} . {لا:} نافية. {ذَلُولٌ:} صفة منفية ل {بَقَرَةٌ،} وقيل: إنّ {لا} اسم بمعنى غير، فهي صفة، ظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية، لكونها على صورة الحرف، وعليه فهي مضاف، و {ذَلُولٌ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المنقولة إليه من {لا} بطريق العارية. هذا ويجوز اعتبار {ذَلُولٌ} خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: لا هي ذلول، وتكون الجملة الاسمية في محل رفع صفة {بَقَرَةٌ} .

وقرأ عبد الرحمن السلمي: («لا ذلول») بالنصب على اعتبار {لا} نافية للجنس، والخبر محذوف، وتبقى الجملة الاسمية صفة {بَقَرَةٌ} وهي قراءة غير سبعية. {تُثِيرُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {بَقَرَةٌ}. {الْأَرْضَ:} مفعول به والجملة الفعلية في محل رفع صفة {ذَلُولٌ} .

وهذا على أنّ الصّفة توصف، وهي صفة كاشفة. وقال أبو البقاء: هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في {ذَلُولٌ،} التقدير: لا تذل في حال إثارتها. وهذا أقوى من الأول. وقيل:

صفة ثانية ل {بَقَرَةٌ،} وجملة: ({لا تَسْقِي الْحَرْثَ}) معطوفة عليها، و ({لا}) زائدة لتأكيد النفي؛ لأنها منفية بسبب العطف، ويجوز أن تكون خبرا لمبتدإ محذوف أيضا. {مُسَلَّمَةٌ:} صفة ثانية ل {بَقَرَةٌ} . وأجيز اعتبارها خبرا لمبتدإ محذوف، وتعود الجملة، فتكون صفة:{بَقَرَةٌ} ومتعلقه محذوف، كما رأيت في الشرح.

{لا} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» {شِيَةَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب.

{فِيها} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا،} والجملة الاسمية في محل رفع صفة ثالثة

ص: 207

ل {بَقَرَةٌ،} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدّم. {قالُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْآنَ:} ظرف زمان مبني على الفتح في محل نصب متعلق بالفعل بعده. {جِئْتَ:} فعل وفاعل. {بِالْحَقِّ} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من تاء الفاعل؛ أي: جئت ملتبسا بالحق، أو معك الحق، وحذفت صفة الحق، كما رأيت في الشرح، وجملة:{جِئْتَ بِالْحَقِّ} في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا} مستأنفة لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدّر. {فَذَبَحُوها:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على كلام محذوف، انظر الشرح. {وَما:} الواو واو الحال. ({ما}): نافية. {كادُوا:} فعل ماض ناقص من أفعال المقاربة، مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَفْعَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، تقديره: الذّبح، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كاد)، وجملة:({ما كادُوا..}.) إلخ: في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو، والضمير.

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}

الشرح: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} أي: واذكروا يا بني إسرائيل وقت قتل هذه النفس، وما وقع فيه من القصّة. والخطاب لليهود المعاصرين للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وإسناد القتل، والتدارؤ إليهم؛ لأنّ ما يصدر من الأسلاف ينسب إلى الأخلاف توبيخا، وتقريعا.

{فَادّارَأْتُمْ فِيها:} تدافعتم، وتخاصمتم. وأصله: تدارأتم، فاجتمعت التاء مع الدال، وهما متقاربان في المخرج، فقلبت التاء دالا، وسكنت لأجل الإدغام، ولا يمكن الابتداء بساكن، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها، فصار: اددارأتم ثم أدغم، ولهذه الكلمة نظائر مثل قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [38]:{حَتّى إِذَا ادّارَكُوا فِيها جَمِيعاً} وقوله تعالى في سورة (النّمل) رقم [66]: {بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} وأيضا: اذّكر، واطّلع، واطّير، وازيّن، فإن الأصل: تذكر، وتطلع، وتطير، وتزين. وأيضا قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [38]:{اِثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} .

{وَاللهُ مُخْرِجٌ:} مظهر، فهو اسم فاعل، من أخرج الرباعي. {ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ:} تخفون في صدوركم من أمر القتيل. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

وعن المسيب بن رافع: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كتاب الله:{وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} .

هذا؛ وفي الحديث: «لو أنّ أحدكم يعمل في صخرة صمّاء، لا باب لها، ولا كوّة؛ لخرج ما غيّبه للنّاس كائنا ما كان» . أخرجه ابن ماجة، وابن حبّان عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه من حديث طويل. وخذ قوله تعالى حكاية عن وصية لقمان لابنه، وهو يعظه:{يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ..} . إلخ.

ص: 208

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. ({إِذْ}): ظرف مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، أو هو مفعول به لهذا المقدّر. انظر الشرح. والجملة المقدرة معطوفة على مثلها فيما سبق.

{قَتَلْتُمْ:} فعل وفاعل. {نَفْساً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة ({إِذْ}) إليها. (ادارأتم): فعل وفاعل. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.

{فِيها:} متعلقان بما قبلهما. {وَاللهُ:} الواو: واو الحال. ({اللهُ}): مبتدأ، {مُخْرِجٌ} خبره، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير. وقال أبو البقاء: معترضة بين ما قبلها، وبين ما بعدها. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ل {مُخْرِجٌ}. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَكْتُمُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، وهو العائد، أو الرابط ل {ما} والجملة الفعلية في محل نصب خبر:

{كُنْتُمْ} وهذه الجملة صلة {ما} أو صفتها. هذا؛ واعتبار {ما} مصدرية فيه ضعف. تأمل، وتدبّر، وربك أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلّم.

{فَقُلْنا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}

الشرح: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ} أي: القتيل: ببعضها: ببعض لحم البقرة بعد ذبحها، لا على تعيين شيء منها، فيحيا، ويخبركم عن قاتله. فضربوه، فحيي، وقال: قتلني فلان ابن أخي.

{كَذلِكَ..} . إلخ. أي: إحياء الناس بعد موتهم، وبعثهم للحساب شبيه بإحياء تلك النفس التي ضربت ببعض البقرة، و {الْمَوْتى} جمع: ميت، ويجمع أيضا على «أموات» وعلى «ميتون» قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة (الزمر) رقم [30]:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} . {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ} أي:

يريكم دلائل قدرته؛ لتتدبروا، ولتفكروا، وتعلموا: أنّ الله على كل شيء قدير. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمون، فتمتنعون عن عصيانه، ومخالفة أمره. وعقلت نفسي عن كذا، أي: منعتها منه.

تنبيه: ذكر الله تعالى إحياء الموتى في هذه السورة الكريمة في خمسة مواضع: الأول: في قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} الآية رقم [56]. الثاني: في هذه القصة: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها} . الثالث: في قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف؛ فقال لهم الله: {مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ} الآية رقم [243] الآتية. الرابع: في قصة عزيز في قوله تعالى: {فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} الآية رقم [259] الآتية. الخامس: في قصة إبراهيم على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام في قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى} الآية رقم [260] الآتية.

ص: 209

الإعراب: {فَقُلْنا:} الفاء: حرف عطف. (قلنا): فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قَتَلْتُمْ} فهي في محل جر مثلها. {اِضْرِبُوهُ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِبَعْضِها:} متعلقان بما قبلهما. وها: في محل جر بالإضافة. {كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل الذي بعده، التقدير: يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء الذي أحيا به القتيل. {يُحْيِ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {اللهُ:} فاعله، {الْمَوْتى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{كَذلِكَ يُحْيِ..} . إلخ: مستأنفة لا محل لها، وقبلها كلام محذوف، تقديره: فضربوه ببعضها، فحيي، وقال

إلخ. {وَيُرِيكُمْ:}

الواو حرف عطف. ({يُرِيكُمْ}): فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهُ} والكاف مفعوله الأول. {آياتِهِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا والفعل:(يري) بصري ينصب مفعولا واحدا، وقد تعدّى هنا إلى الثاني بالهمزة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وجملة:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيها معنى التعليل.

تنبيه: بالإضافة لما ذكرته في الآية رقم [67] نقلا عن القرطبي: أذكر هنا: أنّ هذه الآية هي أول القصّة، وقدّمت الآيات السابقة عليها في التنزيل لغرض، وهو: أنّه لمّا ذكر سابقا خبائثهم، وقبائحهم، وجناياتهم، ووبّخوا عليها؛ ناسب أن يقدّم في هذه القصّة ما هو من قبائحهم، وهو تعنتهم على موسى؛ لتتصل قبائحهم، ومساوئهم ببعضها، ليكون أبلغ في توبيخهم على القتل.

انتهى. جمل. وقال أبو السعود-رحمه الله تعالى-: وإنّما غيّر الترتيب لتكرير التوبيخ، وتثنية التقريع، فإنّ كلّ واحد من قتل النفس المحرمة، والاستهزاء بموسى عليه السلام، والافتيات على أمره جناية عظيمة جديرة بأن تنعى عليهم.

تنبيه: قال علماء السّير، والأخبار: إنّه كان في بني إسرائيل رجل غني، لا أولاد له، وله ابن عمّ فقير، لا وارث له سواه، فلمّا طال موته؛ قتله؛ ليرثه، وحمله إلى قرية أخرى، وألقاه على بابها، ثمّ أصبح يطلب ثأره، وجاء بناس إلى موسى يدّعي عليهم بالقتل، فجحدوا، واشتبه أمر القتيل على موسى-على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فسألوا موسى أن يدعو الله لهم ما أشكل عليهم، فسأل موسى ربّه في ذلك، فأمره بذبح بقرة، وأمره أن يضربه ببعضها، فقال لهم:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً..} . إلخ الآيات التي رأيتها فيما سبق.

وكان في ذلك حكمة لله عزّ، وجلّ، وذلك: أنه كان رجل صالح في بني إسرائيل، وله ابن وله عجلة، فأتى بها غيضة، وقال: اللهم إنّي استودعتك هذه العجلة لابني حتّى يكبر، ومات ذلك

ص: 210

الرّجل، وصارت العجلة في الغيضة عوانا، وكانت تهرب من الناس، فلمّا كبر ذلك الطفل، وكان بارّا بأمّه؛ فقالت له أمّه يوما: يا بنيّ! إنّ أباك ورّثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا، فانطلق، وادع إله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق أن يردّها عليك، وعلامتها: أنك إذا نظرت إليها يخيّل إليك أن شعاع الشّمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهّبة؛ لحسنها، وصفرتها.

فأتى الفتى الغيضة، فرآها ترعى، فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، فأقبلت البقرة حتى وقفت بين يديه، فقبض على قرنها يقودها، فسار بها إلى أمّه، فقالت له: إنّك رجل فقير، ولا مال لك، ويشقّ عليك الاحتطاب بالنّهار، والقيام في الليل، فانطلق وبع البقرة، فقال: بكم أبيعها؟ قالت: ثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير، فانطلق الفتى بها إلى السّوق، وبعث الله ملكا ليري خلقه قدرته، ويختبر الفتى كيف برّه بأمه؟ وهو أعلم، فقال له الملك: بكم هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير، وأشترط رضا أمي، فقال الملك: لك ستة دنانير، ولا تستأمر أمّك، فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا، لم آخذه إلا برضا أمّي، ورجع الفتى إلى أمّه، وأخبرها بالثّمن، فقالت له: ارجع، فبعها بستة دنانير، ولا تبعها إلا برضاي، فرجع إلى السوق، وأتى الملك، فقال له: استأمرت أمّك؟ فقال:

نعم إنّها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة على رضاها، فقال الملك: إنّي أعطيك اثني عشر دينارا، ولا تستأمرها، فأبى، ورجع إلى أمّه، وأخبرها الخبر بذلك، فقالت له أمّه: إنّ الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجرّبك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة، أم لا؟ ففعل، فقال له الملك: اذهب إلى أمّك، فقل لها: أمسكي البقرة؛ فإنّ موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبعها إلا بملء مسكها ذهبا، والمسك الجلد، فأمسكها وقدّر الله على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفون البقرة؛ حتّى وصفت لهم تلك البقرة بعينها مكافأة لذلك الفتى على برّه بأمه، فضلا من الله ورحمة.

فاشتروها، وذبحوها، ثمّ ضربوا القتيل بقطعة لحم منها، فحيي، وقال لبني عمّه: قتلني فلان، ثمّ رجع ميتا، فقتل موسى القاتل، وحرم الميراث. ومن طلب شيئا قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه. انتهى. خازن بتصرّف مع اختصار.

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (74)}

الشرح: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ:} القساوة: عبارة عن الغلظ مع الصلابة كما في الحجر، وقساوة القلب: نبوّه عن الاعتبار، فقساوته مستعارة من قساوة الحجر، استعيرت لنبوّ قلوبهم عن

ص: 211

التأثر بالعظات، والقوارع الّتي تميع منها الجبال، وتلين بها الصخور. هذا؛ وأصل الفعل:

«قسى» فلما اتصلت به تاء التأنيث صار: «قسات» فحذفت الألف لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث فصار: «قست» . هذا؛ والقلب: قطعة صغيرة على هيئة الصّنوبرة، خلقها الله في الآدمي، وجعلها محلاّ للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار، يكتبه الله بالخطّ الإلهي، ويضبطه بالحفظ الربّاني حتّى يحصيه، ولا ينسى منه شيئا، وهو بين لمّتين: لمة من الملك، ولمة من الشّيطان، -كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمّا لمّة الملك؛ فإيعاد بالخير، وتصديق بالحقّ، وأما لمّة الشيطان؛ فإيعاد بالشرّ، وتكذيب بالحقّ، من وجد الأول؛ فيعلم: أنه من الله، ويحمد الله، ومن وجد الثاني؛ فليعوذ بالله من الشّيطان، ثم قرأ الرّسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} الآية رقم [267] الآتية.

هذا واللّمة بفتح اللام: الخطرة الواحدة. من: الإلمام، وهو القرب من الشيء، والمراد بها في الحديث: التي تقع في القلب من خير أو شرّ، فأما لمّة الشيطان؛ فوسوسة، وأما لمّة الملك؛ فإلمام من الله تعالى. هذا وسمّي القلب قلبا لأنّه يتقلّب؛ قال الشاعر:[الطويل]

وما سمّي الإنسان إلا لأنسه

ولا القلب إلاّ أنّه يتقلّب

{مِنْ بَعْدِ ذلِكَ:} من بعد المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام، ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم، فقال تعالى في سورة (الحديد):{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} .

{فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً:} اختلف العلماء في معنى ({أَوْ}) هنا، بعد استحالة كونها للشكّ، فقال بعضهم: هي هنا بمعنى الواو، كقوله تعالى في سورة (الدّهر):{وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} وقوله تعالى في سورة (المرسلات): {عُذْراً أَوْ نُذْراً،} وكما قال جرير في مدح الخليفة الصّالح-وهو الشاهد رقم [96] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

جاء الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

أي: وكانت. وقيل: هي بمعنى «بل» كقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [77]: {إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وكقوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [147]:

{وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وقال جرير في مدح هشام بن عبد الملك-وهو الشاهد رقم [101] من كتابنا المذكور-: [الطويل]

ماذا ترى في عيال قد برمت بهم

لم أحص عدّتهم إلاّ بعدّاد؟

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لولا رجاؤك قد قتّلت أولادي

ص: 212

أي: بل، وزادوا ثمانية، وأيضا قول ذي الرّمّة:[الطويل]

بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى

وصورتها أو أنت في العين أملح

أي: بل أنت، وقيل: معناها الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي. [الوافر]

أحبّ محمّدا حبّا شديدا

وعبّاسا وحمزة أو عليّا

فإن يك حبّهم رشدا أصبه

ولست بمخطئ إن كان غيّا

ولم يشكّ أبو الأسود الدّؤلي: أنّ حبهم رشد ظاهر، وإنّما قصد الإبهام.

{وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ:} والمراد: جميع الحجارة، أو حجر موسى الذي كان يضربه في التيه لسقيهم. {وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ:} التّشقّق دون التفجر، والمراد منه العيون الصغيرة، والينابيع، وأصل الفعل: يتشقّق، قلبت التاء شينا، ثمّ أدغمت في الثانية بعد سكونها، وقرأ الأعمش على الأصل {وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} المعنى: من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم، لخروج الماء منها، وتردّيها. قال مجاهد: ما تردّى حجر من رأس جبل، ولا تفجّر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن.

وهو صحيح لا غبار عليه.

فإنه لا يمتنع أن يعطي الله بعض الجمادات المعرفة، فتعقل، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلمّا تحول عنه صلى الله عليه وسلم؛ حنّ إليه.

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إن حجرا كان يسلّم عليّ في الجاهليّة، إنّي لأعرفه الآن» ، وكما روي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال لي ثبير: اهبط فإنّي أخاف أن يقتلوك على ظهري، فيعذبني الله» . فناداه حراء: إليّ يا رسول الله! وقال تعالى في آخر سورة (الأحزاب): {إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها..} . إلخ. وقال تعالى في سورة (فصّلت) رقم [11]:

{ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} .

ولا تنس قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [44]: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} . انظر شرح هذه الآيات في محلّها؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ:} فيه وعيد، وتهديد، والمعنى: أن الله تعالى بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم، وحافظ لأعمالهم حتّى يجازيهم في الآخرة، فهي مسجلة في كتاب، وهو لا يغادر صغيرة، ولا كبيرة إلا أحصاها:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .

بعد هذا: فقسوة القلب سبب في شقاء الفرد، وشقاء المجتمع، والحقد، والحسد، وسبب في ترك الصّلاة، ومنع الزكاة، وترك صلاة الجمعة، والجماعة، وسبب في أكل الرّبا، وفعل

ص: 213

الزّنى، والغيبة، والنّميمة، وأكل أموال الناس بالباطل، وسبب في شهادة الزّور، وارتكاب الفجور، وشرب الخمر، ولعب القمار، ومخالفة الجبّار، بل إنّي أقول: إن قسوة القلب سبب في كلّ معصية، وبلاء، وقد رأيت كيف ذمّ الله اليهود، وذوي القلوب الغافلة القاسية.

ولقائل أن يقول: ما هي أسباب قسوة القلب حتى نجتنبها؟ فأذكر بعضا منها على سبيل الاختصار:

فأقول وبالله التوفيق: منها: أكل الحرام، فإنّ الشخص الذي لا يبالي من أين أكل: من الحلال، أم من الحرام؛ تخبث نفسه، ويقسو قلبه، وتفحش أعماله، وتسوء أخلاقه. ومنها:

اتباع الهوى، والانقياد للشّيطان الرّجيم، فإنّ الشخص الذي يسلسل لنفسه قيادها، تجرّه إلى المهالك، والذي ينقاد إلى شيطانه يأمره بكل شرّ، وينهاه عن كلّ خير، ورحم الله البوصيري؛ إذ يقول:[البسيط]

وخالف النّفس والشّيطان واعصهما

وإن هما محّضاك النّصح فاتّهم

ولا تطع منهما خصما ولا حكما

فأنت تعرف كيد الخصم والحكم

ومنها: كثرة الشّغف بالمجادلة، والمخاصمة بالباطل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلاّ أوتوا الجدل» . ثمّ قرأ: {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً} . رواه الترمذيّ، وابن ماجة عن أبي هريرة، رضي الله عنه. والمراء يقسي القلوب، ويورث الضغائن. ومنها:

الغفلة عن ذكر الله تعالى، وعدم مراقبته في السرّ، والعلن، والإعراض عن واجبات الله كالصّلاة، وغيرها، فإنّ الشّخص الذي يعرض عن الله يعرض الله عنه، ويكله إلى شيطانه مصداقا لقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} رقم [36] من سورة (الزخرف).

ومنها: كثرة الكلام فيما لا يعني، والخوض في الباطل، فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي» . أخرجه الترمذي.

ومنها: الانغماس في الشّهوات، والملذّات، والإغراق في التّرف، والنّعم، وكثرة الأكل، والشرب، قال بعض العلماء: من كثر أكله؛ كثر شربه، ومن كثر شربه؛ كثر نومه، ومن كثر نومه؛ كثر تخمه، ومن كثر تخمه؛ قسا قلبه، ومن قسا قلبه؛ غرق في الآثام، ومن غرق في الآثام؛ فالنار أولى به! ورحم الله تعالى من يقول:[الطويل]

يميت الطعام القلب إن زاد كثرة

كزرع إذا بالماء قد زاد سقيه

وإنّ لبيبا يرتضي نقص عقله

بأكل لقيمات لقد ضلّ سعيه

ص: 214

قال سعدي الشيرازي رحمه الله تعالى: [البسيط]

إنّ الحديد متى أودى به صدأ

فليس بالصّقل تبدو منه آثار

لا يدخل الوعظ قلبا مظلما أبدا

ولا يغوص بقلب الصّخر مسمار

أما دواء قسوة القلب؛ فهو الإخلاص في العبادة، والعبادة في النّهار، والتهجّد في الليل، وقراءة القرآن، وتدبّر معانيه، ومجالسة أهل الخير، والتّقوى، والصلاح، والإقلال من الطّعام، والشراب، وتجنّب الأمور الّتي تسبب قسوة القلب، المذكورة آنفا، ورحم الله من يقول:[البسيط]

دواء قلبك خمس عند قسوته

فدم عليها تفز بالخير والظّفر

خلاء بطن وقرآن تدبّره

كذا تضرّع باك ساعة السّحر

كذا قيامك جنح اللّيل أوسطه

وأن تجالس أهل الخير والخبر

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {قَسَتْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث التي هي حرف لا محل لها. {قُلُوبُكُمْ:} فاعله، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان بمحذوف حال من {قُلُوبُكُمْ،} و {بَعْدِ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جرّ بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، وجملة:

{قَسَتْ:} معطوفة على جملة: (قلنا) فهي في محل جر أيضا بسبب العطف.

(هي): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَالْحِجارَةِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى: مثل؛ فهي الخبر، وعليه فهي مضاف، والحجارة مضاف إليه، وعلى الاعتبارين فالجملة اسمية، وهي معطوفة بالفاء على الجملة الفعلية السّابقة، فهي في محل جرّ أيضا. {أَوْ:} حرف عطف. {أَشَدُّ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي أشد، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، وإن اعتبرت {أَشَدُّ} معطوفا على الخبر المحذوف، أو على الكاف؛ فيكون العطف من عطف المفردات. {قَسْوَةً:} تمييز، والمتعلّق محذوف؛ إذ التقدير: أو أشدّ قسوة منها.

{وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. ({إِنَّ}): حرف مشبه بالفعل. {مِنَ الْحِجارَةِ:} متعلقان بمحذوف رفع خبر ({إِنَّ}) تقدّم على اسمها، {لَما:} اللام: لام الابتداء، (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم (إنّ) مؤخر. {يَتَفَجَّرُ} : فعل مضارع. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَنْهارُ:} فاعل {يَتَفَجَّرُ،} والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:({إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ}) في محل نصب حال من {الْحِجارَةِ،} والرّابط الواو،

ص: 215

وأعيدت الحجارة بلفظها للبيان، والإيضاح، {وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ:} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا، وجملة:{فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ} معطوفة على جملة: {يَشَّقَّقُ} لا محل لها مثلها؛ لأنها صلة الموصول، وجملة:{وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ:} معطوفة على سابقتها فهي في محل نصب حال أيضا، وهي مثلها في إعرابها.

{وَمَا:} الواو: واو الحال، أو هي حرف عطف. ({مَا}): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» .

{اللهِ} اسمها. {بِغافِلٍ:} الباء: حرف جر صلة. (غافل): خبر ({مَا}) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وبعضهم يعتبر (ما) تميمية، فيعتبر لفظ الجلالة مبتدأ، والباء مزيدة في خبره و (غافل) اسم الفاعل، ففاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل نصب حال من الكاف في {قُلُوبُكُمْ،} والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلست مفنّدا، والمعنى لا يأباه، {عَمّا:}

جار ومجرور متعلقان ب (غافل)، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، والرابط محذوف؛ إذ التقدير: وما الله بغافل عن الذي، أو عن شيء تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (عن)، التقدير: وما الله بغافل عن عملكم.

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}

الشرح: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ:} هذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، والاستفهام إنكاريّ، أو استبعادي، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، أي: إن كفروا فلهم سابقة في ذلك، وذلك: أنّ الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف، والجوار الذي كان بينهم. هذا؛ والطّمع: نزوع النّفس إلى الشيء، وتعلّقها به، والحرص على حصوله، وهو مذموم إن كان في أمور الدنيا، وصارفا عن الآخرة، وطمع، يطمع من باب: سلم، يسلم، ويقال:

طمع فيه طمعا، وطماعية، فهو طمع على وزن فعل، ويقال في التعجب: طمع الرّجل بضم الميم، أي: صار كثير الطمع، وامرأة مطماع: تطمع، ولا تمكّن.

{وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ:} الفريق: الطائفة من الناس، والفريق أكثر من الفرقة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، كرهط، ومعشر، وجمعه في أدنى العدد: فرق، وفي الكثير: فرقاء.

وقال الأعلم-رحمه الله تعالى-: الفريق يقع للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، مثل: صديق، وعدو، وقعيد.

ص: 216

{يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ:} المراد به التوراة التي أنزلها الله على موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقال الربيع، وابن إسحاق: المراد: السّبعون الذين اختارهم موسى للاعتذار عن عبادة بني إسرائيل العجل، فسمعوا كلام الله، فلم يمتثلوا أمره، وحرّفوا القول في إخبارهم لقومهم. وهذا ضعيف جدّا، والمعتمد الأوّل، ويؤيده قوله تعالى:{ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} .

قال مجاهد، والسّدّي: هم علماء اليهود؛ الّذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحرام حلالا، والحلال حراما اتّباعا لأهوائهم. وأيضا حرّفوا ما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وحرّفوا آية الرّجم، ويفسّرون التوراة بما يشتهون، ففي صفات النبي صلى الله عليه وسلم كتبوا بدل «أكحل العين، ربعة، أجعد الشعر، حسن الوجه» : أزرق العين، سبط الشّعر، طويلا

إلخ.

هذا؛ والفعل (يسمع) من الأفعال الصّوتية، إن تعلق بالأصوات؛ تعدّى إلى مفعول واحد، وإن تعلق بالذّوات تعدّى إلى اثنين، الثاني منهما جملة فعلية مصدّرة بمضارع من الأفعال الصّوتية، مثل قولك: سمعت فلانا يقول كذا، وهذا اختيار الفارسي. واختار ابن مالك، ومن تبعه أن تكون الجملة الفعلية في محلّ نصب حال؛ إن كان المتقدّم معرفة؛ مثل قولك: سمعت زيدا يقول كذا، وصفة؛ إن كان نكرة، مثل قولك: سمعت رجلا يقول كذا.

هذا؛ والكلام بالنسبة إلى البشر يدلّ على أحد ثلاثة أمور:

أولها: الحدث الذي يدل عليه لفظ التكليم، تقول: أعجبني كلامك زيدا. تريد: تكلّمك إيّاه. وقال الشاعر: [البسيط]

قالوا: كلامك هندا وهي مصغية

يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا

وثانيها: ما يدور في النّفس من هواجس، وخواطر، وكلّ ما يعبّر عنه اللفظ لإفادة السّامع ما قام بنفس المخاطب، فيسمّى هذا الذي تخيلته في نفسك كلاما في اللغة العربية، تأمل في قول الأخطل التغلبي:[الكامل]

لا يعجبنّك من خطيب خطبة

حتّى يكون مع الكلام أصيلا

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

ثالثها: كلّ ما تحصل به الفائدة، سواء أكان ما حصلت به لفظا، أو خطّا، أو إشارة، أو دلالة حال. انظر إلى قول العرب:(القلم أحد اللّسانين)، وانظر إلى تسمية المسلمين ما بين دفتي المصحف:(كلام الله)، ثم انظر إلى قوله تعالى في هذه الآية:{يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ} وقال جلّ شأنه في سورة (التوبة) رقم [6]: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} وإلى كلمته جلّت حكمته في سورة (آل عمران) رقم [41]: {قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً} ثم انظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي الّذي نفى الكلام اللّفظي عن محبوبته، وأثبت لعينها القول، وذلك في قوله:[الطويل]

ص: 217

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

إشارة محزون ولم تتكلّم

فأيقنت أنّ الطّرف قد قال مرحبا

وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم

والدليل عليه فيما نطق به الحال قول نصيب: [الطويل]

فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

وقال تعالى في سورة (فصلت) رقم [11] حكاية عن قول السماء والأرض: {قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} فقال قوم من العلماء: إنهما تكلمتا حقيقة، وقال آخرون: إنهما لما انقادتا لأمر الله عز وجل؛ نزل ذلك منزلة القول، والكلام، وانظر شرح القول في الآية رقم [26].

{مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ:} من بعد ما فهموه، وضبطوه بعقولهم، وانظر العقل في الآية [44].

{وَهُمْ يَعْلَمُونَ:} أي: أنهم مبطلون مفترون. والمعنى: أنّ أحبار اليهود كانوا على هذه الحالة من التحريف، والتغيير، والتبديل لكلام الله، فكيف تتوقعون إيمان سفلتهم، وجهالهم، وأنهم إن كفروا؛ فلهم سابقة في ذلك.

الإعراب: {أَفَتَطْمَعُونَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري استبعادي. واختلف في مثل هذا التركيب؛ أي: دخول الهمزة على الفاء، وعلى الواو، وعلى ثمّ، فذهب الجمهور إلى أن الهمزة مقدّمة من تأخير، لأن لها الصّدر، ولا حذف في الكلام، والتقدير: فأ تطمعون، وأ لا يعلمون

إلخ. وذهب الزمخشري إلى أنّها داخلة على محذوف، وعليه سياق الكلام، والتقدير هنا: أتسمعون أخبارهم، وتعلمون أحوالهم، فتطمعون. الفاء: حرف عطف.

(تطمعون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يُؤْمِنُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَكُمْ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهذا على تأويل الفعل ب «ينقادوا» ، وأما على تأويله ب «صدقوكم» ، فاللام زائدة، والكاف مفعول به، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب بنزع الخافض، أو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في إيمانهم، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(تطمعون).

{وَقَدْ:} الواو: واو الحال. ({قَدْ}): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {فَرِيقٌ:} اسم ({كانَ}). {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {فَرِيقٌ،} أو بمحذوف صفة له. {يَسْمَعُونَ:} فعل مضارع وفاعله. {كَلامَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، وجملة:{يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ} في محل نصب خبر {كانَ،} وأجاز قوم أن تكون الجملة صفة ل {فَرِيقٌ،} و {مِنْهُمْ} الخبر. وهو ضعيف، والجملة الفعلية:({قَدْ كانَ}): في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو، والضمير.

ص: 218

{ثُمَّ:} حرف عطف. {يُحَرِّفُونَهُ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بما قبلهما و {بَعْدِ} مضاف، و {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وجملة:{عَقَلُوهُ} صلته، وإن اعتبرت {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر، ويكون المصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: من بعد عقلهم له. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. ({هُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة بقوله: عقلوه فتكون حالا مؤكدة؛ لأنّ معناها قد فهم من قوله: {عَقَلُوهُ} . والأولى اعتبارها حالا من واو الجماعة بقوله:

{يُحَرِّفُونَهُ} أي: يحرفونه حال علمهم بذلك. تأمل، وتدبر.

{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76)}

الشرح: قال الخازن رحمه الله تعالى: نزلت هذه الآية في اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّ منافقي اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به، وإن صاحبكم لصادق، وإن قوله الحق، وإنّا نجد نعته، وصفته في كتابنا.

{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا:} انظر الآية رقم [14] ففيها البحث كاف واف مع ملاحظة الفرق بأنّ ما هنا نزل بمنافقي اليهود، وما هناك نزل بمنافقي العرب: عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وأصحابه. {وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ} يعني: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهما من رؤساء اليهود لاموا المنافقين منهم على ذلك. {قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} أي: قصّ، وبيّن، وفصّل في كتابكم التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [89]:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} وما يشبهها في سورة (الشعراء) رقم [118]، وقال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [19]:{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} .

{لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ:} ليحتجّوا عليكم بما أنزل الله في كتابه، أو ليحتجوا عليكم بقولكم، يقولون لكم: كفرتم به بعد أن عرفتم صدقه. والمراد بقوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} قيل: في الآخرة، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} رقم [31] من سورة (الزّمر). هذا؛ والحجة: الكلام المستقيم على الإطلاق، ومن ذلك محجّة الطريق الواضحة، وحاججت فلانا، فحججته؛ أي: غلبته بالحجّة، ومنه الحديث الذي ذكرته في الآية رقم [36]:

«فحجّ آدم موسى» ؛ أي: فغلبه. {أَفَلا تَعْقِلُونَ:} هذا من قول الأحبار اللائمين للمنافقين منهم.

ص: 219

وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين؛ أي: أفلا تعقلون: أنّ اليهود لا يؤمنون بالله، ونبيكم، وهم بهذه الأحوال المعوجّة المنحرفة عن الصّراط المستقيم.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. ({إِذا}): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {لَقُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{لَقُوا} في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على المشهور المرجوح. {قالُوا:} فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. {آمَنّا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا:} جواب ({إِذا}) لا محل لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام معطوف على جملة:{وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ} فهو في محل نصب حال. وفي السمين: وهذه الجملة الشرطية تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون مستأنفة كاشفة عن أحوال اليهود، والمنافقين، والثاني: أن تكون في محل نصب على الحال معطوفة على الجملة الحالية قبلها، وهي:{وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ،} والتقدير: كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت، وكيت؟! انتهى. جمل.

{وَإِذا:} الواو: حرف عطف. ({إِذا}): مثل سابقتها. {خَلا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بَعْضُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلى بَعْضٍ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من {بَعْضُهُمْ،} وجملة: {خَلا} في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها. {قالُوا:} فعل وفاعل. {أَتُحَدِّثُونَهُمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري وتوبيخي. ({تُحَدِّثُونَهُمْ}): فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله الأول، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني.

و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {فَتَحَ:} فعل ماض. الله: فاعله.

{عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، إذ التقدير: بالذي، أو بشيء فتحه الله عليكم. هذا؛ وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: بفتح الله عليكم، وجملة:{قالُوا} جواب ({إِذا}) لا محل لها، و ({إِذا}) ومدخولها: كلام معطوف على ما قبله على الوجهين المعتبرين فيه.

{لِيُحَاجُّوكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام الصّيرورة، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:({تُحَدِّثُونَهُمْ}).

ص: 220

{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل (يحاج) أيضا، و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّكُمْ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام، وتقريع، وتأنيب. الفاء: حرف استئناف، أو هي حرف عطف. (لا): نافية. {تَعْقِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مع المفعول المحذوف معطوفة على جملة مقدرة، التقدير: أطبع على قلوبكم فلا تعقلون؟! هذا على اعتبارها من تمام مقولهم، وإن كانت من خطاب الله تعالى للمؤمنين؛ فهي معطوفة على قوله تعالى:{أَفَتَطْمَعُونَ} في الآية السابقة.

{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)}

الشرح: {أَوَلا يَعْلَمُونَ:} أي: اللائمون، والمنافقون من اليهود. هذا؛ والسرّ: الخفاء.

والعلن، والإعلان، والعلانية: الجهر. قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} الآية رقم [31]، وقال الشاعر:[البسيط]

لا تظلموا مسورا فإنّه لكم

من الّذين وفوا بالسّر والعلن

والّذي أسرّه اليهود الكفر، والذي أعلنوه إظهارهم الإيمان، وقولهم لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم:

آمنا بالذي آمنتم به، وإنّ صاحبكم لصادق، وإنّ قوله لحقّ، وإنا نجد نعته، وصفته في كتابنا التوراة. ولا تنس الطباق بين {يُسِرُّونَ} و {يُعْلِنُونَ} وهو من المحسّنات البديعية.

الإعراب: {أَوَلا:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ. الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. انظر ما ذكرته في الآية السابقة. ({لا}): نافية. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {أَنَّ} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعول به مفرد؛ إن جعلنا الفعل من المعرفة، أو في محل سد مسد مفعولين؛ إن جعلناه من العلم. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية.

{يُسِرُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة ({ما})، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يعلم الذي، أو شيئا يسرّونه، وعلى اعتبار ({ما}) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم سرّهم. {وَما يُعْلِنُونَ:}

معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق بينهما، وجملة:({لا يَعْلَمُونَ}): مستأنفة لا محل لها

ص: 221

من الإعراب، أو هي معطوفة على الجمل السابقة الواقعة حالا. ويبعده: أن الاستفهام إنشاء، والإنشاء لا يقع حالا.

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ (78)}

الشرح: لمّا ذكر الله تعالى علماء السوء من اليهود الّذين حرفوا، وبدّلوا؛ ذكر العوام الذين قلّدوهم، وبيّن: أنّهم في الضلال، والمآل سواء، فقال تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي: ومن اليهود طائفة من الجهلة العوام لا يعرفون القراءة، والكتابة؛ ليطلعوا على ما فيها بأنفسهم، ويتحقّقوا بما فيها. {أُمِّيُّونَ} جمع: أمّي، وهو من لا يحسن القراءة، والكتابة، وهي صفة ذمّ إلا في حق نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنّها له صفة مدح؛ لأنه أتى بعلوم الأولين والآخرين، كما رأيته في الآية رقم [156] من سورة (الأعراف)، والحمد لله! وأمّيّ منسوب إلى الأم التي ولدته، أو إلى الأمة، وهي القامة، والخلقة، كأنّ الذي لا يقرأ، ولا يكتب قائم على الفطرة، والجبلّة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّا أمّة أميّة، لا نكتب، ولا نحسب، الشّهر هكذا، وهكذا، وهكذا

» الحديث. أو منسوب إلى الأمة؛ لأنها ساذجة قبل أن تعرف المعارف، والمراد بالكتاب: التوراة.

{إِلاّ أَمانِيَّ} أي: أكاذيب، جمع: أمنيّة بتشديد الياء وتخفيفها فيها، قال أبو حاتم رحمه الله تعالى: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدّد؛ فلك فيه التشديد، والتخفيف مثل: أثافي، وأغاني، أماني، ونحوه، وهذا من قولهم: مان الرجل في حديثه مينا، وتمنّى تمنيا، أي:

كذب، ومنه قول عثمان بن عفان-رضي الله عنه: ما تمنيت منذ أسلمت! أي: ما كذبت!.

أو هي جمع أمنية من التمنّي، وهو: طلب محبوب لا يرجى حصوله لكونه مستحيلا، أو بعيد الوقوع، وإذا كان متوقّع الحصول؛ فإنّ ترقّبه يسمّى: ترجيا، وعليه فالأماني التي يتمنّاها سفلة اليهود، ويعدهم بها رؤساؤهم مواعيد فارغة من أنّ الجنّة لا يدخلها إلا من كان هودا، وأنّ النار لن تمسّهم إلا أياما معدودة، وأنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنّهم أبناء الله، وأحباؤه، إلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة.

هذا؛ والأماني جمع: أمنية بمعنى التلاوة، والقراءة، وأصلها: أمنوية، على وزن: أفعولة، فقل في إعلاله: اجتمعت الواو، والياء، والأول ساكن، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، ثم قلبت ضمّة النون كسرة لمناسبة الياء، فصارت أمنية.

والمعنى: أن سفلة اليهود لا يقرءون التّوراة إلا قراءة عارية عن معرفة المعنى. هذا؛ و «تمنى» بمعنى: قرأ، وقيل به في قوله تعالى:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية رقم [52] من سورة (الحج)، أي: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، انظر شرحها هناك، فإنّه جيد، والحمد لله! وأنشد الشاعر في عثمان بن عفان-رضي الله عنه:[الطويل]

ص: 222

تمنّى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزّبور على رسل

وقال كعب بن مالك-رضي الله عنه-فيه أيضا: [الطويل]

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر

وقال ابن الأنباري-رحمه الله تعالى-: الأماني تنقسم على ثلاثة أقسام: تكون من التمنّي، وتكون من التلاوة، وتكون من الكذب. كشاف بتصرف.

هذا؛ وقيل: الأماني: المقدّرات، يقال: منى له، أي قدّر له، قاله الجوهري، وحكاه ابن بحر، وأنشد قول الشاعر:[البسيط]

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم

حتّى تلاقي ما يمني لك الماني

وقال أبو قلابة الهذلي: [البسيط]

ولا تقولن لشيء سوف أفعله

حتّى تلاقي ما يمني لك الماني

أي: ما يقدر لك القادر. وبه قيل في آخر سورة القيامة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى} .

{وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ} أي: يكذبون، ويحدّثون؛ لأنه لا علم لهم بصحة ما يتلون، إنّما هم مقلّدون لأحبارهم فيما يقرءون به.

قال أبو بكر الأنباري-رحمه الله تعالى-: وقد حدّثنا أحمد بن يحيى النّحويّ: أنّ العرب تجعل الظنّ علما، وشكّا، وكذبا، وقال: إذا قامت براهين العلم، فكانت أكثر من براهين الشك؛ فالظنّ يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين، وبراهين الشك؛ فالظنّ شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين؛ فالظن كذب، قال الله عز وجل:{وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ} أراد:

إلا يكذبون، انظر ما ذكرته في الآية رقم [46] فإنه جيد، والحمد لله!.

الإعراب: {وَمِنْهُمْ:} الواو: حرف عطف. ({مِنْهُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدّم. {أُمِّيُّونَ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. هذا ما يقوله المفسرون، والمعربون في هذه الجملة، وأمثالها، وأرى: أنّ مضمون: ({مِنْهُمْ}) مبتدأ و {أُمِّيُّونَ} خبرا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [8]. {لا:} نافية. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، {الْكِتابَ:} مفعول به. {إِلاّ:} أداة استثناء. {أَمانِيَّ:} استثناء منقطع، قدر البيضاوي فعلا ناصبا له، كما قدّر {إِلاّ} ب «لكن» فقال: والمعنى: ولكن يعتقدون أماني، أو يدركون أماني.

والجملة الفعلية: {لا يَعْلَمُونَ:} في محل رفع صفة: {أُمِّيُّونَ،} والجملة الاسمية: {وَمِنْهُمْ}

ص: 223

{أُمِّيُّونَ:} معطوفة على الجمل السابقة، فهي في محل نصب حال مثلها، قاله سليمان الجمل، وأرى جواز اعتبارها مستأنفة لا محل لها.

{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({إِنْ}): حرف نفي بمعنى «ما» . {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{إِلاّ:} حرف حصر. {يَظُنُّونَ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعولاه محذوفان اختصارا ورعاية لرءوس الآي، التقدير: يظنون أنهم على حق، أو ناجون، أو نحو ذلك، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، واعتبرها أبو البقاء صفة لموصوف محذوف، هو المبتدأ، التقدير:

إلا قوم يظنون، وعلى كلّ فالجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية السّابقة على الوجهين المعتبرين فيها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة؛ فلست مفندا، والاستئناف ممكن أيضا.

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ (79)}

الشرح: ({وَيْلٌ}): كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، وأصلها في اللغة: العذاب، والهلاك، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الويل: شدّة العذاب. وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» . أخرجه الترمذيّ. وقال الأصمعيّ: الويل: تفجع، والويح: ترحم. وقيل: أصله الهلكة، وكلّ من وقع في هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [49]:{وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} . هذا؛ والويل مصدر، لم يستعمل منه فعل؛ لأنّ فاءه وعينه معتلتان، ومثله:(ويح، وويه، ويس، وويك، وويب) وهو لا يثنّى، ولا يجمع، وقيل:

يجمع على: ويلات، بدليل قول امرئ القيس في معلّقته رقم [18]:[الطويل]

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

وإذا أضيفت هذه الأسماء؛ فالأحسن النّصب على المفعولية المطلقة، وإذا لم تضف؛ فالأحسن فيها الرفع على الابتداء، وهي نكرات، وساغ ذلك لتضمّنها معنى خاصّا.

{يَكْتُبُونَ الْكِتابَ:} الكتابة معروفة، وأول من كتب بالقلم، وخطّ به إدريس، عليه الصلاة، والسّلام، وجاء ذلك في حديث أبي ذرّ خرّجه الآجري، وغيره. وقد قيل: إن آدم عليه السلام أعطي الخط، فصار وراثة في ولده، وهو صحيح، وجيّد. وقد كان عيسى-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-يحسن الخطّ، ويجيده.

ص: 224

{بِأَيْدِيهِمْ:} تأكيد، فإنه قد علم: أن الكتابة لا تكون إلا باليد، فهو مثل قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [38]:{وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} وقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} الآية رقم [167] من سورة (آل عمران).

{ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ} أي: يقولون لأتباعهم الأميين: هذا الذي تجدونه هو نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، مع أنّهم كتبوها بأيديهم، ونسبوها إلى الله كذبا، وزورا، فإذا نظر الأميّون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإلى تلك الصفة المكتوبة في التوراة؛ وجدوه مخالفا لها، فيكذّبون، ويقولون: إنه ليس به. {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً:} لينالوا بما كتبوا عرض الدنيا الزائل وحطامها الفاني. هذا؛ ووصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلّة إما لفنائه، وعدم ثباته، وإما لكونه حراما؛ لأن الحرام لا بركة فيه، ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق، والكلبي: كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم: «حسن الوجه، حسن الشّعر، أجعده، أكحل العينين، أبيض، ربعة» فغيّروها، وكتبوا مكانها: طويلا، أزرق، سبط الشّعر، والذي حملهم على ذلك: أنّهم خافوا زوال رياستهم، وانقطاع ما يأخذونه من سفلتهم. وقال الزّهري: عن ابن عباس-رضي الله عنهما: يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتاب الله الذي أنزله الله على نبيه أحدث أخبار الله، تقرءونه غضا لم يشب، وقد حدّثكم الله تعالى: أنّ أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب الله، وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم أحدا قطّ سألكم عن الذي أنزل عليكم؟!.

{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا..} . إلخ؛ أي: فويل لهم ممّا كتبوا بأيديهم من الكذب، والبهتان، والافتراء، وويل لهم ممّا أكلوا من سفلتهم من السّحت الحرام. هذا؛ وكرر لفظ:(ويل) تغليظا لفعلهم، وتشنيعا لعملهم، وتقبيحا لسوء صنيعهم. والتكرير واقع في آيات القرآن، منه ما يكون لمزيد المدح، ورفعة الشأن، كما في سورة (الواقعة):{فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} . ومنه ما يكون لمزيد التهويل، والتخويف، والزجر والرّدع، مثل قوله تعالى في سورة (الواقعة):

{وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ} .

هذا؛ واليد تطلق في الأصل على اليد الجارحة، وقد تطلق على النفس، والذات كما في الآية رقم [194] الآتية، وقد تطلق على القدرة، والقوّة، وهو كثير مثل قوله تعالى في سورة (ص) رقم [17]:{وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} . خذ قول عروة بن حزام العذري، وهو الشاهد رقم [116] من كتابنا:«فتح رب البريّة» : [الطويل]

وحمّلت زفرات الضّحى فأطقتها

ومالي بزفرات العشيّ يدان

كما تطلق اليد على النّعمة، والمعروف، يقال: لفلان يد عندي؛ أي: نعمة، ومعروف، وإحسان. وتطلق على الحيلة، والتدبير، فيقال: لا يد لي في هذا الأمر؛ أي: لا حيلة لي فيه، ولا تدبير.

ص: 225

فائدة: تحريف كلام الله تعالى يكون بتأويله تأويلا فاسدا، ويكون بتغيير، وتبديل الكلام، وقد وقع من أحبار اليهود التّحريف بالتّأويل، وبالتغيير، كما فعلوا بصفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التّحريف بقسميه في الكتب السّماوية: التوراة، والإنجيل، والزبور، كما قال تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} الآية رقم [46] من سورة (النساء)، أما التحريف بمعنى التأويل الباطل فقد وقع في القرآن الكريم من المنافقين، والملاحدة، ومن علماء السوء في كلّ زمان، ومكان، وأمّا التحريف بمعنى إسقاط الآية، ووضع كلام بدلها فقد حفظ الله كتابه العزيز منه، قال تعالى في سورة (الحجر) رقم [9]:{إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} انتهى. صفوة التفاسير بتصرف.

الإعراب: ({وَيْلٌ}): مبتدأ سوغ الابتداء به؛ وهو نكرة؛ لأنه دعاء عليهم، والدعاء من المسوغات سواء أكان دعاء له، نحو: سلام عليك، أو عليه كهذه الآية. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ. {يَكْتُبُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله.

{الْكِتابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.

{بِأَيْدِيهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يَقُولُونَ:} مضارع، وفاعله. والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {هذا:} الهاء حرف تنبيه لا محل له. (ذا):

اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

{لِيَشْتَرُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{يَقُولُونَ} .

{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ثَمَناً:} مفعول به. {قَلِيلاً:} صفة {ثَمَناً،} والجملة الاسمية: (ويل): مستأنفة لا محل لها. (ويل): مبتدأ. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب (ويل). {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب «من» والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو:

من شيء كتبته أيديهم، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، التقدير: فويل لهم من كتابة أيديهم، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، ومؤكّدة لها، وأيضا جملة {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ} معطوفة عليها، ومؤكّدة لها، وإعرابها مثل إعراب سابقتها بلا فارق بينهما. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

ص: 226

{وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80)}

الشرح: روى البخاريّ، وغيره عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنه قال: «لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سمّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا لي من كان من اليهود هنا» ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أبوكم؟» قالوا: فلان، قال:«كذبتم بل أبوكم فلان» . فقالوا:

صدقت وبررت! ثم قال لهم: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟» قالوا: نعم يا أبا القاسم! وإن كذبناك؛ عرفت كذبنا، كما عرفته في أبينا! فقال لهم:«من أهل النار؟» فقالوا:

نكون فيها يسيرا، ثمّ تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبدا!» ثم قال لهم: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟» . قالوا: نعم يا أبا القاسم! قال: «هل جعلتم في هذه الشاة سمّا؟» . فقالوا: نعم! قال صلى الله عليه وسلم: «ما حملكم على ذلك؟» فقالوا:

أردنا إن كنت كاذبا؛ أن نستريح منك، وإن كنت نبيّا؛ لم يضرك».

وقال مجاهد: عن ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّ اليهود كانوا يقولون: إنّ هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنّما نعذب بكل ألف سنة يوما في النّار، وإنّما هي سبعة أيام معدودة، فأنزل الله تعالى:{وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً،} وقال العوفي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: قالوا: ولن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، وهي مدّة عبادتهم العجل.

هذا؛ وقد جاء وصف {أَيّاماً} في آية الصيام الآتية بلفظ: {مَعْدُوداتٍ،} وهذا يدل على أنه يجوز في العربية استعمال اللفظين في وصف أياما كما ترى. {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ:} انظر الآية رقم [54] فالبحث فيها واف كاف. {عِنْدَ اللهِ عَهْداً:} أي: قل يا محمد لهم على سبيل الإنكار، والتوبيخ، والتقريع: هل أعطاكم الله عهدا بذلك، فالله لا يخلف وعده، ولا ينقض عهده؛ لأنه تعالى لا يخلف الميعاد، ولكن هذا ما جرى، ولا كان من الله تعالى، بل أنتم تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب، والافتراء. وافتراؤهم هذا كان حينما توعّدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالنّار؛ إن لم يسلموا. هذا؛ وقال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: يجوز في {أَمْ} في هذه الآية أن تكون معادلة، أي: متصلة؛ بمعنى: أي الأمرين كائن على سبيل التقرير لحصول العلم بكون أحدهما. ويجوز أن تكون منقطعة، انظر ما ذكرته في الآية رقم [6] لشرح المتصلة، والمنقطعة.

الإعراب: ({قالُوا}): فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع مقولها مستأنفة، وهو أولى من العطف على الآية قبلها. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال.

ص: 227

{تَمَسَّنَا:} فعل مضارع منصوب ب {لَنْ} و (نا) مفعول به. {النّارُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَيّاماً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، أو هو منصوب بنزع الخافض. {مَعْدُودَةً:} صفة: {أَيّاماً} .

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، {أَتَّخَذْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. ({أَتَّخَذْتُمْ}): فعل وفاعل، {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، ويجوز تعليقه ب {عَهْداً؛} لأنه مصدر، كما يجوز اعتباره متعلقا بمحذوف حال من {عَهْداً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» . وجملة:

{أَتَّخَذْتُمْ:} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ:} مستأنفة لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدر، كما رأيت فيها، وفي أمثالها.

{فَلَنْ:} الفاء: اعتبرها الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: أنها واقعة في جواب شرط محذوف، تقديره: إن اتخذتم عند الله عهدا؛ فلن

إلخ. (لن): حرف ناصب.

{يُخْلِفَ:} فعل مضارع منصوب ب (لن)، {اللهِ:} فاعله، {عَهْدَهُ:} مفعول به، والهاء: في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط المقدر، كما رأيت على قول الزمخشري، ومن تبعه، والشرط المقدر، ومدخوله في محل نصب مقول القول، وقال ابن عطية: هي معترضة بين المتعاطفين لا محل لها من الإعراب. {أَمْ:} حرف عطف، وهي تحتمل أن تكون متصلة، وهي التي يطلب بها وبالهمزة التّعيين، ويحتمل أن تكون منقطعة، وهي التي بمعنى «بل». {تَقُولُونَ:} فعل مضارع، وفاعله.

{عَلَى اللهِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَتَّخَذْتُمْ} فهي في محل نصب مفعول به ل {تَقُولُونَ،} وساغ ذلك لأنها مبهمة، وهي كناية عن كلام كثير، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو شيئا لا تعلمونه.

فائدة: قال القرطبي: رحمه الله تعالى-: في هذه الآية ردّ على أبي حنيفة وأصحابه، حيث استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:«دعي الصّلاة أيّام أقرائك» في أنّ مدّة الحيض ما يسمّى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة أيام، وأكثرها عشرة، قالوا: لأنّ ما دون الثلاثة يسمّى يوما ويومين، وما زاد على العشرة يقال فيه:

أحد عشر يوما، ولا يقال فيه: أيام، وإنّما يقال: أيام: من الثلاثة إلى العشرة، قال الله تعالى:

{فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ،} {تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيّامٍ،} {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيّامٍ} .

فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصّوم: {أَيّاماً مَعْدُوداتٍ} يعني: جميع الشهر، وقال تعالى:{قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ} يعني: أربعين يوما، وأيضا: إذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك، وسفرك، وإقامتك، وإن كان ثلاثين، وعشرين، وما شئت من العدد، ولعلّه أراد ما كان معتادا لها، والعادة ستّ، أو سبع، فخرّج الكلام عليه، والله أعلم. انتهى. قرطبي.

ص: 228

{بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)}

الشرح: {بَلى:} ردّ لما ادّعاه اليهود في الآية السابقة؛ أي: ليس الأمر كما زعمتم، وذكرتم، بل تمسكم النار زمانا مديدا، ودهرا طويلا، و {بَلى:} حرف جواب كنعم، وجير، وأجل، وإي، إلا أنّ {بَلى} جواب لنفي، متقدّم؛ أي: وإبطال، ونقض، وإيجاب له، سواء دخله الاستفهام أم لا؛ فتكون إيجابا له، نحو قول القائل: ما قام زيد، فتقول: بلى، أي: قد قام، وقوله: أليس زيد قائما، فتقول: بلى، أي: هو قائم، قال الله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [172]:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم؛ كفروا.

{كَسَبَ سَيِّئَةً:} عمل سيئة، والكسب: استجلاب النفع، وتعليقه بالسّيئة تهكما على طريقة:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} . هذا؛ والسيئة المراد بها هنا: الشّرك، وهي أيضا المعصية، ومخالفة أوامر الله تعالى، وهي كبائر، وصغائر، وأصلها:«سيوئة» فقل في إعلالها اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. {وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ:} استولت عليه، وأحدقت به من كلّ جانب بأن مات مشركا، وكذلك من يفعل الكبائر من الذنوب، ولم يتب قبل موته.

وخذ ما يلي: فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهنّ يجتمعن على الرّجل حتى يهلكنه» ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهنّ مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرّجل ينطلق، فيجيء بالعود والرّجل يجيء بالعود، حتّى جمعوا سوادا، وأجّجوا نارا، فأنضجوا ما قذفوا فيها، رواه الإمام أحمد.

هذا؛ وقرأ نافع: («خطيئاته») بالجمع، انظر إعلالها في الآية رقم [58] أولئك {أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ:} انظر الآية رقم [39] ففيها الكفاية.

الإعراب: {بَلى:} حرف جواب لا محل له من الإعراب. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كَسَبَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) تقديره: هو. {سَيِّئَةً:} مفعول به. {وَأَحاطَتْ:} الواو:

حرف عطف. ({أَحاطَتْ}): فعل ماض، والتاء للتأنيث. {بِهِ} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، {خَطِيئَتُهُ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَصْحابُ:} خبر المبتدأ، و {أَصْحابُ:}

مضاف، و {النّارِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:(أولئك) في محل جزم جواب الشرط.

ص: 229

وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل الجملتان. وهو المرجح عند المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} اسما موصولا فهو مبتدأ، وجملة {كَسَبَ} صلته، والجملة الاسمية:(أولئك) في محل رفع خبره، ودخلت الفاء على خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:{بَلى مَنْ:} مبتدأة أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. هذا؛ ويرجح اعتبار {مَنْ} اسما موصولا عطف الآية التالية على هذه الآية.

{هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو

والجملة الاسمية في محل نصب حال من: {أَصْحابُ} أو من: {النّارِ} والرابط الضمير على الاعتبارين، والعامل في الحال اسم الإشارة لما فيه من معنى الفعل، وإن اعتبرت الجملة الاسمية مستأنفة؛ فلست مفندا، والوقف على {النّارِ} تامّ، وجيّد.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)}

الشرح: من رحمة الله بعباده، ومن كرمه، وجوده، وإحسانه: أنّه لم يذكر عباده المؤمنين في الكتاب؛ إلا ويذكر الكافرين، والفاسدين، ولم يذكر الحسنات، والأعمال الصّالحات؛ إلا ويذكر السيئات، والخطيئات، ولم يذكر الجنّة، ونعيمها؛ إلا ويذكر النار، وجحيمها، وذلك من باب المقابلة، والمقارنة، وفيه ما فيه من التذكير، والتنبيه، والاتعاظ، وما يتذكر إلا أولو الألباب. هذا؛ وجعل أصحاب الجنة بمعنى مالكيها بملازمتهم لها، وعدم انفكاكهم عنها، وقل مثله في أصحاب النار، انظر الآية رقم [39] وانظر الإعراب فيها أيضا، فإنه مثله بلا فارق، فلا أعيده هنا رغبة في الاختصار، والاقتصار، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}

الشرح: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ:} اختلف في الميثاق هنا، فقال مكي: هو الميثاق؛ الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذرّ، ويعني به ما ذكر في قوله الله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [172]:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ..} . إلخ. وقيل: هو ميثاق

ص: 230

أخذه عليهم، وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم، وهو قوله:{أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ} . وعبادة الله: إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه. وانظر ما ذكرته في سورة الفاتحة:

{وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً:} يراد في هذا اللفظ: الأب، والأم، ففيه تغليب الأب على الأم، وأيضا في لفظ «الأبوين» ، وفيه إشعار بتفضيل الأب على الأم، والذّكر على الأنثى. والإحسان إلى الأبوين يكون بالقول، والفعل، والإنفاق عليهما عند عجزهما، واحتياجهما. وانظر ما ذكرته في سورة (الإسراء) رقم [23] في هذا الصدد، وانظر سورة (النساء) رقم [36]. {وَذِي الْقُرْبى} أي:

القرابات من جهة الأب، ومن جهة الأم، وهم الأرحام. وانظر ما ذكرته في سورة (الرعد) رقم [23] في حقّهم. {وَالْيَتامى:} جمع: يتيم، وهو من فقد أباه، أو أمه، أو فقدهما معا، وقد يغلب أن يكون المراد من فقد معيله، وهو الأب من بني آدم، والأم من الحيوانات، والطيور، وهناك يتيم العقل، والأدب، والتربية، والخلق، والدين، وهو أسوأ حالا من الأول، وإن كان قد بلغ من العمر الخمسين، والسّتين، ويملك من المال الملايين، ولله درّ القائل:[البسيط]

ليس اليتيم الّذي قد مات والده

إنّ اليتيم يتيم العقل والأدب

وخذ قول الآخر: [الكامل]

ليس اليتيم من انتهى أبواه من

همّ الحياة وخلّفاه ذليلا

إنّ اليتيم هو الّذي تلقى له

أمّا تخلّت أو أبا مشغولا

وقد ذكرت الإحسان إلى اليتيم والعطف عليه، وثواب رعايته، وجزاء كفالته في مناسبات كثيرة، وآيات عديدة. {وَالْمَساكِينِ:} انظر الآية رقم [176] الآتية.

{وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً} أي: قولوا لهم قولا ذا حسن، وقرئ:(«حسنا») بفتحتين، و («حسنا») بضمتين، فالأولى قراءة حمزة، والكسائي، والثانية قراءة عيسى بن عمرو، وهي غير سبعية، والمعنى: قولوا لهم الطّيّب من القول، وجازوهم بأحسن ما يحبّون أن يجازوا به، وهذا كلّه حضّ على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله لينا، ووجهه منبسطا طلقا مع البرّ، والفاجر، والسّنّيّ، والمبتدع من غير مداهنة؛ لأن الله تعالى قال لموسى، وهارون:{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} الآية رقم [44] من سورة (طه). والمأمور بذلك اليهود، والنصارى، والمسلم أولى بذلك. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} انظر الآية رقم [43]، {وَآتُوا:}

أصله: «آتيوا» فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فصار:«آتوا» بعد حذف الياء، ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو فصار:(آتوا). {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ:} انظر الآية رقم [64]، والخطاب لليهود معاصري محمد صلى الله عليه وسلم وأسند إليهم تولّي أسلافهم؛ إذ هم كلّهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحقّ مثلهم، كما قيل:«شنشنة أعرفها من أخزم» . {إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} أي: من آبائكم

ص: 231

في عهد موسى، وهارون، على نبيّنا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام، وفي عهد محمد صلى الله عليه وسلم أسلم عبد الله بن سلام، وأصحابه. {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} أي: عن الإيمان وعن الوفاء بالعهد، كما أعرض آباؤكم.

هذا؛ والملاحظ: أنّ الله تعالى أمر بني إسرائيل بهذه التّكاليف الثمانية؛ لتكون لهم المنزلة الرّفيعة عنده بما التزموا به، فأخبر الله عنهم: أنّهم ما وفوا بذلك بقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ}

تنبيه: أمر الله تعالى في هذه الآية بني إسرائيل، وكلّ إنسان بالإحسان إلى الوالدين، والبر بهما، والرّحمة لهما، فيما لا يخالف أوامر الله تعالى، ويوصل إليهما ما يحتاجان إليه من المساعدة، والإنفاق عليهما بقدر الحاجة، ولا يؤذيهما البتة، وإن كانا كافرين، بل يجب عليه الإحسان إليهما، ومن الإحسان إليهما: أن يدعوهما إلى الإيمان بالرّفق، واللين، وكذا إن كانا فاسقين؛ بأمرهما بالمعروف بالرّفق، واللّين من غير عنف، وإنّما عطف برّ الوالدين على الأمر بعبادته؛ لأن شكر المنعم واجب، ولله على عبده أعظم النّعم؛ لأنه هو الذي خلقه، وأوجده بعد العدم، فيجب تقديم شكره على شكر غيره ثم إنّ للوالدين على الولد نعمة عظيمة؛ لأنّهما السبب في كون الولد، ووجوده، ثمّ إن لهما عليه حقّ التربية أيضا، فيجب شكرهما ثانيا. خازن. ولا تنس قوله تعالى في سورة لقمان:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} .

الإعراب: ({إِذْ}): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السّكون في محل نصب، متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر، فيكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم أو تقديره: اذكروا: فيكون خطابا لليهود المعاصرين له عليه الصلاة والسلام. {أَخَذْنا:} فعل، وفاعل. {مِيثاقَ:} مفعول به، وهو مضاف. {بَنِي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النّون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} ) إليها.

{لا:} نافية. {تَعْبُدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {إِلاَّ:} حرف حصر، لا محل لها. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقلنا لهم: لا تعبدون. وهذا النفي بمعنى النّهي، وهو أبلغ من النهي الصّريح، ويعضده: أنه قرئ بحذف النون على النّهي الصريح، والقول ومقوله معطوف على جملة:{أَخَذْنا} فهو في محل جرّ مثلها، وجوز أن يكون في محل نصب حال من (نا) وهو على تقدير «قد» أيضا، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرئ:(«لا يعبدون») بالياء، وعليه فلا التفات. هذا وقد ذكر أبو البقاء: أنّ في الجملة أربعة أوجه: أحدها: أنها جواب قسم دل عليه المعنى، وهو قوله:{أَخَذْنا مِيثاقَ} لأنّ معناه: استحلفناهم: والله لا تعبدون. والثاني: أنّ «أن» الناصبة مرادة، والتقدير: أخذنا ميثاق بني إسرائيل على ألا تعبدوا إلا الله، فحذف حرف الجرّ،

ص: 232

ثمّ حذف «أن» فارتفع الفعل، والثالث: أنّ الجملة الفعلية في محل نصب حال، التقدير: أخذنا ميثاقهم موحّدين، وهي حال مصاحبة، ومقدرة؛ لأنهم كانوا وقت أخذ العهد موحّدين، والتزموا الدوام على التّوحيد، والوجه الرابع: أن يكون لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، التقدير: قلنا لهم: لا تعبدوا. هذا؛ وذكر الجمل: أنّه يحتمل أن تكون الجملة مفسرة لأخذ الميثاق، ثمّ قال:

ولا محل لها حينئذ من الإعراب. انتهى بتصرّف، وهو منقول من السمين.

{وَبِالْوالِدَيْنِ:} الواو: حرف عطف. {وَبِالْوالِدَيْنِ:} متعلّقان بفعل محذوف، تقديره: أحسنوا بالوالدين، والجملة هذه معطوفة على جملة:{لا تَعْبُدُونَ} على جميع الوجوه المعتبرة فيها، ولا سيما على الوجه الأول، والاستئناف ضعيف. {إِحْساناً:} مفعول مطلق مؤكد للفعل المقدّر. وقيل: هو مفعول به على تقدير المحذوف: استوصوا. وقيل: هو مفعول لأجله، والأول أقوى، وآكد. {وَذِي:} معطوف على الوالدين مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و ({ذِي}) مضاف، و {الْقُرْبى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذّر. {وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ:} معطوفان على ما قبلهما.

({قُولُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِلنّاسِ:}

متعلقان بما قبلهما. {حُسْناً:} صفة مصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا؛ إذ التقدير: قولوا قولا ذا حسن، فحذف المضاف، وحلّ المضاف إليه محلّه، أو التقدير: قولوا قولا حسنا، وجملة {وَقُولُوا:} معطوفة على جملة: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً،} وأيضا جملتا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ:} معطوفتان عليها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {تَوَلَّيْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة؛ إذ التقدير: فقبلتم، ثم توليتم، والجملتان المقدّرة والمذكورة معطوفتان على جملة: {أَخَذْنا مِيثاقَ

؛} فهما في محل جرّ مثلها. {إِلاَّ:} أداة استثناء.

{قَلِيلاً} مستثنى من تاء الفاعل، وقال أبو البقاء: قرئ بالرفع شاذّا، ووجهه أن يكون فاعلا بفعل محذوف، التقدير: امتنع قليل، ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: إلا قليل منكم لم يتولّ، وعليه فالجملة على الاعتبارين في محل نصب حال من تاء الفاعل، ويجوز أن يكون توكيدا للضمير المرفوع المستثنى منه. انتهى بتصرف كبير. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {قَلِيلاً} أو بمحذوف صفة له. ({أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}): مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير، وهي حال مؤكّدة لمعنى التولّي.

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}

الشرح: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ:} هو مثل سابقه. {لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ:} تريقونها بقتل بعضكم بعضا؛ لأن من أراق دم غيره؛ فكأنما أراق دم نفسه، فهو من باب المجاز بأدنى

ص: 233

ملابسة. وقيل: لما كانت ملّتهم واحدة، وأمرهم واحد، وكانوا في الأمم كالشّخص الواحد؛ جعل قتل بعضهم بعضا، وإخراج بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم، ونفيا لهم، وقد قال نبيّنا المعظم صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع:«إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم» . وهو يريد دماء وأموال المؤمنين؛ لأن المؤمنين إخوة، وقال صلى الله عليه وسلم:«مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى» . وفي رواية: «إن اشتكى عينه؛ اشتكى كلّه، وإن اشتكى رأسه؛ اشتكى كلّه» . هذا؛ والسّفك: الصّبّ، والإراقة، ولا يستعمل إلا في الدّم، قال في المصباح: وسفك الدّم: أراقه، وبابه ضرب، وانظر شرح الدم في الآية رقم [30]. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أي: بالميثاق، واعترفتم بلزومه. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ:} على أنفسكم بذلك.

هذا؛ والخطاب للأبناء بما فعل آباؤهم، والغرض من ذلك توجيه التوبيخ والتقريع إليهم لما بينهم وبين أصولهم من الخبث، والمكر، والخداع، ومخالفة أوامر الله، ومخالفة رسله، ومعناه: أنتم تشهدون على أسلافكم بما قبلوا، وأقرّوا به.

هذا؛ و {دِيارِكُمْ} جمع: دار، وهي مؤنثة وقد تذكر، وهي منزل الإنسان ومسكنه، أصلها:

«دور» بفتحتين، قلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وجمعها: ديار، دور، وأدؤر، وأدور،، أدورة، وأدوار، ودورات، وديارات، ودوران، وديران، وأصل: ديار: دوار، وأدور، قلبت الواو ياء؛ لأنها وقعت عينا في جمع على وزن فعال لمفرد اعتلّت عينه بالقلب. هذا؛ والدار أيضا: البلد، والقبيلة، ودار القرار: الآخرة، والداران: الدنيا، والآخرة، ودار الحرب:

بلاد العدو. هذا؛ وقال أبو حاتم: إنّ الديار العساكر، والخيام، لا البنيان، والعمران، وإن الدّار البنيان، والعمران، وعليه قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في عساكرهم، وخيامهم ميتين، وقال جلّ شأنه:{فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في مدينتهم المعمورة، ولو أراد غير ما قيل؛ لجمع الدار، فعلم من كلامه: أنّ الديار مخصوصة بالخيام. انتهى. قال صاحب الخزانة: وهذه غفلة عن قول الشّاعر، وهو مجنون ليلى:«أقبّل ذا الجدار» وهو حائط البيت، وذلك في قوله، وهو الشاهد رقم [903] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]

أمرّ على الدّيار ديار ليلى

أقبّل ذا الجدار، وذا الجدارا

وما حبّ الدّيار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الدّيارا

الإعراب: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ:} هذا الكلام معطوف على مثله في الآية السابقة، وهو مثله في إعرابه. {لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ:} إعرابها ومحلها مثل: {لا تَعْبُدُونَ..} . في الآية السابقة. {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ:} معطوفة على ما قبلها، وهي مثلها في إعرابها، ومحلّها. {أَقْرَرْتُمْ:}

فعل وفاعل، والجملة الفعلية قيل: معطوفة على جملة محذوفة: التقدير: قبلتم، ثمّ أقررتم.

وقيل: هي معطوفة على جملة: {أَخَذْنا} فتكون في محل جرّ مثلها. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو

ص: 234

الحال. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَشْهَدُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو والضمير، وقيل: معطوفة على جملة: {أَقْرَرْتُمْ} ومؤكّدة لها.

{ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (85)}

الشرح: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ:} هذا خطاب لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقتل أنفسهم مثل سفك دمائهم في الآية السابقة بلا فارق. {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ} أي: يخرج بعضكم بعضا من ديارهم. {تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ:} أي: تتعاونون عليهم بالمعصية، والظلم، والعدوان. وقرئ:(«تظّاهرون») بتشديد الظاء، وتخفيفها، وأصلها:

تتظاهرون، فمن قرأ بتشديد الظاء؛ فقد أدغم التاء الثانية في الظّاء، ومن قرأ بتخفيف الظاء، فهو على حذف إحدى التاءين، وهذا الحذف كثير في القرآن الكريم، وفي اللّغة العربية. هذا؛ والعدوان: تجاوز لحدود الله، والطّغيان. والإثم: الذنب الذي يستحقّ عليه صاحبه الذّمّ. هذا؛ والإثم: اسم من أسماء الخمرة، قال الشاعر:[الوافر]

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

{وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ} أي: تنقذوهم، وتفكّوهم من الأسر بالمال وغيره. ويقرأ {أُسارى} و «أسرى» مثل: سكارى، وسكرى، ومثل هذه الآية رقم [67] من سورة (الأنفال) وسمّي الأسير أسيرا لشدّه بالإسار، وهو القدّ، أي: الحبل الذي يشدّ به وثاقه، فسمّي كلّ أخيذ أسيرا، وإن لم يشدّ به. هذا؛ والأسر: الخلق، قال تعالى في سورة الدّهر:{نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ} وأسرة الرجل: رهطه؛ لأنه يتقوّى بهم.

{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ:} الحرام في الأصل: كلّ ممنوع، قال تعالى:{وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ} فالحرمات: كل ممنوع منك ممّا بينك وبين غيرك، وقولهم: لفلان بي حرمة، أي: أنا ممتنع من مكروهه. وحرمة الرّجل. محظورة به عن غيره، وقوله تعالى:{وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فالمحروم هو الممنوع من المال، والتلذّذ به. والإحرام بالحجّ هو المنع من أمور معروفة.

{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ} أي: بعض التّوراة، وهو أخذ الفداء. {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي: ببعض التوراة، وفيها تحريم القتل، والمظاهرة، والإخراج من الديار بالظّلم. {فَما}

ص: 235

{جَزاءُ..} . إلخ: فما عقوبة؟. {خِزْيٌ:} ذلّ، وهوان، وقد خزوا في الدنيا بقتل بني قريظة، ونفي بني النّضير إلى الشام، وضرب الجزية عليهم. والإخزاء: هو الإذلال، قال ذو الإصبع العدواني شاعر جاهليّ:[البسيط]

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني

وهذا هو الشاهد رقم [260] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه-يخاطب به من شجّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: [الطويل]

فأخزاك ربّي يا عتيب بن مالك

ولقّاك قبل الموت إحدى الصّواعق

مددت يمينا للنّبيّ تعمّدا

ودمّيت فاه قطّعت بالبوارق

وهو على هذا من الرّباعي من: أخزى، يخزى، وهو من الثلاثي: خزى، يخزي بمعنى استحيا، وخجل، قال نهشل بن حري الدّارمي من قصيدة يرثي بها أخاه مالكا، وكان قد قتل بصفّين مع الإمام عليّ كرّم الله وجهه:[الطويل]

أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه

وهذا هو الشاهد رقم [324] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، وقال ذو الرّمة:[البسيط]

خزاية أدركته بعد جولته

من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب

{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: يوم يقوم الناس من قبورهم للحساب، والجزاء. {يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ} أي: في جهنّم يصلونها، وبئس المصير.

تنبيه: قال السّدي-رحمه الله تعالى-: إنّ الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وأيّما عبد، أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل، فاشتروه، وأعتقوه، وكانت قريظة حلفاء الأوس، وبنو النّضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة والشّنآن، فكان كلّ فريق يقاتل مع حلفائه، فإذا غلبوا؛ خرّبوا ديارهم، وأخرجوهم منها، ثم إذا أسر رجل من الفريقين؛ جمعوا له مالا، فيفدونه، فعيّرتهم العرب، وقالت لهم: كيف تقاتلونهم، ثم تفدونهم؟! فيقولون أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم، ولكنّا نستحيي أن تذل حلفاؤنا، فذمّهم الله على هذه المناقضة، انتهى. جمل بحروفه.

قال القرطبي: قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى، فقال:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . قلت: ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن، فتظاهر بعضنا على بعض، ليت بالمسلمين، بل بالكافرين، حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! انتهى.

ص: 236

أقول: يظهر: أنه يقصد ما حصل في الأندلس من فتن، ومحاربة بعض المسلمين بعضا، واستعانة البعض على البعض الآخرين بالإسبان الإفرنج، وهذا يحصل من المسلمين في كلّ زمان، ومكان، فقد ذكر: أن قيصر عرض على معاوية مساعدته على عليّ-رضي الله عنه، وقال: والله لو قطّعت إربا إربا لا أستعين بكافر على مسلم.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسرة في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أعني. أو هو مبني على الضم المقدّر على آخره في محل نصب بيا النداء المحذوفة، وعليه فجملة:{تَقْتُلُونَ..} . في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة سواء أكانت فعلية، أم ندائية معترضة بين المبتدأ والخبر، لا محل لها من الإعراب، إلا أنّ هذا لا يجيزه سيبويه؛ لأن (أولاء) مبهم، ولا يحذف حرف النداء مع المبهم. هذا؛ ويعتبر الكوفيون {هؤُلاءِ} اسم موصول هو الخبر، وجملة:{تَقْتُلُونَ} صلته، ولم يجزه البصريون؛ لأن {هؤُلاءِ} اسم إشارة، ولا يكون بمعنى «الذين» . وهناك وجه ثالث، وهو أنّ {هؤُلاءِ} خبر المبتدأ على تقدير مضاف محذوف، التقدير: ثمّ أنتم مثل هؤلاء، كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، فعلى هذا جملة:

{تَقْتُلُونَ} في محل نصب حال من {هؤُلاءِ،} والعامل في الحال معنى التشبيه. انتهى عكبري بتصرف، هذا؛ وأرى صحة وجه آخر، وهو أن يكون {هؤُلاءِ} مبتدأ ثانيا، وجملة:

{تَقْتُلُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {أَنْتُمْ} . هذا؛ ومثل الآية الكريمة قول ذي الرّمّة، وهو الشاهد [430] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

إذا هملت عيني لها قال صاحبي

بمثلك-هذا-لوعة وغرام

حيث قال الكوفيون: إن التقدير: يا هذا، ومثله الشاهد رقم [1095]. وجملة:{وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً:} معطوفة على سابقتها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، {مِنْكُمْ:} متعلقان ب {فَرِيقاً} أو بمحذوف صفة له. {مِنْ دِيارِهِمْ} متعلقان بالفعل ({تُخْرِجُونَ})، وجملة:{تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من {فَرِيقاً} بعد وصفه بالجار والمجرور. {بِالْإِثْمِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، فهي حال متداخلة.

{وَالْعُدْوانِ:} معطوف على ما قبله. {وَإِنْ:} الواو: واو الاعتراض. ({إِنْ}): حرف شرط جازم.

{يَأْتُوكُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{أُسارى:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.

{تُفادُوهُمْ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم

والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، والجملة الشرطية معترضة بين جملة:{تُظْهِرُونَ} وجملة: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ} الواقعتين في محل نصب حال.

ص: 237

({هُوَ}): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مُحَرَّمٌ:} خبره. {عَلَيْكُمْ:}

متعلقان ب {مُحَرَّمٌ؛} لأنه اسم مفعول. {إِخْراجُهُمْ:} نائب فاعل ب {مُحَرَّمٌ} سدّ مسدّ خبره، ويكون قد قام مقام الجملة، وهو في محل رفع خبر المبتدأ:({هُوَ}).

{أَفَتُؤْمِنُونَ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي تقريعي. الفاء: حرف استئناف، أو حرف عطف. (تؤمنون): فعل مضارع، والواو فاعله. {بِبَعْضِ:} متعلقان بما قبلهما، و (بعض) مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير:

أتفعلون ذلك، فتؤمنون؟! وهذا الكلام مستأنف لا محل له، وجملة:{وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ:}

معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فَما:} الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية.

{جَزاءُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {مِنْ} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَفْعَلُ ذلِكَ:} صلة الموصول لا محل لها. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل {يَفْعَلُ} المستتر.

{إِلاّ:} أداة حصر. {خِزْيٌ:} خبر المبتدأ. {فِي الْحَياةِ:} متعلقان ب {خِزْيٌ} أو بمحذوف صفة له. {الدُّنْيا:} صفة. {الْحَياةِ:} مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر.

هذا؛ وقد قال أبو البقاء: يجوز اعتبار: (ما) استفهاما مبتدأ، و {جَزاءُ} خبره، و {إِلاّ خِزْيٌ} بدلا من:{جَزاءُ} ولا أراه قويّا. والجملة الاسمية {فَما جَزاءُ:} مستأنفة لا محل لها.

{وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف. ({يَوْمَ}): ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، و ({يَوْمَ}) مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {يُرَدُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو نائب فاعله. {إِلى أَشَدِّ:}

متعلقان بما قبلهما. و {أَشَدِّ} مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه. {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} انظر إعرابها في الآية رقم [74]. هذا؛ ويقرأ:{يُرَدُّونَ} و {تَعْمَلُونَ} بالياء، والتاء، فعلى القراءة بالياء يكون التفاتا من الخطاب إلى الغيبة.

{أُولئِكَ الَّذِينَ اِشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}

الشرح: {أُولئِكَ:} أي: اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفعلون المتناقضات، كما رأيت في الآية السابقة. {اِشْتَرَوُا:} استبدلوا، انظر مثله في الآية رقم [16].

{الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ:} هما على حذف مضاف؛ أي: نعيم الحياة الدنيا بنعيم الآخرة وخيراتها، والمراد هنا: اختاروا الدنيا، وفضلوها على الآخرة.

{فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ} أي: لا يفتّر عنهم ساعة واحدة. {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي: وليس لهم ناصر ينصرهم، ولا مجير ينقذهم من عذاب الله الأليم. هذا؛ ووصف الله الحياة بالدنيا لحقارتها، ودناءتها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ورحم الله من يقول:[الكامل]

ص: 238

يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها

شرك الرّدى وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها

أبكت غدا تبّا لها من دار

وما أحسن قول الشّافعي-رضي الله عنه: [الطويل]

وما هي إلاّ جيفة مستحيلة

عليها كلاب همّهنّ اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها

وإن تجتذبها نازعتك كلابها

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ.

{اِشْتَرَوُا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع الواو التي هي فاعله، والألف للتفريق. {الْحَياةَ:} مفعول به. {الدُّنْيا:} صفة الحياة منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف. {بِالْآخِرَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الحياة الدّنيا. التقدير: مستبدلة بالآخرة، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وجملة:{اِشْتَرَوُا:} صلة الموصول لا محل لها. {فَلا:} الفاء: حرف عطف. (لا):

نافية. {يُخَفَّفُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {عَنْهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{الْعَذابُ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية السابقة لا محل لها مثلها. وقال الجمل في مثلها: معطوفة على جملة الصّلة. هذا؛ وقد قال النسفي: وقيل:

{الَّذِينَ} صفة {أُولئِكَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أُولئِكَ،} وعليه فالفاء صلة.

وقيل: الجملة الفعلية: {فَلا يُخَفَّفُ..} . إلخ في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، وتكون الفاء زائدة أيضا. {وَلا:} الواو حرف عطف. ({لا}): نافية مهملة. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُنْصَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وهو أقوى من اعتبار الحالية فيها.

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اِسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)}

الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ:} التوراة. {وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ:} أتبعناهم رسولا في إثر رسول: إلياس، وداود، وسليمان، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم، على نبيّنا، وحبيبنا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ وأصل:({قَفَّيْنا}): قفونا، فقلبت الواو

ص: 239

ياء. لوقوعها رابعة، واشتقاقه من: قفوته، إذا اتّبعت قفاه، ثم اتّسع فيه، فأطلق على كل تابع، وإن بعد زمان التابع من زمان المتبوع. والقفا: مؤخر العنق، ويقال له: القافية أيضا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يعقد الشّيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد» . رواه الشّيخان، وغيرهما.

ومنه قافية الشّعر، وهي آخر حرف من البيت، سمّيت بذلك؛ لأنها تتلو، وتتبع ما قبلها من أبيات. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة الحديد رقم [27]:{ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} .

{وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ:} الحجج، والمعجزات، وهي إبراء الأكمه، والأبرص وإحياء الميّت، وغير ذلك، ممّا ذكر في:(آل عمران) و (المائدة)، {وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ:}

وقويناه بجبريل عليه الصلاة والسلام، رواه أبو مالك، وأبو صالح عن ابن عباس-رضي الله عنهما-ومعمر بن قتادة، وقال حسّان-رضي الله عنه:[الوافر]

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس به خفاء

قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إنّما سمّي جبريل روح القدس؛ لأن القدس هو الله، وروحه: بجبريل، فالإضافة للتّشريف، وقال الرازي-رحمه الله تعالى-: وما يدل على أن روح الله القدس بجبريل قوله تعالى في سورة (النّحل): {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} .

وقال النّحاس: سمّي جبريل روحا، وأضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحا من غير ولادة والد ولده، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا، هذا؛ والقدس: الطهر، هذا؛ وعيسى مأخوذ من العيس، وهو بياض يخالطه شقرة، قاله أبو البقاء.

{أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ:} لا يوافق هواكم، ويلائمه. استكبرتم: عن إجابته، واتباعه، والأخذ بتعاليمه. انظر الآية رقم [91] الآتية:{فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ:} فكان ممّن كذبوه عيسى، ومحمّد عليهما ألف صلاة، وألف سلام. {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ:} وممن قتلوه يحيى، وزكريا، وغيرهما، هذا؛ والتّعبير بالمضارع بقوله تعالى:{وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} لم يقل: قتلتم كما قال: {كَذَّبْتُمْ؛} لأنّ المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغا عظيما، وكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السّامع، وجعله ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره لها أبلغ، واستفظاعه لها أعظم، ومنه قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [63]:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} فعبّر بالماضي، ثم قال:{فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} فعدل عنه إلى المضارع لتصوير اخضرارها في النفس، وعليه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي-رضي الله عنه، يصور شجاعته، وجرأته:[الوافر]

فإنّي قد لقيت القرن يسعى

بسهب كالصّحيفة صهصهان

فآخذه فأضربه فيهوي

صريعا لليدين وللجران

ص: 240

هذا؛ و {تَهْوى} فعل مضارع، بمعنى تحبّ، وترغب فيه، والاسم منه:«هوى» يقصر، ويمد، والمراد بالأول الحب، والعشق، والغرام، وهو أيضا محبّة الإنسان للشيء، وغلبته على قلبه، قال تعالى في سورة (الفرقان) رقم [43]:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ} وقد نهى الله عنه بقوله: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى} ومدح من يخافه، ويخشاه بقوله:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي: نهاها عن شهواتها، وما تدعو إليه من معاصي الله تعالى، ويراد بالممدود: ما بين السماء والأرض، وقد جاء الهوى بمعنى العشق ممدودا في الشعر، ومنه قول الشاعر:[الطويل]

وهان على أسماء إن شطّت النّوى

نحنّ إليها والهواء يتوق

وإليك هذين البيتين فإنهما من النكت الحسان: [الكامل]

جمع الهواء مع الهوى في مهجتي

فتكاملت في أضلعي ناران

فقصرت بالممدود عن نيل المنى

ومددت بالمقصور في أكفاني

وقال أبو عبيدة-رحمه الله تعالى-: لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر، ويروى عن ابن عباس أيضا: أنه لا يقال: فلان يهوى الخير، بل يقال: فلان يحبّ الخير، وهذا في الغالب، والآية الكريمة من ذلك، وقد يستعمل في الخير، والحق، ومنه قول عمر-رضي الله عنه-في أسارى بدر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث:«والله ما أرى ربّك إلاّ يسارع في هواك» . أخرجهما مسلم. هذا؛ وجمع الممدود: أهوية، وجمع المقصور: أهواء.

وقال الشّعبي: إنّما سمّي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» . وقال أبو أمامة-رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما عبد تحت السّماء إله أبغض إلى الله من الهوى» . والأحاديث في ذلك كثيرة، وقال الأصمعي رحمه الله تعالى: سمعت رجلا يقول: [الكامل]

إنّ الهوان هو الهوى قلب اسمه

فإذا هويت فقد لقيت هوانا

وسئل ابن المقفّع عن الهوى، فقال: هوان سرقت نونه، فأخذه شاعر، فنظمه، فقال:[الكامل]

نون الهوان من الهوى مسروقة

فإذا هويت فقد لقيت هوانا

وللعلماء، وللشعراء في هذا الباب في ذمّ الهوى، ومخالفته كتب، ومصنفات، وأبواب كثيرة، أشرنا إلى ما فيه كفاية منه، والله وليّ التوفيق.

تنبيه-بل فائدة-: {مَرْيَمَ} بالعبرية بمعنى الخادم، ثمّ سمّي به كثير من الناس، و (مريم) في لسان العرب: هي التي تكره مخالطة الرّجال. ولم تذكر امرأة باسمها صريحا في القرآن الكريم إلا مريم بنت عمران، وقد ذكرت فيه في ثلاثين موضعا.

ص: 241

هذا وفي القاموس المحيط: المريم: هي التي تحبّ حديث الرجال، ولا تفجر، وهذا يناقض ما قاله الشّاعر:[الطويل]

وزائرة ليلا كما لاح بارق

تضرّع منها للكساء عبير

فقلت لها أهلا وسهلا أمريم

فقالت: نعم من أنت؟ قلت لها: زير

وانظر الآية رقم [42] من سورة (آل عمران) ففيها كبير الفائدة.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. واللام: واقعة في جواب القسم. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {آتَيْنا:} فعل وفاعل. {مُوسَى:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {الْكِتابَ:} مفعول ثان، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، وانظر الآية رقم [65]. جملة:{وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ:} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {بِالرُّسُلِ:} متعلقان بما قبلهما. وجملة: ({آتَيْنا}): معطوفة أيضا لا محل لها. {عِيسَى:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.

{اِبْنَ:} صفة عيسى، وابن مضاف، و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي. {الْبَيِّناتِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة ({أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}) معطوفة على جملة القسم لا محل لها.

{أَفَكُلَّما:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع، وانظر:{أَفَلا} في الآية رقم [44].

(كلّما): انظر الآية رقم [20]. {جاءَكُمْ:} فعل ماض. والكاف: في محل نصب مفعول به.

{رَسُولٌ:} فاعله. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، و (ما) والفعل:(جاء) في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كل) إليه، التقدير: كل مجيء إليهم، وهذه الإضافة، وهذا التقدير هما اللذان سببا الظرفية ل (كل). أو التقدير: كل وقت مجيء. {لا:} نافية. {تَهْوى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف. {أَنْفُسُكُمُ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء لا تهواه أنفسكم. {اِسْتَكْبَرْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب:(كلما) لا محل لها، وجملة:{أَفَكُلَّما} مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {فَفَرِيقاً:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (فريقا): مفعول به مقدم. {كَذَّبْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. (فريقا): مفعول به مقدم. {تَقْتُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

ص: 242

وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا، وقدم المفعول في الجملتين للاهتمام، وتشويق السّامع إلى ما يلقى إليه.

{وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)}

الشرح: {وَقالُوا:} أي: اليهود. {قُلُوبُنا غُلْفٌ:} جمع: أغلف، أي: مغطاة بأغطية، فلا تعي ما تقول، ويريدون: أنها خلقت مغشاة بأغطية خلقيّة، فهي لا تعي ما جئت به، وهو مستعار من «الأغلف» الذي لم يختن، وقرئ بسكون اللام، وضمّها مثل «رسل» ، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا غيره. والقول الأول مثل قوله تعالى في سورة (النّساء) رقم [155]:{وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً،} وأيضا قوله تعالى في سورة (فصلت) رقم [5]: {وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ} . {بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ:} طردهم، وأبعدهم من رحمته. وأصل اللّعن في كلام العرب: الطّرد، والإبعاد، ويقال للذّئب: لعين، وللرّجل الطّريد: لعين، وقال الشّماخ:[الوافر]

ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذّئب كالرّجل اللّعين

ووجه الكلام: مقام الذئب اللّعين كالرّجل. فالمعنى: أبعدهم الله من رحمته.

وقيل: أبعدهم الله من توفيقه، وهدايته. وقيل: من كلّ خير، وهذا عام، انظر الآية [161] الآتية. {فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ:} مثل قوله تعالى: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً،} فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وقيل: المعنى: فقليل إيمانهم؛ بمعنى: أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد، والثواب، والعقاب، ولكنّه إيمان لا ينفعهم؛ لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. ({قالُوا}): فعل، وفاعل، والألف للتفريق.

{قُلُوبُنا:} مبتدأ و (نا) في محل جر بالإضافة. {غُلْفٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية ({قالُوا}) معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة فلا محل لها على الوجهين، والاستئناف أقوى. {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب، تبتدأ بعده الجمل.

{لَعَنَهُمُ:} فعل ماض والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {بِكُفْرِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والباء للسببية، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجوز اعتبارها مستأنفة.

{فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ:} الفاء: حرف تعليل لطردهم من رحمة الله وها أنا ذا أنقل لك باختصار ما ذكره ابن هشام في مغني اللبيب في إعراب هذه الجملة، وأمثالها، فقال رحمه الله تعالى:{ما} تحتمل لثلاثة أوجه:

ص: 243

أحدها: الزيادة، فتكون لمجرد تقوية الكلام، فتكون حرفا باتفاق. و (قليلا) في معنى النفي، وأمّا التقليل مثلها في:(أكلت أكلا ما) وعلى هذا فيكون تقليلا بعد تقليل.

الوجه الثاني: النفي، و (قليلا) نعت لمصدر محذوف، أو الظرف محذوف، أي: إيمانا قليلا، أو زمانا قليلا.

الوجه الثالث: أن تكون مصدرية، وهي وصلتها فاعل ب (قليل)، و (قليلا) حال معمول لمحذوف دل عليه المعنى؛ أي: لعنهم الله، فأخروا «قليلا إيمانهم» أجازه ابن الحاجب، ورجّح معناه على غيره. انتهى بتصرف كبير، ولم يذكر إعراب (قليلا) على الوجه الأول. وذكر الجمل الوجه الأوّل، واعتبر (قليلا) نعتا لمصدر محذوف مثل اعتباره في الوجه الثاني. وذكر أبو البقاء الثاني، وقال: التقدير: لا يؤمنون قليلا، ولا كثيرا. وجملة:(قليلا {ما يُؤْمِنُونَ}) تعليلية لا محل لها من الإعراب.

{وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)}

الشرح: {وَلَمّا جاءَهُمْ} أي: اليهود. {كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ:} هو القرآن؛ الذي أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم. {مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ:} يعني: التوراة. {وَكانُوا مِنْ قَبْلُ} مجيء الكتاب، ومن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم {يَسْتَفْتِحُونَ:} يستنصرون. {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: المشركين العرب، وهم الأوس، والخزرج. {فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا} أي: من الحقّ، وهو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن عليه {كَفَرُوا بِهِ:} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم حسدا، وبغيا، وخوفا على الرئاسة وحبّ الدنيا.

{فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ:} المراد: على اليهود، وقد أظهر في موضع الإضمار؛ لينبّه على السبب المقتضي لذلك، وهو الكفر، وأتى ب {عَلَى} تنبيها على أن اللّعنة قد استعلت عليهم، وشملتهم. وفي الآية إطلاق كلمة الكفر على المشركين العرب، وعلى اليهود.

تنبيه: كان اليهود في المدينة المنورة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبهم أمر، أو دهمهم عدو؛ يقولون: اللهم فرّج كربنا! اللهم انصرنا بالنبيّ المبعوث في آخر الزّمان، الذي نجد صفته في التوراة! فكانوا ينصرون، ويفرّج كربهم، ويزول ما بهم من الغمّ، والبؤس، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زمان نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد، وإرم.

هذا؛ والاستفتاح: الاستنصار، وفي الحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي:

يستنصر بدعائهم، وصلاتهم، ومنه قوله تعالى في الآية رقم [52] من سورة (المائدة):{فَعَسَى اللهُ}

ص: 244

{أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} . والنصر: فتح شيء مغلق. هذا؛ وروى النّسائيّ عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها؛ بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم» . وروى النسائيّ أيضا عن أبي الدّرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ابغوني الضّعيف؛ فإنكم إنّما ترزقون، وتنصرون بضعفائكم» .

هذا؛ والسبب في سكنى اليهود المدينة المنورة هو انتظارهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وظهوره، فقد قدم آباؤهم، وأجدادهم من فلسطين قبل مبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمائتين أو بثلاثمائة سنة إلى المدينة ينتظرون خروجه، وظهوره؛ لأنه منصوص عليه في التوراة: أنه يولد في مكّة، ويهاجر إلى المدينة، فلمّا ظهر؛ كفروا به بغيا، وعدوا، كما قال تعالى:{فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} فقال لهم معاذ بن جبل-رضي الله عنه: يا معشر يهود! اتّقوا الله، وأسلموا؛ فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونحن أهل شرك، وتخبروننا: أنه مبعوث، وتصفونه بصفته. فقال:

سلام بن مشكم، أخو بني النضير-لعنه الله-: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي نذكر لكم، فأنزل الله في ذلك قوله:{وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ..} . إلخ.

الإعراب: {وَلَمّا:} الواو: حرف استئناف. ({لَمّا}): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى (حين) عند ابن السّراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلّب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {جاءَهُمْ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {كِتابٌ:} فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) على اعتبارها ظرفا، وابتدائية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا. {مِنْ عِنْدِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {كِتابٌ} و {عِنْدِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {مُصَدِّقٌ:} صفة: {كِتابٌ} . {لَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب {مُصَدِّقٌ،} {مَعَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) أو بمحذوف صفتها إن كانت نكرة موصوفة، وانظر تعليق اللام في الآية رقم [41] فإنه جيد، وجواب (لمّا) محذوف دل عليه جواب الثانية، تقديره: أنكروه، أو نحو ذلك، وقيل: إنّ جوابها {كَفَرُوا بِهِ} وجواب الثانية ومدخولها جواب الأولى، وهذا ضعيف؛ لأن الفاء مع (لما) الثانية، و (لمّا) لا تجاب بالفاء، إلا أن يعتقد زيادة الفاء على ما يجيزه الأخفش. انتهى عكبري. وأقوى الأقوال الأوّل، و (لمّا) ومدخولها معطوف على جملة:({قالُوا}) في الآية السابقة، لا محل لها مثلها.

{وَكانُوا:} الواو: واو الحال، ({كانُوا}): فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل كانوا، وهذا على القول بجواز التعليق بالفعل الناقص. ويؤيّده: المعنى هنا، ومن لا يجيزه يعلقهما بالفعل بعدهما. وجملة:{يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} في محل نصب خبر (كان) وجملة: ({كانُوا}) في محل نصب حال من الضمير، وهو

ص: 245

الهاء، والرابط الواو، والضمير، والجملة على تقدير «قد» قبلها، وهذا أقوى من العطف على جواب (لمّا) المحذوف، وجملة:{فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ:} معطوفة على (لمّا) السابقة، ومدخولها. و (ما) هي الفاعل، وتحتمل الموصولة، والموصوفة، التقدير: الذي، أو شيء عرفوه، وجملة:{كَفَرُوا بِهِ:} جواب (لمّا) الأولى، أو الثانية.

{فَلَعْنَةُ:} الفاء: حرف عطف، وسبب. (لعنة): مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَى الْكافِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية معطوفة على الكلام السّابق لا محل له مثله.

{بِئْسَمَا اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)}

الشرح: {بِئْسَمَا:} بئس: فعل ناقص لإنشاء الذم، ونعم: فعل ماض لإنشاء المدح، ف «بئس» منقول من: بئس فلان، بفتح الباء، وكسر الهمزة: إذا أصاب بؤسا، ونعم منقول من:

نعم بفتح النون وكسر العين: إذا أصاب النّعمة، فنقلا إلى المدح، والذمّ، فشابها الحروف، فلم يتصرفا، وفيهما أربع لغات: نعم، وبئس بكسر، وسكون، وهي أفصحهن، ثمّ: نعم وبئس بكسر أولهما وثانيهما، غير أن الغالب في «نعم» أن يتصل بها (ما) كقوله تعالى:{فَنِعِمّا هِيَ،} {نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ} و «بئس» اتصلت بها (ما) على اللغة الفصحى، كما في هذه الآية والآية رقم [93] الآتية، وفي سورة (الأعراف) رقم [150]:{قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي} . واللغة الثالثة: نعم وبأس بفتح، وسكون، والرابعة: نعم، وبئس-بفتح، وكسر-وهي الأصل فيهما، ولا بدّ لهما من شيئين: فاعل، ومخصوص بالمدح، أو الذم، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

فعلان غير متصرّفين

نعم وبئس رافعان اسمين

مقارني ال أو مضافين لما

قارنها كنعم عقبى الكرما

ويرفعان مضمرا يفسّره

مميّز كنعم قوما معشره

والقول بفعليتهما إنّما هو قول البصريين والكسائي بدليل دخول تاء التأنيث عليهما في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من توضّأ يوم الجمعة فبها، ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» . وقال الكوفيون إلا الكسائي: هما اسمان؛ بدليل دخول حرف الجر عليهما في قول أعرابي، وقد أخبر بأنّ امرأته ولدت بنتا له، فقال: والله ما هي بنعم الولد! نصرها بكاء، وبرّها صدقة. وقول غيره:

ص: 246

نعم السّير على بئس العير. وأوله البصريون على حذف كلام مقدر، إذ التقدير: والله ما هي بولد مقول فيه: نعم الولد! ونعم السّير على عير مقول فيه: بئس العير، والمعتمد في ذلك قول البصريين.

هذا ويجب في فاعلهما أن يكون مقترنا بال، أو مضافا لمقترن به، أو ضميرا مميزا بنكرة، أو كلمة «ما»؛ فالأول كما في قوله تعالى:{نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ،} والثاني في نحو قوله تعالى: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} والثالث في مثل قوله تعالى: {بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً،} والرابع كما في الآية الكريمة التي بين أيدينا.

{اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ:} باعوا، واستبدلوا. {أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً:} انظر الإعراب يتضح لك المعنى، أما البغي؛ فهو الظلم، والاعتداء على حقّ غيرك، وعواقبه ذميمة، ومآل الباغي وخيم، وعقابه أليم؛ ولو أنّ جنوده بعدد الحصى، والرّمل، والتراب، ورحم الله من يقول-وهو الشاهد رقم [239] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [البسيط]

لا يأمن الدّهر ذو بغي ولو ملكا

جنوده ضاق عنها السّهل والجبل

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا تمكر، ولا تعن ماكرا، ولا تبغ، ولا تعن باغيا، ولا تنكث، ولا تعن ناكثا» . وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ،} وقال جلّ شأنه: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ،} وقال جلّ ذكره: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} وقال أبو بكر-رضي الله عنه: ثلاث من كنّ فيه كن عليه، وتلا الآيات الثلاث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أسرع الخير ثوابا صلة الرّحم، وأعجل الشر عقابا البغي، واليمين الفاجرة» ، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: «لو بغى جبل على جبل؛ لاندكّ الباغي» . فأخذه بعض الشعراء، فقال:[البسيط]

يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة

فاربع فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندكّ منه أعاليه وأسفله

وكان المأمون يتمثّل بهذين البيتين في أخيه الأمين حين ابتدأ بالبغي عليه، قال الشّاعر الحكيم:[مجزوء الكامل]

والبغي يصرع أهله

والظّلم مرتعه وخيم

هذا؛ والظلم أنواع كثيرة. انظر رسالة: (الحج والحجاج في هذا الزمن) بتأليفنا، تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك، وانظر الآية رقم [173]. {أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ:} من نعيم الدنيا من صحة، ومال، ومنصب، وجاه، والمراد به ما منّ الله به على الرسول صلى الله عليه وسلم من النبوة، والرّسالة، والنّصر على الأعداء، وجمع شمل العرب، وتوحيد صفوفهم وكلمتهم؛ إذ المراد بما بعد هذه الجملة بقوله تعالى:{مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ:} الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 247

{فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ} انظر الآية رقم [61]. {وَلِلْكافِرِينَ} أظهر في مكان الإضمار، فكان مقتضى القياس: ولهم، فأقام الظاهر مقام المضمر تشنيعا بكفرهم. هذا و {مُهِينٌ} أصله: مهين، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصّحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، فنقلت حركة الياء إلى الهاء قبلها، فصار:{مُهِينٌ} وقل مثله في إعلال {مُبِينٌ} .

الإعراب: {بِئْسَمَا:} (بئس) فعل ماض جامد دل على إنشاء الذمّ. (ما): نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على التمييز. {اِشْتَرَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، الّتي هي فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب صفة (ما)، وتقدير الكلام: بئس الشّيء شيئا مشترى به أنفسهم.

{أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يَكْفُرُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله. و ({أَنْ}) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل رفع خبر المبتدأ محذوف، وهو المخصوص بالذم؛ إذ التقدير: المذموم كفرهم، ويجوز في العربية اعتبار المصدر المؤوّل مبتدأ مؤخرا، وجملة:(بئس): خبرا مقدما، والجملة سواء أكانت اسمية، أم فعلية: مستأنفة لا محل لها.

هذا؛ وقد ذكر أبو البقاء في إعراب هذه الجملة وجوها: أحدها: اعتبار (ما) نكرة غير موصوفة منصوبة على التمييز، قاله الأخفش. و {اِشْتَرَوْا} على هذا صفة لمحذوف، تقديره:

شيء، أو كفر مشترى، وهذا المحذوف هو المخصوص، وفاعل (بئس) مضمر فيها، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَكْفُرُوا} في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، أي: هو أن يكفروا. وقيل:

المصدر في موضع جر بدلا من الهاء في {بِهِ،} وقيل: هو المبتدأ، و (بئس) خبر عنه، والوجه الثاني: أن تكون (ما) نكرة موصوفة، و {اِشْتَرَوْا} صفتها، و {أَنْ يَكْفُرُوا} على الوجوه المذكورة، ويزيد هنا أن يكون هو المخصوص بالذم. والوجه الثالث: أن تكون (ما) بمنزلة «الذي» وهو اسم (بئس)، و {أَنْ يَكْفُرُوا} المخصوص بالذّم.

وقيل: اسم (بئس) مضمر فيها، و «الذي» وصلته المخصوص بالذّم. والوجه الرابع: أن تكون (ما) مصدرية، التقدير: بئس شراؤهم، وفاعل (بئس) على هذا مضمر؛ لأن المصدر هنا مخصّص، ليس بجنس. وهذه الأوجه التي ذكرها ظاهر فيها التعسّف، والتكلّف، والمقبول المرضي هو ما ذكرته سابقا. وقد ذكرت هذه الأوجه للبيان، ودفع الاعتراض عليّ بشيء منها.

{بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

ص: 248

بالذي، أو بشيء أنزله الله، وعلى اعتبار (ما) مصدرية، تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بإنزال الله كتابا، أو نحو ذلك. {بَغْياً:} مفعول لأجله، عامله الفعل:

{يَكْفُرُوا،} والمصدر المؤول من: {أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ} في محل جر محذوف، التقدير: على إنزال، أو لتنزيل، والجار والمجرور متعلقان ب {بَغْياً} لأنه مصدر، وذكرت لك: أنّ المفعول محذوف. {مِنْ فَضْلِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة هذا المحذوف. {عَلى مَنْ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل {يُنَزِّلَ} . {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} ومفعوله محذوف، وهو العائد. {مِنْ عِبادِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، وجملة:{يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.

{فَباؤُ:} الفاء: حرف عطف، وسبب. (باءوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق.

{بِغَضَبٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أي:

متلبسين بغضب. {عَلى غَضَبٍ:} متعلقان بمحذوف صفة ({غَضَبٍ})، وجملة:(به او): معطوفة على جملة: (بئس) لا محلّ لها مثلها. ({لِلْكافِرِينَ}): متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {عَذابٌ:}

مبتدأ مؤخر. {مُهِينٌ:} صفة {عَذابٌ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو فقط، وهو أولى من العطف.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ} أي: آمنوا بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وصدّقوا به، واتبعوه. والكلام عن اليهود، وأمثالهم من أهل الكتاب.

{قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا} أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التّوراة، والإنجيل، ولا نقرّ إلا بذلك. {وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ} أي: بما سواه، وبما بعده من الكتب، ويريدون عدم الاعتراف بالقرآن الّذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ:} وهم يعلمون: أنّ القرآن نزل مصدقا لما معهم من التوراة، والإنجيل، فالحجّة قائمة بذلك، كما قال تعالى في الآية رقم [146]:{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} .

{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل عليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة الّتي بأيديكم، والحكم بها، وعدم نسخها؛ وأنتم تعلمون صدقهم؟! وقتلتموهم بغيا، وعنادا، واستكبارا على الله،

ص: 249

ورسله، فلستم تتّبعون إلا مجرد الأهواء، والآراء، والتشهّي، كما قال تعالى في الآية رقم [87]:{أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} . وهذا من مخاطبة الأبناء بما فعل الآباء، ففيه زيادة توبيخ، وتقريع، وتأنيب.

(لم): كلمة مؤلفة من حرف، واسم، فالحرف اللام الجارة، والاسم (ما) الاستفهامية، وقد حذفت ألفها، كما تحذف مع كلّ جار، نحو قوله تعالى:{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ،} {عَمَّ يَتَساءَلُونَ،} {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ} وذلك للفرق بين الموصولة والاستفهامية، ويقال: للفرق بين الخبر والاستخبار، ومن شواهدها الشعريّة قول الكميت، وهو الشاهد رقم [554] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم

فحتّام حتّام العناء المطوّل؟

وأيضا قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي-رضي الله عنه، وهو الشّاهد رقم [250] من الكتاب المذكور:[الطويل]

علام تقول الرّمح يثقل عاتقي

إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرّت

هذا؛ وقد ثبت ألفها مع دخول الجار عليها في ضرورة الشّعر، ومنه قول حسّان بن ثابت رضي الله عنه-يهجو رجلا من بني مخزوم، وهو الشاهد رقم [556] من الكتاب المذكور:[الوافر]

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في دمان

هذا؛ و (وراء) جاء هنا بمعنى: ما بعده، وبما سواه، ويأتي بمعنى: أمام، وقدّام، وخلف، ومن الأول قوله تعالى في سورة الكهف رقم [79]:{وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وأيضا قوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [100]: {وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} كما يأتي بمعنى: بعد، خذ قوله في سورة (هود) رقم [71]:{فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} أي:

من بعد إسحاق يعقوب، وقال النابغة الذبياني:[الطويل]

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للعبد مطلب

أي: وليس بعد الله جل جلاله، وكذلك قوله تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ} أي: من بعده، ومن مجيئه بمعنى: أمام، وقدّام قول لبيد-رضي الله عنه:[الطويل]

أليس ورائي إن تراخت منيّتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

وأيضا قول سوار بن المضرب السّعدي-وكان قد هرب من الحجّاج حين فرض البعث مع المهلب بن أبي صفرة لقتال الخوارج-: [الطويل]

ص: 250

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

ثبت بما تقدّم: أنه من الأضداد، وهو منصوب على الظّرفية المكانية، قال الأخفش، يقال:

لقيته من وراء. فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف، تجعله اسما، وهو غير متمكّن، كقوله تعالى:{لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ،} وأنشد قول الشاعر: [الطويل]

إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن

لقاؤك إلا من وراء وراء

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. ({إِذا}): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {آمِنُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والألف للتفريق، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع نائب فاعل:

({قِيلَ})، وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:(يحذف الفاعل ويقام المفعول به مقامه) وهذا لا غبار عليه، وقال ابن هشام في مغني اللبيب: فليس هذا من باب الإسناد إلى الجملة؛ لما بيّنا؛ أي: من أنّ الجملة إذا قصد لفظها يحكم لها بحكم المفرد، فيجوز حينئذ وقوعها مبتدأ، أو فاعلا، أو نائب فاعل، ومثّل لذلك في شذور الذهب بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله» . هذا؛ وقيل:

نائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: «هو» يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام، التقدير: وإذا قيل قول، وقيل: الجار والمجرور. {لَهُمْ} في محل رفع نائب فاعل، والجملة:({قِيلَ}) في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية ضعيفة. {أَنْزَلَ اللهُ} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: بالّذي، أو بشيء أنزله.

{قالُوا:} ماض وفاعله. {نُؤْمِنُ:} فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره: «نحن» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا:} جواب ({إِذا}) لا محل لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{أَنْزَلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها. {عَلَيْنا:} متعلقان بما قبلهما. {وَيَكْفُرُونَ:} الواو:

حرف عطف. ({يَكْفُرُونَ}): فعل مضارع، والواو فاعله. {بِما:} متعلقان بما قبلهما. {وَراءَهُ:}

ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) أو صفتها، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وهو ضعيف، والأولى اعتبارها في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، ويجب تقدير ضمير قبلها؛ لأن الجملة المضارعة الواقعة حالا لا تقترن بالواو، وإن اقترنت بالواو؛ فيجب تقدير الضمير، قال ابن مالك في ألفيته:[الرجز]

ص: 251

وذات بدء بمضارع ثبت

حوت ضميرا ومن الواو خلت

وذات واو بعدها انو مبتدا

له المضارع اجعلنّ مسندا

{وَهُوَ الْحَقُّ:} الواو: واو الحال. ({هُوَ الْحَقُّ}): مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (ما) والعامل الفعل:({يَكْفُرُونَ})، والرابط الواو، والضمير. {مُصَدِّقاً:} حال مؤكدة لمضمون الجملة الاسمية قبلها، ومثلها قول سالم بن دارة اليربوعي، وهو الشاهد رقم [385] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [البسيط]

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للنّاس من عار؟

{لِما:} جار ومجرور متعلقان ب {مُصَدِّقاً،} وانظر الآية رقم [41]{مَعَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) والهاء في محل جر بالإضافة. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، {فَلِمَ:} الفاء: صلة، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير:

قل: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم؛ فلم

(لم): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، وعلامة الجر الألف المحذوفة للفرق بين الخبر والاستخبار. {تَقْتُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {أَنْبِياءَ:} مفعول به وهو مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل {تَقْتُلُونَ،} أو بمحذوف حال من: {أَنْبِياءَ اللهِ} وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، والجملة الفعلية:(لم {تَقْتُلُونَ}) في محل جزم جواب للشرط المقدر ب «إن» والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {مُؤْمِنِينَ:} خبر (كان) منصوب، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله؛ إذ التقدير: إن كنتم مؤمنين؛ فلم تقتلون، ويكون الشرط وجوابه قد ذكر مرّتين، فحذف الشرط من الجملة الأولى، وبقي جوابه:{فَلِمَ تَقْتُلُونَ:} وحذف الجواب من الثاني، وبقي شرطه، فقد حذف من كلّ واحدة ما أثبت في الأخرى. انتهى. جمل. ثم قال: والوجه الثاني أنّ (إن) نافية بمعنى «ما» أي: ما كنتم مؤمنين، لمنافاة ما صدر منكم للإيمان. انتهى. نقلا عن السمين. وهذا غير مسلم، والمعنى لا يؤيده.

{وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)}

الشرح: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ:} الخطاب لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد آباؤهم. و (البينات) هي قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [101]:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ}

ص: 252

(بينات:) وهي: العصا، واليد، والسنون، والدم، والطّوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر. وقيل: البينات: التوراة لما فيها من الدّلالات. {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي: عبدتموه إلها، انظر الآية رقم [51]. {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} أي: لأنفسكم بهذا الاتخاذ، ولم تضروا أحدا من الناس؛ لأنه شرك وكفر.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلّقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، واللام: واقعة في جواب القسم. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ:} فعل ماض، والكاف مفعوله. {مُوسى} فاعل مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذّر. {بِالْبَيِّناتِ} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من موسى، التقدير: ملتبسا بالبينات، والجملة الفعلية:

({لَقَدْ..}.) جواب القسم لا محل لها، انظر ما ذكرته في الآية رقم [65]. {ثُمَّ:} حرف عطف.

{اِتَّخَذْتُمُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها. {الْعِجْلَ:}

مفعول به أول. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْعِجْلَ} أي: اتخذتم العجل إلها من بعده، وإن اعتبرته مفعولا ثانيا، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {ظالِمُونَ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير. هذا؛ والكلام:{وَلَقَدْ..} . إلخ مستأنف لا محلّ له.

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاِسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}

الشرح: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ:} انظر الآية رقم [63] ففيها الكفاية.

{خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ:} انظر الآية نفسها. {وَاسْمَعُوا} أي: اسمعوا سماع قبول، وطاعة، والتزام، وليس المراد سماع اللّفظ مجردا عمّا ذكر، ومنه قولهم في الصّلاة:«سمع الله لمن حمده» أي: قبل، وأجاب، قال الشاعر:[الوافر]

دعوت الله حتّى خفت ألاّ

يكون الله يسمع ما أقول

أي: يقبل، وقال الراجز:[الرجز]

والسّمع والطّاعة والتّسليم

خير وأعفى لبني تميم

ص: 253

{قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا:} اختلف: هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللّسان نطقا، أو يكونوا فعلوا فعلا قام مقام القول، فيكون مجازا، كما قال الآخر:[الرجز]

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

وهذا احتجاج عليهم في قولهم في الآية رقم [91]: {قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا} . {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي: حب العجل، والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه، ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأيّ قلب أشربها؛ نكت فيه نكتة سوداء» . أخرجه مسلم، يقال:

أشرب قلبه حبّ كذا، قال زهير بن أبي سلمى:[الكامل]

فصحوت عنها بعد حبّ داخل

والحبّ تشربه فؤادك داء

وإنما عبّر عن حبّ العجل بالشّرب دون الأكل؛ لأنّ شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتّى يصل إلى باطنها، والطّعام مجاور غير متغلغل فيها، وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين، فقال في زوجته عثمة، وكان قد عتب عليها في بعض الأمر، فطلّقها، وكان محبّا لها:[الوافر]

تغلغل حبّ عثمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب

ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرت العهد منها

أطير لو أنّ إنسانا يطير

هذا ولا تنس ندامة الفرزدق حين طلق النّوار، فقال:[الوافر]

ندمت ندامة الكسعيّ لمّا

غدت منّي مطلقة نوار

وكانت جنّتي فخرجت منها

وأصبح لا يضيء لي النّهار

وقال السّديّ، وابن جريج-رحمهما الله تعالى-: إنّ موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-برد العجل، وذرّاه في الماء، وقال لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء، فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذّهب على شفتيه. أما تذريته في البحر فقد دلّ عليه قوله تعالى في سورة (طه) رقم [97]:{ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} وأما شرب الماء، وظهور البرادة على الشفاه، فيردّه قوله تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ:} بسبب كفرهم، وخروجهم عن طاعة ربهم. هذا؛ وفيه استعارة مكنية، فقد شبه حبّ العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وطوى ذكر المشبه به، ورمز إليه من لوازمه، وهو الإشراب على طريق الاستعارة المكنية.

ص: 254

{قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ} الذي زعمتم في قولكم: {نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا} فكيف تدعون الإيمان لأنفسكم، وقد فعلتم الأفاعيل، من كفركم بآيات الله، ومخالفتكم الأنبياء، بل وقتلكم إيّاهم، ثم كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرّسل، وسيد الأنبياء المبعوث إلى النّاس أجمعين؟!

الإعراب: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [63] القريبة منك. {قالُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {سَمِعْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والتي بعدها معطوفة عليها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا، ومفعول الفعلين محذوف لعلمه من المقام، وجملة:{قالُوا:}

مستأنفة لا محلّ لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدّر نشأ من الكلام السابق. {وَأُشْرِبُوا:}

الواو: واو الحال. ({أُشْرِبُوا}): فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأوّل. {فِي قُلُوبِهِمُ:} متعلقان بمحذوف حال من: حبّ العجل المذكور بعدهما، وهو أولى من تعليقهما بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْعِجْلَ:}

مفعول به ثان، وهو في الأصل مضاف إليه انظر الشرح. {بِكُفْرِهِمْ:} متعلقان بالفعل ({أُشْرِبُوا}) والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. وجملة: ({أُشْرِبُوا}): في محل نصب حال من واو الجماعة في: {قالُوا} والرابط الواو، وهي على تقدير «قد» قبلها، والحالية أقوى من العطف على جملة:{قالُوا} . وقيل: مستأنفة لا محل لها، وهو ضعيف.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [90] والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: المذموم عبادة العجل، وهذا المخصوص يجوز فيه ما ذكرته في الآية المذكورة من التقديم والتأخير، والجملة {بِئْسَما} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ بِئْسَما:} مستأنفة لا محل لها. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [91] وما قيل فيها، والجواب محذوف تقديره:

فلم قتلتم أنبياء الله؟ أو فلم كذّبتم الرسل، وكتمتم الحق

؟

{قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94)}

الشرح: {إِنْ كانَتْ لَكُمُ..} . قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: لمّا ادعت اليهود دعاوى باطلة، حكاها الله-عز وجل-عنهم في كتابه، كقوله تعالى:{وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً} وقوله: {وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى،} وقالوا: {نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} كذّبهم الله؛ عز وجل، وألزمهم الحجّة، فقال: قل يا محمد: {قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ} يعني: الجنّة؛ {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}

ص: 255

في أقوالكم؛ لأنّ من اعتقد أنّه من أهل الجنة، كان الموت أحبّ إليه، من الحياة الدنيا؛ لما يصير إليه من نعيم الجنة، ويزول عنه من أذى الدّنيا، كما قال الإمام عليّ-كرم الله وجهه-: لا أبالي أسقطت على الموت، أم سقط الموت عليّ؟ وقال عمار بن ياسر-رضي الله عنه-بصفين:

الآن ألقى الأحبة: محمدا، وحزبه. وقال ذلك بلال-رضي الله عنه-عند احتضاره، وقال حذيفة-رضي الله عنه-حين احتضر:[المتقارب]

وجاء حبيب على فاقة

فلا أفلح اليوم من قد ندم

{خالِصَةً:} مصدر، كالعافية، والعاقبة؛ بمعنى: الخلوص؛ أي: خاصّة بكم، لا يشارككم فيها أحد. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} فسلوا الله الموت، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو تمنّى اليهود الموت؛ لماتوا، ولو تمنّوا الموت؛ لشرق أحدهم بريقه. وقال ابن جرير: وبلغنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أن اليهود تمنوا الموت؛ لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النّار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون أهلا، ولا مالا. ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة (الجمعة) رقم [6]:{قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلّهِ..} . إلخ، {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي:

في دعواكم: أنّ الجنة لكم دون غيركم، وانظر التمنّي في الآية رقم [78].

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{كانَتْ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والتاء تاء التأنيث.

{لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان) تقدم على اسمها. {الدّارُ:} اسم (كان) المؤخر، وهو على حذف مضاف؛ إذ التقدير: نعيم الدار، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. {الْآخِرَةُ:} صفة {الدّارُ} . {عِنْدَ} ظرف مكان متعلق ب {خالِصَةً} و {دُونِ} مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه. {خالِصَةً:} حال من: {الدّارُ الْآخِرَةُ،} {مِنْ دُونِ:} متعلقان ب {خالِصَةً} . هذا وجه لإعراب هذه الجملة، وهناك وجه ثان، وهو: أن {خالِصَةً:} خبر: (كان)، و {لَكُمُ} متعلقان ب {خالِصَةً} أو ب (كان) عند من يجيز التعليق بها، و {عِنْدَ} متعلق ب {خالِصَةً} . ووجه ثالث، وهو أنّ الخبر متعلق بالظرف:{عِنْدَ،} و {خالِصَةً} حال من الدار، والعامل فيها إمّا {عِنْدَ} أو ما يتعلق به، أو (كان) أو {لَكُمُ} على اعتبارهما متعلقين ب (كان).

{فَتَمَنَّوُا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (تمنوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتّفريق. {الْمَوْتَ:} مفعول به، والجملة:(تمنوا {الْمَوْتَ}) في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لا تحل محلّ المفرد، وجملة:({كانَتْ}) لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، والشرط، ومدخوله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وقيل: كرر

ص: 256

الأمر تأكيدا لما في الجملة السّابقة، والغرض من ذلك إظهار كذب اليهود في فنّ آخر من أباطيلهم، وافتراءاتهم. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} انظر الآية رقم [91] فالإعراب لا يتغيّر، والتقدير هنا: إن كنتم مؤمنين؛ فتمنوا الموت.

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (95)}

الشرح: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} أي: الموت؛ لما يعلمون من مآلهم السّيئ، وعاقبتهم عند الله الخاسرة. {أَبَداً:} الأبد: هو الزمان الطويل، الذي ليس له حدّ، فإذا قلت: لا أكلمك أبدا، فالأبد من وقت التكلم إلى آخر العمر. {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: بما فعلوا من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتحريف التوراة، ونسب إلى الأيدي جميع ما اقترفوه؛ لأن أكثر الأعمال تزاول باليد، {عَلِيمٌ:} صيغة مبالغة. (الظالمين): الكافرين حيث ظلموا أنفسهم بالكفر، وقال:{بِالظّالِمِينَ} ولم يقل: بهم؛ إقامة للظاهر مقام المضمر، إشارة إلى أنهم غارقون بالظلم، والفساد، والطغيان، وفيه وعيد، وتهديد لا يخفيان. هذا؛ والحكمة في الإتيان ب ({لَنْ}) بقوله:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} أبدا هنا وفي سورة الجمعة ب (لا) بقوله: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً:} أنّ ادّعاءهم هنا أعظم من ادّعائهم هناك، فإنّهم ادعوا هنا اختصاصهم بالجنّة، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس، فناسب هنا التوكيد ب ({لَنْ}) المفيدة للنفي في الحاضر، والمستقبل، وأما هناك فاكتفى بالنفي.

وقال الزمخشري: لا فارق بين (لا) و (لن) في أنّ كل واحدة منهما نفي للمستقبل إلا أن في (لن) تأكيدا وتشديدا ليس في (لا) فأتى بلفظ التأكيد في {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} أي في هذه الآية، ومرّة بغير لفظه في سورة الجمعة في:{وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} . قال الشيخ: هذا رجوع عن مذهبه-وهو أن «لن» تقتضي النفي على التأبيد-إلى مذهب الجماعة، وهو أنّها لا تقتضيه. قلت: ليس فيه رجوع، غاية ما فيه: أنه سكت عنه، وتشريكه بين (لا) و (لن) في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص (لن) بمعنى آخر. جمل. نقلا عن السّمين.

الإعراب: {وَلَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({لَنْ}): حرف نفي، ونصب، واستقبال، {يَتَمَنَّوْهُ:} فعل مضارع منصوب ب ({لَنْ}) وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، والأول أقوى. {قَدَّمَتْ:} فعل ماض، والتاء تاء للتأنيث. {أَيْدِيهِمْ:}

فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو بشيء قدمته أيديهم، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، أي: بتقديم

ص: 257

أيديهم، وهو ضعيف كما ترى. والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ:} في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرابط: الواو فقط.

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)}

الشرح: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ:} الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولكلّ عاقل، والضمير المنصوب عائد على اليهود. {أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ} أي: فاليهود شديد والحرص على الحياة، ولا يتمنون الموت؛ لمعرفتهم بذنوبهم، وأنّه لا خير لهم عند الله. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي: وأحرص من الذين أشركوا، ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة، ولا علم لهم عن الآخرة، وكذلك المجوس، والهندوس الذين يقولون بتناسخ الأرواح، ولا حساب، ولا جزاء. والغرض من ذلك توبيخ اليهود، وتقريعهم؛ لأنّهم يعلمون: أن الحريص الشّحيح لا يدخل الجنّة، والمشركون لا يعلمون ذلك، بل ولا يعتقدون بجنّة، ولا بنار. هذا؛ والفعل:«حرص» على الشيء، يحرص، إذا رغب فيه رغبة شديدة والحرص: الجشع، والطمع. ورجل حريص: شديد البخل، وشديد المحافظة على المال. وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعة من الشّقاء:

جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدّنيا». وخذ قول الشّاعر:[الوافر]

وذي حرص تراه يلمّ وفرا

لوارثه ويدفع عن حماه

ككلب الصّيد يركض وهو طاو

فريسته ليأكلها سواه

وقال آخر: [الكامل]

اسعد بمالك في الحياة فإنّما

يبقى خلافك مصلح أو مفسد

فإذا جمعت لمفسد لم يغنه

وأخو الصّلاح قليله يتزيّد

وقال آخر: [البسيط]

يفنى الحريص بجمع المال مدّته

وللحوادث والورّاث ما يدع

كدودة القزّ ما تبنيه يهدمها

وغيرها بالّذي تبنيه ينتفع

{يَوَدُّ:} يحب، ويتمنى. وأصله: يودد، والماضي: ودّ، والودّ: الحب، وهو بتثليث الواو، والودود: الكثير الحب. {أَحَدُهُمْ:} (أحد) أصله: وحد؛ لأنه من الوحدة، فأبدلت الواو همزة، وهذا قليل في المفتوحة، وإنّما يحسن في المضمومة، والمكسورة: مثل قولهم: في وجوه: أجوه، وفي وسادة: إسادة، وهو مرادف للواحد في موضعين: أحدهما: وصف الباري

ص: 258

جلّ في علاه. فيقال: هو الواحد وهو الأحد، والثاني: أسماء العدد: فيقال: أحد وعشرون، وواحد عشرون، وفي غير هذين الموضعين يفرق بينهما في الاستعمال، فلا يستعمل أحد إلا في النفي، وهو كثير في الكلام، أو في الإثبات مضافا كما في هذه الآية، بخلاف الواحد، وقولهم: ما في الدار أحد، هو اسم لمن يعقل، ويستوي فيه الواحد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، قال تعالى:{يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ} الآية رقم [32] من سورة (الأحزاب)، وقال جلّ ذكره:{فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} الآية رقم [47] من سورة (الحاقة)، وإن أردت الزيادة فانظر الآية رقم [26] من سورة (الجن) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{يُعَمَّرُ:} يعيش. {أَلْفَ سَنَةٍ:} كناية عن كثرة العدد، فليس المراد خصوص هذا العدد، وأصل {سَنَةٍ:} سنو، وتصغيرها سنيّة، وسنيهة، وجمعها: سنون بضم السين وكسرها، ويجمع على سنوات، وسنهات، السنة اثنا عشر شهرا، كما يطلق اسم الحول، والعام على هذه الأشهر.

{بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ:} بمبعده، وفعله يكون لازما، ومتعديا، قال الشاعر في اللاّزم:[الطويل]

خليليّ ما بال الدّجى يتزحزح

وما بال ضوء الصّبح لا يتوضّح

وقال ذو الرّمّة في المتعدّي: [البسيط]

يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا

وغافر الذّنب زحزحني عن النّار

وروى النّسائيّ عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: «من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النّار سبعين خريفا» . هذا؛ واختلف في إرجاع الضمير على وجوه: أحدها: أنه عائد على (أحد) والثاني: أنه ضمير «التعمير» وقد دلّ عليه: {لَوْ يُعَمَّرُ} . وقال الفارسي موافقا الكوفيين في قولهم: إنه ضمير الشأن: والبصريّون يأبون تفسيره بالمفرد، بل لا بدّ من جملة مصرّح بجزءيها، سالمة من حرف جرّ.

{وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ} أي: بما يعمل هؤلاء الذين {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} .

هذا؛ وقال العلماء: وصف الله-عز وجل-نفسه بأنه {بَصِيرٌ} على معنى: عالم بخفيات الأمور، والبصير في كلام العرب: العالم بالشّيء، الخبير به.

الإعراب: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف تقديره: والله. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم، واللام واقعة في جواب القسم. (تجدنهم):

فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» والهاء مفعول به أوّل. {أَحْرَصَ:} مفعول به ثان، و ({أَحْرَصَ}) مضاف، والناس مضاف إليه. {عَلى حَياةٍ:} متعلقان ب {أَحْرَصَ} .

هذا؛ ويجوز في اللغة: «أحرصي الناس» على حدّ: {أَكابِرَ مُجْرِمِيها} في سورة (الأنعام) رقم [123] وانظر حاشية الجمل، وجملة ({لَتَجِدَنَّهُمْ}) جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه

ص: 259

كلام مستأنف. {وَمِنَ الَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف دلّ عليه ما قبله؛ إذ التقدير: وأحرص من الذين. وذكر أبو البقاء وجها آخر، وهو أنّه على الاستئناف، وفحواه: أنّ الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والمبتدأ المؤخر محذوف، التقدير: ومن الذين أشركوا قوم يودّ أحدهم، وهو وجه ضعيف. {أَشْرَكُوا:} فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ:} مضارع، وفاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وجوز أن تكون حالا من الهاء في:

({لَتَجِدَنَّهُمْ}) وقيل: مفسّرة للحرص، وهذا على تعليق الجار والمجرور ب {أَحْرَصَ} محذوفا، وأما على تعليقهما بمحذوف خبر مقدم؛ فالجملة في محل رفع صفة «قوم» المحذوف، والمعتبر مبتدأ مؤخرا. {لَوْ:} حرف مصدري. {يُعَمَّرُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{أَحَدُهُمْ} . {أَلْفَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {أَلْفَ} مضاف، و {سَنَةٍ} مضاف إليه، و {لَوْ} والفعل {يُعَمَّرُ} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به.

{وَما:} الواو: واو الحال، أو الاستئناف. ({ما}): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» .

{هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {بِمُزَحْزِحِهِ:} الباء: حرف جر صلة. (مزحزحه): خبر منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) مهملة فالضمير يكون مبتدأ، والباء زائدة في خبره، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر الميمي لمفعوله. {أَنْ يُعَمَّرَ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ،} ونائب الفاعل يعود إلى {أَحَدُهُمْ} أيضا، والمصدر المؤوّل من الفعل، وناصبه في محل رفع فاعل:(مزحزحه)، وهذا على اعتبار الضمير عائدا على {أَحَدُهُمْ} وأما على اعتباره ضمير «التّعمير» فالمصدر المؤول بدل منه؛ بدل ظاهر من مضمر، والجملة الاسمية:({ما هُوَ}) في محل نصب حال من {أَحَدُهُمْ} على الوجه الأول في الضمير، ومستأنفة لا محل لها على الوجه الثاني في الضمير، وهو أقوى من الحال.

{وَاللهُ بَصِيرٌ:} مبتدأ وخبر. {بِما} متعلقان ب {بَصِيرٌ؛} لأنه صيغة مبالغة، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء.

{يَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء يعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جرّ بالباء، التقدير: بعملهم، والجملة الاسمية:(الله بصير) في محل نصب حال من الضمير المنصوب في ({لَتَجِدَنَّهُمْ}) أو هي مستأنفة، وهو أولى.

ص: 260

{قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}

الشرح: {قُلْ:} فيه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكلّ أحد. {مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ:} في (جبريل) عشر لغات. {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ:} الضمير في (إنّه) يحتمل معنيين: الأول: فإنّ الله نزل جبريل على قلبك. والثاني: فإن جبريل ينزل بالقرآن على قلبك. وخصّ القلب بالذّكر؛ لأنه موضع العقل، والعلم، وتلقّي المعارف. ودلّت الآية على شرف جبريل عليه السلام، وذمّ معاديه. {بِإِذْنِ اللهِ:} بإرادته، وعلمه. {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب السابقة: التوراة، والإنجيل، والضّمير يعود إلى القرآن، ولم يتقدّم له ذكر لعلمه من المقام. {وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} خص المؤمنين؛ لأنّهم هم المنتفعون بالقرآن، بخلاف غيرهم من المنافقين، والفاسقين، والفاجرين.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سبب نزول الآية: أنّ عبد الله بن صوريا-حبر من أحبار اليهود-قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أيّ ملك يأتيك من السّماء؟ قال: «جبريل» . قال: ذاك عدوّنا، ولو كان ميكائيل؛ لآمنا بك، واتّبعناك، إنّ جبريل ينزل بالعذاب، والشّدّة، والخسف، وإنّه عادانا مرارا، وأشدّ ذلك علينا: أن الله أنزل على نبيّنا: أنّ بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له: بختنصر، فلمّا كان زمنه؛ بعثنا إليه من يقتله، فلقيه ببابل غلاما مسكينا، فأخذه ليقتله، فدفع عنه جبريل، وقال: إن كان الله أمر بهلاككم، فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هو؛ فعلى أيّ حقّ تقتله؟! فلمّا كبر ذلك الغلام، وقوي؛ غزانا، وخرّب بيت المقدس، فلهذا نتخذه عدوّا.

فأنزل الله هذه الآية. انتهى. خازن.

وقيل: إنّ عمر-رضي الله عنه-كان له أرض بأعلى المدينة، وكان ممرّه إليها على مدارس اليهود، فكان يجلس إليهم، ويسمع كلامهم، فقالوا له يوما: من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة؟ قال: جبريل، قالوا: ذاك عدوّنا، يطلع محمدا على سرّنا، وهو صاحب كلّ عذاب، وخسف، وشدّة، وإنّ ميكائيل يجيء بالخصب، والسلامة. فقال لهم: تعرفون جبريل، وتنكرون محمدا صلى الله عليه وسلم، قالوا: نعم، فقال: أخبروني عن منزلة جبريل، وميكائيل من الله تعالى؟ قالوا:

جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وميكائيل عدوّ لجبريل، فقال عمر-رضي الله عنه:

أشهد أنّ من كان عدوّا لأحد كان عدوّا للآخر، ومن كان عدوّا لهما كان عدوّا لله، ثم رجع عمر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوحي، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه هذه الآيات: وقال: لقد وافقك ربّك يا عمر! فقال-رضي الله عنه: والله لقد رأيتني بعد ذلك في ديني أصلب من الحجر. خازن. بتصرف كبير.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم

ص: 261

فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مَنْ} . {عَدُوًّا:} خبر {كانَ} .

{لِجِبْرِيلَ:} متعلقان ب {عَدُوًّا} أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجرّ الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. وقيل: للتركيب المزجي، ولا وجه له؛ لأنّ الجزء الأول منه لم يبن على الفتح كما هو شرط التركيب المزجي، وجواب الشرط محذوف، التقدير:

فليمت غيظا، ونحوه، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [81] {فَإِنَّهُ:} الفاء: حرف تفريع عمّا قبلها. (إنّه): حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها. {نَزَّلَهُ:} فعل ماض والفاعل مستتر تقديره: «هو» ، يعود إلى {اللهِ} أو إلى (جبريل) والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية مفرعة عمّا قبلها، وهي والجملة الاسمية:{مَنْ كانَ..} . كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة {قُلْ

:}

مستأنفة لا محل لها. {عَلى قَلْبِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {بِإِذْنِ اللهِ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل (نزل) المستتر؛ أي: نزله ملتبسا، أو مقرونا بإذن، و (إذن) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {مُصَدِّقاً:} حال من الضمير المنصوب. ({لِما}): متعلقان ب {مُصَدِّقاً} وانظر الآية رقم [41]{بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، التقدير: للذي نزل بين، و {بَيْنَ} مضاف. و {يَدَيْهِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأن لفظه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة.

{وَهُدىً:} معطوف على مصدقا منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {وَبُشْرى:} معطوف على ما قبله منصوب أيضا، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {لِلْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بالمصدرين على التنازع، أو بمحذوف صفة لهما.

{مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)}

الشرح: {مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ:} جاء ذكر هذين الملكين بعد ذكر الملائكة، فهو من باب ذكر الخاصّ بعد العام للتشريف، والتعظيم، والتنويه بشأنهما، ورفعة قدرهما. {فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ} فيه إيقاع الظاهر موقع الضمير؛ حيث لم يقل: فإنه عدو لهم؛ لتقرير ما تقدم من المعنى، وإعلام الكافرين بأن من عادى وليّا لله؛ فقد عادى الله، ومن عادى الله؛ فإنّ الله عدوّ له، ومن كان الله عدوّه؛ فقد خسر الدنيا والآخرة. ولا تنس مراعاة لفظ ({مَنْ}) بإرجاع اسم {كانَ} إليها، ومراعاة معناها بقوله:{لِلْكافِرِينَ} .

ص: 262

هذا؛ و ({جِبْرِيلَ}) و ({مِيكالَ}): ملكان كريمان، بل هما ملكان من الرؤساء العشرة الذين يجب على كلّ مسلم ومسلمة أن يعرف أسماءهم، وهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ومنكر، ونكير، ورقيب، وعتيد، ورضوان، ومالك، ولكلّ واحد منهم عمل موكول إليه، وتحت يده وأمره جنود من الملائكة يقومون بتنفيذ ذلك.

و ({جِبْرِيلَ}) أعجمي، فلذلك لا يتصرف، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في الأسماء الأعجمية، فجاءت فيه بثلاث عشرة لغة، أشهرها، وأفصحها: جبريل، وهي لغة أهل الحجاز، قال حسّان بن ثابت-رضي الله عنه:[الوافر]

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس به خفاء

والثانية: جبريل بفتح الجيم، الثالثة: جبرئيل، كما قرأ أهل الكوفة، وأنشدوا:[الطويل]

شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة

مدى الدّهر إلا جبرئيل أمامها

الرابعة: جبرألّ، الخامسة: جبرائيل. السادسة: جبرائل. السابعة: جبرائيل. الثامنة:

جبرال، والتاسعة، والعاشرة: جبرين بكسر الجيم وفتحها، الحادية عشرة: جبرائين، الثانية عشرة: جبرأل، والثالثة عشرة: جبريل بصيغة المصغر، وقد قرئ باللغات الأربع الأولى، قال النّحاس: ويجمع جبريل على التّكسير: جباريل.

ميكال: اسم أعجمي، والكلام فيه كالكلام في جبريل، وفيه سبع لغات: ميكال بوزن مفعال، وهي لغة أهل الحجاز فيه، قال كعب بن مالك-رضي الله عنه:[البسيط]

ويوم بدر لقيناكم لنا مدد

فيه مع النّصر ميكال وجبريل

وقال آخر: [الكامل]

عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد

وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا

الثانية: ميكائل، الثالثة: ميكائيل، الرابعة: ميكئيل، الخامسة: ميكئل، السادسة: ميكاييل، السّابعة: ميكاءل، وقرئ بالستة ما عدا السّابعة. وحكى الماوردي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن جبر بمعنى عبد، وميكا بمعنى عبيد، و «إيل» اسم من أسماء الله أي: بالعبرانية، فيكون معنى جبرئيل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله، قال: ولا نعلم لابن عباس مخالفا في ذلك. وانظر ما ذكرته في إسرافيل في الآية رقم [40]. وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: وزاد بعض المفسرين: وإسرافيل معناه: عبد الرحمن.

الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى {مَنْ} .

ص: 263

{عَدُوًّا} خبر {كانَ} . {لِلّهِ:} متعلقان ب {عَدُوًّا} أو بمحذوف صفة له. {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ:}

معطوفان على لفظ الجلالة، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ:} معطوفان أيضا، وعلامة الجر فيهما الفتحة نيابة عن الكسرة لمنعهما من الصّرف، للعلمية، والعجمية.

{فَإِنَّ:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها.

{عَدُوٌّ:} خبرها. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان ب {عَدُوٌّ} أو بمحذوف صفة له، وقيل: جواب الشرط محذوف، كالآية السابقة، كما رأيت تقديره، والجملة الاسمية معطوفة على ذلك المحذوف، وخبر المبتدأ الذي هو مختلف فيه، كما رأيت فيما تقدم. هذا؛ واعتبار ({مَنْ}) موصولة في هذه الآية، وسابقتها رقم [81] ضعيف والجملة الاسمية:{مَنْ كانَ..} . إلخ فهي بمنزلة التوكيد للآية السابقة.

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)}

الشرح: المعنى أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات، دالاّت على نبوّتك. وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمّنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم، وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم، وأواخرهم، وما بدّلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلع الله في كتابه الذي أنزله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه، ولم يدعهم إلى تبديلها، وإنكارها إلا الحسد، والبغي. والآية الكريمة نزلت ردا على ابن صوريا، وغيره من أحبار اليهود الذين قالوا: ما أنزل في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم من شيء.

{وَما يَكْفُرُ بِها:} بالآيات الموجودة في القرآن الكريم، وفي التوراة الصحيحة قبل التحريف، والتبديل. {إِلاَّ الْفاسِقُونَ:} الكافرون، والفاجرون الخارجون عن طاعة الله، وطاعة رسله.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، واللام: واقعة في جواب القسم. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَنْزَلْنا:} فعل وفاعل. {إِلَيْكَ} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، انظر الآية رقم [65]. {آياتٍ:} مفعول به. {بَيِّناتٍ:} صفة الآيات، وعلامة نصبهما الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنهما جمعا مؤنث سالمان.

{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {يَكْفُرُ:} فعل مضارع. {بِها:} متعلقان بما قبلهما. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الْفاسِقُونَ:} فاعل. {يَكْفُرُ:} مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:({ما يَكْفُرُ}) في محل نصب حال من {آياتٍ} والرابط: الواو، والضمير، وساغ ذلك؛ لأن {آياتٍ}

ص: 264

وصفت، فتخصّصت، وقال في روح المعاني: الجملة الفعلية معطوفة على جواب القسم.

والأول أقوى فيما يظهر لي، والله أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)}

الشرح: ({أَوَ}): الواو حرف عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام، كما دخلت على الفاء في قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وغيرها كثير، وكما دخلت على ثمّ كقوله تعالى:{أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ} هذا قول سيبويه، وقال الأخفش: زائدة. ومذهب الكسائي: أنها ({أَوَ}) تحركت الواو منها تسهيلا، وقرأها قوم:(«أو») ساكنة الواو، فتجيء بمعنى «بل». وقال ابن عطية: وهذا تكلّف، والصحيح قول سيبويه. وانظر ما ذكرته في {أَفَلا} في الآية رقم [44] فإنّه جيد. ({كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً}): انظر الآية رقم [27] ففيها الكفاية، والمعنيّ في الآية: مالك بن الصّيف من أحبار اليهود، كان قد قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمّد، ولا ميثاق:

فنزلت هذه الآية الكريمة، وكانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لئن خرج محمّد لنؤمننّ به، ولنكوننّ معه على مشركي العرب، فلمّا بعث صلى الله عليه وسلم؛ كفروا به. انظر ما ذكرته في الآية رقم [89] فإنّه جيد، وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين النّبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، فنقضوها، كفعل قريظة، والنضير، وقينقاع، ودليله قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [56]:{الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} . {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ:} النبذ: الطرح، والإلقاء، ومنه: النبيذ، والمنبوذ، وقال أبو الأسود الدؤلي-رحمه الله تعالى-:[الطويل]

وخبّرني من كنت أرسلت إنّما

أخذت كتابي معرضا بشمالكا

نظرت إلى عنوانه فنبذته

كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا

وقال آخر: [الكامل]

إنّ الّذين أمرتهم أن يعدلوا

نبذوا كتابك واستحلّوا المحرّما

هذا؛ وسمّي اللّقيط منبوذا؛ لأنّه ينبذ على الطريق، وهو مثل يضرب لمن استخف بالشّيء، فلا يعمل به. تقول العرب: اجعل هذا خلفك، ودبرا منك، وتحت قدمك، أي: اتركه، وأعرض عنه. قال الله تعالى:{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا} رقم [92] من سورة (هود) على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ:} أي بل أكثر اليهود لا يؤمنون الإيمان الصّادق بالله، ولا بالتّوراة، ولا بالرّسل، لذلك ينقضون العهود، والمواثيق.

الإعراب: ({أَوَ}): الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الواو: حرف عطف على المعتمد. ({كُلَّما}): كلّ: ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما

ص: 265

ترابط فعل الشرط بجوابه. (ما): مصدرية توقيتية. {عاهَدُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {عَهْداً:} مفعول به ثان، والمفعول الأول محذوف؛ إذ التقدير: عاهدوا الله عهدا، و (ما) والفعل:{عاهَدُوا} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة: (كلّ) إليه، التقدير: كلّ وقت عهد، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللّذان سببا الظّرفية ل (كل). انظر مبحث:«كلّما» في كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وقيل: (ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى (وقت) أيضا، والمدرّسون يقولون: أداة شرط غير جازمة، ولا يعرفون هذا الإعراب، والتّفصيل. {نَبَذَهُ فَرِيقٌ:} ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية جواب ({كُلَّما}) لا محل لها، {مِنْهُمْ} متعلقان ب {فَرِيقٌ} أو بمحذوف صفة له.

{بَلْ:} حرف إضراب انتقالي. {أَكْثَرُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جرّ بالإضافة.

{لا:} نافية. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مع المتعلّق المحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على {فَرِيقٌ} عطف مفرد على مفرد، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ} في محل نصب حال من: {أَكْثَرُهُمْ} والرابط:

الضمير فقط، وقال ابن عطية: في محل نصب حال من الضمير في: {أَكْثَرُهُمْ} انتهى جمل.

و ({كُلَّما}) ومدخولها معطوف على الجملة الواقعة جوابا للقسم في الآية السابقة أو هو مستأنف لا محلّ له.

{وَلَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)}

الشرح: {وَلَمّا جاءَهُمْ} أي: اليهود {رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ:} هو محمّد صلى الله عليه وسلم جاء مصدقا للتّوراة، وموافقا لها في أصول الدّين، ومقرّرا لنبوّة موسى، وهارون، عليهما السلام. {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ} أي: طرح اليهود التوراة، وأعرضوا عنها، وعن العمل فيها؛ لأنها تدلّ على نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوّته، وأنكروا رسالته. قيل:

إنّهم أدرجوها في الحرير، وحلوها بالذّهب، ولم يعملوا بما فيها، وكذلك المسلمون في هذه الأيام يتنافسون في تزويق المصحف، وتزيينه، والعمل بما فيه قليل، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم! {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنّهم نبذوا كتاب الله، ورفضوه عن علم به، ومعرفة، وإنّما حملهم على ذلك عداوة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وحسدهم له، وحقدهم عليه، فشبّهوا بمن لا يعلم؛ إذ فعلوا فعل الجاهل.

هذا؛ و ({الْكِتابَ}) في اللغة: الضمّ، والجمع، وسمّيت الجماعة من الجيش: كتيبة؛ لاجتماع أفرادها على رأي واحد، وخطّة واحدة، كما سمي الكاتب: كاتبا؛ لأنه يضمّ الكلام بعضه إلى

ص: 266

بعض، ويجمعه، ويرتّبه. وفي الاصطلاح: اسم جملة مختصّة من العلم، مشتملة على أبواب، وفصول، ومسائل غالبا، ورحم الله من يقول:[الطويل]

لنا جلساء ما يملّ حديثهم

ألبّاء مأمونون غيبا ومشهدا

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى

وعقلا وتأديبا ورأيا مسدّدا

فإن قلت أحياء فما أنت كاذب

وإن قلت أموات فلست مفنّدا

وإنّي أتمثّل بقول آخر: [الخفيف]

ما تطعّمت لذّة العيش حتّى

صرت للبيت والكتاب جليسا

ليس عندي شيء ألذّ من ال

علم فلم أبتغي سواه أنيسا

إنّما الذّلّ في مخالطة النّا

س فدعهم وعش عزيزا رئيسا

ورحم الله من يقول: [الطويل]

وقائلة أتلفت في الكتب ما حوت

يمينك من مال فقلت دعيني

لعلّي أرى فيها كتابا يدلّني

لأخذ كتابي في غد بيميني

ورحم الله من يقول: [الوافر]

كتابي فيه بستاني وروحي

ومنه سمير نفسي والنّديم

يسالمني وكلّ النّاس حرب

ويسليني إذا عرت الهموم

ويحيي لي تصفّح صفحتيه

كرام النّاس إن فقد الكريم

إذا اعوجّت عليّ طريق قومي

فلي فيه طريق مستقيم

وبالجملة: فالكتاب هو نعم الذّخر، والعدّة، والشّغل، والحرفة، جليس لا يضرّك، ورفيق لا يملّك، يطيعك باللّيل طاعته بالنّهار، ويطيعك في السّفر طاعته في الحضر، إن ألفته؛ خلّد على الأيّام ذكرك، وإن درسته؛ رفع بين الخلائق قدرك.

الإعراب: {وَلَمّا:} الواو: حرف عطف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى «حين» عند ابن السّراج، والفارسي، وابن جنّي، وجماعة، تتطلّب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوّب ابن هشام الأوّل، والمشهور الثاني. {جاءَهُمْ رَسُولٌ:} ماض، ومفعوله وفاعله، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وهي في محل جرّ بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، وعلى

ص: 267

اعتبارها متعلقة بالجواب. {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان ب {رَسُولٌ} أو بمحذوف صفة له، و {عِنْدِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {مُصَدِّقٌ:} صفة ثانية، {لَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب {مُصَدِّقٌ} وانظر الآية رقم [41]. {مَعَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) والهاء في محل جر بالإضافة. {نَبَذَ فَرِيقٌ:} ماض، وفاعله، والجملة جواب (لمّا) لا محلّ لها، و {لَمّا} ومدخولها معطوف على ({كُلَّما}) ومدخولها على الوجهين المعتبرين فيه. {مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان ب {فَرِيقٌ} أو بمحذوف صفة. {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{كِتابَ} مفعول به ل {نَبَذَ،} و {كِتابَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَراءَ:}

ظرف مكان متعلق ب {نَبَذَ،} و {وَراءَ} مضاف، و {ظُهُورِهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {كَأَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لا:} نافية. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (كأنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{فَرِيقٌ} وساغ ذلك لتخصصه بالوصف، والرابط الضمير فقط، وصح ذلك؛ لأنّ {فَرِيقٌ} بمعنى القوم، أو الجماعة، أو هي في محل رفع صفة ثانية له.

{وَاِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)}

الشرح: {وَاتَّبَعُوا:} أي: اليهود. {ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ:} تحدّث، وتروي، من التّلاوة بمعنى: القراءة، أو من التلاوة بمعنى الاتّباع، فصار له معنيان، القراءة، والاتّباع. {عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ:} على عهد سليمان. {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ:} نقل المرحوم سليمان الجمل عن السّدي ما يلي: كانت الشياطين تسترق السمع، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت، وغيره، فيأتون الكهنة، ويخلطون بما يسمعون في كلّ كلمة سبعين كذبة، ويخبرونهم بها، فاكتتب الناس ذلك، وفشا في بني إسرائيل: أنّ الجنّ تعلم الغيب، فبعث سليمان في النّاس،

ص: 268

وجمع تلك الكتب، فجعلها في صندوق، ودفنها تحت كرسيّه، وقال: لا أسمع أنّ أحدا يقول:

إنّ الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فلمّا مات سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-وذهب العلماء الذين يعرفون أمر سليمان، ودفنه الكتب، وخلف من بعدهم خلف، تمثّل لهم الشيطان على صورة إنسان، فأتى نفرا من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلّكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسيّ، فذهب معهم، وأراهم المكان، وأقام في ناحية، فقالوا: ادن، فقال: ولكنني هاهنا، فإن لم تجدوه؛ فاقتلوني، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق، فحفروا، وأخرجوا تلك الكتب. فقال الشيطان: إنّ سليمان كان يضبط الجنّ، والإنس، والشياطين، والطّيور، والرّياح وغير ذلك، ويحكم فيهم بهذا، ثمّ طار الشيطان، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، وأخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلذلك كان أكثر ما يوجد من السّحر في اليهود، فلمّا جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله سليمان من ذلك، وأنزل تكذيبا لمن زعم ذلك:{وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ..} . إلخ انتهى.

{وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ} أي: ما كان سليمان ساحرا، ولا كفر بتعلّمه السّحر. وفيه تنزيه سليمان عن السّحر {وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} أي: أنّهم كفروا باتّخاذهم السّحر، وتعليمهم النّاس. هذا؛ والسّحر كل ما لطف ودقّ. يقال: سحره: إذا أبدى له أمرا يدقّ عليه، ويخفى.

قال الغزاليّ في الإحياء ما نصّه: السّحر نوع يستفاد من العلم بخواصّ الجواهر، وبأمور حسابيّة في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الحواس هيكل على صورة الشّخص المسحور، ويترصّد له وقت مخصوص من المطالع، وتقرن به كلمات يتلفّظ بها من الكفر، والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الاستغاثة بالشّياطين، ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله العادة أحوال غريبة في الشّخص المسحور. هذا؛ وسمّي الأكل في اللّيل سحورا؛ لأنه يقع خفيّا آخر اللّيل، والسّحر بفتح الحاء: الرّئة، وسميت بذلك لخفائها، ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن، كما قال أبو جهل الخبيث يوم بدر لعتبة: انتفخ السّحر، أي انتفخت رئته من الخوف، وقالت عائشة-رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري، ونحري. {فِتْنَةٌ:} ابتلاء، واختبار من الله للنّاس، فمن تعلمه كفر، ومن تركه؛ فهو مؤمن، والفتنة: المحنة، والاختبار، ومنه قول الشاعر:[المتقارب]

وقد فتن النّاس في دينهم

وخلّى ابن عفّان شرّا طويلا

هذا؛ والمعتمد: أنّ تعلّمه لدفع الضرر عن نفسه، وعن غيره، أو اتّخذه الشخص ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله؛ بقي على الإيمان، فلا كفر باعتقاد حقيقته، وجواز العمل به من غير إضرار أحد. انتهى من أبي السعود بتصرف، وقد ذكر ذلك البخاريّ في باب الطّبّ، انظر القسطلاني في شرح البخاريّ.

ص: 269

هذا؛ وبعضهم يعتبر السّحر من الكبائر التي نهى الله عنها، ويرى تحريمه، من ذلك ما روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» ، قيل:

يا رسول الله! وما هنّ؟ قال: «الإشراك بالله، والسّحر، وقتل النفس الّتي حرّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والزنى، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .

أخرجه البخاريّ، ومسلم، ويروى:«أكل الربا» بدل «الزنى» . وأيضا ما روي عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنا، أو ساحرا، فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم» . رواه بإسناد جيّد قويّ.

{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما:} من الملكين. {ما يُفَرِّقُونَ بِهِ:} بالسّحر. {بَيْنَ الْمَرْءِ:} الرّجل، وضم الميم فيه لغة تقول: هذا مرء صالح، وهما مرءان، وجمعه رجال من غير لفظه، والمؤنثة:

امرأة، والمثنى: امرأتان، وجمعها من غير لفظه نساء. {وَما هُمْ} أي: السّحرة {بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} أي: بإرادته، وقضائه، لا بأمره؛ لأنّ الله لا يأمر بالفحشاء، ويقضي على الخلق بها.

{وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ} أي: في الغالب بسبب استعماله في إيذاء الناس. {وَلا يَنْفَعُهُمْ} أي: في الآخرة، إن أخذوا على استعماله دريهمات في الدّنيا؛ فلا قيمة لها بجانب الضّرر الذي يلحقهم في الآخرة. {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ:} اختاره صنعة، أو استبدله بكتاب الله. {ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ:} من نصيب. {وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي: البديل الذي استبدلوا به من السّحر عوضا من الإيمان، ومتابعة الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان لهم علم بما وعظوا به؛ لاتّعظوا، وانتفعوا. وهذا جار على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أنّ العالم بالشيء إذا لم يجر على موجب علمه قد ينزّل منزلة الجاهل به، وينفى عنه العلم، كما ينفى عن الجاهلين، والحكمة من تعليم الملكين النّاس السّحر: أن السحر كثر في ذلك الزّمن واخترعوا فنونا غريبة من السّحر، وربما زعموا: أنّهم أنبياء، فبعث الله تعالى الملكين؛ ليعلما النّاس وجوه السحر؛ حتّى يتمكّنوا من التمييز بينه، وبين المعجزة، ويعرفوا:

أنّ الذين يدّعون النّبوة كذبا إنّما هم سحرة، لا أنبياء.

تنبيه: روى الترمذيّ عن جندب الأزديّ-رضي الله عنه: أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«حدّ السّاحر ضربه بالسّيف» . وقد روي من طرق متعدّدة: أن الوليد بن عقبة، كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرّجل، ثم يصيح به، فيرد إليه الرأس. فقال النّاس: سبحان الله! يحيي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه، وذهب السّاحر يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرّجل سيفه، وضرب به عنق السّاحر، وقال: إن كان صادقا فليحيي نفسه، وتلا قول الله تعالى:{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} فغضب الوليد؛ إذ

ص: 270

لم يستأذنه في ذلك، فسجنه ثمّ أطلقه. روى الشّافعي، وأحمد بن حنبل عن عمرو بن دينار: أنّه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: أن اقتلوا كلّ ساحر، وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر. أخرجه البخاريّ في صحيحه. وصحّ: أنّ حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم سحرتها جارية لها، فأمرت بها، فقتلت. انتهى. مختصر ابن كثير.

أقول: وما يفعله ضراب الشّيش، وآكلو الحيّات، والعقارب، والّذين يقتحمون النّار، ويفعلون ما يفعلون من الخزعبلات، والشّعوذات؛ فقتلهم جائز شرعا، بل واجب، ولكن اتقاء للفتن تركهم، والابتعاد عنهم أولى في هذه الأيام، وحسابهم على الله تعالى. هذا؛ وروى سفيان عن عمّار الدّهني: أنّ ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل في است الحمار، ويخرج من فيه، فاشتمل له جندب على السّيف فقتله، هذا هو جندب بن كعب الأزدي، ويقال: الجبلي، وهو الذي قال في حقّه النبي صلى الله عليه وسلم: يكون في أمّتي رجل، يقال له:

جندب، يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحقّ، والباطل، فكان يرونه جندبا هذا قاتل السّاحر، وهذه الرواية غير الرواية الأولى.

هذا؛ وقال العلماء: لا ينكر أن يظهر على يد السّاحر خرق العادات، مما ليس في مقدور البشر من مرض، وتفريق، وحبّ، وبغض، وزوال عقل، وغير ذلك، قالوا: ولا يبعد في السّحر أن يستدقّ جسم الساحر؛ حتّى يتولج في الكوات الضّيقة، والجري على حبل، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وغير ذلك، ومع ذلك فلا يكون السّحر موجبا لذلك، ولا علّة لوقوعه، ولا يكون السّاحر مستقلاّ به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء، ويحدثها عند وجود السّحر، كما يخلق الشّبع عند الأكل، والرّي عند شرب الماء. انتهى قرطبي.

تنبيه: (بابل): المشهور: أنّه بلد من سواد العراق، سمّي بذلك لتبلبل الألسنة فيه، وذلك:

أنّ الله أمر ريحا، فحشرت الخلق لهذه الأرض، فلم يدر أحد ما يقول الآخر، ثمّ فرقتهم الرّيح في البلاد يتكلّم كلّ واحد بلغة. والبلبلة: التّفرقة، وقيل: لمّا أهبط الله نوحا-على نبيّنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-بعد الطوفان بنى قرية، وسماها ثمانين، فأصبح ذات يوم، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها: اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم على بعض. وقيل:

سمّيت بذلك؛ لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود. انتهى سمين. والله أعلم بالحقيقة.

وهاروت، وماروت سريانيان، ويجمعان على: هواريت، ومواريت، مثل: طواغيت، وهو جمع: طاغية، ويجمعان على: هوارية، وموارية، وهوار، وموار، وليسا مشتقين من الهرت، والمرت لعدم انصرافهما، ولو كانا مشتقّين كما ذكر؛ لانصرفا.

تنبيه: لقد ذكر المفسّرون في هاروت، وماروت قصصا، وحكايات هي أقرب إلى الخرافات منها إلى الحقيقة، فأعرض عنها، وعن ذكرها لتفاهتها، واكتف بما ذكره البيضاوي،

ص: 271

رحمه الله تعالى، قال: هما ملكان أنزلا لتعليم السّحر ابتلاء من الله للناس، وتمييزا بينه وبين المعجزة، وما روي أنّهما بشرين، وركب فيهما الشهوة، فتعرضا لامرأة يقال لها: زهرة، فحملتهما على المعصية، والشرك، ثمّ صعدت إلى السّماء بما تعلّمت منهما؛ فمحكيّ عن اليهود، ولعلّه من رموز الأوائل، وحلّه لا يخفى على ذوي البصائر. وقيل: هما رجلان سمّيا ملكين باعتبار صلاحهما، ويؤيّده قراءة («الملكين») بالكسر! انتهى. وقال الجمل: وقيل: إنّهما أنزلا لتعليم السحر للتمييز بينه وبين المعجزة، لئلا يغترّ به الناس، وذلك: أنّ السحرة كثروا في ذلك الزمان، واستنبطوا أبوابا غريبة من السّحر وكانوا يدّعون النبوة، فبعث الله هذين الملكين؛ ليعلّما الناس أبواب السحر؛ حتّى تمكّنوا من معارضة أولئك الكذّابين، وإظهار النّاس على أمرهم. انتهى. هذا؛ وحديث هاروت، وماروت رواه الإمام أحمد، وابن حبّان في صحيحه عن ابن عمر-رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو موجود في كتاب التّرغيب، والترهيب، في باب شرب الخمر، والله أعلم.

هذا؛ وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-بعد أن ذكر ما نسب إلى ابن عباس، وعليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وكعب الأحبار، والسّدي، والكلبيّ، رحمهم الله جميعا-: هذا كلّه ضعيف، وبعيد، ولا يصحّ منه شيء، فإنّه قول تدفعه الأصول في الملائكة، الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله، قال تعالى:{لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} . وقال تعالى: {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} . وقال جلّ ذكره:

{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ} انتهى باختصار.

الإعراب: ({اِتَّبَعُوا}): فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {تَتْلُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل. {الشَّياطِينُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: اتبعوا الذي، أو شيئا تتلوه الشّياطين. {عَلى مُلْكِ:}

متعلقان بما قبلهما، وملك مضاف، و {سُلَيْمانَ} مضاف إليه مجرور وعلامة جره الفتحة عوضا عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون، وقيل: للعلمية والعجمة، وجملة:{وَاتَّبَعُوا..} . معطوفة على جملة: «نبذ» في الآية السابقة لا محل لها مثلها. {وَما:}

الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {كَفَرَ سُلَيْمانُ:} ماض وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من سليمان، والرابط: الواو، وإعادة لفظ {سُلَيْمانَ} للتعظيم، والتفخيم، وهو قائم مقام إضماره.

{وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنَّ}): حرف استدراك يقرأ بالتّشديد، والتّخفيف.

{الشَّياطِينُ:} اسم ({لكِنَّ}) وهو مبتدأ على رفعه، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف

ص: 272

خبر: {الشَّياطِينُ} على الوجهين، والجملة الاسمية {وَلكِنَّ..} . معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ:} مضارع، وفاعله، ومفعولاه، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من {الشَّياطِينُ} والعامل في الحال ({لكِنَّ}) لما فيها من رائحة الفعل. وقيل: هي في محل رفع خبر ثان ل {الشَّياطِينُ} . وقيل: هي بدل من جملة:

{كَفَرُوا} أبدل الفعل من الفعل، وقيل: هي مستأنفة، وهو وجه ضعيف. {وَما:} معطوفة على السّحر، الذي هو مفعول ثان، وتحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السّكون في محل نصب. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل يعود إلى ({ما}) وهو العائد، أو الرابط. {عَلَى الْمَلَكَيْنِ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجرّ الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد {بِبابِلَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {أُنْزِلَ} أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْمَلَكَيْنِ} وهو أقوى، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة. {هارُوتَ:} عطف بيان، أو بدل بعض من كل من الملكين، مجرور وعلامة جرّه الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة، وما بعده معطوف عليه.

هذا؛ وقال القرطبي: ({ما}) نفي، والواو للعطف على قوله:{وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ} وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشّياطين كفروا، يعلمون النّاس السّحر ببابل هاروت، وماروت. ثم قال: هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصحّ ما قيل فيها. انتهى. وهذا يعني: أنّ نائب فاعل {أُنْزِلَ} لا مرجع له، ويجب تقديره كما يلي: أو ما نزل على الملكين شيء، وهذا تكلف، وتعسف، كما هو واضح.

{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {يُعَلِّمانِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والألف فاعله. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أَحَدٍ:}

مفعول به ثان، والمفعول الأول محذوف، التقدير: وما يعلمان السحر أحدا، منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجرّ الزائد، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْمَلَكَيْنِ،} والرابط الواو وألف الاثنين، وقيل: معطوفة على ما قبلها، وهو غير وجيه كما هو ظاهر. {حَتّى:} حرف غاية، وجر بعدها «أن» مضمرة.

{يَقُولا:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد {حَتّى} والفعل: {يَقُولا} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} . والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُعَلِّمانِ،} {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {نَحْنُ فِتْنَةٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

{فَلا:} الفاء: حرف عطف على قول من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفاء الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر؛ إذ التقدير: إذا

ص: 273

عرفت ما نقول؛ فلا

({لا}): ناهية. {تَكْفُرْ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها جواب للشرط المقدر ب «إذا» .

({يَتَعَلَّمُونَ}): فعل مضارع والواو فاعله. {مِنْهُما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والميم والألف حرفان دالاّن على التثنية. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يُفَرِّقُونَ:} فعل مضارع وفاعله. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما.

{بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. و {بَيْنَ:} مضاف، و {الْمَرْءِ} مضاف إليه. ({زَوْجِهِ}):

معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يُفَرِّقُونَ بِهِ..} . صلة ({ما}) أو صفتها، والعائد أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ بالباء، وجملة:({يَتَعَلَّمُونَ}) قال سيبويه:

التقدير: فهم يتعلمون. قال: ومثله: {كُنْ فَيَكُونُ} وقيل: هو معطوف على موضع ({ما يُعَلِّمانِ}) لأن قوله: {وَما يُعَلِّمانِ} وإن دخلت عليه ما النافية فمضمّنه الإيجاب في التعليم، وقال الفرّاء:

هي مردودة على قوله: {يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ،} ويكون: {فَيَتَعَلَّمُونَ} متصلة بقوله: {إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ} فيأتون، فيتعلمون، وهذا يعني: أنّ الجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة.

{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم ({ما})، {بِضارِّينَ:} الباء: حرف صلة، (ضارين):

خبر ({ما}) مجرور لفظا، منصوب محلاّ، وإن اعتبرت:({ما}) مهملة تميمية؛ فالضمير مبتدأ، و (ضارين): خبره مجرور لفظا مرفوع محلا، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {بِهِ:} متعلقان ب (ضارّين) والهاء عائدة على: ({ما}) المكنى بها عن السحر. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أَحَدٍ:} مفعول به ل (ضارين) لأنه جمع اسم فاعل، فهو مجرور لفظا منصوب محلا، وفاعل (ضارين) مستتر فيه. {إِلاّ:} حرف حصر.

{بِإِذْنِ:} متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، وصاحب الحال الضمير المستتر ب (ضارين) أو {أَحَدٍ} وجاز مجيء الحال منه لتقدّم النفي عليه، أو هو الضمير المجرور محلاّ بالباء، و (إذن): مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة:{وَيَتَعَلَّمُونَ:} معطوفة على جملة: ({يَتَعَلَّمُونَ}) السابقة على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {ما:} مفعول به، وتحتمل الموصولة، والموصوفة. {يَضُرُّهُمْ:} مضارع، ومفعوله، والفاعل يعود إلى {ما} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، وجملة:{وَلا يَنْفَعُهُمْ:} معطوفة عليها.

{وَلَقَدْ عَلِمُوا:} الواو حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية

ص: 274

جواب القسم، لا محل لها، والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محل له، وانظر الآية رقم [65] {لَمَنِ:} اللام: لام الابتداء معلقة للفعل (علم) عن العمل لفظا. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِشْتَراهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد. والهاء: مفعول به، والجملة الفعلية صلة (من) لا محل لها. {ما:}

نافية. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو بالخبر نفسه، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وبعضهم يقول:

متعلقان بمحذوف حال من {خَلاقٍ} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا على القاعدة: نعت النكرة إذا تقدّم عليها؛ صار حالا. وهذا لا يجيزه كثير من النّحويين؛ لأن الحال هيئة فاعل أو مفعول. {مِنْ:} حرف جر صلة. {خَلاقٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية {لَمَنِ} في محل نصب سدّت مسد مفعولي:{عَلِمُوا} المعلّق عن العمل بسبب لام الابتداء.

{وَلَبِئْسَ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، واللام: واقعة في جواب القسم (بئس {ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}): انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [90] والمخصوص بالذّم محذوف، التقدير: هو علم السحر، والقسم وجوابه كلام مستأنف، أو هو معطوف على ما قبله، لا محل له على الاعتبارين.

{لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه. {يُعَلِّمُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كانُوا} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {لَوْ} محذوف، التقدير: لو كانوا يعلمون؛ ما تعلّموا، وانظر الآية التالية. {وَلَوْ} مدخولها كلام معترض في آخر الكلام، مفاده توكيد الذم لشرائهم.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)}

الشرح: {وَلَوْ أَنَّهُمْ..} . أي: ولو أنّ اليهود، وغيرهم الذين يتعلّمون السحر آمنوا بالله، وخافوا عقابه، فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله، واتّباع كتب الشياطين {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ} أي: لأثابهم الله ثوابا أفضل ممّا شغلوا به أنفسهم من السحر الذي لا يعود عليهم إلا بالويل، والخسار والدمار. والمراد بالعنديّة المجاز عن إثابتهم. {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} انظر الآية السابقة ففيها الكفاية.

ص: 275

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {آمَنُوا:} فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، والتي بعدها معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع. وفيه قولان: أحدهما: وهو قول سيبويه: أنه في محل رفع بالابتداء، وخبره محذوف، التقدير: ولو إيمانهم ثابت، والثاني: وهو قول المبرّد في أنه في محل رفع بالفاعلية، رافعه محذوف، تقديره:

ولو ثبت، أو حصل إيمانهم، وقول المبرد هو المرجح؛ لأن «لو» لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدّر، والفعل المقدر وفاعله جملة فعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، هذا؛ وقال البيضاوي، والنسفي تبعا للزمخشري: والمعنى: لأثيبوا من عند الله ما هو خير، وأوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب (لو) لما فيها من الدلالة على ثبات المثوبة، واستقرارها، وهذا يعني: أن الجملة الاسمية الآتية هي جواب (لو) وهو مفاد كلام أبي البقاء أيضا، وقال الجلال: جواب ({لَوْ}) محذوف دل عليه: {لَمَثُوبَةٌ،} واللام جواب قسم محذوف، ثم ابتدأ لمثوبة من عند الله خير، وتكون الجملة جواب القسم المقدر.

وقال ابن هشام في المغني: والأولى أن يقدر الجواب محذوفا، أي: لكان خيرا لهم، أو أن يقدر ({لَوْ}) بمنزلة (ليت) في إفادة التمني، فلا تحتاج إلى جواب. أقول: وتبقى الجملة الاسمية جواب القسم المقدر، وتكون الجملة القسمية مستأنفة لا محل لها.

{مِنْ عِنْدِ:} متعلقان ب (مثوبة) أو بمحذوف صفة لها، و (عند) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب ({لَوْ})، و ({لَوْ}) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب. {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية السابقة، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره مع تقدير المفعول كما يلي: لو كانوا يعلمون: أنه خير؛ لما آثروه.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا اُنْظُرْنا وَاِسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)}

الشرح: سبب نزول هذه الآية: أن المسلمين كانوا يقولون: راعنا يا رسول الله! من المراعاة، أي: أرعنا سمعك، وفرّغه لكلامنا، وكانت هذه اللّفظة سبّا قبيحا بلغة اليهود اللؤماء، ومعناها عندهم: اسمع، لا سمعت. وقيل: من الرعونة، فإذا أرادوا أن يحمّقوا إنسانا؛ قالوا:

راعنا، يعني: أحمق، فلمّا سمعت اليهود هذه الكلمة من المسلمين، قالوا فيما بينهم: كنا نسبّ محمدا سرّا، فأعلنوا به الآن، فكانوا يأتونه، ويقولون: راعنا يا محمد! ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ-رضي الله عنه-ففطن لها، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: لئن سمعتها

ص: 276

من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه! فقالوا: أو ألستم تقولونها؟! فأنزل الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا} لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. خازن. هذا ومثل هذه الآية في مغزاها، ومعناها قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [46] {مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ}. {وَقُولُوا انْظُرْنا} قال مجاهد: المعنى:

فهمنا، وبين لنا. وقيل: المعنى انتظرنا، وتأنّ بنا. قال علقمة الفحل:[الطويل]

فإنّكما إن تنظراني ساعة

من الدّهر ينفعني لدى أمّ جندب

وقرأ الأعمش وغيره: («أنظرنا») بقطع الألف وكسر الظاء، بمعنى: أخّرنا، وأمهلنا حتى نفهم عنك، ونتلقّى منك، قال عمرو بن كلثوم في معلقته:[الوافر]

أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبّرك اليقينا

{وَاسْمَعُوا:} أي: ما تؤمرون به، وأطيعوا نهي الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: راعنا؛ لئلا يتطرّق أحد إلى شتمه. وأمرهم بتوقيره، وتعظيمه، وأن يتخيّروا لخطابه صلى الله عليه وسلم من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أدقّها، وإن سألوه؛ يسألوه بتبجيل، وتعظيم، ولين، ولا يخاطبوه بما يسرّ اليهود الخبثاء اللّؤماء.

ففي الآية الكريمة دلالة على النّهي الشديد، والتّهديد، والوعيد على التشبّه بالكفار في أقوالهم، وأفعالهم، ولباسهم، وأعيادهم، وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم؛ التي لم تشرع لنا، ولا نقرّ عليها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من تشبّه بقوم فهو منهم» . أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود عن ابن عمر، رضي الله عنهما.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منّا من تشبّه بغيرنا، لا تشبّهوا باليهود، ولا بالنصارى، فإنّ تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النّصارى الإشارة بالأكف» . رواه الترمذي.

تنبيه: نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرم وصف، وألطف عبارة؛ أي: يا من صدقتم الله ورسوله، وتحليتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان. وقد خاطب الله عباده المؤمنين بقوله:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن، وهذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الإقبال عليهم أن يتلقى المخاطبين. ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكرهم بأن الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقّى أوامر الله ونواهيه بحسن الطاعة، والامتثال، وإنما خصّهم الله بالنداء؛ لأنهم هم المستجيبون لأمره، المنتهون عمّا نهى عنه؛ إذ الغالب أن يتبع هذا النداء بأمر، أو بنهي.

الإعراب: ({يا}): أداة نداء تنوب مناب أدعو. ({أَيُّهَا}): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب ({يا})، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من

ص: 277

المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنه حينئذ يجب نصب المنادى.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من (أيّ) وانظر الآية رقم [21] وجملة: {آمَنُوا} صلة الموصول لا محل لها. {لا:} ناهية. {تَقُولُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {راعِنا:} فعل صيغته أمر، وهو التماس هنا، مبني على حذف حرف العلة وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» و (نا): مفعوله والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَقُولُوا:}

فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {اُنْظُرْنا:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنت» و (نا) مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:({اِسْمَعُوا}) معطوفة على جملة: ({قُولُوا}) لا محل لها مثلها. {وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ} انظر الآية السابقة رقم [90].

{ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}

الشرح: {ما يَوَدُّ:} ما يحبّ. {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ:} المراد بأهل الكتاب: اليهود، والنصارى والمراد بالمشركين: عبدة الأوثان، وهذا يدلّ على أنّه يقال لليهود، والنصارى، كفار، هذا؛ و {أَهْلِ:} اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل: معشر، ورهط، والأهل: العشيرة، وذو القربى، ويطلق على الزّوجة، وعلى الأتباع أيضا، والجمع:

أهلون، وأهال، وآهال، وأهلات، وبالأولين قرئ قوله تعالى في سورة (التّحريم):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ} .

{أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ:} المراد بالخير، الوحي الذي ينزل بالقرآن، والهدى، هذا؛ والخير يكون بمعنى المال، كما في قوله تعالى في سورة (العاديات):{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ويكون بمعنى: الطعام، كما في قوله تعالى في حكاية عن قول موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في سورة (القصص) رقم [24]:

{رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ،} ويكون بمعنى: القوة، كما في قوله تعالى في سورة (الدخان) رقم [37]:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ويكون بمعنى: العبادة، والطّاعة، كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء رقم [73]:{وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} ويكون بمعنى المطر، قال الشاعر، وهو الشاهد رقم [202] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

سقى الحيا الأرض حتّى أمكن عزيت

لهم فلا زال عنها الخير مجدودا

ص: 278

{وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ:} نبوته، وتوفيقه، وهدايته. {وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يعني: أنّ كل خير يناله عباده في دينهم، ودنياهم، فإنّه منه تعالى تفضّلا عليهم من غير استحقاق منهم لذلك، بل له الفضل، والمنّة على خلقه. انتهى خازن.

هذا؛ وذكر الجمل: أنّ الفعل: «يختص» يستعمل متعديا، ولازما، فعلى الأول فاعله مستتر فيه، والموصول بصلته في محل نصب على المفعولية، والمعنى: والله يخصّ، وعلى الثاني الفاعل هو الموصول بصلته، والمعنى: والله يتميّز برحمته من يشاء الله تمييزه. انتهى. ولم أجده لغيره في كتب اللّغة، هذا؛ وهذه الجملة مذكورة في سورة (آل عمران) رقم [74].

الإعراب: {ما:} نافية. {يَوَدُّ:} فعل مضارع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {كَفَرُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {مِنْ أَهْلِ:} متعلقان بمحذوف حال من الاسم الموصول و {أَهْلِ:}

مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي.

{الْمُشْرِكِينَ:} معطوف على {أَهْلِ الْكِتابِ} مجرور مثله، وجوّز النّحاس عطفه على الموصول، لكن لم يقرأ أحد بالواو والنّون، {أَنْ يُنَزَّلَ:} مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ،} {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة. {خَيْرٍ:} نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به للفعل:{يَوَدُّ} وجملة: {ما يَوَدُّ:} مستأنفة لا محل لها. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب {خَيْرٍ} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{وَاللهُ:} الواو: واو الحال. ({اللهُ}): مبتدأ. {يَخْتَصُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}).

{بِرَحْمَتِهِ:} متعلقان بما قبلهما والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ في محل نصب حال من كاف المخاطب، والرابط الواو فقط. وقال صاحب روح المعاني: ابتدائية، ولا وجه له، وقيل: مستأنفة، وهو غير مسلم. {مِنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ})، والجملة الفعلية صلة {مِنْ} لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذي يشاؤه.

{وَاللهُ:} الواو: حرف عطف، ({اللهُ}): مبتدأ، {ذُو:} خبر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنه من الأسماء الخمسة. و {ذُو:} مضاف، و {الْفَضْلِ:} مضاف إليه، {الْعَظِيمِ:} صفة الفضل، والجملة الاسمية:{وَاللهُ ذُو} معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب حال.

ص: 279

{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}

الشرح: {ما نَنْسَخْ:} النّسخ في اللغة: إزالة الصّورة عن الشيء، وإثباتها في غيره، وفي الشرع: انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي، فكان تبديلا في حقّنا، بيانا في حقّ صاحب الشّرع.

وسبب نزول هذه الآية: أن اليهود قالوا: إنّ محمدا يأمر أصحابه بأمر، ثم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا، ويرجع عنه غدا، ما يقول إلاّ من تلقاء نفسه، كما أخبر الله عنهم بقوله:{وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ} رقم [101] من سورة (النّحل)، فأنزل الله {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} فبيّن بهذه الآية وجه الحكمة في النّسخ، وأنّه من عنده لا من عند محمد صلى الله عليه وسلم.

هذا؛ وبعض المفسرين يقول: إن المشركين في مكّة هم الذين عابوا النّسخ، وطعنوا فيه.

وهذا غير وجيه؛ لأن مكّة لم يحصل فيها نسخ، ولا تبديل، ولا تغيير، والسبب في ذلك: أنّ مكة لم تنزل فيها آيات الأحكام، ومهمّة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة كانت مقصورة على التّوحيد، والإيمان بالبعث، والنشر، والحساب، والجزاء. واليهود أنكروا النّسخ كفرا، وعنادا، فإنه ليس في العقل ما يدلّ على امتناع النّسخ في أحكام الله تعالى، كما أنه يفعل ما يريد، ولا يسأل عما يفعل مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدّمة، وشرائعه الماضية، كما أحلّ لآدم عليه السلام تزويج بناته من بنيه، ثمّ حرم ذلك بشريعة نوح، وكما أباح لنوح عليه السلام بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثمّ نسخ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل، وبنيه، ثم حرّم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وهم يعترفون بذلك، ويصدفون عنه، عليهم لعائن الله في الدنيا والآخرة!

هذا والنّسخ على أنواع: منها نسخ الأثقل إلى الأخف، كآية المصابرة المذكورة في سورة الأنفال رقم [66]:{الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} فإنّها نسخت حكم ما قبلها، وكالذي كان على المؤمنين من نسخ قيام اللّيل، كما هو في آخر سورة المزمّل، ومنها نسخ الأخف إلى الأثقل، والأكمل في الثواب، والأجر، كالذي كان على المسلمين من صيام أيام معدودات في كلّ شهر، وصيام يوم عاشوراء، فنسخ ذلك بفريضة صيام رمضان، ونسخ المثل بمثله ثقلا وخفة، كنسخ التوجّه إلى بيت المقدس، وصرفه إلى المسجد الحرام، وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى كما رأيت في سورة المجادلة رقم [12] 13 - وينسخ القرآن بالقرآن اتفاقا، وينسخ القرآن بالسّنة، كما في آية الوصية للأقربين رقم [180] الآتية، فإنها منسوخة بقول

ص: 280

النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وصيّة لوارث» . والقرآن يجيزها للورثة، وهذا عند الجمهور، ما عدا الشافعي رضي الله عنه-فإنّه يرى نسخها بآية المواريث المذكورة في سورة النّساء.

ثمّ النسخ في القرآن على وجوه:

أحدها: ما رفع حكمه، وتلاوته، كما روي عن ابن أبي أمامة بن سهل-رضي الله عنه:

أنّ قوما من الصحابة قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها إلا: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ،} ، فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك السّورة رفعت بتلاوتها وحكمها» أخرجه البغوي، بغير سند، وقيل: إنّ سورة الأحزاب، كانت مثل سورة البقرة، فرفع أكثرها تلاوة، وحكما.

الوجه الثاني: ما رفع تلاوته، وبقي حكمه، مثل آية الرّجم.

روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال عمر بن الخطّاب-رضي الله عنه-وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل عليه آية الرّجم، فقرأناها، ووعيناها، وعقلناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالنّاس زمان أن يقول قائل: لا نجد الرّجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإنّ الرّجم في كتاب الله حقّ على كلّ من زنى إذا أحصن من الرّجال والنّساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف). أخرجه البخاريّ، ومسلم. هذا وآية الرّجم:(الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم.) هذا؛ وممّا نسخت تلاوته وبقي حكمه آية الرّضاع التي أخذ بها الشّافعي رحمه الله تعالى، ونصّها:(خمس رضعات يحرّمن).

الوجه الثالث: ما رفع حكمه وثبت خطّه، وتلاوته، وهو كثير في القرآن الكريم، مثل آية الوصيّة المذكورة آنفا، وآية عدّة الوفاة بالحول، وهي رقم [240] الآتية، فإنّها نسخت بآية أربعة أشهر وعشرا وهي رقم [234] الآتية، وأيضا آية المصابرة المذكورة آنفا، ومثل ذلك كثير.

{أَوْ نُنْسِها} قرئ: («أو ننساها») فالأول من النّسيان، وهو ما رأيته عن أبي أمامة، والثاني:

التأخير، والإرجاء. قاله مجاهد، وعطاء. {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها} أي: مما هو أنفع لكم، وأسهل عليكم، وأكثر لأجوركم، وليس معناه في أنّ آية خير من آية؛ لأنّ كلام الله تعالى كلّه خير {أَوْ مِثْلِها} في المنفعة، والأجر، والثّواب

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ:} هذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويشمل كلّ عاقل، وعالم. {عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:} فيه دليل على تسمية الله تعالى بالقدير، والقادر، والمقتدر، والقدير أبلغ في الوصف. والقدير، والقادر، والمقتدر بمعنى واحد، والاقتدار على الشيء: القدرة عليه، فالله عز وجل قادر، مقتدر، قدير على كلّ ممكن يقبل الوجود، والعدم، فيجب على كل مكلّف أن يعلم: أنّ الله تعالى قادر، له قدرة بها فعل، ويفعل ما يشاء على وفق علمه، واختياره.

ويجب عليه أيضا أن يعلم: أنّ للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على ما تجري العادة،

ص: 281

وأنّه غير مستبد بقدرته وإنّما خصّ هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذّكر دون غيرها؛ لأنه تقدّم ذكر فعل مضمنه الوعيد، والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك. والله أعلم.

الإعراب: {ما:} اسم شرط مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدّم لفعل شرطه، وقيل: هي في محل نصب مفعول مطلق. أي نسخ ننسخ آية. {نَنْسَخْ:} فعل مضارع فعل الشرط، وفاعله مستتر تقديره نحن. {مِنْ آيَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من {ما،} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها، وقال الجمل: متعلقان بمحذوف صفة لها، ولا وجه له. وقال أبو البقاء:

زائدة، و {آيَةٍ} تمييز ل {ما} وليس بالقويّ، والجملة الفعلية:{نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ابتدائية لا محل لها. {أَوْ:} حرف عطف. {نُنْسِها:} مضارع معطوف على فعل الشرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والفاعل: تقديره: «نحن» ، و (ها) مفعول ثان، والأول محذوف؛ إذ التقدير: ننكسها، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {نَأْتِ:} فعل مضارع جواب الشّرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {بِخَيْرٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْها:} متعلقان ب (خير) أو بمحذوف صفة له. {أَوْ:} حرف عطف. {مِثْلِها:}

معطوف على (خير)، و (ها): في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَأْتِ بِخَيْرٍ:} لا محل لها؛ لأنها جواب الشّرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية. {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَعْلَمْ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) والفاعل مستتر تقديره: «أنت» . {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي: {تَعْلَمْ،} وجملة: {أَلَمْ تَعْلَمْ} مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)}

الشرح: يرشد الله عباده في هذه الآية، إلى أنّه له التصرّف في خلقه بما يشاء، فله الخلق، والأمر، وهو المتصرّف فيهم، فكما خلقهم كما يشاء، يسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويوفّق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرّم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد، ولا معقّب لحكمه. {لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ،} ويختبر عباده بالنّسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها الله تعالى، ثمّ ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطّاعة كلّ الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله في

ص: 282

تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا ردّ عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود، وتزييف شبهتهم-لعنهم الله-في دعوى استحالة النسخ. وهذا الخطاب وإن كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر، وعظمته، فإنّه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوّة عيسى، ومحمد-عليهما الصّلاة والسّلام-لمجيئهما بما جاءا من عند الله بتغيير ما غيّر الله من حكم التّوراة، فأخبرهم الله: أنّ له تلك السموات والأرض وسلطانها، وأنّ الخلق أهل مملكته، وطاعته، وعليهم السّمع والطّاعة لأمره، ونهيه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ:} انظر إعراب مثله في الآية السّابقة. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدّم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، و {مُلْكُ:} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، {وَالْأَرْضِ:} معطوف على سابقه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {أَنَّ،} والجملة الفعلية: {أَلَمْ تَعْلَمْ:} مستأنفة لا محل لها كالجملة السّابقة، فهي مقرّرة، ومؤكّدة لها. {وَما:}

الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان، وقيل: متعلقان حال من: {وَلِيٍّ} كان صفة له، فلما قدم عليها صار حالا، وهو ضعيف؛ لأنّ كثيرا من النّحاة لا يجيزون مجيء الحال من المبتدأ، و {دُونِ} مضاف، و {اللهَ} مضاف إليه. {مِنْ:} حرف جر صلة. {وَلِيٍّ:} مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي.

{نَصِيرٍ:} معطوف على {وَلِيٍّ} مجرور تبعا للفظه، والجملة الاسمية:{وَما لَكُمْ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة الاسم الكريم للتفخيم، والتعظيم. هذا؛ وأجاز الجمل اعتبار ({ما}) حجازية.

وهذا على قول من يجيز تقديم خبرها؛ وهو ظرف، أو جار ومجرور على اسمها.

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)}

الشرح: جاء في مختصر ابن كثير ما يلي: نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى في سورة (المائدة) رقم [101]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها؛ تبيّن لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه، فلعلّه أن يحرّم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح: «إنّ أعظم المسلمين جرما من سأل عن

ص: 283

شيء لم يحرّم، فحرّم من أجل مسألته». وثبت في الصّحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل، وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.

وفي صحيح مسلم: «ذروني ما تركتكم: فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء؛ فاجتنبوه» . وهذا إنّما قاله بعد ما أخبرهم: أنّ الله كتب عليهم الحجّ، فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ثم قال صلى الله عليه وسلم:«لا، ولو قلت: نعم؛ لوجبت؛ ولو وجبت؛ لما استطعتم» . ثمّ قال: «ذروني ما تركتكم» . ولهذا قال أنس بن مالك-رضي الله عنه: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرّجل من أهل البادية، فيسأله؛ ونحن نسمع. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلّها في القرآن:{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} و {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ} و {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى} يعني: هذا وأشباهه، رواه البزّار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، رضي الله عنهما.

هذا؛ ويفيد: أنّ الخطاب للمؤمنين، ويؤيده قوله تعالى:{كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ} أي:

فقد سأل بنو إسرائيل موسى أسئلة كثيرة كلّها تعنّت، وعناد، مثل قولهم:{أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً،} {اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ..} . إلخ وغير ذلك كثير. وقيل: السائل اليهود، فعن ابن عباس؛ قال: قال رافع بن حرملة، ووهب بن زيد: يا محمد! ائتنا بكتاب تنزله علينا نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك، ونصدقك. ويكون قوله:{رَسُولَكُمْ} مأخوذ من عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للخلق أجمعين، واليهود داخلون في هذا العموم بلا ريب، ولا شك، فصحّ توجيه الخطاب إليهم بهذا العموم، وأيضا سياق الكلام سابقا، ولاحقا في شأن اليهود.

وقال النّسفي: روي: أن قريشا قالوا: يا محمد! اجعل لنا الصّفا ذهبا، ووسّع لنا أرض مكة، فنهوا أن يقترحوا عليه الآيات، كما اقترح قوم موسى عليه حين قالوا:{اِجْعَلْ لَنا إِلهاً} وهذا لا وجه له؛ لأنّ سورة البقرة مدنيّة بالإجماع، وسؤال قريش هذه الأسئلة مذكور في سورة الإسراء، وغيرها من السّور المكيّة.

{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ} أي: ومن يشتر الكفر بالإيمان، ويرضى بذلك. {فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} أي: فقد أخطأ الطّريق المستقيم إلى الجهل، والضلال، و {سَواءَ السَّبِيلِ:} وسطه، وانظر معانيه الكثيرة فيما تقدم، هذا؛ و {السَّبِيلِ:} الطريق، يذكر، ويؤنث، بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ومن التأنيث قوله تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ} والجمع على التأنيث: سبول، وعلى التذكير:

سبل بضمتين، و: سبل بضم فسكون. هذا؛ بالإضافة لما ذكرته في الآية رقم [26].

ص: 284

أقول: و «ضل» أكثر ما يستعمل بمعنى: كفر، وأشرك، وهو ضدّ: اهتدى، واستقام، ومصدره: الضّلال، ويأتي «ضلّ» بمعنى: غاب، كما في قوله تعالى:{وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} ويأتي بمعنى: خفي، يخفى، قال تعالى في سورة (طه) حكاية عن قول موسى لفرعون:{قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} رقم [52] وضلّ الشيء: ضاع، وهلك، وضل:

أخطأ في رأيه، ولولا هذا المعنى؛ لكفر أولاد يعقوب، بقولهم في حضرته:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وضلّ: تحيّر، وهو أقرب ما يفسر به قوله تعالى في سورة الضّحى:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} وأضل، يضلّ غيره من الرّباعي ومصدره: الإضلال، فهو متعدّ، والثلاثي لازم، ومصدره: الضّلال، وهو الخروج عن جادة الحق، والانحراف عن الصراط المستقيم، وينبغي أن تعلم: أنّ طريق الهدى واحدة، لا اعوجاج فيها، ولا التواء، وأمّا الضّلال؛ فطرقه كثيرة، ومتشعبة، قال تعالى في سورة (يونس) على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنّى تُصْرَفُونَ} رقم [32] وقال الشاعر الحكيم: [البسيط]

الطّرق شتّى وطرق الحقّ واحدة

والسّالكون طريق الحقّ أفراد

لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم

فهم على مهل يمشون قصّاد

والنّاس في غفلة عمّا يراد بهم

فجلّهم عن سبيل الحقّ رقّاد

الإعراب: {أَمْ:} حرف إضراب، أو هو حرف انتقال، وهي بمعنى: بل، وعليه فهي المنقطعة، لعدم تقدّم الاستفهام عليها. {تُرِيدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله.

{أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَسْئَلُوا:} فعل مضارع منصوب ب «أن» وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتّفريق. {رَسُولَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، و «أن» والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{تُرِيدُونَ} مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {سُئِلَ:} ماض مبني للمجهول.

{مُوسى:} نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المقصورة للتعذر. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل {سُئِلَ} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: {مُوسى} . {قَبْلُ} مبني على الضمّ لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، و (ما) المصدرية، والفعل {سُئِلَ} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: إن تسألوا سؤالا مثل سؤال قوم موسى. وهو قول أبي البقاء، وغيره في مثل هذا التّركيب. ومذهب سيبويه في مثله النصب على الحال من المصدر المفهوم من الفعل المتقدّم

ص: 285

على طريق الاتساع، فيكون التقدير: أن تسألوا رسولكم على مثل هذه الحالة؛ لأن حذف الموصول، وإبقاء الصّفة لا يجوز عند سيبويه إلا في مواضع معيّنة، وليس هذا منها.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مِنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَبَدَّلِ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى (من).

{الْكُفْرَ:} مفعول به. {بِالْإِيمانِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْكُفْرَ} أي: مقابلا، أو مستبدلا بالإيمان. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {ضَلَّ:} فعل ماض والفاعل يعود إلى (من) أيضا.

{سَواءَ:} مفعول به، وقال أبو البقاء: ظرف مكان، وهو مضاف، و {السَّبِيلِ} مضاف إليه، وخبر المبتدأ الذي هو:({مِنْ}) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [81] والجملة الاسمية:

{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاِصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}

الشرح: نزلت الآية الكريمة في نفر من اليهود، وذلك: أنّهم قالوا لحذيفة بن اليمان، وعمّار بن ياسر-رضي الله عنهم-بعد وقعة أحد: لو كنتم على حقّ ما هربتم، فارجعا إلى ديننا، فنحن أهدى سبيلا منكم، فقال عمار-رضي الله عنه: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا:

شديد. قال: إنّي عاهدت الله ألا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت! قالت اليهود: أما هذا فقد صبأ، وقال حذيفة-رضي الله عنه: أما أنا فقد رضيت بالله ربّا، وبمحمّد رسولا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا. ثمّ إنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك، فقال:«أصبتما الخير، وأفلحتما» . انتهى خازن.

{وَدَّ:} أحب، وتمنّى. {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً:} لو يصيرونكم كفارا مثلهم.

{حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ:} أي: من تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب، ولا أمروا به، ولكن حملتهم نفوسهم الخبيثة على ذلك.

{مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ:} يعني في التّوراة: أنّ قول محمد صلى الله عليه وسلم ودينه حقّ، لا يشكّون في أمره، لكن كفروا حسدا، وبغيا. هذا؛ والحسد نوعان: مذموم، وممدوح، فالمذموم: أن يتمنّى العبد زوال نعمة الله عن الناس، وسواء تمنّى أن يستفيد من تلك النعمة أم لا. وهذا النّوع

ص: 286

هو الذي ذمّه الله في كتابه في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم والحسد فإنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب» أو قال:

«العشب» . أخرجه أبو داود، وغيره عن أبي هريرة-رضي الله عنه، وانظر ما ذكرته في سورة (الفلق) وفي الآية رقم [54] من سورة (النّساء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} أي: اتركوهم، وأعرضوا عنهم، فلا تؤاخذوهم، وكان هذا الأمر بالعفو، والصّفح قبل أن يؤمر بالقتال، فنسخ ذلك بقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقوله جلّ ذكره: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ..} . وكذا قال أبو العالية، وقتادة، والسّدي: إنّها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضا قوله تعالى:{حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} أي: بعقابه، وبعذابه، وهو القتل، والسبي لبني قريظة، والإجلاء، والنّفي لبني النّضير. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو أمر الله بقتالهم. {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:}

انظر الآية رقم [106].

الإعراب: {وَدَّ كَثِيرٌ:} فعل، وفاعل. {مِنْ أَهْلِ:} متعلقان ب {كَثِيرٌ} أو بمحذوف صفة له، و {أَهْلِ} مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه. {لَوْ:} حرف مصدري.

{يَرُدُّونَكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وفاعله، ومفعوله الأول. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بما قبلهما، و {بَعْدِ} مضاف، و {إِيمانِكُمْ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {كُفّاراً:} مفعول به ثان، و {لَوْ} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به للفعل:{وَدَّ،} وبعضهم يعتبر {لَوْ} شرطية امتناعية، ويقدر لها جوابا كما يلي: لو يردونكم كفارا، لسروا، وفرحوا بذلك. والأوّل أقوى، وأتمّ معنى، كما اعتبر أبو البقاء:{كُفّاراً} حالا من كاف الخطاب، والمرجّح الأول.

{حَسَداً:} مفعول لأجله، والعامل فيه:{وَدَّ} . {مِنْ عِنْدِ} متعلقان ب {حَسَداً} أو بمحذوف صفة له، وجوز تعليقهما بالفعل:{وَدَّ،} والأول أقوى معنى وأتمّ سبكا، و {عِنْدِ} مضاف، و {أَنْفُسِهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل: {وَدَّ} .

{ما:} مصدرية. {تَبَيَّنَ:} فعل ماض. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{الْحَقُّ:} فاعل، و {ما} والفعل {تَبَيَّنَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه، التقدير: بعد تبيين الحق لهم، وجملة:{وَدَّ:} مستأنفة لا محل لها. {فَاعْفُوا:} الفاء: فيها أقوال، فبعضهم يعتبرها عاطفة جملة إنشائية على جملة خبرية، وابن هشام يعتبرها للسّببيّة المحضة، وأنا أعتبرها الفاء الفصيحة. (اعفوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتّفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا حصل من اليهود مثل هذه الأقوال؛ فاعفوا عنهم، واصفحوا. ومتعلّق الفعلين محذوف، التقدير: عنهم.

ص: 287

{حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَأْتِيَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى} . {اللهُ:} فاعله. {بِأَمْرِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. و «أن» المضمرة بعد {حَتّى} والفعل:{يَأْتِيَ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسم {إِنَّ} . {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}

الشرح: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ:} لمّا أمر الله المؤمنين بالعفو، والصفح عن اليهود؛ أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم من إقام الصّلاة، وإيتاء الزكاة الواجبتين، ونبّه بذلك على سائر الواجبات. {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} أي: من طاعة، وعمل صالح، وقيل: أراد بالخير: المال؛ يعني: صدقة التطوّع؛ لأن الزّكاة تقدّم ذكرها، وجاء في الحديث:«إنّ العبد إذا مات؛ قال النّاس: ما خلّف؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟» .

وخرّج البخاريّ، ومسلم عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أيّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله! ما منّا أحد إلا ماله أحبّ إليه!.

قال: «فإنّ ماله ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» .

وجاء عن عمر-رضي الله عنه: أنه مرّ ببقيع الغرقد، فقال: السّلام عليكم أهل القبور! أخبار ما عندنا؛ فإنّ نساءكم قد تزوّجت، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت، فأجابه هاتف: يا بن الخطاب! أخبار ما عندنا: ما قدّمناه؛ وجدناه، وما أنفقناه؛ فقد ربحناه، وما خلّفناه؛ فقد خسرناه. ولقد أحسن من قال:[الكامل]

قدّم لنفسك قبل موتك صالحا

واعمل فليس إلى الخلود سبيل

وقال آخر: [الكامل]

قدّم لنفسك توبة مرجوّة

قبل الممات وقبل حبس الألسن

وقال أبو العتاهية الصّوفي رحمه الله تعالى: [الوافر]

اسعد بمالك في حياتك إنّما

يبقى وراءك مصلح أو مفسد

ص: 288

فإذا تركت لمفسد لم يغنه

وأخو الصّلاح قليله يتزيد

وإن استطعت فكن لنفسك وارثا

إنّ المورّث نفسه لمسدّد

الإعراب: {وَأَقِيمُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والتي بعدها معطوفة عليها.

{الصَّلاةَ:} مفعول به {الزَّكاةَ:} مفعول به ل: ({آتُوا}). {وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدّم للفعل بعده. {تُقَدِّمُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِأَنْفُسِكُمْ:} متعلّقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ خَيْرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من ({ما})، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها. {تَجِدُوهُ:} فعل مضارع جواب الشرط

إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، والجملة الشرطية {وَما تُقَدِّمُوا..} . في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. وقيل: مستأنفة، والأول أقوى.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب {بَصِيرٌ} الآتي. و (ما) تحتمل الموصوفة، والمصدرية. {تَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد والرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو: بشيء تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بعملكم.

{بَصِيرٌ} خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . مستأنفة لا محلّ لها.

{وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111)}

الشرح: {وَقالُوا:} أي: اليهود، والنّصارى، وانظر الآية رقم [62]. {أَمانِيُّهُمْ:} جمع:

أمنية، وانظر الآية رقم [78]. {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكلّ عاقل يستطيع أن يحاجهم، ويقول لهم ذلك على سبيل التبكيت، والتقريع، والتأنيب. قال ابن هشام في قطر النّدى: وأما هات، وتعال؛ فعدّهما جماعة من النحويين في أسماء الأفعال. والصّواب: أنّهما فعلا أمر بدليل: أنّهما دالان على الطّلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، فتقول: هاتي، وتعالي. واعلم: أنّ آخر (هات) مكسورا أبدا إلا إذا كان لجماعة المذكرين؛ فإنه يضم، فنقول: هات يا زيد، وهاتي يا هند، وهاتيا يا زيدان، وهاتيا يا هندان، وهاتين يا هندات، كلّ ذلك بكسر التاء، وتقول:

هاتوا يا قوم، بضمها، قال تعالى:{قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ،} وأنّ آخر

ص: 289

«تعال» مفتوح في جميع أحواله من غير استثناء، تقول: تعال يا زيد، وتعالي يا هند، وتعاليا يا زيدان، وتعاليا يا هندان، وتعالوا يا زيدون، وتعالين يا هندات، كلّ ذلك بالفتح، قال الله تعالى: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ

،} وقال جلّ ذكره:{فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} . ومن ثمّ لحنوا أبا فراس الحمداني بقوله حيث كسر لام تعالي: [الطويل]

أيا جارتا ما أنصف الدّهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

وأقول: إنّ الفعلين (هات، وتعال) ملازمان للأمرية، فلا يأتي منهما فعل مضارع، ولا ماض، وهما بمعنى (احضروا، أو أحضروا) فالأول لازم، وهو من الثلاثي، والثاني متعدّ، وهو من الرباعي، وأما: تعالى، يتعالى فهما بمعنى: تعاظم، يتعاظم، أو بمعنى: تنزّه، يتنزه، وقل في إعلال «تعالوا» أصله: تعالووا، ثم تعاليوا، فحذفت الضمة التي على الياء للثقل، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وبقيت الواو؛ لأنها ضمير، وبقيت الفتحة على اللام لتدلّ على الألف المحذوفة.

الإعراب: {وَقالُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {وَدَّ..}. لا محلّ لها مثلها. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَدْخُلَ} فعل مضارع منصوب ب {لَنْ}. {الْجَنَّةَ:} ظرف مكان متعلّق بالفعل قبله، وانظر الآية رقم [58] ففيها الكفاية. {إِلاّ:} حرف حصر. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبني على السّكون في محل رفع فاعل {يَدْخُلَ،} {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر، تقديره:«هو» ، يعود إلى {مَنْ}. {هُوداً:} خبر: {كانَ} والجملة الفعلية صلة {مَنْ} أو صفتها، والعائد أو الرابط عود الضمير إليها. {أَوْ:} حرف عطف. {نَصارى:} معطوف على {هُوداً} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية صلة {مَنْ} أو صفتها، والعائد، أو الرابط عود الضمير إليها. {أَوْ:} حرف عطف. {نَصارى:} معطوف على {هُوداً} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{لَنْ يَدْخُلَ} في محل نصب مقول القول.

{تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَمانِيُّهُمْ:} خبر المبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معترضة بين الدّعوى، وطلب الدليل عليها. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» .

{هاتُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ} مستأنفة لا محل لها. {بُرْهانَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [91].

والشّرط وجوابه في محل نصب مقول القول.

ص: 290

{بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}

الشرح: {بَلى:} فيه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة، وانظر شرح {بَلى} في الآية رقم [81]. {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ:} انقاد لأوامره بكليته. وخصّ الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة، وفيه أكثر الحواس، ولأنه موضع السّجود، ومظهر آثار الخشوع، والخضوع، وفيه مظهر العزّ، والذّل، والسّرور، والغمّ، والهمّ، وغير ذلك، والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشّيء، قال الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} رقم [20] من سورة (آل عمران)، وإذا جاء العبد بوضع وجهه على الأرض في السّجود. فقد جاء بجميع أعضائه، قال زيد بن عمرو بن نفيل-وهو من المتحنّفين في الجاهلية-:[المتقارب]

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الأرض تحمل صخرا ثقالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا

يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلمت لطاعته الأرض، والمزن. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي:

في عمله، وله شرطان: أحدهما: أن يكون خالصا لله تعالى، والثاني: أن يكون صوابا موافقا للشّريعة؛ التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فمتى اختلّ شرط منهما؛ كان العمل غير مقبول قطعا. {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ:} ثوابه مدّخر عند ربه يوفيه إياه يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدّنيا، وليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة، وخوفها على المطيعين، إلا أنّه يخفّف عنهم، وإذا صاروا إلى رحمته؛ فكأنهم لم يخافوا. هذا؛ والحزن: ضدّ السرور، ولا يكون إلا على ماض، وحزن الرّجل، وأحزنه غيره، وحزّنه أيضا، مثل: سلكه، وأسلكه، قال اليزيدي: حزّنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما إلا في سورة (الأنبياء) فإنّه في الأولى فقط قوله تعالى:{لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} وهي أفصح اللّغتين.

الإعراب: {بَلى:} حرف جواب، تبتدأ بعده الجمل. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَسْلَمَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ} تقديره: هو. {وَجْهَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.

{لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَهُوَ مُحْسِنٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{أَسْلَمَ} المستتر، وهذه الحال مؤكدة؛ لأنّ من أسلم وجهه؛ فهو

ص: 291

محسن. والرابط: الواو، والضمير. {فَلَهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (له): متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {أَجْرُهُ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلّق بمحذوف خبر ثان، أي: ثابت، وبعضهم يعلقه بمحذوف حال من المبتدأ. وهو ضعيف يمنعه كثيرون. و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه كما بينته مرارا. هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، وجملة:{أَسْلَمَ وَجْهَهُ} صلته، والجملة الاسمية:{فَلَهُ أَجْرُهُ} في محل رفع خبره، ودخلت الفاء على خبره؛ لأن الموصول يشبه الشّرط في العموم.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية مهملة، ولا يجوز إعمالها إعمال «ليس» لأنها تكررت. {خَوْفٌ:} مبتدأ. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، ويجوز تعليقهما ب {خَوْفٌ} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، وعليهما فالخبر محذوف تقديره: حاصل، أو موجود، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جزم مثلها. {وَلا:} الواو:

حرف عطف. ({لا}): صلة لتأكيد النفي. {هُمْ:} مبتدأ، وجملة:{يَحْزَنُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. هذا؛ وقرأ جماعة:«ولا خوف» بفتح الفاء على اعتبار ({لا}) عاملة عمل «إنّ» لنفي الجنس، والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء؛ لأنّ الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرّفع؛ لأن ({لا}) لا تعمل في معرفة، فاختاروا في الأول الرفع أيضا؛ ليكون الكلام من وجه واحد.

ويجوز أن تكون: ({لا}) في قولك: {وَلا خَوْفٌ} بمعنى «ليس» . انتهى. قرطبي. أقول: وقد ذكرت لك: أنها إذا تكرّرت؛ أهملت، أي: لا تعمل عمل «ليس» . تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}

الشرح: {وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ} أي: كفر اليهود بعيسى، وقالوا: ليست النصارى على دين صحيح معتدّ به، فدينهم باطل. {وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ:}

المعنى واضح من أنّ كل طائفة كفّرت الأخرى، وهذا كان لمّا قدم وفد نجران من النّصارى المدينة، واجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن

ص: 292

حرملة للنّصارى: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى، والإنجيل. وقال رجل من أهل نجران لليهود: ما أنتم على شيء، وكفر بموسى، والتّوراة، فأنزل الله الآية الكريمة.

{وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ:} أي: إنّ كلاّ من اليهود، والنصارى يقرءون كتابهم، وفيه تصديق الكتاب الآخر، فاليهود قرءوا التّوراة، وفيها البشارة بعيسى، والإنجيل، والنّصارى قرءوا الإنجيل، وفيه تصديق التّوراة، والإيمان بموسى، على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} اختلف في هؤلاء، والمعتمد: أنهم هم المشركون، فقد كانوا ينفون جميع الأديان السماويّة، ولا يعترفون إلا بوثنيتهم العربيّة. {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ..}. أي: إنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل، الذي لا يجور فيه، ولا يظلم مثقال ذرة. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحجّ:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .

الإعراب: {وَقالَتِ:} الواو: حرف عطف. ({قالَتِ}): فعل ماض، والتاء تاء التأنيث حرف لا محل له. {الْيَهُودُ:} فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:({قالُوا..}.) في الآية رقم [111]. {لَيْسَتِ} فعل ماض ناقص، والتاء تاء التأنيث الساكنة. {النَّصارى} اسم (ليس) مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف المقصورة للتعذّر. {عَلى شَيْءٍ:} متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَتِ،} والجملة في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. ({هُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتْلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

والواو فاعله. {الْكِتابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، أو الجملة الاسمية في محل نصب حال من اليهود والنصارى، والرابط: الواو، والضمير.

{كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {قالَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} فاعله، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {مِثْلَ:} مفعول:

{قالَ} . وقيل: بدل من الكاف، وقال أبو البقاء: منصوب ب {يَعْلَمُونَ} والمعنى لا يؤيده، و {مِثْلَ} مضاف، و {قَوْلِهِمْ} مضاف إليه، وقيل: هو بدل من اسم الإشارة، وفيه بعد لا يخفى، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَاللهُ:} الفاء: حرف استئناف، ويجوز اعتبارها فصيحة. (الله): مبتدأ. {يَحْكُمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها مستأنفة. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر

ص: 293

بالإضافة. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {يَحْكُمُ} أيضا، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه.

{فِيما:} متعلقان بالفعل: {يَحْكُمُ} أيضا، ويجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (في). {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {يَخْتَلِفُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلا ب (في) التقدير: في الذي، أو: في شيء كانوا يختلفون فيه، والمصدرية ضعيفة كما ترى.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)}

الشرح: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ:} استفهام بمعنى النفي، أي: لا أحد أظلم ممن منع

إلخ.

هذا؛ والممنوع في الحقيقة إنّما هم الناس الّذين يريدون العبادة في المساجد. {أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي: بالتوحيد، والصلاة، والتّسبيح، وغير ذلك. {وَسَعى فِي خَرابِها} أي: بالهدم، وتعطيل إقامة الشعائر فيها.

وخراب المساجد يكون حقيقيّا، كتخريب بختنصر بيت المقدس، فغزا اليهود، وسباهم، وحرّق التوراة، كما سترى في سورة (الإسراء). ويكون مجازا لمنع المشركين المسلمين حين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية. وعلى الجملة: فتعطيل المساجد عن الصّلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها.

هذا؛ وجمع {مَساجِدَ اللهِ} وإن كان المراد واحدا، إمّا المسجد الحرام، وإما بيت المقدس؛ ليعمّ جميع مساجد الله في الدنيا في القديم، والجديد، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا: ومن أظلم ممّن آذى الصّالحين؟!.

{أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ:} هذا خبر معناه الطلب؛ أي: لا تمكّنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة، والجزية، ولهذا لمّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة؛ أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادي علي-رضي الله عنه-برحاب منى: ألا لا يحجّنّ، بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عريان، ومن كان له أجل؛ فأجله إلى مدّته.

ص: 294

وأما النصارى فإنّ بيت المقدس موضع حجّ النصارى، وزيارتهم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لم يدخلها بعد عمارتها روميّ، أو نصرانيّ إلا خائفا، إن علم به؛ قتل. وقيل:

أخيفوا بالجزية، والقتل، فالجزية على الذمّي، والقتل للحربيّ. وقيل: خوفهم هو فتح مدائنهم الثلاث: قسطنطينية، ورومية، وعمورية من قبل المسلمين.

{لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ:} هو الجزية على الذمّي، والقتل للحربيّ كما تقدّم. {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ:} هو الخلود في جهنم لهم، ولكل كافر معاند للحقّ.

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:} خبره. {مِمَّنْ:} متعلقان بأظلم. {مَنَعَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) تقديره: هو، والجملة الفعلية صلة ({مَنْ}) أو صفتها، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{مَساجِدَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {أَنْ يُذْكَرَ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ} والمصدر المؤول منهما، في محل نصب مفعول ثان ل {مَنَعَ،} أو هو مفعول لأجله على حذف مضاف، التقدير: كراهة أن يذكر، أو هو بدل من {مَساجِدَ اللهِ} أو هو على إسقاط حرف الجر، والأصل: من أن يذكر. ذكر الأوجه الأربعة سليمان الجمل نقلا عن السّمين بدون ترجيح. {فِيهَا:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{وَسَعى:} الواو: حرف عطف. ({سَعى}): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (من). {فِي خَرابِها:} متعلقان بالفعل ({سَعى}). و (ها) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{مَنَعَ} التي هي صلة (من) أو صفتها.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {ما:} حرف نفي. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَهُمْ:} متعلّقان بمحذوف في محل نصب خبر: {كانَ} مقدم. {يَدْخُلُوها:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} . وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله. و (ها): مفعوله، والمصدر من:{أَنْ يَدْخُلُوها:} في محل رفع اسم {كانَ} مؤخر. {إِلاّ} حرف حصر. {خائِفِينَ:} حال مستثنى من عموم الأحوال، التقدير:

ما كان لهم الدخول في جميع الأحوال إلا في حالة الخوف، وجملة:{ما كانَ..} . في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . مستأنفة لا محل لها.

{لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، ويجوز تعليقهما بالمصدر {خِزْيٌ} بعدهما، واعتبارهما متعلقين بمحذوف حال منه غير مسلّم.

{خِزْيٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، ولا يجوز اعتبارها حالا مثل {خائِفِينَ} لأن استحقاقهم الخزي ثابت في كلّ حال، لا في حال دخولهم المساجد خاصة.

والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق.

ص: 295

{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)}

الشرح: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ:} موضع الشّروق. {وَالْمَغْرِبُ:} موضع الغروب، أي: هما لله ملك، وما بينهما من الجهات، والمخلوقات بالإيجاد، والاختراع، وخصّهما بالذّكر، والإضافة إليه تشريفا، نحو بيت الله، وناقة الله. هذا؛ وفي سورة (الرّحمن) قوله:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي: مشرقي الشّتاء والصّيف، ومغربيهما، وقال تعالى في سورة (المعارج):{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنّا لَقادِرُونَ} فقد جمع المشرق، والمغرب كما ترى باعتبار مشارق الشمس، ومغاربها في السّنة، وهي ثلاثمائة وستون، تشرق الشمس كلّ يوم في واحد منها، وكذا تغرب في واحد منها.

هذا؛ وتقديم المشرق في جميع حالاته على المغرب يوحي بأفضليته عليه. هذا؛ وكان من حق المشرق والمغرب فتح العين، وهي الراء فيهما؛ لأن المصدر الميمي، واسمي الزمان، والمكان، إذا أخذ أحدهما من فعل ثلاثي، مفتوح العين، أو مضمومها في المضارع أن يكون بفتح العين قياسا، ولكن التلاوة جاءت بكسرها، وأيضا جاء كثير بكسر العين، وهو مذكور في كتب النّحو، من ذلك: المسجد، والمنبت، والمسقط، والمرفق، والمنخر، والمجزر.

والتّحقيق: أنّها أسماء نوعيّة، غير جارية على فعلها، وإلا؛ فلا مانع من الفتح.

{تُوَلُّوا:} تتّجهوا في صلاتكم، وقرأ الحسن:(«تولّوا») بفتح التاء، واللام، والأصل:

«تتولوا» . و (ثم) بفتح الثاء ظرف مكان بمعنى هناك، وانظر الآية رقم [56]. {وَجْهُ اللهِ:} جهته التي ارتضاها قبلة، وأمر بالتوجّه إليها، وقال الحذاق من علماء القرآن والسنة: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام؛ إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشّاهد، وأجلها قدرا، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الوجه: عبارة عنه عز وجل، كما قال:

{وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} وقيل: الوجه القصد، كما قال الشاعر:[البسيط]

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

هذا؛ واختلف في المعنى الذي أنزلت فيه الآية على ثلاثة أقوال:

الأول: أن الرّسول صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة المنوّرة؛ أمر بالتوجّه إلى بيت المقدس في صلاته ستة عشر، أو سبعة عشر شهرا، ثمّ صرفه الله إلى الكعبة، ولهذا يقول تعالى:{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} . عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان أوّل ما نسخ من القرآن القبلة، وانظر الآية رقم [144] الآتية؛ ففيها البحث كاف واف.

الثاني: قال قوم: بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنا من الله تعالى أن يصلّي المتطوع حيث توجه من شرق، أو غرب في سفره؛ لما روي عن ابن عمر-رضي الله عنهما:

أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأوّل هذه الآية:{فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} .

ص: 296

القول الثالث: قال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة، فلم يعرفوا شطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة؛ لما روي عن عامر بن ربيعة عن أبيه-رضي الله عنه-قال:

كنا في ليلة سوداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلنا منزلا، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير قبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة، فأنزل الله عز وجل:{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ..} ..

هذا وقال ابن جرير: ويحتمل: فأينما تولوا في دعائكم لي؛ فهنالك وجهي أستجب لكم دعاءكم. {إِنَّ اللهَ واسِعٌ} يسع خلقه كلهم بالكفاية، والرزق، والجود، والعطاء، وهو واسع الفضل، والرّحمة. وقيل: واسع القدرة، والرزق. وقيل: هو الغني؛ الذي وسع جميع مخلوقاته غناه. {عَلِيمٌ:} بأفعالهم ما يغيب منها شيء، قال تعالى:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} .

مسألة تتعلّق بحكم الآية، وهي: أن المسافر إذا كان في مفازة، أو بلاد الشّرك، واشتبهت عليه القبلة، فإنّه يجتهد في طلبها بنوع من الدلائل، ويصلي إلى الجهة التي أدّى إليها اجتهاده، ولا إعادة عليه، وإن لم يصادف القبلة، فإنّ جهة الاجتهاد قبلته، وكذا الغريق في البحر إذا بقي على اللّوح، فإنه يصلي على حسب حاله، وتصحّ صلاته، وكذا المشدود على جذع شجرة، ونحوها، بحيث لا يمكنه الاستقبال، والله أعلم.

الإعراب: {وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. ({لِلّهِ}): متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {الْمَشْرِقُ:}

مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَالْمَغْرِبُ:} معطوف على ما قبله.

{فَأَيْنَما:} الفاء: حرف عطف وتفريع أو هي الفصيحة. (أينما): اسم شرط جازم مبني على السكون. ويقال: مبني على الفتح، و (ما): زائدة، وهو في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بالفعل بعده. وقيل: متعلق بجوابه، والأول أصح. {تُوَلُّوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، أو هي في محل جر بإضافة:(أينما) إليها على اعتبارها متعلقة بالجواب. {فَثَمَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ثمّ): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، وقد بني على الفتح لتضمنه معنى الإشارة، وقيل: لتضمنه معنى حرف الخطاب. {وَجْهُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {لِلّهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، والشرط ومدخوله كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ} مستأنفة لا محل لها.

{وَقالُوا اِتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)}

الشرح: {وَقالُوا:} أي: اليهود، والنّصارى، ومن زعم: أنّ الملائكة بنات الله، وهم العرب. {اِتَّخَذَ اللهُ وَلَداً:} فقد أخرج البخاري عن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم

ص: 297

قال: «قال الله تعالى: كذّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيّاي؛ فزعم أنّي لا أقدر على إعادته كما كان، وأما شتمه إيّاي، فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتّخذ صاحبة وولدا» . سبحانه! انظر الآية رقم [32].

{لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: ملكا، وخلقا، وعبيدا، والملكية تنافي الولادة. هو سبحانه المتصرّف في خلقه، وهو خالقهم، ورازقهم، ومسخّرهم، ومسيّرهم، ومصرّفهم كما يشاء، والجميع عبيد له، وملك له، فكيف يكون له ولد منهم؛ والولد إنّما يكون من شيئين متناسبين، والله تبارك وتعالى ليس له نظير، لا مشارك له في عظمته، وكبريائه!.

هذا؛ وعبّر سبحانه ب ({ما}) تغليبا لما لا يعقل على من يعقل، كما غلّب في آيات كثيرة من يعقل على ما لا يعقل. {كُلٌّ} أي: كلّ ما فيها، فالتنوين عوض من المضاف إليه. {قانِتُونَ:} مطيعون، منقادون مذلّلون، مسخّرون، المسلمون، والكافرون، والصّالحون، والفاسدون، فالأوّلون بالعبادة، والطاعة، والإنابة، والكافرون مسخّرون لأوامره، وتنفيذ قضائه عليهم في الدنيا، وفي الآخرة محاسبون، ومجزيون على كفرهم، وفسوقهم بالعذاب الأليم، والعقاب الشديد. وأيضا فيه تغليب من يعقل على ما لا يعقل؛ حيث جمع بالواو والنون جمع المذكر السالم.

الإعراب: {وَقالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

({قالَتِ الْيَهُودُ}) في الآية رقم [113]، وقيل: معطوفة على جملة: {وَمَنْ أَظْلَمُ،} وقرئ بدون واو، فتكون مستأنفة. {اِتَّخَذَ اللهُ وَلَداً:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {سُبْحانَهُ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو لمفعوله فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف معترضة لا محل لها من الإعراب.

{بَلْ:} حرف إضراب تبتدأ بعده الجمل. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم غير متعلقة بكلام سابق. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة {ما} . {وَالْأَرْضِ:}

معطوف على ما قبله. {كُلٌّ:} مبتدأ، {لَهُ:} متعلقان ب {قانِتُونَ} بعدهما. {قانِتُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المستتر في الصلة المقدرة، وهذه الحال مؤكّدة لمضمون الجملة الاسمية فيها.

{بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}

الشرح: {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} منشئهما، وموجدهما، ومبدعهما، ومخترعهما على غير حدّ، ولا مثال سبق، قال تعالى في سورة (الأنعام):{بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ}

ص: 298

{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . {وَإِذا قَضى أَمْراً:} أي: إذا أراد إحكامه، وإتقانه كما سبق في علمه؛ فإنما يقول له: كن فيكون، احدث، فيحدث، وليس المراد حقيقة أمر، بل هو تمثيل ما تعلّقت به إرادته تعالى بلا مهلة بطاعة المأمور، والمطيع بلا توقّف. انتهى بيضاوي. قال الشاعر:[الطويل]

إذا ما أراد الله أمرا فإنّما

يقول-له التنزيه-كن فيكون

تنبيه: قال الشيخ أبو منصور-رحمه الله تعالى-القضاء يحتمل الحكم، كقوله تعالى:

{لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} أي: ليحكم ما قد علم: أنه يكون كائنا، أو ليتم أمرا كان قد أراده، وما أراد كونه فهو مفعول لا محالة، انتهى. هذا؛ والماضي:«قضى» والمصدر «قضاء» بالمد؛ لأن لام الفعل ياء؛ إذ أصل ماضيه: «قضي» بفتح الياء، فقلبت ألفا لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ومصدره:«قضيا» بالتّحريك كطلب طلبا، فتحركت الياء فيه أيضا، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فاجتمع ألفان، فأبدلت الثانية همزة، فصار: قضاء ممدودا، وجمع القضاء: أقضية، كعطاء، وأعطية، وهو في الأصل: إحكام الشيء، وإمضاؤه، والفراغ منه، كما في قول الشاعر، وهو الشّاهد رقم [179] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الخفيف]

وجهك البدر لا بل الشّمس لو لم

يقض للشّمس كسفة أو أفول

وقال الشمّاخ في عمر-رضي الله عنه: [الطويل]

قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها

بوائق في أكمامها لم تفتق

ويكون بمعنى الأمر، كما في قوله تعالى:{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} .

وبمعنى العلم، تقول: قضيت بكذا، أي: أعلمتك به، وبمعنى الإتمام، قال تعالى:{فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} . وبمعنى الفعل، قال تعالى، حكاية عن قول السّحرة لفرعون:{فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ} وبمعنى الإرادة، وهو كثير كقوله تعالى:{فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وبمعنى الموت، كقوله تعالى حكاية عن قول أهل النّار:{وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} . وبمعنى الكتابة، قال تعالى:{وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} أي: مكتوبا في اللّوح المحفوظ. وبمعنى الفصل، قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . وبمعنى الخلق، كقوله تعالى:{فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} . وبمعنى بلوغ المراد، والأرب، قال تعالى:{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} .

وبمعنى وفاء الدّين تقول: قضى فلان ما عليه إذا ما أوفى ذمته، وأبرأها مما عليه من ديون.

انتهى قسطلاني في شرح البخاري، بتصرف. أضيف: أنه يكون بمعنى: أوحينا، كقوله تعالى:

{وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ} .

قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني؛ فلا يجوز إطلاق القول بأنّ المعاصي بقضاء الله تعالى؛ لأنّه إن أريد به الأمر؛ فلا خلاف: أنه لا يجوز ذلك؛

ص: 299

لأن الله تعالى لا يأمر بها، فإنّه لا يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن البصريّ، فقال: إنّه طلق امرأته ثلاثا، فقال: إنّك قد عصيت ربك، وبانت منك. فقال الرّجل:

قضى الله عليّ، فقال الحسن، وكان فصيحا، ما قضى الله ذلك؛ أي: ما أمر الله به، وقرأ قوله تعالى:{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ} .

هذا؛ و ({الْأَمْرُ}): واحد الأمور، وليس بمصدر: أمر، يأمر، قال العلماء: والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجها: الأول: الدّين، قال تعالى:{حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ} أي: دين الإسلام. الثّاني: القول، ومنه قوله تعالى:{فَإِذا جاءَ أَمْرُنا} يعني: قولنا، وقوله تعالى:{فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ} يعني قولهم. الثالث: العذاب، ومنه قوله تعالى:{لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ} يعني: لما وجب العذاب بأهل النار. الرابع: عيسى عليه السلام، قال الله تعالى:{فَإِذا قَضى أَمْراً} يعني: عيسى، وكان في علمه تعالى أن يكون من غير أب. الخامس: القتل ببدر، قال تعالى:{فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ} يعني: القتل ببدر، وقوله تعالى:{لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} يعني: قتل أهل مكة. السادس: فتح مكة، قال تعالى:{فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} يعني:

فتح مكة. السّابع: قتل قريظة، وجلاء النضير، قال تعالى:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} . الثامن: القيامة، قال الله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ} . التاسع: القضاء، قال الله تعالى:

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يعني: القضاء. العاشر: الوحي، قال الله تعالى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ} يقول: ينزل الوحي من السماء إلى الأرض. وقوله تعالى: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} يعني:

الوحي. الحادي عشر: أمر الخلق، قال تعالى:{أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} يعني: أمور الخلائق. الثاني عشر: النصر، قال تعالى:{يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} يعنون النصر.

الثالث عشر: الذّنب، قال تعالى:{فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها} أي: جزاء ذنبها. الرابع عشر: الشأن، والفعل، قال تعالى:{وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: فعله، وشأنه، وقال جلّ شأنه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: فعله، وقوله. انتهى قرطبي.

الإعراب: {بَدِيعُ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو بديع، والجملة الاسمية معترضة بين الكلام السابق، واللاحق لا محل لها. هذا؛ وقرئ بجر («بديع») على أنه بدل من الضمير في ({لَهُ}) على مذهب الكسائي، والمحققون لا يجيزون إبدال ظاهر من الضمير، وقرئ بنصبه على: أنه منصوب على المدح بفعل محذوف، و {بَدِيعُ:} مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لمفعولها، وفاعلها ضمير مستتر تقديره: هو، أو هو اسم فاعل، كما رأيت في الشرح، وهو أولى. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على سابقه. {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. ({إِذا}):

ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على

ص: 300

السكون في محل نصب. {قَضى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى «الله» تقديره: هو.

{أَمْراً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على القول المرجوح وهو المشهور. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب ({إِذا})، (إنما) كافة ومكفوفة. {يَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره: هو. {لَهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كُنْ:} فعل أمر تام، وفاعله ضمير مستتر تقديره: أنت، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُ} جواب ({إِذا}) لا محل لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام معطوف على ما في الآية رقم [115].

{فَيَكُونُ:} الفاء: حرف عطف. (يكون): فعل مضارع تام، وفاعله مستتر تقديره: هو، يعود إلى {أَمْراً} والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو يكون، والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها، وهذا القول يعزى لسيبويه. وقيل: إنّ (يكون) معطوف على: {يَقُولُ} وهذا يعزى للزّجاج، والطبريّ، وقيل: هو معطوف على {كُنْ} من حيث المعنى، وهو قول الفارسيّ، انتهى سليمان الجمل. هذا؛ وقرأ ابن عامر بالنصب على أنّ الفعل منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء السببية، وضعفه أبو البقاء.

وأقول: لا يمكن سبك مصدر من المضمر، والفعل، وعطفه على مصدر متصيّد من الفعل السابق؛ إذ لا يقال: ليكن حدوث، فحدوث.

{وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}

الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هم اليهود. قال مجاهد: هم النصارى، ورجّحه الطّبريّ. وقال الربيع، والسّدي، وقتادة: هم مشركو العرب، {لَوْلا:} هلا {يُكَلِّمُنَا اللهُ} أي: يقول لنا: إنّك رسول الله. {أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ:} دلالة واضحة تدلّ على صدقك في دعواك النبوة، والرسالة. {كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ:} اليهود والنصارى في قول من جعل الذين لا يعلمون كفار العرب، أو الأمم السالفة في قول: من جعل الذين لا يعلمون اليهود والنصارى، أو اليهود في قول من جعل الذين لا يعلمون النّصارى.

{تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ:} في الكفر، وترك الإيمان، والتعنيت، والاقتراح، وهو مثل قوله تعالى في الآية رقم [113]:{كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ} أي: الدّلالات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: إنّ آيات القرآن، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات الباهرات كافية لمن كان طالبا لليقين. وإنّما خصّ أهل الإيقان بالذكر؛ لأنهم هم أهل التثبّت في الأمور، ومعرفة الأشياء على يقين. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 301

الإعراب: ({قالَ}): فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف صلة الموصول لا محل لها، وجملة:({قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}): مستأنفة لا محل لها؛ لأنّ الكلام مستأنف لحكاية نوع آخر من قبائح اليهود، والنّصارى. {لَوْلا:} حرف تحضيض. {يُكَلِّمُنَا:} فعل مضارع، و (نا) مفعوله. {اللهُ:}

فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {أَوْ:} حرف عطف. {تَأْتِينا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، و (نا) مفعول به. {آيَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.

{كَذلِكَ:} الكاف حرف تشبيه وجر. (وذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير:

قال الذين من قبلهم قولا كائنا مثل قولهم، أو مثل ذلك القول، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، {مِثْلَ:} مفعول به ل {قالَ،} وهي قائمة مقام كلام كثير، كما رأيت في الشرح، فلذا صح أن تكون مفعول به ل {قالَ؛} لأنها لا تنصب إلا الجمل، أو ما يقوم مقامها. و {مِثْلَ:} مضاف، و {قَوْلِهِمْ:} مضاف إليه. والهاء: في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، {تَشابَهَتْ:}

فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {قُلُوبُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرابط الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {بَيَّنَّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، المراد منها بيان: أنّ الله لم يترك شيئا بدون توضيح، وتبيين. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بما قبلهما. والجملة الفعلية بعده في محل جر صفة ل (قوم).

{الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم.

{إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)}

الشرح: الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. {إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً:} مبشرا لأهل الطاعة بالثّواب العظيم، والأجر الجزيل، والدّخول في دار النعيم. {وَنَذِيراً:} لأهل المعاصي والفساد من غضب الله، وعقابه. {وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ} أي: أنت لست مسئولا عمّن لم يؤمن منهم، بعد أن بذلت الجهد في دعوتهم إلى الإيمان، وقرئ الفعل بقراآت كثيرة، ومنها قراءة بالجزم على النّهي. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي» . فنزلت هذه الآية. والمعنى: إنا أرسلناك بالحق لتبليغ ما أرسلت به، فإنّما عليك البلاغ، ولست مسئولا عمّن كفر، وهذا ينفي القول بأنّ الله

ص: 302

أحيا أبوي النّبي صلى الله عليه وسلم. والقول الفصل بأنّ أبويه صلى الله عليه وسلم ناجيان مع أهل الفترة كما ذكرته في سورة (الإسراء)، وهما في الجنّة وجميع أجداده، وجدّاته، إن شاء الله تعالى.

الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا) اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَرْسَلْناكَ:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من كاف الخطاب، أي: متلبسا بالحقّ. {بَشِيراً:} حال أيضا. {وَنَذِيراً:} معطوف على ما قبله. {وَلا:} الواو:

حرف عطف. ({لا}): نافية، {تُسْئَلُ:} مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل تقديره: أنت، والجملة الفعلية معطوفة على:{بَشِيراً وَنَذِيراً،} فهي في محل نصب حال أيضا. {عَنْ أَصْحابِ:}

متعلقان بما قبلهما. و {أَصْحابِ:} مضاف، و {الْجَحِيمِ} مضاف إليه.

{وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)}

الشرح: {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ

:} في هذا الكلام تيئيس، وتقنيط للرّسول صلى الله عليه وسلم من إسلام اليهود، والنّصارى، فإنهم إذا كانوا لم يرضوا حتى يتبع ملتهم، فكيف يسلمون؟!.

هذا؛ والملّة بكسر الميم: الطريقة، والشريعة، والدّيانة، وهي بفتح الميم: الرّماد الحار، وقد تمسّك بهذه الآية جماعة من العلماء، منهم أبو حنيفة، والشافعي على أنّ الكفر ملّة واحدة، لقوله تعالى:{مِلَّتَهُمْ} فوحّد الملّة، وبقوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر» . وذهب مالك، وأحمد إلى أنّ الكفر ملل، فلا يرث اليهوديّ النّصرانيّ، ولا يرثان المجوسيّ، والعكس كذلك، أخذا بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يتوارث أهل ملّتين» . وأما قوله تعالى:

{مِلَّتَهُمْ} فالمراد: الكثرة، وإن كانت موحدة في اللفظ بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة، كما تقول:

أخذت عن علماء المدينة علمهم، وسمعت عنهم حديثهم، يعني: علومهم، وأحاديثهم. قرطبي.

{قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى} أي: ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدّعيه هؤلاء، والمراد دين الإسلام، الذي ارتضاه الله لنفسه، وللناس أجمعين، حيث قال تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} .

{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ:} في هذا الخطاب وجهان: أحدهما: أنه للرّسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الفرض، والتقدير؛ أي: إن حصل منك ذلك. والثاني: أنّه للرسول، والمراد أمّته، وفيه تأديب لهم، وتهذيب لهم. وسبب نزول الآية: أن علماء اليهود، والنّصارى،

ص: 303

كانوا يسألون المسالمة، والهدنة، ويعدون الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام، فأعلمه الله: أنّهم لن يرضوا عنه حتى يتّبع ملتهم، وأمره بجهادهم.

الإعراب: {وَلَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({لَنْ}): حرف نفي، ونصب، واستقبال.

{تَرْضى:} فعل مضارع منصوب ب ({لَنْ}) علامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {عَنْكَ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْيَهُودُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي. {النَّصارى:} معطوف على:

{الْيَهُودُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذّر. {حَتّى:} حرف غاية وجر؛ بعدها «أن» مضمرة. {تَتَّبِعَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد حتّى، والفاعل تقديره:

أنت، و «أن» المضمرة، والفعل:{تَتَّبِعَ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل: {تَرْضى} . {مِلَّتَهُمْ} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هُدَى:}

اسمها منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، و {هُدَى} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْهُدى:} خبره مرفوع.. ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير توكيدا لاسم {إِنَّ} على المحل كما يجوز اعتباره ضمير فصل، وعليهما فخبر {إِنَّ} هو {الْهُدى،} وجملة: {قُلْ..} . مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها.

{وَلَئِنِ} الواو حرف استئناف، واللام موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم.

{اِتَّبَعْتَ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{أَهْواءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. و {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ} مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة.

{جاءَكَ:} فعل ماض، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة صلة الموصول لا محل لها. {مِنَ الْعِلْمِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر العائد إلى الموصول، و {مِنَ} بيان لما أبهم فيه. {ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [107] وهي هنا جملة اسمية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المدلول عليه باللام، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم، فالجواب للسّابق منهما» . قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والكلام: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ..} . مستأنف لا محل له.

ص: 304

{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)}

الشرح: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ:} قال قتادة-رحمه الله تعالى-: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والكتاب على هذا التأويل: القرآن، وقال ابن زيد-رحمه الله تعالى-: هم من أسلم من بني إسرائيل، والكتاب: على هذا التأويل: التوراة، والآية تعمّ. انتهى قرطبي. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في أهل السفينة الّذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب، وكانوا أربعين رجلا: اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية من رهبان الشام، منهم بحيرا الرّاهب. انتهى.

خازن. وهو غير مسلم قطعا، وهل عاش بحيرا الراهب إلى زمن رجوع جعفر من الحبشة؟ وما الذي ذهب به إلى الحبشة، ثمّ أتى إلى الشام؟.

{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} أي: يقرءونه كما أنزل، لا يغيّرونه، ولا يحرفونه، ولا يبدلون ما فيه من نعت الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه: يتبعونه حقّ اتباعه، فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويقفون عنده، ويكلون علمه إلى الله تعالى. وقيل:

معناه: تدبّروه حقّ تدبره، وتفكّروا في معانيه، وحقائقه.

{أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: الذين يتلونه حق تلاوته يصدّقون به. فإن قلنا: إنّ الآية نزلت في أهل الكتاب؛ فيكون المعنى: إنّ المؤمن بالتوراة الذي يتلوها حقّ تلاوتها هو المؤمن بمحمّد صلى الله عليه وسلم، لأنّ في التوراة نعته، وصفته، وإن قلنا: إنّها نزلت في المؤمنين عامة؛ فظاهر. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ:} يجحد ما فيه من فرائض الله، ونبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم. {فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} أي: خسروا أنفسهم؛ حيث استبدلوا الكفر بالإيمان.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آتَيْناهُمُ:} فعل وفاعل ومفعول به أول، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان. {يَتْلُونَهُ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من المفعول الأول، أو المفعول الثاني. وقيل: في محل رفع خبر المبتدأ، {حَقَّ:} مفعول مطلق.

ويقال: نائب مفعول مطلق، و {حَقَّ} مضاف، و {تِلاوَتِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جرّ بالإضافة.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ

ص: 305

على اعتبار جملة ({يَتْلُونَهُ}) حالا، أو في محل رفع خبر ثان له على اعتبار الجملة الفعلية الأولى خبرا أولا، وقيل: مستأنفة، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . مستأنفة لا محل لها. {وَمَنْ:}

الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{يَكْفُرْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) تقديره: هو. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): مبتدأ. {هُمُ:}

ضمير فصل لا محل له. {الْخاسِرُونَ:} خبر المبتدأ. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ ثانيا، والخاسرون خبر عنه؛ فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشّرط، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا.

والجملة الاسمية: {وَمَنْ..} . مستأنفة لا محل لها.

{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122)}

انظر الآية رقم [47] لشرح هذه الآية وإعرابها. قال البيضاوي: لمّا صدّر قصتهم بالأمر بذكر النّعم، والقيام بحقوقها، والحذر من إضاعتها، والخوف من السّاعة، وأهوالها؛ كرّر ذلك، وختم به الكلام معهم مبالغة في النّصح، وإيذانا بأنه فذلكة القصّة، والمقصود من القصّة، انتهى.

{وَاِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}

انظر الآية رقم [48] لشرح هذه الآية وإعرابها، وقال الخازن: وفي هذه الآية عظة لليهود الذين كانوا في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم. وكرّرها في أول السّورة، وهنا للتّوكيد، وتذكير النّعم. انتهى.

{وَإِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (124)}

الشرح: {وَإِذِ ابْتَلى:} قال ابن كيسان: ويقال: أبلاه، وبلاه في الخير والشرّ، وأنشد قول زهير في ممدوحيه: هرم بن سنان، والحارث بن عوف المرّيين:[الطويل]

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم

وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو

فجمع بين اللّغتين. وقيل: الأكثر في الخير: أبليته، وفي الشرّ: بلوته، وفي الاختبار:

ابتليته، وبلوته. قاله النّحاس، والابتلاء في الأصل: الشّيء الشاقّ. والابتلاء يكون في الخير،

ص: 306

والشرّ، وقال تعالى في حقّ بني إسرائيل:{وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} وأصل الابتلاء: الامتحان، والاختبار؛ ليظهر للناس حال الإنسان، والله تعالى عالم بحال الإنسان من الأزل إلى الأبد، فالمراد: أنه عامله معاملة المختبر؛ ليظهر ذلك للخلق.

هذا؛ ولقد اختلف في الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فقال عكرمة: عن ابن عبّاس-رضي الله عنهما: هي ثلاثون من شرائع الإسلام:

عشر في (براءة): {التّائِبُونَ الْعابِدُونَ} الآية رقم [112]، وعشر في (الأحزاب):{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ..} .

إلخ الآية رقم [35] وعشر في (المؤمنون): {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ..} .. وقال طاوس-رحمه الله تعالى -عن ابن عباس-رضي الله عنهما: ابتلاه الله بعشرة أشياء هي الفطرة: خمس في الرأس الشّامل للوجه: قصّ الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وخمس في الجسد: تقليم الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، والاستنجاء بالماء. وإنّي أعتمد هذا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

وفي الصّحيحين عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الفطرة خمس:

الختان، والاستحداد، وقصّ الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط». وفي الخبر: أنّ إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب، وأول من اختتن، وكان عمره ثمانين سنة، في رواية ثانية:

مائة وعشرين سنة، وهو أول من قلّم الأظفار، وأوّل من رأى الشيب، فلمّا رآه؛ قال: يا ربّ، ما هذا؟ قال: الوقار، قال: يا ربّ زدني وقارا. {فَأَتَمَّهُنَّ:} قام بهن على الوجه الأكمل. {قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً:} قدوة في الخير، فالمعنى: جاعلك للناس إماما يأتمّون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصّالحون، فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته، فكذلك اجتمعت الأمم على الدّعوى فيه. هذا؛ والإمام: الطريق. والكتاب: إمام. قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} . ولا تنس دعوة عباد الرحمن في سورة (الفرقان): {وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً} فعلم:

أنّ المراد من الإمامة في الآية الكريمة الإمامة في الدّين، والطاعة، والعبادة، ولو كانت الإمامة الدّنيوية؛ لخالف ذلك الواقع؛ إذ نالها كثير من الظالمين.

{قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي:} أي: نسلي، وعقبي، وهي تقع على الجمع كما هنا، وكما في قوله تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً} . وتقع على الواحد، كما في قوله تعالى حكاية عن قول زكريا عليه الصلاة والسلام:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} قيل: هي مشتقة من الذّرا بفتح الذال، وهي كل ما استذريت به، يقال: أنا في ظلّ فلان، وفي ذراه، أي: في كنفه، وستره، وتحت حمايته، وهو بضم الذّال: أعلى الشيء. وقيل: مشتقة من الذّرء، وهو الخلق، قال تعالى:{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وقال تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} .

ص: 307

{قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ:} المراد بالعهد: النّبوة، والإمامة، والقدوة الحسنة. هذا؛ وقرئ:(«الظالمون») والمعنى لا يتغيّر؛ لأن من نالك؛ فقد نلته، ومن نلته؛ فقد نالك.

هذا؛ و ({إِبْراهِيمَ}) اسم عجمي، ومعناه: أب رحيم، وهو إبراهيم بن تارخ، وهو آزر بن ناخور ابن شاروع، بن أرغو بن فالغ، بن عابر، بن شالح، بن أرفحشد بن سام بن نوح عليه السلام، وقد ولد بحرّان من أرض العراق، ولكن نقله أبوه إلى أرض بابل، وهي أرض نمرود الجبّار، وإبراهيم- على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-يعترف بفضله جميع الطوائف البشرية قديما، وحديثا، فأمّا اليهود، والنّصارى؛ فإنّهم مقرّون بفضله، ويتشرفون بالانتساب إليه، وأنهم أولاده، وأمّا العرب في الجاهلية؛ فإنهم يعترفون أيضا بفضله، ويتشرفون بالانتساب إليه أيضا؛ لأنهم أولاده.

ومن ساكني حرمه، وخدّام بيته. ولمّا جاء الإسلام؛ زاده الله شرفا، وفضلا.

هذا؛ ومناسبة الآية والتي بعدها لما قبلها: أنّ الله تعالى لما ذكر في الآيات السابقة نعمه على بني إسرائيل، وبيّن كيف كانوا يقابلون النّعم بالكفر، والعناد، ويأتون المنكرات في الأقوال، والأعمال؛ وصل حديثهم بقصّة إبراهيم أبي الأنبياء الّذي يزعم اليهود، والنصارى انتماءهم إليه، ويقرّون بفضله وشرفه، ولو كانوا صادقين؛ لوجب عليهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ودخولهم في دينه القويم؛ لأنه أثر دعوة إبراهيم الخليل حين دعا لأهل الحرم، ثم هو من ولد إسماعيل عليه السلام، فكانوا أولى بالاتباع، والتمسّك بشريعته الحنيفية السّمحة التي هي شريعة إبراهيم على نبينا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {وَإِذِ:} الواو: حرف عطف؛ إذا كان الكلام موجها إلى اليهود، وحرف استئناف؛ إذا كان موجها للنّبي صلى الله عليه وسلم. ({إِذِ}): ظرف لما مضى من الزمان متعلّق بفعل محذوف، تقديره: اذكروا، أو: اذكر حسب المراد من الكلام، كما ترى، مبني على السكون في محل نصب. وقيل: هو في محل نصب مفعول به للفعل المقدّر، وانظر الشرح والإعراب في الآية رقم [30]. {اِبْتَلى:} فعل ماض. {إِبْراهِيمَ:} مفعول به، وهو واجب على التقديم على الفاعل هنا عند جمهور النّحاة؛ لأنه متى اتصل بالفاعل ضمير يعود إلى المفعول وجب تقديمه لئلا يعود الضّمير على متأخر لفظا، ورتبة. {رَبُّهُ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذِ}) إليها. هذا؛ وقرئ برفع («إبراهيم») ونصب («ربّه») على أنه دعا ربّه، وهي قراءة شاذة قراءة وعربيّة لعود الضمير حينئذ على متقدم لفظا ورتبة، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

وشاع نحو خاف ربّه عمر

وشذّ نحو زان نوره الشّجر

فالشّطر الأول للقراءة الأولى، وهي سبعية، والشّطر الثاني للقراءة الثانية الشّاذة، انظر الشاهد رقم [308] وما بعده من كتابنا:«فتح ربّ البرية» ؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

ص: 308

{بِكَلِماتٍ:} متعلقان بما قبلهما. (أتمّهن): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {إِبْراهِيمَ} والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جرّ مثلها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{رَبُّهُ،} {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه. {جاعِلُكَ:} خبر: (إنّ) والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله الأوّل، وفاعله مستتر فيه، تقديره: أنا. {لِلنّاسِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {إِماماً} كان صفة له، فلمّا قدّم عليه؛ صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» .

وهذا أقوى من تعليقهما ب (جاعل). {إِماماً:} مفعول به ثان ل (جاعل). وجملة: {إِنِّي..} .

إلخ: في محل نصب مقول القول، وجملة: {قالَ إِنِّي

:} مستأنفة لا محل لها.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{إِبْراهِيمَ} . {وَمِنْ:} الواو: حرف عطف. ({مِنْ ذُرِّيَّتِي}): متعلقان بفعل محذوف، تقديره: اجعل من بعض ذريتي إماما، وهذا كعطف التلقين، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيدا؛ أي: أكرم زيدا، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. ولا تنس أنّ الجار والمجرور في محل نصب مفعول به أوّل، والمفعول الثاني محذوف؛ إذ التقدير: اجعل بعض ذريتي إماما، وقدّره أبو البقاء: اجعل فريقا من ذريتي إماما، والفعل المقدّر، ومفعولاه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ:} مستأنفة لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدّر، كالجملة السابقة، واللاحقة. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {لا:} نافية. {يَنالُ:} فعل مضارع. {عَهْدِي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلّم

إلخ. {الظّالِمِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء، وعلى قراءته بالواو فيكون فاعلا، و {عَهْدِي} مفعولا به، وجملة:{لا يَنالُ..} . في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . مستأنفة لا محل لها.

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}

الشرح: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ:} اسم غالب للكعبة، كالنّجم للثّريا. {مَثابَةً لِلنّاسِ:} أي:

مرجعا، يقال: ثاب، يثوب، مثابا، ومثابة، وثئوبا، وثوبانا، فالمثابة مصدر وصف به، ويراد به الموضع يثاب إليه؛ أي: يرجع إليه، قال ورقة بن نوفل:[الطويل]

مثابا لأفناء القبائل كلّها

تخبّ إليها اليعملات الذّوامل

ويحتمل أن يكون مصدرا من الثّواب، أي: يثابون هناك. وقال مجاهد: لا يقضي أحد منه وطرا. قال الشاعر: [الرمل]

ص: 309

جعل البيت مثابا لهم

ليس منه الدّهر يقضون الوطر

هذا؛ والأصل: مثوبة، فقل في إعلاله اجتمع معنا حرف صحيح وساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى الثاء قبلها بعد سلب سكونها. ثم قل: تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا. ومثله ({مَقامِ}) في إعلاله. {وَأَمْناً:} مأمنا لأهله من الظلم والاعتداء، والغارات التي تقع في غيره، كان الرجل يرى فيه قاتل أبيه، فلا يزعجه لحرمة الحرم، قال تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [67].

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} .

{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى:} مكانا للصلاة، وقيل: مكان دعاء، فهو بمعنى: مدّعى، ومقام إبراهيم: هو الحجر الذي وقف عليه عند بناء الكعبة المعظمة، وأصله من الجنّة كالحجر الأسود، وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«إنّ الركن، والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنّة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما؛ لأضاء ما بين المشرق، والمغرب» أخرجه الترمذيّ، قال: وهذا يروى عن ابن عمر موقوفا.

{وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ} أي: أمرناهما، وألزمناهما، وأوجبنا عليهما. قيل: إنما سمي إسماعيل؛ لأن إبراهيم كان يدعو له الناس أن يرزقه ولدا، ويقول في دعائه: اسمع يا إيل، وإيل بلسان السريانية: هو الله، فلما رزق الولد؛ سماه به. {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ:} يعني الكعبة المعظمة، أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما وتفضيلا وتخصيصا، أي: ابنياه على الطهارة، والتوحيد. وقيل: طهراه من سائر الأقذار، والأنجاس، وقيل: طهراه من الشرك، والأوثان، وقول الزّور {لِلطّائِفِينَ:} الذين يطوفون حوله. ({الْعاكِفِينَ}): المقيمين في الحرم حول البيت، والعكوف: اللزوم والإقبال على الشيء، قال العجاج يصف ثورا:[الرجز]

فهنّ يعكفن به إذا حجا

عكف النّبيط يلعبون الفنزجا

الفنزجة، والفنزج: رقص العجم إذا أخذ بعضهم يد البعض؛ وهم يرقصون، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي: المصلون، جمع راكع، وجمع ساجد، وقال تعالى في سورة (الحج):{وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .

تنبيه: جاء في البخاري: أن المقام هو الحجر، الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه، قال أنس-رضي الله عنه: رأيت في المقام أثر أصابعه، وعقبه، وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.

تنبيه: هذه الآية من الآيات التي وافقت رأي عمر-رضي الله عنه-قال: يا رسول الله! لو صلّيت خلف المقام، فنزلت الآية الكريمة.

ص: 310

تنبيه: ذكر العلامة ابن القيّم-رحمه الله تعالى-أنّ السرّ في تفضيل البيت العتيق ظاهر في انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب، ومحبتها له، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهم يثوبون إليه من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطرا، بل كلّما ازدادوا له زيارة؛ ازدادوا اشتياقا، قال الشاعر:[البسيط]

لا يرجع الطّرف عنها حين يبصرها

حتّى يعود إليها الطّرف مشتاقا

الإعراب: {وَإِذْ:} معطوفة على مثلها في الآية السابقة. {جَعَلْنَا:} فعل وفاعل، وهو بمعنى: صيرنا هنا، فلذا نصب مفعولين. {الْبَيْتَ:} مفعول به أول. {مَثابَةً:} مفعول به ثان، أو هو حال إذا كان الفعل بمعنى: خلقنا. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب {مَثابَةً} أو بمحذوف صفة له، أو هما متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{جَعَلْنَا} في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها.

{وَأَمْناً:} معطوف على ما قبله. {وَاتَّخِذُوا:} الواو: حرف عطف. ({اِتَّخِذُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والنون فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ مَقامِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وإن علقتهما بمحذوف حال من:{مُصَلًّى} كما رأيت في الآية السابقة؛ فلست مفندا، وبعضهم يعتبر (من) زائدة في الإيجاب، ومقام مفعولا به، وهو غير مسلّم لهم، و {مَقامِ:} مضاف، و {إِبْراهِيمَ} مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة ({اِتَّخِذُوا..}.) إلخ: في محل نصب مقول القول لقول محذوف، تقديره: قلنا:

اتخذوا

إلخ وهذه الجملة معطوفة على جملة: {جَعَلْنَا؛} فهي في محل جر مثلها، وهناك أقوال أخرى لا وجه لها أبدا. هذا؛ وقد قرئ الفعل بصيغة الماضي، وفي هذه الجملة حينئذ ثلاثة أوجه: أحدها: أنها معطوفة على جملة: {جَعَلْنَا،} فهي في محل جر مثلها، ويكون الكلام جملتين: والثاني: أنها معطوفة على: جملة محذوفة، التقدير: فثابوا، واتخذوا. وفي هذين الوجهين تكلّف لا داعي له.

والثالث: أنها معطوفة على مجموع: {وَإِذْ جَعَلْنَا..} . إلخ، فيحتاج إلى تقدير: أي: وإذ اتخذوا

{مُصَلًّى:} مفعول به منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها.

({عَهِدْنا}): فعل وفاعل. {إِلى إِبْراهِيمَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَإِسْماعِيلَ:} معطوف على ما قبله فهو مجرور مثله، وعلامة الجر فيهما مثل:{إِبْراهِيمَ} السابق. {أَنْ:} مفسرة؛ لأن في:

(عهدنا): معنى القول، وقيل: مصدرية، ولا أعتمده. {طَهِّرا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والألف فاعله. {بَيْتِيَ:} مفعول به منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة.

{لِلطّائِفِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، واللام بمعنى: من أجل. {وَالْعاكِفِينَ:} معطوف على ما

ص: 311

قبله مجرور مثله، وعلامة الجر فيهما الياء؛ لأنّهما جمعا مذكر سالمان، وعطف ({الْعاكِفِينَ}) على (الطائفين) لتباين ما بينهما، بخلاف (الركع) و (السجود) فإنّ المراد بهما شيء واحد، وهو الصّلاة؛ إذ لو عطف؛ لتوهم: أنّ كلاّ منهما عبادة على حيالها. هذا؛ والصّفات كلها لموصوف محذوف، وجملة:{طَهِّرا} لا محل لها؛ لأنها تفسير لقوله: ({عَهِدْنا}). هذا قول الجمهور، وقال الشلوبين: بحسب ما تفسره. وهو جيد. وجملة: ({عَهِدْنا}) معطوفة على جملة: {جَعَلْنَا} فهي في محل جر مثلها.

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}

الشرح: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً} أي: ذا أمن، يأمن فيه أهله. وإنّما دعا إبراهيم له بالأمن؛ لأنه بلد ليس فيه زرع، ولا ثمر، وإذا لم يكن آمنا؛ لم يجلب إليه شيء من النواحي البعيدة، فأجاب الله دعاء إبراهيم له بالأمن، فما قصده جبّار، إلا قصمه الله تعالى، كما فعل بأصحاب الفيل.

قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: فروي: أنه لمّا دعا بهذا الدّعاء؛ أمر الله تعالى جبريل عليه السلام، فاقتلع الطّائف من الشّام، فطاف بها حول البيت أسبوعا، فسمّيت الطّائف لذلك، ثم أنزلها تهامة، وكانت مكّة وما يليها حين ذلك قفرا، لا ماء، ولا نبات، فبارك الله فيما حولها، كالطّائف، وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثّمار. ثمّ قال: ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على الأمن في مكة ما شوهد من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب، والصيد، فلا يهيج الكلب الصّيد، ولا ينفر منه؛ حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب على الصيد، وعاد إلى النفور، والهرب. انتهى.

وفي بيان هذا الأمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السّماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنّه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها، ولا يختلى خلاها» . فقال العباس-رضي الله عنهما: يا رسول الله! إلا الإذخر، فإنّه لقينهم، ولبيوتهم، فقال:«إلا الإذخر» . أخرجه البخاريّ، ومسلم عن عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنه. والقين: الحدّاد، ويختلى خلاه: يقطع النبات الّذي ينبت بنفسه.

{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: ليقبلوا على طاعتك، ويتفرّغوا لعبادتك. وخصّ بدعوته المؤمنين فقط. قال الخليل-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف

ص: 312

سلام-: الرزق على الإمامة، فنبهه الله على أنّ الرزق رحمة دنيوية شاملة للمؤمن، والكافر، والبرّ، والفاجر بخلاف الإمامة. فإنّها خاصّة بالخواص من المؤمنين، ولذا قال تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} أي: وأرزق من كفر أيضا، كما أرزق المؤمن، والمعنى: أأخلق خلقا، ثمّ لا أرزقهم؟! أما الكافر فأمتعه في الدّنيا متاعا قليلا، وذلك مدّة حياته فيها. {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ:} ثم ألجئه في الآخرة، وأسوقه إلى عذاب النّار، فلا يجد عنها محيصا، ولا مهربا، والمضطر: هو الذي لا يملك لنفسه الامتناع ممّا اضطر إليه. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ:} وبئس المآل، والمرجع للكافر أن يكون مأواه نار جهنم. قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} الآية رقم [48] من سورة (الحج)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:

«إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه؛ لم يفلته» ، ثم قرأ قوله تعالى:{وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} رقم [102] من سورة (هود). رواه أبو موسى الأشعري-رضي الله عنه-والظالم قد يكون من المسلمين، كما ذكرته لك مرارا، وقد يكون أخبث من الكافر، وأشدّ مكرا، وخداعا.

الإعراب: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ:} هذا الكلام معطوف على مثله في الآية رقم [124] وجملة:

{قالَ إِبْراهِيمُ:} في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. {رَبِّ} منادى حذف منه حرف النداء منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف

والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وانظر {يا قَوْمِ} في الآية رقم [54] فيجوز في {رَبِّ} ما جاز فيه، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول.

{اِجْعَلْ:} فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به أوّل، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بَلَداً:} مفعول به ثان، وجملة:

{اِجْعَلْ..} . في محل نصب مقول القول. {وَارْزُقْ:} الواو: حرف عطف. ({اُرْزُقْ}): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَهْلَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ الثَّمَراتِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به ثان، وجملة:({اُرْزُقْ}): معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {مِنَ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب بدلا من {أَهْلَهُ} بدل بعض من كل. {آمَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مِنَ} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة {مِنَ} لا محل لها.

{مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و ({مِنَ}) بيان لما أبهم في {مِنَ} .

{بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْيَوْمِ:} معطوف على (الله)، {الْآخِرِ:} صفة اليوم.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، {وَمَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف معطوف بالواو العاطفة على قوله: {مَنْ آمَنَ} عطف تلقين،

ص: 313

كأنه قيل: وأرزق من كفر، وهذا المحذوف مضارع مرفوع، وفاعله مستتر تقديره: أنا، وجملة {كَفَرَ} مع فاعله المستتر، ومتعلقه المحذوف صلة الموصول لا محل لها، وجوز أن تكون ({مِنَ}) نكرة موصوفة فتكون الجملة الفعلية صفة لها.

(أمتعه): مضارع، والفاعل تقديره: أنا، والهاء مفعوله. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف؛ أي: تمتيعا قليلا، أو: صفة زمان محذوف، أي: زمانا قليلا، وجملة: {فَأُمَتِّعُهُ

:}

معطوفة على جملة: «أرزق من كفر» . هذا؛ ويجوز أن تكون (من): موصولة، أو شرطية مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَفَرَ:} صلتها، أو شرطها، وجملة:(أمتعه) خبره والفاء صلة على اعتبار ({مِنَ}) موصولا، وهي رابطة للجواب على اعتبار ({مِنَ}) شرطا، وجملة (أمتعه) في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:(أنا أمتعه) وعليه فالجملة اسمية لا فعلية، وهي في محل جزم جواب الشرط. وجملة:{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ} معطوفة على جملة:

(أمتعه) ب {ثُمَّ} على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وجملة:{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} مستأنفة لا محل لها، والمخصوص بالذمّ محذوف، التقدير: هو العذاب، أو: هو النار، ونحو ذلك.

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}

الشرح: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ:} {يَرْفَعُ:} يبني، ورد التعبير بصورة المضارع حكاية عن الماضي، ولذلك وجه معروف في محاسن البيان، وهو استحضار الصورة الماضية، وكأنّما هي مشاهدة بالعيان، فكأنّ السامع ينظر، ويرى إلى البنيان وهو يرتفع، والبنّاء هو: إبراهيم، وإسماعيل، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. {الْقَواعِدَ:} الأسس التي ترتكز عليها الجدران، أو هي الجدران نفسها. {الْبَيْتِ:} الكعبة المعظمة.

هذا وفي القسطلاني على البخاريّ ما نصّه، وبنيت الكعبة عشر مرات: الأول: بناء الملائكة، روي: أن الله تعالى أمرهم أن يبنوا في كلّ سماء بيتا، وفي كل أرض بيتا، قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتا، الثاني: بناء آدم. روي: أنه قيل له: أنت أوّل الناس، وهو أول بيت وضع للناس. الثالث: بناه ابنه شيث عليه السلام بالطّين، والحجارة، فلم يزل معمورا به، وبأولاده، ومن بعدهم حتّى كان زمن نوح عليه السلام فأغرقه الطّوفان، وغيّر مكانه. الرابع:

بناء إبراهيم، وكان المبلّغ له ببنائه جبريل عن الملك الجليل، والمبلّغ، والمهندس: جبريل، والباني: الخليل، والمعين والمساعد: إسماعيل. الخامس: بناء العمالقة. السّادس: بناء جرهم، والذي بناه منهم الحارث بن مضاض الأصغر. السابع: بناه قصيّ خامس جدّ للنبي صلى الله عليه وسلم، الثامن: بناء قريش، وحضره النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خمس وثلاثين سنة. التاسع: بناء عبد الله بن

ص: 314

الزّبير-رضي الله عنهما-وسببه توهين الكعبة من حجارة المنجنيق الّتي أصابتها حين حوصر ابن الزّبير بمكّة. العاشر: بناء الحجّاج بعد قتل ابن الزبير، ونظم العشرة بعضهم، فقال:[الطويل]

بنى بيت ربّ العرش عشر فخذهم

ملائكة الله الكرام وآدم

فشيث فإبراهيم ثمّ عمالق

قصيّ قريش قبل هذين جرهم

وعبد الإله بن الزّبير بنى كذا

بناء لحجّاج وهذا متمّم

انتهى جمل نقلا من القسطلاني. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: حجّ آدم البيت أربعين حجّة من الهند ماشيا على رجليه، هذا؛ وانظر ما ذكرته في الآية رقم [37] من سورة (إبراهيم) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَإِذْ:} معطوفة على مثلها في الآية رقم [124]، وجملة:{يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ} في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. {مِنَ الْبَيْتِ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْقَواعِدَ،} وقيل:

متعلقان بمحذوف صفة لها، وهذا لا يكون إلا إذا اعتبرنا (ال) للجنس، وليس الجنس مرادا هنا، وقيل: متعلقان بالفعل {يَرْفَعُ} وليس بالقويّ.

{وَإِسْماعِيلُ:} معطوف على {إِبْراهِيمُ} . {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا) في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {تَقَبَّلْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر فيه تقديره: أنت، والجملتان:{رَبَّنا تَقَبَّلْ} في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، التقدير: «يقولان ربنا

» والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من: (إبراهيم وإسماعيل)، والعامل الفعل:{يَرْفَعُ} . {مِنّا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنَّكَ} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {أَنْتَ:} ضمير منفصل فيه ثلاثة أوجه: الأول: اعتباره ضمير فصل لا محل له، والثاني: اعتباره توكيدا لاسم (إنّ) على المحل، وعليهما ف {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} خبر ل (إنّ). والثالث: اعتباره مبتدأ، و {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ:} خبران له، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع:(إن) والجملة الاسمية تعليل للدعاء لا محل لها، وهي بدورها في محل نصب مقول القول لقول محذوف، تأمل، وتدبّر، وربّك أعلم، وأجل، وأكرم.

{رَبَّنا وَاِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (128)}

الشرح: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ:} مخلصين لك، من: أسلم وجهه، أو: مستسلمين، من:

أسلم: إذا استسلم، وانقاد. والمراد طلب المزيد في الإخلاص، والإذعان، والثبات على الإسلام مقرونا بالعمل الصّالح. هذا؛ وقرئ:(«مسلمين») بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما،

ص: 315

وهاجر. ({مِنْ ذُرِّيَّتِنا}): ({مِنْ}) للتبعيض؛ أي: واجعل بعض ذريتنا؛ لأن الله تعالى قد كان أعلمه:

أنّ منهم ظالمين. {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ:} جماعة خاضعة، منقادة لأوامرك، وإنّما خصّ الذريّة بالدّعاء؛ لأنهم أحقّ بالشّفقة، والنّصيحة، قال الله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً} . ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا؛ صلح بهم غيرهم.

هذا؛ و {أُمَّةً} تكون واحدا إذا كان يقتدى به، كقوله تعالى في حقّ إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً} رقم [120] من سورة (النّحل)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل:«يبعث أمّة وحده» ؛ لأنه لم يشرك في دينه غيره، والأمّة: الطريقة والملّة والدّين، كقوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} . وكل جنس من الحيوان أمّة، كقوله تعالى:{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} . وانظر الآية رقم [199] الآتية. والأمة: الحين، والوقت، كقوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد وقت، وحين. والأمّة: الشّجّة التي تبلغ الدماغ، يقال: رجل مأموم، وأميم. والأمة أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الأمة؛ أي: حسن القامة، قال الشاعر:[المتقارب]

وإنّ معاوية الأكرمي

ن حسان الوجوه طوال الأمم

{وَأَرِنا مَناسِكَنا:} علّمنا، وأصله: أرئينا، انظر (نرى) في الآية رقم [55]، وهو هنا بمعنى:

عرّفنا، يتعدّى لواحد فقط، ويتعدى للثاني بواسطة همزة التعدية. هذا؛ والمناسك: شرائع العبادة على اختلاف درجاتها، وتفاوت مراتبها، أو هي: مناسك الحجّ. وقيل: مذابحنا، والنّسك:

الذبيحة، وأصل النسك: العبادة، والناسك: العابد. ويستدل بهذه الآية من يقول بتناسخ الأرواح. {التَّوّابُ الرَّحِيمُ:} انظر الآية رقم [37]. هذا؛ والمراد بقوله: {وَتُبْ عَلَيْنا} طلب التثبيت على الطّاعة، والدوام على العبادة، لا لأنهما كان لهما ذنب. وقيل: المراد: البيان للناس: أنّ ذلك الموقف، وتلك المواضع مكان التنصّل من الذّنوب، وطلب التّوبة، والمغفرة.

الإعراب: {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، وانظر الآية السّابقة. ({اِجْعَلْنا}): فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره: أنت. و (نا): مفعول به أول. {مُسْلِمَيْنِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، وجمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {لَكَ:} متعلقان ب {مُسْلِمَيْنِ} وقيل: متعلقان بمحذوف صفة له، وجملة:{وَاجْعَلْنا} معطوفة على جملة: {تَقَبَّلْ} في الآية السابقة، وجملة النداء:{رَبَّنا} معترضة لتأكيد الدعاء.

({مِنْ ذُرِّيَّتِنا}): متعلقان بفعل محذوف، تقديره: اجعل، وهما في محل نصب مفعوله الأول.

و (نا): في محل جر بالإضافة، {أُمَّةً:} مفعول به ثان للفعل المقدر. {مُسْلِمَةً:} صفة {أُمَّةً،} {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان ب {مُسْلِمَةً} أو بمحذوف صفة له. وذكر أبو البقاء وجها آخر

ص: 316

للإعراب، لا مبرر له، وجملة:«اجعل من ذريتنا» معطوفة على الجملة السابقة، فهي داخلة في المقول، (أرنا): فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت. و (نا): مفعول به أول. {مَناسِكَنا:} مفعول به ثان. و (نا):

في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وكذلك جملة:{وَتُبْ عَلَيْنا} معطوفة أيضا. {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} انظر الآية السابقة، فهي مثلها بلا فارق.

تنبيه: بالإضافة لما ذكرته في سورة (إبراهيم) على نبيّنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام أذكر هنا ما يلي: ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وقد نقل معهم الحجارة، وله صلى الله عليه وسلم من العمر خمس وثلاثون سنة.

قال محمّد ابن اسحاق في السيرة: ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة، وكانوا يهابون هدمها، وقد كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها، وتسقيفها، وذلك: أن نفرا سرقوا كنزا للكعبة، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدّة لرجل من تجّار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها، فأعدّوه لتسقيفها، وكان بمكّة رجل قبطيّ نجّار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها.

وكانت حيّة تخرج من بئر الكعبة، فتتشرّق على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك:

أنها كانت لا يدنو منها أحد إلا احزألّت (ارتفعت، واشتدّت للوثوب) وكشّت، وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينما تتشرّق على جدار الكعبة ذات يوم، كما كانت تصنع؛ بعث الله إليها طائرا، فاختطفها، وذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا (أي: من هدم الكعبة وبنائها) عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحيّة، فلمّا أجمعوا أمرهم في هدمها، وبنائها؛ قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ، فتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش! لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيه مهر بغيّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.

{رَبَّنا وَاِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}

الشرح: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد روى خالد بن معدان-رضي الله عنه-أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك، قال:«نعم: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى» . وروى الإمام أحمد، عن العرباض بن سارية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي عند الله لخاتم النّبيّين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأوّل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمّي الّتي رأت، وكذلك أمهات النبيّين يرين» . هذا؛ وبشارة

ص: 317

عيسى عليه السلام هي قوله تعالى حكاية عن قوله حيث قام خطيبا في بني إسرائيل، فقال:{إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} . ورؤيا أمّة كانت مناما، رأته حين حملت به، وقصّته على قومها. فشاع فيهم، واشتهر بينهم.

{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ:} يقرأ عليهم آيات الكتاب الذي تنزّله عليهم، والمراد: القرآن الكريم الذي نزل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ} أي: القرآن، وهو آيات الله المذكورة، فعلى ذلك فهو من اختلاف اللفظ، واتحاد المعنى. {وَالْحِكْمَةَ:} المعرفة بالدّين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو منحة، ونور من الله تعالى، قاله مالك، وقال أبو بكر بن دريد: هي كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح؛ فهي حكمة. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [208] فإنه جيد والحمد لله. {يُزَكِّيهِمْ:} يطهرهم من الشرك، والمعاصي، وسوء الأخلاق، والطباع. {الْعَزِيزُ:} الغالب الذي لا يقهر، ولا يغلب على ما يريد، ومنه قوله تعالى:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ،} ومن قول الخنساء-رضي الله عنها: [المتقارب]

كأن لم يكونوا حمى يتّقى

إذ النّاس إذ ذاك من عزّ بزّا

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [268] فإنه جيد، والحمد لله!

الإعراب: {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء. ({اِبْعَثْ}): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:

أنت. {فِيهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {رَسُولاً:} مفعول به. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {رَسُولاً} وبمحذوف صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{تَقَبَّلْ..} .

إلخ في الآية رقم [127] فهي داخلة معها في المقول. {يَتْلُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى {رَسُولاً،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {رَسُولاً} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بالجار والمجرور بعده. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {آياتِكَ} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة، ({يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ}): فعل مضارع ومفعولاه، والفاعل يعود إلى {رَسُولاً،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، وأيضا جملة:{وَيُزَكِّيهِمْ} وما يتعلق بالفعل معطوفة عليها. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} انظر الآية رقم [127] فهو مثله بلا فارق.

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ (130)}

الشرح: {وَمَنْ يَرْغَبُ} أي: لا يرغب، فالاستفهام بمعنى النّفي. هذا؛ والفعل:«يَرْغَبُ» يتغيّر معناه بتغير الجار الذي يتعلق به، تقول: رغبت عن الشيء: إذا كرهته، ولم تحبّه.

ص: 318

ورغبت فيه: إذا أردته، وأحببته، ولذا كان قول القائل-وهو الشاهد رقم [925] من كتابنا:

«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

ويرغب أن يبني المعالي خالد

ويرغب أن يرضى صنيع الألائم

محتملا للمدح والذمّ بسبب تقدير الجار والمجرور، كما يجوز تقدير (عن) أو (في) في قوله تعالى:{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ومثل يرغب: ادّعى، يقال: ادّعى فلان في بني هاشم: إذا انتسب إليهم، وادّعى عنهم: إذا عدل بنسبه عنهم. ومثله: عدل، ومال، وانحرف، وغير ذلك كثير، وهذا ممّا يدلّ على اتساع اللغة العربية. {مِلَّةِ إِبْراهِيمَ:} دينه، وطريقته، وشريعته. هذا؛ والملة بفتح الميم: الرّماد الحار.

{إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ:} استمهنها، وأذلّها، واستخفّ بها. قال المبرد، وثعلب: سفه بالكسر متعدّ، وبالضم لازم، ويشهد له ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:«الكبر أن تسفه الحقّ، وتغمص النّاس» أي: تحتقرهم، والأول من باب: طرب، والثاني من باب: ظرف. هذا؛ وجاء في المختار:

وقولهم: سفه نفسه، وغبن رأيه، وبطر عيشه، وألم بطنه، ووفق أمره، ورشد أمره، كان الأصل: سفهت نفس زيد، ورشد أمره، فلمّا حوّل الفعل إلى الرّجل؛ انتصب ما بعده بوقوع الفعل عليه؛ لأنّه صار في معنى سفّه نفسه بالتّشديد. هذا قول البصريين، والكسائي، ويجوز عندهم تقديم هذا المنصوب، كما يجوز: غلامه ضرب زيد. وقال الفرّاء: لمّا حوّل الفعل من النفس إلى صاحبها؛ خرج ما بعده مفسّرا ليدلّ على أنّ السّفه فيه، وكان حكمه من النفس سفه زيد نفسا؛ لأنّ المفسّر لا يكون إلا نكرة، ولكنه ترك على إضافته، ونصب، كنصب النّكرة تشبيها بها، ولا يجوز عنده تقديمه؛ لأن المفسّر لا يتقدّم، ومثله قولهم: ضقت به ذرعا، وطبت به نفسا، والمعنى: ضاق ذرعي به، وطابت نفسي به. انتهى بحروفه.

{اِصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا} اخترناه على غيره بالرّسالة والخلّة. {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ} أي:

الذين لهم الدّرجات العلى. هذا؛ والصّلاح درجة عالية، ومكانة رفيعة، ولذلك سأل الله هذه المنزلة يوسف الصدّيق، عليه وعلى نبينا، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام، سأله هذه المنزلة قبل وفاته، وقد حكى القرآن ذلك عنه:{*رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} وسألها إبراهيم عليه السلام، وحكاها القرآن عنه:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} سورة (الشعراء). وطلبها سليمان عليه السلام، وحكاها القرآن الكريم عنه:{وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ} سورة (النمل)، وقال تعالى في حقّ إسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، على نبينا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام:{وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصّالِحِينَ} .

ص: 319

تنبيه: سبب نزول الآية الكريمة: أن عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-كان من أحبار اليهود، وقد أسلم، ودعا ابني أخيه إلى الإسلام، وهما: مهاجر، وسلمة، فقال لهما: قد علمنا: أن الله تعالى قال في التوراة: إنّي باعث من ولد إسماعيل نبيّا اسمه أحمد، فمن آمن به؛ فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به، فهو ملعون. فأسلم سلمة، وامتنع مهاجر عن الإسلام، فنزلت الآية الكريمة. والعبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب، فهو تعريض، وتوبيخ لليهود، والنصارى، ومشركي العرب؛ لأنّ اليهود، والنّصارى يفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم؛ لأنهم من بني إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، والعرب يفتخرون به؛ لأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وإذا كان كذلك كان إبراهيم هو الذي طلب بعثة الرسول في آخر الزمان، فمن رغب عن الإيمان بهذا الرسول، الذي هو دعوة إبراهيم؛ فقد رغب عن ملّة إبراهيم. انتهى الخازن، وغيره.

هذا؛ وروى حجّاج بن حجّاج الأحول المعروف ب «زق العسل» قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: اللهم إنّ الصّالحين أنت أصلحتهم، ورزقتهم أن عملوا بطاعتك، فرضيت عنهم، اللهم كما أصلحتهم، فأصلحنا، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك، فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك، وارض عنّا.

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَرْغَبُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: هو، يعود إلى ({مَنْ})، {عَنْ مِلَّةِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و {مِلَّةِ} مضاف، و {إِبْراهِيمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة:{يَرْغَبُ..} . إلخ: في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر، أو حرف استثناء. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع بدل من الضمير المستتر في:{يَرْغَبُ،} أو في محل نصب على الاستثناء، ورجّح الأول؛ لأن الكلام منفي معنى.

{سَفِهَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى {مَنْ}. {نَفْسَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. وقيل:{نَفْسَهُ} منصوب على التمييز، مثل: غبن رأيه. وألم رأسه كما قيل: هو منصوب على نزع الخافض؛ أي: سفه على نفسه، وجملة:{سَفِهَ نَفْسَهُ} صلة ({مَنْ}) أو صفتها.

{وَلَقَدِ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها مستأنفة، واللام واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال.

{اِصْطَفَيْناهُ:} فعل وفاعل ومفعول به: والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، وانظر الآية رقم [65]. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَإِنَّهُ:} الواو: واو الحال. ({إِنَّهُ}): حرف مشبه

ص: 320

بالفعل، والهاء اسمه. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان باسم فاعل محذوف: التقدير: وإنّه صالح في الآخرة. وقيل: متعلقان بمصدر محذوف، تقديره: صلاحه في الآخرة. وهذا لأن (ال) بمعنى الموصول، والجار والمجرور صلة، ولا تتقدم الصّلة على الموصول. وقول ثالث: إنّ {الصّالِحِينَ} ليس بمعنى: الذين صلحوا، ولكنّه اسم قائم بنفسه، كما يقال: الرجل، والغلام، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير.

{إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)}

الشرح: {إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أي: اثبت على الإسلام، واستقم على نهجه، وطريقته، لأنه كان مسلما، ولأن الأنبياء جميعا نشئوا على الإسلام والتوحيد. قال ابن عباس-رضي الله عنهما:

قال له ذلك حين خرج من السّرب، وذلك عند استدلاله بالكواكب، والشّمس، والقمر، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وافتقارها إلى محدث مدبّر، كما ذكر الله في سورة (الأنعام) رقم [75] وما بعدها، فلما عرف ذلك؛ قال له ربه: أسلم، {قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} أي: قال إبراهيم، -على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-: خضعت بالطّاعة، وأخلصت العبادة لمالك الخلائق ومدبّرها، ومحدثها. هذا؛ والمراد بالإسلام: التوحيد، وليس المراد الإسلام المتعارف عليه في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما يذكر عن إسلام كثير من الأنبياء السّابقين، فإن المراد: التّوحيد، والاستسلام، والانقياد. هذا؛ والسّرب الذي ذكره ابن عباس-رضي الله عنهما: يشير إلى أنّ إبراهيم عليه السلام قد ربّي خفية عن النّمرود الجبّار؛ الذي ادعى الألوهية، وأن تربية إبراهيم كانت في السّرب بعيدة عن الناس خوفا من النّمرود، فهي شبيهة بتربية موسى عليه السلام.

هذا؛ وفي الآية الكريمة التفات من التكلّم في الآية السابقة إلى الغيبة في هذه الآية؛ إذ كان مقتضى الكلام: «إذ قلنا

» إلخ، وللالتفات فوائد كثيرة: منها تطرية الكلام، وصيانة السّمع عن الضّجر، والملال؛ لما جبلت عليه النفوس من حبّ التنقّلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد. هذه فوائده العامة، ويختصّ كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محلّه، كما هو مقرّر في علم البديع، ووجهه حثّ السامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل المتكلّم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصّصه بالمواجهة.

الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزّمان مبنيّ على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو مفعول به لهذا المحذوف، وقيل: هو ظرف للفعل {اِصْطَفَيْناهُ} وقيل: هو بدل من الجار والمجرور: «فى الدنيا» . وهذا ضعيف جدّا.

{قالَ:} فعل ماض. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {رَبُّهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {أَسْلِمْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت، والجملة الفعلية

ص: 321

في محل نصب مقول القول. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {إِبْراهِيمَ} تقديره: هو.

{أَسْلَمْتُ:} فعل وفاعل، {لِرَبِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ربّ) مضاف، و {الْعالَمِينَ:}

مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{أَسْلَمْتُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{وَوَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اِصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}

الشرح: {وَوَصّى:} وقرئ: («وأوصى») والأول أبلغ. {بِها:} بالملّة، وقيل: بالكلمة، وهي:{أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} . {إِبْراهِيمُ بَنِيهِ:} بنو إبراهيم هم: إسماعيل وأمّه هاجر، ولد قبل: إسحاق بأربع عشرة سنة، وعاش مائة وسبعا وثلاثين سنة، وكانت سنّه يوم مات أبوه تسعا وثمانين سنة، وإسحاق وأمّه سارة، وعاش مائة وثمانين سنة، ثمّ لمّا توفيت سارة تزوج إبراهيم عليه السلام قطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين، ومديان، ويقشان، وزمران، ويشبق، وسوح، فهم ستة مع الاختلاف في تسميتهم بحسب الروايات. {وَيَعْقُوبُ} أي: أوصى بنيه، وهم اثنا عشر ولدا، وهم: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وريالون، ويشجر، ودان، ونفتالي، وجاد، وآشر، ويوسف، وبنيامين، ولا تنس أن يعقوب ولد في حياة إبراهيم جدّه، وهو النافلة بنصّ القرآن.

{يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ..} . إلخ: هذا من وصية يعقوب لبنيه، وأصل بنيّ:«بنين لي» فحذفت اللام الجارة، ثم حذفت النون للإضافة، ثم أدغمت ياء المتكلم في ياء الجمع. و {اِصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ:} اختار لكم دين الإسلام، وهو التوحيد، الذي ذكرته فيما مضى. {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: الزموا الإسلام، ودوموا عليه، ولا تفارقوه حتّى تموتوا، فالنّهي في اللفظ عن الموت على غير الإسلام، وهو في المعنى على غير ذلك؛ إذ المعنى: لا تفارقوا الإسلام حتى تموتوا، كما في قولك: لا تصلّ إلا وأنت خاشع، والمعنى: صلّ الصّلاة مقترنة بالخشوع، وهذه الجملة مذكورة في سورة آل عمران برقم [102].

الإعراب: {وَوَصّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذّر. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {إِبْراهِيمُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالَ أَسْلَمْتُ..} . إلخ. في الآية السابقة: لا محل لها مثلها. {بَنِيهِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَيَعْقُوبُ:} معطوف على إبراهيم، فهو مرفوع مثله. وقيل: هو مبتدأ حذف خبره،

ص: 322

التقدير: ويعقوب وصّى بنيه أيضا، والأول أقوى. هذا؛ ويقرأ بالنصب عطفا على {بَنِيهِ} وهو بعيد؛ لأنّ يعقوب لم يكن بين أولاد إبراهيم لمّا وصاهم. (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو.

(بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، وياء المتكلم في محل جرّ بالإضافة. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ:} اسمها. {اِصْطَفى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} . {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الدِّينَ:} مفعول به، والكلام:{يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ..} . إلخ فيه وجهان: أحدهما: أنّه من مقول {إِبْراهِيمُ} وذلك على القول بعطف ({يَعْقُوبُ}) على {إِبْراهِيمُ} . الثاني: أنه من مقول ({يَعْقُوبُ}) على القول برفعه على الابتداء، ويكون قد حذف مقول {إِبْراهِيمُ} للدّلالة عليه، وعلى كل تقدير فالكلام منصوب بقول محذوف على رأي البصريين، أي: فقال: يا بني

إلخ، وبفعل الوصية؛ لأنها في معنى القول عند الكوفيين. انتهى. جمل نقلا من السّمين.

هذا؛ ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (هود) رقم [42]: {وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا..} . إلخ. حيث قال البصريون: إنّ قوله: {يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا..} . إلخ في محلّ نصب مقول القول لقول محذوف وقال الكوفيون: في محل نصب مفعول به للفعل: ({نادى}) وخذ قول الراجز، وهو الشاهد رقم [767] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، فالقول فيه مثل الآيتين:[الرجز]

رجلان من مكة أخبرانا

إنّا رأينا رجلا عريانا

{فَلا:} الفاء: أراها الفصيحة، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، ومن يجيز عطف الإنشاء على الخبر يعتبرها عاطفة. (لا): ناهية. {تَمُوتُنَّ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة: فاعله، ونون التوكيد حرف لا محل لها، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء. {إِلاّ:} حرف حصر، والجملة الاسمية:{وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، والرابط: الواو، والضمير.

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}

الشرح: روي: أن اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم: أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات؟! فنزلت الآية الكريمة، وفيها توبيخ لهم، وتقريع. {شُهَداءَ:} حضورا، جمع: شاهد، وشهيد. {ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} أي: من بعد موتي. أراد تقريرهم على التوحيد، والإسلام، وأخذ

ص: 323

ميثاقهم على الثبات عليها، وأتى ب {ما} التي لغير العاقل؛ لأن المعبودات في ذلك الزّمان كانت غير عاقلة، كالأوثان، والشّمس، والقمر، فعرف بنوه ما أراد، فأجابوه بالحق؛ إذ الجواب على وفق السؤال. هذا؛ وقد عدّ إسماعيل عليه السلام أبا يعقوب مع كونه عمّه أخا أبيه تغليبا للأب، والجدّ، أو لأنه كالأب في التقدير والاحترام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«عمّ الرجل صنو أبيه» . وقال في عمّه العباس: «هذا بقية آبائي» . وقدّم إسماعيل على إسحاق في الذكر لسببين: أولهما: أنّه أسبق منه في الولادة بأربع عشرة سنة، وثانيهما: أنه جدّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فاستحق التّقدير لذلك.

{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: موحّدون، مطيعون، خاضعون، كما قال تعالى:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} هذا؛ والإسلام هو ملّة الأنبياء، وطريقة الرّسل قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم، واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وذكرت لك: أنّ معنى الإسلام التّوحيد. وقال النبيّ المعظم صلى الله عليه وسلم: «نحن معشر الأنبياء أولاد علاّت، ديننا واحد» .

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف، وهي منقطعة، وبمعنى: بل، والهمزة، ومعنى الهمزة فيها الإنكار، أي: ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت، وقال لبنيه ما قال؛ فلم تدعون اليهودية عليه؟! أو هي متصلة بمحذوف، تقديره: أكنتم غائبين، أو شهداء وقت حضر

إلخ.

{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {شُهَداءَ:} خبر كان، والجملة الفعلية معطوفة على المقدّر على الوجهين. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزّمان مبني على السّكون في محل نصب متعلّق ب {شُهَداءَ} . {حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ:} ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {إِذْ:} بدل من سابقتها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى يعقوب. {لِبَنِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدّم.

{تَعْبُدُونَ:} مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {مِنْ بَعْدِي:}

متعلقان بالفعل قبلهما. وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جرّ بالإضافة.

{قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {نَعْبُدُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:

نحن. {إِلهَكَ:} مفعول به: والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محلّ نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. ({إِلهَ}): معطوف على ما قبله، وهو مضاف، و {آبائِكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِبْراهِيمَ:} بدل من {آبائِكَ} بدل كل من كل، أو هو عطف بيان عليه، مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية.

ص: 324

{وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ:} معطوفان على {إِبْراهِيمَ} مجروران مثله. {إِلهاً:} بدل من ({إِلهَ آبائِكَ}) بدل كل من كل. {واحِداً:} صفته، والجملة الاسمية:{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ:} في محل نصب حال من فاعل {نَعْبُدُ} المستتر، والرّابط: الواو، والضمير، وقيل: معطوفة على جملة:

{نَعْبُدُ..} . إلخ، والأول أقوى. وقيل: معترضة؛ ولا وجه له، والجار والمجرور:{لَهُ} متعلقان ب {مُسْلِمُونَ} بعدها.

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)}

الشرح: {تِلْكَ:} الإشارة إلى إبراهيم وذريته الطّيبة، على نبينا، وعليهم أفضل الصلاة، وأتمّ التسليم، وأنث لتأنيث الخبر. {أُمَّةٌ:} جماعة. {خَلَتْ:} مضت، وأصله: خلات، حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث. {لَها ما كَسَبَتْ:} أي ما عملت من الأعمال، وقدّمت من الصّالحات في دنياها لآخرتها. {وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ:} مثله، يريد من خير، وشر.

والمعنى: إنّ انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمال إبراهيم، وذرّيته. وإنّما تنتفعون بموافقتهم، واتّباعهم بأعمالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأقربائه:«لا يأتيني الناس بالأعمال، وتأتوني بالأنساب» . {وَلا تُسْئَلُونَ عَمّا..} . إلخ، أي: لا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم، قال تعالى:{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} .

هذا؛ وفي الآية دليل على: أن العبد يضاف إليه الأعمال كسبا، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيرا؛ فبفضله، وإن شرّا، فبعدله. وهذا مذهب أهل السنة، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة، فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى: أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار، وحركة الرّعشة مثلا، وذلك التمكّن هو مناط التكليف، وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد، وأنّه كالنبات الّذي تصرّفه الرياح، وقالت القدرية، والمعتزلة خلاف هذين القولين، وأن العبد يخلق أفعاله.

الإعراب: {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أُمَّةٌ:} خبر المبتدأ. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَتْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، والتاء حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى:{أُمَّةٌ،} والجملة الفعلية في محل رفع صفة {أُمَّةٌ} . هذا؛ وقال القرطبي: وإن شئت كانت الجملة خبر المبتدأ، وتكون {أُمَّةٌ} بدلا من:{تِلْكَ} . وهذا غير مسلم له؛ لأنه لا يبدل من اسم الإشارة إلا الاسم المقرون بال. والجملة الاسمية: {تِلْكَ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

ص: 325

{لَها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخّر.

{كَسَبَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {أُمَّةٌ،} والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: لها الذي، أو شيء كسبته، وعلى المصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر، التقدير: لها كسبها، وعلى كلّ فالجملة اسمية، وهي في محل رفع صفة ثانية ل {أُمَّةٌ،} أو هي في محل نصب حال من فاعل:

{خَلَتْ} المستتر، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها. {وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ:} وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، و {ما} تحتمل ما ذكرته في الأولى.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {تُسْئَلُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو: نائب فاعله. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: عن الذي، أو عن شيء كانوا يعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (عن)، التقدير: عن عملهم، وجملة:{وَلا تُسْئَلُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من تاء الفاعل في: {كَسَبْتُمْ،} وهي حال مؤكدة، والرابط: الواو، والضمير، والحالية أقوى من العطف، وقال أبو البقاء: مستأنفة لا غير، ولا وجه له. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبرها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}

الشرح: {وَقالُوا} أي: اليهود، والنصارى. {كُونُوا:} صيروا. {هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا:} تكونوا على الحق، وتكونوا من المهتدين. {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ..}. أي: قل يا محمد:

بل نتبع ملّة إبراهيم. {حَنِيفاً:} أي: مائلا عن الأديان المكروهة إلى الحقّ دين إبراهيم، عليه السلام، قال الشاعر:[الوافر]

ولكنّا خلقنا إذ خلقنا

حنيفا ديننا عن كلّ دين

ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كلّ واحدة منهما إلى أختها بأصابعها.

قالت أم الأحنف بن قيس: [الرجز]

والله لولا حنف برجله

ما كان في فتيانكم من مثله

ص: 326

وقال قوم: الحنف الاستقامة، فسمّي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته، وسمّي المعوجّ الرّجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة كما قيل للديغ: سليم، وللمهلكة: مفازة. انتهى قرطبي. والعرب تسمّي كل من حجّ، أو اختتن: حنيفا، تنبيها على أنه على دين إبراهيم.

هذا؛ ومناسبة الآية لما قبلها: أن الله تعالى لمّا ذكر: أنّ ملة إبراهيم هي الملة الحنيفية السمحة، وأنّ من لم يؤمن بها، ورغب عنها؛ فقد بلغ الذروة العليا في الجهالة، والسفاهة؛ ذكر تعالى في هذه الآية ما عليه أهل الكتاب من الدّعاوى الباطلة من زعمهم: أن الهداية في اتباع اليهودية، والنصرانية، وبيّن: أن تلك الدّعاوى لم تكن عن دليل، أو شبهة، بل هي مجرد جحود، وعناد. ثمّ عقّب ذلك بأنّ الدين الحق هو التمسك بالإسلام، وهو دين إبراهيم، ودين جميع الأنبياء، والمرسلين، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. ({قالُوا}): ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة في المعنى على الآية رقم [111]، ومستأنفة في الإعراب.

{كُونُوا:} فعل أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{هُوداً:} خبر: {كُونُوا:} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {نَصارى:} معطوف على {هُوداً} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {تَهْتَدُوا:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، التقدير: إن تكونوا هودا؛ تهتدوا، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت، ومتعلقه محذوف. {مِلَّةَ:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير: بل نتبع ملّة، و {بَلْ} حرف إضراب، وقيل: منصوب على الإغراء، وقدّر البيضاوي فعلا ناقصا:«نكون» ولا وجه له. هذا؛ وقرئ برفع: («ملّة») على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: بل ملّتنا ملة، أو: بل ملّة إبراهيم ملّتنا. و {مِلَّةَ} مضاف، و {إِبْراهِيمَ:} مضاف إليه مجرور وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {حَنِيفاً:} حال من: {إِبْراهِيمَ} وجاز مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأن المضاف كجزء منه، قال ابن مالك-رحمه الله-في ألفيته:[الرجز]

ولا تجز حالا من المضاف له

إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله

أو كان جزء ما له أضيفا

أو مثل جزئه فلا تحيفا

وقيل: هو منصوب بإضمار: أعني، ولا وجه له. {وَما:} الواو: واو الحال، ({ما}): نافية.

{كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود إلى إبراهيم. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} جار ومجرور

ص: 327

متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} والجملة الفعلية في محل نصب حال من {إِبْراهِيمَ،} والرابط:

الواو، والضمير، وهي حال متعدّدة، ومؤكّدة لما قبلها، والجملة المقدرة: «بل نتبع ملة

إلخ» في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{قُولُوا آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}

الشرح: {قُولُوا:} أمر للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته، فقد أخرج البخاريّ-رحمه الله تعالى-عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسّرونها لأهل الإسلام بالعربيّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب، ولا تكذّبوهم، وقولوا: آمنا بالله. وما أنزل

» إلخ. {وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ..} . إلخ: المراد به: الصّحف التي أنزلت على إبراهيم، وقد عمل بها إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وأحفاده، وهم بالطبع أحفاد لإبراهيم، ثم صار أولاد يعقوب الاثنا عشر قبائل، يطلق عليها: الأسباط، فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب من بني إسماعيل، وانظر سبب ذكر إسماعيل، وسبب تقديمه على إسحاق في الآية رقم [133].

{وَما أُوتِيَ مُوسى} أي: التوراة. {وَعِيسى:} أي: أوتي الإنجيل. {وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ:} والمعنى: آمنا بالتوراة، والإنجيل، والكتب، والصحف التي أوتي جميع الأنبياء، والمرسلين. وصدّقنا: أن ذلك كلّه حقّ، وهدى، ونور، وأنّ الجميع من عند الله. {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي: لا نفعل ذلك كما فعل اليهود، والنصارى، كما قال الله فيهم:{وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا} الآيتان [150 - 151] من سورة (النساء): {وَنَحْنُ لَهُ:}

لله. {مُسْلِمُونَ:} خاضعون، منقادون، مخلصون له في العبادة، مقرّون له بالألوهيّة، والربوبيّة.

هذا؛ والأسباط جمع سبط، وهو ولد الولد، وهو: الحافد، والحفيد. ومنه قيل للحسن، والحسين: سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجمع إبراهيم: براهيم، وجمع إسماعيل: سماعيل قاله الخليل، وسيبويه، وقاله الكوفيون أيضا. وحكوا: براهمة، وسماعلة، وبراهم، وسماعل.

وسماعيل. وجمع إسحاق: أساحيق، وجمع يعقوب: يعاقيب، وحكى الكوفيون: أساحقة، وأساحق، ويعاقبة، ويعاقب. هذا، والأسماء في هذه الآية كلها تجمع جمعا مذكرا سالما، فيقال: إبراهيمون، وإسحاقون، ويعقوبون

إلخ.

هذا؛ وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: كلّ الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا، وشعيبا، وهودا، وصالحا، ولوطا، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل،

ص: 328

ومحمدا صلّى الله عليهم وسلم أجمعين. بعد هذا ينبغي أن تعلم أنّ هذه الآية مذكورة في سورة آل عمران برقم [84] مع الاختلاف في بعض الكلمات، وبعض الحروف. والمعنى واحد مع ملاحظة: أنّ الأمر هنا موجّه إلى المسلمين عامّة، وفي سورة (آل عمران) موجّه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

الإعراب: {قُولُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{آمَنّا:} فعل، وفاعل. {بِاللهِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُولُوا..} . إلخ مبتدأة أو مستأنفة لا محل لها. ({ما}): اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على (الله). {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى ({ما}) وهو العائد، والجملة الفعلية صلتها. {إِلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَما أُنْزِلَ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله. {إِلى إِبْراهِيمَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، والأسماء بعده معطوفة عليه. {وَما:} معطوفة على ما قبلها. {أُوتِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، {مُوسى:} نائب فاعله، وهو المفعول الأول، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف للتعذّر، والجملة الفعلية صلة ({ما}) لا محل لها والعائد محذوف، التقدير: والذي أوتيه موسى وعيسى. {وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ:}

معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله. {مِنْ رَبِّهِمْ} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف الواقع مفعولا ثانيا للفعل {أُوتِيَ،} التقدير: منزّلا من ربهم، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر.

{لا:} نافية. {نُفَرِّقُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره: نحن. {بَيْنَ} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَحَدٍ} مضاف إليه. {مِنْهُمْ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة:{أَحَدٍ،} وجملة: {لا نُفَرِّقُ..} . إلخ في محل نصب حال من (نا) والرابط الضمير فقط، والجملة الاسمية:({نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}) في محل نصب حال ثانية من (نا) أيضا، وهي حال مؤكدة للإيمان، والرابط: الواو، والضمير.

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}

الشرح: {فَإِنْ آمَنُوا} أي: اليهود، والنصارى. {بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته. والمعنى: فإن أتوا بإيمان كإيمانكم، وتوحيد كتوحيدكم-والمراد: ما ذكر في الآية السابقة-. ولم يفرقوا بين الرّسل، وبين الكتب السّماوية. {فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي: أصابوا الحق، وأرشدوا إليه- {وَإِنْ تَوَلَّوْا:} أعرضوا عن الإيمان الصحيح بعد قيام الحجة، والبرهان. {فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ} أي: في خلاف معكم. هذا؛ وللشقاق ثلاثة معان: أحدها: العداوة، كما في قوله

ص: 329

تعالى حكاية عن قول شعيب لقومه: {وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي..} . إلخ. والثاني: الضلال، كما في قوله تعالى:{وَإِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} . والثالث: الخلاف، كما في قوله تعالى:

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما} لأنّ كل واحد من المتشاقين يكون في شقّ غير شقّ صاحبه في ناحية وجهة، قال الشاعر:[الوافر]

وإلاّ فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق

{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ:} وعد من الله لرسوله، وللمؤمنين بالحفظ من كيدهم، والنّصر عليهم.

وقد حقّق الله ما وعد بقتل بعضهم، وإجلاء بعضهم، كما هو معروف، ومسطور. وفي هذا الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، وانظر الالتفات في الآية رقم [131]. وهذا الحرف:

{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ} هو الذي وقع عليه دم عثمان بن عفان-رضي الله عنه-حين قتل بإخبار النّبيّ صلى الله عليه وسلم. {السَّمِيعُ:} لأقوالهم. {الْعَلِيمُ:} بأفعالهم، وما في ضمائرهم من الحقد، والحسد، والعداوة، والبغضاء. وهما صيغتا مبالغة.

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع عما سبق في الآية قبلها. (إن): حرف شرط جازم.

{آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{بِمِثْلِ:} الباء: حرف جر صلة. مثل: مجرور لفظا، صفة لمصدر محذوف، واقع مفعولا مطلقا، التقدير: فإن آمنوا إيمانا مثل ما

إلخ. وقيل: (مثل) هي الصلة، والتقدير: بما آمنتم به، فعلى الأول (مثل) مضاف، و {ما} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وعلى الثاني فالباء حرف جر، و {ما:} اسم موصول في محل جر بالباء: والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{آمَنْتُمْ بِهِ} صلة الموصول على الوجهين السابقين، وإن اعتبرت {ما} نكرة موصوفة؛ فالجملة صفتها. {فَقَدِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اِهْتَدَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور. والدّسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد. و (إن) ومدخولها كلام مفرع على ما قبله لا محل له من الإعراب. هذا؛ وزيادة لفظ (مثل) قيل به في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الآية رقم [11] من سورة الشورى، وبه قيل في قول أوس بن حجر:[المتقارب]

وقتلى كمثل جذوع النّخي

ل يغشاهم مطر منهمر

{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة

ص: 330

الفعلية لا محل لها مثل سابقتها. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة ومكفوفة. {هُمْ:} مبتدأ. {فِي شِقاقٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جواب الشرط، والشرط ومدخوله معطوف على ما قبله، لا محل له مثله. {فَسَيَكْفِيكَهُمُ:}

الفاء: حرف استئناف. والسين: حرف استقبال، وهو هنا متحقّق الوقوع، (يكفيكهم): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به أول، والهاء مفعول به ثان. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط الواو، والضمير، وقيل:

مستأنفة، والأول أقوى.

تنبيه: اتصل بالفعل: (يكفي) ضميران: ضمير المخاطب، وضمير الغائب، والأول أعرف كما في قوله تعالى في سورة (هود) حكاية عن قول نوح لقومه:{أَنُلْزِمُكُمُوها} فيجب تقديم الأعرف في هذه الحالة إذا اتصلا بالفعل، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

وقدّم الأخصّ في اتّصال

وقدّمن ما شئت في انفصال

علما بأنّ ضمير المتكلم أعرف من ضمير المخاطب، وضمير المخاطب أعرف من ضمير الغائب. هذا؛ ويجوز وصل الضميرين بالفعل:(يكفي) و (نلزم) وفصلهما. وكذلك يجوز الأمران في حال اتصالهما بالأفعال: منع وسأل، وأعطى، وكسا، وألبس. قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

وصل أو افصل هاء سلنيه وما

أشبهه في كنته الخلف انتمى

كذاك خلتنيه واتّصالا

أختار غيري اختار الانفصالا

{صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)}

الشرح: {صِبْغَةَ اللهِ:} دين الله. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: وإنّما سماه الله صبغة؛ لأن أثر الدين يظهر على المتديّن، كما يظهر أثر الصّبغ على الثّوب، وذلك بطريق الاستعارة. وقد ورد عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال:«إنّ بني إسرائيل قالوا: يا نبيّ الله هل يصبغ ربّك؟ فقال: اتقوا الله! فناداه: يا موسى! إن سألوك: هل يصبغ ربّك؟ فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان: الأحمر، والأبيض، والأسود، والألوان كلّها من صبغي» . والمعنى: تطهير الله، لأنّ الإيمان يطهّر النفوس. والأصل فيه: أنّ النّصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمّونه المعموديّة، ويقولون: هو تطهير لهم، فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك؛ قال: الآن صار نصرانيّا حقّا، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنا بالله، وصبغنا الله بالإيمان صبغته، ولم

ص: 331

نصبغ صبغتكم. وجيء بلفظ الصبغة للمشاكلة، كقولك لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرام. انتهى نسفي. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} أي: لا أحد أحسن من الله صبغة، أي: دينا. وقيل: تطهيرا؛ لأنّه يطهر من أوساخ الكفر. {وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} مطيعون، ولا نعصيه. هذا؛ وقال بعض شعراء ملوك همدان:[المتقارب]

وكلّ أناس لهم صبغة

وصبغة همدان خير الصّبغ

صبغنا على ذاك أبناءنا

فأكرم بصبغتنا في الصّبغ

الإعراب: {صِبْغَةَ:} مفعول مطلق، وقال أبو البقاء: انتصابه بفعل محذوف، أي: اتبعوا دين الله، وقيل: هو منصوب على الإغراء، أي: الزموا صبغة الله، وقيل: هو بدل من {مِلَّةِ إِبْراهِيمَ،} وقال النسفي: هو مصدر مؤكد، عن قوله:{آمَنّا بِاللهِ،} وهذا يعني: أنه مفعول مطلق، عامله:{آمَنّا،} وانظر الكلام في الشرح، والكلام اللاحق، و {صِبْغَةَ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {وَمَنْ:} الواو: واو الاعتراض. ({مَنْ}):

اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَحْسَنُ:} خبره، {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب {أَحْسَنُ} . {صِبْغَةَ:} تمييز، والجملة:{وَمَنْ أَحْسَنُ..} . إلخ معترضة لا محل لها.

والجملة الاسمية: {وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ:} معطوفة على قوله تعالى: {آمَنّا بِاللهِ..} . إلخ في الآية رقم [136].

وهذا العطف يدلّ على أنّ قوله: {صِبْغَةَ اللهِ} داخل في مفعول: {قُولُوا آمَنّا بِاللهِ} أي:

قولوا: هذا، وهذا. {وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} وهذا يرد قول من قال: إنّ {صِبْغَةَ اللهِ} بدل من: {مِلَّةِ إِبْراهِيمَ} أو نصب على الإغراء بمعنى: عليكم صبغة الله، لما فيه من فك النظم، وإخراج الكلام عن التئامه، وانتصابها على أنّها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام.

انتهى. نسفي. وهو من الكشاف للزّمخشري. وقال الجمل: وقوله: {صِبْغَةَ اللهِ} معترض بين المعطوف، والمعطوف عليه. انتهى نقلا من أبي السعود. وهذا مبني على أنّ التقدير: صبغنا الله صبغة. وما ذكره النسفي أولى بالاعتبار.

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعليم له في مخاطبة اليهود الذين قالوا للمسلمين:

نحن أهل الكتاب الأول، وقبلتنا أقدم من قبلتكم، ولم تكن الأنبياء من العرب، ولو كان محمد نبيّا؛ لكان منّا. {أَتُحَاجُّونَنا:} أتخاصموننا في شأن الله: أنه بعث نبيّا من العرب؟. {وَهُوَ رَبُّنا}

ص: 332

{وَرَبُّكُمْ:} هو مالكنا، ومالككم، ومتولي شئوننا وشئونكم. {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} العبادة. {وَلَنا أَعْمالُنا:} نجازى عليها. {وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} تجزون عليها؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . وتكرر هذا المعنى في كثير من الآيات، كقوله تعالى:

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ،} وقال تعالى:

{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} .

هذا؛ والإخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك معي شريكا؛ فهو لشريكي، يا أيّها الناس! أخلصوا أعمالكم لله تعالى، فإنّ الله تعالى لا يقبل إلاّ ما خلص له، ولا تقولوا: لله، وللرّحم، فإنّها للرّحم، وليس لله منها شيء» . رواه الضحاك بن قيس الفهري؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره. خرّجه الدارقطني. وقال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عوضا في الدّارين، ولا حظّا من الملكين. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: الإخلاص بين العبد وبين الله، لا يعلمه ملك، فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله، وذكر أبو القاسم القشيري، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم:

أنه قال: «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت ربّ العزّة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سرّ من أسراري، استودعته قلب من أحببته من عبادي» . انتهى قرطبي.

هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الزمر): {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} .

وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من فارق الدّنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصّلاة، وآتى الزّكاة؛ فارقها؛ والله راض عنه» . رواه ابن ماجة، والحاكم عن أنس-رضي الله عنه.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَتُحَاجُّونَنا} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. ({تُحَاجُّونَنا}) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (نا) مفعوله. {فِي اللهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَهُوَ:}

الواو: واو الحال، هو: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {رَبُّنا:} خبره، و (نا) في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَرَبُّكُمْ:}

معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة

إلخ، والجملة الاسمية:{وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ:} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط الواو، والضمير. {وَلَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَعْمالُنا:} مبتدأ مؤخّر. و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب حال، وأيضا الجملتان بعدها معطوفتان عليها، وإن اعتبرتها أحوالا متعددة؛ فلست مفنّدا. والجار والمجرور:{لَهُ} متعلقان ب {مُخْلِصُونَ} بعدهما.

ص: 333

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (140)}

الشرح: {أَمْ تَقُولُونَ:} خطاب لليهود، والنصارى، وفيه توبيخ لهم. {إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ:} انظر الآيتين رقم [133] و [136]. {كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى} والمعنى: أتزعمون أنّ إبراهيم، وبنيه كانوا على دينكم، وملّتكم؟ وإنما حدثت اليهودية، والنصرانية بعدهم، فثبت كذبكم يا معشر اليهود والنصارى على إبراهيم، وبنيه. {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} أي: هل أنتم أعلم بديانتهم أم الله؟ وقد شهد الله لهم بملة الإسلام، وبرّأهم من اليهودية، والنصرانية، قال تعالى في سورة آل عمران:{ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} فكيف تزعمون: أنهم على دينكم؟.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ} أي: أخفى: قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-كانوا يقرءون في كتاب الله الذي آتاهم: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ} وإنّ محمدا رسول الله، وإنّ إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط كانوا براء من اليهودية، والنّصرانية، فشهد الله بذلك، وأقرّوا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك. انتهى. والمعنى: ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله، فكتمها، وأخفاها.

{وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} تكرر ورود هذه الجملة في مواطن كثيرة من القرآن، قال أبو حيّان-رحمه الله تعالى-: ولا تأتي هذه الجملة إلا عقب ارتكاب معصية، فتجيء متضمنة وعيدا، ومعلمة: أن الله لا يترك أمرهم سدى. انتهى. والجملة فيها تهديد، ووعيد شديدان، والمعنى: أن الله لا يترك أمرهم سدى. انتهى. والمعنى: أن علمه تعالى محيط بأعمالهم صغيرها، وكبيرها، ويجزيهم بها. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف، وهي تحتمل الاتصال، والانقطاع، وعلى الاتصال فهي معادلة للهمزة في قوله تعالى:{أَتُحَاجُّونَنا} في الآية السابقة. {تَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة على الانقطاع لا محل لها، ومعطوفة على جملة:

{أَتُحَاجُّونَنا} على الاتصال، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {إِبْراهِيمَ:} اسمها، والأسماء المذكورة معطوفة عليه. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {هُوداً} خبر (كان) والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ،} {أَوْ:} حرف عطف. {نَصارى:} معطوف على: {هُوداً} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

ص: 334

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَأَنْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري.

({أَنْتُمْ أَعْلَمُ}): مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَمْ:} حرف عطف، وهي معادلة للهمزة. {اللهُ:} مبتدأ، وخبره محذوف، أي: الله أعلم، والجملة الاسمية هذه معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان ب {أَظْلَمُ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة.

{كَتَمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من)، تقديره: هو، والجملة صلة:(من) أو صفتها.

{شَهادَةً:} مفعول به ثان، والأول محذوف، التقدير: كتم الناس شهادة. {عِنْدَهُ:} ظرف مكان متعلق ب {شَهادَةً} أو بمحذوف صفة لها، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ اللهِ:}

متعلقان بمحذوف صفة ثانية، وجوز تعليقهما بالفعل:{كَتَمَ،} {وَمَا:} الواو: حرف استئناف. ({مَا}): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» {اللهُ} اسم ({مَا})، {بِغافِلٍ:} الباء: حرف جر صلة. (غافل): خبر ({مَا}) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفاعله مستتر فيه. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب (غافل)، و ({مَا}): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (عن) والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: عن الذي، أو عن شيء يعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جرّ ب (عن) التقدير: عن عملكم.

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)}

انظر شرح هذه الآية وإعرابها برقم [134]. وكرّرت للمبالغة في التهديد، والتخويف، وللمبالغة في الزّجر عمّا هم فيه من الافتخار بالآباء، والاتكال على أعمالهم، والمعنى: إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم، وفضلهم يجازون بكسبهم؛ فأنتم أحرى.

{سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}

الشرح: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ..} . إلخ: السين: حرف استقبال، وهذه الآية نزلت قبل الآية رقم [144] الآتية، وهي مترتبة على ما يذكر فيها من تحويل القبلة إلى الكعبة المعظمة، فإذا هي من

ص: 335

الإخبار بالغيب، والحكمة من الإخبار بما يقول قبل وقوعه توطين نفوس المؤمنين على الصبر؛ إذ المفاجأة بالمكروه أشد، وإعداد الجواب قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأبلغ في الحجة، فقبل الرمي يراش السهم. وهذه الآية متقدّمة في نظم القرآن، متأخرة في النزول عن الآية التي أشرت إليها، ويعزون هذا إلى ابن عباس-رضي الله عنهما-وإلى غيره.

فمعنى: {سَيَقُولُ..} . إلخ: أنّهم يستمرّون على هذا القول، وإن كانوا قد قالوه. وحكمة الاستقبال: أنهم كما قالوا ذلك في الماضي، منهم من يقوله أيضا في المستقبل. انتهى ملخصا من الجمل. هذا؛ و {السُّفَهاءُ} جمع: سفيه، وهو الجاهل، ضعيف الرأي، قليل المعرفة بالمنافع والمضار. وأصل السّفه: الخفة، والرّقة، من قولهم: ثوب سفيه: إذا كان خفيف النّسج، والمراد: اليهود، والمنافقون. {ما وَلاّهُمْ:} ما صرفهم. {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها:}

التي كانوا يتوجهون إليها في صلاتهم، وهي بيت المقدس.

{قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ:} أي جميع جهاتها فهي ملك لله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء.

{يَهْدِي:} يوجه، ويدل، ويرشد. {مَنْ يَشاءُ:} هدايته، وتوفيقه. {إِلى صِراطٍ:} طريق.

{مُسْتَقِيمٍ:} لا اعوجاج فيه، وانظر سورة (الفاتحة)؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وخرّج البخاري-رحمه الله تعالى-عن البراء بن عازب-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر، أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه أول صلاة صلاها-أي: إلى الكعبة-العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممّن كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمرّ على أهل المسجد، وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا، كما هم قبل البيت ففي هذه الرواية كانت الصلاة صلاة العصر، وفي رواية مالك: صلاة الصبح، وقيل: صلاة الظهر. والمراد بأهل المسجد الذين مرّ عليهم الرّجل: أهل مسجد قباء. هذا؛ وقيل: نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة، وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها، فتحول في الصلاة، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وكان التحوّل إلى الكعبة قبل موقعة بدر.

هذا واختلف في اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته قبل الهجرة، فقالت طائفة: إلى بيت المقدس، وبالمدينة ستة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى: إلى الكعبة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال آخرون: أول ما فرضت عليه الصّلاة إلى الكعبة، فلمّا هاجر؛ أمر بالتوجّه إلى بيت المقدس، ثمّ صرفه الله إلى الكعبة، قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي.

وقال أبو حاتم البستي: صلّى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك: أنّ قدومه المدينة كان يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول،

ص: 336

وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان. انتهى كلّه من القرطبي بتصرّف كبير منّي.

الإعراب: {سَيَقُولُ:} السين: حرف استقبال. (يقول السّفهاء): مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {مِنَ النّاسِ:} متعلقان بمحذوف حال من {السُّفَهاءُ} . {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {وَلاّهُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى ({ما})، تقديره: هو، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ما وَلاّهُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {عَنْ قِبْلَتِهِمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: {قِبْلَتِهِمُ} . {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان)، وجملة:{كانُوا عَلَيْها} صلة الموصول، لا محلّ لها.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم.

{الْمَشْرِقُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ لِلّهِ..} .

إلخ، مستأنفة لا محلّ لها. {وَالْمَغْرِبُ:} معطوف على ما قبله. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}). {مِنَ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ})، والمفعول محذوف، أي: هدايته، وتوفيقه. والجملة الفعلية صلة:{مِنَ} أو صفتها، وجملة:

{يَهْدِي..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير فقط. وقيل: هي في محل نصب مقول القول، والأوّل أقوى. {إِلى صِراطٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مُسْتَقِيمٍ:} صفة صراط.

{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)}

الشرح: {وَكَذلِكَ:} الإشارة إلى مفهوم الآية السابقة؛ أي: كما جعلناكم مهديّين إلى الصّراط المستقيم، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل؛ جعلناكم

إلخ {أُمَّةً وَسَطاً:} خيارا، أو عدولا مزكّيين بالعلم، والعمل. وهو يستوي فيه المذكر، والمؤنث. ولمّا جعل الله هذه الأمة

ص: 337

وسطا؛ خصّها بأكمل الشّرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال تعالى:{هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ} وفي سورة (ن): {قالَ أَوْسَطُهُمْ} أي:

أعدلهم، وخيرهم، وقال زهير في معلقته:[الطويل]

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا نزلت إحدى اللّيالي بمعظم

وفي الحديث: «خير الأمور أوساطها» . وفيه عن علي-رضي الله عنه: «عليكم بالنّمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النّازل» . وليس من الوسط الذي بين شيئين في شيء، والوسط بسكون السين: الظرف، تقول: صليت وسط القوم، وجلست وسط القوم. قال الجوهري: كل موضع صلح فيه «بين» فهو وسط، وإن لم يصلح فيه «بين» فهو وسط بالتّحريك.

وانظر الآية رقم [237] الآتية.

{لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ} هذا يكون يوم القيامة، يوم يجمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم السّابقة:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ} فينكرون، ويقولون:{ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} فيسأل الله الأنبياء عن ذلك، فيقولون: كذبوا! قد بلغنا، فيسألهم البينة-وهو أعلم بهم-إقامة للحجّة، فيقولون: أمّة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد لنا، فيؤتى بأمة محمد، عليه الصلاة والسلام فيشهدون لهم: أنهم قد بلّغوا، فتقول الأمم الماضية: من أين علموا، وإنّما كانوا بعدنا؟ فيسأل الله هذه الأمّة، فيقولون: أرسلت إلينا رسولا كريما، وأنزلت عليه كتابا مبينا، أخبرتنا فيه بتبليغ الرّسل، وأنت صادق فيما أخبرت. ثم يؤتى بمحمّد سيّد الخلق، وحبيب الحقّ، فيسأل عن حال أمّته، فيزكّيهم ويشهد بصدقهم. انتهى. خازن.

{شُهَداءَ:} جمع شاهد، أو شهيد. {الرَّسُولُ} المراد به هنا محمّد صلى الله عليه وسلم. {الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها} أي: أوّلا، وهي الكعبة المعظّمة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوجّه إليها في صلاته، وهو في مكّة، كما رأيت فيما سبق، فلمّا هاجر إلى المدينة المنوّرة؛ أمره ربّه باستقبال بيت المقدس، تألّفا لليهود، فصلّى مستقبلا إيّاه، كما رأيت فيما سبق، ثمّ حوّل، وهو ما تراه في الآية التالية.

{لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ..} . إلخ أي: لنمتحن به الناس، ونميّز من يتّبعك في التّوجه إليها ممّن يرتدّ عن دينك شكّا، وتحيّرا. وقد ارتدّ جماعة. هذا؛ والتعبير بقوله تعالى:{يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} استعارة تمثيلية؛ حيث مثّل لمن يرتدّ عن دينه بمن ينقلب على عقبيه. ومثل هذه الآية قوله تعالى:

{وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ} الآية [140] من سورة (آل عمران)، وقوله تعالى:

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} الآية رقم [31] من سورة (محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} أي: وإنّ هذا التوجه والتحويل إلى الكعبة كان امتحانا كبيرا، وشاقّا على ضعفاء الإيمان، لكنّ الذي كتب الله لهم السعادة ثبتهم على الإيمان،

ص: 338

واتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يرتابوا. هذا؛ واسم ({كانَ}) يعود إلى القبلة، أو التّحويلة، أو التولية، فلذا أنث الفعل.

{وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} أي: وما كان ليضيع ثواب صلاتكم إلى بيت المقدس. وذلك أنّ بعض اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس: إن كانت على هدى؛ فقد تحوّلتم عنه، وإن كانت على ضلالة؛ فقد دنتم الله بها مدّة، ومن مات منكم عليها؛ فقد مات على ضلالة؟! فانطلق جماعة من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! قد صرفك الله إلى ملّة إبراهيم، فكيف بإخواننا الذين ماتوا، وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟! فأنزل الله:

{وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} . انتهى جمل بتصرّف.

هذا؛ وقد عبّر الله تعالى عن الصّلاة بالإيمان لعظم شأنها، وجلالة قدرها، وأنّها قاعدة الإسلام، وروح الإيمان. {إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} الرأفة: شدة الرحمة، والعطف والحنان، وفي الصّحيح: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرّق بينها وبين ولدها، فجعلت كلّما وجدت صبيّا من السّبي؛ أخذته، فألصقته بصدرها، وهي تدور على ولدها، فلمّا وجدته؛ ضمّته إليها، وألقمته ثديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أترون هذه طارحة ولدها في النّار؛ وهي تقدر على ألا تطرحه؟» . قالوا: لا يا رسول الله! قال: «فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها!» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [206] فإنّه جيّد، والحمد لله!.

الإعراب: {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف عطف. ({كَذلِكَ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل الذي بعده، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {جَعَلْناكُمْ:} فعل وفاعل، ومفعول به أول. {أُمَّةً،} مفعول به ثان. {وَسَطاً:} صفة.

{أُمَّةً} وجملة: {وَكَذلِكَ..} . إلخ: معطوفة على ما قبلها، انظر تأويل الكلام في الشرح.

{لِتَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص منصوب ب «أن» مضمرة جوازا بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة. والواو اسمه، والألف للتفريق. {شُهَداءَ:} خبره.

و «أن» المضمرة والفعل: (تكونوا) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أي: جعلناكم لكونكم شهداء على الناس في المستقبل. {عَلَى النّاسِ:}

متعلقان ب {شَهِيداً} . {وَيَكُونَ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله. {الرَّسُولُ:} اسمه.

{عَلَيْكُمْ:} متعلقان ب {شَهِيداً} . و {شَهِيداً:} خبر ل ({يَكُونَ}).

{وَما:} الواو: حرف عطف. ({ما}): نافية. {جَعَلْنَا:} فعل، وفاعل. {الْقِبْلَةَ:} مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {الْقِبْلَةَ} . {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {كُنْتَ،} والجملة الفعلية صلة: {الَّتِي،} وتقدير الكلام:

ص: 339

جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {لِنَعْلَمَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره: نحن. {مَنْ:} مفعول به. وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة. وجملة:{يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} صلة {مَنْ} أو صفتها، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب على الاستثناء؛ إذ المعنى: وما رددناك إلى القبلة الّتي تحب أن تستقبلها، إلا امتحانا للناس، وابتلاء؛ لنعلم.... {مِمَّنْ:} متعلقان بالفعل (نعلم) ويجوز تعليقهما بمحذوف حال من الفاعل المستتر، والأول أقوى. {يَنْقَلِبُ} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({مَنْ})، والجملة الفعلية صلة ({مَنْ}) أو صفتها. {عَلى عَقِبَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما في محل نصب حال من الفاعل المستتر، التقدير: ينقلب مرتدّا على عقبيه، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنّى، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:({ما جَعَلْنَا..}.) إلخ معطوفة على ما قبلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من (نا) الواقعة فاعلا؛ فالمعنى لا يأباه، ويكون الرّابط: الواو، والضمير، وهو (نا).

{وَإِنْ:} الواو: واو الحال. ({إِنْ}): مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها. {كانَتْ:} فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، واسمها تقديره: هي، يعود إلى التولية المفهومة من الكلام السابق، أو إلى القبلة، والأول أقوى معنى. {لَكَبِيرَةً:} اللام: هي الفارقة بين «إن» النّافية، والمخفّفة المهملة. هذا؛ ويقول الكوفيون: إنّ (إن) نافية بمعنى «ما» واللام بمعنى «إلاّ» وهو ضعيف جدّا، وغير مسلّم لهم. (كبيرة): خبر كانت. {إِلاّ:} حرف حصر. {عَلَى الَّذِينَ:}

متعلقان ب (كبيرة) أو بمحذوف صفة لها. {هَدَى:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: على الذين هداهم الله، وجملة:

{وَإِنْ كانَتْ..} . إلخ في محل نصب حال من التولية، أو من القبلة، والرابط: الواو، والضمير.

وإن اعتبرتها معطوفة على ما قبلها؛ فلست مفندا.

{وَما:} الواو: حرف عطف. ({ما}): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {اللهُ:} اسم {كانَ} . {لِيُضِيعَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام الجحود، والفاعل يعود إلى {اللهُ} و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} التقدير: وما كان الله مريدا إضاعة إيمانكم، وجملة:({ما كانَ اللهُ..}.) إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {إِيمانَكُمْ:} مفعول به، والكاف: في محل جر بالإضافة.

{إِنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {بِالنّاسِ:} متعلقان بأحد الاسمين بعدهما على التنازع، {لَرَؤُفٌ:} اللام: هي المزحلقة. (رءوف رحيم) خبران ل {إِنْ} والجملة الاسمية تعليل للنفي المتقدّم لا محل لها.

ص: 340

{قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (144)}

الشرح: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ:} ذكرت لك: أن هذه مقدّمة في النزول على الآية رقم [138]، ومعنى {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ:} تردّد وجهك في جهة السماء تطلّعا للوحي، قال السّدّي: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى نحو بيت المقدس؛ رفع رأسه إلى السّماء ينظر ما يؤمر به، وكان يحبّ أن يصلي إلى قبل الكعبة. وخصّ السماء بالذكر؛ إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها، ويعود منها كالمطر، والرحمة، والوحي.

{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ:} فلنجعلنك تتوجه في صلاتك إلى الكعبة المعظمة، التي {تَرْضاها:} تحبّها، وتتشوّق بالاتجاه إليها. {فَوَلِّ وَجْهَكَ:} اصرف وجهك، وتوجّه في صلاتك. {شَطْرَ:} جهة.

قال الشاعر: [الوافر]

أقول لأمّ زنباع أقيمي

صدور العيس شطر بني تميم

هذا؛ وشطر الشيء: نصفه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الطّهور شطر الإيمان» وجمعه: أشطر، وشاطره ماله: إذا ناصفه إياه. والشّاطر: المتصف بالدّهاء، والمكر، والخبث. والشّطير:

البعيد، والغريب، ومنه قول الشّاعر، وهو الشّاهد رقم [21] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز]

لا تتركنّي فيهمو شطيرا

إنّي إذن أهلك أو أطيرا

{الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي: المحرّم فيه الظلم، والاعتداء، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، ومن دخله كان آمنا، والمراد بالمسجد الحرام الكعبة المعظمة، ويطلق أيضا على ما حولها مهما اتّسع. {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ:} في أيّ أرض، وفي أيّ مكان من المعمورة. {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ:}

فتوجّهوا في صلاتكم إليه، واجعلوه قبلتكم، والفعل منه من الأضداد يتغيّر معناه بتغيّر الجار.

يقال: أشطر إلى كذا: إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا: إذا أبعد منه، وأعرض عنه، وانظر الآية رقم [130].

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ:} المراد بهم اليهود الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم. {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ..} .

إلخ: ذلك؛ لأن من صفات النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم: أنه يصلّي إلى القبلتين: الكعبة، وبيت المقدس، ويستقر الأمر بالتوجّه إلى الكعبة المعظمة. والضمير المتصل ب:{أَنَّهُ} عائد إلى التوجّه إلى الكعبة المفهوم من الكلام السابق. {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ..} . إلخ: انظر الآية رقم [140].

ص: 341

تنبيه: سبب نزول الآية الكريمة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة المنورة أمره ربه أن يستقبل بيت المقدس في صلاته تأليفا لليهود، فرضي، وأحبّ، وامتثل، وصلّى نحوه ستة عشر، أو سبعة عشر شهرا، ومع ذلك كان يحبّ بطبعه أن يستقبل الكعبة؛ لأنّها قبلة أبيه إبراهيم، وأقدم القبلتين، وأدعى للعرب إلى الإيمان، ولمخالفة اليهود اللّؤماء؛ الذين ناصبوه العداء، فقال لجبريل عليه السلام:«وددت لو حوّلني الله إلى الكعبة» فقال جبريل عليه السلام: إنّما أنا عبد مثلك. وجعل عليه الصلاة والسلام يديم النظر إلى السّماء رجاء أن ينزل جبريل عليه السلام بما يحبّ من أمر القبلة، فأنزل الله تحقيقا لأمنيته، واستجابة لرغبته:{قَدْ نَرى..} . إلخ. انتهى.

خازن، وبيضاوي بتصرف. ورحم الله من يقول:[الكامل]

كم للنّبيّ المصطفى من آية

غرّاء حار الفكر في معناها

لمّا رأى الباري تقلّب وجهه

ولاّه أيمن قبلة يرضاها

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق، وقيل: هي حرف تكثير هنا. {نَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذّر، والفاعل مستتر تقديره: نحن، وهو بصري، اكتفى بمفعول واحد، وهو:{تَقَلُّبَ} . و {تَقَلُّبَ} مضاف، و {وَجْهِكَ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة {فِي السَّماءِ:} متعلقان بالمصدر {تَقَلُّبَ} . وأجيز أن يكونا متعلّقين بمحذوف حال من: {وَجْهِكَ} أي: متطلّعا في السّماء.

والجملة الفعلية: {قَدْ نَرى..} . إلخ هي في المعنى علّة ثانية لقوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا..} . إلخ في الآية السابقة.

{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ:} الفاء: حرف تفريع عما سبق. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف.

(نولينك): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ التي هي حرف لا محل لها، والكاف: مفعول به أول. {قِبْلَةً:} مفعول به ثان، والفاعل: مستتر تقديره: نحن، والجملة الفعلية، لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المحذوف، والقسم، وجوابه كلام مفرّع عما قبله، لا محل له. {تَرْضاها:} (ترضى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذّر، و (ها): مفعول به، والفاعل مستتر، تقديره: أنت، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {قِبْلَةً} أي: قبلة مرضية عندك، أو لك.

{فَوَلِّ} الفاء: هي الفصيحة، (ولّ): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل تقديره: أنت. {وَجْهِكَ:} مفعول به، الكاف في محل جر بالإضافة. {شَطْرَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وقيل: هو مفعول ثان: وهو مضاف، و {الْمَسْجِدِ:} مضاف إليه. {الْحَرامِ:} صفة المسجد، والجملة الفعلية:{فَوَلِّ..} . إلخ

ص: 342

لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر ب «إذا» إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا؛ فولّ

إلخ.

{وَحَيْثُ ما:} الواو: حرف عطف. (حيثما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلّق بمحذوف في محل نصب خبر ل {كُنْتُمْ} تقدّم عليه.

{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه.

{فَوَلُّوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ولّوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها شرط غير ظرفي. {وُجُوهَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {شَطْرَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وقيل: مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، {وَحَيْثُ ما..} . إلخ ومدخولها كلام معطوف على الشرط المقدّر السابق، ومدخوله، لا محل له مثله. {وَإِنَّ:} الواو: واو الحال، ({إِنَّ}) حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على الضم، والواو: نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق، {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {لَيَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، واللام هي المزحلقة. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {الْحَقُّ:} خبر (أنّ)، والمصدر المؤول من (أنّ) واسمها، وخبرها في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي (يعلمون)، {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الحق، والجملة الفعلية:{لَيَعْلَمُونَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {وَإِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ في محل نصب حال من التوجه إلى الكعبة المفهوم من الكلام السابق، والرابط: الواو، والضمير. {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [140].

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ (145)}

الشرح: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ..} . إلخ أي: وعزتي، وجلالي لئن جئت اليهود، والنّصارى بكلّ معجزة، وبرهان، وحجّة على صدقك في أمر القبلة، وغيره ممّا بعثك الله به؛ ما اتبعوك يا محمد! ولا صلّوا إلى قبلتك! فهو قطع لأمل الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم؛ لأنهم لم يتركوا الإيمان لشبهة تزيلها الحجّة، وإنما كفروا مكابرة، وعنادا. {وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ:} هذا قطع

ص: 343

لأطماعهم، فإنّهم قالوا: لو ثبت على قبلتنا؛ لكنا نرجو: أنه صاحبنا الّذي ننتظره. وهم كاذبون في قولهم هذا.

{وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أي: إنّ اليهود لا يصلّون إلى قبلة النّصارى، وهي مشرق الشّمس، وإن النّصارى لا يصلون إلى قبلة اليهود، وهي بيت المقدس، فهذا إعلام باختلافهم، وتدابرهم، وضلالهم. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ..}. إلخ: هذا على سبيل الفرض، والتقدير.

ومحال أن يتّبع الرّسول صلى الله عليه وسلم آراءهم الزائفة! ومثله في الآية رقم [120]. {إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ} أي:

لأنفسهم باتّباع ما لم يأذن به الله.

الإعراب: {وَلَئِنْ:} الواو: حرف عطف. اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {أَتَيْتَ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله.

{الَّذِينَ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{أُوتُوا الْكِتابَ:} صلة {الَّذِينَ} . {بِكُلِّ} متعلقان بالفعل {أَتَيْتَ،} و (كل) مضاف، و {آيَةٍ} مضاف إليه، وجملة:{وَلَئِنْ أَتَيْتَ} لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} نافية. {تَبِعُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله. {قِبْلَتَكَ:} مفعول به، والكاف: في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف لا محل لها، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والجملة القسمية، والشرطية كلتاهما معطوفتان على جملة: (حيثما

) إلخ في الآية السابقة، والاستئناف ممكن بالإعراض عن الكلام السابق. {وَما:} الواو: حرف عطف.

(ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم ({ما}). {بِتابِعٍ:} الباء حرف جر صلة. (تابع): خبر ({ما}) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفاعله مستتر فيه تقديره: أنت. {قِبْلَتَهُمْ:} مفعول به ل (تابع)، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الشرطية، وإعراب:{وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} مثلها، وهي أيضا معطوفة على ما قبلها، ولا يخفى عليك بعد ما تقدم إعراب:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ} . {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل: {اِتَّبَعْتَ،} و {بَعْدِ} مضاف، و {ما} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {جاءَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{ما،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة:{ما} . {مِنَ الْعِلْمِ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل:

{جاءَكَ} المستتر، و {مِنْ} بيان لما أبهم في:{ما} . {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل

ص: 344

والكاف اسمه. {إِذاً:} حرف جواب، وجزاء، لا عمل له هنا. هذا؛ وإن اعتبرته ظرفا متعلقا ب {الظّالِمِينَ} بعده؛ فلست مفندا. {لَمِنَ:} اللام: هي المزحلقة. (من {الظّالِمِينَ}):

متعلقان بمحذوف خبر (إن)، التقدير: إنك لكائن من الظالمين حينئذ، والجملة الاسمية جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهذا الكلام معطوف على سابقه.

{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}

الشرح: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ:} هم اليهود، والنّصارى، والمراد: علماؤهم.

{يَعْرِفُونَهُ:} الضمير يعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يسبق له ذكر؛ لدلالة الكلام عليه، وعدم اللّبس. ويقال: بل سبق ذكره بلفظ الرسول مرّتين، ويشهد لهذا قوله تعالى:{كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} يعرفونه بأوصافه كمعرفتهم أبناءهم، وذلك بنعته في كتبهم. قال عبد الله بن سلام-رضي الله عنه: لقد عرفت محمّدا كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد أشدّ، فقال له عمر-رضي الله عنه: ولم؟ قال: لأنّي لست أشكّ في محمّد: أنه نبيّ، فأمّا ولدي، فلعل والدته قد خانت، فقبّل رأسه، وفي رواية: أنّ عمر-رضي الله عنه-قال لعبد الله بن سلام-رضي الله عنه:

أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم، كما تعرف ابنك؟ قال: نعم، وأكثر! بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته، فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمّه. وإنّما خصّ الأبناء بالذّكر دون البنات؛ لأنّ الذكور أشهر، وأعرف، وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق. انتهى كشاف.

{وَإِنَّ فَرِيقاً:} جماعة من اليهود، والنصارى، والمراد رؤساهم، وعلماؤهم. {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ:} ليخفون، وينكرون صفات النّبيّ صلى الله عليه وسلم الموجودة في التوراة، والإنجيل، وهم يعلمون: أنّ كتمان الحق، ونكرانه معصية من أعظم المعاصي، وهو ظاهر في صحة الكفر عنادا، ومثله قوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} وقوله تعالى: {فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ} .

عن عطاء بن يسار-رحمه الله تعالى-قال: لقيت عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال:«أجل، والله إنّه لموصوف في التّوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا، وحرزا للأميّين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل؛ ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسّيئة السّيئة، ولكن يعفو، ويغفر، ولن يقبضه الله حتّى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعين عميّ، وآذان صمّ، وقلوب غلف» . رواه البخاريّ، وأحمد.

ص: 345

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آتَيْناهُمُ الْكِتابَ:}

فعل ماض، وفاعله، ومفعولاه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.

{يَعْرِفُونَهُ:} مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، هذا؛ ويجوز اعتبار الموصول صفة ل {الظّالِمِينَ} أو بدلا منه، وعليه فجملة:{يَعْرِفُونَهُ} في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الضمير فقط {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر.

(ما): مصدرية. {يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار، والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: يعرفونه معرفة كائنة مثل معرفتهم أبناءهم

إلخ. وانظر: {كَما سُئِلَ} في الآية رقم [108].

{وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. ({إِنَّ}): حرف مشبه بالفعل. {فَرِيقاً:} اسمها. {مِنْهُمْ:} متعلقان ب {فَرِيقاً:} أو بمحذوف صفة له. {لَيَكْتُمُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (يكتمون): مضارع، وفاعله. {الْحَقَّ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:

{وَإِنَّ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو والضمير. {وَهُمْ:} الواو:

واو الحال. ({هُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. وجملة {يَعْلَمُونَ} مع المفعول المقدر في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة؛ التي هي فاعل (يكتمون) فهي حال متداخلة، والرابط: الواو، والضمير.

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}

الشرح: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ما أنت عليه يا محمد من الهدى، والنور إنما هو الحقّ، ومن ذلك استقبال الكعبة، لا ما أخبرك به اليهود من استقبال بيت المقدس. {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ:} الشّاكين في الذي أنت عليه، وهذا على سبيل الفرض، والتقدير؛ لأنه من المحال أن يشكّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فيما أنزل إليه من ربه، هذا؛ وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته؛ لأن النهي المذكور محال في حقه صلى الله عليه وسلم.

وحاصل الجواب: أن متعلّق الامتراء هو علم أهل الكتاب بحقيّة القرآن، وهو أحد الأجوبة في الكشاف. والثاني: أنه من باب التهييج، والتّحريض على الأمر. والامتراء: الشك، ومنه المراء، والتماري، والمماراة؛ لأنّ كلّ واحد منهم يشك في قول صاحبه. وانظر مثل هذه الآية في مماراة النّصارى لسيّد الخلق في شأن عيسى في الآية رقم [60] من سورة (آل عمران).

الإعراب: {الْحَقُّ:} مبتدأ. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبره، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وجوز أن يكون

ص: 346

{الْحَقُّ} مبتدأ، وخبره محذوفا؛ أي: الحقّ من ربك يعرفونه، فيكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف حال من:{الْحَقُّ} وهو ضعيف كما ذكرته فيما مضى. هذا؛ وقرئ بنصب («الحقّ»)، وخرج على وجوه: على أنّه منصوب ب {يَعْلَمُونَ،} أو على تقدير: الزم الحق، أو على اعتباره بدلا من سابقه. {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة. (لا): ناهية. {تَكُونَنَّ:} فعل مضارع ناقص مبني على الفتح في محل جزم بلا الناهية، والنون حرف لا محل له، اسمه ضمير مستتر تقديره:

أنت. {مِنَ الْمُمْتَرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: {تَكُونَنَّ:} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب الشرط المحذوف المقدر ب «إذا» ، والشرط المقدر، ومدخوله كلام مستأنف لا محل له فيما يظهر.

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}

الشرح: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ:} أي: لكلّ فريق من المسلمين، واليهود، والنصارى. وجهته.

والقياس: جهة، مثل: زنة، وعدة، وقد جاء على الأصل المتروك في عدة، وزنة. هذا؛ وقيل:

سلمت الواو في {وِجْهَةٌ} للفرق بين عدة، وزنة؛ لأنّ «جهة» ظرف، وتلك مصادر، ومعنى {وِجْهَةٌ:} قبلة يتّجه إليها في صلاته، فقبلة المسلمين الكعبة، وقبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النّصارى مشرق الشمس. {هُوَ:} في هذا الضمير وجهان: أحدهما هو ضمير اسم الله، والثّاني: هو ضمير (كلّ) فعلى الأولى المعنى: الله موجّه من يشاء إلى الجهة التي يشاؤها، وعلى الثاني المعنى: صاحب القبلة مولّيها نفسه.

{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} أي: سارعوا، وبادروا، وتنافسوا في الخيرات، وهي الطّاعات. قال تعالى:{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ، وقال جلّ ذكره:{سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} .

إلخ، ومثل هذه الآية قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} .

{أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً:} أي: يجمعكم يوم القيامة للحساب، والجزاء، فيجازيكم بأعمالكم، والله قادر مقتدر، لا يعجزه شيء. هذا؛ والرسول صلى الله عليه وسلم حثنا كذلك على المسابقة في الأعمال الصالحات، والمسابقة إلى الخيرات قبل فوات الأوان، وضياع الفرص، فقال:«بادروا بالأعمال فتنا كقطع اللّيل المظلم، يصبح الرّجل مؤمنا، ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدّنيا» . أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فالله ورسوله لم يحثّا العباد على جمع الدّنيا، والركض فيها، والتّفاني في جمع حطامها الفاني، بل حثّا على المسابقة على الطّاعات، والمسارعة إلى الأعمال الصّالحات.

ص: 347

الإعراب: {وَلِكُلٍّ:} الواو: حرف استئناف. ({لِكُلٍّ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {وِجْهَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مُوَلِّيها:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، و (ها): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله الأول، وفاعله مستتر فيه، والمفعول الثاني محذوف؛ إذ التقدير: موليها ذلك الفريق بأمره. وهذا على اعتبار: {هُوَ:} ضمير اسم الله، وأما على الاعتبار الثاني فيه، فالتقدير:{هُوَ} أي: الفريق مولّي الوجهة نفسه، وهذا أقوى من الأول، ويؤيده قراءة:(«هو مولاّها») بفتح اللام، وصيغة المفعول. فنائب الفاعل-وهو المفعول الأول-يعود إلى كل فريق، و (ها): مفعوله الثاني، والجملة الاسمية:{هُوَ مُوَلِّيها} في محل رفع صفة: {وِجْهَةٌ} . هذا؛ وقال مكيّ: واللام في ({لِكُلٍّ}) متعلق ب: (مولي)، وهي زائدة.

{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ:} الفاء: هي الفصيحة. {الْخَيْراتِ:} منصوب بنزع الخافض، والناصب له عند البصريين النزع، وعند الكوفيين الفعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وحاصلا؛ فاستبقوا الخيرات. {أَيْنَ ما:} اسم شرط جازم مبني على السكون، وبعضهم يعتبر ({ما}) زائدة. فيكون مبنيّا على الفتح، وهو في محل نصب على الظرفية المكانية، متعلق بمحذوف في محل نصب خبر {تَكُونُوا؛} لأنه ناقص، وهو فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو اسمه، والألف للتفريق، والجملة الفعلة ابتدائية لا محل لها بمفردها. {يَأْتِ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ومتعلقه محذوف. انظر الشرح. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، والشرط ومدخوله كلام مستأنف لا محل له من الإعراب. {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:} إعراب هذه الجملة واضح إن شاء الله تعالى، وهي تعليل لمدخول الشرط.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (149)}

الشرح: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} أي: من أيّ مكان خرجت للسّفر، وفي أيّ مكان كنت فيه.

{وَإِنَّهُ} أي: التوجه إلى الكعبة حيثما وجد المسلم. وكرّر الأمر بالتوجه إلى الكعبة، لتأكيد أمر القبلة، وتشديده، لأنّ النّسخ من مظانّ الفتنة، والشبهة، فكرّر عليهم ليثبتوا، على أنّه نيط بكلّ واحد ما لم ينط بالآخر، فاختلفت فوائدها. انتهى. نسفي. {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ..}. إلخ: انظر الآية رقم [140] ويقرأ: {تَعْمَلُونَ} بالياء، والتاء.

الإعراب: {وَمِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مِنْ}): حرف جر. {حَيْثُ:} اسم مبني على الضم في محل جر ب ({مِنْ})، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(ولّ) الآتي. {خَرَجْتَ} فعل

ص: 348

وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها. {فَوَلِّ:} الفاء: حرف جر صلة، وإن اعتبرتها حرفا أصليّا دالاّ على الاستئناف؛ فالواو تكون زائدة. (ولّ): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، الفاعل مستتر تقديره: أنت.

{وَجْهَكَ:} مفعول به أوّل، والكاف في محل جر بالإضافة. {شَطْرَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وقيل: هو مفعول ثان، وهو مضاف، و {الْمَسْجِدِ} مضاف إليه. {الْحَرامِ:} صفة:

{الْمَسْجِدِ،} والجملة الفعلية: (ولّ

) إلخ مستأنفة لا محلّ لها. هذا؛ وهناك أوجه أخر في إعراب ما تقدّم، فبعضهم يعتبر {حَيْثُ} شرطا يحتاج إلى فعل شرط، وجواب، والفعل {خَرَجْتَ} شرطه، وجملة {فَوَلِّ} جوابه، وهذا غير مسلّم؛ لأنه يشترط أن تتصل (ما) ب {حَيْثُ} لتكون من أدوات الشرط الجازمة، وبعضهم يعلق:{وَمِنْ حَيْثُ} بفعل محذوف عطف عليه: {فَوَلِّ،} والتقدير: ومن حيث خرجت افعل ما أمرت به فول

إلخ، وهذا ظاهر فيه التكلف. فالوجه ما ذكرته أولا. والله أعلم.

{وَإِنَّهُ:} الواو: واو الحال، ({إِنَّهُ}): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لَلْحَقُّ:} اللام: هي المزحلقة. (الحق): خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب حال من التوجه المفهوم من الكلام السابق، وهو أقوى من الاستئناف، والعطف لا وجه له هنا، والرابط: الواو، والضمير.

{مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف حال من: (الحق)، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَمَا:} الواو: حرف عطف. ({مَا}): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» ، {اللهُ:} اسمها. {بِغافِلٍ:} الباء حرف جر صلة. (غافل): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية معطوفة على (ما) قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{عَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب (غافل)، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية.

فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (عن)، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، والرابط محذوف، التقدير: عن الذي، أو: عن شيء تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (عن) التقدير: بغافل عن عملكم.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاِخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}

الشرح: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ..} . إلخ: هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض. وقد اختلفوا في حكمة هذا التّكرار ثلاث مرّات، فقيل: تأكيد

ص: 349

لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نصّ عليه ابن عباس، وغيره، وقيل: بل هو منزل على أحوال، فالأول: لمن شاهد الكعبة، والأمر الثاني: لمن هو في مكة غائبا عن الكعبة، والأمر الثالث: لمن هو في بقية البلدان. هكذا وجهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي: الأول: لمن هو في مكة، والثاني: لمن هو في بقيّة الأمصار، والثالث: لمن خرج في الأسفار.

{لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ:} المراد بهم اليهود، فإنّهم يعلمون من صفة هذه الأمّة التوجّه إلى الكعبة، فإن فقدوا ذلك من صفتها؛ ربما احتجّوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجّوا بموافقة المسلمين إيّاهم في التوجّه إلى بيت المقدس. وقال أبو العالية: يعني به أهل الكتاب حين قالوا:

صرف محمد إلى الكعبة، وقالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه، ودين قومه، وكانت حجّتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام، أن قالوا: سيرجع إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا.

{إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي: إلا المعاندين منهم: اليهود، والمشركون، فاليهود قالوا: ما تحوّل محمد إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين آبائه، وحبّا لبلده. والمشركون قالوا: رجع محمّد إلى قبلة إبراهيم، وسيرجع إلى دين آبائه، وأجداده. وجواب الجميع: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولا، لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربّه تعالى في ذلك، ثمّ صرفه إلى قبلة إبراهيم، وهي الكعبة، فامتثل أمر الله تعالى في ذلك أيضا، فهو-صلوات الله وسلامه عليه-مطيع لله في جميع أحواله، لا يخرج عن أمر الله تعالى طرفة عين، وأمته تبع له.

ذكر الأخفش، والفرّاء، وأبو عبيدة، ومعمر بن المثنى: أنّ «إلاّ» تأتي عاطفة بمنزلة الواو في التّشريك في اللفظ، والمعنى، وجعلوا منه:{إِلاَّ} في هذه الآية، والآية رقم [11] من سورة النّمل، وتأولهما الجمهور على الاستثناء المنقطع، وخذ قول الفرزدق:[البسيط]

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلاّ دار مروانا

فالعطف فيه ظاهر، وأيضا قول الآخر:[الكامل]

وأرى لها دارا بأغدرة ال

يدان لم يدرس لها رسم

إلاّ رمادا هامدا دفعت

عنه الرّياح خوالد سحم

هذا؛ والمراد بحجّتهم الاعتراض، والمجادلة بالباطل، لا الحجّة حقيقة، والمجادلة الباطلة قد تسمّى حجة، كقوله تعالى:{حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} لشبهها لها صورة، وسمّاها الله تعالى حجّة، وحكم بفسادها حيث كانت من ظلمة. والمعنى: لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة؛ حيث قالوا: {ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها} وتحيّر محمّد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تصدر إلا من عابد وثن، أو من يهوديّ، أو منافق.

ص: 350

{فَلا تَخْشَوْهُمْ:} فلا تخافوا جدالهم في التوجّه إلى الكعبة. {وَاخْشَوْنِي:} خافوني بامتثال أمري، واجتناب نهيي، هذا؛ والماضي: خشي، والمصدر خشية، والرّجل خشيان، والمرأة خشيا، وهذا المكان أخشى من ذاك، أي: أشد خوفا، وقد يأتي خشي بمعنى: علم القلبيّة، قال الشاعر المسلم:[الكامل]

ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى

سكن الجنان مع النّبيّ محمّد

قالوا: معناه: علمت، وقوله تعالى في سورة (الكهف) حكاية عن قول الخضر:{فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} . قال الأخفش: معناه: كرهنا. هذا؛ والخشية أصلها: طمأنينة في القلب تبعث على الترقّي. والخوف: فزع القلب تخفّ له الأعضاء، ولخفة الأعضاء سمّي خوفا.

{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} أي: بالهداية، والتوفيق إلى القيام بما آمركم به، والابتعاد عمّا أنهاكم عنه، وأيضا بالرّضا، والتسليم، والاستسلام لكلّ ما شرعت من الأحكام، من تغيير، وتبديل، وناسخ، ومنسوخ من التعاليم. {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ:} توفّقون إلى الحق. وإلى ما ضلّت عنه الأمم، وهديناكم إليه، وخصصناكم به، وبهذا كانت هذه الأمّة أشرف الأمم، وأفضلها.

الإعراب: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ:} هو مثل الآية السابقة بلا فارق، وهي معطوفة عليها، ومؤكّدة لها. {وَحَيْثُ ما:} الواو: حرف عطف. (حيثما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية.

وبعضهم يقول: مبني على الضمّ على اعتبار (ما) زائدة، متعلق بمحذوف في محل نصب خبر ل {كُنْتُمْ} تقدّم عليه. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {فَوَلُّوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ولوا): فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعله، والألف للتفريق. {وُجُوهَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.

{شَطْرَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وقيل: مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها، والجملة الفعلية: (ولوا

) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها من الإعراب؛ لأنها لم تحل محل المفرد.

{لِئَلاّ..} . إلخ: اللام: حرف تعليل وجر. (أن): حرف مصدري ونصب مدغم في (لا) النافية. {يَكُونَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» . {لِلنّاسِ:} متعلقان بمحذوف خبر {يَكُونَ} مقدم. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف المقدّم. أو هما متعلقان بمحذوف حال من {حُجَّةٌ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» ، {حُجَّةٌ:} اسم {يَكُونَ} مؤخر، و «أن» والفعل:{يَكُونَ} في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: فعلنا ذلك لقطع حجة

ص: 351

الناس عليكم. وهذا الكلام مستأنف مبين لحكمة التوجه إلى الكعبة المشرفة. {إِلاَّ} حرف استثناء {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب على الاستثناء من (النّاس)، وجملة:{ظَلَمُوا:} صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْهُمْ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (من) بيان للموصول.

{فَلا:} الفاء: هي الفصيحة فيما أرى، ويعتبرها ابن هشام للسببية المحضة، ومن يجيز عطف الإنشاء على الخبر يعتبرها عاطفة. (لا): ناهية جازمة. {تَخْشَوْهُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا)، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، ولا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء. {وَاخْشَوْنِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{وَلِأُتِمَّ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:

أنا، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على قوله تعالى:{لِئَلاّ يَكُونَ..} . إلخ. وقال الزجاج: متعلقان بفعل محذوف، التقدير:

ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم نعمتي، فهما متعلقان ب «عرفتكم». {نِعْمَتِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (أتمّ).

{وَلَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تَهْتَدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والمتعلق محذوف، كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية معطوفة على (ما) قبلها، فهي تعليل ثالث لقطع حجّة الناس عليكم.

{كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}

الشرح: {كَما أَرْسَلْنا:} انظر الإعراب لربطه بما قبله. أو بما بعده. {فِيكُمْ:}

الخطاب للعرب. {رَسُولاً:} هو محمد صلى الله عليه وسلم {مِنْكُمْ} أي: من العرب المخاطبين، ولم يبعثه من العجم كما لم يبعثه ملكا من الملائكة. {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ:} انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [129] مع ملاحظة الغيبة هناك، والخطاب هنا.

{وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ:} هذه الجملة بعد سابقتها من باب ذكر العام بعد الخاص؛ لإفادة

ص: 352

الشمول، وهذا يسمّى في البلاغة بالإطناب، والمعنى: يعلمكم أمورا لا تعلمونها بعقولكم، ولا تصل إليها أفهامكم، وذلك بأخبار الأمم الماضية، وقصص الأنبياء، وأخبار الحوادث المستقبلة، بالإضافة إلى الأمور التشريعية؛ التي لم تكن موجودة في الديانات السابقة ولا علم لكم بها. هذا؛ ومعنى الآية الكريمة: أن الله تعالى يذكّر عباده المؤمنين بما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يقرأ عليهم آيات القرآن البينات، ويزكيهم؛ أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق، ودنس النفوس، وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب، وهو القرآن، والحكمة، وهي السنة المطهرة وغير ذلك مما ذكرته سابقا، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالقول العقلاء، والحكماء، فانتقلوا ببركة رسالته، وبمنّ دعوته إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء، فصاروا أعمق الناس علما، وأبرّهم قلوبا، وأطهرهم نفوسا، وأصدقهم حجة، وقد قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [164]:{لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وقال تعالى في سورة الجمعة رقم [2]: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .

الإعراب: {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل.

{فِيكُمْ:} صفة {رَسُولاً} و (ما) المصدرية، والفعل {أَرْسَلْنا} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل:(أتمّ) في الآية السابقة، وتقدير الكلام: لأتمّ نعمتي عليكم إتماما كائنا مثل إرسالنا فيكم رسولا. هذا؛ وجوز البيضاوي، والنّسفي تبعا للزمخشري تعليق الجار والمجرور بالآية التالية؛ أي: فاذكروني كما ذكرتكم بإرسال رسول

إلخ، والأول قاله الفرّاء، واستحسنه ابن عطيّة. والثاني اختاره الزجّاج. وقال القرطبيّ: وهو اختيار الترمذيّ الحكيم في كتابه

إلخ، كما أجيز تعليقهما بمحذوف حال من الكاف، والميم، والمعنى: ولأتمّ نعمتي عليكم في هذه الحال.

{يَتْلُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى {رَسُولاً} والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{رَسُولاً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدّم، والجمل بعدها معطوفة عليها على الاعتبارين فيها، {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {آياتِنا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. ({يُزَكِّيكُمْ}): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى رسولا، والكاف مفعول به، ({يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ}): مضارع، ومفعولاه، والفاعل يعود إلى رسولا أيضا. {وَالْحِكْمَةَ:} معطوف على ما قبله. ({يُعَلِّمُكُمُ}): مضارع ومفعوله الأول، والفاعل يعود إلى:{رَسُولاً.} . {ما:}

ص: 353

تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {لَمْ:}

حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{تَعْلَمُونَ} في محل نصب خبره، وجملة:{لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: يعلمكم الذي، أو: شيئا لم تكونوا تعلمونه.

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاُشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: اذكروني بطاعتي؛ أذكركم بمعونتي.

وقيل: اذكروني في النعمة، والرّخاء؛ أذكركم في الشدّة والبلاء. وقال أهل المعاني: اذكروني بالتّوحيد، والإيمان؛ أذكركم بالجنان، والرّضوان، وقيل: اذكروني بالإخلاص؛ أذكركم بالخلاص، وقيل غير ذلك.

هذا؛ وقال أرباب المعاني: ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النّعمة؛ حيث قال:

{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ..} . إلخ الآية رقم [40]، وأسقطه عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى ذكره، فقال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ليكون نظر الأمم من النّعمة إلى المنعم، ونظر أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من المنعم إلى النّعمة. وقال بعض العارفين: عبيد النّعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكّر بني إسرائيل بنعمه عليهم؛ حتّى يعرفوا منها المنعم. فقال:{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ..} . إلخ، وأما أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ذكّرهم بالمنعم، فقال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ليتعرفوا من المنعم على النّعمة، وشتّان ما بين الأمرين. هذا؛ وانظر الشكر في الآية رقم [52]. {وَلا تَكْفُرُونِ} أي: لا تجحدون، وسمّي الجحود كفرانا؛ لأنه مثل الكفر في التغطية، والستر، وقلب الشيء عن وجهه.

بعد هذا فقد جعل الله لكل طاعة، وعبادة أولا وآخرا إلا الذكر، فإنّه لا أوّل له، ولا آخر، قال تعالى في سورة (الجمعة):{وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،} وقال تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [35]: {وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ} أي: كثيرا، وقال فيها أيضا رقم [41]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً} وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: لم يفرض الله-عز وجل-على عباده فريضة إلا وجعل لها حدّا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر؛ غير الذّكر، فإنّه لم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلّبا على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلّها، فقال تعالى في سورة النساء رقم [103]:{فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ} وقال جل ذكره: {اُذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً} يعني: باللّيل والنّهار، في البرّ والبحر، في الصّحة والمرض، في السرّ والعلانية، وقيل: الذّكر الكثير هو أن لا ينساه أبدا. وخذ ما يلي:

ص: 354

فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذّهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟» . قالوا: بلى، قال:«ذكر الله» . قال معاذ بن جبل-رضي الله عنه: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله. رواه الإمام أحمد بإسناد حسن، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم، والبيهقي.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عجز منكم عن اللّيل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدوّ أن يجاهده؛ فليكثر ذكر الله» . رواه الطّبراني، والبيهقيّ، وغيرهما.

وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إنّ لكلّ شيء صقالة، وإنّ صقالة القلوب ذكر الله، وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله» . قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولو أن يضرب بسيفه؛ حتّى ينقطع» . رواه البيهقيّ، وغيره.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من أعطيهنّ؛ فقد أعطي خيري الدّنيا، والآخرة: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا في نفسها، وماله» . رواه الطّبراني.

وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال النّبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الّذي يذكر ربّه، والّذي لا يذكر الله مثل الحيّ والميت» . رواه البخاريّ، ومسلم.

وعن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله؛ خنس، وإن نسي؛ التقم قلبه» . رواه البيهقي، وغيره.

وفي التّحذير من غفلة القلب عن ذكر الله خذ ما يلي:

فعن عائشة-رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من ساعة تمرّ بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير؛ إلاّ تحسّر عليها يوم القيامة» . رواه البيهقي، وغيره.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلّوا على نبيّهم؛ إلاّ كان عليهم ترة، فإن شاء؛ عذّبهم، وإن شاء؛ غفر لهم» . رواه أبو داود، والترمذي، والبيهقي.

وتكرّم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتفضل بما يلي:«من جلس مجلسا كثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك» . رواه أبو داود، والترمذي، والنّسائي عن أبي هريرة-رضي الله عنه.

وعن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير الذّكر الخفيّ، وخير الرّزق ما يكفي» . رواه ابن حبّان، وأبو عوانة في صحيحيهما. نعم أفضل الذكر

ص: 355

الخفيّ، وأما الذين يذكرون الله رقصا، ودبكا، وصياحا؛ فليسوا على شيء! وانظر ما ذكرته بشأن هؤلاء الجهلة في سورة (ص) رقم [44] وفي (الزّمر) رقم [23] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وقال عبد الله بن زيد-رحمه الله تعالى-: غلطت في أربعة أشياء في الابتداء مع الله تعالى: ظننت أنّي أحبه، فإذا هو أحبني، قال تعالى:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ،} وظننت أني أرضى عنه، فإذا هو قد رضي عني، قال تعالى:{رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . وظننت: أني أذكره، فإذا هو يذكرني، قال تعالى:{وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} -ولا تنس الآية التي نحن بصدد شرحها-. وظننت أني أتوب، فإذا هو قد تاب عليّ، قال تعالى:{ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} .

الإعراب: {فَاذْكُرُونِي:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، (اذكروني): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، والياء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب، لأنها جواب لشرط مقدر ب «إذا» ، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا؛ فاذكروني. {أَذْكُرْكُمْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، التقدير: إن تذكروني أذكركم، وعليه فالفاء للاستئناف لاستحالة تقدير شرطين على مدخول واحد، والفاعل مستتر تقديره: أنا، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَلا:} الواو:

حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَكْفُرُونِ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة للتخفيف في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ (153)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر مثل هذا النداء في الآية رقم [104]. هذا؛ ولمّا فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر، وعدم الجحود للنّعم شرع في بيان الصبر، والإرشاد، والاستعانة بالصبر، والصلاة على متاعب الحياة، ومحنها، فإنّ العبد إما أن يكون في نعمة؛ فيشكر عليها، أو في نقمة؛ فيصبر عليها، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«عجبا لأمر المؤمن، إنّ أمره له كلّه خير، وليس ذلك إلاّ للمؤمن، إن أصابته سراء؛ شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء؛ صبر، فكان خيرا له» ، رواه مسلم عن صهيب الرّومي-رضي الله عنه، وبيّن الله عز وجل أنّ أجود ما يستعان به على تحمّل المصائب الصبر، والصّلاة، انظر الآية رقم [45] ففيها الكفاية. {إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} أي: بالمعونة، والهداية، والتوفيق، والرعاية، والسّداد. هذا؛ ومعية الله على نوعين:

عامّة، وخاصّة، فالأولى: لكلّ الناس، وهي معيّة بالعلم، والقدرة، والإحاطة. والثانية:

للمؤمنين المتّقين، والمحسنين، هي: الحفظ، والنصر، والتأييد، والمعونة

إلخ، قال

ص: 356

تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ،} وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .

هذا، وبالإضافة لما ذكر فيما تقدم بشأن الصّلاة؛ فخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرّات، هل يبقى من درنه شيء؟! قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فكذلك مثل الصّلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا» . رواه الستّة إلا أبا داود.

ولكن يجب أن تعلم: أنّ الصلاة يمحو الله بها الصّغائر من الذّنوب، وأما الكبائر؛ فلا يمحوها صوم، ولا صلاة، ولا حجّ، ولا زكاة، وعلى الأخص حقوق النّاس، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

«الصّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ، إذا اجتنبت الكبائر» . وفي رواية: «ما لم تفش الكبائر» .

الإعراب: ({يا}): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. ({أَيُّهَا}): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب (يا)، و (ها): حرف تنبيه لا محل له أقحم للتّوكيد، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة لأنه يجب حينئذ نصب المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من لفظ ({أَيُّهَا})، وجملة:{آمَنُوا:} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {اِسْتَعِينُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها، لأنّها ابتدائية كالجملة النّدائية قبلها. {بِالصَّبْرِ:} متعلقان بما قبلهما.

{وَالصَّلاةِ:} معطوف على ما قبله. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: {إِنَّ} وهو مضاف، و {الصّابِرِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها.

{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)}

الشرح: نزلت هذه الآية الكريمة فيمن قتل من المسلمين في غزوة بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين، وهم: عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وعمير بن أبي وقاص، وعمرو بن نضلة، وعاقل بن البكير، ومهجع مولى لعمر بن الخطاب، وصفوان ابن بيضاء، وثمانية من الأنصار، وهم: سعد بن خيثمة، ومبشّر بن عبد بن المنذر، ويزيد بن الحارث، وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلّى، وحارثة بن سراقة، وعوف، ومعوّذ، ابنا الحارث، وأمّهما اسمها عفراء-رضي الله عنهم أجمعين-، كان الناس يقولون لمن قتل في سبيل الله: مات فلان، وذهب عنه نعيم الدنيا، ولذاتها، فأنزل الله هذه الآية، وهي برهان قاطع على أنّ حياة الشّهداء ليست بالجسد، ولا من جنس ما يحسّ به من الحيوانات، وإنّما هي أمر لا يدرك بالعقل، بل بالوحي. وعن الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: إنّ الشهداء أحياء عند ربهم، تعرض

ص: 357

أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الرّوح، والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوّا، وعشيّا، فيصل إليهم الوجع، والألم. وفي هذه الآية دلالة على: أنّ الأرواح جواهر قائمة بنفسها، مغايرة لما يحسّ به من البدن، تبقى بعد الموت داركة. وعليه جمهور الصّحابة، والتابعين، وبه نطقت الآيات، والسّنن، وعلى هذا فتخصيص الشّهداء لاختصاصهم بالقرب من الله، ومزيد البهجة والكرامة. انتهى. بيضاوي، وغيره بتصرّف. ففيه دليل على أن المطيعين لله يصل إليهم ثوابهم. وهم في قبورهم، وكذا العصاة يعذبون في قبورهم، والنعيم والعذاب في القبر، إنما هو للروح فقط؛ لأنّ الجسد يطرأ عليه الفناء كما هو معروف. {وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ} أي: لا ترونهم أحياء، فتعلمون ذلك حقيقة، وإنما تعلمون ذلك بإخباري إيّاكم. هذا؛ والثابت في القرآن والسنة النبوية: أن جميع المطيعين من المسلمين، يصل إليهم من نعيم الجنة في قبورهم، وإنما خص الشهداء بالذكر؛ لأنهم فضلوا على غيرهم بمزيد من النعيم، والتكريم، والتعظيم، وعلوّ الدّرجات، وكثير النفحات، والبركات. وخذ ما يلي:

فعن معاذ بن جبل-رضي الله عنه: أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قاتل في سبيل الله فواق ناقة؛ فقد وجبت له الجنّة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا، ثمّ مات، أو قتل؛ فإنّ له أجر شهيد، ومن جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب نكبة؛ فإنّها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزّعفران، وريحها ريح المسك» . رواه أبو داود، والتّرمذيّ.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في الجنّة مائة درجة، أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدّرجتين، كما بين السّماء والأرض» . رواه البخاريّ.

وعن أنس-رضي الله عنه-عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إلى الدّنيا، وإنّ له ما على الأرض من شيء إلاّ الشّهيد، فإنّه يتمنّى أن يرجع إلى الدّنيا، فيقتل عشر مرّات؛ لما يرى من الكرامة» . وفي رواية: «لما يرى من فضل الشّهادة» . رواه الشيخان، وغيرهما.

وعنه أيضا-رضي الله عنه: أنّ الرّبيّع بنت البراء-رضي الله عنها-وهي أمّ حارثة بن سراقة-أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! ألا تحدّثني عن حارثة-وكان قتل يوم بدر-فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك؛ اجتهدت عليه في البكاء! فقال:«يا أمّ حارثة إنّها جنان، وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى» . أخرجه البخاريّ. وانظر الآية رقم [195] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَقُولُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين.

ص: 358

{لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (من) تحتمل أن تكون موصولة وأن تكون موصوفة. {يُقْتَلُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (من) تقديره: هو، وقد راعى لفظها فيه، وراعى معناها فيما يأتي. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز تعليقهما بمحذوف حال من نائب الفاعل العائد إلى (من)، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ:}

مضاف إليه. {أَمْواتٌ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم أموات، وقد راعى فيه، وفيما بعده معنى (من). والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

{بَلْ:} حرف عطف، وإضراب {أَحْياءٌ:} خبر لمبتدإ محذوف أيضا، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف.

({لكِنْ}): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {لا:} نافية. {تَشْعُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة القول.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ (155)}

الشرح: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ:} الابتلاء: الاختبار، والامتحان، ويكون في الخير، وفي الشرّ، قال تعالى في حق اليهود اللّؤماء:{وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . وقال تعالى:

{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} والمعنى: ولنصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم، هل تصبرون على البلاء، وتستسلمون للقضاء أم لا؟ قال تعالى في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} . {بِشَيْءٍ} أي: بشيء قليل، وإنّما قلّله بالنسبة إلى ما وقاهم منه ليخفف عليهم، ويريهم: أنّ رحمته لا تفارقهم، وإنّما أخبرهم به قبل وقوعه؛ ليوطّنوا أنفسهم عليه، وليظهر الطائع من العاصي، والصّابر من الجازع؛ الذي لا يصبر، ولا يرضى بما يصيبه في دنياه {مِنَ الْخَوْفِ:} الخوف على النفس، أو على الولد، أو على المال، أو على الكرامة هو من أعظم البلاء؛ لذا قدّمه الله تعالى بالذّكر قال الشاعر:[الطويل]

كأنّ بلاد الله وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفّة حابل

الكفّة: بكسر الكاف ما يصاد بها الظّباء يجعل كالطّوق. والأمن على ما ذكر من أعظم أنواع السّعادة. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه؛ فقد ملك الدّنيا بحذافيرها» . {وَالْجُوعِ:} أي: المتسبب من الفقر، وهو يتسبب من الجدب، والقحط، وهو مع الخوف من أشدّ أنواع البلاء، قال تعالى في حقّ القرية الكافرة بأنعم الله:{فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} رقم [12] من سورة (النّحل)، {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ} بموت المواشي، وخسران التجارة، وغير ذلك، وانظر الآية رقم [176] الآتية. {وَالْأَنْفُسِ} كموت الأصحاب، والأقارب، والأحباب، وهو جمع: نفس جمع قلة. وانظر الآية رقم [9].

ص: 359

{وَالثَّمَراتِ:} ثمرات الزّروع، والأشجار، والخضار بسبب الآفات السّماوية التي تصيبها، وانظر الآية رقم [22] وقيل: المراد بالثّمرات: الأولاد؛ لأنّ الولد ثمرة القلب، وخذ ما يلي:

فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد؛ قال الله عز وجل لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك، واسترجع. فيقول: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد» . رواه الترمذيّ، وابن حبّان.

هذا؛ وعن الشّافعي-رضي الله عنه: الخوف خوف الله، والجوع صوم رمضان، والنّقص من الأموال الصّدقات، والزّكوات، ومن الأنفس الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد.

انتهى. بيضاوي.

أقول: سياق الآيات لا يناسب تفسير الخوف، والنقص بما ذكر. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: وعزتي وجلالي، وهو أولى من تقدير: والله. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم.

واللام: واقعة في جواب القسم. (نبلونكم): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها جواب القسم. والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {بِشَيْءٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنَ الْخَوْفِ:} متعلقان بمحذوف صفة (شيء)، و {وَنَقْصٍ:} معطوف على الخوف.

{مِنَ الْأَمْوالِ:} متعلقان ب (نقص) لأنه مصدر، أو هما متعلقان بمحذوف صفة له، وجوز أن يكونا متعلقين في محل نصب صفة لمفعول محذوف نصب بهذا المصدر المنون، التقدير: ونقص شيئا كائنا من كذا. ذكره أبو البقاء، ولا وجه له، بل هو تعسّف.

{وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ:} معطوفان على الأموال، {وَبَشِّرِ:} الواو: حرف عطف. ({بَشِّرِ}): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {الصّابِرِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في المفرد، ولا تنس: أنه صفة لموصوف محذوف، وهو يشمل الإناث أيضا، وذكّر على التغليب، والجملة الفعلية:{وَبَشِّرِ..} .

إلخ معطوفة على الجملة القسمية السابقة، عطف المضمون على المضمون، أي: الابتلاء حاصل لكم، وكذا البشارة، لكن لمن صبر. قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني.

{الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)}

الشرح: {الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ:} المصيبة: هي كل ما يصيب المؤمن من مكروه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم كلّ ما آذى المؤمن فهو مصيبة» . وهذه الجملة قالها الرّسول صلى الله عليه وسلم حين طفئ

ص: 360

مصباحه ذات ليلة، واسترجع، فقالت له عائشة-رضي الله عنها: أوتعدّ هذا مصيبة؟ قال:

«نعم

» إلخ. هذا؛ وأصاب فلانا البلاء: وقع عليه، وأصابهم المطر: نزل عليهم. قال تعالى في سورة (الروم) رقم [48]: {فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . وتقول:

أصاب السّهم، يصيب، فلم يخطئ هدفه، وأصاب الرجل في قوله، أو في رأيه: أتى بالصواب ويأتي (أصاب) بمعنى قصد، وأراد، قال تعالى في حقّ سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} . وقال الشاعر: [المتقارب]

أصاب الكلام فلم يستطع

فأخطأ الجواب لدى المفصل

{قالُوا إِنّا لِلّهِ:} ملكا، وخلقا، وعبيدا، يتصرّف فينا كيف يشاء. فهو توحيد، وإقرار بالعبودية لله. {وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} أي: في الآخرة بعد الموت، فيجازينا بأعمالنا قولا، وفعلا، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، فكل من مات، وخرجت روحه من بين جنبيه، فقد رجع إلى الله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من مات فقد قامت قيامته» . والجملة إقرار بالهلاك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين: أنّ رجوع الأمر كلّه إلى الله تعالى.

تنبيه: هذه الجملة: {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} لم يعطها الله لأمة قبل أمة محمّد صلى الله عليه وسلم، ولم يهبها لنبيّ قبل محمّد صلى الله عليه وسلم، ولو أطلع الله عليها يعقوب لم يقل:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} عند فقد يوسف، ثم أعادها عند فقد أخيه بنيامين، لذا فهي من الكنوز الّتي ادّخرها الله لهذه الأمّة، وخذ ما يلي:

عن أمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم-رضي الله عنها-قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ}، اللهمّ اؤجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها إلاّ أجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرا منها» . قالت: فلمّا مات أبو سلمة؛ قلت:

أيّ المسلمين خير من أبي سلمة، أوّل بيت هاجر إلى الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم: ثمّ إني قلتها، فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذيّ.

وعن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصيب بمصيبة، فذكر مصيبته، فأحدث استرجاعا-وإن تقادم عهدها-كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب» . رواه ابن ماجة. فهذا تنبيه على قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ} مع الاسترجاع إمّا بالخلف، كما أخلف لأم سلمة من هو خير من أبي سلمة كما رأيت، وإمّا بالثواب الجزيل، والأجر العظيم، كما في حديث أبي موسى المذكور في آخر الآية السابقة. وقد يكون بهما معا، والله ذو الفضل العظيم.

تنبيه: من أعظم المصائب المصيبة في الدّين عند من يعقل، ولكن أكثر المسلمين في هذه الأيام بمعزل عن هذا، يهدم من دينهم كلّ يوم ركن، وأركان، من صوم، وصلاة، وحجّ،

ص: 361

وزكاة، ويرتكبون الجرائم من بعد عن الحق، ومحاربته، واتّباع للباطل، بل ودعمه، والدّفاع عنه. هذا؛ بالإضافة لاتّصافهم بصفات المنافقين، من كذب، وفجور، وخلف للوعد، ونقض للعهد، وخيانة للأمانة بجميع أنواعها، ولكنّ الواحد منهم إذا أصيب بمصيبة في ماله مهما كانت قليلة، أو إذا غبن في بيع، أو شراء؛ فإنه يتنغص عيشه أياما كثيرة، ويتحسّر، ويتأسّف، فصاروا كالبهائم؛ الّتي لا يهمّها إلا ملء بطنها، ورحم الله من قال:[الكامل]

أبنيّ إنّ من الرّجال بهيمة

في صورة الرّجل السّميع المبصر

فطن بكلّ مصيبة في ماله

وإذا أصيب بدينه لم يشعر

هذا؛ وذكر أبو عمر الفريابي؛ قال: حدّثنا فطر بن خليفة، قال: حدثنا عطاء بن أبي رباح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصاب أحدكم مصيبة؛ فليذكر مصابه بي، فإنّها من أعظم المصائب» . أخرجه السّمرقندي أبو محمد في مسنده، قال أبو عمر رحمه الله تعالى: وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ المصيبة به أعظم من كل مصيبة. يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشرّ بعده بارتداد العرب، وغير ذلك من الفتن التي ظهرت بعد قتل عثمان، وفي حياته. قال أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه-وغيره: ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أنكرنا قلوبنا. ولقد أحسن أبو العتاهية الصّوفي-رحمه الله تعالى-حيث يقول: [الكامل]

اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد

واعلم بأنّ المرء غير مخلّد

أو ما ترى أنّ المصائب جمة

وترى المنيّة للعباد بمرصد

من لم يصب ممّن ترى بمصيبة؟

هذا سبيل لست فيه بأوحد

وإذا أردت مصيبة تسلو بها

فاذكر مصابك بالنّبيّ محمّد

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح، وفيه أربعة أوجه: الأول: أن يكون في محل نصب على النّعت ل {الصّابِرِينَ} . الثاني: أن يكون في محل نصب على المدح بفعل محذوف. الثالث: أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي: هم الذين.

والجملة الاسمية على هذا مستأنفة لا محل لها، والرابع: أن يكون مبتدأ، خبره الجملة الاسمية بعده. انتهى جمل. نقلا عن السّمين. بتصرّف مني. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب.

{أَصابَتْهُمْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {مُصِيبَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح.

ص: 362

{قالُوا:} فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا) اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب: {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها صلة الموصول. {إِنّا:} مثل سابقتها. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {راجِعُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{وَإِنّا إِلَيْهِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهو في محل نصب مقول القول مثلها.

{أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}

الشرح: {أُولئِكَ:} الإشارة ل {الصّابِرِينَ} الذين تقدّم ذكرهم. {صَلَواتٌ:} مغفرة، ورحمة، وجمعها للتنبيه على كثرتها، وتنوعها. {وَرَحْمَةٌ:} كرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا، وإشباعا. كما قال تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ} وفي الكشاف:

والصلاة: الحنو، والتعطف، فوضعت موضع الرأفة. وجمع بينها وبين الرحمة، كقوله تعالى:

{رَأْفَةً وَرَحْمَةً} و «رؤف رحيم» والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة، ورحمة بعد رحمة. وانظر الصّلاة في الآية رقم [43].

هذا؛ وروي عن عمر-رضي الله عنه: أنه قال: ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنّها لم تكن في ديني، الثّانية: أنها لم تكن أعظم ممّا كانت. الثّالثة: أنّ الله تعالى يجازي عليها الجزاء الكبير، ثم تلا الآية الكريمة:{أُولئِكَ عَلَيْهِمْ..} . إلخ.

وعنه-رضي الله عنه-قال: نعم العدلان، ونعمت العلاوة، أراد بالعدلين: الصّلاة، والرحمة، وبالعلاوة: الاهتداء. والعلاوة: ما توضع بين العدلين، وفوق حمل الجمل، وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم، وزيدوا أيضا التوفيق إلى العمل الصّالح، والسير على الصّراط المستقيم، وإلى تسهيل المصائب، وتخفيف الحزن عند وقوعها. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {صَلَواتٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر:{أُولئِكَ} فيكون: {صَلَواتٌ} فاعلا بمتعلق الجار والمجرور؛ إذ التقدير:

أولئك ثابت عليهم صلوات، وعلى كلّ فالجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر:

{الَّذِينَ} في الآية السابقة على وجه مرّ ذكره، أو هي مستأنفة لا محل لها. {وَرَحْمَةٌ:} معطوف على: {صَلَواتٌ} . ومتعلقه محذوف لدلالة ما قبله عليه. ({أُولئِكَ}): مبتدأ مثل سابقه. {هُمُ:}

ص: 363

ضمير فصل لا محل له. {الْمُهْتَدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ. هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ ثانيا، و {الْمُهْتَدُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأوّل، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية معطوفة على سابقتها على الوجهين المعتبرين فيها.

{إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}

الشرح: {الصَّفا:} جمع: صفاة، وهي الصّخرة الصّلبة الملساء، وألفه منقلبة عن واو بدليل قلبها في التثنية واوا. قالوا: صفوان، والاشتقاق يدل عليه أيضا؛ لأنه من الصّفو، وهو الخلوص، والنقاء، وقيل: الذي لا يخالطه غيره من طين، أو تراب، و (المروة): الحجر الرّخو، جمعها:

مرو، ومروات، وهذا معناها لغة، والمراد بهما: جبلان صغيران قرب الكعبة المعظّمة، معروفان، يقع السّعي بينهما، وهو ركن من أركان الحجّ، والعمرة عندنا معاشر الشّافعية. {شَعائِرِ اللهِ:}

أعلام دينه، جمع: شعيرة، وهي العلامة، والمراد بالشّعائر: تكاليف الإسلام من صوم، وصلاة، وحجّ، وزكاة. والسّعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج، والعمرة، كما أسلفت. {حَجَّ:}

أراد، وقصد الكعبة المعظمة لأداء النسك؛ الّذي هو أحد أركان الإسلام الخمسة. {اِعْتَمَرَ:}

زار الكعبة المشرفة، وأعمال العمرة أعمال الحجّ ما عدا الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ومنى.

{فَلا جُناحَ عَلَيْهِ:} لا إثم، ولا مؤاخذة عليه. {يَطَّوَّفَ:} أصله: يتطوّف، وماضيه:

تطوّف، قلبت التاء طاء في المضارع، وأدغمت الطاء في الطاء، والمعنى: يسعى بينهما. {تَطَوَّعَ خَيْراً} أي: فعل طاعة فرضا كان، أو نفلا، أو زاد على ما فرضه الله عليه من حجّ، أو عمرة، أو غير ذلك. {شاكِرٌ:} أي: لعمله بأن يثيبه عليه. {عَلِيمٌ} بالعمل الصّالح الذي يعمله العبد.

هذا؛ والشكر معناه: مقابلة النعمة والإحسان بالثناء والعرفان. وهذا محال على الله؛ إذ ليس لأحد عنده يد، ونعمة، ولهذا حمله العلماء على الثّواب، والجزاء؛ أي: إنه تعالى يثيبه، ولا يضيع أجر العاملين. والصّحيح ما عليه السلف من إثبات الصفات كما وردت، فهو شكر يليق بجلاله، وكماله. وخذ ما يلي:

فقد روى الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-: عن عروة بن الزبير، عن خالته الصدّيقة بنت الصديق، قال: قلت: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ..} . إلخ. فو الله ما على أحد جناح ألا يطوّف بهما. فقالت-رضي الله عنها: بئس ما قلت يا بن أختي! إنها لو كانت على ما أوّلتها عليه؛ كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. ولكنّها إنما أنزلت أنّ الأنصار كانوا قبل أن يسلموا، كانوا يهلّون لمناة الطّاغية؛ الّتي كانوا يعبدونها عند المشلّل، وكان من أهلّ لها، يتحرّج أن يطوّف بالصّفا، والمروة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! إنا كنا

ص: 364

نطّوّف بالصّفا، والمروة في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ..} . إلخ. قالت عائشة-رضي الله عنها: «ثمّ قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما» . رواه الشيخان، وأحمد. وقال أنس-رضي الله عنه: كنّا نرى: أنّهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام؛ أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ} . وقال الشعبيّ: كان (إساف) على الصفا، وكانت (نائلة) على المروة، وكانوا يستلمونهما، فتحرّجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية. وقال طليب: رأى ابن عباس-رضي الله عنهما-قوما يطوفون بين الصفا، والمروة، فقال: هذا ما أورثتكم أمّكم أمّ إسماعيل.

هذا؛ وذكّر الصّفا؛ لأنّ آدم عليه السلام وقف عليه فسمي به، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المروة، فأنّث لذلك، وزعم أهل الكتاب: أنّ إساف، ونائلة زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين. فوضعوهما على الصفا، والمروة ليعتبر بهما الناس، فلما طالت المدة؛ زين الشيطان عبادتهما لهم، فعبدا من دون الله. والله تعالى أعلم.

وفي صحيح مسلم-رحمه الله تعالى-: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الرّكن، فاستلمه، ثمّ خرج من باب الصّفا، وهو يقول:{إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ} ثمّ قال: «أبدأ بما بدأ الله به» ، وقال:«اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السّعي» . وقد استدلّ بهذا الحديث من يرى: أنّ السّعي بين الصفا والمروة ركن في الحج، كما هو مذهب الشّافعي، ورواية عن أحمد، وهو المشهور عن مالك. وقيل: إنّه واجب، وليس ركنا، فإن تركه عمدا، أو سهوا؛ جبره بدم. وهو رواية عن أحمد، وهو عند الحنفية مستحب، وقيل: واجب. واحتجّوا بقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} والقول الأوّل أرجح؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم طاف بينهما، وقال:«خذوا عنّي مناسككم» ، وبيّن الله تعالى: أنّ الطواف بين الصفا، والمروة من شعائر الله، أي ممّا شرع الله تعالى لإبراهيم، وإسماعيل في مناسك الحج.

وقد تقدم في حديث ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر رحمها الله تعالى، وتردادها بين الصّفا، والمروة في طلب الماء لها، ولولدها لمّا نفد زادهما، فلم تزل تتردّد في هذه البقعة المشرّفة بين الصفا والمروة، متذلّلة، خائفة، وجلة؛ حتّى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرّج شدّتها، وأنبع لها زمزم؛ التي ماؤها (طعام طعم، وشفاء سقم) فالسّاعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره، وذلّه، وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله-عز وجل-لتفريج ما هو به.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الصَّفا:} اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وهناك مضاف محذوف؛ إذ الأصل: إنّ طواف الصفا، فلما حذف المضاف؛ أخذ المضاف إليه محلّه في الإعراب. {وَالْمَرْوَةَ:} معطوف على سابقه. {مِنْ شَعائِرِ:} متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ..} . إلخ ابتدائية لا محل لها من

ص: 365

الإعراب. {فَمَنْ} الفاء: حرف استئناف. (من) اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {حَجَّ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره: هو. {الْبَيْتَ:} مفعول به. {أَوِ:} حرف عطف. {اِعْتَمَرَ:} فعل ماض معطوف على سابقه، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، ومتعلقه محذوف؛ إذ التقدير: اعتمر فيه.

{فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل إنّ. {جُناحَ:}

اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر (لا). {إِنَّ:} حرف مصدري ونصب. {يَطَّوَّفَ:} فعل مضارع منصوب ب {إِنَّ} والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {بِهِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. و {إِنَّ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في تطوافه بهما، والجار والمجرور متعلقان ب {جُناحَ} لأنه مصدر، أو المصدر في محل نصب بنزع الخافض. هذا؛ وقد قيل: إنّ خبر (لا) محذوف، التقدير: فلا جناح في الحجّ، وإنّ الوقف على {جُناحَ} وأنّ {عَلَيْهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، والمصدر المؤوّل في محل رفع مبتدأ مؤخر، وهو وجه ضعيف، فلا حاجة إلى تكلّفه. وجملة:(لا {جُناحَ..}.) إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الّذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة فعل الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المعتمد عند المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا مبتدأ، فتكون الجملة الفعلية بعده صلته، والخبر جملة:{فَلا جُناحَ..} . إلخ، واقترنت بالفاء؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:(من {حَجَّ..}.) إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَمَنْ تَطَوَّعَ:} إعرابه مثل إعراب سابقه. {خَيْراً:} منصوب بنزع الخافض، التقدير: تطوع بخير، أو هو صفة مصدر محذوف، أي: تطوع تطوعا خيرا، وقيل: هو حال من ذلك المصدر المقدّر معرفة عند سيبويه، هو مذهبه، انتهى جمل نقلا من السمين. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ) حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {شاكِرٌ عَلِيمٌ:} خبران ل (إنّ)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، والجملة الاسمية:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، وقل فيها ما قلته بسابقتها من أوجه الإعراب. والله الموفق للحقّ والصّواب.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ (159)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ} أي: يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وثبوت نبوته. {وَالْهُدى:} ما يهدي إلى

ص: 366

وجوب اتباعه، والإيمان به. {مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ} ليتبعوه، ويهتدوا به، ويسيروا على نهجه. والذين كتموا هم: أحبار اليهود، ورهبان النصارى، كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم مع أن الإنجيل، والتوراة قد أمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم. وموسى، وعيسى-على نبينا، وعليهما ألف صلاة وألف سلام-قد بشرا به، قال تعالى في سورة (الأعراف):{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ} رقم [157]. {فِي الْكِتابِ} المراد:

التوراة. {أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} أي: الملائكة، والمؤمنون، أو كلّ شيء في السّماوات، والأرض، ويكونون قد جمعوا جمع من يعقل بالواو، والنون؛ لأنه أسند إليهم فعل من يعقل: كقوله تعالى حكاية عن قول يوسف-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:

{رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} ولم يقل: ساجدات. ومثله كثير، فهو من باب التغليب.

هذا؛ واللعن: الطرد، والإبعاد من رحمة الله تعالى، ولقد كرّر الله لعن الكافرين في هذه الآية، كما لعن الظّالمين، والكاذبين، والمنافقين النّاقضين للعهد، والميثاق في آيات متفرقة، وهو دليل قاطع على أنّ من مات على كفره؛ فقد استحقّ اللّعن من الله، والملائكة، والناس أجمعين، وأمّا الأحياء من الكفار؛ فقد قال بعض العلماء: لا يجوز لعن كافر معين؛ لأنّ حاله لا يعلم عند الوفاة، فلعلّه يؤمن، ويموت على الإيمان، وقد قيّد الله في الآية التالية إطلاق اللعنة على من مات على الكفر، ويجوز لعن الكفار جملة بدون تعيين، كما في قولك: لعن الله الكافرين، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشّحوم، فجمّلوها، وباعوها» . وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معيّن من الكفار بدليل قتاله. وهو الصّحيح، كيف لا؟ وقد لعن حسان بن ثابت-رضي الله عنه-أبا سفيان، وزوجه هندا في شعره، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. خذ قوله:[السريع]

لعن الإله وزوجها معها

هند الهنود طويلة البظر

وقد لعن الفاروق-رضي الله عنه-أبا سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، وغيرهم؛ الذين قدموا المدينة المنورة بعد غزوة أحد، وقد أعطاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلّموه، فقام معهم جماعة من المنافقين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا بسوء، وقل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك. فشقّ ذلك على سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، فقال الفاروق-رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان، فقال الفاروق-رضي الله عنه: اخرجوا في لعنة الله، وغضبه؛ ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. كيف لا؟ وآية النور رقم [7] تأمر المسلم أن يلعن نفسه؛ إن كان من الكاذبين.

وأما العصاة من المسلمين لا يجوز لعن واحد منهم على التعيين قطعا، وأما على الإطلاق فيجوز، كما في قولك: لعن الله الفاسقين، والفاسقات، والفاسدين، والفاسدات، والخبيثين،

ص: 367

والخبيثات

إلخ؛ لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السّارق يسرق البيضة، والحبل، فتقطع يده» . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الواشمة، والمستوشمة، وآكل الرّبا، ولعن من غيّر منار الأرض، ومن انتسب إلى غير أبيه، ومن عمل عمل قوم لوط، ومن أتى امرأة في دبرها، وغير ذلك» . وكلّ ذلك في الصحيح من الأحاديث، وخذ ما يلي:

عن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ العبد إذا لعن شيئا؛ صعدت اللّعنة إلى السّماء، فتغلق أبواب السّماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإن لم تجد مساغا؛ رجعت إلى الّذي لعن، فإن كان أهلا، وإلاّ؛ رجعت إلى قائلها» . رواه أبو داود.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في أحبار اليهود، ورهبان النّصارى الذين كتموا ما في التوراة كآية الرّجم، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، وهي تعمّ كلّ من كتم شيئا من أحكام الدّين لعموم الحكم؛ فإنّ خصوص السّبب لا يمنع تعميم الحكم إلى يوم القيامة، والأحاديث الشريفة كثيرة في هذا الباب، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم، فكتمه؛ ألجم يوم القيامة بلجام من نار» . رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة.

وعن أبي سعيد الخدريّ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كتم علما ممّا ينفع الله به النّاس في أمر الدّين؛ ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» . رواه ابن ماجة.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الّذي يتعلّم، ثمّ لا يحدّث به، كمثل الّذي يكنز الكنز، ثم لا ينفق منه» . رواه الطّبرانيّ في الأوسط.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تناصحوا في العلم، فإنّ خيانة أحدكم في علمه أشدّ من خيانته في ماله، وإنّ الله مسائلكم» . رواه الطّبرانيّ في الكبير.

وهذه الآية هي التي أراد أبو هريرة-رضي الله عنه-في قوله: لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدّثتكم حديثا، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا تمنعوا الحكمة أهلها، فتظلموهم، ولا تضعوها في غير أهلها، فتظلموها» . وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «لا تعلّقوا الدّرّ في أعناق الخنازير» .

وقوله تعالى: {مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى} دلّ على أنّ ما كان من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف، فإنّ ذلك آكد للكتمان، وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف، فقال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأمّا أحدهما؛ فبثثته، وأما الآخر؛ فلو بثثته؛ قطع هذا البلعوم.

أخرجه البخاريّ. قال العلماء: وهذا الذي لم يبثّه أبو هريرة-رضي الله عنه-وخاف على نفسه من الفتنة، والقتل، إنّما هو ممّا يتعلق بأمر الفتن، والنّص على أعيان المرتدّين، والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلّق بالبينات، والهدى. والله تعالى أعلم.

ص: 368

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {يَكْتُمُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {أَنْزَلْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي أو شيئا أنزلناه. {مِنَ الْبَيِّناتِ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، و {مِنَ} بيان لما أبهم في {ما؛} {وَالْهُدى:} معطوف على ما قبله مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذّر. {مِنْ بَعْدِ} متعلقان بالفعل {يَكْتُمُونَ}. {ما:} مصدرية، واعتبارها موصولة ضعيف B» . بَيَّنّاهُ»: فعل، وفاعل، ومفعول به. و {ما} والفعل في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه. {لِلنّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي الْكِتابِ:} متعلقان بالفعل (بينا) أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من مفعوله. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يَلْعَنُهُمُ اللهُ} فعل مضارع، ومفعوله، وفاعله.

والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ} . هذا، وجوز اعتبار:{أُولئِكَ} بدلا من {الَّذِينَ،} والجملة الفعلية: {يَلْعَنُهُمُ اللهُ} خبر (إنّ). ولا أراه قويّا، وجملة:{وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها على الوجهين المعتبرين فيها والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ ابتدائية أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين فيها.

{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوّابُ الرَّحِيمُ (160)}

الشرح: {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا:} رجعوا عن سوء فعلهم، وندموا. ({أَصْلَحُوا}) أي: عملهم بالعزم على عدم العودة إلى سوء فعلهم. ({بَيَّنُوا}) أي: ما كتموا من الحق، وهو عبارة عن الإقلاع عن سوء العمل، وهو هنا الكتمان، وهذه الآية الكريمة تشير إلى شروط التوبة النصوح المذكورة في سورة التحريم، والشروط هي: الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، والإقلاع بالأركان، وانظر توبة آدم في الآية رقم [37]. {أَتُوبُ عَلَيْهِمْ:} أقبل توبتهم. {التَّوّابُ الرَّحِيمُ:} انظر مثلهما في الآية رقم [37]. ومعناها: المبالغة في قبول التوبة، ونشر الرّحمة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {تابُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، والجملتان:({أَصْلَحُوا}) و ({بَيَّنُوا}) معطوفتان عليها، لا محل لهما مثلها. {فَأُولئِكَ:} الفاء: زائدة في خبر الموصول؛ لأنه يشبه الشرط في العموم. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. {أَتُوبُ:} فعل مضارع،

ص: 369

والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، ومضمون الجملة الاسمية:{إِلاَّ الَّذِينَ..} . إلخ في محل نصب على الاستثناء من الكلام السابق، واعتبار المفرد:{الَّذِينَ} مستثنى من الكلام السابق يجعل الجملة الاسمية: (أولئك

) إلخ غير مرتبطة بما قبلها إعرابا مع كونها مرتبطة بها معنى. {وَأَنَا:}

الواو: حرف عطف. ({أَنَا}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {التَّوّابُ الرَّحِيمُ} خبران للمبتدإ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي في محل نصب حال من فاعل:{أَتُوبُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، أو هي معترضة في آخر الكلام، وهو ما يسمّى بالاعتراض التذييلي، والغاية منه تحقيق مضمون ما قبله من قبول التوبة للتائبين.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ (161)}

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ:} أي: كفروا، واستمرّوا على الكفر؛ حتى داهمهم الموت، وهم على تلك الحالة. {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ..} . إلخ، أي: يلعنهم الله، وملائكته، وأهل الأرض جميعا؛ حتّى الكفار، فإنّهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا، هذا بالإضافة لما تقدم أذكر: أنه اختلف في لعن المسلم العاصي المعيّن، فذكر ابن العربي: أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتّفاقا؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتي بشارب خمر مرارا، فقال بعض من حضره: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا عون الشّيطان على أخيكم» .

أخرجه الشّيخان، فجعل له حرمة الأخوّة، وهذا يوجب الشفقة، وأجاز بعضهم لعنه. وإنّما قال عليه الصلاة والسلام ما تقدّم في حقّ الصحابي نعيمان بن عمرو بن رفاعة، شهد العقبة، وبدرا، والمشاهد كلّها، وكان كثير المزاح، يضحك النبي صلى الله عليه وسلم من مزاحه، وقال ذلك الرسول المعظم بعد إقامة الحد على نعيمان المذكور، ومن أقيم عليه حدّ الله تعالى؛ فلا ينبغي لعنه، ومن لم يقم عليه الحدّ؛ فلعنته جائزة، سواء سمّي أم لا؟ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للّعن، فإذا تاب منها، وأقلع عنها، وطهّره الحد؛ فلا لعنة تتوجّه عليه. انتهى من القرطبي بتصرف منّي. وعليه فيجوز لعن فاسق بعينه؛ لأنّ الحدود غير مقامة على أصحاب الكبائر، وهم يسرحون، ويمرحون بدون خجل، أو ارعواء.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسمها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، والجملة بعدها {وَماتُوا} معطوفة عليها. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. ({هُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كُفّارٌ:} خبر ({هُمْ}) والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، الضمير. {أُولئِكَ:} مبتدأ،

ص: 370

والكاف حرف خطاب لا محل له. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {لَعْنَةُ:}

مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {أُولئِكَ} . هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ، فيكون {لَعْنَةُ} فاعلا به، التقدير: أولئك مستحق عليهم لعنة، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ} والجملة الاسمية هذه مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {وَالْمَلائِكَةِ:}

معطوف على لفظ الجلالة مجرور مثله، وقرئ بالرفع بالعطف على محل الجلالة؛ لأنّ محلّه الرفع كما رأيت، وهذا معروف في العربية، ومشهور. {وَالنّاسِ:} معطوف على ({الْمَلائِكَةِ}) جرّا ورفعا.

{أَجْمَعِينَ:} توكيد ل ({النّاسِ}) على الجر، فهو مجرور، وعلامة جره الياء

إلخ وقرئ: («أجمعون») توكيد ل («الناس») على الرّفع، فهو مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. هذا؛ ومن الإتباع على المحل قول زياد العنبري، وهو الشاهد رقم [860] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز]

قد كنت داينت بها حسّانا

مخافة الإفلاس واللّيانا

ف «اللّيانا» : معطوف على محل «الإفلاس» المجرور لفظا المنصوب محلاّ؛ لأنه مفعول للمصدر، وهو:«مخافة» ، ومنه أيضا قول لبيد بن ربيعة العامري-رضي الله عنه:[الكامل]

حتّى تهجّر في الرّواح وهاجها

طلب المعقّب حقّه المظلوم

ف «المظلوم» صفة «المعقب» على المحل؛ لأنه فاعل بالمصدر «طلب» وأيضا قول المتنخل الهذلي: [البسيط]

السّالك الثّغرة اليقظان سالكها

مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل

ف «الهلوك» فاعل بالمصدر «مشي» وهو مجرور لفظا، مرفوع محلاّ، و «الخيعل» و «الفضل» صفتان له على المحل.

{خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}

الشرح: {خالِدِينَ فِيها:} الخلود: الدوام، والمراد: عدم الخروج أبدا. {فِيها:} أي: في اللعنة المذكورة، أو النار المدلول عليها باللّعنة، والإضمار قبل الذكر تفخيما لشأنها، وتهويلا، أو اكتفاء بدلالة اللّعنة عنها، وكثيرا ما وقع في القرآن:{خالِدِينَ فِيها} وهو عائد على النّار {يُنْظَرُونَ:} يمهلون. أو لا ينظر إليهم نظر رحمة، قال تعالى في سورة (الزخرف):{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .

هذا؛ وقال الإمام الفخر الرازي-رحمه الله تعالى-: قال قوم: إنّ عذاب الله للكافرين منقطع، وله نهاية، واستدلّوا بقوله تعالى:{لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} وبأن معصية الظالم متناهية،

ص: 371

فالعقاب بما لا يتناهى ظلم. والجواب: إن قوله: {أَحْقاباً} لا يقتضي: أنّ له نهاية؛ لأن العرب يعبّرون به، وبنحوه عن الدّوام، ولا ظلم في ذلك؛ لأنّ الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيّا، فعوقب دائما، ولم يعاقب بالدائم إلا على دائم، فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا. انتهى جمل في سورة (هود)[107].

الإعراب: {خالِدِينَ:} حال مقدّرة من الضمير المجرور في الآية السابقة، وهو عائد على واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة

إلخ، وفاعله مستتر فيه. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب {خالِدِينَ،} {لا:} نافية. {يُخَفَّفُ:} فعل مضارع مبني للمجهول.

{عَنْهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْعَذابُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال أخرى من الضمير المجرور، وهي حال مؤكدة للحال المفردة، والرابط الضمير فقط. وقال أبو البقاء: حال من الضمير المستتر في: {خالِدِينَ} فتكون حالا متداخلة. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {هُمْ:} مبتدأ. {يُنْظَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَلا هُمْ..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها في محل نصب حال أيضا.

هذا؛ وذكرت لك: أنّ {خالِدِينَ} حال مقدّرة؛ إذا الحال بالنسبة للزّمان على ثلاثة أقسام:

حال مقارنة، وهي الغالبة، نحو قوله تعالى حكاية عن قول امرأة إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} . وحال مقدرة، وهي المستقبلة، نحو قوله تعالى:{فَادْخُلُوها خالِدِينَ} . ومنها الحال في هذه الآية، كما رأيت. وحال محكيّة، وهي الحال الماضية، نحو جاء زيد أمس راكبا. وهناك الحال الموطئة، وهي التي تذكر توطئة للصفة بعدها بمعنى: أنّ المقصود الصفة، وهذا كثير في القرآن الكريم. خذ قوله تعالى:{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ} ف (آيات) حال من الضمير المنصوب.

هذا؛ والحال أيضا على نوعين: إمّا مؤسّسة، وإما مؤكدة، فالأولى هي التي لا يستفاد معناها بدونها، نحو جاء زيد ضاحكا، ونحوه، وأكثر ما تأتي الحال من هذا النوع مبينة هيئة فاعل، أو مفعول، والمؤكدة هي التي يستفاد معناها بدونها، وإنّما يؤتى بها للتّوكيد، وهذه ثلاثة أنواع:

الأولى: ما يؤتى بها لتوكيد عاملها، وهي التي توافقه معنى فقط، أو معنى، ولفظا، فالأولى كقوله تعالى:{فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها،} وقوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . والثاني: نحو قوله تعالى: {وَأَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً} .

النوع الثاني: ما يؤتى بها لتوكيد صاحبها، نحو قوله تعالى:{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} رقم [99] من سورة (يونس) على حبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

النوع الثالث: ما يؤتى بها لتوكيد مضمون جملة معقودة من اسمين معرفتين جامدين، نحو

ص: 372

قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ} وقولك: «هو الحق صريحا أو بينا» وقول سالم بن دارة اليربوعي وهو الشاهد رقم [385] من كتابنا فتح ربّ البرية: [البسيط]

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للنّاس من عار؟

وهناك الحال اللازمة في قراءة من قرأ قوله تعالى: في سورة (ص) رقم [29](«كتاب أنزلناه إليك مباركا») بالنّصب؛ لأنّ البركة لا تفارق الكتاب، وهو القرآن.

وأخيرا خذ الحال السببية، ولم يذكرها أحد من المفسّرين، ولا المعربين قطعا، ومثالها قوله تعالى في سورة (الأنبياء):{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ،} وقوله تعالى في سورة (المعارج) وفي سورة (ن): {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} ف {لاهِيَةً} و {خاشِعَةً} حال مما قبلهما في الإعراب، وعند التأمل يتبيّن لك: أنهما حالان ممّا بعدهما، وهذا كما في النعت السببي في قولك: مررت برجال كريم آباؤهم، وبنسوة كريم آباؤهن، فكريم صفة لما قبله في الإعراب، وهو في الحقيقة صفة لما بعده. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)}

الشرح: ({إِلهُكُمْ}): خطاب عام لجميع الناس، أي: هو المستحقّ منكم العبادة. {واحِدٌ:}

لا شريك له هو الذي يصح أن يعبد، أو يسمى إلها. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} تقدير للوحدانية، ودفع لأن يتوهم: أنّ في الوجود إلها آخر. سبب نزول هذه الآية: أنّ كفار قريش قالوا: يا محمد! صف لنا ربك، وانسبه! فأنزل الله هذه الآية، وسورة (الإخلاص) ومعنى الوحدة:

الانفراد، وحقيقة الواحد هو الشيء الذي لا يتبعّض، ولا ينقسم، والواحد في صفة الله: أنه واحد، لا نظير له، وليس كمثله شيء. وقيل: واحد في ألوهيته، وربوبيته، ليس له شريك؛ لأنّ المشركين أشركوا معه الآلهة، فكذبهم الله تعالى بقوله:{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} يعني: لا شريك له في مصنوعاته، وواحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في صفاته، لا يشبهه شيء من خلقه.

انتهى خازن.

{الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ:} يعني: أنّه المولى لجميع النّعم، أصولها، وفروعها، فلا شيء سواه بهذه الصّفة؛ لأنّ كلّ ما سواه إمّا نعمة، وإما منعم عليه، وهو المنعم على خلقه، الرّحيم بهم، وعن أسماء بنت يزيد-رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين:

{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ..} . إلخ، وفاتحة آل عمران:{الم (1) اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ»} . أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وقال: حديث صحيح. وقيل: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن محمدا يقول: {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} فليأتنا بآية إن كان صادقا، فأنزل الله الآية التالية. انتهى خازن. وإذا علمت: أنّ السورة مدنية؛ فلم يبق ما عزي إلى المشركين صحيحا. والله أعلم.

ص: 373

الإعراب: {وَإِلهُكُمْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِلهُكُمْ}): مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِلهٌ:} خبره. {واحِدٌ:} صفة: {إِلهٌ} وهو الخبر في الحقيقة؛ لأنه محط الفائدة، ألا ترى أنه لو اقتصر على ما قبله؛ لم يفد، وهذا يشبه الحال الموطئة، كما في قوله تعالى:

{إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} . والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {إِلهٌ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {هُوَ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول: كونه بدلا من اسم ({لا}) على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء، والثاني: كونه بدلا من {لا} وما عملت فيه؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء، والثالث: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأقوى.

{الرَّحْمنُ:} يجوز فيه أربعة أوجه: أحدها: أن يكون بدلا من {هُوَ} بدلا ظاهر من مضمرة الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الرحمن، وحسّن حذفه توالي اللفظ مرتين، الثالث: أن يكون خبرا ثالثا: لقوله: ({إِلهُكُمْ}) أخبر عنه بقوله: {إِلهٌ واحِدٌ،} وبقوله: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ،} وبقوله: {الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ} وذلك عند من يرى تعدد الخبر مختلفا بالإفراد والجملة، والرابع: أن يكون صفة للضمير، وذلك عند الكسائي، فإنه يجيز وصف الضمير الغائب بصفة مدح، فهو يشترط هذين الشرطين: أن يكون غائبا، وأن تكون الصفة صفة مدح. {الرَّحِيمُ:}

يجري فيه ما جرى في سابقه، وإن اعتبرته بدلا من الرحمن؛ فلست مفندا، بل هو الأقوى؛ لأنهما اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى على المعتمد، والله أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاِخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}

الشرح: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: وما فيهما. ذكر الله في هذه الآية من آثار قدرته، ودلائل عظمته ثمانية أنواع، وقدم السّماوات والأرض في الذكر هنا، وخصّهما بالذكر في كثير من الآيات؛ لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع السموات دون الأرض، وهي مثلهن سبعا بدليل قوله تعالى في سورة (الطلاق) رقم [12]:{اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة بالصّفات، والآثار، والحركات، وقدّمها لشرفها، وعلو مكانها، وتقدّم وجودها، ولأنها متعبّد الملائكة، ولم يقع فيها معصية كما في

ص: 374

الأرض، وأيضا: لأنها كالذّكر، فنزول المطر من السماء على الأرض، كنزول المني من الذّكر في المرأة، ولأن الأرض تنبت، وتخضرّ بالمطر. ووحّد الأرض؛ لأنها بجميع طبقاتها جنس واحد، وهو التّراب.

وآية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها، ولا علائق من فوقها، ثمّ ما فيها من الشمس، والقمر، والنجوم السائرة، والكواكب الزاهرة، شارقة وغاربة، نيّرة وممحوة آية ثانية.

وآية الأرض: مدّها، وبسطها، وما فيها من الجبال، والبحار، والمعادن، والجواهر، والأنهار، والأشجار، والثمار، وما بثّ فيها من أجناس المخلوقات: فيعلم العباد حينئذ أنّ لهما خالقا مدبّرا حكيما؛ لأنّ عظم آثاره، وأفعاله تدلّ على عظم خالقها، كما قيل:[المتقارب]

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

{وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ:} بالذهاب، والمجيء، والزيادة، والنقصان. قال تعالى في كثير من الآيات:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ،} وقال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وانظر الآية رقم [51] لشرحهما.

{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ:} ({الْفُلْكِ}) يقرأ بضمّ الفاء وسكون اللام، وبضمّهما، وهو يطلق على المفرد، والجمع. يذكّر، ويؤنّث، قال تعالى:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} فأنّث.

ويحتمل الإفراد، والجمع. قال تعالى:{حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فجمع، وأنّث، وكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب، فيذكّر، وإلى السّفينة، فيؤنّث. وقد ألغز فيها الشاعر، حيث قال:[الطويل]

مكسّحة تجري ومكفوفة ترى

وفي بطنها حمل على ظهرها يعلو

فإن عطشت عاشت وعاش جنينها

وإن شربت ماتت وفارقها الحمل

ولا تنس: أنّ أول من اخترع السّفينة-وهي الفلك-نوح، على نبيّنا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ومن تصميمها وشكلها أخذت البشرية تصنع السّفن، وتتطوّر جيلا بعد جيل، حتّى وصلت إلى ما وصلت إليه في العصر الحاضر. هذا؛ وقد كانت السّفن في الزّمن الماضي تسير بواسطة الرّياح، وأما في أيامنا هذه فإنّها تسير بواسطة البخار، وفي الزّمن الماضي كان البحّارون يلقون العناء إذا اضطرب البحر، أو عاكست الرياح

(1)

، وقد عبّر المتنبي عن ذلك بقوله: وهو جار مجرى المثل: [البسيط]

ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه

تأتي الرّياح بما لا تشتهي السّفن

1) أقول: ولا يزال، وسيبقى البحارون يلقون العناء والمشقة إذا اضطرب البحر، وفي زماننا هذا نسمع كثيرا عن غرق كثير من السفن، والعبارات بسبب سوء الأحوال الجوية، واضطراب البحر.

ص: 375

هذا؛ والفلك بفتحتين مدار النجوم، وبجمع على فلك بضم الفاء، وسكون اللام، وضمّهما أيضا، وعلى أفلاك أيضا، والفلك من كلّ شيء: مستداره، ومعظمه، والفلكي منسوب إلى عالم الفلك. {بِما يَنْفَعُ النّاسَ} أي: الذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب الّتي تصلح بها أحوالهم، وقد قال من طعن في الدّين: إن الله تعالى يقول في كتابكم: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} فأين ذكر التّوابل المصلحة للطعام من الملح، والفلفل، وغير ذلك، فقيل له في قوله تعالى:{بِما يَنْفَعُ النّاسَ} . {وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ} يعني: الأمطار التي بها إنعاش العباد، وإخراج النبات، والأرزاق التي بها حياة كلّ ذي روح من الإنسان، والحيوان، وهو فحوى قوله تعالى:{فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} أي: فأظهر الله النبات من الأرض بعد نزول المطر عليها، فأظهر حسنها، وبهجتها، ونضارتها بعد أن كانت يابسة، لا نبات فيها، قال تعالى في سورة (الحج):{فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .

{وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ:} فرّق، ونشر، والبثّ: النشر، والتفريق، و {دَابَّةٍ:} ما يدبّ على الأرض، من الإنسان، والحيوان، والهوام، والطير، وغير ذلك؛ إذ كلّ ماش على الأرض دابّة، وتجمع على «دواب» ، قال تعالى في سورة (الأنفال):{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} .

{وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ:} تصريفها: إرسالها عقيما، وملقحة، وصرّا، ونصرا، وهلاكا، وحارة، وباردة، وليّنة، وعاصفة. والرّيح في الأصل الهواء المسخّر بين السماء والأرض، وهو جسم متحرّك لطيف، ممتنع بلطفه من القبض عليه، يظهر للحسّ بحركته، ويخفى عن البصر بلطفه، وهو حياة كلّ نام، من إنسان، وحيوان، ونبات، مثل الماء، بل الحاجة إليه أشدّ، وأصله:

الرّوح، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، والجمع: أرواح، ورياح، وأصل رياح: رواح، فعل به كما فعل بأصل ريح، والأكثر في الريح التأنيث، كما في قوله تعالى:{جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ} وقد تذكّر على معنى الهواء.

والرياح الأصول أربع: إحداها: الشّمال، وتأتي من ناحية الشّمال، وهي شمال من استقبل مطلع الشمس، وهذه الريح حارة في الصيف، باردة في الشتاء، والثانية: الجنوب، وهي مقابلتها، أي: تأتي من جهة يمين من استقبل مطلع الشّمس، وهي الريح اليمانيّة، والثالثة:

الصّبا بفتح الصّاد، وتأتي من مطلع الشمس، وتسمّى: القبول أيضا، والرابعة: الدّبور، وتأتي من مغرب الشمس، وما أتى منها من بين تلك الجهات؛ يقال لها: النّكباء، ثمّ إن خرجت من بين الجنوب، والشرق؛ قيل لها: أزيب: بفتح الهمزة، وسكون الزاي، وفتح الياء، وإن خرجت من بين الشّمال، والغرب، قيل لها: جربيا: بكسر الجيم وسكون الراء، وكسر الباء، وإن خرجت من بين الشّمال، والشرق، قيل لها: صابية، وإن خرجت من بين الجنوب، والغرب، قيل لها: هيف: بفتح الهاء، وسكون الياء، وقد جمع النواحي الثمانية بقوله:[الطويل]

ص: 376

صبا ودبور والجنوب وشمأل

بشرق وغرب والتيمّن والضّدّ

ومن بينها النّكباء أزيب جربيا

وصابية والهيف خاتمة العدّ

هذا؛ وأضيف: أنّ ريح الصّبا نصر الله بها نبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، حيث فعلت بقريش العجائب، فارتدّوا على أعقابهم خاسئين، كما تراه في سورة (الأحزاب)، وأن ريح الدّبور أهلك بها قوم عاد، ونبيّهم هو هود-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-كما تراه في سورة (الأعراف) وسورة (الشعراء) وغيرهما.

هذا؛ ولا تنس: أنّ الريح تفسر بالدّولة، والقوّة، قال تعالى:{وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: دولتكم، وقوتكم، شبّهت في نفوذ أمرها، وتمشّيه بالرّيح، وهبوبها، يقال: هبت رياح بني فلان: إذا دالت لهم الدولة، ونفذ أمرهم، وتقول: الريح لفلان: إذا كان غالبا في الأمر، قال الشاعر:[الوافر]

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فإنّ لكلّ خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها

فما تدري السّكون متى يكون

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«الرّيح من روح الله تعالى، تأتي بالرّحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها؛ فلا تسبّوها، واسألوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرّها» . رواه الشّافعيّ في مسنده بطوله، وأخرجه أبو داود في المسند عنه.

وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتدت الريح، وهبّت يقول:«اللهمّ اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» . ويقول: «اللهمّ إنّي أسألك خيرها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها، وشرّ ما أرسلت به» .

هذا؛ ومن وحّد الريح؛ فلأنه اسم جنس يدل على القليل، والكثير، ومن جمع، فلاختلاف الجهات التي تهبّ فيها الرّياح، ومن جمع مع الرحمة، ووحد مع العذاب، فإنّه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن: نحو قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ} سورة (الروم) رقم [46] وقوله تعالى: {وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} سورة (الذاريات) فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة، مفردة مع العذاب إلا في سورة (يونس) رقم [22] قوله تعالى:{حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} وذلك لأنّ ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة، فلذلك هي رياح، وأفردت مع الفلك في سورة (يونس) لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متّصلة، ثم وصفت بالطيب، فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب.

{وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ:} المذلل بأمر الله تعالى يسير حيث شاء بواسطة الرياح، وسمي الغيم سحابا؛ لانسحابه في الهواء، قال تعالى:{وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ}

ص: 377

وقال جلّ ذكره: {حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} والسّحاب: الغيوم التي تراها العيون في السماء، وهو واحد في اللفظ، ولكنه جمع، وقيل: السّحاب اسم جنس، واحده:

سحابة، فلذلك وصف بالجمع، وهو {الثِّقالَ} في آية (الرّعد)، وتجمع السّحابة على: سحاب، وسحائب، وسحب، وهو غربال الماء، قاله عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه. هذا؛ وقيل:

السحاب: الغيم فيه ماء، أولم يكن فيه ماء، وأصل السّحب الجرّ، وسمّي السّحاب سحابا، إمّا لجرّ الريح له، أو لجرّه الماء، أو لانجراره في سيره.

فقد روى مسلم-رحمه الله تعالى-عن أبي هريرة-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«بينما رجل بفلاة من الأرض، فسمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحّى ذلك السّحاب، فأفرغ ماءه في حرّة، فإذا شرجة من تلك الشّراج قد استوعبت ذلك الماء كلّه، فتتبّع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحوّل بمسحاته، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان- للاسم الّذي سمع في السّحابة-فقال له: يا عبد الله! لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إنّي سمعت صوتا في السّحاب الّذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أمّا إذ قلت هذا؛ فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدّق بثلثه، وآكل أنا، وعيالي ثلثه، وأردّ ثلثه إلى الأرض» . القرطبيّ. الحرّة: أرض ذات حجارة سود، والشّرجة: طريق الماء، وسبيله.

{لَآياتٍ:} دلالات واضحة على وحدانية الله، وقدرته. {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ:} يتدبرون وانظر شرح العقل في الآية رقم [44].

بعد هذا؛ فقد نزلت الآية الكريمة حيث طلب المشركون دليلا على وحدانية الله المذكور في الآية السّابقة، وعن عطاء-رحمه الله تعالى-قال: أنزل بالمدينة على النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} فقال كفار قريش بمكّة: كيف يسع الناس إله واحد؟! فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ. هذا؛ وروي: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ فيها» أي: لم يتفكر فيها، ولم يعتبر بها، ومثلها في (آل عمران) رقم [190].

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: إنّ الرياح ثمان: أربع منها عذاب، وهي:

القاصف، والعاصف، والصّرصر، والعقيم، وأربع منها رحمة، وهي: الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذّاريات.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي خَلْقِ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، و {خَلْقِ} مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف؛ إذ التقدير: خلق الله السّماوات. وقال الجمل: الخلق هنا بمعنى المخلوق؛ إذ الآيات التي تشاهد إنّما هي في المخلوق، الذي هو السّماوات والأرض، وحينئذ فالإضافة بيانية. انتهى. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، {وَاخْتِلافِ:} معطوف على {خَلْقِ}

ص: 378

وهو مضاف، و {اللَّيْلِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {وَالنَّهارِ:} معطوف على ما قبله. {وَالْفُلْكِ:} معطوف على: {خَلْقِ} . {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة ({الْفُلْكِ}). {تَجْرِي:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:({الْفُلْكِ})، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي الْبَحْرِ:} متعلقان بما قبلهما. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها، التقدير:

تجري بالّذي، أو: بشيء ينفع الناس، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: تجري بنفع الناس، وفيه ضعف، لعدم ظهور فاعل الفعل:{يَنْفَعُ} .

{وَما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على {خَلْقِ} . {أَنْزَلَ اللهُ:}

فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) والعائد محذوف، التقدير: الّذي أنزله الله. {مِنَ السَّماءِ:}

متعلقان بالفعل: {أَنْزَلَ} أو بمحذوف حال من مفعوله المحذوف. {مِنْ ماءٍ:} بدل ممّا قبلهما بدل اشتمال، و {مِنَ} بيان لما أبهم في (ما). {فَأَحْيا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذّر، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلّق بما قبله، وهو مضاف، و {مَوْتِها} مضاف إليه، و (ها) في محل جر بالإضافة. {وَبَثَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}). {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وقيل:{مِنَ} زائدة في الإيجاب على مذهب الأخفش، و {كُلِّ} مفعول به ل ({بَثَّ})، و {كُلِّ} مضاف. {دَابَّةٍ:} مضاف إليه.

{وَتَصْرِيفِ:} معطوف على {خَلْقِ} وهو مضاف، و {الرِّياحِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر للفاعل، والمفعول محذوف، التقدير: وتصريف الرياح السّحاب، أو هو من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: وتصريف الله الرّياح. {وَالسَّحابِ:} معطوف على {الرِّياحِ} وهو أولى من عطفه على: {خَلْقِ} . {الْمُسَخَّرِ:} صفة له. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق ب: {الْمُسَخَّرِ} لأنه اسم مفعول، أو هو متعلق بمحذوف حال من نائب فاعله المستتر فيه. و {بَيْنَ} مضاف، و {السَّماءِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على السماء. {لَآياتٍ:}

اللام: لام الابتداء. (آيات): اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (آيات){يَعْقِلُونَ:} مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صفة قوم، والجملة الاسمية:

{إِنَّ فِي..} . إلخ مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.

ص: 379

{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)}

الشرح: {وَمِنَ النّاسِ..} . إلخ: لما أثبت الله وحدانية بالدلائل السابقة؛ بيّن: أنّ بعض الناس لم يعتقدها، ولم يؤمن بها، بل سلك طريق الإشراك سفها، وغباوة، وجهلا، فقال:

{وَمِنَ النّاسِ..} . إلخ: أي: بعض الناس يتخذ آلهة من دون الله يعبدونها، ويقدّسونها، ويعظّمونها كما يعظم المؤمنون ربّهم، ويقدّسونه، و {أَنْداداً} جمع: ند، انظر الآية [22]. هذا والحبّ، والمحبّة: ميل القلب، استعير لحبّة القلب، ثمّ اشتقّ منه الحبّ؛ لأنه أصابها، ورسخ فيها، ومحبّة العبد لله تعالى: إرادة طاعته، وتحصيل مراضيه، والابتعاد عن معاصيه، ومناهيه، ومحبّة الله للعبد: إرادة إكرامه، واستعماله في الطاعة، وصرفه عن المعاصي، وإغداق رحمته، وجوده، وكرمه، وإحسانه عليه، قال تعالى في سورة (المائدة) رقم [54]:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .

{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ} أي: أثبت، وأدوم على محبّته، لا يختارون على الله سواه، لا في شدّة، ولا في رخاء، ولا في سرّاء، ولا في ضرّاء، والمشركون يعدلون عن آلهتهم في الشّدائد، ويقبلون على الله، قال تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [65]:{فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ،} وقال جلّ ذكره في سورة (لقمان) رقم [32]: {وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ،} وكان المشركون أيضا إذا اتّخذوا صنما، ثم رأوا آخر أحسن؛ طرحوا الأوّل، واختاروا الثاني، وكان بعضهم يصنع الصّنم من الزّبد، والحلوى في أوقات السّنة، فإذا جاعوا؛ أكلوه.

{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا..} . إلخ؛ أي: ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، والمعاصي عند رؤية العذاب حين يقذف بهم في النار؛ لعرفوا مضرّة الكفر، وأنّ ما اتّخذوه من الأصنام لا ينفعهم، وعلموا، وأيقنوا: أنّ القوة، والعزّة لله جميعا، ولشاهدوا: أنّ الأمر ليس على ما كانوا عليه من الشّرك، والجحود، واتّباع تزيين الشّياطين لهم.

قال أبو عبيد: المعنى: لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة؛ لعلموا حين يرونه:

أن القوة لله جميعا. و {يَرَى} على هذا من رؤية البصر، وضعّف هذا التقدير محمد بن يزيد، واستبعده؛ لأنه يجعل العذاب مشكوكا فيه، وقد أوجبه الله تعالى، ولكنّ التقدير:«ولو يرى الذين ظلموا: أنّ القوّة لله» أولى، وهو قول الأخفش، وانظر الإعراب، ولم يأت ل (لو) جواب، قال الزهري، وقتادة: الإضمار أشدّ للوعيد. هذا؛ ويقرأ بالتاء: («ترى»)، والمعنى يكون

ص: 380

تقديره: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب، وفزعهم، واستعظامهم له؛ لأقرّوا: أنّ القوة لله. وتقدير آخر: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب، وفزعهم منه؛ لعلمت: أنّ القوّة لله جميعا. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك، ولكن خوطب، والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. انتهى قرطبي بتصرف.

هذا؛ وفائدة هذا الكلام المبالغة في تهويل الخطب، وتفظيع الأمر، فإن اختصاص القوّة به تعالى لا يوجب شدّة العذاب بجواز تركه عفوا مع القدرة عليه. انتهى جمل.

تنبيه: في هذه الآية أضيفت {إِذْ} لما هو مستقبل، ويحصل يوم القيامة، لكنّه لتحقّق وقوعه عبّر عنه بما يعبّر عن الماضي، وذلك؛ لأنّ خبر الله تعالى المستقبل في الصّحة كالماضي، وهو مما يتكرّر في القرآن الكريم، كقوله تعالى في سورة (غافر) رقم [71]:{إِذِ الْأَغْلالُ..} . إلخ. وعكسه قوله تعالى في سورة (الجمعة): {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً..} . إلخ. انظر شرح الآيتين في محلّهما.

الإعراب: {وَمِنَ:} الواو: حرف استئناف. ({مِنَ النّاسِ}): متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخّر، هذا هو الظاهر، ولا أرتضيه، بل ولا أعتمده. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [8].

{يَتَّخِذُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {مِنَ} تقديره: هو، والجملة الفعلية صلة ({مِنَ}) أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني تقدّم على الأول، و {دُونِ} مضاف. و {اللهِ} مضاف إليه. {أَنْداداً:}

مفعوله الأول. {يُحِبُّونَهُمْ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون في محل رفع صفة: {مِنَ} في أحد وجهيها، والضّمير المرفوع يعود إليها بعد اعتبار اللفظ في فاعل:{يَتَّخِذُ،} والثاني: أن تكون في محل نصب صفة: {أَنْداداً} والضمير المنصوب يعود إليهم، فهو رابط الصّفة، وإنما جمعوا جمع العقلاء؛ لأنّ المشركين يعاملونهم معاملة العقلاء. والثالث: أن تكون في محل نصب حال من فاعل:

{يَتَّخِذُ} المستتر، وقد أفرد في الأول حملا على اللفظ، وجمع في الثاني: حملا على المعنى.

{كَحُبِّ:} متعلقان بمحذوف صفة مصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا. التقدير: يحبونهم حبّا كائنا كحب الله. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنّما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدّم. وإنّما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأنّ حذف الموصوف وإقامة الصّفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. انتهى جمل نقلا من السمين. و (حبّ) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف؛ أي: كحبهم الله.

ص: 381

{وَالَّذِينَ:} الواو: واو الحال. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلّق المحذوف صلته. {أَشَدُّ:} خبره، ومتعلقه-وهو المفضل عليه- محذوف، تقديره: منهم، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو والضمير المحذوف مع جارّه، وهو:«منهم» .

{وَلَوْ:} الواو: واو الاعتراض، أو حرف استئناف. ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {يَرَى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.

{الَّذِينَ:} فاعله. {ظَلَمُوا:} فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، التقدير: أنفسهم، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والجملة الفعلية {يَرَى الَّذِينَ..} . إلخ لا محل لها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب ({لَوْ}) محذوف. انظر تقديره في الشرح. وأقول هنا: يقدر بعد انتهاء الآية؛ أي: لما اتخذوا من دون الله أندادا، أو: لعلموا أنّ الأصنام لا تضرّ، ولا تنفع.

هذا؛ وعلى قراءة الفعل: («ترى») بالتاء خطابا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ من يتأتّى منه الرؤية، فيكون الفاعل مستترا تقديره «أنت» و {الَّذِينَ} مفعول به، ويكتفى به؛ لأنه بمعنى: تبصر.

{إِذْ:} ظرف لما يستقبل من الزمان؛ لأنه بمعنى «إذا» هنا، كما رأيت في الشرح، مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل:{يَرَى} . {يَرَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع والواو فاعله.

{الْعَذابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محلّ جرّ بإضافة:{إِذْ} لها. {أَنَّ} حرف مشبه بالفعل. {الْقُوَّةَ:} اسمه. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبره. {جَمِيعاً:} حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي:{يَرَى} . وانظر ما قدّمته من أنّ المصدر المؤوّل يقع بعد جواب «لو» المحذوفة، فيكون في محلّ نصب سدّ مسدّ مفعوله، وعليه يكون مفعول {يَرَى} محذوفا، وأما على قراءة:

(«ترى») بالتاء فالمصدر المؤول في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لأنّ القوة

إلخ، وقال القرطبي: في موضع نصب مفعول لأجله، وأنشد سيبويه قول حاتم الطائي-وهو الشّاهد رقم [346] من كتابنا:«فتح ربّ البرية» -: [الطويل]

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره

وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّما

هذا؛ وقد قرئ بكسر همزة («إن»)، وعليه فالجملة اسمية، وهي في محل نصب مقول القول لقول محذوف يقع جوابا ل ({لَوْ})، التقدير: لقالوا: إنّ القوة

إلخ، وإعراب ما بعدها مثلها على قراءتي كسر الهمزة، وفتحها، و {شَدِيدُ} مضاف، و {الْعَذابَ:} مضاف إليه من إضافة الصّفة المشبهة لفاعلها.

ص: 382

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)}

الشرح: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} يعني: السادة، والرّؤساء تبرءوا ممّن اتّبعهم على الكفر، ينكرون إضلالهم. وفي مختصر ابن كثير: تبرأت الملائكة الّذين كانوا يزعمون: أنّهم يعبدونهم في الدّار الدنيا، فتقول الملائكة:{تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيّانا يَعْبُدُونَ} سورة (القصص) رقم [63]. {قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} سورة (سبأ) رقم [41]، والجن أيضا تتبرأ منهم، كما قال تعالى:{وَإِذا حُشِرَ النّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ} (الأحقاف) رقم [6]، والمعتمد الأول. {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وهم الضعفاء الذين اتبعوا الأقوياء، وقلّدوهم بالكفر، والضلال. هذا؛ والتبرّؤ: الخلوص، والانفصال، ومنه: برئت من الدين، ونحوه، وهو هنا بمعنى: يتبرأ، وعبّر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه، ومثله كثير في القرآن الكريم. {وَرَأَوُا الْعَذابَ} يعني: التابعين، والمتبوعين. قيل: عند تيقنهم العذاب عند المعاينة، وقيل: عند العرض والمساءلة في الآخرة، قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: كلاهما حاصل، يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان. وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب، والنّكال. {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ} جمع: سبب، وهو في الأصل: ما يتصل به إلى شيء عينا كان، أو معنى، والمراد به هنا: الوصل التي كانت بينهم في الدّنيا من القرابات، والصّداقات، والمال، وغير ذلك. وأسباب السموات: أبوابها، وطرقها، قال تعالى:{وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ} .

وقال زهير في معلّقته: [الطويل]

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السّماء بسلّم

الإعراب: {إِذْ:} بدل من سابقتها في الآية السابقة. {تَبَرَّأَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:}

فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {اُتُّبِعُوا} فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول. {مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان بالفعل {تَبَرَّأَ} وجملة: {اُتُّبِعُوا} مع مفعوله المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {وَرَأَوُا الْعَذابَ:} فعل ماض وفاعله ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، وهي على تقدير:«قد» قبلها، والرابط: الواو، والضمير، والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، وهي في محل نصب حال مثلها.

ص: 383

{وَقالَ الَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ (167)}

الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا:} هم الضّعفاء الذين اتّبعوا الأقوياء، والرّؤساء في الشرك، والضلالة. {لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً:} رجعة إلى الدنيا. {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ:} من المتبوعين. {كَما تَبَرَّؤُا مِنّا:} الكرّة: الرّجعة، والعودة إلى حال قد كانت، أي: قال الأتباع: لو رددنا إلى الدّنيا؛ حتّى نعمل صالحا، ونتبرأ منهم كما تبرءوا منا. وهم كاذبون في هذا، كما أخبر الله عنهم بقوله:

{وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} رقم [28] من سورة (الأنعام).

{كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ} أي: كما أراهم الله العذاب كذلك يريهم أعمالهم. قال الربيع-رحمه الله تعالى-أي: الأعمال الفاسدة التي ارتكبوها في الدّنيا، فوجبت لهم بها النار، وقال ابن مسعود والسّدي: الأعمال الصالحة التي تركوها، ففاتتهم الجنة.

ورويت في هذا القول أحاديث. قال السّدّي: ترفع لهم الجنّة، فينظرون إليها، وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله تعالى، ثمّ تقسم بين المؤمنين، فذلك حين يندمون. وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأمّا إضافة الأعمال الفاسدة إليهم؛ فمن حيث عملوها.

{وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ} دليل على خلود الكفار فيها، وأنّهم لا يخرجون منها. هذا؛ وعدل عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية؛ إذ الأصل:«وما يخرجون» للمبالغة في الخلود، والإقناط من الخلاص والرّجوع إلى الدّنيا.

هذا؛ و {حَسَراتٍ} جمع: حسرة، وهي شدّة الندم، وتألّم القلب على شيء فات، وهي ساكنة السين، وفتحت في الجمع على القاعدة المتّبعة، وهي: أنه إذا جمع الاسم الثلاثي الصحيح العين، الساكنها، المؤنث المختوم بالتاء أو المجرد عنها بألف وتاء أتبعت عينه لفائه، سواء كانت فاؤه مضمومة، أو مفتوحة، أو مكسورة، فتقول في بسرة، وجمل: بسرات، وجملات. وفي حفنة، ودعد: حفنات، ودعدات. وفي كسرة، وهند: كسرات وهندات، ويجوز في العين بعد الضمة، والكسرة التسكين، والفتح، فتقول: بسرات، وبسرات، وجملات وجملات، وكسرات وكسرات، وهندات وهندات، ولا يجوز التسكين بعد الفتحة، بل يجب الاتباع.

هذا؛ وقال المرحوم مصطفى الغلاييني: وإن جمعت اسما ثلاثيّا مضموم الأول، أو مكسوره، ساكن الثاني، صحيحه، خاليا من الإدغام، مثل: خطوة، وجمل، وهند، وقطعة، وفقرة؛ جاز فيه ثلاثة أوجه: الأول: إتباع ثانيه لأوله كخطوات، وجملات، وهندات، وقطعات، وفقرات. الثاني: فتح ثانيه كخطوات، وجملات، وهندات، وقطعات، وفقرات. الثالث: إبقاء ثانيه على حاله من السّكون، كخطوات، وجملات، وهندات، وقطعات، وفقرات.

ص: 384

أما الاسم فوق الثلاثي، كزينب، والاسم الصّفة، كضخمة، والاسم الثلاثي المحرّك الثاني كشجرة. والاسم الّذي ثانيه حرف علّة، كجوزة، والاسم الثلاثي الذي فيه إدغام كمرّة، فكل ذلك لا تغيير فيه عند جمعه جمع مؤنث سالما.

الإعراب: ({قالَ}): فعل ماض. {الَّذِينَ:} فاعله. {اِتَّبَعُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {لَوْ:} حرف تمنّ.

{أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {أَنَّ} تقدّم على اسمها. {كَرَّةً:} اسمها مؤخر. و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل بالفعل المحذوف، تقديره: يقع، أو يحصل، ونحوه. وقد اختلف: هل ل {لَوْ} هذه جواب؟ والمعتمد: أنّ جوابها محذوف قام مقامه الكلام الآتي. {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} الفاء: هي السببية (نتبرأ): فعل مضارع منصوب ب (أن) مضمرة بعد الفاء، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:«نحن» .

{مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و «أن» المضمرة بعد الفاء، والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيّد من الفعل السّابق، وتقدير الكلام: نتمنى رجعة إلى الدنيا، وبراءة من هؤلاء المتبوعين. وهذا الكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:

({قالَ..}.) إلخ معطوفة على جملة: (نتبرأ) فهي في محل جرّ مثلها.

{كَما:} الكاف حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {تَبَرَّؤُا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جرّ بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا للفعل قبله، التقدير:

فنتبرأ منهم تبرّؤا كائنا مثل تبرّؤهم منّا. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنّما مذهبه في مثل ذلك أن يكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف حال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل السّابق، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأنّ حذف الموصوف وإقامة الصّفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. انتهى سمين في غير هذا الموضع.

{كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا للفعل بعده، التقدير: يريهم الله أعمالهم إراءة كائنة

إلخ. وانظر: {كَذلِكَ يُحْيِ} في الآية رقم [73]. {يُرِيهِمُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {أَعْمالَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جرّ بالإضافة.

{حَسَراتٍ:} مفعول به ثالث، وقيل: حال منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنّث سالم. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {حَسَراتٍ} لأنه جمع: حسرة، وهي مصدر، أو هما متعلقان بمحذوف صفة له، وجملة:{كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {هُمْ} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسمها. {بِخارِجِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (خارجين): خبر:

ص: 385

({ما}) مجرور لفظا، منصوب محلاّ، وفاعله مستتر فيه:{مِنَ النّارِ:} متعلقان ب: (خارجين) والجملة الاسمية: {وَما هُمْ

}. إلخ في محل نصب حال من الضّمير الواقع مفعولا به، والرابط:

الواو، والضمير.

{يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)}

الشرح: لمّا بيّن الله تعالى: أنّه لا إله إلا هو، وأنّه المستقلّ بالخلق؛ شرع يبيّن: أنه الرزّاق لجميع خلقه، مؤمنهم، وكافرهم، وصالحهم، وفاسدهم، فذكر في معرض الامتنان: أنّه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا مستطابا في نفسه، غير ضارّ للأبدان، ولا للعقول، ونهاهم عن اتّباع خطوات الشّيطان الرّجيم.

نزلت الآية الكريمة في بني ثقيف، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، وبني مدلج فيما حرّموا على أنفسهم من الحرث، والأنعام، والبحيرة، والسّائبة، والوصيلة، والحام. انظر الآية رقم [3] من سورة (المائدة)، والآية رقم [136] من سورة (الأنعام) وما بعدها، لترى أعمال أهل الجاهلية. وعن عياض بن حماد-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«يقول الله تعالى: إنّ كلّ مال منحته عبادي فهو لهم حلال» وفيه: «وإنّي خلقت عبادي ضعفاء، فجاءتهم الشّياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» . رواه مسلم، ومعنى اجتالتهم: صرفتهم عن الهدى إلى الضلالة.

هذا؛ والحلال: المباح الذي أحلّه الشرع، وانحلّت عقدة الخطر عنه، وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد. والطّيب: ما يستلذّه المسلم، والمسلم لا يستطيب إلا الحلال، ويعاف الحرام. هذا؛ والأمر للإباحة، لا للوجوب، و (من) دالة على التبعيض؛ إذ لا يؤكل كل ما في الأرض، والطّيب: ما يستطيبه الشّرع، وتقبله الفطرة السّليمة، والخليقة المستقيمة، وخذ ما يلي:

فعن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-قال: تليت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أَيُّهَا النّاسُ..} . إلخ فقام سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدّعوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يا سعد أطب مطعمك؛ تكن مستجاب الدّعوة، والّذي نفس محمّد بيده! إنّ العبد ليقذف اللّقمة الحرام في جوفه ما يتقبّل منه عمل أربعين يوما، وأيّما عبد نبت لحمه من سحت؛ فالنّار أولى به» . رواه الطبراني في الصغير. {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ:} خطواته: زخارفه، ووساوسه، وأحابيله، وتزيينه تحليل الحرام، وتحريم الحلال.

والمعنى: لا تسلكوا سبيله، ولا تأتمّوا به، ولا تقفوا آثاره.

قال قتادة، والسّديّ: كلّ معصية لله فهي من خطوات الشّيطان، وقال مسروق-رحمه الله تعالى-أتي عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-بضرع، وبلح، فجعل يأكل، فاعتزل رجل من

ص: 386

القوم، فقال ابن مسعود-رضي الله عنه: ناولوا صاحبكم! فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟ قال: لا، قال: فما شأنك؟ قال: حرّمت أن آكل ضرعا أبدا! فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فاطعم، وكفّر عن يمينك. رواه ابن أبي حاتم عن أبي الضّحى عن مسروق، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: ما كان من يمين، أو نذر في غضب؛ فهو من خطوات الشّيطان، وكفارته كفارة يمين.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ:} بيّن العداوة. وقد بيّن الله لنا عداوته لآدم، ولذريته، قال تعالى في سورة (فاطر) رقم [6]{إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا..} . إلخ، وقال في سورة (الكهف) رقم [50]:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ،} ومثل ذلك كثير في آيات الله، وهو غاية في التّحذير من كيده، وشرّه.

الإعراب: ({يا}): حرف نداء ينوب مناب أدعو. ({أَيُّهَا}): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب ({يا})، و (ها) حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنّه يجب حينئذ نصب المنادى. {النّاسُ:} بدل من (أيّ) أو عطف بيان عليه، وانظر الآية رقم [21]. {كُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها.

{مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، أو بمحذوف صفة:(ما) إن كانت نكرة موصوفة. {حَلالاً:} حال من: (ما) وقيل: هو مفعول به ل {كُلُوا} . وقيل: هو صفة مصدر محذوف، أي: أكلا حلالا، وقال مكي: صفة مفعول به، التقدير: شيئا حلالا، أو رزقا حلالا. {طَيِّباً:} صفة: {حَلالاً} وهي صفة مؤكدة. ({لا}): ناهية جازمة. {تَتَّبِعُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، {خُطُواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وهو مضاف، و {الشَّيْطانِ:} مضاف إليه. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه.

{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، وانظر الآية رقم [207]. {عَدُوٌّ:} خبر: (إنّ).

{مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية تعليلية لا محل لها من الإعراب.

{إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)}

الشرح: (السوء {وَالْفَحْشاءِ}): قال البيضاوي: هو ما استقبحه الشّرع، وأنكره العقل.

والعطف لاختلاف الوصفين، فإنه سوء لاغتمام العاقل به، وفحشاء باستقباحه إياه، وقيل:

السوء: من القبائح، والفحشاء: ما تجاوز الحد من الكبائر. وقيل: الأول ما لا حدّ فيه،

ص: 387

والثاني ما شرع فيه الحد. انتهى. وسمّي السّوء سوءا؛ لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه، وهو مصدر: ساء، يسوء، سوءا، ومساءة: إذا أحزنه، والسّوء: الشرّ، والفساد، والجمع: أسواء، وهو بضم السّين من: ساءه، وبفتحها المصدر، تقول:«رجل سوء» بالإضافة و «رجل السّوء» ولا تقول: الرّجل السّوء، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ} . هذا؛ والفحشاء أصله قبح المنظر، كما قال امرؤ القيس في معلّقته رقم [32]:[الطويل]

وجيد كجيد الرّئم ليس بفاحش

إذا هي نصّته ولا بمعطّل

وقال مقاتل رحمه الله تعالى: إنّ كلّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنّه الزنى إلا قوله تعالى: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ} فإنّه منع الزكاة؛ أي: البخل بإنفاق المال.

{وَأَنْ تَقُولُوا..} . إلخ: تفتروا على الله أشياء لا أصل لها، كاتّخاذ الأنداد، وتحليل المحرّمات، وتحريم الطيبات، وغير ذلك ممّا هو مخالف للدّين الحنيف، والشّرع الشّريف، فيدخل في هذا كلّ كافر، وكلّ مبتدع أيضا. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة مفيدة للحصر. {يَأْمُرُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانِ} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بِالسُّوءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْفَحْشاءِ:} معطوف على ما قبله. (أن): حرف مصدري، ونصب. {تَقُولُوا:}

فعل مضارع منصوب ب (أن)، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعل، والألف للتفريق و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر معطوف على (السّوء {وَالْفَحْشاءِ}).

{عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لا:} نافية. {تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة:({ما}) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا لا تعلمونه.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ:} وإذا قيل للمشركين: {اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ} على رسوله من الوحي، والقرآن، والهدى، والنور، والإيمان، واتركوا ما أنتم عليه من الجهل، والضّلال، والطّغيان. {قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ..} . إلخ. ونظيرها الآية رقم [21] من سورة (لقمان)، وأيضا قوله تعالى:{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا} رقم [104] من سورة (المائدة). وإنما عدل عن الخطاب معهم للنّداء على ضلالتهم، كأنه التفت إلى العقلاء، وقال

ص: 388

لهم: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون؟! ومعنى {ما أَلْفَيْنا:} ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام، وتحريم السوائب، والبحائر، وغيرها، فإنهم كانوا خيرا منّا، وأعلم، وأعقل، فلذا ردّ الله عليهم بقوله:{أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ..} . إلخ؛ أي: أيتبعون آباءهم؛ وإن كانوا سفهاء أغبياء، ليس لهم عقل يردعهم عن الشر، ولا بصيرة تنير لهم الطريق؟! والاستفهام للإنكار، والتوبيخ، والتعجيب من حالهم في تقليدهم الأعمى للآباء. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما:

أنها نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا:{بَلْ نَتَّبِعُ..} . إلخ، والأولى التعميم، وهي بالعرب الجاهليين ألزق، وألزم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. ({إِذا}): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {اِتَّبِعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {أَنْزَلَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: اتبعوا الذي، أو شيئا أنزل الله، والجملة الفعلية في محل رفع نائب فاعل {قِيلَ،} وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا.

{قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، {بَلْ:} حرف عطف ما بعده على جملة محذوفة قبله، تقديرها: لا نتبع ما أنزل الله بل نتبع

إلخ، وقال أبو البقاء:{بَلْ} هنا للإضراب عن الأول، أي: لا نتبع ما أنزل الله، وليس بخروج من قصّة إلى قصة، يعني بذلك:

أنه إضراب إبطال، لا إضراب، وانتقال، وعلى هذا يقال: كلّ إضراب في القرآن المراد به الانتقال من قصّة إلى قصّة إلا في هذه الآية، وإلا في قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فإنّه محتمل للأمرين. انتهى جمل بتصرف. {نَتَّبِعُ:} فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره: نحن. {ما} مفعول به، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة. {أَلْفَيْنا:} فعل وفاعل.

{عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، تقدم على الأول. {آباءَنا:} مفعول به، و (نا) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة:(ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ ب (على)، والجملة الفعلية:{بَلْ نَتَّبِعُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب: ({إِذا}) لا محل لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{أَوَلَوْ..} . إلخ: الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. الواو: فيها قولان: أحدهما-وإليه ذهب أبو البقاء، وابن عطية-: أنها للعطف، والثاني: -وإليه ذهب الزمخشري في كشافه، وتبعه البيضاوي، والنسفي-: أنها واو الحال. وللجمل كلام كثير في الجمع بين القولين، نقله عن

ص: 389

شيخه. وأرى: أنها حرف استئناف؛ لأنّ الجملة بعدها متضمنة التوبيخ، والإنكار، وأن الوقف على {آباءَنا} جيد، والمعنى تامّ لا يحتاج إلى تقييده بحال، وأن الاستفهام إنشاء، ولا يصح وقوعه حالا كما هو معروف، وأن تقدير معطوف عليه محذوف تكلّف لا داعي له.

({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {آباؤُهُمْ:}

اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {يَعْقِلُونَ:} مضارع وفاعله. {شَيْئاً:}

مفعول به، وله متعلق محذوف، التقدير: شيئا نافعا من أمر الدين، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كانَ} والتي بعدها معطوفة عليها، فهي في محل نصب مثلها، والمتعلق محذوف؛ إذ التقدير: لا يهتدون إلى حق. وجملة: {كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب ({لَوْ}) محذوف، التقدير: لاتبعوهم، و ({لَوْ}) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، كما ذكرت في الواو، وما أجدرك أن تنظر الآية رقم [104] من سورة (المائدة)؛ فهي مثلها في كل شيء مع اختلاف في بعض الألفاظ، وأيضا الآية رقم [21] من سورة (لقمان) وهو لا يؤثر في المعنى، والإعراب. والله الموفق للحقّ والصواب.

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)}

الشرح: {وَمَثَلُ الَّذِينَ..} . إلخ: شبّه الله تعالى واعظ الكفار، وداعيهم، وهو محمّد صلى الله عليه وسلم بالرّاعي الذي ينعق بالغنم، والإبل، فلا تسمع إلا دعاءه، ونداءه، ولا تفهم ما يقول. هكذا فسره ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره، وهذه نهاية الإيجاز. قال سيبويه-رحمه الله تعالى-:

ولم يشبهوا بالناعق، إنّما شبهوا بالمنعوق به، والمعنى: ومثلك يا محمد، ومثل الذين كفروا كمثل الناعق، والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم. فحذف لدلالة المعنى عليه، وقال ابن زيد -رحمه الله تعالى-: المعنى: مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة من الجماد، كمثل الصّائح في جوف الليل، فيجيبه الصّدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه، ولا منتفع.

وقيل: المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم، كمثل النّاعق بغنمه، لا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنّه في عناء، وكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة إلا العناء.

وقيل غير ذلك، والأوّل هو الأولى بالاعتبار.

هذا؛ وفي قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا..} . إلخ تشبيه مرسل، ومجمل، مرسل لذكر الأداة، ومجمل لحذف وجه الشبه. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين عن الآية: لك أن تجعل هذا التشبيه من المركّب، وأن تجعله من التشبيه المفرّق، فإن جعلته من المركّب؛ كان تشبيها للكفار في عدم فقههم، وانتفاعهم بالغنم؛ الّتي ينعق بها الراعي: فلا تفقه من قوله شيئا غير

ص: 390

الصّوت المجرّد الذي هو الدعاء والنّداء. وإن جعلته من التشبيه المفرّق؛ فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النّعق، وإدراكهم مجرد الدّعاء والنّداء كإدراك البهائم مجرّد صوت الناعق. والله أعلم.

هذا ويقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا، ونعاقا: إذا صاح بها، وزجرها. قال الأخطل في هجاء جرير:[الكامل]

فانعق كضأنك يا جرير فإنّما

منّتك نفسك في الخلاء ضلالا

وبالجملة: المعنى: ومثل الكفار في عدم انتفاعهم بالقرآن، وحججه السّاطعة، ومثل من يدعوهم إلى الهدى، كمثل الراعي الذي ينعق بغنمه، ويزجرها، فهي تسمع الصّوت، والنداء دون أن تفهم الكلام، والمراد، أو تدرك المعنى الّذي يقال لها، ولكنّها لا تجيب بالقول، فهؤلاء الكفار كالدّواب، لا يفهمون ما تدعوهم إليه، ولا يفقهون، يسمعون القرآن، ويصمّون عنه.

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} انظر الآية رقم [18] وخذ هنا زيادة على ما ذكرته هناك قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [39]: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [179]: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} .

الإعراب: {وَمَثَلُ:} الواو: حرف استئناف. ({مَثَلُ}): مبتدأ، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:}

مضاف إليه مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {يَنْعِقُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الّذي، وهو العائد، والجملة صلة:{الَّذِي} . {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة المنفية:{لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَنِداءً} صلة الموصول، لا محل لها، والعائد الفاعل العائد إلى (ما)، وينبغي أن تعرف: أنّ بعد هذا الإعراب حذفا، وتقدير الكلام: مثل داعي الذين كفروا إلى الهدى كمثل الناعق بالغنم، وإنما قدر ذلك ليصح التشبيه، فداعي الذين كفروا كالناعق بالغنم، ومثل الذين كفروا كالغنم المنعوق بها. انتهى عكبري بتصرف. وانظر الشرح. والجملة الاسمية:({مَثَلُ الَّذِينَ..}.) إلخ مستأنفة لا محل لها.

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ:} يجوز أن تكون هذه الأسماء أخبارا لمبتدإ محذوف، وأن تكون أخبارا لمبتدآت محذوفة، والجملة الاسمية الواحدة، أو الجمل المتعدّدة في محل نصب حال من واو الجماعة. والرابط الضمير فقط، وهو المبتدأ المقدر ب «هو» ، والاستثناء ممكن، فلا يكون لها محل من الإعراب. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف، وسبب. (هم): ضمير منفصل مبني على

ص: 391

السكون في محل رفع مبتدأ. (لا:) نافية. {يَعْقِلُونَ:} مضارع، والواو فاعله. والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها، على الاعتبارين فيها. هذا؛ ومن الغريب: أنّ الواحدي في كتابه (البسيط) قد اعتبر {إِلاّ} زائدة في هذه الآية، وأنشد عليه قول الفرزدق:[الطويل]

هم القوم إلاّ حيث حلّوا سيوفهم

وضحّوا بلحم من محلّ ومحرم

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}

الشرح: نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرم وصف، وألطف عبارة، أي: يا من صدقتم الله، ورسوله، وتحليتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان! وقد خاطب الله عباده المؤمنين بقوله:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في ثمانية وعشرين موضعا من القرآن، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكرهم بأن الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقّى أوامر الله، ونواهيه بحسن الطاعة، والامتثال، وإنما خصّهم الله بالنداء؛ لأنهم هم المستجيبون لأمره، المنتهون عما نهى الله عنه؛ إذ الغالب أن يتبع هذا النداء بأمر، أو بنهي.

{كُلُوا:} الأمر مستعمل في كلّ من الوجوب، والندب، والإباحة، الأول: إذا كان لقيام البدن، والثاني: كالأكل مع الضّيف، والثالث: في غير ما ذكر. انتهى جمل بتصرف. وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك؛ إن كانوا عبّاده، والأكل من الحلال سبب لتقبّل الدّعاء، والعبادة كما أنّ الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء، والعبادة، كما جاء في الحديث الشريف من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«أيّها النّاس إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّبا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} ثمّ ذكر الرّجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا ربّ! يا ربّ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب له؟!» . رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم، وأحمد، والترمذي.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: تليت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً} فقام سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدّعوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدّعوة؛ والّذي نفس محمّد بيده! إنّ العبد ليقذف اللّقمة الحرام في جوفه، ما يتقبّل منه عمل أربعين يوما، وأيّما عبد نبت لحمه من سحت؛ فالنّار أولى به» . رواه الطّبراني في الصغير.

ص: 392

والمراد من: {طَيِّباتِ:} حلالات، والحلال هو المراد عند الإطلاق؛ لأنّ الحرام خبيث، نجس؛ وإن كان مستلذّا عند من يأكله. وانظر الدّعاء في الآية رقم [185] الآتية.

{وَاشْكُرُوا لِلّهِ} انظر الشكر في الآية رقم [52]. {إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ:} انظر العبادة في سورة الفاتحة، ولا تنس: أنّ تقديم المفعول يوحي بالاختصاص. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

«يقول الله عز وجل: أنا، والإنس، والجنّ في نبأ عظيم، أخلق، ويعبد غيري، وأرزق، ويشكر غيري!» .

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر إعراب مثلها فيما تقدّم قريبا. {مِنْ طَيِّباتِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و {طَيِّباتِ} مضاف. {ما:} في محل جر بالإضافة وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر. هذا؛ وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، ومفعول:{كُلُوا} محذوف، التقدير: كلوا رزقكم، وعليه فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، وجوز الأخفش اعتبار:

{مِنْ} زائدة في الإيجاب، وعليه ف {طَيِّباتِ} مجرور لفظا منصوب محلاّ. {رَزَقْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: من طيبات الذي، أو: شيء رزقناكموه، على اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: طيبات رزقنا، وجملة:{كُلُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، وجملة:{وَاشْكُرُوا لِلّهِ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء: اسمه. {إِيّاهُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به مقدم. {تَعْبُدُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان).

وجملة: {كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. و {إِنْ} ومدخولها كلام مرتبط بما قبله لا محل له مثله. هذا؛ ويجيز بعض الكوفيين اعتبار (إن) بمعنى:«إذ» أي: ظرفا. وردّه ابن هشام في المغني.

{إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}

الشرح: {إِنَّما:} كلمة موضوعة للحصر، تتضمّن النفي، والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب، وتنفي ما عداه، وقد حصرت هاهنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} .

ص: 393

{الْمَيْتَةَ} أي: أكلها، أو الانتفاع بشيء منها، وهي الّتي ماتت من غير ذكاة شرعية، والحديث ألحق بها ما أبين من حيوان حيّ، وخصّ منها السّمك، والجراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم:

«أحلّت لنا ميتتان، ودمان: السّمك، والجراد، والكبد، والطّحال» .

وكذلك جنين المذكّاة الميت في بطنها، فأكله جائز من غير تذكية له إلا أن يخرج حيا فيذكّى، ويكون له حكم أمّه، فقد روى جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البقرة، والشاة تذبح، والناقة تنحر، فيكون في بطنها جنين ميّت، فقال:«إن شئتم فكلوه؛ لأنّ ذكاته ذكاة أمّه» . أخرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

هذا؛ ويلحق بالميتة ذبيحة كل وثنيّ، ووثنية، بخلاف ذبيحة الكتابيّ، والكتابية، فإنّها تؤكل، وكذا نكاح المحصنات من أهل الكتاب جائز لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].

هذا؛ وأصل الميتة بتشديد الياء؛ لأن بناءه فيعلة، والأصل ميوتة فقل في إعلاله: اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداها بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، والميتة والميت بفتح الميم وسكون الياء فيهما، وهو من فارقت روحه جسده، وجمعه: أموات. وأما المشدّد فهو الحيّ الذي سيموت، وعليه قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ،} وجمعه: موتى، قال بعض الأدباء في الفرق بينهما:[الطويل]

أيا سائلي تفسير ميت وميّت

فدونك قد فسّرت ما عنه تسأل

فمن كان ذا روح فذلك ميّت

وما الميت إلاّ من إلى القبر يحمل

هذا هو الأصل الغالب في الاستعمال. وقد يتعاوضان كما في قول عديّ بن الرّعلاء الغسّاني-وهو الشّاهد رقم [834] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الخفيف]

ليس من مات فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرّجاء

({الدَّمَ}): المراد به دم الحيوان الذي يذبح، كان الجاهليون يجمدونه، ويقلونه بالزيت، ونحوه، ويأكلونه. اتفق العلماء على أنّ الدّم حرام نجس، لا يؤكل، ولا ينتفع به، قال ابن خويز منداد: وأمّا الدّم فحرام ما لم تعم به البلوى، ومعفو عمّا تعمّ به لبلوى، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن، والثوب يصلى فيه. وقد روت عائشة رضي الله عنها: كنّا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلوها الصفرة من الدّم، فنأكل، ولا ننكره؛ لأنّ التحفظ من هذا إصر، وفيه مشقة، والإصر، والمشقّة في الدّين موضوع. وقد أحلّ لنا دمان بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحلّ لنا من الدّم دمان، ومن الميتة ميتتان: الحوت، والجراد،

ص: 394

ومن الدم الكبد والطّحال» رواه الطّبراني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهم أجمعين. هذا؛ وقيده سبحانه وتعالى في سورة (الأنعام) رقم [145] بقوله:

{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} أي: سائلا، والمطلق يحمل على المقيّد.

{وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ:} والمراد جميع أجزائه، وإنّما خصّ اللحم بالذّكر؛ لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان، ومعظم الانتفاع متعلّق به، ويجمع لحم على: لحوم، ولحام، قال لبيد-رضي الله عنه في معلّقته:[الكامل]

أدعو بهنّ لعاقر أو مطفل

بذلت لجيران الجميع لحامها

هذا؛ ويقال: لحم، وألحم، ولحمان، ولحام، ورجل لحم شحيم، إذا كان قرما إلى اللّحم. {وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ:} رفع به الصّوت عند الذبح للصنم، هي ذبيحة المجوسيّ، والوثنيّ، والمعطّل. فالمجوسيّ يذبح لناره، والوثني لوثنه، والمعطل-أي الملحد-لا يعتقد شيئا، فيذبح لنفسه، ويدخل في ذلك كلّ ما لم يقصد به وجه الله تعالى، كالذي يذبح على الأضرحة، وللأولياء، ويقول: هذه ذبيحة جدّي فلان، والرّسول صلى الله عليه وسلم قال:«لعن الله سبعة من خلقه من فوق سبع سماواته، وردّد اللعنة على واحد منهم ثلاثا، ولعن كلّ واحد منهم لعنة تكفيه، قال: ملعون من عمل عمل قوم لوط، ملعون من أتى شيئا من البهائم، ملعون من عقّ والديه، ملعون من جمع بين امرأة وابنتها، ملعون من غيّر حدود الأرض، ملعون من ادّعى إلى غير مواليه، ملعون من ذبح لغير الله» . رواه الطّبراني في الأوسط عن أبي هريرة-رضي الله عنه، وعنه أيضا: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» . رواه أحمد، وأبو داود.

ولذلك نهى الإمام عليّ-رضي الله عنه وكرّم الله وجهه-عن أكل الإبل التي ذبحها جد الفرزدق، ومنافسه عند مباراتهما في الكرم، وقال: هذا ممّا ذبح لغير وجه الله! فأكلتها الوحوش، والطيور. وقس على ذلك كلّ ما لم يقصد به وجه الله تعالى.

هذا؛ والإهلال: رفع الصوت، وكانوا يرفعونه عند الذبح لآلهتهم، والأصل: أن يرفع الصوت بالتكبير عند رؤية الهلال في مطلع الشهر الجديد، يقال: أهلّ بكذا، أي: رفع صوته.

قال ابن أحمر يصف فلاة: [السريع]

يهلّ بالفرقد ركبانها

كما يهلّ الرّاكب المعتمر

وقال النابغة: [الكامل]

أو درّة صوفيّة غوّاصها

بهج متى يرها يهلّ ويسجد

{فَمَنِ اضْطُرَّ..} . إلخ: المضطر: هو المكلف بالشيء، الملجأ إليه، المكره عليه، وهو على ثلاثة أقسام: إما بإكراه من ظالم، أو بجوع في مخمصة، أو بفقر لا يجد شيئا البتّة، فإن التّحريم

ص: 395

يرتفع مع وجود هذه الأقسام بحكم الاستثناء في قوله تعالى: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وتباح له الميتة، فأمّا الإكراه؛ فيبيح له ذلك إلى أن يزول، وأما المخمصة، فلا يخلو أن تكون دائمة، فلا خلاف في جواز الشّبع منها. وإن كانت نادرة؛ فاختلف فيها العلماء، وللشّافعي فيها قولان: أحدهما:

أنّه يأكل ما يسدّ به الرّمق، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: أنه يأكل قدر الشّبع. وبه قال مالك، وهو المعتمد إن شاء الله، وحديث العنبر نصّ في ذلك، فإنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد، وكانوا في غزوة على ساحل البحر، فرفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضّخم، فلمّا أتوه، فإذا هي دابة تدعى: العنبر، فقال أبو عبيدة أميرهم-رضي الله عنه: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم، فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهرا، ونحن ثلاثمائة؛ حتى سمنّا، فأكلوا، وشبعوا رضوان الله عليهم مما اعتقدوا: أنّها ميتة، وتزوّدوا منها إلى المدينة، وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم: أنّه حلال، وقال:«هل معكم من لحمه شيء، فتطعمونا؟» . فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله، فهو معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكرامة لهم حيث لم ينتن.

مسألة: إذا وجد المضطر ميتة، وطعام الغير، بحيث لا قطع فيه، ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بلا خلاف؛ لحديث عبّاد بن شرحبيل الغزي-رضي الله عنه قال: أصابنا عام مخمصة، فأتيت المدينة، فأتيت حائطا، فأخذت سنبلا، ففركته، وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط، فضربني، وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته. فقال للرّجل:«ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا، ولا علّمته إذ كان جاهلا» . فأمره، فردّ إليه ثوبه، وأمر له بوسق طعام، أو نصف وسق. رواه ابن ماجة. وقال مسروق: من اضطر إلى طعام، أو شراب، فله أن يأكل، ويشرب، فإن لم يأكل، ولم يشرب، ثم مات؛ دخل النار.

وذكر التّرمذي عن يحيى بن سليم بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر-رضي الله عنهم أجمعين-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل حائطا؛ فليأكل، ولا يتّخذ خبئة» . قال أبو عبيد: قال أبو عمر: وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء. وروى أبو داود عن الحسن عن سمرة-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها؛ فليستأذنه، فإن أذن له؛ فليحتلب، ويشرب، ولا يحمل» .

{غَيْرَ باغٍ:} خارج على المسلمين، و {وَلا عادٍ} معتد عليهم بقطع الطّريق، فيدخل فيها قاطع الطريق، الخارج على السّلطان بدون تأويل، والمسافر في قطع الرحم، وقصد السّرقة، وإيذاء الناس، وما شاكله من الأمور غير المباحة، وهذا قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما، وبه قال المفسّرون من أئمة الشّافعية. وقال قتادة، والحسن، والرّبيع، وابن زيد،

ص: 396

وعكرمة: {باغٍ} قاصد للشّهوة، واللّذة، و {عادٍ} متجاوز مقدار الحاجة من سدّ الرّمق، ودفع الخوف، والتخلّص من الإكراه. وبه قال المفسّرون من أئمة الحنفية، وغيرهم، وانظر الآية رقم [90].

هذا؛ وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد، والعرب تقول: خرج الرّجل في بغاء إبل له، ومنه قول الشاعر:[مجزوء الكامل]

لا يمنعنّك من بغا

ء الخير تعتاد الرّتائم

إنّ الأشائم كالأيا

من والأيامن كالأشائم

بعد هذا، فأنا أعلّمها لك، فأقول-وبالله التوفيق-: أصل باغ: باغي، بكسرة على الياء علامة للجر، أو بضمة على الياء علامة للرفع، وبتنوين الصرف، لكن استثقلت الكسرة، أو الضمة على الياء بعد كسرة، فسكنت الياء، فالتقى ساكنان: الياء، والتنوين، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، وبقيت الغين مكسورة على ما كانت عليه قبل الإعلال، فقيل: باغ بالكسر، وإنما لم يقل بالرفع؛ لأنّ الياء محذوفة لعلة الالتقاء كالثابتة فتمنع الرفع للغين. وهكذا قل في إعلال كل اسم منقوص مجرد من: ال، والإضافة، سواء أكان ثلاثيّا، أو رباعيّا، وعاد مثله، أصله:

عادي. وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: أصله: عائد، فهو من المقلوب، كشاكي السّلاح، وهار، ولاث، والأصل: شائك، وهائر، ولائث. {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ:} فلا مؤاخذة، ولا جناح في أكله الميتة، وما عطف عليها في حال الضّرورة. {غَفُورٌ:} لعبده المؤمن إذا فعل ذلك، وهو صيغة مبالغة. {رَحِيمٌ:} بهم؛ حيث رخّص لهم الأمور المحظورة في حال الضرورة.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة مفيدة للحصر. {حَرَّمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله، تقديره:«هو» . {عَلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْمَيْتَةَ:} مفعول به منصوب، وما بعده معطوف عليه، هذا، ويقرأ برفع «الميتة» وما بعده، وخرج على أنّ (ما) غير كافة ل (إنّ) فهي عاملة و (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسمها على حدّ قوله تعالى في سورة (طه):{إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ} وجملة: {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: إنّ الذي حرّمه الله عليكم: {الْمَيْتَةَ} .

وهذه القراءة قراءة ابن أبي عبلة، وقرئ «حرّم» بالبناء للمجهول، وخرج على وجهين:

أحدهما: أنّ (ما) غير كافة، وهي اسم (إنّ) كما تقدّم، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) الموصولة، وهو العائد، والجملة صلة لها، و {الْمَيْتَةَ} خبر ({إِنَّ}). والوجه الثاني: أنّ (ما) كافة لها، وأنّ {الْمَيْتَةَ} بالرّفع نائب فاعل:{حَرَّمَ،} وهذه قراءة أبي جعفر بن القعقاع، والقراءتان غير سبعيتين، وسواء أكانت الجملة فعلية، أم اسمية، فهي مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

ص: 397

{وَما} اسم موصول مبني على السكون معطوف على الميتة على الوجهين المعتبرين فيه.

{أُهِلَّ:} ماض مبني للمجهول. {بِهِ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل: {أُهِلَّ،} والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {لِغَيْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور بالباء، و (غير) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {فَمَنِ:}

الفاء: حرف عطف وتفريع. (من): اسم شرط جازم، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{اُضْطُرَّ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، ونائب الفاعل يعود إلى (من). {غَيْرَ:} حال من نائب الفاعل المستتر، وقال النسفي، وغيره: التقدير: فأكل غير

إلخ، وهذا يعني: أنّه حال من فاعل الفعل المقدر، وعليه فالجملة المقدرة معطوفة على سابقتها. و {غَيْرَ} مضاف، و {باغٍ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي المفهوم من ({غَيْرَ}). {عادٍ:} معطوف على: {باغٍ} مجرور مثله. {فَلا:} الفاء واقعة في جواب الشرط.

({لا}): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {إِثْمَ} اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْهِ:}

متعلقان بمحذوف خبر ({لا}) وخبر المبتدأ الّذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته مرارا. هذا؛ ويجوز اعتبار (من) اسما موصولا مبتدأ، وجملة:{اُضْطُرَّ..} . إلخ صلته، وجملة:{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في محل رفع خبره، وقد اقترنت بالفاء؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم. {إِنَّ:}

حرف مشبه بالفعل، و {اللهِ:} اسمه. {غَفُورٌ رَحِيمٌ:} خبران له، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، أو معترضة في آخر الكلام لا محل لها على الاعتبارين.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ:} انظر الآية رقم [159]، والمراد: علماء اليهود كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحّة رسالته، فعلوا ذلك؛ لئلا تذهب رياستهم، وما كانوا يأخذون من العوامّ من الهدايا، والتّحف. ومعنى {أَنْزَلَ:} أظهر، كما قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [93]:{وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ} أي: سأظهر. وقيل: هو على بابه من النزول، أي: أنزل به ملائكته على رسله. {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً:} انظر الآية رقم [79] ففيها الكفاية.

{أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ:} ذكر البطون دلالة، وتأكيدا على حقيقة الأكل؛ إذ قد يستعمل مجازا في مثل: فلان أكل أرضي، ونحوه. وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على

ص: 398

جشعهم، وأنّهم باعوا آخرتهم بحظّهم من المطعم الذي لا خطر له، فسمى الله ما أكلوه من الرّشا نارا؛ لأنّه يؤدّيهم إلى النار. هكذا قال أكثر المفسرين.

وقيل: إنّه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنّم حقيقة، كأنما أخبر عن المآل بالحال، كما قال تعالى في سورة (النّساء) رقم [10]:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} أي: إنّ عاقبته تؤول إلى ذلك، ومنه قول أبي سعيد سابق البريري، وهو الشّاهد رقم [387] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

فللموت تغذو الوالدات سخالها

كما لخراب الدّور تبنى المساكن

وأيضا قول عبد الله بن الزّبعرى-وهو الشاهد رقم [388] من كتابنا المذكور-: [المتقارب]

فإن يكن الموت أفناهمو

فللموت ما تلد الوالده

{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: كلام رحمة لشدّة غضبه عليهم، وإنّما يكلمهم كلام سخط، ومقت، فيقول لهم:{اِخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} . انظر سورة (المؤمنون) رقم [108].

{وَلا يُزَكِّيهِمْ:} ولا يطهّرهم من أدران الذنوب، والسيئات. أو: لا يصلح أعمالهم الخبيثة، فتطهر، وفي صحيح مسلم-رحمه الله تعالى-عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذّاب، وعائل مستكبر» .

وإنّما خص هؤلاء بأليم العذاب، وشدّة العقوبة لمحض المعاندة، والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي؛ إذ لم يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة، كما تدعو من لم يكن مثلهم.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسمها مبني على الفتح في محلّ نصب، والجملة الفعلية بعدها صلتها. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التّقدير: يكتمون الّذي، أو شيئا أنزله الله. {مِنَ الْكِتابِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، و {مِنَ} بيان لما أبهم في:{ما،} والجملة الفعلية: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} معطوفة على جملة: {يَكْتُمُونَ..} . إلخ لا محلّ لها مثلها.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل لها. {ما:} نافية. {يَأْكُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله.

{فِي بُطُونِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والأول أقوى. والهاء: في محل جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة

ص: 399

الاسمية في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مبتدأة لا محل لها، وهي تؤكد معنى الآية رقم [159] مع تباعد ما بينهما. {إِلاَّ:} حرف حصر. {النّارَ} مفعول به، وجملة:{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

{يَوْمَ:} ظرف زمان متعلّق بما قبله، وهو مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {وَلا:} الواو:

حرف عطف. ({لا}): نافية، ويقال: زائدة لتأكيد النفي. {يُزَكِّيهِمْ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل ضمير مستتر تقديره: هو يعود إلى: {اللهُ،} والهاء مفعول به، وحذف المتعلق، وهو الظرف اكتفاء بالأول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. ({لَهُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية تحتمل العطف على الجملة الفعلية قبلها، وعلى الجملة الاسمية:{أُولئِكَ} لكن عطفها على الأولى أقوى من جهة المعنى، وعلى الثاني أقوى من جهة عطف الاسمية على الاسمية. تأمّل، وتدبّر، وربّك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

الشرح: {أُولئِكَ..} . إلخ؛ أي: الموصوفون بما ذكر. {اِشْتَرَوُا..} . إلخ: انظر الآية رقم [16] ففيها الكفاية. وقال القرطبيّ هنا: ولمّا كان العذاب تابعا للضلالة، وكانت المغفرة تابعة للهدى؛ الذي اطّرحوه؛ دخلا في تجوّز الشراء. هذا؛ ولا تنس: أنّ الآية المتقدّمة إنّما نزلت في حق المنافقين، وهذه الآية إنّما هي في حقّ اليهود؛ الذين الكلام فيهم.

{فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ:} معنى هذه الجملة التعجّب، تعجب من حالهم في الالتباس بموجبات النّار من غير مبالاة بغضب الله الواحد القهار، كأنه قال: اعجبوا من صبرهم على النار، ومكثهم فيها! ومثلها قوله تعالى في سورة (الكهف):{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} وقريب منه في سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. وقال الحسن وغيره: ما لهم والله عليها من صبر! ولكن ما أجرأهم على النار! وقال الكسائي، وقطرب: أي: ما أدومهم على عمل أهل النار! وقيل: (ما) استفهام، معناه التوبيخ، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره، ومعناه: أيّ شيء صبّرهم على عمل أهل النار؟! وقيل هذا على وجه الاستهانة بهم، والاستخفاف بأمرهم. {ذلِكَ} أي: العذاب في جهنّم {بِأَنَّ} بسبب أنّ {اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} فرفضوه، والمراد بالكتاب: التوراة، فيكون اليهود هم المذمومين، وكذلك النصارى؛

ص: 400

حيث اختلفوا فيما ذكر فيها من صفة عيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد: القرآن، و {الَّذِينَ اخْتَلَفُوا} كفار قريش، حيث قال بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: شعر، كهانة، أساطير الأولين

إلخ، وانظر {شِقاقٍ} في الآية رقم [137].

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وفيها معنى التوكيد لجملة:{أُولئِكَ} .

{اِشْتَرَوُا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {الضَّلالَةَ:} مفعول به. {بِالْهُدى:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان بمحذوف حال من الضّلالة، التقدير:

مستبدلة بالهدى. ({الْعَذابَ}): معطوف على الضلالة. {بِالْمَغْفِرَةِ:} معطوفان على: {بِالْهُدى} على الاعتبارين في تعليقهما.

{فَما:} الفاء: حرف عطف، أو هي حرف استئناف، (ما): نكرة تامة بمعنى شيء مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَصْبَرَهُمْ:} فعل ماض جامد دال على التعجب مبني على الفتح، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره هو يعود إلى (ما)، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو (ما)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها، والأول أقوى. وهذا الإعراب هو المشهور عن سيبويه رحمه الله تعالى.

وقال الأخفش رحمه الله تعالى: (ما): نكرة موصوفة، والجملة بعدها صفتها. وقال أيضا:

هي موصولة، والجملة بعدها صلتها، فله قولان، والخبر محذوف، التقدير على الأول: شيء أصبرهم على النار عظيم، وعلى الثاني: الّذي أصبرهم على النار شيء عظيم. وقال الفراء، وابن درستويه:(ما) استفهامية مشوبة بتعجب والجملة بعدها خبر عنها، والتقدير: أيّ شيء أصبرهم على النّار؟! وهناك قول خامس: أنّ (ما) نافية؛ أي: فما أصبرهم الله على النار، أي:

ما منحهم الصّبر

إلخ. وهذا ضعيف جدّا.

وهناك خلاف في (أفعل) فهو فعل عند البصريين، وهو المعتمد، وهو اسم عند الكوفيين، كما يترتب عليه خلاف في نصب الاسم بعده، هل هو مفعول به، أو هو مشبّه بالمفعول به.

{عَلَى النّارِ} متعلقان بما قبلهما.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. واللام للبعد. والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّ:} الباء: حرف جر. (أنّ)، حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها، والجملة الفعلية {نَزَّلَ الْكِتابَ} في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ؛ أي:

ص: 401

ذلك العذاب مستحق بسبب كونهم

إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {بِالْحَقِّ} متعلقان بمحذوف حال من:{الْكِتابَ} وهو أولى من تعليقهما بالفعل قبلهما.

{وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. ({إِنَّ}): حرف مشبه بالفعل و {الَّذِينَ:} اسمها، والجملة الفعلية صلته لا محل لها. {لَفِي:} اللام: هي المزحلقة، (في {شِقاقٍ}): متعلّقان بمحذوف خبر (إنّ).

{بَعِيدٍ:} صفة شقاق، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{الْكِتابَ،} والرابط:

الواو، وإعادة الكتاب بلفظه للتعظيم، والتنويه بشأنه، ورفعة قدره.

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَاِبْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}

الشرح: من هنا بداية النصف الثاني من السّورة الكريمة على وجه التّقريب، ونصف السّورة السّابق كان متعلقا بأصول الدّين، وبقبائح اليهود، ومساوئهم، وهذا النصف غالبه متعلق بأحكام الإسلام الفرعية تفصيلا: من صيام، وحج، وطلاق، وعدة، كما ستراه مفصلا؛ إن شاء الله تعالى، ووجه المناسبة: أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة: أنّ أهل الكتاب اختلفوا في دينهم اختلافا كبيرا صاروا بسببه في شقاق بعيد، ومن أسباب شقاقهم أمر القبلة؛ إذ أكثروا الخوض فيه، وأنكروا على المسلمين التحوّل إلى استقبال الكعبة، وادّعى كلّ من الفريقين: اليهود، والنصارى:

أن الهدى مقصود على قبلته، فردّ الله عليهم، وبيّن: أنّ العبادة الحسنة، وعمل البر ليس بتوجّه الإنسان جهة المشرق، والمغرب، ولكن بطاعة الله، وامتثال أوامره، وبالإيمان الصّادق الرّاسخ.

هذا؛ والآية الكريمة، كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها، دالة عليها صريحا، أو ضمنا، فإنّها بكثرتها، وتشعّبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحّة الاعتقاد، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس، ولذلك وصف المستجمع لها بالصّدق نظرا إلى إيمانه، واعتقاده، وبالتقوى اعتبارا بمعاشرته للخلق، ومعاملته مع الحقّ، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«من عمل بهذه الآية؛ فقد استكمل الإيمان» . وإليك التفصيل:

{لَيْسَ الْبِرَّ} البر: كلمة جامعة لخصال الخير الدنيوية، والأخروية من قول، أو عمل، أو اعتقاد، وهو بكسر الباء، وهو بضم الباء: القمح، ونحوه ممّا يقتات، ويؤكل، وهو بفتحها:

البار بوالديه، وبأرحامه، وهو أيضا اسم من أسماء الله الحسنى، وهو أيضا: الأرض الفلاة،

ص: 402

والأرض اليابسة ما عدا البحر. {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ:} توجّهوا، أي: في الصلاة. {قِبَلَ:} جهة.

{الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ:} انظر الآية رقم [115]. {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ} تقدّم شرح هذه الكلمات مفصّلا في محاله.

{وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} في مرجع الضّمير قولان: أحدهما: يرجع إلى المال نفسه؛ أي: إنّ المؤتي محتاج إليه، وهو مع ذلك يؤثر غيره به. والثاني: يرجع إلى الله تعالى؛ أي: يؤتي المال على حبّ الله تعالى. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الدّهر): {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} .

هذا و {الْمالَ} قال فيه ابن الأثير: وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم، وقال الجوهريّ: ذكر بعضهم: أن المال يؤنث، وأنشد لحسّان-رضي الله عنه:[البسيط]

المال تزري بأقوام ذوي حسب

وقد تسوّد غير السّيّد المال

وعن المفضل الضّبّيّ: المال عند العرب: الصّامت، والنّاطق، فالصّامت: الذهب، والفضة، والجواهر، والناطق: البعير، والبقرة، والشاة، فإذا قلت عن بدوي: كثر ماله؛ فهو الناطق، وإذا قلت عن حضري: كثر ماله؛ فهو الصّامت. هذا؛ والنّشب: يطلق على المال الثابت، كالضّياع، والدّور، وقد قال عمرو بن معديكرب الزّبيدي-رضي الله عنه-في ذلك-وهو الشاهد رقم [597] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، ورقم [485] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

{ذَوِي الْقُرْبى:} أصحاب القرابات من جهة الأب، أو الأم. والإنفاق عليهم مع حاجتهم للمال أفضل من الإنفاق على الغرباء؛ لأنه صدقة، وصلة، فعن سليمان بن عامر-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«الصّدقة على المسكين صدقة، وعلى ذوي الرّحم ثنتان: صدقة، وصلة» ، أخرجه النّسائي، والترمذي. وفضّل الرسول صلى الله عليه وسلم الصدقة على الأقارب على عتق الرّقاب. فقال لميمونة زوجه، وقد أعتقت وليدة:«أما إنّك لو أعطيتها أخوالك؛ كان أعظم لأجرك» . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّما رجل أتاه ابن عمّه، فسأله من فضله، فمنعه؛ منعه الله فضله يوم القيامة» . أخرجه الطّبرانيّ، وقال زهير بن أبي سلمى:[الطويل]

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستغن عنه ويذمم

{وَالْيَتامى:} انظر الآية رقم [83]. ({الْمَساكِينَ}) جمع مسكين، وهو ممن دخله لا يقوم بكفايته، والفقير أسوأ حالا منه. ({اِبْنَ السَّبِيلِ}): المسافر، والمنقطع في سفره، وأطلق عليه ابن السبيل لملازمته الطّريق. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [26] ومثلها في سورة (الروم) رقم [38]:{فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} . هذا؛ واختلف: هل يعطى اليتيم

ص: 403

من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصّلة، وإن كان غنيّا، أو لا يعطى؛ حتى يكون فقيرا؟ قولان للعلماء، وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة على ما بيّنته، أما الزكاة الواجبة؛ فلا يعطى منها إلا إذا كان فقيرا.

{وَالسّائِلِينَ:} جمع: سائل، وهو الذي يطلب منك المال، ويريد منك المساعدة، والعون، وقد حثّ الرّسول صلى الله عليه وسلم على إعطاء السّائل، وبذل المال له مهما كان قليلا، ومهما كانت هيئة السّائل، وحالته، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا تردّوا السّائل ولو بظلف محرق» . وقال: «أعطوا السّائل ولو جاء على ظهر فرس» . وإن كان ضعيفا. وفي رواية للإمام أحمد، وأبي داود:«للسّائل حقّ؛ وإن جاء على فرس» . وفي الوقت نفسه حذر الرّسول صلى الله عليه وسلم من السؤال، والمسألة، وشدّد النكير على الذين يتسوّلون. وخذ ما يلي:

فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتّى يلقى الله تعالى؛ وليس في وجهه مزعة لحم» . أخرجه البخاري، ومسلم.

وعنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسألة كلوح في وجه صاحبها يوم القيامة، فمن شاء استبقى على وجهه» . رواه الإمام أحمد.

فالرّسول صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يكون عزيز النفس، مرفوع الرأس، لذا نفّر من السؤال، والمسألة، ورغّب في العمل، فعن الزّبير بن العوّام-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكفّ بها وجهه خير له من أن يسأل النّاس أعطوه، أم منعوه» وغير ذلك. وخذ هذه الطرفة عن الأصمعي-رحمه الله تعالى -حيث قال: مررت في بعض سكك الكوفة؛ فإذا برجل قد خرج من حشّ وعلى كتفه جرّة، وهو يقول:[الطويل]

وأكرم نفسي إنّني إن أهنتها

وحقّك لم تكرم على أحد بعدي

فقلت له: أتكرمها بمثل هذا؟ قال: نعم، وأستغني عن مسألة مثلك: إذا سألته، ثم قال:

صنع الله بك، وترك! فقلت: تراه عرفني، فأسرعت، فصاح بي، وأنشد:[الوافر]

لنقل الصّخر من قلل الجبال

أحبّ إليّ من منن الرّجال

يقول النّاس كسب فيه عار

وكلّ العار في ذلّ السّؤال

{وَفِي الرِّقابِ} أي: فكّها من الرّقّ، والعبودية يوم كانت موجودة، وذلك بالمكاتبة، أو فكّ الأسارى. وإعطاء المال لهؤلاء، والحثّ عليه المراد به غير الزكاة المفروضة، وغير الكفّارات على جميع أنواعها، وإنّما هو على سبيل القرب بدليل عطف الزكاة عليه فيما يلي.

{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا:} هم الذين إذا وعدوا؛ أنجزوا، وإذا نذروا؛ وفّوا، وإذا حلفوا؛ بروا في أيمانهم. وإذا قالوا؛ صدقوا في أقوالهم، وإذا ائتمنوا؛ أدّوا الأمانة. خازن.

ص: 404

وانظر الآية رقم [51]. وهذه صفات المؤمنين الحقيقيين، ونقيضها صفات المنافقين الكذّابين، المخادعين {وَالصّابِرِينَ:} انظر: الآية رقم [45].

{الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ:} اسمان مشتقان من البؤس، والضر بضم الباء والضاد، ولا فعل لهما؛ لأنهما اسمان، وليسا بنعت، وعن الأزهريّ: البأساء في الأموال، كالفقر، والضرّاء في الأنفس، كالمرض، وبعبارة أوضح أقول: البؤس: الشرّ، والجهد، والشدّة، مؤنّثه: بؤسى بوزن رجعى، وتمدّ فتفتح الباء، كما في هذه الآية، وغيرها.

{وَحِينَ الْبَأْسِ} أي: حين شدّة القتال في سبيل الله، قال الإمام عليّ-رضي الله عنه: كنّا إذا اشتدّ البأس؛ اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

{أُولئِكَ} أي: الموصوفون بما ذكر، {الْمُتَّقُونَ:} أي: الذين امتثلوا أمر الله فيما أمر، وفيما نهى عنه. هذا؛ وجاء الخبر في الجملة الأولى فعلا ماضيا:{صَدَقُوا} لإفادة التحقيق، وأن ذلك وقع منهم، واستقرّ، وجاء الخبر في الجملة الثانية جملة اسمية:{هُمُ الْمُتَّقُونَ} ليدل على الثبوت، وأنه ليس متجدّدا، بل صار كالسّجيّة لهم، ومراعاة للفاصلة أيضا. ووصفهم الله بالصدق في الأقوال، والأعمال، والتّقوى في أمورهم والوفاء بها، وهذا غاية الثناء. والصّدق:

خلاف الكذب، ويقال: صدقوهم القتال بمعنى: ثبتوا في الميدان، والصّدّيق: الملازم للصّدق، وفي الحديث الصّحيح:«عليكم بالصّدق، فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، والبرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرّجل يصدق، ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا» . أخرجه البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-عن النّبي صلى الله عليه وسلم.

تنبيه: جاء ({الصّابِرِينَ}) منصوبا بالياء، والأصل أن يكون مرفوعا عطفا على ما قبله، وإنما نصب على الاختصاص، أو المدح؛ أي: وأخص بالذّكر، أو أمدح الصابرين، وهذا الأسلوب معروف عند البلغاء، فإذا ذكرت صفات للمدح، أو الذمّ، وخولف الإعراب في بعضهما؛ فذلك تفنّن، ويسمّى: قطعا؛ لأن تغيير المألوف يدل على مزيد اهتمام بشأنه، وتشويق لسماعه. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (النّساء) رقم [162]:{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} .

تنبيه: يطعن المستشرقون، والملحدون من أبناء المسلمين في الإسلام، وينعتونه بالقسوة، وبأنّه عمل على تكديس الرقّ، وتكريسه، انظر ما ذكرته في الآية رقم [33] من سورة (النور) تجد الجواب كافيا شافيا بحمد الله، وتوفيقه.

الإعراب: {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {الْبِرَّ:} خبر: {لَيْسَ} مقدم. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تُوَلُّوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل رفع اسم {لَيْسَ} مؤخّر. وهذه قراءة حفص، وقرأ الباقون برفع («البر») على أنّه اسم:

ص: 405

{لَيْسَ} والمصدر المؤول في محل نصب خبرها، التقدير: ليس البرّ توليتكم وجوهكم، وعلى الأول: ليس توليتكم وجوهكم البرّ، والقراءتان حسنتان، كقوله تعالى في سورة (الروم) رقم [10]:{ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى..} . إلخ. وقوله تعالى في سورة (الحشر) رقم [17]:

{فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النّارِ خالِدَيْنِ فِيها} وقوله تعالى في سورة (الجاثية) رقم [25]: {ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا} .

{وُجُوهَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {قِبَلَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {الْمَشْرِقِ} مضاف إليه، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنَّ}): حرف مشبه بالفعل. {الْبِرَّ:} اسمها. هذا؛ وقرئ بتخفيف نون ({لكِنَّ}) ورفع («البر») على أنه مبتدأ، و ({لكِنَّ}) حرف استدراك مهمل لا عمل له، والخبر محذوف على الوجهين؛ إذ التقدير: برّ من

إلخ، وعليه ف {مَنْ} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بإضافة ذلك المحذوف إليه. {آمَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ} وهو العائد، ويجوز اعتبار {مَنْ} اسما موصولا، أو نكرة موصوفة بمعنى شخص، وهو يشمل الذّكر، والأنثى. {بِاللهِ} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة:{مَنْ} أو صفتها.

({الْيَوْمِ}) و ({الْمَلائِكَةِ}) و ({الْكِتابِ}) و ({النَّبِيِّينَ}): هذه الأسماء كلّها معطوفة على لفظ الجلالة، و {الْآخِرِ} صفة:({الْيَوْمِ}).

{وَآتَى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) أيضا. {الْمالَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{آمَنَ..} . إلخ على الوجهين المعتبرين فيها. {عَلى حُبِّهِ:} متعلقان بمحذوف حال من المال، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والمفعول محذوف، أو من إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل محذوف، وذلك بحسب مرجع الضمير كما رأيت في الشرح. {ذَوِي:} مفعول به ثان ل ({آتَى}) لأنه بمعنى: أعطى فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {ذَوِي:} مضاف، و {الْقُرْبى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر. {وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ:} هذه الأسماء معطوفة على {ذَوِي} فهي منصوبة مثله، و ({اِبْنَ}): مضاف، و {السَّبِيلِ} مضاف إليه.

{وَالسّائِلِينَ:} معطوف أيضا فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ.

{وَفِي الرِّقابِ:} متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وآتى المال في فكّ الرقاب، وعليه فالجار والمجرور في محلّ نصب مفعوله الثاني، والمضاف محذوف، وهذه الجملة المقدرة على جملة الصّلة أيضا، وجوز عطف الجار والمجرور على:{ذَوِي} بدون تقدير فعل، ولكن الأول أقوى، والجملتان:{وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ} معطوفتان على جملة الصّلة، لا محل لهما مثلها.

ص: 406

{وَالْمُوفُونَ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: العطف على {مَنْ آمَنَ} والتقدير: ولكن البر المؤمنون، والموفون، والثاني: هو خبر مبتدأ محذوف، التقدير: وهم الموفون. الثالث: هو معطوف على الضمير في: {آمَنَ} فهو مرفوع على جميع الاعتبارات، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضّمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وفاعله مستتر فيه؛ لأنه جمع لاسم فاعل. {بِعَهْدِهِمْ:}

متعلقان ب ({الْمُوفُونَ})، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {إِذا:} ظرف زمان مجرد عن الشرطية متعلق ب ({الْمُوفُونَ}) أيضا، مبني على السكون في محل نصب.

{عاهَدُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها.

{وَالصّابِرِينَ:} منصوب على المدح بفعل محذوف، التقدير: أمدح، أو أخص، ونحوه، وقال مكي: أو على العطف على {ذَوِي الْقُرْبى} وقال: وإذا عطفت على {ذَوِي} لم يجز أن ترفع: {وَالْمُوفُونَ} إلا على العطف على المضمر في: {آمَنَ} ليكون داخلا في صلة: {مَنْ} .

هذا والجملة الفعلية: «أمدح الصابرين» معطوفة في المعنى على ما قبلها، ويجوز اعتبارها مستأنفة. وفاعل ({الصّابِرِينَ}) مستتر فيه. {فِي الْبَأْساءِ:} متعلقان ب ({الصّابِرِينَ}). {وَالضَّرّاءِ:}

معطوف على ما قبله. ({حِينَ}): ظرف زمان معطوف على الجار والمجرور قبله، فهو متعلق ضمنا ب ({الصّابِرِينَ}) وانظر ما ذكرته في سورة (النساء) في الآية رقم [162].

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة بعده صلته، والمتعلق محذوف، أي: صدقوا في الإيمان، وفعل البر. والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {أُولئِكَ:} مبتدأ مثل سابقه. {هُمُ:} ضمير فصل لا محل له. {الْمُتَّقُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ. هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ ثانيا، و {الْمُتَّقُونَ} خبره. والجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، ومؤكّدة لها، لا محل لها مثلها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرم وصف، وألطف عبارة؛ أي: يا من صدقتم الله، ورسوله، وتحلّيتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان! وقد خاطب

ص: 407

الله عباده المؤمنين بهذا النّداء في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن الكريم، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكرهم بأنّ الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله، ونواهيه بحسن الطّاعة، والامتثال، وإنّما خصّهم الله بهذا النّداء؛ لأنّهم هم المستجيبون لأوامره، المنتهون عمّا نهى الله عنه؛ إذ الغالب أن يتبع هذا النداء بأمر، أو بنهي. {كُتِبَ:} فرض، كما في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ} ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: [الخفيف]

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جرّ الذّيول

{الْقِصاصُ:} القود الذي هو قتل القاتل فقط لا يتجاوز إلى غيره، قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [33]:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} .

والإسراف: هو قتل غير القاتل: انظر شرحها هناك. هذا؛ والقصاص لا يقيمه إلا أولو الأمر، فلو ترك لوليّ القتيل؛ تقع الفوضى في المجتمع، ويختلّ النظام الاجتماعي. {الْقَتْلى} جمع:

قتيل، لفظه مؤنث تأنيث الجماعة، وهو ممّا يدخل على الناس المساءة، فلذلك جاء على هذا البناء، كجرحى، وزمنى، وحمقى، وصرعى، وغرقى. هذا؛ وخذ ما يلي:[مجزوء الخفيف]

إنّ قومي تجمّعوا

وبقتلي تحدّثوا

لا أبالي بجمعهم

كلّ جمع مؤنّث

{الْحُرُّ} هو الذي لا ملك لأحد فيه. و ({الْعَبْدُ}) بخلافه. هذا؛ وقد اختلف في تأويل الآية، فقالت طائفة: جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرّا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة، وفيها إجمال يبينه قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [45]:{وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..} . إلخ وبينه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسنّته لما قتل اليهوديّ بالمرأة.

وذهب أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-إلى أنّ الحرّ يقتل بالعبد لعموم آية المائدة المذكورة، وهو مروي عن عليّ، وابن مسعود، رضي الله عنه. قال البخاريّ-رحمه الله تعالى-: يقتل السيد بعبده لعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من قتل عبده؛ قتلناه، ومن جدع عبده؛ جدعناه، ومن خصاه؛ خصيناه» .

وخالفهم الجمهور، فقالوا: لا يقتل الحرّ بالعبد؛ لأنّ العبد سلعة، لو قتل خطأ؛ لم يجب فيه دية، وإنّما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه، ففي النفس بطريق الأولى. وذهب الجمهور إلى أنّ المسلم لا يقتل بالكافر؛ لما ثبت عن البخاري في عليّ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لا يقتل مسلم بكافر» ولا يصحّ حديث، ولا تأويل يخالف هذا. وأما أبو حنيفة؛ فذهب إلى أنّه يقتل به لعموم آية المائدة المذكورة، وقد عيب عليه ذلك، وقد أفتى أبو يوسف-رحمه الله-بذلك، وقد قال بعض الشعراء ذامّا له، بل ومتهجّما عليه، خذ قوله:[السريع]

ص: 408

يا قاتل المسلم بالكافر

جرت وما العادل كالجائر

يا من ببغداد وأطرافها

من فقهاء النّاس أو شاعر

جار على الدّين أبو يوسف

بقتله المسلم بالكافر

فاسترجعوا وابكوا على دينكم

واصطبروا إنّ الأجر للصّابر

أقول وبالله التوفيق: لو أقيمت الحدود الشّرعية في هذه الأيام؛ لوجب قتل المسلم بالكافر، والسّبب في ذلك تغيّر الأوضاع الاجتماعية، كما لا يخفى.

{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي: سمح بأن تنازل وليّ المقتول عن بعض حقّه، أو تنازل عن قتل القاتل إلى أخذ الدّية، وفي ذكر {أَخِيهِ} تعطّف، وتلطّف داع إلى العفو، وإعلام من الله تعالى لعباده المؤمنين بأن القتل لا يقطع أخوّة الإيمان بينهم.

{فَاتِّباعٌ} أي: فمطالبة من العافي، أو المتنازل عن بعض حقّه للقاتل. {بِالْمَعْرُوفِ:}

باللطف، والرّفق. {وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ} أي: وعلى القاتل الذي تنازل له وليّ المقتول عن بعض حقّه أن يؤدّي ما عليه بإحسان؛ أي: بلا بخس للحقّ، ولا مطل، ولا خداع.

{ذلِكَ:} إشارة إلى الحكم المذكور من جواز القصاص، والعفو عنه إلى الدّية، أو إسقاط بعضها. {تَخْفِيفٌ:} تسهيل، وتيسير. {مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي: من الله تعالى بكم حيث وسع في ذلك، ولم يحتّم واحدا منهما، كما حتم على اليهود القصاص، وعلى النصارى الدّية، لا يجوز لكلّ ملّة منهم أن تأخذ بغير ما فرض الله عليها، وفي هذا تضييق على كلّ من وليّ المقتول، والقاتل، وقد خير الله هذه الأمة بين القود، والدّية، وأيضا العفو تيسير عليها، وقال تعالى في آية المائدة بعد ذكر القصاص:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ} فندب إلى رحمة العفو، والصدقة.

{فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ} أي: بأن قتل وليّ المقتول القاتل، أو تعرّض له بسوء بعد أخذ الدية، أو بعد العفو عنه. قال الحسن البصريّ-رحمه الله تعالى-: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا؛ فرّ إلى قومه، فيجيء قومه، فيصالحون بالدّية، فيقول وليّ المقتول: إنّي أقبل بالدّية، حتّى يأمن القاتل، ويخرج، فيقتله، ويرمي إليهم بالدّية. واختلف فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال جماعة من العلماء، ومنهم: مالك، والشّافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة. وقال قتادة، وعكرمة، والسّدي، وغيرهم: عذابه أن يقتل البتّة، ولا يمكّن الحاكم الوليّ من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعفي من قتل بعد أخذه الدّية» . وهذا دعاء عليه، أي: لا كثر ماله، ولا استغنى، ولا أعفاه الله من عذاب الآخرة. وفي سنن الدّارقطني عن أبي شريح الخزاعي-رضي

ص: 409

الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أصيب بدم، أو خبل-والخبل: العرج-فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرّابعة، فخذوا على يديه بين أن يقتصّ، أو يعفو، أو يأخذ العقل، فإن قبل شيئا من ذلك ثمّ عدا بعد ذلك؛ فله النّار خالدا فيها مخلّدا» .

هذا؛ وإذا قتل الابن أباه؛ يقتل حتما، وإذا قتل الأب ابنه؛ فيه خلاف، ومذهب مالك: أنّه يقتل إذا قتل ابنه متعمدا، مثل أن يضجعه، ويذبحه، أو يصبره، ويضربه، مما لا عذر له فيه، ولا شبهة في ادّعاء الخطأ: أنّه يقتل به قولا واحدا، فأمّا إن رماه بالسّلاح أدبا، أو حنقا، فقتله، ففيه في المذهب قولان. وقال الشّافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي: لا قود فيه، وعليه ديته، فقد روى الدّارقطني، وأبو عيسى التّرمذيّ عن سراقة بن مالك-رضي الله عنه قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقيد للأب من ابنه، ولا يقيد للابن من أبيه. قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح.

وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بهذه الآية على قوله: لا تقتل الجماعة بالواحد، قال: لأنّ الله سبحانه شرط المساواة، ولا مساواة بين الجماعة والواحد، وقد قال تعالى:{وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها..} . إلخ، والجواب: أنّ المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان ردّا على العرب؛ التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة افتخارا، واستظهارا بالجاه، والمقدرة، فأمر الله سبحانه بالعدل، والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر-رضي الله عنه-سبعة برجل بصنعاء، وقال:(لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا). وقتل عليّ-رضي الله عنه-طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء بعبد الله بن خبّاب. وفي الترمذيّ عن أبي سعيد، وأبي هريرة-رضي الله عنهما-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«لو أنّ أهل السّماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبّهم الله في النّار» . وأيضا فلو علم الجماعة: أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا؛ لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم، وبلغوا الأمل من التشفّي. ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ. هذا؛ ولا تنس أنّ هنا فعلا محذوفا، التقدير: فمن اعتدى بعد ذلك، فقتل. ومثله آية الصّيام الآتية.

تنبيه: قيل: نزلت الآية الكريمة في الأوس، والخزرج، وكان لأحد الحيّين زيادة على الآخر في الكثرة، والشرف، وكانت حصلت بينهم حروب، ووقعت دماء كثيرة، فأقسم الفريق المتعالي بكثرته. لنقتلنّ بالعبد منّا الحر منهم، وبالمرأة منا الرّجل منا الرّجلين منهم، فلمّا أسلموا جميعا، وأرادوا المصالحة فيما بينهم؛ رفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية الكريمة، وأمرهم بالمساواة، فرضوا، وسلّموا. وانظر آية (المائدة).

الإعراب: {يا أَيُّهَا:} ({يا}): أداة نداء تنوب مناب «أدعو» ، أو: أنادي. ({أَيُّهَا}): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب ({يا})، و (ها): حرف تنبيه لا محل له من الإعراب، أقحم

ص: 410

للتوكيد، وهو عوض عن المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنّه يجب حينئذ نصب المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من لفظ ({أَيُّهَا}).

وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلّق المحذوف: صلة الموصول، لا محل لها، {كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {عَلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {الْقِصاصُ:} نائب فاعل، {فِي الْقَتْلى:} متعلقان بمحذوف حال من: {الْقِصاصُ} . وقيل: الفاء للسببية، فتكون متعلقة بالفعل {كُتِبَ} . والجملة الفعلية ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، لا محل لها مثلها. {الْحُرُّ:} مبتدأ.

{بِالْحُرِّ} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ؛ أي: مقتول ومأخوذ بالحرّ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، واعتبارها مفسرة للقصاص معنى مقبول، والجملتان الاسميتان بعدها معطوفتان عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محلّ رفع مبتدأ. {عُفِيَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، وهو مبني للمجهول. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ أَخِيهِ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {شَيْءٌ} كان صفة له، فلمّا قدّم عليه؛ صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّ من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {شَيْءٌ} نائب فاعل:{عُفِيَ} . {فَاتِّباعٌ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط، (اتباع): مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: فعليه اتباع، وقيل:

خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالأمر اتباع، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت فيما سبق. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فهو مبتدأ، وجملة:{عُفِيَ..} . إلخ صلتها، والجملة الاسمية:{فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ:} خبره، وزيدت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشّرط في العموم، والجملة الاسمية مستأنفة على الاعتبارين لا محل لها. {بِالْمَعْرُوفِ:} متعلقان ب (اتباع) لأنه مصدر، أو هما متعلقان بمحذوف صفة له.

({أَداءٌ}): مبتدأ، خبره محذوف، أي: وعلى القاتل أداء، أو بمحذوف صفة له. {بِإِحْسانٍ:}

متعلقان بما تعلق به: {إِلَيْهِ،} وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من الضمير المجرور ب (إلى) وهو ضعيف.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {تَخْفِيفٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وأجيز اعتبارها في محل نصب حال مؤكدة لمضمون الجملة السابقة، والرابط اسم الإشارة. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب ({تَخْفِيفٌ}) لأنه صفة مشبهة، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَرَحْمَةٌ:} معطوف على: {تَخْفِيفٌ} . {فَمَنِ اعْتَدى} إعرابه

ص: 411

مثل إعراب سابقه. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فَلَهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (له): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وتتمة الكلام مثل ما قبله بلا فارق.

{وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}

الشرح: {الْقِصاصُ} انظر الآية السابقة. {حَياةٌ:} بقاء عظيم، وهذا كلام في غاية الفصاحة، والبلاغة من حيث جعل الشيء محلّ ضدّه، وعرّف {الْقِصاصُ} ونكّر الحياة؛ ليدلّ على أن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل، فيكون سبب حياة نفسين، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، ويقتلون الجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، فإذا اقتصّ من القاتل؛ سلم الباقون، ويصير ذلك سببا لحياتهم. انتهى بيضاوي. وهذا الحكم غير مختص بالقصاص الذي هو القتل، بل يدخل فيه جميع الجروح، والشّجاج، وغير ذلك؛ لأن الجارح إذا علم أنّه إذا جرح؛ جرح؛ لم يجرح، فيصير ذلك سببا لبقاء الجارح، والمجروح، وربما أفضت الجراحة إلى الموت، فيقتص من الجارح، وانظر ما ذكرته في سورة (المائدة) رقم [38] تجد ما يسرك.

وقيل في معنى الآية: إنّ الحياة: سلامته من قصاص الآخرة، فإنّه إذا اقتصّ منه في الدنيا؛ لم يقتص منه في الآخرة، وفي ذلك حياته، وإذا لم يقتصّ منه في الدنيا؛ اقتص منه في الآخرة.

انتهى خازن. وهذا لا يناسب معنى الآية، ولكن صريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من عوقب في الدّنيا؛ فهو كفّارة له» هو الذي يفيد ما ذكرته، وانظر سورة (المائدة) آية [33].

هذا؛ وقد اتّفق علماء البيان على أنّ هذه الجملة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} بالغة أعلى درجات البلاغة. ونقل عن العرب في هذا المعنى قولهم: «القتل أنفى للقتل» ولكن شتّان ما بين الآية الكريمة من البلاغة، وبين قول العرب، فقد جعلت الآية الكريمة سبب الحياة القصاص، وهو القتل عقوبة على وجه التماثل، وقول العرب جعل سبب الحياة القتل، ومن القتل ما يكون ظلما، فيكون سببا للفناء، وتصحيح العبارة أن يقال: القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما. والآية الكريمة جاءت خالية من التكرار اللفظي، وقول العرب كرر فيه لفظ (القتل) فمسّه بهذا التكرار من الثقل ما سلمت منه الآية. وقد ذكر وجوه كثيرة من التفريق بين الآية الكريمة، واللفظة العربية، وقد ذكرها السّيوطي في الإتقان. وانظر ما ذكرته في قوله تعالى في سورة (الأنبياء) آية [23]:{لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} .

ص: 412

({أُولِي}): أصحاب، ولا واحد له من لفظه، وإنّما واحده «ذي» المضاف، إن كان مجرورا، و «ذا» المضاف إن كان منصوبا، و «ذو» المضاف إن كان مرفوعا. {الْأَلْبابِ:} العقول، جمع:

لب، وهو العقل الخالي من الهوى، سمّي بذلك لأحد وجهين: إما لبنائه من: لبّ بالمكان:

أقام به، وإما من اللّباب، وهو الخالص من كل شائبة. هذا؛ واللبيب: العاقل الفاهم، والجمع: ألباء، والأنثى لبيبة، وجمعها: لبيبات ولبائب، واللّب: خالص كلّ شيء. انظر الآية رقم [196] الآتية، ففيها بحث جيد. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} انظر الآية رقم [21]، والمراد هنا:

لعلكم تتقون القتل، أي: تبتعدون عنه مخافة القصاص. وانظر الآية رقم [181] الآتية.

الإعراب: {وَلَكُمْ:} الواو: حرف استئناف. ({لَكُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الْقِصاصِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بخبر ثان، كما جوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، واعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من:{حَياةٌ} ضعيف؛ لأن كثيرا من النحاة، لا يجيزون مجيء الحال من المبتدأ.

{حَياةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {يا أُولِي:} (يا): حرف نداء ينوب مناب: أدعو. ({أُولِي}): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السّالم، وحذفت النون للإضافة، وهو مضاف، و {الْأَلْبابِ} مضاف إليه، والجملة النّدائية، ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها.

{تَتَّقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعلّ) والجملة الاسمية فيها معنى التعليل لما قبلها.

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}

الشرح: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ:} فرض عليكم. {إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: إذا حضرت أمارته، كالمرض المخوف؛ الذي لا يرجى برؤه، وحضور الموت: وجود أسبابه، ومتى حضر السبب كنّت به العرب عن المسبّب، قال عنترة:[الوافر]

وإنّ الموت طوع يدي إذا ما

وصلت بنانها بالهندواني

{إِنْ تَرَكَ خَيْراً} أي: مالا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [105] فإنه جيد، وشرح (أحد) في الآية رقم [96]. هذا وعبر عن المال بالخير؛ لأن الإنسان يكسب به العزة، والشرف، والأجر، والثواب، وقد يكون العكس؛ إذا كسبه من حرام، وأنفقه في حرام. {الْوَصِيَّةُ:} هي تبرع بشيء

ص: 413

مضاف لما بعد الموت. {لِلْوالِدَيْنِ:} فيه تغليب الوالد على الوالدة، ومثله: الأبوان.

{وَالْأَقْرَبِينَ:} جمع: الأقرب، بمعنى القريب، وليس صيغة تفضيل. {بِالْمَعْرُوفِ:} بالعدل بأن لا يزيد على الثلث، ولا يفضل الغني لغناه، وهو بخلافه في الآية رقم [177] {حَقًّا:} واجبا ثابتا، من: حقّ، يحقّ، بمعنى: وجب، يجب.

تنبيه: حكم هذه الآية كان في بدء الإسلام، فنسخ بآية المواريث الموجودة في سورة النساء، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله أعطى كلّ ذي حقّ، حقّه، ألا لا وصيّة لوارث؛ إلاّ أن يجيزها باقي الورثة» . رواه أصحاب السنن عن عمرو بن خارجة، رضي الله عنه. وقيل: هي غير منسوخة؛ لأنها نزلت في حقّ من ليس بوارث بسبب الكفر؛ لأنّ الرّجل كان يسلم، ووالداه يبقيان على كفرهما، فلذا استحقا الوصية؛ لأن الإسلام قطع الإرث بين المسلم، والكافر، فشرعت الوصية قضاء لحقّ القرابة ندبا، وعلى هذا لا يراد ب {كُتِبَ} فرض، وبقيت ندبا بحدود الثلث؛ حتى لا تجحف بورثته، كما ثبت في الصحيحين: أن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه، قال: يا رسول الله! إنّ لي مالا، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال:

«لا» قال: فبالشطر؟ قال: «لا» قال: فبالثلث؟ قال: «الثلث، والثلث كثير. إنّك إن تذر ورثتك أغنياء؛ خير من أن تدعهم عالة، يتكفّفون النّاس» .

هذا؛ والوصية لوارث موقوفة على إجازة الورثة، فقد روى الدّارقطني عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز الوصيّة لوارث؛ إلاّ أن يشاء الورثة» . وروى أيضا عن عمرو بن خارجة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا وصيّة لوارث إلاّ أن تجيز الورثة» .

هذا؛ والوصية سنّة مؤكّدة، فقد أخرج الدّارقطني عن أبي أمامة، ومعاذ بن جبل-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ الله تصدّق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم، زيادة لكم في حسناتكم؛ ليجعلها لكم زكاة» . وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«ما حقّ امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين» وفي رواية: «ثلاث ليال، إلاّ ووصيّته مكتوبة عنده» . قال نافع مولى ابن عمر: سمعت عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-يقول: ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك؛ إلا وعندي وصيتي مكتوبة. رواه مالك، والستّة.

وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على وصيّة مات على سبيل، وسنّة، ومات على تقى، وشهادة، ومات مغفورا له» . أخرجه ابن ماجة.

هذا؛ والرسول صلى الله عليه وسلم فضّل الصّدقة، وأعمال الخير في حال الصّحّة، على حال المرض، ودنو الموت، وخذ ما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أيّ الصدقة أعظم أجرا؟ قال: «أن تصدّق، وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتّى إذا بلغت الحلقوم؛ قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا؛ وقد كان لفلان كذا» .

ص: 414

رواه الستّة إلا الترمذيّ. وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يتصدّق المرء في حياته، وصحّته بدرهم خير له من أن يتصدّق عند موته بمائة» . رواه أبو داود، وغيره. وعن أبي الدّرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل الّذي يتصدّق عند موته، كمثل الّذي يهدي بعد ما يشبع» . رواه النّسائيّ، وابن حبّان، وغيرهما.

هذا؛ وقد حذّر الرّسول صلى الله عليه وسلم من الحيف في الوصية، وشدّد النكير على الذين يجورون فيها.

وخذ ما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الرّجل ليعمل-أو المرأة-بطاعة الله ستّين سنة، ثمّ يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصيّة، فتجب لهما النّار» ثمّ قرأ أبو هريرة-رضي الله عنه-قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} حتى بلغ: «ذلك الفوز العظيم» . رواه أبو داود، والترمذيّ.

وإن الذين يحرمون البنات من أملاكهم في حياتهم، ويسجّلون للذكور خاصّة؛ حرمهم الله من رحمته، وأبعدهم من رضوانه، وجنّته! وحديث بشير بن النّعمان-رضي الله عنه-مشهور، ومسطور، فقد جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! إن ابنة رواحة أعجبها أن أشهدك على ما وهبت لابنها. فقال سيّد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق:«أكلّ ولدك نحلت مثله؟» قال: لا، قال:«لا أشهد على جور! اتّقوا الله، واعدلوا في أولادكم» . فالله يقول: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ،} وهم يقولون: المال، والملك كلّه للذكور خاصّة، ولا حظّ فيه للإناث.

الإعراب: {كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول، وفي نائب الفاعل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون: {الْوَصِيَّةُ} وذكّر الفعل للفصل، ولكون {الْوَصِيَّةُ} مؤنثا مجازيّا، والثاني: أنه الإيصاء المدلول عليه بالوصية، أي: كتب هو، أي: الإيصاء. والثالث: أنه الجار والمجرور:

{عَلَيْكُمْ} وهذا يتجه على رأي الأخفش، والكوفيين، وعلى الوجهين الأولين فالجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما في محل نصب مفعول به. انتهى جمل نقلا عن السّمين.

{إِذا:} ظرف زمان مجرد عن الشرطية متعلّق بالفعل قبله مبني على السّكون في محل نصب.

{حَضَرَ:} فعل ماض. {أَحَدَكُمُ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْمَوْتُ:}

فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَرَكَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {أَحَدَكُمُ}. {خَيْراً:} مفعول به، واكتفى به؛ لأنّ الفعل بمعنى:

خلّى، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {إِنْ} محذوف دلّ عليه لفظ الوصية، التقدير: إن ترك خيرا؛ فليوص. {الْوَصِيَّةُ:}

نائب فاعل: {كُتِبَ؛} وعليه فالجملة الشرطية معترضة بين الفعل ونائب فاعله. {لِلْوالِدَيْنِ:}

ص: 415

جار ومجرور متعلقان ب {الْوَصِيَّةُ} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنّى، وهذا ما جرى عليه ابن هشام في المغني، وقد ردّ على الأخفش، الذي اعتبر {الْوَصِيَّةُ} مبتدأ، وخبره {لِلْوالِدَيْنِ} والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وحذفت الفاء التي تقع في جواب الشرط؛ إذا كانت الجملة اسمية، كما في قول عبد الرحمن بن حسان بن ثابت-رضي الله عنهما، وهو الشاهد رقم [146] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان

إذ التقدير: فالله يشكرها، فقال: مردود؛ لأن الفاء لا تحذف إلا في ضرورة الشّعر، والقرآن لا ضرورة فيه، بل هو منزّه عن الضرورة، واعتبر {الْوَصِيَّةُ} نائب فاعل {كُتِبَ}. هذا؛ وردّ مكيّ ما تقدم بقوله:{الْوَصِيَّةُ} رفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي: فعليكم الوصية. ويبعد رفعها ب {كُتِبَ} لأنها تصير عاملة في {إِذا} فإذا كانت {إِذا} في صلة الوصية؛ فقد قدمت الصّلة على الموصول، ونائب فاعل {كُتِبَ} مضمر دلّت عليه ({الْوَصِيَّةُ}) تقديره: كتب عليكم الإيصاء إذا حضر، فالإيصاء عامل في {إِذا} . انتهى بتصرف. وهو كلام فيه تكلّف، ثم ذكر كلاما للنّحاس بعيدا كل البعد.

{وَالْأَقْرَبِينَ:} معطوف على ما قبله مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون فيه، وفي سابقه عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {بِالْمَعْرُوفِ:}

متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، أو من {الْوَصِيَّةُ} إن كانت نائب فاعل، أي: ملتبسة بالمعروف. {حَقًّا:} مفعول مطلق لفعل محذوف، أي: حقّ ذلك حقّا. قال أبو البقاء: ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي: كتبا حقّا، أو إيصاء حقّا. قال الجلال:

{حَقًّا} مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله. أقول: وعلى تقدير فعل قبله، فجملته في محل نصب حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها. {عَلَى الْمُتَّقِينَ} متعلقان ب {حَقًّا} أو بمحذوف صفة له.

{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}

الشرح: {فَمَنْ بَدَّلَهُ:} فمن غيّر الإيصاء عن وجهه، إن كان موافقا للشرع من الأوصياء، والشهود. {فَإِنَّما إِثْمُهُ} أي: التبديل المفهوم من: {بَدَّلَهُ} . {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أي: يبدلون الإيصاء، ولا يعود الضمير على التبديل. {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ:} أي: لأقوال الناس من موص، وموصى له، ووصي، وشاهد. {عَلِيمٌ:} بأفعال الناس جميعا، فيجازي كلّ واحد بما قال، أو فعل، ولا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:

وقع أجر الميت الموصي على الله، وتعلّق الإثم بالّذين بدّلوا. وهذه الآية في الوصية المحكمة المعمول بها إلى الآن، وإلى يوم القيامة.

ص: 416

قال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: لكن هنا وقفة من حيث إنّ الكلام السابق إنما هو في الوصية المنسوخة، التي هي للوالدين، والأقربين، والكلام في هذه الآية، والتي بعدها، إنّما هو في الوصية، التي استقر عليها الشرع، ويعمل بها إلى الآن، وإذا كان كذلك، فكيف يعود الضمير من المحكمة على المنسوخة؟! فليتأمل، فإني لم أر من نبّه على هذا. أقول: الذي جوز ذلك الاسم الجامع بينهما بغضّ النظر عن المنسوخة، والمحكمة.

الإعراب: {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بَدَّلَهُ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) والهاء مفعول به. ({بَعْدَ}): ظرف زمان متعلق بما قبله وهو مضاف. ({ما}): اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، {سَمِعَهُ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({ما}) وهو العائد، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية صلة ({ما}) لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير:

بعد الذي سمعه. هذا؛ وعلى اعتبار ({ما}) مصدرية، تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بإضافة ({بَعْدَ}) إليه، التقدير: بعد سمعه، والمتعلق محذوف، التقدير: بعد سمعه له. {فَإِنَّما:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة ومكفوفة. {إِثْمُهُ:} مبتدأ، والهاء: في محل جر بالإضافة. {عَلَى الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {يُبَدِّلُونَهُ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:(إنما {إِثْمُهُ..}.) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية:{فَإِنَّما..} . إلخ في محل رفع خبرها، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، فهو جيد، والمعنى لا يأباه، وعلى الاعتبارين فالجملة الاسمية: مستأنفة لا محل لها. {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ:} إعرابها لا خفاء فيه، والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام، الغاية منها: التهديد، والوعيد لمن يغيّر في الوصيّة شيئا.

{فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}

الشرح: {فَمَنْ خافَ:} توقّع، وقيل: معناه: علم، وهو مجاز، والعلاقة بينهما هو أنّ الإنسان، لا يخاف شيئا؛ حتى يعلم أنّه ممّا يخاف منه، فهو من باب التعبير عن السبب بالمسبّب. ومن مجيء الخوف بمعنى العلم، قوله تعالى في الآية رقم [229] الآتية:{إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ} انتهى جمل. هذا؛ وأمّا التّخوّف، فهو التنقّص، كما في قوله تعالى في الآية رقم [47] من سورة (النحل):{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} . يروى: أن عمر

ص: 417

الفاروق-رضي الله عنه-قال على المنبر: ما تقولون في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التّخوّف: التنقّص، قال:

فهل تعرف العرب هذا في أشعارهم؟ قال: نعم، قال: شاعرنا أبو كبير الهذلي: [البسيط]

تخوّف الرّحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النّبعة السّفن

فقال عمر-رضي الله عنه: أيها الناس عليكم بديوانكم، لا تضلّوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهليّة، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم. هذا؛ وأصل الخوف: انزعاج في الباطن، يحصل من توقّع مكروه يقع في المستقبل، وأصل خاف:(خوف) فقل في إعلاله:

تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. {جَنَفاً} ميلا، من: جنف، يجنف، جنفا، قال الأعشى:[الطويل]

تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي

وما قصدت من أهلها لسوائكا

ومنه الآية الكريمة. والجنف: الجور، قال الشاعر:[الوافر]

هم المولى وإن جنفوا علينا

وإنّا من لقائهم لزور

وقال لبيد-رضي الله عنه: [الكامل]

إنّي امرؤ منعت أرومة عامر

ضيمي وقد جنفت عليّ خصوم

{أَوْ إِثْماً:} ظلما، وخروجا عن الحقّ، {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في هذا الإصلاح؛ إذ الجنف في الوصيّة، والإثم: العمد، وعليه فمعنى الآية: إذا حضر رجل مريضا؛ وهو يوصي، فرآه يميل في وصيته، إما بتقصير، أو بإسراف، أو وضع الوصية في غير موضعها؛ فلا حرج عليه أن يأمره بالعدل في وصيته، وينهاه عن الجنف، والميل. وقيل: إن المراد به: إذا أخطأ الميت في وصيته، أو جنف متعمّدا؛ فلا حرج على وليه، أو وصيه، أو ولي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته، وبين الموصى لهم، ويردّ الحق إلى نصابه، ويقيم العدل بينهم؛ وإن حصل في الوصية تبديل، وتغيير؛ لأن فيه خيرا، بخلاف التبديل السّابق. وانظر الأحاديث التي ذكرتها في الآية السّابقة، التي تشدّد النكير على من يجوز في وصيته. {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ:} واسع المغفرة، والرّحمة لمن قصد بعمله الإصلاح. فهما صيغتا مبالغة.

الإعراب: {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): انظر الاعتبارين فيها في الآية السابقة.

{خافَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {مِنْ مُوصٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{جَنَفاً} كان صفة، فلما قدّم عليه صار حالا، على القاعدة المشهورة: «نعت النكرة

إلخ». وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء المحذوفة، لالتقاء الساكنين.

ص: 418

{جَنَفاً:} مفعول به. {أَوْ:} حرف عطف. {إِثْماً:} معطوف على ما قبله. {فَأَصْلَحَ:}

الفاء: حرف عطف. (أصلح): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{خافَ..} . إلخ، {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب (من) على اعتبارها شرطية، أو موصولة. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {إِثْمَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشّرط، أو في محل رفع خبر (من) على اعتبارها موصولة. {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ:} هذه الجملة مفيدة للتعليل، أو هي معترضة في آخر الكلام، الغرض منها الترغيب في الإصلاح بين الناس، وعلى الاعتبارين لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرم وصف، وألطف عبارة، أي: يا من صدقتم الله، ورسوله، وتحلّيتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان، وقد خاطب الله عباده المؤمنين بقوله:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن الكريم، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكّرهم بأنّ الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله، ونواهيه بحسن الطّاعة، والامتثال، وإنّما خصّهم الله بالنّداء؛ لأنهم هم المستجيبون لأمره، والمنتهون عمّا نهى الله عنه؛ إذ الغالب أن يتبع هذا النداء بأمر، أو بنهي.

{كُتِبَ:} فرض. {الصِّيامُ} هو في اللغة: الإمساك، وقد يكون إمساكا عن الكلام على حدّ قوله تعالى لمريم عليها السلام:{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} أي:

سكوتا عن الكلام، وقد يكون إمساكا عن غيره، ومنه قول النّابغة الذبياني:[البسيط]

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وأخرى تعلك اللّجما

أي: خيل ثابتة ممسكة عن الجري، والحركة، فهي تعلك لجمها، لمنعها عن الجري، والركض، ثمّ نقل الصيام في الشرع إلى إمساك مخصوص عن الطعام، والشراب، والجماع، ونحو ذلك بنيّة مخصوصة، من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، وتمامه، وكماله باجتناب المحرّمات، وعدم الوقوع في المحظورات، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«من لم يدع قول الزّور، والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» . أخرجه البخاريّ، وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال أيضا:«ربّ صائم حظّه من صيامه الجوع، والعطش، وربّ قائم حظّه من قيامه الكدّ، والسّهر» ، أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة، رضي الله عنه. ورحم الله من يقول:[الطويل]

ص: 419

وما صام من صامت عن الزّاد بطنه

وأذعن للآثام والشّهوات

وليس له من صومه غير جوعه

وقد باء بالخسران والحسرات

وقال آخر: [الطويل]

إذا لم يكن في السّمع منّي تصاون

وفي بصري غضّ في منطقي صمت

فحظّي من صومي هو الجوع والظّما

وإن قلت إنّي صمت يوما فما صمت

وينبغي أن تعلم: أنّ الله فرض على نبيه صلى الله عليه وسلم في ابتداء الدّعوة إلى الإسلام صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، وكانت قريش تصوم يوم عاشوراء، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه، ولمّا هاجر إلى المدينة رأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال:«ما هذا؟» قالوا: هذا يوم صالح نجّى الله فيه بني إسرائيل من فرعون، فصامه موسى عليه السلام فنحن نصومه، فقال:«أنا أحق منكم بموسى عليه الصلاة والسلام» ، فصامه، وأمر بصيامه، فلما فرض الله صيام شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة؛ نسخ فرض ما تقدّم، وبقيت سنّيته، كما هو مقرر ومعلوم في الشريعة الإسلامية إلى يوم القيامة.

وقد روي: أنّ هذا الصيام لم يزل مشروعا من زمن نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان.

هذا؛ وفعل المادة واوي: صام، يصوم، ومصدره: صوما، وصواما، وقد قلبت الواو ياء في الثاني لمناسبة الكسرة، ومثله: قيام، مصدر قام يقوم، فقد ذكر السيوطي رحمه الله تعالى في (همع الهوامع) في باب الإبدال ما يلي: تبدل الياء بعد كسرة من واو، هي عين مصدر لفعل معتل العين، موزون بفعال، نحو: قام قياما، وعاد عيادا، بخلاف عين غير المصدر، كصوان وسواك، والمصدر المفتوح أوله كرواح، أو المضمون كقوار، والمكسور الذي لم تعلّ عين فعله، ك «لاوذ، لواذا» و «عاود عوادا» ، أو الموزون بفعل كالحول، وتبدل أيضا بعد كسرة من واو هي عين جمع لواحد ساكن العين، أو معتلها، صحيح اللام، موزون بفعال كثوب وثياب، وحوض وحياض، ودار وديار، وريح ورياح، بخلاف عين المفرد. انتهى.

{كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ:} يعني من الأمم، وأنبيائهم، من لدن آدم إلى عهدكم، والمعنى: أنّ الصوم عبادة قديمة لم يخل الله أمّة إلا وقد فرضه عليها، كما فرضه عليكم، وذلك لأنّ الصوم عبادة شاقة، والشيء الشّاقّ إذا عمّ سهل عمله، وقيل: إنّ أول من صام شهر رمضان نوح، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

هذا؛ وقيل: إنّ صيام شهر رمضان كان واجبا على النّصارى، كما فرض علينا، فصاموا رمضان زمانا، فربما وقع في الحرّ الشديد، والبرد الشديد، وكان ذلك يشقّ عليهم في أسفارهم، ويضرّهم في معايشهم، فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوه في فصل من السنة،

ص: 420

معتدل بين الصيف والشتاء، فجعلوه في فصل الرّبيع، ثم زادوا عشرة أيام كفارة لما صنعوا، فصاموا أربعين يوما، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فمه، فجعل لله عليه، إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعا، فزادوا فيه أسبوعا، ثم مات ذلك الملك بعد زمان، ووليهم ملك آخر، فقال: ما شأن هذه الثلاثة أيام؟! أتمّوه خمسين، فأتموه خمسين.

واختار هذا القول النّحاس، وقال: وهو أشبه بما في الآية، وفيه حديث يدلّ على صحته، أسنده عن دغفل بن حنظلة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كان على النصارى صوم شهر، فمرض رجل منهم، فقالوا: لئن شفاه الله؛ لنزيدنّ عشرة أيام، ثم كان ملك آخر، فأكل لحما، فأوجع فاه، فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدنّ سبعة أيام، ثم كان ملك آخر، فقال: لنتمّنّ هذه السبعة، ونجعل صومنا في الربيع، قال: فصار خمسين» . انتهى خازن، وقرطبي، وفي الكشاف باختصار.

وأقول: ثمّ فكر علماؤهم بأنّ الامتناع من الطّعام، والشّراب طيلة النّهار، ثم الانفلات من ذلك عند المساء، والانكباب على الطّعام، والشراب هذا لا يكسر شره النفس، ولا يحقّق الحكمة من الصّوم، وهي تهذيب الأخلاق، وتأديب الجوارح، فرأوا أن يكون الامتناع عن الدسم-أي: عما يخرج من الحيوان-أردع للنفس وأزجر لها عن المعاصي، فقرّروا أن يكون الصّوم عن ما يخرج من الحيوان من اللّحم، وغيره، وهذا كلّه يخضع لقاعدة عندهم، وهي أن ما يعقد في الأرض يعقد في السّماء، وما يحلّ في الأرض يحلّ في السماء، فكأنّ وظيفة الرّبّ في نظرهم هي الموافقة على ما يحلّلون، وما يحرّمون فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} انظر الآية رقم [186] الآتية.

الإعراب: ({يا}): أداة نداء، تنوب مناب أدعو، أو أنادي. ({أَيُّهَا}): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب ({يا}). و (ها): حرف تنبيه، لا محل له من الإعراب، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنه يجب حينئذ نصب المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من لفظ: ({أَيُّهَا}) وجملة:

{آمَنُوا..} . إلخ مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول، {عَلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الصِّيامُ:} نائب فاعل ({كُتِبَ}) والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها مبتدأة كالجملة الندائية قبلها. {كَما:} الكاف:

حرف تشبيه وجر، (ما): مصدرية. {كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {الصِّيامُ}. {عَلَى الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، و (ما) المصدرية، والفعل:{كُتِبَ} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: كتب عليكم الصيام كتابة كائنة مثل كتابته على الذين. أو

ص: 421

هما متعلقان بمحذوف حال من: {الصِّيامُ} . وقيل: متعلقان بمحذوف صفة الصيام على اعتبار (ال) فيه للجنس، وليست للتعريف، وزاد أبو البقاء وجها رابعا بقوله: صفة: (صوما) ولا وجه له. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه، وجملة:{تَتَّقُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محلّ لها.

{أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}

الشرح: {أَيّاماً مَعْدُوداتٍ:} جاء وصف ({أَيّاماً}) في الآية رقم [80]: {مَعْدُوداتٍ} وهذا يدل على أنه يجوز في العربية استعمال اللّفظين في وصف ({أَيّاماً}) كما ترى، وهو وصف قلّة كما ترى:{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً:} المرض المبيح للفطر هو المرض الذي تحصل معه مشقّة إذا صام الرّجل، أو المرأة، بخلاف المرض البسيط، كمرض الرّجل، واليد، وغير ذلك. {أَوْ عَلى سَفَرٍ:} السفر الذي يبيح الفطر تقدّر مسافته في هذه الأيام بخمسة وثمانين كيلو مترا، إذا أنشأ السفر صباحا قبل الإمساك، ولا يجوز له الفطر إذا أنشأ السفر بعد الصّبح إلا إذا لحقه مشقّة في السفر، ويشترط أن يكون السفر في طاعة، أو مباحا لتجارة، ونحوها، والرّخصة موجودة، ومشروعة، ولو كان السفر في الطّائرة، وقطع المسافة في دقائق معدودة، ولكن نقول للصّائم المسافر: إذا كان لا يتضرّر بالصيام؛ فالأولى له أن يصوم حتّى يحوز بركة أيام رمضان، ويكون مشاركا إخوانه المسلمين في صومهم، وروحانيتهم، وإذا ترخّص، وأفطر؛ فالقضاء واجب عليه، وتأكّد عليه أن يصوم؛ إذا لم يتضرّر بالصوم.

ومن الأعذار المبيحة للإفطار: الحيض، والنفاس. ولو طرأ أحدهما قبل الغروب بلحظات؛ بطل صوم المرأة، ونرجو من الله أن يثيبها على صومها يومها، وإن لم يحسب لها، وإذا انقطع دمها يقينا في اللّيل؛ يجوز لها أن تنوي الصوم، وإن لم تغتسل، وينبغي لها أن تستنجي قبل طلوع الفجر مع النية؛ حتى لا تحتاج للمبالغة بعد طلوع الفجر، ولا قضاء عليها للصّلاة، وعليها قضاء الصوم؛ لأنه لا يتكرّر، بخلاف الصلاة، فإنها تتكرّر عليهما كما هو معروف.

ومن الأعذار المبيحة للإفطار: المرأة الحامل، والمرضع؛ إذا خافتا على نفسيهما، أو على ولديهما. وأيضا الهرم، والشيخوخة؛ إذا كان الصوم يضعف الرجل، أو المرأة، ويؤثر على حركتهما، وذوو الأعمال الشاقة لا يجوز لهم أن يهملوا السحور، والنّية، من الليل، بل يجب عليهم أن يعقدوا النية على الصّوم، ويتوكّلوا على الله، وإذا حصلت لهم المشقّة أثناء النهار؛

ص: 422

فالرّخصة موجودة بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها،} وبقوله جل ذكره: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .

{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} أي: كلّ من أفطر بعذر يجب عليه أن يعدّ الأيام التي أفطرها، ثم يقضيها بعد التمكّن من القضاء إلا المريض الّذي لا يرجى برؤه، والشّيخ، والشّيخة اللذين لا يرجى صومهما بسبب الهرم، والضعف، فهؤلاء يخرجون كفارة لكلّ يوم أفطروا فيه. هذا؛ و {أُخَرَ:} صفة ل {أَيّامٍ،} و «أُخَرَ» على ضربين: ضرب جمع: أخرى تأنيث أخر، بفتح الخاء أفعل تفضيل، وضرب جمع: أخرى بمعنى: آخرة، تأنيث آخر بكسرها مقابل ل «أول» ، ومنه قوله تعالى:{قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ} فالضرب الأول لا يصرف، والعلّة المانعة من الصّرف:

الوصف، والعدل. ولا تنس أنّ قبل:{فَعِدَّةٌ..} . إلخ جملة محذوفة التقدير: «فأفطر» .

{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ:} روى البخاريّ-رحمه الله تعالى-عن سلمة ابن الأكوع-رضي الله عنه: أنه قال: لمّا نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ..} . إلخ كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية الّتي بعدها، فنسختها. ومثله عن ابن عمر، رضي الله عنهما، وبه قال السّدّي، والمراد بالتي بعدها: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليست منسوخة، هو الشّيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. أخرجه البخاريّ عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعليه يكون المعنى: وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشّباب، ثم يعجزون عنه في حال الشّيخوخة فدية طعام مسكين، ولذا قرأ ابن عباس:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وقيل: هي محكمة، وقبلها «لا» مقدّرة، أي: لا يطيقونه لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه.

{فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ:} هي القدر الذي يبذله المسلم يقي نفسه به من تقصير وقع منه في عبادة، أو نحوها من كفارة يمين، أو ظهار، أو جماع في شهر رمضان، أو فعل محظور في الحجّ

إلخ، لكن ما مقدار هذه الفدية فيما ذكر؟ فالله يقول:{طَعامُ مِسْكِينٍ} وكثير من العلماء يقولون: مدّ من قمح، وهل يكون المدّ في هذه الأيام طعام مسكين؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله، فقد روى البخاريّ رحمه الله تعالى: أنّ أنس بن مالك-رضي الله عنه-أطعم بعد ما كبر عاما، أو عامين، عن كلّ يوم مسكينا خبزا، ولحما، وأفطر. فأنس-رضي الله عنه-يطعم المسكين خبزا، ولحما، وهم يعطونه مدّ قمح، فكأنه بنظرهم حمامة، أو دجاجة يلتقط الحبّات بمنقاره، وانظر شرح المسكين في الآية رقم [177].

{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فهذه الخيرية تعمّ كلّ من ترخّص الإفطار بعذر من الأعذار، ويقدر على الصوم بلا مشقّة، وعناء، ما عدا الحائض، والنفساء، فإنّ فطرهما واجب، وصومهما لا ينعقد. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بركة الصيام في رمضان؛ فلا تفطروا بمجرد العذر المرخّص للإفطار.

ص: 423

الإعراب: {أَيّاماً:} مفعول به لفعل محذوف، دلّ عليه {الصِّيامُ،} التقدير: صوموا أياما، وقيل: هو ظرف متعلق بهذا المحذوف، التقدير: صوموا في أيام، وقيل: هو منصوب ب {الصِّيامُ} وردّه أبو البقاء للفصل بينهما. وقيل: هو منصوب ب {كُتِبَ} ولا وجه له؛ لأنه استوفى مفعوله، وهو الصّيام، الذي جعل نائب فاعل له، وقال الفراء: مفعول ثان له، ولا وجه له أيضا؛ لأنه ليس من الأفعال التي تنصب مفعولين إلا بتضمين بعيد. {مَعْدُوداتٍ:} صفة {أَيّاماً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة المقدرة ب «صوموا

إلخ» مفسرة للصّيام، وهو أولى من الاستئناف. {فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:}

فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر يعود إلى (من). {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {كانَ،} أو بمحذوف حال من: {مَرِيضاً} كان صفة له

إلخ. {مَرِيضاً:} خبر {كانَ} . {أَوْ:} حرف عطف. {عَلى سَفَرٍ} معطوفان على قوله: {مَرِيضاً} فهما في محل نصب مثله. {فَعِدَّةٌ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (عدة):

خبر لمبتدإ محذوف، التقدير، فالواجب عدّة، أو هو مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: فعلية عدّة، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشّرط، وقيل:

هو جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح عند المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية: (عدّة

) إلخ في محل رفع خبره، وزيدت الفاء في خبره، فهو كلام سديد، وتقدّم كثير مثله. {مِنْ أَيّامٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (عدة). {أُخَرَ:} صفة: {أَيّامٍ} مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للصفة والعدل، والجملة الاسمية:{فَمَنْ كانَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، ولا تنس الجملة المقدّرة قبلها في الشرح «فأفطر» .

{وَعَلَى:} الواو: حرف عطف. ({عَلَى الَّذِينَ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {يُطِيقُونَهُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والمتعلق محذوف، التقدير: يطيقونه منكم، {فِدْيَةٌ:} مبتدأ مؤخر. {طَعامُ:} بدل من: {فِدْيَةٌ،} أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي طعام، وعليه.

فالجملة الاسمية في محل رفع صفة {فِدْيَةٌ} و {طَعامُ} مضاف، و {مِسْكِينٍ} مضاف إليه، من إضافة اسم المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. هذا؛ وقرئ:(«فدية طعام مساكين») بالإضافة والجمع. والجملة الاسمية: {وَعَلَى الَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبتدأ. {تَطَوَّعَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {خَيْراً:} منصوب على نزع

ص: 424

الخافض، التقدير: تطوع بخير، أو هو صفة مصدر محذوف، أي: تطوع تطوعا خيرا، وقيل:

هو حال من ذلك المصدر المقدر معرفة عند سيبويه، وهو مذهبه، والمعتمد الأول. {فَهُوَ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هو {خَيْرٌ}): مبتدأ، وخبر. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْرٌ} والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وبقية الكلام كما في قوله تعالى:(من {كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً..}.) إلخ بلا فارق.

{وَأَنْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْ}) حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {تَصُومُوا:} فعل مضارع منصوب ب ({أَنْ}) وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و ({أَنْ تَصُومُوا}) في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، {خَيْرٌ:} خبره.

{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْرٌ،} وتقدير الكلام: صيامكم خير لكم. والجملة الاسمية في محل نصب حال مقدرة من كاف الخطاب في {مِنْكُمْ،} والرابط: الواو، والضمير، وقلت: مقدرة؛ لأنها مستقبلة بواسطة ({أَنْ}) وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلست مفندا.

{أَنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {تَعْلَمُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف للتعميم، التقدير: تعلمون أنه خير، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كُنْتُمْ،} والجملة الفعلية هذه لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشّرط محذوف، التقدير: فافعلوه، ونحو ذلك. و {أَنْ} مدخولها كلام معترض في آخر الكلام لا محلّ له، الغرض منه الحثّ على الصيام.

{شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}

الشرح: {شَهْرُ:} الشهر فيه لأهل اللغة قولان: أشهرهما: أنه اسم مدّة الزّمان الذي يكون مبدؤها الهلال ظاهرا إلى أن يستتر، سمّي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات، وغيرها. والثّاني: قاله الزّجاج: أنه اسم للهلال نفسه. ويجمع على: أشهر، وشهور.

{رَمَضانَ:} مأخوذ من: رمض الصائم، إذا احترق جوفه من شدّة العطش، والرّمضاء (ممدودة): شدّة الحر، وفي هذه التسمية أقوال: أحدها: أنه وافق مجيئه في الرّمضاء. وهي شدّة الحر، فسمّي به، كما سمّي ربيع لموافقته فصل الربيع، وكما سمّي جمادى لموافقته فصل

ص: 425

الشتاء الشّديد البرد، وقيل: لأنّه يرمض الذنوب، أي: يحرقها. بمعنى: يمحوها، وقيل: لأن القلوب تحترق فيه من الموعظة، والقرآن. ويجمع على: رمضانات، وأرمضة.

{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وشرح هذا الإنزال في شهر رمضان: أن جبريل عليه الصلاة والسلام نسخه من اللّوح المحفوظ، ونزل به جملة واحدة، ووضعه في السّماء الدّنيا في مكان يسمّى بيت العزّة، وقد صادف ذلك ليلة القدر، قال تعالى:{إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقال جل ذكره: {إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ} ثم نزل به جبريل الأمين على الرسول صلى الله عليه وسلم مفرّقا في ثلاث وعشرين سنة، على حسب الوقائع، ومقتضيات الأحوال والحاجات.

هذا؛ وقرآن مشتق من: قريت الماء في الحوض: إذا جمعته، فكأنه قد جمع فيه الحكم، والمواعظ، والآداب، والقصص، والفروض، وجميع الأحكام، وكملت فيه جميع الفوائد الهادية إلى طرق الرشاد. وخذ قول عمرو بن كلثوم في معلقته رقم [17]:[الوافر]

ذراعي عيطل أدمان بكر

هجان اللّون لم تقرأ جنينا

«لم تقرأ جنينا» : لم تضم، ولم تجمع في رحمها ولدا قط. وهو في اللّغة مصدر بمعنى الجمع، يقال: قرأت الشيء، قرآنا: إذا جمعته. وبمعنى القراءة، يقال: قرأت الكتاب قراءة، وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المنقول عنه بالتواتر فيما بين الدّفتين، المتعبّد بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس. وهذا التعريف متّفق عليه بين العلماء والأصوليين، أنزله الله؛ ليكون دستورا للأمة، وهداية للخلق أجمعين، وليكون آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وبرهانا ساطعا على نبوته، ورسالته، وحجّة قائمة إلى يوم الدين، تشهد: أنّه تنزيل الحكيم الحميد، بل هو المعجزة الخالدة، التي تتحدى الأجيال، والأمم على مر الأزمان، ومرّ الدهور. ورحم الله شوقي إذ يقول:[البسيط]

جاء النّبيّون بالآيات فانصرمت

وجئتنا بكتاب غير منصرم

آياته كلّما طال المدى جدد

يزينهنّ جمال العتق والقدم

وللقرآن أسماء عديدة، كلّها تدلّ على رفعة شأنه، وعلوّ مكانته، وعلى أنّه أشرف كتاب سماوي على الإطلاق، فيسمّى: القرآن، والفرقان، والتنزيل، والذّكر، والكتاب، والنور، والهدى

إلخ، كما وصفه الله بأوصاف عديدة، منها: نور، وهدى، ورحمة، وشفاء، وموعظة، وعزيز، ومبارك، وبشير، ونذير إلى غير ذلك من الأوصاف التي تشعر بعظمته، وقدسيّته. ويحرم على محدث حدثا أكبر: قراءته، ومسّه، وحمله، وعلى المحدث حدثا أصغر:

حمله، ومسّه، ولا يمنع من قراءته عن ظهر قلب. قال تعالى:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وقال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [106]: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً} . وعلى

ص: 426

اعتباره مصدرا جاء قول الشاعر-مع اختلاف في قائله، والمراد به عثمان بن عفّان-رضي الله عنه، وهو الشاهد رقم [399] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به

يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا

أي: قراءة. {هُدىً لِلنّاسِ} أي: هاديا لهم من الضّلالة. {وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ} أي: آيات، ودلائل، وحجج مبينة، واضحة، جلية لمن فهمها، وتدبرها، دالة على صحّة ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم من الهدى المنافي للضّلال، والرشد المخالف للغيّ، ومفرقا بين الحقّ، والباطل، والحلال، والحرام.

{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ:} أي: إيجاب حتم على من حضر استهلال الشهر، وهو صحيح مقيم مطيق للصوم، مع صحة إسلامه أن يصوم أيام رمضان، وهذه الجملة ناسخة للإباحة المتقدّمة في الآية السابقة. {وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} انظر الآية السابقة ففيها الكفاية.

{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} أي: التيسير، والتسهيل، فلذا أباح لكم الفطر في المرض، والسّفر، ونحوهما من الأعذار. {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ:} التعسير، والتشديد في الأحكام.

ففي الجملتين من المحسنات البديعية طباق السّلب. هذا؛ ويقرأ بتسكين السين في الكلمتين، وضمهما. وقال عيسى بن عمر رحمه الله تعالى: كلّ اسم على ثلاثة أحرف وسطها ساكن، فمن العرب من يخفّفه، ومنهم من يثقّله، وذلك مثل: حلم، ورحم، وعسر

إلخ.

هذا؛ ودلت الآية الكريمة على: أنّ الله سبحانه مريد بإرادة قديمة أزلية، زائدة على الذّات.

هذا مذهب أهل السّنّة، كما أنّه جلّت قدرته عالم بعلم، قادر بقدرة، حيّ بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، وهذه كلّها معان وجودية أزلية زائدة على الذّات. وذهب المعتزلة، والشّيعة إلى نفيها، والّذي يقطع دابر هؤلاء أن يقال: لو لم يصدق كونه ذا إرادة؛ لصدق: أنه ليس بذي إرادة، ولو صح ذلك؛ لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة، فلم يبق إلا أن يكون الذي لم يتّصف بالإرادة أنقص ممّن هو متّصف بها، ولا يخفى ما فيه من المحال، فإنّه كيف يتصوّر أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، والبديهة تقضي بردّه، وإبطاله، وقد وصف الباري نفسه جل جلاله، وتقدّست أسماؤه بأنّه مريد، فقال تعالى:{فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} وقال جل شأنه:

{يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وقال جلت قدرته: {وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي: عدّة أيام رمضان، وذلك بقضاء ما فاتكم منه بسبب المرض، والسفر، وغيرهما من الأعذار المبيحة للإفطار. {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ} أي: في يوم عيد الفطر، وليلته، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«زيّنوا أعيادكم بالتّكبير» . {عَلى ما هَداكُمْ} أي: أرشدكم لمعالم

ص: 427

دينه، ووفقكم للقيام بها على الوجه الأكمل. وقيل: لما ضلّ فيه النصارى من تبديل صيامهم، ولما كانت الجاهلية تفعله، فأرشدكم إلى الحقّ والصواب، وتولاكم بعنايته، ورعايته.

{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على نعمه، وتوفيقه للقيام بطاعته، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا، واحتسابا؛ غفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا، واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه» . أخرجه الشيخان، وغيرهما.

وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان، وعرف حدوده، وتحفّظ ما ينبغي له أن يتحفّظ؛ كفّر ما قبله» . رواه ابن حبّان.

والأحاديث في الترغيب في فضل رمضان كثيرة جدّا موجودة في الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، وغيره، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة، ولا مرض؛ لم يقضه صوم الدّهر كلّه؛ وإن صامه» . أخرجه الترمذيّ، وغيره.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرا الإسلام، وقواعد الدّين ثلاثة، عليهنّ أسّس الإسلام، من ترك واحدة منهنّ؛ فهو بها كافر، حلال الدّم: شهادة أن لا إله إلاّ الله، والصّلاة المكتوبة، وصوم رمضان» .

الإعراب: {شَهْرُ:} مبتدأ، وخبره:{الَّذِي} . أو هو خبر مبتدأ محذوف، التقدير: ذلكم، أو:

هو شهر، أو: الأيام المعدودة شهر

إلخ، أو هو بدل من الصيام على حذف مضاف؛ أي: كتب عليكم الصّيام صيام شهر

إلخ، وعلى هذه الأوجه ف {الَّذِي} صفة:{شَهْرُ} . هذا وقرئ بالنصب («شهر») وخرّج على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بدل من «أياما تصوموا» . والثاني: على إضمار:

أعني، والثالث: أن يكون منصوبا ب {تَعْلَمُونَ} أو ب ({أَنْ تَصُومُوا}). ولم يجوّز هذا النحاس؛ لأنه يدخل في الصّلة، ثم يفرق بين الصلة والموصول، وهو يعني بالصّلة والموصول:(أن) والفعل المضارع: {تَصُومُوا} . وقال: يجوز أن تنصبه على الإغراء، أي: الزموا شهر رمضان، وصوموا شهر رمضان. واستبعد هذا القرطبيّ. و {شَهْرُ} مضاف، و {رَمَضانَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون.

{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر، أو نعت ل {شَهْرُ،} وعلى نصبه فهو نعت فقط.

{أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان به. {الْقُرْآنُ:}

نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {هُدىً:} حال من: {الْقُرْآنُ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل

ص: 428

عليها، وليست عينها، وهو بمعنى: هاديا. {لِلنّاسِ} متعلقان ب {هُدىً} أو بمحذوف صفة له. {وَبَيِّناتٍ:} معطوف على: {هُدىً} منصوبه مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {مِنَ الْهُدى:} متعلقان ب ({بَيِّناتٍ}) أو بمحذوف صفة له، وعلامة جره كسرة مقدّرة على الألف للتعذر. {وَالْفُرْقانِ:} معطوف على ما قبله، وهو على تقدير حرف الجر؛ أي: ومن الفرقان.

{فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {شَهِدَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {مِنْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، العائد إلى (من) و (من) بيان لما أبهم فيه. {الشَّهْرَ} مفعول به، وقيل: هو ظرف متعلق بالفعل قبله. {فَلْيَصُمْهُ} الفاء: واقعة في جواب الشّرط. واللام: لام الأمر. (يصمه):

فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، والفاعل يعود إلى (من)، والهاء عائدة على الشّهر على الوجهين المعتبرين فيه: ظرف زمان، أو مفعول به على السّعة، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ صلته الجملة بعده، وخبره جملة:{فَلْيَصُمْهُ} وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. {وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} انظر الآية السابقة ففيها الكفاية، فهي مثلها محلاّ، وإعرابا.

{يُرِيدُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله. {بِكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{الْيُسْرَ:} مفعول به، والجملة الفعلية تعليل للتّرخيص في إفطار المريض، والمسافر، ونحوهما في شهر رمضان، والتي بعدها معطوفة عليها، مفيدة للتعليل مثلها. {وَلِتُكْمِلُوا:} الواو: حرف عطف، ({لِتُكْمِلُوا}): اللام: لام التعليل. (تكملوا): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْعِدَّةَ:} مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محلّ جرّ باللام، والجار والمجرور معطوفان في المعنى على الجملة الفعلية السّابقة المفيدة للتعليل، وإعراب:{وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ} مثلها، والجار والمجرور بعد التأويل معطوفان أيضا على ما قبلهما. {عَلى:} حرف جر.

{ما:} مصدرية، {هَداكُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهُ} والكاف مفعول به، والمتعلق محذوف، التقدير: إليه، و {ما} المصدرية والفعل ({هُدىً}) في تأويل مصدر في محل جرّ ب {عَلى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: لتكبروا الله على هدايتكم؛ أي: هدايته إيّاكم. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:} تقدّم إعراب مثلها كثيرا، وهي معطوفة على ما قبلها، ومفيدة للتعليل أيضا.

ص: 429

هذا وقدّر الجمل، والبيضاوي فعلا لتعليق هذه العلل، فقالا: وشرع الله تلك الأحكام على سبيل اللّف فإنّ قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} علّة للأمر بمراعاة العدّة، وقوله:{وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ} علّة للأمر بالقضاء، وبيان كيفيته، وقوله:{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علّة للترخيص، والتيسير، ثمّ قال الجمل-رحمه الله تعالى-: وهذا نوع من اللّف لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلا النقّاد من علماء البيان. انتهى.

بعد هذا يجوز عطف ({لِتُكْمِلُوا}) و ({لِتُكَبِّرُوا}) على {الْيُسْرَ} و {الْعُسْرَ} وعليه في اللام أوجه، أحدها: أنها مزيدة في مفعول الإرادة. قاله الزمخشري في غير هذا الموضع، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيدا له، لما فيها من معنى الإرادة. وقال ابن عطية-رحمه الله تعالى-: اللام مؤكدة دخلت على المفعول؛ لأن التّقدير: يريد الله بكم اليسر، وتكميل العدة والتكبير في يوم العيد، وليلته. والثاني: أنها لام العلّة، وهذا تقدّم. والثالث: أنها بمعنى «أن» الناصبة، وأنها نصبت الفعل بنفسها، قال الفراء: العرب تجعل لام «كي» في موضع «أن» في أراد، وأمر، وإليه ذهب الكسائي أيضا، انظر الآية رقم [32] من سورة (التوبة) والآية رقم [33] من سورة (الأحزاب) والآية رقم [26] من سورة (النساء) والآية رقم [71] من سورة (الأنعام) والآية رقم [8] من سورة (الصف)، ومثل ذلك قول كثيّر-وهو الشّاهد رقم [394] من كتابنا:

«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما

تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}

الشرح: {عِبادِي} جمع: عبد، وهو الإنسان، حرّا كان، أو رقيقا، ويقال للملوك: عبد قن، وله جموع كثيرة، أشهرها: عبيد، وعباد، وأعبد، وعبدان، وعبدة، والإضافة إضافة تشريف، وتكريم، وذكر العبودية مقام عظيم، ولو كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه وأعظم؛ لسماه به حينما أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فقال جلّ ذكره:{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ..} . وفي معناه أنشدوا: [السريع]

يا قوم قلبي عند زهراء

يعرفه السّامع والرّائي

لا تدعني إلاّ بيا عبدها

فإنّه أشرف أسمائي

{فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي: منهم، أي: بالاطلاع على أحوالهم، وأقوالهم، وأفعالهم. {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ} أي: بإعطائه ما سأل. {دَعانِ:} سألني حوائجه، وما يريد من خيري الدّنيا، والآخرة،

ص: 430

وهذا وعد من السميع العليم بإعطاء العبد سؤله. هذا؛ والياءان من قوله: {الدّاعِ} و {دَعانِ؛} من الزوائد عند القرّاء، ومعنى ذلك: أنّ الصحابة لم تثبت لها صورة في المصحف، فمن القرّاء من أسقطها تبعا للرّسم وقفا، ووصلا، ومنهم من يثبتها في الحالين، ومنهم من يثبتها وصلا، ويحذفها وقفا. ومثل هذا كثير مثل قوله تعالى في سورة (القمر):{يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ} .

{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} أي: بالطاعة، والخضوع، والامتثال لأمري. فيما آمر به، وفيما أنهى عنه. هذا؛ وأجاب، واستجاب بمعنى، فالسين والتاء زائدتان، انظر:{اِسْتَوْقَدَ} في الآية رقم [17]. {وَلْيُؤْمِنُوا بِي:} هذا أمر بالثبات على الإيمان، والمداومة عليه. هذا؛ وقال القرطبيّ:

الدّعاء هنا بمعنى: العبادة، والإجابة بمعنى: القبول، فصار المعنى: أقبل عبادة من عبدني.

دليله ما رواه أبو داود عن النّعمان بن بشير-رضي الله عنهما-عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال:

«الدّعاء هو العبادة، قال ربّكم: ادعوني أستجب لكم» فسمّى الدعاء عبادة.

أقول: إبقاء الكلام على ظاهره من أنّ المراد الدّعاء أولى، وأصحّ. {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ:}

يهتدون، ويوفّقون إلى ما فيه خيرهم، وصلاحهم. هذا؛ والرّشد، والرّشد، والرّشاد: الهدى، والاستقامة، وضدّه: الغيّ، والضّلال، والفساد. والفعل رشد يأتي من الباب الأول، رشد، يرشد رشدا، ومن الباب الرّابع رشد، يرشد رشدا.

تنبيه: روي: أنّ جماعة من الصّحابة قالوا: يا رسول الله! أقريب ربّنا، فنناجيه، أم بعيد، فنناديه؟ فنزلت الآية الكريمة. وقال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: قال يهود المدينة: يا محمّد! كيف يسمع ربنا دعاءنا؛ وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السّماء خمسمائة عام، وأن غلظ كلّ سماء مثل ذلك؟!

هذا؛ وما ذكر في الكتاب والسنّة من قرب الله، ومعيّته لا ينافي ما ذكر من علوّه، وفوقيته، فإنه سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وفي الحديث الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:«إنّ الّذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» .

تنبيه: لعلّك تدرك معي: أنّ هذه الآية معترضة بين سابقتها، ولاحقتها؛ لأنّ الآيتين، بل الآيات كلّها متعلقة بأحكام صيام رمضان. هذا؛ وإنّ الغرض من إقحام هذه الآية بينهما هو الاهتمام بالدّعاء، وبيان فضله، والحثّ على الإكثار منه، وأنّه عند الله بمقام عظيم، وأجر جزيل، ولذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«الدّعاء مخّ العبادة» ، رواه الترمذيّ عن أنس، رضي الله عنه. وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدّعاء سلاح المؤمن، وعماد الدّين، ونور السّماوات، والأرض» . رواه الحاكم.

وعن سلمان الفارسيّ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله حييّ كريم، يستحيي إذا رفع الرّجل إليه يديه أن يردّهما صفرا خائبتين» . رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة.

ص: 431

وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزلت به فاقة، فأنزلها بالنّاس؛ لم تسدّ فاقته، ومن نزلت به فاقة، فأنزلها بالله؛ فيوشك الله برزق عاجل، أو آجل» .

رواه أبو داود، والترمذي، والحاكم.

وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغني حذر من قدر، والدّعاء ينفع ممّا نزل، وممّا لم ينزل، وإنّ البلاء لينزل، فيلقاه الدّعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة» . رواه الطّبرانيّ، وغيره. وانظر ما ذكرته في سورة (الأعراف) رقم [55] فإنّه جيد، والحمد لله!

والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة مسطورة في (الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري.

وانظر فيه شروط الدّعاء، وأركانه، وآدابه لتحقيق الإجابة. وأهم ركن، وأعظم شرط لإجابة الدّعاء هو أكل الحلال، ولولا الإطالة عليك؛ لذكرتها لك، وانظر الآية رقم [172] المتقدّمة، وانظر رقم [11] من سورة (الإسراء) وسورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

هذا؛ وقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الدّعاء على أنفسنا، وأولادنا؛ فعن جابر-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم» . رواه مسلم.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: واو الاعتراض. ({إِذا}): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {سَأَلَكَ:}

فعل ماض، والكاف مفعول به. {عِبادِي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة.

{عَنِّي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على القول المشهور المرجوح، وهذا يعني: أنّ ({إِذا}) متعلقة بجوابها. وضعفه ابن هشام في المغني لاقتران الجواب بالفاء، ولا يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها. {فَإِنِّي:} الفاء: واقعة في جواب ({إِذا}). (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم في محل نصب اسمها. {قَرِيبٌ:} خبرها، والجملة الاسمية جواب ({إِذا}): لا محل لها، وقال أبو البقاء: هو على تقدير: فقل لهم: إنّي قريب. {أُجِيبُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان ل (إنّ)، وقيل: نعت ل {قَرِيبٌ} والأول أولى. {دَعْوَةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الدّاعِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة، أو الثابتة، كما رأيت في الشرح، وهو من إضافة المصدر لمفعوله، {إِذا:} ظرف زمان متعلّق بالفعل: {أُجِيبُ،} مبني على السكون في محل نصب. {دَعانِ} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذّر، والفاعل يعود إلى الدّاع، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة للتّخفيف في محل نصب مفعول به، والنون للوقاية، والكسرة دالة على الياء المحذوفة. هذا؛ وجوز اعتبار ({إِذا}) شرطية. والأول أقوى.

ص: 432

{فَلْيَسْتَجِيبُوا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا وحاصلا منّي

إلخ، اللام: لام الأمر. (يستجيبوا): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها جواب للشرط المقدر ب {إِذا} كما رأيت، والشرط المقدر، ومدخوله كلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله، والجملة:{وَلْيُؤْمِنُوا:} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمه. {يَرْشُدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعل)، والجملة الاسمية مفيدة للتوقع، والترجّي، والتعليل، لا محلّ لها.

تنبيه: وما ذكره أبو البقاء من تقدير: «قل» قبل الجملة الاسمية: {فَإِنِّي..} . إلخ؛ فقد قاسه على مثل قوله تعالى في سورة (طه): {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً} ولكن عدم التقدير أولى وأبلغ، ولأن الله قد تولى جوابهم بنفسه إشعارا بفرط قربه منهم، وحضوره مع كل سائل؛ بحيث لا تتوقف إجابته على وجود واسطة بينه وبين السائلين من ذوي الحاجات. انتهى صابوني، وهو جيد إن شاء الله تعالى.

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَاِبْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}

الشرح: {أُحِلَّ:} الحلال ضدّ الحرام، انظر الآية رقم [85] ولفظ {أُحِلَّ} يوحي أنّ شيئا كان محرما قبل ذلك، ثم نسخ كما ستعرفه. {لَيْلَةَ الصِّيامِ} أي: ليالي صيام رمضان.

{الرَّفَثُ:} يطلق على الكلام الفاحش، والقبيح بين الناس، والمراد به: الجماع، فقد كنى الله به عنه، وعدّي ب {إِلى} لتضمّنه معنى الإفضاء، وهو من الكنايات الحسنة، كقوله تعالى:

{فَلَمّا تَغَشّاها} وقوله جل ذكره: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} وقوله جل شأنه: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} وقوله تعالت حكمته: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن الله-عز وجل كريم، حليم، يكني.

ص: 433

{هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ:} هذه استعارة بديعة، وأصل اللباس في الثياب، فقد شبه الله كلّ واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في العناق، والضم باللباس المشتمل على لابسه، وسمّي امتزاج كلّ واحد من الزّوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد إلى الجسد، وامتزاجهما، وتلازمهما بالثّوب، قال النابغة الجعدي-رضي الله عنه:[الرمل]

إذا ما الضّجيع ثنى جيدها

تداعت فكانت عليه لباسا

وقال أيضا-وهو كناية عن جيل عاصره، ثمّ فني الجيل، وبقي حيّا؛ يريد بذلك بيان عمره الطّويل-:[المتقارب]

لبست أناسا فأفنيتهم

وأفنيت بعد أناس أناسا

وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء، وواراه: لباس، فجائز أن يكون كلّ واحد منهما سترا لصاحبه عمّا لا يحل. كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:«من رزقه الله امرأة صالحة؛ فقد أعانه على شطر دينه، فليتّق الله في الشّطر الثّاني» . رواه الطّبرانيّ في الأوسط، والحاكم عن أنس، رضي الله عنه. وفي رواية للبيهقيّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا تزوّج العبد؛ فقد استكمل نصف الدّين، فليتّق الله في النّصف الباقي» .

أقول: وهذا المعنى هو أولى ما تفسر به الآية، فإنّ الرجل، والمرأة حينما يكون أحدهما عزبا، فإنه يكون عرضة لكلام الناس، فحينما يتزوج تنقطع ألسنة الناس عنه. هذا بالإضافة لما فهم من الحديث الشريف من تحصين الفرج، وغضّ البصر، فصار كلّ منهما لباسا لصاحبه بهذا المعنى، وقدّم سبحانه قوله:{هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ} تنبيها على شدّة احتياج الرّجل للمرأة، وعدم صبره عنها، ولأنّه هو البادئ بطلب ذلك منها، وعليه؛ فينبغي لكلّ منهما أن ينتقي هذا اللباس من أهل التّقوى، والدّين، والأحاديث التي ترغب في اختيار الزّوجين موجودة في كتاب الترغيب، والترهيب، وغيره، لا أطيل الكلام في ذلك، وخذ ما يلي:

عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم، فإنّه له وجاء» . رواه الستّة ما عدا ابن ماجة.

{عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ:} تظلمون أنفسكم بتعريضها للعقاب، وتنقيص حقها من الثواب. والاختيان أبلغ من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، وسمّاه الله: خائنا لنفسه؛ من حيث كان ضرره عائدا عليه، وكلّ عاص لله خائن لنفسه بتعريضها للعقاب، وتنقيص حقّها من الثواب، وألف:{تَخْتانُونَ} مبدلة من الواو؛ لأنه من: خان، يخون، وتقول في الجمع: خونة، واسم الفاعل: خائن، وأصله: خاون؛ مثل: قائل، أصله: قاول.

ص: 434

{فَتابَ عَلَيْكُمْ:} قبل توبتكم، ووفّقكم للتوبة، والاعتراف بالذّنب. {وَعَفا عَنْكُمْ:} أي:

تجاوز عنكم، ولم يعاقبكم بذنوبكم. {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ:} كناية عن الجماع، كما تقدّم، وسمّي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه، وأطلقت على الجماع للزومها فيه. وهذا الأمر، والثلاثة بعده للإباحة. {وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ:} اطلبوا ما قدّره الله لكم من الولد، وما يتبع ذلك من قصد التحصين، والعفة بالنسبة للرّجل، والزوجة، وبهذا القصد يؤجر الرجل على هذا العمل، ويؤيّده قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم-رحمه الله تعالى-عن أبي ذرّ-رضي الله عنه:«وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال:«أرأيتم لو وضعها في حرام؛ أكان عليه وزر؟» قالوا: نعم، قال:«فكذلك إذا وضعها في حلال؛ كان له أجر» . أقول: ولكنّ الأجر متوقف على القصد؛ الّذي ذكرته.

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا:} قال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في المغني: إذا تعلّق الإعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل، فيقتصر عليه، ولا يذكر المفعول، ولا ينوى؛ إذ المنويّ كالثابت، ولا يسمّى محذوفا؛ لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول له، ومنه قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [258]:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ،} وقوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [9]: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ،} وقوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [31]: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} وأيضا ما في هذه الآية، وقوله تعالى في سورة (الإنسان) رقم [20]:{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ،} إذ المعنى: ربي الذي يفعل الإحياء، والإماتة، وهل يستوي من يتصف بالعلم، ومن ينتفي عنه العلم؟ وأوقعوا الأكل والشرب، وذروا الإسراف، وإذا حصلت منك رؤية هنالك. ومنه على الأصح قوله تعالى في سورة (القصص) رقم [23]:{وَلَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ..} . إلخ ألا ترى: أنّ موسى-على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام-إنما رحمهما؛ إذ كانتا على صفة الذياد، وقومهما على السّقي، لا لكون المسقي غنما ومسقيهم إبلا، وكذلك المقصود من قولهما:({نَسْقِي}) السّقي، لا المسقي، ومن لم يتأمل قدّر: يسقون إبلهم، وتذودان عنهما، ولا نسقي غنما. انتهى.

{حَتّى يَتَبَيَّنَ} يقال: تبين الشيء، وبان، وأبان، واستبان، كلّه بمعنى واحد، وهو لازم، وقد يستعمل بعضها متعديا. {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ..}. إلخ: شبه سبحانه وتعالى أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وما يمتدّ معه من غبش الليل بخيطين: أبيض وأسود، واكتفى سبحانه ببيان الخيط الأبيض بقوله:{مِنَ الْفَجْرِ} عن بيان الخيط الأسود لدلالته عليه، وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل. بيضاوي. وينبغي أن تعلم: أن الفجر الذي يحرم بطلوعه الطّعام، ويحلّ به الصّلاة هو الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة. روى مسلم-رحمه الله تعالى-عن سمرة بن جندب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغرّنّكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا؛ حتّى يستطير هكذا» . وحكاه حماد بيديه، قال: يعني: معترضا. وروى الدّارقطني عن عبد الرحمن بن عباس: أنه بلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «هما فجران: فأمّا الّذي

ص: 435

كأنّه ذنب السّرحان؛ فإنّه لا يحلّ شيئا، ولا يحرّمه، وأمّا المستطيل الّذي عارض الأفق؛ ففيه تحلّ الصّلاة، ويحرم الطّعام». هذا مرسل. وروى الدّارقطني عن عائشة-رضي الله عنها-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من لم يبيّت الصّيام قبل طلوع الفجر؛ فلا صيام له» . قال الشاعر: [البسيط]

الخيط الأبيض ضوء الصّبح منفلق

والخيط الاسود جنح اللّيل مكتوم

{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ:} فإذا جاء الليل؛ فقد حلّ الأكل، والشّرب، والجماع، وكلّ شيء كان محظورا، كما جاء في الصحيحين من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إذا أقبل اللّيل من هاهنا، وأدبر النّهار من هاهنا فقد أفطر الصّائم» . ويستحبّ تعجيل الإفطار، لما رواه سهل بن سعد الساعدي-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر» . أخرجه أحمد، والترمذيّ.

{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ:} لا تجامعوا النساء، وأنتم مقيمون في المساجد بنية الاعتكاف. والمعلوم: أنّ الجماع في المسجد حرام، بل هو كبيرة من غير نيّة الاعتكاف، ولكن المراد: أنّ الجماع لا يجوز للمعتكف، ولو في بيته ما دام متلبسا بنيّة الاعتكاف، وهذا إذا كان الاعتكاف منذورا، أو مقيّدا بمدة معلومة، فأما إذا كان مطلقا، وتطوعا، فله إبطال نيته، والجماع، ثم إذا أراد الاعتكاف؛ فليجدّد نيته. هذا؛ وأقلّ الاعتكاف عند مالك، وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد: يوم وليلة، وشرطه الصّوم، وعند الشافعيّ، وقول آخر لأحمد: أقلّه لحظة، ولا حدّ لأكثره، وليس من شرطه الصوم، لذا يندب في حق الدّاخل المسجد أن ينوي الاعتكاف، ولو دخل لأداء الصّلاة المفروضة عند الشّافعيّ. ونرجو من الله الأجر والثواب إن تأدب الدّاخل بآداب المسجد، وأمّا إن دخل يهرهر، وخرج يهرهر؛ فبشره بالوزر، وويل له إن جلس بعد الصّلاة، وتكلم الكلام في الدّنيا من غير ذكر، فبشره بأنه يخرج من المسجد محملا بالأوزار، وعرضة لغضب الواحد القهار. والأحاديث التي تشدّد النكير على الذين يجعلون المسجد مقهى كثيرة مشهورة مسطورة، أكتفي منها بما يلي:

عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيكون في آخر الزّمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة» . رواه ابن حبان. وفي رواية: «فلا تجالسوهم، فليس لله فيهم حاجة» .

{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي: الأحكام التي ذكرت في هذه الآية، جمع: حدّ، وهو في اللغة:

الحاجز بين شيئين متجاورين، والمراد هنا: الحدّ الفاصل بين الحلال والحرام، فلذا يعاقب من تجاوزه بالحدّ، وهو العقوبة المقرّرة لذلك. {فَلا تَقْرَبُوها:} نهى عن قربانها، فضلا عن انتهاكها، والقاعدة: أنّ الأحكام إذا كانت نواهي، يقال فيها: فلا تقربوها؛ على حدّ قوله تعالى:

{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى،} {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ} وهكذا، وإن كانت أوامر، يقال فيها:(لا {تَعْتَدُوها}) أي: لا تتجاوزوها، كما في الآية رقم [228] الآتية، وما هنا من قبيل الأوّل، والآية الأخرى من قبيل الثاني، فكلّ جاء على ما يليق به. انظر الآية رقم [228] ففيها بحث جيّد، والحمد لله!.

ص: 436

{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنّاسِ} أي: كما بيّن الصيام، وأحكامه، وشرائعه، وتفاصيله، كذلك يبين سائر أحكام الشريعة على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي:

يعرفون كيف يهتدون، وكيف يطيعون؟ فيبتعدون عن المعاصي، أو ينتظمون في سلك المتقين.

والترجّي في هذه الآية، وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأنّ الله تعالى لا يقع منه ترجّ لعباده، وأعمالهم. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا!

تنبيه: سبب نزول الآية الكريمة: أنّه كان في ابتداء الأمر بالصّوم إذا أفطر الصائم عند الغروب؛ حلّ له الطعام، والشّراب، والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة، أو ينام قبلها، فإذا صلّى، أو رقد قبلها؛ حرم عليه ذلك كله إلى الليلة القابلة، ثم إن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-واقع أهله بعد ما صلّى العشاء، فلما اغتسل؛ أخذ يبكي، ويلوم نفسه، ثم أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أعتذر إلى الله، وإليك من هذه الخطيئة، وإنّي رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء، فوجدت رائحة طيبة، فسولت لي نفسي، فجامعت أهلي. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«ما كنت جديرا بذلك يا عمر!» فقام رجال، فاعترفوا بمثل ذلك، فنزل في عمر، وأصحابه-رضي الله عنهم-أجمعين، قول الله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ..} . إلخ.

وعن البراء بن عازب-رضي الله عنه-قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته، ولا يومه؛ حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري-رضي الله عنه-كان صائما، فلمّا حضر الإفطار؛ أتى امرأته، فقال: أعندك طعام؟ قالت: لا، لكن انطلق، فأطلب لك طعاما، وكان يومه يعمل، فغلبته عينه، فنام، فجاءته امرأته، فلما رأته نائما؛ قالت: خيبة لك يا قيس! فلمّا انتصف النهار؛ غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية الكريمة، ففرحوا بذلك فرحا شديدا، وذلك قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا..} . إلخ.

تنبيه: من أكل، أو شرب ناسيا؛ فإنه لا يفطر، سواء أكان الصّوم فرضا، أم تطوّعا، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتمّ صومه، فإنّما أطعمه الله، وسقاه» . ومن جامع في رمضان فإنّه يفطر، وتفطر المرأة، وتجب الكفارة على الفاعل فقط عند الشّافعي رحمه الله تعالى، وعند مالك، وأبي يوسف، وأصحاب الرأي تجب على الرّجل، والمرأة، وتوسّط أبو حنيفة، فقال: إن طاوعته؛ فعليها الكفارة مثله، وإن أكرهها؛ فلا كفارة عليها، وأظنّ: أن هذا مذهب أحمد بن حنبل أيضا، رحم الله الجميع برحمة واسعة، ورحمنا معهم.

هذا؛ وأما الفطر في رمضان عامدا متعمدا من غير عذر، ومن غير جماع؛ فيجب عليه القضاء فقط عند الشّافعي، والقضاء مع الكفارة عند غيره، وتأوّل الشافعي الحديث الّذي رواه الترمذيّ عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة، ولا مرض؛ لم يقضه صوم الدهر كله؛ وإن صامه» بأنّ المراد بتحصيل الأجر، والثواب؛ الذي يفوته

ص: 437

بفطره ذلك اليوم. وأرى: أن رأيه جدير بالاعتبار، وإذا أخذنا برأي غيره، ماذا يفعل من بلغ من العمر في هذه الأيام الثلاثين، والأربعين سنة؛ وهو لا يصوم شهرا، ولا أياما، ثم راجع نفسه، وصار يصلّي، فنراه يقضي ما فاته من صلاة، بينما لا يذكر ما فاته من صيام، ولا يخطر له على بال.

الإعراب: {أُحِلَّ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لَيْلَةَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. هذا هو المشهور، ورده الجمل بقوله: وليس بشيء؛ لأنّ الإحلال ثابت قبل ذلك الوقت، وفيه قول ثان. هو: أنه مدلول عليه بلفظ الرّفث، تقديره: أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام، وإنّما لم يجز أن ينتصب بالرفث؛ لأنه مصدر مقدّر بموصول، ومعمول الصّلة لا يتقدّم على الموصول. وفيه قول ثالث: أنه متعلّق بالرّفث، وذلك على رأي من يرى الاتساع في الظروف، والمجرورات. انتهى جمل بتصرف. و {لَيْلَةَ} مضاف، و {الصِّيامِ} مضاف إليه. {الرَّفَثُ:} نائب فاعل: {أُحِلَّ} . {إِلى نِسائِكُمْ:} متعلقان بالرّفث، وجملة:{أُحِلَّ لَكُمْ..} . إلخ مستأنفة في الإعراب، ومرتبطة بالآيتين السّابقتين في المعنى.

{هُنَّ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {لِباسٌ:} خبره، والجملة الاسمية فيها معنى التعليل، وقال البيضاوي: مستأنفة. وليس بشيء. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {لِباسٌ} {وَأَنْتُمْ:} الواو: حرف عطف. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لِباسٌ:} خبره. {لَهُنَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {لِباسٌ} . والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{عَلِمَ اللهُ:} ماض وفاعله. {أَنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَخْتانُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {أَنْفُسَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ:}

في محل نصب خبر: {كُنْتُمْ} . وجملة: {كُنْتُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر: {أَنَّكُمْ} و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسدّ مفعولي: {عَلِمَ،} وجملة {عَلِمَ اللهُ..} .

إلخ في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها، ولست مفنّدا. وقيل: هي تعليل. ولا وجه له.

{فَتابَ:} الفاء: حرف عطف. (تاب): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{عَلِمَ..} .

إلخ لا محل لها مثلها، وجملة:{فَتابَ عَلَيْكُمْ} معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فتبتم، فتاب عليكم، وهذا الكلام معطوف على جملة:{عَلِمَ اللهُ..} . إلخ لا محل لها مثلها، وجملة:

{وَعَفا عَنْكُمْ} معطوفة على جملة: (تاب {عَلَيْكُمْ}).

ص: 438

{فَالْآنَ:} الفاء: حرف استئناف. (الآن): ظرف زمان متعلق بما بعده. {بَاشِرُوهُنَّ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَابْتَغُوا} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به.

{كَتَبَ اللهُ:} ماض، وفاعله، {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة ({ما}) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ابتغوا الذي، أو: شيئا كتبه الله لكم. هذا؛ والجملتان {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا:} معطوفتان على ما قبلهما، لا محل لهما أيضا، ومفعول الفعلين محذوف، كما رأيت في الشرح. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة، وهي بمعنى:«إلى أن» . {يَتَبَيَّنَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد {حَتّى} . {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان به. {الْخَيْطُ:} فاعله. {الْأَبْيَضُ:} صفته. {مِنَ الْخَيْطِ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} . {الْأَسْوَدِ:} صفة له. {مِنَ الْفَجْرِ:} متعلقان بمحذوف حال أخرى من {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} وهما بمعنى البدل من: {الْخَيْطُ} وعلقهما الجمل بالفعل: {يَتَبَيَّنَ} . وقال أبو البقاء: يجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال من الضمير في: {الْأَبْيَضُ} ويجوز أن يكونا تمييزا، والأول أولى بالاعتبار، و «أن» المضمرة بعد {حَتّى} والفعل:{يَتَبَيَّنَ} في تأويل مصدر في محل جرّ ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بأحد الفعلين ({كُلُوا وَاشْرَبُوا}) على التنازع.

{ثُمَّ} حرف عطف. {أَتِمُّوا:} فعل أمر، وفاعله. {الصِّيامِ:} مفعول به. {إِلَى اللَّيْلِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الصِّيامِ} أي: ممتدّا إلى الليل، وقيل: متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{وَلا:} الواو: حرف عطف، ({لا}): ناهية جازمة. {تُبَاشِرُوهُنَّ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمْ}):

ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عاكِفُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه؛ لأنه جمع اسم فاعل. {فِي الْمَساجِدِ} متعلقان ب {عاكِفُونَ} والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {حُدُودُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (لا {تَقْرَبُوها}): إعرابها مثل إعراب: ({لا تُبَاشِرُوهُنَّ})، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب

ص: 439

الشرط مقدر ب «إذا» التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا؛ فلا تقربوها، والجملة الشرطية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها مثلها. وقال أبو البقاء-رحمه الله تعالى-:

دخول الفاء هنا عاطفة على محذوف، تقديره: تنبهوا، فلا تقربوها.

{كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر. و (ذا) اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل الذي بعده، التقدير: يبين الله أحكام دينه، وشريعته للناس تبيينا مثل تبيينه أحكام الصيام في هذه الآيات، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {يُبَيِّنُ اللهُ:} مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {آياتِهِ} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم. {لِلنّاسِ:} متعلقان بالفعل: {يُبَيِّنُ} . {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} انظر إعراب مثلها، ومحلها في الآية السابقة.

{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}

الشرح: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ:} لا يأخذ بعضكم مال البعض بالوجه الذي لم يبحه الشرع الشريف، والدين الحنيف. والتعبير ب {أَمْوالَكُمْ} فيه منتهى الردع، والزجر عن أكل مال المسلم؛ لأنه يجب عليك أن تحافظ على ماله، كما تحافظ على مالك، ولأن الاعتداء على ماله كالاعتداء على مالك. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [84] فإنّه جيد، والحمد لله! وكلّ من أخذ مال غيره، لا على وجه إذن الشرع؛ فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يحكم الحاكم لك، وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء الحاكم؛ لأنه يقضي بالظاهر، فقد روى الأئمة عن أمّ سلمة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم يكون ألحن بحجّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قطعت له من أخيه شيئا؛ فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من نار» . وانظر شرح (الباطل) في الآية رقم [42] ويجمع (باطل) على: أباطيل شذوذا، كما شذّ: أحاديث، وأعاريض، وأفاظيع، في جمع: حديث، وعريض، وفظيع. وفي القرطبيّ: وجمع الباطل: بواطل، والأباطيل جمع:

البطولة.

هذا؛ وأخذ أموال الناس بالباطل يشمل، ويعمّ كلّ مال أخذ بدون وجه شرعيّ، وأبوابه كثيرة متنوعة، أذكر منها على سبيل المثال ما أشاع الفساد، والضّلال: الرّبا بآثامه وشروره، واستغلال النفوذ بأنواعه، وفجوره، والرّشوة بأنواعها، واحتكار البضائع لبيعها بثمن أعلى، وخزنها، وتصريفها بثمن أغلى، والذين يأخذون معاشاتهم، ولا يؤدون أعمالهم، ويقبضون

ص: 440

أجورهم، ويتهرّبون من واجباتهم، والذين يسرقون، ويخونون، ويغشّون، ويختلسون، ويدخل في ذلك: القمار، والخداع، والغصوب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، كما يؤخذ بالحياء، إذ ما أخذ بالحياء؛ فهو حرام، أو حرمته الشريعة؛ وإن طابت به نفس مالكه، وحلوان الكهّان، والمنجّمين، والمشعوذين، وأثمان الخمور، والخنازير، وأثمان الملاهي الشاغلة عن ذكر الله تعالى، وربحها، بل وتجارتها حرام، والغبن الفاحش في البيع والشّراء، وأفحش ذلك أكل مال اليتيم بغير حقّ، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} .

{وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ:} الإدلاء في الأصل: إرسال الدلو في البئر، ثم جعل كلّ إلقاء، أو رفع لقول، أو فعل إدلاء، يقال: أدلى بحجته، أي: أرسلها، والمراد بالإدلاء هنا:

الدفع إلى الحاكم بطريق الرّشوة لأجل تغيير الحكم، وإضاعة الحق، وإقامة الباطل. والمعنى في الآية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل، الّذي تقدّم ذكره، وبين الإدلاء إلى الحكّام بالحجج الباطلة، والدّعاوى الفاسدة. وهو كقوله تعالى:{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} وقيل:

المعنى: لا تصانعوا الحكام بأموالكم، وترشوهم؛ ليقضوا لكم بالباطل على غيركم. وهذا القول يترجّح لأن الحكام مظنّة الرّشا، والحيف في الحكم، إلا من عصم الله، وهم قليل.

{لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ} أي: لتأخذوا قطعة، وجزءا، وقسما من أموال الناس. هذا؛ والفريق في الأصل يطلق على الجماعة، والطائفة من الناس، قال تعالى:{فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} الآية رقم [30] من سورة (الأعراف) وقال جل ذكره في سورة (الشورى) رقم [7]: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} هذا؛ والإثم: الباطل، والمعصية، والذنب. والإثم: اسم من أسماء الخمرة، قال الشاعر:[الوافر]

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ:} أنكم مبطلون، وتأكلون أموال الناس بالباطل.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. ({لا}): ناهية. {تَأْكُلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، {أَمْوالَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

{بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {بِالْباطِلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال من واو الجماعة، أو من {أَمْوالَكُمْ} وجملة:{وَلا تَأْكُلُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، ولا يوجد مناسبة للعطف على ما قبلها.

{وَتُدْلُوا:} مضارع معطوف على ما قبله، فهو مجزوم مثله، وجوز أن يكون منصوبا ب «أن» مضمرة بعد الواو على اعتبارها للمعيّة، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون، والواو فاعله،

ص: 441

والألف للتفريق، وعلى النصب يؤول الفعل مع «أن» المضمرة بمصدر معطوف بواو المعية على مصدر متصيد من الفعل السابق، والتقدير: لا يكن منكم أكل لأموال الناس، وإدلاء بها

إلخ. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وأيضا:{إِلَى الْحُكّامِ} متعلقان به.

{لِتَأْكُلُوا:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، «أن» المضمرة والفعل (تأكلوا) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل ({تُدْلُوا}). {فَرِيقاً:} مفعول به. {مِنْ أَمْوالِ:}

متعلقان ب {فَرِيقاً} أو بمحذوف صفة له، و {أَمْوالِ} مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه.

{بِالْإِثْمِ:} متعلقان بالفعل: {تَأْكُلُوا} أو بمحذوف حال من واو الجماعة، أو بمحذوف صفة {فَرِيقاً} أي: مقرونا بالإثم. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال، ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والمفعول محذوف، انظر تقديره في الشرح. والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاِتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}

الشرح: {يَسْئَلُونَكَ:} أصل «سأل» إذا كان من السّؤال أن يتعدّى إلى مفعولين، نحو قوله تعالى في سورة (هود) على حبيبنا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} رقم [46]، ويجوز أن تقتصر على مفعول واحد، كما تقتصر في أعطيت، وكسوت، نحو قوله تعالى في سورة (الممتحنة) رقم [10]:{وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا} فإذا اقتصرت على مفعول واحد؛ جاز أن يتعدى إلى ذلك الواحد بحرف الجر، كما في قوله تعالى:{سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} والتقدير: سأل سائل النبيّ عن عذاب واقع؛ إذ الباء بمعنى «عن» .

فائدة: كلّ ما جاء في القرآن من السؤال أجيب ب «قل» بلا «فاء» إلا في قوله تعالى في سورة (طه): {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ..} . إلخ فبالفاء؛ لأن الجواب في الجميع كان بعد وقوع السؤال، وفي سورة (طه) كان قبله؛ إذ تقديره: إن سئلت عن الجبال؛ فقل.

هذا؛ و (سأل) تارة يكون لاقتضاء معنى في نفس المسئول، فيتعدى ب (عن) كهذه الآية، وفي أول سورة (الأنفال) وقد يكون لاقتضاء مال، ونحوه، فيتعدى لاثنين، نحو: سألت زيدا مالا.

ص: 442

{الْأَهِلَّةِ} جمع: هلال، سمّي به القمر لرفع أصواتهم عند رؤيته في جهة المغرب في أوّل الشهر. واختلف اللّغويون إلى متى يسمّى هلالا، فقال الجمهور: يقال لليلتين، وقيل: لثلاث، ثم يكون قمرا. وقال أبو الهيثم: لليلتين من أوّل الشهر، ولليلتين من آخره، وما بينهما قمر.

انتهى جمل نقلا عن السّمين. هذا؛ وجمع الهلال على: أهلة، وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر غير كونه هلالا في آخر، فإنّما جمع أحوال من الأهلة، ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبّر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه. وقيل: سمّي شهرا؛ لأن الأيدي تشير بالإشارة إلى موضع الرؤية، ويدلون عليه. وانظر الآية رقم [184].

{قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ:} تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر، ونقصانه، وهو زوال الإشكال في الآجال، والمعاملات، والأيمان، والحجّ، والعدد، والصّوم، والفطر، ومدّة الحمل، والإجارات، والأكرية إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظيره قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [12]:{وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ،} وقوله تعالى في سورة يونس رقم [5]:

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} . هذا؛ و {مَواقِيتُ} جمع: ميقات، مثل موازين، ومواعيد، ومواريث، جمع: ميزان، وميعاد، وميراث، والأصل: موزان، وموعاد، وموراث، وموقات، قلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها، وردت الواو لأصلها في الجمع؛ لأن جمع التكسير يرد الأشياء إلى أصولها. وإنّما خصّ الحج بالذكر؛ لأنّه ممّا يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لم يقع فيه النسيء الّذي كانت العرب تفعله في الجاهلية من تأخير حرمة شهر إلى آخر.

تنبيه: لقد استدل مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما على أنّ الإحرام بالحجّ يصحّ، وينعقد في غير أشهر الحجّ بهذه الآية؛ لأنّ الله تعالى جعل الأهلة كلّها ظرفا لذلك، وخالف في ذلك الشافعي لقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} رقم [197].

{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها} أي: ليس البر بدخولكم المنازل من ظهورها، كما كنتم تفعلون في الجاهلية. وانظر:{الْبِرُّ} في الآية رقم [177]. {وَلكِنَّ الْبِرَّ:} عمل الخير؛ الذي يحبه الله، ويرضاه. {مَنِ اتَّقى:} امتثل أمر الله فيما أمر، واجتنب كل ما نهى عنه، فهذا الذي يقربكم إلى الله. {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها:} ادخلوها كعادة الناس من الأبواب. {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تقدّم شرح مثل ذلك كثيرا.

هذا؛ وحكى المهدوي، ومكيّ عن ابن الأنباري، والماورديّ عن ابن زيد-رحم الله الجميع-: أنّ الآية مثل في جماع النساء، أمر بإتيانهن في القبل، لا من الدبر، وسمّي النساء بيوتا للإيواء إليهن كالإيواء إلى البيوت. قال ابن عطية: وهذا بعيد مغير نمط الكلام. أقول:

بحث ذلك يأتي في الآية رقم [222] الآتية، وانظر:(ائتوا) في الآية [23].

ص: 443

فائدة: يجوز عند مالك، وأحمد-رحمهما الله-البيع في السّلم، وغيره إلى الحصاد، أو إلى الدياس، وعند الشّافعيّ، وأبي حنيفة رحمهما لا يجوز إلا بتعيين اليوم، والشهر، ولا خلاف في ذلك بين العلماء في بيع شيء بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهر عربي، أو روميّ.

تنبيه: ما في الآية الكريمة ممّا سأل عنه اليهود، واعترضوا به على النّبي صلى الله عليه وسلم: فقال معاذ بن جبل-رضي الله عنه: يا رسول الله! إن اليهود تغشانا، وتكثر مسألتنا عن الأهلّة، فما بال الهلال يبدو دقيقا، ثم يزيد؛ حتى يستوي، ويستدير، ثم ينقص؛ حتى يعود كما كان؟ وكان ناس من الأنصار إذا أحرموا بالحجّ، أو بالعمرة لم يدخل أحد منهم حائطا، ولا دارا، ولا فسطاطا من باب، فإن كان من أهل الدّار نقب نقبا في ظهر بيته، يدخل منه، ويخرج، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، وكانوا يعدون ذلك برّا، وعملا صالحا، ووجه اتصال الكلام ببعضه: أنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر، وعن حكم دخولهم بيوتهم من غير أبوابها، فنزلت الآية الكريمة في هذين السّببين.

تنبيه: في هذه الآية بيان: أنّ ما لم يشرعه الله قربة، ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب له به متقرّب. قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو برّ، وقربة بما ليس هو برّ، وقربة أن ينظر في ذلك العلم، فإن كان له نظير في الفرائض، والسنن؛ فيجوز أن يكون، وإن لم يكن؛ فليس ببرّ، ولا قربة. انتهى قرطبي. أقول: قد يكون حراما، وبدعة سيّئة، وما أكثر البدع في هذه الأيام، خذ منها الأذكار المشتملة على الرّقص، والدّبك، وما يحدث فيها من الهيام المخترع المسمّى بالحال، وأسوأ السوء فيه ما يحدث من ضرب الشّيش، وغير ذلك من الخزعبلات، والتّدجيل، ولا تنس الموالد وما يكون فيها من مغالاة، وما يقع فيها من إسراف، وتبذير، والمبذرون إخوان الشياطين، وما يحصل فيها من رياء، وحبّ السّمعة، والمحمدة.

تنبيه: علماء البلاغة يعدون القسم الأول من الآية الكريمة، بل ويسمّونه: أسلوب الحكيم، ويكون بتنزيل السؤال منزلة سؤال آخر مناسب لحالة المسألة، فجاء الجواب في الآية الكريمة عن الحكمة المترتّبة على ذلك؛ لأنّها أهمّ للسائل، فنزّل سؤالهم عن سبب الاختلاف منزلة السّؤال عن حكمته، ومثلها الآية رقم [214] الآتية.

الإعراب: {يَسْئَلُونَكَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {عَنِ الْأَهِلَّةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت، ومتعلقه محذوف، التقدير: قل لهم. {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مَواقِيتُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

{لِلنّاسِ:} متعلقان ب {مَواقِيتُ} أو بمحذوف صفة له، وهو أقوى. {وَالْحَجِّ:} معطوف على (الناس)، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدّر.

ص: 444

{وَلَيْسَ:} الواو: حرف عطف. ({لَيْسَ}): فعل ماض ناقص. {الْبِرُّ:} اسمها. {بِأَنْ:}

الباء: حرف جر. (أن): حرف مصدري ونصب. {تَأْتُوا:} فعل مضارع منصوب ب (أن) وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، {الْبُيُوتَ:} مفعول به.

{مِنْ ظُهُورِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{الْبُيُوتَ،} (وها): في محل جر بالإضافة، (وأن) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلّقان بمحذوف خبر ({لَيْسَ}). هذا؛ وقيل: الباء حرف جر صلة، والمصدر مجرور لفظا، منصوب محلاّ، والأول أقوى، وتقدّم له نظائر كثيرة، وجملة:

{وَلَيْسَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {وَلكِنَّ:}

الواو: حرف عطف. ({لكِنَّ}) حرف مشبه بالفعل. {الْبِرُّ:} اسمها. {مِنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل جرّ بإضافة اسم محذوف إليه هو الخبر، التقدير: ولكنّ البرّ برّ من، ومثله الآية رقم [176]. {اِتَّقى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {مِنْ} وهو العائد، والجملة صلة لها.

{وَأْتُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة معطوفة على ما قبلها: فهي من جملة مقول القول، مع ملاحظة: أنها إنشائية، والتي قبلها خبرية. {الْبُيُوتَ:} مفعول به. {مِنْ أَبْوابِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من:{الْبُيُوتَ،} و (ها): في محل جر بالإضافة. {وَاتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة أيضا.

قال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: ولمّا تقدم جملتان خبريّتان، وهما:({لَيْسَ الْبِرُّ..}.) إلخ، {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى} عطف عليهما جملتان أمريتان: الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما:{وَأْتُوا الْبُيُوتَ،} {وَاتَّقُوا اللهَ} . انتهى نقلا عن السّمين. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:} تقدّم إعراب مثلها كثيرا.

{وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}

الشرح: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ..} . إلخ هذه الآية أوّل آية نزلت في الأمر بالقتال؛ إذ من المعلوم: أنّ القتال كان محظورا قبل الهجرة، والآيات التي تنهى عن القتال قبل الهجرة، وتحثّ على الصّبر، وتحمّل الأذى من قريش كثيرة، فلمّا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ أمر بالقتال، فنزلت الآية الكريمة، قاله الرّبيع بن أنس، وغيره، وروي عن أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-

ص: 445

وأرضاه: أنّ أول آية نزلت في القتال قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [39]: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} والأوّل أكثر، وأنّ آية الإذن إنما نزلت في القتال غاية لمن قاتل، ولمن لم يقاتل من المشركين، وأن هذه الآية نزلت لمّا تجهز المسلمون لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي قريش بما وعدت من الشّروط، والعهود؛ الّتي عقدت في غزوة الحديبية، ويقاتلون المسلمين، وقد كره المسلمون قتالهم في الحرم، والشّهر الحرام، فنزلت الآية الكريمة تبيح قتال المشركين؛ إن هم قاتلوهم، انظر غزوة الحديبية وما حصل فيها من شروط، وعهود بين المسلمين، وبين المشركين-فإنّه جيد، والحمد لله-وذلك في سورة (الفتح). وفي الآية الكريمة إباحة القتال لمن يقاتل من المشركين دون من ليس من أهل المناصبة، والمقاتلة من الشيوخ، والصبيان، والرّهبان، والنّساء، والزّمنى، والأجراء، إلا أن يكون لأحد منهم إذاية للمسلمين، بقول، أو فعل، وهذا معنى قوله تعالى:{وَلا تَعْتَدُوا} أي: لا تتجاوزوا ما شرعه الله، وأباحه لكم.

تنبيه: لا يذكر في القرآن الكريم لفظ القتال، أو الجهاد؛ إلا ويقرن بكلمة:{فِي سَبِيلِ اللهِ} وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ الغاية من القتال، والجهاد غاية شريفة نبيلة، هي إعلاء كلمة الله، لا السيطرة، أو المغنم، أو الاستعلاء في الأرض، أو غير ذلك من الغايات الدنيئة.

{إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: المتجاوزين ما شرعه الله لهم. هذا؛ وعدم محبّة الله لهم كناية عن البغض، والسّخط، والغضب، والطرد من رحمته، ورضوانه، ومحبته للعبد: رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه.

الإعراب: {وَقاتِلُوا:} الواو: حرف استئناف. ({قاتِلُوا}): فعل أمر، وفاعله، والألف للتفريق، {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {يُقاتِلُونَكُمْ:} مضارع مرفوع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{وَقاتِلُوا..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها، {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَعْتَدُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{اللهِ:} اسمها. {لا:} نافية. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} .

{الْمُعْتَدِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ مفيدة للتعليل، لا محلّ لها.

ص: 446

{وَاُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191)}

الشرح: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي: حيث وجدتموهم، فهو مثل قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [5]:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} بل هذه أعمّ، والأولى أخصّ، لذا قيل:

هذه ناسخة لتلك. هذا؛ والثقف في الأصل: الحذق في إدراك الشيء، علما كان، أو عملا، فهو يتضمن معنى الغلبة، يقال: ثقف، يثقف، ثقفا. ويقال: رجل ثقف لقف، أي: خفيف حاذق: إذا كان محكما لما يتناول من الأمور، قال الشاعر:[الوافر]

فإمّا تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود

{وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي: أخرجوكم من مكّة كما فعلوا بكم، وقد تمّ ذلك بفضل الله عام الفتح. {وَالْفِتْنَةُ} فسر بالشرك، والأولى تفسيرها بالمحنة؛ التي يفتن بها الإنسان، كالتعذيب، والإخراج من الوطن أعظم من القتل؛ لدوام تعبها، وتألم النفس بها، ومنه قول الشاعر:[الطويل]

لقتل بحدّ السّيف أهون موقعا

على النّفس من قتل بحدّ فراق

«تقتلوهم» ، «يقتلوكم» ، «قتلوكم:» هذه الأفعال الثلاثة تقرأ بالألف، وبدونها، ولا يتغيّر معناها، ولا إعرابها. {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ..}. إلخ: جاء في الصحيحين من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

«إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السّماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحلّ إلاّ ساعة من نهار-وإنّها ساعتي هذه-فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقولوا: إنّ الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم» . يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: قتاله أهله يوم فتح مكّة. هذا؛ ونصّ الآية الكريمة: أنه لا يجوز قتال الكافر حتّى يقاتل في الحرم، ولكن الآية الآتية:{وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} عمّمت القتال. {كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ:} أي: مثل ذلك جزاؤهم، يفعل بهم مثل ما فعلوا بكم، والجزاء من جنس العمل.

الإعراب: {وَاقْتُلُوهُمْ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية، معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة لا محل لها مثلها. {حَيْثُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، مبني على الضم في محل نصب. {ثَقِفْتُمُوهُمْ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذّكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{حَيْثُ} إليها، وجملة:

ص: 447

{وَأَخْرِجُوهُمْ:} معطوفة على جملة: ({اُقْتُلُوهُمْ}) لا محل لها، وإعرابها مثلها. {مِنْ حَيْثُ:} متعلقان بما قبلهما، و {حَيْثُ} مبني على الضم في محل جرّ ب {مِنْ} وجملة:{أَخْرَجُوكُمْ} في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها.

{وَالْفِتْنَةُ:} الواو: واو الاعتراض. ({الْفِتْنَةُ أَشَدُّ}): مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية معترضة بين الجملتين المتعاطفتين، وهو أقوى من الحالية. {مِنَ الْقَتْلِ:} متعلقان ب {أَشَدُّ،} {وَلا:}

الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تُقاتِلُوهُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {عِنْدَ:} مضاف، و {الْمَسْجِدِ:} مضاف إليه. {الْحَرامِ:} صفة {الْمَسْجِدِ} . {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة.

{يُقاتِلُوكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد {حَتّى} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعول به، {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و «أن» المضمرة بعد {حَتّى} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلّقان بالفعل: {تَقْتُلُوهُمْ} .

{فَإِنْ:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (إن): حرف شرط جازم. {قاتَلُوكُمْ:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَاقْتُلُوهُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (اقتلوهم): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، ومتعلقه مع متعلق سابقه محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط، والشرط ومدخوله كلام معطوف، ومفرّع عمّا قبله لا محل له أيضا.

{كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم، واللام للبعد، والكاف:

حرف خطاب لا محل له. {جَزاءُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {الْكافِرِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام مقوّية لمضمون الكلام السّابق.

{فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}

الشرح: {فَإِنِ انْتَهَوْا} أي: عن الكفر بأن أسلموا، وتركوا القتال. {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ:} فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدّم من ذنوبهم، يرحم كلاّ منهم بالعفو عمّا اجترم، نظيره قوله تعالى في سورة (الأنفال):{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} رقم [38]، والرّسول صلى الله عليه وسلم قال:«الإسلام يجبّ ما قبله» أي: يمحو جميع ما فعله الكافر من إيذاء، وقتل للمسلمين.

ص: 448

الإعراب: {فَإِنِ:} الفاء: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {اِنْتَهَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها بساكنة مع واو الجماعة، وهو في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتّفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {غَفُورٌ رَحِيمٌ:} خبران ل (إنّ)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط. والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد، و (إنّ) ومدخولها كلام معطوف على مثله في الآية السابقة لا محل لها مثله، والاستئناف ممكن.

{وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ (193)}

الشرح: {وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ:} أمر بالقتال لكلّ مشرك في كلّ موضع على قول من رآها ناسخة، ومن رآها غير ناسخة؛ قال: المعنى: قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: {فَإِنْ قاتَلُوكُمْ} . والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق، لا بشرط أن يبدأ الكفار: دليل ذلك قوله تعالى:

{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} . وفي سورة (الأنفال): {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ} وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:

«أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم، وأموالهم إلاّ بحقّ الإسلام» . هذا؛ والفتنة هنا بمعنى الشّرك، ومثله في (الأنفال) رقم [39] والآية رقم [91] السّابقة، وتكون الفتنة بمعنى العبرة، كقوله تعالى في سورة (يونس) رقم [85]:{رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ} ولها معان أخر بحسب موقعها من الجملة.

{فَإِنِ انْتَهَوْا:} أي: عن الكفر، إمّا بالإسلام، كما تقدّم، أو بأداء الجزية، كما رأيت في سورة (التّوبة). {فَلا عُدْوانَ:} المراد به هنا: المعاقبة، والمقاتلة، وسمّى ما يصنع بالظالمين:

عدوانا من حيث هو جزاء عدوان؛ إذ الظلم يتضمّن العدوان، فسمّى جزاء العدوان عدوانا من قبيل المشاكلة، وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، كما في الآية التالية:{فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ،} وقوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} وقوله تعالى في آخر سورة (النّحل): {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} ومثل ذلك كثير في كتاب الله. قال الزجّاج-رحمه الله تعالى-: العرب تقول: ظلمني فلان، فظلمته؛ أي: جازيته بظلمه، وقال ابن الرقعمق في المشاكلة:[الكامل]

أصحابنا قصدوا الصّبوح بسحرة

وأتى رسولهم إليّ خصيصا

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت: اطبخوا لي جبّة وقميصا

ص: 449

وقال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته رقم [114]: [الوافر]

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فإنّ الله لا يملّ؛ حتّى تملّوا» فمعناه أن الله تعالى لا يقطع فضله عنكم حتى تملوا من مسألته، وتزهدوا فيها؛ لأنّ الله لا يملّ في الحقيقة، وإنما نسب الملل إليه لازدواج اللّفظين.

هذا؛ وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} تصريح بأن يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، فهذا المراد والغاية من القتال، كما ثبت في الصّحيحين عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» .

الإعراب: {وَقاتِلُوهُمْ:} الواو: حرف عطف. ({قاتِلُوهُمْ}): فعل أمر، وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآيات السابقة، لا محل لها مثلها. {حَتّى:} حرف غاية، وجر. {لا:} نافية. {تَكُونَ:} فعل مضارع تام منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} {فِتْنَةٌ:} فاعله، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب «حتى» ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {حَتّى} بمعنى «كي» أو بمعنى:«إلى أن» ، {وَيَكُونَ:} الواو: حرف عطف. (يكون): معطوف على سابقه منصوب مثله، وهو يحتمل التّمام والنّقصان، {الدِّينُ:} فاعله، أو اسمه. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل (يكون)، أو هما متعلقان بمحذوف خبره على نقصانه. {فَإِنِ:} الفاء: حرف تفريع، (إن {اِنْتَهَوْا}): انظر الآية السابقة.

{فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» {عُدْوانَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {إِلاّ:} حرف حصر. {عَلَى الظّالِمِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (لا) وإن كانت بصورة النفي، فهي بالمعنى إثبات، ففي الإثبات تقول: العدوان على الظالمين، فإذا جئت بالنفي، وإلا بقي الإعراب على ما كان عليه. انتهى عكبري. هذا ويجوز أن يكون خبرها محذوفا، تقديره: فلا عدوان على أحد، فيكون الجار والمجرور بدلا من:«على أحد» بإعادة العامل.

{الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}

الشرح: {الشَّهْرُ} انظر الآيتين رقم [185] و [189]. {الْحَرامُ:} أي: المحرم، والأشهر المحرمة أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وشهر رجب، قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ}

ص: 450

{عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} . الآية رقم [36] من سورة (التوبة).

وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع: «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض، السّنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب الّذي بين جمادى، وشعبان» .

وسميت حرما لتحريم القتال فيها، وكان القتال محرّما في هذه الأشهر في بدء الإسلام، ثمّ نسخ هذا التحريم، كما ستعرفه فيما يأتي إن شاء الله تعالى، والمعنى: الشهر الحرام مقابل بمثله، أي: فكما قاتلوكم فيه؛ فاقتلوهم في مثله.

(الحرمات): جمع: حرمة، وهي ما يجب المحافظة عليه من مال، وعرض، ونسب. هذا؛ والحرام في الأصل كلّ ممنوع، والحرمات كلّ ممنوع منك ممّا بينك وبين غيرك. وقولهم:

لفلان بي حرمة، أي: ممتنع من مكروهه. وحرمة الرّجل محظورة به عن غيره، وقوله تعالى:

{وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فالمحروم هو الممنوع من المال، والتلذّذ به. والإحرام بالحجّ هو المنع من أمور معروفة، وإنّما جمعت الحرمات؛ لأن المراد حرمة الشّهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام بالعمرة.

{قِصاصٌ} أي: يجري فيها معاقبة؛ أي: فكما هتكوا حرمة شهركم بالصّدّ عن دخول الحرم، وقاتلوكم في الشهر الحرام؛ فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم عنوة، فاقتلوهم؛ إن قاتلوكم. {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ:} انظر المشاكلة في الآية السابقة، وانظر المعاقبة في الآية رقم [126] من سورة (النّحل) وانظر المجازاة والانتقام من المعتدي، والظالم في الآية رقم [40] من سورة (الشورى) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَاتَّقُوا اللهَ:} خافوه، فامتثلوا أمره فيما أمر، واجتنبوا كلّ شيء عنه نهى، وزجر، وراقبوه في جميع أعمالكم، وأقوالكم. وفيه التّحذير من مجاوزة الحدّ في الانتقام من المعتدي أكثر من اعتدائه. هذا ويؤخذ من قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم العمرة لمّا صدّ عن دخول مكة، وأدائها على أنّ الشروع في الحجّ، والعمرة ملزم بإتمامهما، فإن منع المحرم من أحدهما من الإتمام لسبب من الأسباب؛ وجب عليه القضاء لما منع من أدائه. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي: بالنّصر، والمعونة، والتأييد في الدنيا، والآخرة.

تنبيه: خرج المسلمون بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة في شهر ذي القعدة في السنة السادسة للهجرة النّبوية، فصدّهم المشركون، ثم وقعت مفاوضات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وانتهت المفاوضات بعقد معاهدة الحديبية المشهورة، ومن شروطها: أن يعود الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين هذا العام من غير عمرة، على أن يعتمروا في العام القادم، فلمّا أراد المسلمون قضاء العمرة في العام القادم في شهر ذي القعدة؛ خافوا من معارضة قريش لهم، وكرهوا قتالهم في

ص: 451

الشّهر الحرام، فقيل لهم: هذا الشهر الحرام بذلك الشّهر الحرام، وهتكه بهتكه، فلا تبالوا فيه.

ومعناه: إن قاتلوكم؛ فقاتلوهم، ولا إثم عليكم، ولا مؤاخذة.

الإعراب: {الشَّهْرُ:} مبتدأ. {الْحَرامُ:} صفته. {بِالشَّهْرِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ.

{الْحَرامُ:} صفة (الشّهر) والجملة الاسمية مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها. {وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ:}

مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَمَنِ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِعْتَدى:}

فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره: هو. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فَاعْتَدُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (اعتدوا): فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، وخبره جملة:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} ودخلت الفاء على خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. والأول أقوى؛ لأن وقوع خبر المبتدأ جملة طلبية منازع فيه.

والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة، ومفرّعة عما قبلها، لا محل لها.

{بِمِثْلِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وقيل: الباء زائدة، و (مثل) صفة لمصدر محذوف، التقدير: اعتدوا عليه اعتداء مثل جناية اعتدائه عليكم، و (مثل) مضاف، و {مَا:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وجملة:{اِعْتَدى عَلَيْكُمْ:} صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: بمثل الذي اعتدى عليكم به. هذا؛ وجوز اعتبار: {مَا} مصدرية، تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بإضافة (مثل) إليه، أي: بمثل اعتدائه عليكم.

{وَاتَّقُوا:} الواو: حرف عطف. ({اِتَّقُوا}): فعل أمر، وفاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:}

منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وأيضا جملة:{وَاعْلَمُوا..} . إلخ معطوفة أيضا على ما قبلها. {أَنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف في محل رفع خبرها، و {مَعَ} مضاف، و {الْمُتَّقِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي:({اِعْلَمُوا}).

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}

الشرح: {وَأَنْفِقُوا} أي: ابذلوا المال. {فِي سَبِيلِ اللهِ:} المراد به هنا: الجهاد بالمال، وهو أمر بالجهاد به بعد الأمر بالجهاد بالنفس، والروح. دلّ على ذلك الأمر به في الآيات

ص: 452

السابقة. وقيل: هو عام في الجهاد، وغيره. وهو الحقّ، انظر شرح:{سَبِيلِ اللهِ} في الآية [190]{وَلا تُلْقُوا:} الإلقاء: هو الطرح، والرمي. وقيل: معناه هنا: ولا تفضوا. {بِأَيْدِيكُمْ} أي:

بأنفسكم هكذا فسر. وقيل: الباء سببية، والمفعول محذوف، أي: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم.

وانظر شرح (اليد) في الآية رقم [79]. {التَّهْلُكَةِ} مصدر: هلك بكسر اللام، وهو مثل الهلك، والهلاك، والهلوك، فهذه كلها مصادر له، هذا معنى:{وَلا تُلْقُوا..} . إلخ؛ أي: بالإسراف في الإنفاق، وتضييع الزوجة، والأولاد، والدستور في ذلك-وهو مما نفخر، ونعتز به-قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [29]:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} . وقوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [67]: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً} . {وَأَحْسِنُوا..} . إلخ؛ أي: في جميع أعمالكم، وأقوالكم، وأخلاقكم؛ حتّى يحبّكم الله، وتكونوا من أوليائه المقرّبين.

هذا؛ ومضمون الآية وفحواها الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات، ووجوه الطاعات؛ وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوّي المسلمين على أعدائهم، والإخبار عن ترك ذلك بأنّه هلاك، ودمار لمن لزمه، واعتاده. ثم عطف الأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال:«الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» . هذا؛ وقال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن إلا سهم، أو مشقص، لا يقولنّ أحدكم: لا أجد شيئا. ونحوه عن السّدّي- رحمه الله تعالى-: أنفق ولو عقالا، ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فتقول: ليس عندي شيء.

فائدة: روي: أنّ رجلا من المسلمين حمل على جيش الروم في خلافة الفاروق حتى دخل فيهم، فصاح الناس: سبحان الله! ألقى بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري-رضي الله عنه: إنّما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار حين أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقلنا: لو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها. فنزلت الآية، فكانت التهلكة: الإقامة على الأموال، وإصلاحها، وترك الجهاد في سبيل الله. أخرجه أبو داود، والترمذي، والنّسائي. فما زال أبو أيوب-رضي الله عنه-شاخصا في سبيل الله حتى استشهد، ودفن بأرض الروم، وكان ذلك تحت إمرة يزيد في عهد معاوية.

فعن البراء بن عازب-رضي الله عنه-قال له رجل: يا أبا عمارة! قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أهو الرجل يلقى العدو، فيقاتل؛ حتى يقتل؟ قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذّنب، فيقول: لا يغفره الله. رواه الحاكم موقوفا، وقال: صحيح على شرط الشّيخين، وانظر الآية رقم [29] من سورة (النساء) فالمعنى متشابه.

الإعراب: {وَأَنْفِقُوا:} الواو: حرف عطف. ({أَنْفِقُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا،

ص: 453

والمفعول محذوف، تقديره: أنفقوا المال. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تُلْقُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، انظر تقديره في الشرح. {بِأَيْدِيكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجرّ كسرة مقدّرة على الياء للثقل، وقيل: الباء: حرف جر صلة، و (أيديكم): هو المفعول، فهو مجرور لفظا، منصوب محلاّ، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وجملة:{وَأَحْسِنُوا} مع المفعول المحذوف معطوفة أيضا، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} مفيدة للتعليل، لا محل لها. وانظر إعراب ما يشبهها في الآية رقم [189].

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)}

الشرح: المناسبة بين هذه الآيات، والتي قبلها: لمّا ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أحكام الصيام؛ أعقب ذلك بذكر أحكام الحج؛ لأن شهوره تأتي مباشرة بعد شهر الصيام، وأمّا آيات القتال، فقد ذكرت عرضا لبيان حكم هامّ، وهو بيان الأشهر الحرم، والقتال فيها، وفيما لو تعرض المشركون للمؤمنين، وهم في حالة الإحرام، هل يباح لهم ردّ العدوان عن أنفسهم، والقتال في الأشهر الحرم؟ فقد وردت الآيات السابقة تبيّن حكم الأهلة، وأنها مواقيت للصيام، والحج، ثمّ بينت الآيات بعدها موقف المسلمين من القتال في الشهر الحرام، وذلك حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرة، وصدّه المشركون، ومنعوه من دخول مكة، ووقع صلح الحديبية، ثم لما أراد القضاء في العام القابل، وخشي أصحابه غدر المشركين بهم؛ وهم في حالة الإحرام؛ نزلت الآية تبيّن: أنه ليس لهم أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص، ودفع العدوان، ثم عاد الكلام إلى أحكام الحجّ، وحكم الإحصار فيه. فهذا هو الارتباط بين الآيات السابقة، واللاحقة. انتهى صفوة التفاسير.

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} أدّوهما كاملين بأركانهما، وشروطهما، وجميع حقوقهما، قال تعالى في الآية رقم [124]:{وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} وهذا الأمر يدل على وجوبهما، ويؤيده قراءة من قرأ:(«وأقيموا الحج والعمرة»)، وانظر شرحها في الآية رقم [158]. هذا؛ وحجّ الرسول

ص: 454

صلّى الله عليه وسلّم حجّة واحدة، هي حجة الوداع، واعتمر أربع عمر، كلّها في ذي القعدة: عمرة الحديبية سنة ست، وعمرة القضاء سنة سبع، وعمرة الجعرّانة سنة ثمان، وعمرته التي اعتمر بها مع الحجّ سنة عشر، وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانئ:«عمرة في رمضان تعدل حجة معي» . وسبب ذلك: أنها عزمت على الحج معه صلى الله عليه وسلم، فاعتاقت عن ذلك بسبب الطّهر، وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: هو من خصائصها.

هذا؛ والحج فرض في العمر مرّة واحدة متّفق عليه، وأما العمرة؛ فقد اختلف فيها، فقال جمع من الصحابة، والتابعين: هي فرض مثل الحجّ: وهو قول الشافعيّ، رحمه الله تعالى، وأحمد، رحمه الله تعالى، وسئل زيد بن ثابت-رضي الله عنه-عن العمرة قبل الحجّ، فقال:

صلاتان، لا يضرك بأيّهما بدأت. ذكره الدّارقطني. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الحجّ والعمرة فريضتان، لا يضرّك بأيهما بدأت» .

وقال جمع من الصحابة، والتابعين: هي سنّة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، رحمهما الله تعالى، وقالوا: معنى (أتموا): إلزام الإتمام؛ لو أحرم، وشرع، لا إلزام الابتداء. والله أعلم. هذا؛ وقرأ الشعبي، وأبو حيدة برفع تاء العمرة، وهي تدلّ على عدم الوجوب، وقرأ الجماعة بنصب التاء، وهي تدل على الوجوب.

{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ:} منعتم من إتمامهما، أو من أحدهما بعد الإحرام بها بسبب عدوّ، أو مرض، ونحو ذلك. والحصر: المنع، والحبس، وهو يحتمل أن يكون من الرّباعي: أحصر، ومن الثلاثي: حصر. وقال أبو عبيدة، والكسائي: أحصر بالمرض، وحصر بالعدو. وفي المجمل لابن فارس على العكس: حصر بالمرض، وأحصر بالعدو. وقالت طائفة: يقال: أحصر فيهما جميعا من الرّباعي، حكاه أبو عمر، والصحيح: أنهما يستعملان فيهما، وهو ما قدّمته أولا.

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الأكثر من أهل اللغة على أنّ حصر في العدو، وأحصر في المرض. وأصل الكلمة من الحبس، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسرّه، والحصير:

الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب. والحصير: الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات القش إلى بعض.

تنبيه: من أنواع الإحصار في هذه الأيام ما يطلب من دراهم زيادة على رسوم الحجّ المعتادة بمعنى: أنّ من طلب منه ذلك لا يجب عليك الحجّ، ولا يكلّف المسلم أن يعطي للواسطة مبلغا من المال يشترطه عليه.

{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: إذا منعتم من إتمام الحج، أو العمرة بمرض، أو عدوّ، وأردتم التحلّل؛ فعليكم أن تذبحوا ما تيسر من بدنة، أو بقرة، أو شاة. و {الْهَدْيِ:} هو ما يساق من النّعم ليذبحه المحرم بحجّ، أو عمرة في الحرم، فإن أحصر؛ ذبح في موضع الإحصار. وهو

ص: 455

قول الشّافعي، وقال قتادة، وإبراهيم النّخعي: يبعث بهديه إن أمكن، فإذا بلغ محلّه؛ صار حلالا، ومحلّه الحرم، وقال أبو حنيفة: دم الإحصار لا يتوقف على يوم النّحر، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر؛ إذا بلغ محلّه. وخالفه صاحباه، فقالا: يتوقف على يوم النّحر، وإن نحر قبله؛ لم يجزه، فهذا فحوى قوله تعالى:{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . قال عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم-أي: إلى العمرة-فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، وحلق رأسه. {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فالمحصر الذي خشي أن يفوته الوقوف بعرفة يتحلل من إحرامه في مكانه الذي أحصر بحلق رأسه، أو تقصيره بعد ذبح هديه؛ إن كان معه هدي، وإن لم يكن معه هدي؛ يشتري ما يتيسر له من النّعم، ويذبحه في مكان الإحصار، أو يبعثه إلى الحرم على اختلاف بين المذاهب كما قدّمته، فإن لم يتيسر له؛ عدل إلى قيمة الحيوان، واشترى به طعاما، وتصدّق به في مكان الإحصار، فإن لم يجد؛ صام عن كل مدّ يوما حيث شاء، وله التحلل حالا قبل الصوم، وهذا الدّم دم ترتيب، وتعديل، وهو في هذه الصّورة، وفي الوطء، كما أشار إليه ابن المقري-رحمه الله-بقوله:[الرجز]

والثّاني ترتيب وتعديل ورد

في محصر ووطء حج إن فسد

إن لم يجد قوّمه ثمّ اشترى

به طعاما طعمة للفقرا

ثمّ لعجز عدل ذاك صوما

أعني به عن كلّ مدّ يوما

{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ:} بأن كان به هوامّ تؤذيه، أو صداع شديد يصعب احتماله. وهنا معطوف محذوف، أي: فحلق شعره، أو لبس ثيابه. ومنه: التطيّب، وقلم الظفر، ووطء ثان، أو وقع وطء بين تحلّلين. {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وعن كعب بن عجزة رضي الله عنه-قال: أتى عليّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أوقد تحت قدر؛ والقمل يتناثر على وجهي، أو قال: حاجبي، فقال:«يؤذيك هوامّ رأسك؟» قلت: نعم، قال:«فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستّة مساكين، أو انسك نسيكة» . قال أيوب: لا أدري بأيتهنّ بدأ. رواه الإمام أحمد.

وكفارة ما ذكر مخيرة بين ثلاثة أمور، كما رأيت، وهذا الدّم دم تخيير، وتقدير، كما أشار له ابن المقري-رحمه الله تعالى-بقوله:[الرجز]

وخيّرت وقدّرن في الرابع

إن شئت فاذبح أو فجد بآصع

للشّخص نصف أو فصم ثلاثا

تجتثّ ما اجتنيته اجتثاثا

في الحلق والقلم ولبس دهن

طيب وتقبيل ووطء ثني

أو بين تحلّلي ذي إحرام

فذي دماء الحجّ بالتّمام

ص: 456

هذا؛ و ({نُسُكٍ}): جمع نسيكة، وهي الذّبيحة ينسكها العبد لله تعالى، ويجمع أيضا على:

نسائك، والنّسك في الأصل: العبادة، ومنه قوله تعالى حكاية، عن قول إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام في الآية رقم [128] -:{وَأَرِنا مَناسِكَنا} أي: متعبداتنا، وانظرها هناك، وانظر رقم [200] الآتية. وقيل: إنّ أصل النسك في اللغة: الغسل، ومنه: نسك ثوبه: إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. هذا؛ وسمّيت ذبيحة الأنعام نسكا؛ لأنها من أعظم العبادات، التي يتقرب بها إلى الله تعالى. هذا؛ والمنسك بفتح السين، وكسرها:

المذبح، وهو موضع ذبح القربان، قال تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً..} . إلخ: الآية رقم [34] من سورة (الحج). والمنسك: الشريعة، قال تعالى في سورة (الحج) رقم [67]:{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ} .

{فَإِذا أَمِنْتُمْ} أي: كنتم آمنين من أول الأمر، أو صرتم بعد الإحصار آمنين. {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أي: أحرم بالعمرة قبل الحج، وفي أشهر الحج. وهذا يسمى متمتعا، ومتلذّذا يستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطّيب، واللّباس، والنّساء، وغيرها، فيصير بعد فراغه من العمرة كأهل مكّة، على أن يكون من أهل الآفاق، وقدم مكة، ففرغ من العمرة، ثمّ أقام بمكة حلالا إلى أن أنشأ الحجّ منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته، فإذا فعل ذلك صار متمتعا، وعليه ما أوجب الله على المتمتّع، وهو قوله تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} يذبحه، ويعطيه للمساكين بمنى، أو بمكّة، وهو دم المتعة، وهو نسك عند أبي حنيفة، ويأكل منه، وعند الشّافعية يجري مجرى الجنايات، ولا يأكل منه، ويذبحه يوم النّحر عند أبي حنيفة، وعند الشّافعي: إذا أحرم بحجته. فإن لم يجد صام ثلاثة قبل يوم عرفة، وسبعة إذا رجع إلى بلده، وهذا دم ترتيب، وتقدير، وهو فداء لأمور كثيرة ذكرها ابن المقري رحمه الله تعالى بقوله:[الرجز]

أربعة دماء حجّ تحصر

أوّلها المرتّب المقدّر

تمتّع فوت وحجّ قرنا

وترك رمي والمبيت بمنى

وتركه الميقات والمزدلفه

أو لم يودّع أو كمشي أخلفه

ناذره يصوم إن دما فقد

ثلاثة فيه وسبعا في البلد

فقد اشتملت الآية الكريمة على ثلاثة أنواع من أنواع الدم الواجب في النّسك، وبقي الرابع يذكر في سورة (المائدة) في قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ..} . إلخ الآية رقم [95] هو دم تخيير، وتعديل، ويجب في شيئين، كما أشار إليه-رحمه الله-بقوله:[الرجز]

والثّالث التخيير والتّعديل في

صيد وأشجار بلا تكلّف

إن شئت فاذبح أو فعدّل مثل ما

عدّلت في قيمة ما تقدّما

ص: 457

{تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ:} هذه الجملة تأكيد لما قبلهما، وحثّ على صيامها، وعدم التهاون بها، أو تنقيص عددها، وهي تجزئ عن الذّبح، وثوابها كثوابه من غير نقصان إن شاء الله تعالى، وهذا عند فقدان الذّبيحة بأن كان فقيرا لا يجد ثمنها. وانظر شرح لفظ عشرة في الآية رقم [60]، وانظر ما ألحق بالمتمتع في قول ابن المقري.

{ذلِكَ} أي: الحكم المتقدّم ذكره. {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ:} بأن لم يكن أهله على دون مرحلتين من الحرم عند الشّافعي، رحمه الله تعالى، فإن كان؛ فلا دم عليه، ولا صيام؛ وإن تمتع. وكذلك لا يحصر بمرض وغيره، بل يجب عليه أن يحضر المشاهد كلّها، وإن يمش مشيا لقرب المسافة بالبيت، وقال أبو حنيفة، وأصحابه: كل من منع من الوصول إلى البيت بعدوّ، أو مرض، أو ذهاب نفقة، أو إضلال راحلته، أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه، ويبعث بهديه، أو بثمنه، فإذا نحر؛ فقد حلّ من إحرامه، كذلك قال عروة، وقتادة، والحسن، وعطاء، والنخعي، ومجاهد لعموم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .

{وَاتَّقُوا اللهَ:} انظر التقوى في الآية رقم [2]. وفي الأمر بالتقوى حثّ على المحافظة على أوامره، ونواهيه، وخصوصا الحج، وأحكامه. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ:} فيه تهديد، ووعيد لمن يخالف أوامر الله، ونواهيه.

بعد هذا خذ ما يلي: عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-قال: جاءت ضباعة بنت الزّبير-رضي الله عنهما-إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنّي امرأة ثقيلة، وإني أريد الحجّ، فكيف تأمرني أن أحجّ؟ قال:«أهلّي، واشترطي: أنّ محلّي حيث حبستني» . قال: أدركت الحجّ، ولم تحلل؛ حتّى فرغت منه.

الإعراب: {وَأَتِمُّوا:} الواو: حرف عطف. ({أَتِمُّوا}): فعل أمر وفاعله، والألف للتفريق.

{الْحَجَّ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآيات السابقة، والاستئناف ممكن. {وَالْعُمْرَةَ:} معطوف على {الْحَجَّ،} {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} أي: كائنين لله. هذا؛ وعلى قراءة: («العمرة») بضم التاء، فهو مبتدأ، و {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبرها، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{الْحَجَّ} والرابط: الواو فقط. {فَإِنْ:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (إن): حرف شرط جازم.

{أُحْصِرْتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء نائب فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي {فَمَا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: فعليكم ما

إلخ، أو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالواجب ما

إلخ، ويجوز أن تكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف،

ص: 458

التقدير: فاهدوا، أو: فأدوا ما

إلخ. {اِسْتَيْسَرَ:} فعل ماض، والفعل يعود إلى (ما) {مِنَ الْهَدْيِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها إن اعتبرتها نكرة موصوفة، والعائد أو الرابط هو الفاعل المستتر، العائد عليها، وجملة:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} في محل جزم جواب الشرط، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها، و (إن) ومدخولها كلام مفرع عمّا قبله لا محل لها من الإعراب.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَحْلِقُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا})، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {رُؤُسَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَبْلُغَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد {حَتّى} . {الْهَدْيِ:} فاعله. {مَحِلَّهُ:} اسم مكان متعلق بالفعل قبله، وهو يطلق على الزمان أيضا، وقيل: مفعول به ولا وجه له، و «أن» المضمرة والفعل {يَبْلُغَ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَلا تَحْلِقُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: ({أَتِمُّوا..}.) إلخ لا محل لها مثلها، وقيل:

معطوفة على (إنّ) ومدخولها، والأوّل أقوى.

{فَمَنْ:} الفاء حرف عطف، أو استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه يعود إلى (من). {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {كانَ،} أو بمحذوف حال من: {مَرِيضاً} كان صفة له

إلخ. {مَرِيضاً:} خبر: {كانَ} . {أَوْ:} حرف عطف. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف معطوف على: {مَرِيضاً،} التقدير: أو كائنا به. {أَذىً:} فاعل بمتعلق الجار والمجرور؛ لأن الجار إذا اعتمد رفع الفاعل عند الجمهور، وهو في الحقيقة فاعل بالمتعلق المحذوف، كما رأيت، ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر مقدم، و {أَذىً} مبتدأ مؤخر، فهو مرفوع على الوجهين، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، وعليه فالجملة الاسمية في محل نصب، وهي معطوفة على خبر:{كانَ} وهو: {مَرِيضاً} . {مِنْ رَأْسِهِ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع صفة {أَذىً} . {فَفِدْيَةٌ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (فدية): خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالواجب فدية، أو هو مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: فعليه فدية، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول:

لا محل لها، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته مرارا. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، الجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية:{فَفِدْيَةٌ..} . إلخ في محل رفع خبره، وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، فهو كلام

ص: 459

سديد، والجملة الاسمية:(من {كانَ..}.) إلخ مفرعة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {مِنْ صِيامٍ:} متعلقان بمحذوف صفة. (فدية). {صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} معطوفان على {صِيامٍ} .

{فَإِذا:} الفاء حرف عطف، وقيل: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب. {أَمِنْتُمْ:}

فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح.

{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ:} إعراب هذه الجملة مثل ما تقدّم، فهو واضح إن شاء الله تعالى، لا أطيل الكلام في إعرابه، والجملة الاسمية الحاصلة منه على الوجهين المعتبرين في (من) جواب:(إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على (إن) ومدخولها. وقيل: مستأنف. {إِلَى الْحَجِّ:} متعلقان بمحذوف، التقدير: واستمر تمتّعه إلى الحج، أي: إلى الإحرام بالحجّ.

{فَمَنْ:} الفاء حرف عطف، أو استئناف. (من): تحتمل الشرطية، والموصولة. {لَمْ:}

حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَجِدْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ،} والفاعل يعود إلى (من) والمفعول محذوف لدلالة ما قبله عليه. {فَصِيامُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (صيام):

خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الواجب صيام، أو هو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: فعليه صيام، و (صيام) مضاف، و {ثَلاثَةِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله، و {ثَلاثَةِ:}

مضاف، و {أَيّامٍ} مضاف إليه، {فِي الْحَجِّ:} متعلقان بمحذوف صفة ل {ثَلاثَةِ أَيّامٍ،} وقيل: حال من: {ثَلاثَةِ أَيّامٍ،} {وَسَبْعَةٍ} معطوف على لفظ: {ثَلاثَةِ} وقرئ بنصبه، فيكون معطوفا على محل:

{ثَلاثَةِ} . وقيل: منصوب بفعل محذوف، التقدير: وصوموا سبعة. {إِذا:} ظرف متعلق ب (صيام) مبني على السكون في محل نصب. {رَجَعْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة {إِذا} إليها. {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {عَشَرَةٌ:} خبر المبتدأ. {كامِلَةٌ:} صفة: {عَشَرَةٌ} صفة مؤكدة، والجملة الاسمية مؤكدة لما قبلها.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {لَمْ:} حرف جازم.

{يَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ} . {أَهْلُهُ:} اسمه، والهاء في محل جر بالإضافة.

{حاضِرِي:} خبر ({يَكُنْ}) منصوب، وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وهو مضاف، و {الْمَسْجِدِ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْحَرامِ:} صفة: {الْمَسْجِدِ} . {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا..} . إلخ: انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [194]. و {شَدِيدُ:} مضاف، و {الْعِقابِ:} مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لفاعله، التقدير: شديد عقابه.

ص: 460

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَاِتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)}

الشرح: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} وهي: شوال، وذو، والعشر الأول من ذي الحجة. وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى. والقول بصحّة الإحرام بالحجّ في جميع السنة هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد رحمهم الله تعالى. واحتجّ لهم بقوله تعالى:{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ} فعند الشافعية إذا أحرم بغير أشهر الحج انعقد إحرامه عمرة.

{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ:} بنية الإحرام عند الشّافعي، وعند أبي حنيفة بالتلبية، وإنّما سمي شهران، وبعض الشهر أشهرا، إقامة للبعض مقام الكل، أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد، أو هو من باب التغليب.

{فَلا رَفَثَ:} المراد به هنا: الجماع، انظر الآية رقم [187] فإنه جيد. أي: من أحرم بالحج، أو بالعمرة؛ فليجتنب الجماع، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة، والتقبيل، ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء. قال ابن عمر-رضي الله عنهما: الرفث: إتيان النساء، والتكلم بذلك للرّجال، والنساء، إذا ذكروا ذلك بأفواههم، ومنه قول المحرم لامرأته:

فإذا أحللنا؛ فعلنا بك كذا من غير كناية. وقاله ابن عباس أيضا، وأنشد وهو محرم:[الرجز]

وهنّ يمشين بنا هميسا

إن تصدق الطّير ننك لميسا

فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إن الرّفث ما قيل عند النّساء.

هذا؛ والرّفث: كلّ كلام ساقط لا قيمة له، قاله أبو عبيدة، وأنشد قول الشاعر:[الرجز]

وربّ أسراب حجيج كظّم

عن اللّغا ورفث التّكلّم

{وَلا فُسُوقَ:} ولا خروج عن حدود الشّريعة. وقيل: هو السباب، والتنابز بالألقاب، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الفسوق: جميع المعاصي المنهي عنها في حال إحرامه بالحج، أو بالعمرة، ومنه قتل الصيد، وقصّ الظفر. وقد ثبت عن أبي هريرة-رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حجّ هذا البيت، فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» . ورواية الصّحيحين: «رجع كيوم ولدته أمّه» . {وَلا جِدالَ} أي: ولا مماراة، ولا مخاصمة. وهذه الأمور الثلاثة منهي عنها في جميع الحالات، وفي جميع الأوقات، والأمكنة.

وفي حالة الإحرام آكد، وهي في الحج أقبح، صيغته نفي، وحقيقته نهي، أي: لا يرفث

إلخ، وهو أبلغ من النّهي الصريح، كما هو معروف في فن البلاغة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 461

«ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلاّ أوتوا الجدل» ثم قرأ: {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً} . رواه الترمذي، وابن ماجة عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

{وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو الذي يجازيكم عليها. حثّ الله على فعل الخير عقيب النهي عن الشرّ، وهو أن يستعملوا مكان الرّفث الكلام الحسن، ومكان الفسوق البرّ، والتقوى، ومكان الجدال الوفاق، والأخلاق الجميلة.

هذا؛ وذكر سبحانه الخير، وإن كان عالما بجميع أفعال العباد لفائدة، وهي: أنّه تعالى إذا علم من عبده المؤمن الخير؛ ذكره في الملأ الأعلى، وأشهره، وإذا علم منه الشر؛ أسرّه، وأخفاه:

فإذا كان هذا فعله مع عبده المؤمن في الدنيا؛ فكيف يكون في العقبى، وإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا لا يخجل العبد من ربّه حين ارتكابه المعصية؛ وهو يوقن: أنّه يراه، ويعلم ما يفعل.

هذا؛ والإحرام بالحج، والعمرة على ثلاثة أنواع: إفراد، وتمتّع، وقران. فصورة الإفراد: أن يحج، ثم بعد فراغه منه يعتمر من أدنى الحلّ. وصورة التّمتّع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ، ويأتي بأعمالها، فإذا فرغ منها أحرم بالحج من مكّة في تلك السّنة. وصورة القرآن: أن يحرم بالعمرة، والحج في أشهر الحجّ، فينويهما بقلبه، وكذلك: لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم أدخل عليها الحجّ قبل أن يفتتح الطواف، فيصير قارنا. واختلفوا في الأفضل: فذهب مالك، والشّافعي إلى أن الإفراد أفضل، ثم التمتّع، ثم القران. وذهب الثوريّ، وأبو حنيفة إلى أن القرآن أفضل. وذهب الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه إلى أن التمتّع أفضل، ولكلّ دليله، علما بأن المفرد بالحج لا يلزمه شيء، وأما القارن، والمتمتع؛ فيلزمهما دم، أو صيام، كما قدّمته فيما سبق.

{وَتَزَوَّدُوا:} أمر الله باتخاذ الزاد في سفر الحج. نزلت في أناس من أهل اليمن، كانوا يخرجون للحجّ من غير زاد، ويقولون: نحن متوكّلون، ويقولون: نحج بيت ربنا. أفلا يطعمنا؟ فإذا قدموا مكة؛ سألوا الناس، وربما أفضى بهم الحال إلى الغصب، والنهب، والسّرقة. قال رجل للإمام أحمد-رحمه الله تعالى-: أريد أن أخرج إلى مكة على التوكّل بلا زاد. فقال له:

اخرج في غير القافلة. فقال: لا، إلا معهم، قال رحمه الله: فعلى جرب النّاس توكّلت!.

{فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى} أي: تزودوا ما تتبلّغون به. وتكفّون به وجوهكم عن الناس، واتّقوا إبرامهم، والتثقيل عليهم، وكذلك ما تتقون به من الهلكة، والضياع. وقيل: المعنى تزوّدوا من العبادة، والطّاعة، فإن الإنسان لا بدّ له من سفر في الدنيا، ولا بدّ له من زاد، ويحتاج فيه إلى الطّعام، والشراب

إلخ، ولا بدّ له من سفر في الدّنيا إلى الآخرة، ولا بدّ له من زاد، وهو تقوى الله، والعمل بطاعته، وهذا أفضل من الزاد الأول، فإن زاد الدنيا يوصل إلى مراد الدنيا، وشهواتها، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم، وفي هذا المعنى يقول الأعشى من قصيدته التي أعدّها لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم:[الطويل]

ص: 462

إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا

ندمت على أن لا تكون مكانه

وأنّك لم ترصد كما كان أرصدا

انظر الشاهد رقم [391] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، وانظر حياة الأعشى في كتابنا:

«فتح الكبير المتعال إعراب المعلقات العشر الطوال» تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَاتَّقُونِ} أي: خافوا عقابي، واشتغلوا بطاعتي، وتقواي، وفيه تنبيه على كمال الله جل جلاله. {يا أُولِي الْأَلْبابِ:} يا أصحاب العقول السليمة، والقلوب الفاهمة، وقد خص الله أولي الألباب بالخطاب، وإن كان الأمر يعم جميع الناس؛ لأنهم الذين قامت عليهم الحجّة، وهم العاملون بأوامر الله، المنتهون عن زواجره. وانظر الآية رقم [17] فإنه جيد.

الإعراب: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ:} مبتدأ، وخبر، وقال بعضهم: التقدير: الحج حجّ أشهر معلومات، وقيل: التقدير: وقت الحج. {مَعْلُوماتٌ:} صفة {أَشْهُرٌ} والجملة الاسمية مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها. {فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فَرَضَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، {فِيهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {الْحَجُّ:} مفعول به. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(لا): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {رَفَثَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): صلة لتأكيد النفي في الموضعين. {فُسُوقَ،} {جِدالَ:}

معطوفان على {رَفَثَ} . {فِي الْحَجِّ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر ({لا}). هذا وجه للإعراب، ويجوز اعتبار ({لا}) عاملة في الثلاثة، والجار والمجرور:{فِي الْحَجِّ} متعلقان بمحذوف خبر الأخيرة، وخبر الأولى والثانية محذوف لدلالة خبر الثالثة عليه. هذا؛ وتقرأ الأسماء الثلاثة بالرّفع، وخرج على وجهين: إهمال ({لا})، وإعمالها، فعلى الإهمال فيه أيضا وجهان: اعتبار الأول مبتدأ، والثاني، والثالث معطوفان عليه، و {فِي الْحَجِّ} متعلقان بمحذوف خبره. والوجه الثاني اعتبار الكل مبتدءات، و {فِي الْحَجِّ} خبر الثالث، وخبر الثاني والأول محذوفان لدلالة الثالث عليهما، كما يجوز اعتبار:{فِي الْحَجِّ:} خبرا للأول، وخبر الثاني، والثالث محذوفان لدلالة خبر الأول عليهما، وعلى إعمال ({لا}) عمل ليس يجوز أيضا جميع الاعتبارات التي ذكرتها في إهمالها، كما قرئ برفع الأولين، وتنوينهما، وفتح الأخير، وعلى هذه القراءة يجوز في الأولين ما ذكرته في وجهي إهمال ({لا}) وإعمالها من الاعتبارات، وتعتبر الأخيرة عاملة عمل «إنّ» والخبر لها، وخبر الأولين محذوف على جميع الاعتبارات، وخذ قول ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

وركّب المفرد فاتحا كلا

حول ولا قوّة والثّان اجعلا

ص: 463

مرفوعا أو منصوبا او مركّبا

وإن رفعت أوّلا لا تنصبا

انظر مبحث ({لا}) النافية للجنس في كتابنا: «فتح ربّ البرية» تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

وانظر شرح ابن عقيل أيضا، وجملة:(لا {رَفَثَ..}.) إلخ في محل جزم جواب الشرط، أو هي في محل رفع خبر المبتدأ على اعتبار ({مِنْ}) اسما موصولا، والجملة الاسمية على الاعتبارين معطوفة على الجملة الاسمية السابقة لا محل لها.

{وَما:} الواو: حرف عطف. ({ما}): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. {تَفْعَلُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ خَيْرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من ({ما})، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها. {يَعْلَمْهُ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله.

والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها.

{وَتَزَوَّدُوا:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. ({تَزَوَّدُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتّفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين بالواو. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {خَيْرٍ:} اسمها، و {خَيْرٍ:}

مضاف، و {الزّادِ:} مضاف إليه. {التَّقْوى:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والجملة الاسمية تعليل للأمر قبلها، لا محل لها. {وَاتَّقُونِ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. ({يا}): أداة نداء. ({أُولِي}): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وهو مضاف، و {الْأَلْبابِ:} مضاف إليه.

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاُذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ (198)}

الشرح: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ:} أي: إثم، ومؤاخذة. {أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ:} أي: رزقا، أي: ربحا بسبب التجارة. وابتغاء الفضل بمعنى التجارة. ورد في قوله تعالى في سورة (الجمعة): {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} . والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كانت عكاظ، ومجنّة، وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم، فنزلت الآية الكريمة.

ص: 464

هذا؛ و «عكاظ» نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال. و «ذو المجاز» خلف عرفة. و «مجنة» بمر الظهران، قرب جبل، يقال له: الأصفر، وهو بأسفل مكة على قدر ميل منها. وهذه أسواق للعرب، وكان أهل الجاهلية يصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنّة بعد مضي عشرين يوما من ذي القعدة، فإذا رأوا هلال ذي الحجّة؛ ذهبوا من مجنّة إلى ذي المجاز، فلبثوا فيه ثماني ليال، ثم يذهبون إلى عرفة، ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى أن كان أول ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة، لمّا خرج الحروري بمكّة مع أبي حمزة المختار بن عوف، خاف الناس أن ينتهبوا، فتركت إلى الآن، ثمّ ترك ذو المجاز، ومجنّة بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكّة، وبمنى، وعرفة.

هذا وفي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يعدّ شركا، ولا يخرج به المكلّف عن اسم الإخلاص المفترض عليه؛ ما لم يكن الباعث على التّجارة أقوى من الباعث على الحج، فقد روى الدّارقطنيّ في سننه عن أبي أمامة التيمي-رضي الله عنه-قال: قلت لابن عمر-رضي الله عنهما: إنّي رجل أكري في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون:

إنه لا حجّ لك، فقال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله مثل هذا الذي سألتني، فسكت حتى نزلت هذه الآية:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ..} . إلخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لك حجّا» .

{فَإِذا أَفَضْتُمْ:} أي: اندفعتم، يقال: أفاض الإناء: إذا امتلأ؛ حتى ينصبّ عن نواحيه.

ورجل فياض، أي: متدفق بالعطاء. قال زهير بن أبي سلمى في ممدوحه: [الطويل]

وأبيض فيّاض يداه غمامة

على معتفيه ما تغبّ فواضله

هذا؛ وفاض: لازم، وأفاض متعدّ، تقول: فاض الإناء، وأفضته، أي: ملأته. {مِنْ عَرَفاتٍ:} اسم علم سمي بلفظ الجمع كأذرعات في قول امرئ القيس، وهو الشاهد رقم [188] من كتابنا:«فتح رب البرية» إعراب شواهد جامع الدروس العربية: [الطويل]

تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عالي

فقد قرئ {عَرَفاتٍ} بالتنوين، وهي قراءة الجماعة، والتنوين هنا بمنزلة النون في مسلمين.

قال النحاس: هذا الجيد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات، يقول: هذه عرفات يا هذا، ورأيت عرفات يا هذا، ومررت بعرفات يا هذا، بكسر التاء، وبغير تنوين، قال:

لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين، وحكى الأخفش، والكوفيّون فتح التاء تشبيها بتاء فاطمة، وطلحة؛ أي: فهو ممنوع من الصرف، وانظر الكلام على بيت امرئ القيس في الكتاب المذكور؛ فإنّه جيد، والحمد لله!.

هذا؛ وسميت تلك البقعة المقدسة عرفات؛ لأنها وصفت لإبراهيم على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام، فلما رآها؛ عرفها، وقيل: إنّ جبريل عليه السلام حين كان يدور به في

ص: 465

المشاعر أراه إيّاها، فقال: قد عرفت. وقيل: لأنّ الناس يتعارفون فيها، إذا أوقفوا جميعا في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، وقيل: لأن آدم-عليه السلام-لمّا هبط في الهند، وحواء عليها السلام-هبطت بجدّة، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة، وتعارفا، فسمّي اليوم: عرفة، والموضع: عرفات. والله أعلم بحقيقة ذلك. والظاهر أنّ اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع. وعرفة هي نعمان الأراك، وفيها يقول الشاعر:[الطويل]

تزوّدت من نعمان عود أراكة

لهند، ولكن من يبلّغه هندا

وقيل: مأخوذ اسمها من العرف، وهو الطّيب. قال تعالى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم:{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ} أي: طيّبها؛ بخلاف «منى» التي فيها الفروث، والدّماء. هذا؛ والوقوف بعرفات هو الرّكن الهامّ في الحج، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«الحجّ عرفة، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحجّ» .

ووقت الوقوف بعرفة من زوال الشّمس يوم التاسع إلى طلوع الفجر صباح العيد. وانفرد الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-بجواز الوقوف من أوّل يوم عرفة، وحديث عروة بن مضرّس-رضي الله عنه-مشهور مسطور، والجمع بين الليل، والنهار في موقف عرفة سنة عند الشّافعي، وواجب عند أبي حنيفة ولازم عند مالك، وأحمد. يقول بقول الشافعي، والأحسن والأفضل الجمع بين اللّيل والنهار للتّوفيق بين جميع المذاهب، وعليه العمل الآن، فلا يدفع أحد من عرفة إلا بعد غروب الشمس. هذا؛ وتصلّى صلاة العصر مع الظّهر في يوم عرفة جمع تقديم مع القصر. هذا؛ وعرفة كلّها موقف إلا بطن عرنة، فمن وقف فيه، واقتصر عليه؛ فلا يصحّ حجّه.

{فَاذْكُرُوا اللهَ:} أي: بالدعاء، والتلبية، والتهليل، والتكبير. {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ:}

جبل صغير في المزدلفة، يقال له: قزح. والمشعر: المعلم؛ لأنه معلم للعبادة، وصف بالحرام لحرمته، وتعظيمه، وسميت تلك الأرض: المزدلفة، وجمعا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها؛ أي: ودنا منها. أو لأن الحاج يجمع فيها بين صلاتي المغرب، والعشاء جمع تأخير مع قصر العشاء فقط، أو لأن الناس يزدلفون فيها إلى الله، يتقرّبون بالوقوف، والدّعاء فيها. والمبيت بمزدلفة يدخل وقته بنصف ليلة العيد إلى طلوع الفجر، وليس ركنا من أركان الحج، فمن فاته الوقوف فيه يذبح شاة، انظر الدماء في الآية رقم [196]. ومزدلفة كلها موقف إلا بطن محسّر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عرفة كلّها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلّها موقف، وارتفعوا عن بطن محسّر» . أخرجه مالك في موطّئه.

{وَاذْكُرُوهُ:} بالدعاء والتلبية

إلخ. {كَما هَداكُمْ:} أي: لهدايتكم، أو لهدايته إيّاكم، إلى الخير، والأعمال الصّالحة. ففيه تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية، والبيان، والإرشاد إلى مشاعر الحجّ، على ما كان عليه من الهداية لإبراهيم الخليل، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ولهذا قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ} أي: من

ص: 466

قبل البيان والهدى، أو من قبل القرآن، أو من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم والكل متقارب، ومتلازم، وصحيح المعنى.

خاتمة: يوم عرفة فضله عظيم، وثوابه جسيم، يكفّر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصّالح من الأعمال. روى مسلم-رحمه الله تعالى-عن أبي قتادة-رضي الله عنه-قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة، فقال:«يكفّر ذنوب السّنة الماضية، والقابلة» . وفي رواية:

«أحتسب على الله أنّ يكفّر

إلخ».

وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا، والنّبيّون من قبلي: لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له» .

وروى الدّارقطنيّ-رحمه الله تعالى-عن عائشة-رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النّار من يوم عرفة، وإنّه ليدنو عز وجل، ثمّ يباهي بهم الملائكة، يقول: ما أراد هؤلاء؟» .

وفي الموطأ عن عبيد الله بن كريز-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلاّ لما رأى من تنزّل الرّحمة، وتجاوز الله عن الذّنوب العظام؛ إلاّ ما أري يوم بدر» قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟! قال: «أما إنّه قد رأى جبريل يزع الملائكة» . أي: يصفّهم، ويسويهم، ويهيّئهم للحرب.

ولقد تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح بالمزدلفة، فقال له أبو بكر، وعمر-رضي الله عنهما:

إنّ هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك؟ أضحك الله سنّك! قال:«إنّ عدوّ الله، إبليس لمّا علم أنّ الله قد استجاب لي دعوتي، وغفر لأمّتي؛ أخذ التراب، فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثّبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه» .

هذا؛ وحديث عروة بن مضرّس الطائي-رضي الله عنه-قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله! إنّي جئت من جبل طيئ، فأكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه! فهل لي من حجّ يا رسول الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من صلّى معنا صلاة الغداة بجمع، وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا، أو نهارا؛ فقد قضى تفثه، وتمّ حجّه» . أخرجه غير واحد من الأئمّة، منهم: أبو داود، والنّسائي، وأحمد، والدّارقطنيّ، وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.

الإعراب: {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} تقدّم على اسمها. {جُناحٌ:} اسمها مؤخّر، {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.

{تَبْتَغُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ} والفعل:{تَبْتَغُوا} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر

ص: 467

محذوف، التقدير: في ابتغاء فضله، والجار، والمجرور متعلّقان ب {جُناحٌ} أو بمحذوف صفة له. وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: المصدر المؤول في محل نصب خبر: {لَيْسَ،} وقدّر:

في أن تبتغوا، وسكت عن تعليق:{عَلَيْكُمْ} وهو ضعيف، والمعتمد ما قدّمته، وهو ما جريت عليه في مثل ذلك في سورة (النساء) وسورة (النور) وغيرهما، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين. {فَضْلاً:} مفعول به. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب: {فَضْلاً} أو بمحذوف صفة له، وجوز تعليقهما بالفعل قبلهما، وهو ضعيف، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَإِذا:} الفاء: حرف عطف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب. {أَفَضْتُمْ:} فعل وفاعل، ومفعول محذوف، التقدير: أفضتم أنفسكم، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {مِنْ عَرَفاتٍ:} متعلقان بما قبلهما. {فَاذْكُرُوا:} الفاء:

واقعة في جواب (إذا). (اذكروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {عِنْدَ:}

ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. و {عِنْدَ:} مضاف، و {الْمَشْعَرِ} مضاف إليه. {الْحَرامِ:}

صفة له، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف، لا محل له على الاعتبارين، وجملة:({اُذْكُرُوهُ}): معطوفة على جواب (إذا) ومؤكدة له توكيدا لفظيّا.

{كَما:} الكاف: حرف تشبيه، وجر، وقيل: الكاف للتعليل، قيل: هي بمعنى: «على» وقيل: هي كافة ل (ما) وليس بشيء. (ما): مصدرية. {هَداكُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهَ} والكاف مفعول به، و (ما) والفعل:(هدى) في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، التقدير: اذكروا الله ذكرا مشابها لهدايتكم. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، التقدير: اذكروه مشبهين لكم حين هداكم، وعلى اعتبار الكاف للتعليل، أو بمعنى «على» فالجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{وَإِنْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْ}): مخففة من الثقيلة مهملة، وقيل: هي نافية، وقيل: هي بمعنى «قد» ، {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص، مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنْ قَبْلِهِ:}

متعلقان بمحذوف، يدل عليه ما بعده، التقدير: ضالّين من قبله، ولا يجوز تعليقهما بما بعدهما؛ لأنّ ما بعد «ال» الموصولة، لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي من يتوسع في الظرف، والجار والمجرور. {لَمِنَ:} اللام: هي الفارقة بين المخفّفة، والنافية، وهي بمعنى «إلا» عند الكوفيين، وصلة على اعتبار (إن) بمعنى «قد». (من {الضّالِّينَ}): متعلقان بمحذوف خبر (كان)، وجملة:({إِنْ كُنْتُمْ..}.) إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو، والضمير.

ص: 468

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَاِسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}

الشرح: {ثُمَّ أَفِيضُوا..} . إلخ: الخطاب لقريش المسمّون في الجاهلية الحمس، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة، وهي من الحرم، وكانوا يقولون:

نحن قطين الله، فينبغي لنا أن نعظّم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم، وإقرارهم: أنّ عرفة موقف إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-لا يخرجون من الحرم، ويقفون ب «جمع» ويفيضون منه، ويقف الناس ب «عرفة» فقيل لهم: أفيضوا مع الناس.

وقال الضحاك-رحمه الله تعالى-: المخاطب بالآية جميع الأمّة، والمراد بالناس: إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [173]:{الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} فالمراد بالناس الأولى: شخص واحد. انظر الآية هناك، فإنّه جيد، والحمد لله!.

فلمّا جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفة، فيقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى:{مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ} والمراد بالإفاضة هاهنا الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار، وهذا بعد الإفاضة من عرفة، ويحتمل أن يكون المراد: ثمّ أفيضوا من عرفة

إلخ.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ وقرئ: («من حيث أفاض النّاس») بكسر السين، يريد آدم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وهي صفة غلبت عليه، كالعباس، والحارث، ودلّ عليه قوله تعالى في سورة (طه):{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} . {وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ:} اطلبوا منه المغفرة. والسين، والتاء للطلب، وذلك لمخالفتكم في الموقف، ونحو ذلك ممّا كنتم تفعلونه في جاهليتكم، أو من تقصيركم في أعمال الحجّ. هذا؛ و «استغفر» يتعدّى لاثنين، أولهما بنفسه، والثاني ب «من» نحو: استغفرت الله من ذنبي، وقد يحذف حرف الجر، كقول الشاعر، وهو الشاهد رقم [486] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [البسيط]

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

فائدة: كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات، كما في هذه الآية؛ حيث أمر بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة، والإفاضة منها، وقد ثبت في صحيح مسلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر ثلاثا، وفي الصّحيحين: أنّه ندب إلى التسبيح، والتحميد، والتكبير ثلاثا وثلاثين بعد كلّ صلاة، وقد روى ابن جرير-رحمه الله تعالى-استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة. وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أن أبا بكر-رضي الله عنه-قال: يا رسول الله! علّمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: «قل: اللهمّ إنّي ظلمت نفسي

ص: 469

ظلما كثيرا، ولا يغفر الذّنوب إلاّ أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم». وطلب الاستغفار بعد أداء العبادات لأمرين: أولهما: لعلّه يحصل تقصير في أداء العبادات، أو يحصل خلل فيها، ولا يعلم العبد، والأمر الثاني: أنّ طلب المغفرة بعد أداء العبادة يكون أرجى للقبول، وأبلغ في وصول المأمول.

علما بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم-وجزاه الله عنا خير الجزاء-قد حثّنا على الاستغفار في جميع الحالات، وفي جميع الأوقات، فعن شداد بن أوس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«سيّد الاستغفار أن يقول العبد: اللهمّ أنت ربي لا إله إلاّ أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة، فمات في ليلته؛ دخل الجنّة، ومن قالها في يومه، فمات؛ دخل الجنّة» . رواه البخاري، والنّسائي، والترمذي. وليس لشداد في البخاريّ غير هذا الحديث.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لزم الاستغفار؛ جعل الله له من كلّ همّ فرجا، ومن كلّ ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» . رواه أبو داود، والنّسائي، وابن ماجة، والحاكم، والبيهقي.

وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلّكم على دائكم، ودوائكم؟ ألا إنّ داءكم الذّنوب، ودواءكم الاستغفار» . رواه البيهقي، وغير ذلك كثير. انظر الترغيب، والتّرهيب للحافظ المنذري.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَفِيضُوا:} فعل أمر، وفاعله، والألف للتّفريق، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {مِنْ:} حرف جر. {حَيْثُ:} اسم مبني على الضم في محل جر ب {مِنْ} والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما. {أَفاضَ النّاسُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{حَيْثُ} إليها، وجملة:{وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، والجملة الاسمية:

{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها.

{فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)}

الشرح: {فَإِذا قَضَيْتُمْ..} . إلخ: أديتم أعمال حجّكم من الوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، والطواف بالكعبة، والحلق، وانتهيتم من ذلك. وانظر شرح

ص: 470

{قَضى} في الآية رقم [117]. هذا؛ ومناسك: جمع منسك بفتح السين، وكسرها، وهو مصدر ميمي، أو اسم مكان، والأول أرجح، وانظر الآية رقم [128]. {فَاذْكُرُوا اللهَ} بالتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والتقديس، والتعظيم. {كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ:} اختلف في معناه، فقال عطاء: هو كما يلهج الصّبيّ بذكر أبيه، وأمّه، فكذلك أنتم الهجوا بذكر الله بعد قضاء النّسك. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويتحمّل الدّيات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمّد صلى الله عليه وسلم الآية. وقول آخر لابن عباس: هو أن تغضب لله تعالى؛ إذا عصي أشدّ من غضبك لوالديك إذا شتما. و {أَوْ:} للتخيير، والإباحة.

{فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا..} . إلخ قال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا، فأنزل الله فيهم الآية. انتهى. والسبب في ذلك: أنّهم كانوا لا يعرفون الآخرة، ولا يؤمنون بها، فنهوا عن ذلك الدّعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم، ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن إذا قصر دعواته في الدنيا، على هذا. {وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي: كخلاق الذي يسأل الآخرة. والخلاق: الحظ، والنصيب.

الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية السابقة. {قَضَيْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح.

{مَناسِكَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، وهناك مضاف محذوف، انظر تقديره في الشّرح. {فَاذْكُرُوا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (اذكروا): فعل أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {كَذِكْرِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: اذكروا الله ذكرا مشابها لذكر آبائكم، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: اذكروا الله مشبهين لكم حين ذكركم آباءكم، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {آباءَكُمْ:} مفعول به للمصدر، والكاف في محل جر بالإضافة، والميم في الجميع حرف دال على جماعة الذكور. {أَوْ:}

حرف عطف. {أَشَدَّ:} معطوف على (ذكر) المجرور، فهو مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للصفة، ووزن أفعل، أو هو معطوف على الكاف المضاف إليه، وذلك على اللفظ، فهو مجرور أيضا، أو هو معطوف على:{آباءَكُمْ} فهو منصوب، أو هو منصوب بمضمر دل عليه المعنى؛ تقديره: أو كونوا أشدّ. انتهى. بيضاوي،

ص: 471

وعكبري بتصرف. وعلى هذا ف {ذِكْراً:} تمييز. وقال الجلال، وتبعه الجمل: ونصب {أَشَدَّ} على الحال من ({ذِكْراً}) المنصوب ب (اذكروا) إذ لو تأخر عنه؛ لكان صفة له، وتفسيره:

أنّ ({أَشَدَّ}) حال ممّا بعده، كان صفة له، فلما تقدّم عليه؛ صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدّم عليها؛ صار حالا» ، وعلى هذا ف (ذكرا) مفعول مطلق للفعل:(اذكروا) وهو قول أبي حيّان أيضا، ولم يرتضه ابن هشام في المعنى.

{فَمِنَ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (من {النّاسِ}): متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر.

{يَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} والجملة صلتها، أو صفتها. هذا هو الإعراب الظاهر في مثل ذلك، ولا أعتمده، وإنّما أعتمد ما ذكرته في الآية رقم [8]. {رَبَّنا:}

منادى، حذف حرف النداء، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {آتِنا:} فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت، و (نا): مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف. انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول كالجملة الندائية قبلها. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما والجملة الاسمية: {فَمِنَ النّاسِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَما:} الواو: واو الحال. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما من تعدّد الخبر، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {مَنْ:} حرف جر صلة. {خَلاقٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية:{وَما لَهُ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل: {يَقُولُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ (201)}

الشرح: {وَمِنْهُمْ مَنْ..} . إلخ: هذا فريق غير الفريق الأول، الّذي طلب الدنيا، ومتاعها، وملذاتها، وشهواتها. {وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} لأنّ همّه مقصور على الدّنيا؛ لأنه لا يؤمن بالآخرة. وأمّا هذا الفريق، فإنّه يطلب الصحة، والكفاف من الرزق، والتوفيق لعمل الخير في الدّنيا، ويطلب الأجر، والثواب في الآخرة، كما يطلب الوقاية من النّار، وذلك بالحفظ من المعاصي، والذنوب المؤدية إلى النّار.

ص: 472

فقد جمعت الدعوة في هذه الآية كلّ خير في الدنيا، وصرفت كل شرّ، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كلّ مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة صالحة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وجار صالح، وثناء جميل، وغير ذلك، وأما الحسنة في الآخرة؛ فأعلى ذلك دخول الجنّة، وما فيها من النعيم المقيم، والأمن من الفزع الأكبر في عرصات القيامة، وتيسير الحساب، وغير ذلك من الأمور الآخرة الصّالحة. وأما النّجاة من النّار؛ فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدّنيا، من اجتناب المحارم، والمآثم، وترك الشّبهات وأكل الحرام.

عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«أربع من أعطيهنّ؛ فقد أعطي خيري الدّنيا والآخرة: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا في نفسها، وماله» . رواه الطّبراني بإسناد جيد.

ولهذا وردت السنة بالتّرغيب بالدّعاء في هذه الآية، فقال البخاريّ-رحمه الله تعالى-عن أنس-رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النّار» ، وكان أنس-رضي الله عنه-إذا أراد أن يدعو بدعوة؛ دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء؛ دعا بها فيه.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّ عند الرّكن اليماني ملكا قائما منذ خلق الله السّماوات والأرض، يقول: آمين، فقولوا:{رَبَّنا آتِنا..} . إلخ. وسئل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني، وهو يطوف بالبيت، فقال: حدثني أبو هريرة-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكّل به سبعون ملكا، فمن قال: اللهمّ إنّي أسألك العفو والعافية في الدّنيا والآخرة، ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار؛ قالوا: آمين» . أخرجه ابن ماجة في السّنن.

بعد هذا؛ ف ({قِنا}) من الوقاية، وهي التّحرّز من المهالك في الدنيا، والآخرة، فهو فعل دعاء، وصيغته صيغة أمر، فهو من: وقى، يقي اللفيف المفروق، فتحذف فاؤه من المضارع مثل كلّ فعل مثال، مثل: وعد، يعد، و: وزن، يزن

إلخ، والأمر منه: اوقنا، حذفت منه الواو، كما حذفت من مضارعه، واستغني عن همزة الوصل لتحرك الحرف المبدوء به، وتحذف لامه مع فائه لبنائه على حذف حرف العلّة، مثل كل فعل ناقص معتل الآخر، مثل: اسع، وادع، وارم، فيبقى فعل الأمر باللفظ حرفا واحدا (ق) ومثله: وعى، يعي، ع، ووفى، يفي، ف، وولي، يلي، ل، ووطى، يطي، ط. وإذا لم يتصل به ضمير؛ تلحقه هاء السكت، فتقول: فه، قه، له عه، طه، وبه يلغز، فيقال:[الرجز]

في أيّ لفظ يا نحاة الملّه

حركة قامت مقام الجمله؟

الإعراب: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية السابقة. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:

ص: 473

{حَسَنَةً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا

إلخ. {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً:} معطوف على ما قبله عطف مفردات، أو هو على تقدير فعل محذوف، فيحصل جملة تعطف على ما قبلها. ({قِنا}): فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، هو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت. و (نا) مفعول به أول. {عَذابَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {النّارِ} مضاف إليه، وجملة:{وَقِنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.

{أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)}

الشرح: {أُولئِكَ:} الإشارة إلى الفريقين المذكورين، فللمؤمن الصّالح ثواب علمه، ودعائه، وللكافر، والفاجر، والفاسق عقاب سوء عمله، وقصر نظره إلى الدّنيا. وهو مثل قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [132]:{وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا} . وقيل: يرجع إلى الفريق الثاني فقط، والأول أولى. {لَهُمْ نَصِيبٌ:} حظّ من الخير، أو من الشرّ. {مِمّا كَسَبُوا:} أي:

من جنس ما عملوا، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشر، فالفريق الأول يستحق النار، وما فيها من المقت، والنّكال، والفريق الثاني يستحق الجنّة، وما فيها من النّعيم المقيم؛ الذي لا يزول.

{وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ:} لا يحتاج إلى عدّ، ولا إلى عقد، ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحسّاب، ولهذا قال تعالى في سورة (الأنبياء):{وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه يوم الخندق: «اللهمّ منزّل الكتاب، سريع الحساب

إلخ» والمعنى: أنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن. فكما يرزقهم في ساعة واحدة؛ يحاسبهم لذلك في ساعة واحدة، قال تعالى:

{ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} رقم [28] من سورة (لقمان)، وقيل للإمام علي-رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا أخذ في حسابهم؛ لم يقل أهل الجنة إلا فيها، ولم يقل أهل النار إلا فيها. هذا؛ ويقيل: من القيلولة، وهي الاستراحة وقت الظهيرة، ومعنى الحساب، وفائدته تعريف الله العباد مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إيّاهم بما قد نسوه؛ بدليل قوله تعالى في سورة (المجادلة):{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} .

هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-في تفسير قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ..} . إلخ: هو الرّجل يأخذ مالا يحجّ به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الآية: أن رجلا قال:

يا رسول الله! مات أبي، ولم يحجّ، أفأحجّ عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«لو كان على أبيك دين، فقضيته، أما كان ذلك يجزي؟» قال: نعم، قال:«فدين الله أحقّ أن يقضى» . قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله تعالى: {أُولئِكَ..} . إلخ، يعني: من حجّ عن ميّت؛ كان الأجر بينه، وبين الميّت.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 474

هذا والحاج عن غيره عند الشافعي لا يجوز حتّى يكون قد قضى الحج عن نفسه أولا، وعند غيره يجوز أن يحجّ عن غيره، ولو لم يكن قد أدى فرضه، وقالوا: كلّ من لم يراع مصالحه في الدنيا يصحّ أن ينوب عن غيره في مثلها، فتتم لغيره، وإن لم تتم له لنفسه، ويزوّج غيره، وإن لم يزوّج نفسه؛ أي: وإن كان غير متزوّج.

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. والكاف حرف خطاب. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {نَصِيبٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر {أُولئِكَ} فيكون:{نَصِيبٌ} فاعلا بمتعلق الجار والمجرور، التقدير: أولئك ثابت لهم نصيب. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان ب {نَصِيبٌ،} أو بمحذوف صفة له، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {كَسَبُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو من شيء كسبوه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، التقدير:

نصيب من كسبهم، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (الله): مبتدأ.

{سَرِيعُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْحِسابِ:} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ التقدير: سريع حسابه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.

{وَاُذْكُرُوا اللهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}

الشرح: {وَاذْكُرُوا اللهَ:} بالتكبير مع قطع التلبية. {فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ:} انظر الآية رقم [184]. والمراد: التكبير في أدبار الصلوات، وعند ذبح القرابين، وعند رمي الجمار، وغيرها في أيام التشريق، وهي الأيام التي تلي يوم الأضحى، ويبدأ التكبير عقب الصلوات من صبح يوم عرفة، وينتهي بعد صلاة العصر في اليوم الثالث من أيام التّشريق عند الشّافعيّ، وعليه العمل في هذه الأيام. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الحج) رقم [28]:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} فأيام الرّمي معدودات، وأيام النّحر معلومات، وروى نافع عن ابن عمر-رضي الله عنهما: أنّ الأيام المعدودات، والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام، يوم النحر، وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم، وإنّما كان كذلك؛ لأنّ الأول ليس من الأيام التي تختص بمنى، والأضحية جائزة في يوم النّحر العيد، وثلاثة بعده، وهذه الأيام لا يجوز صومها لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم:«أيّام التّشريق أيّام أكل، وشرب، وذكر لله» أخرجه مسلم، وأحمد، رحمهما الله تعالى.

ص: 475

{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} أي: نفر من منى إلى مكّة في اليوم الثاني من أيام التشريق. {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ:} فلا مؤاخذة عليه بشرط أن ينفر قبل الغروب، ويرمي فيه بعد الزوال عند الأئمة الثلاثة، إلا أبا حنيفة فإنّه يجيز الرّمي قبل الزوال، بخلاف الرمي يوم العيد، فإنّه يدخل وقته بنصف ليلة النّحر. {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: تأخر في الخروج من منى إلى اليوم الثالث من أيام التشريق؛ فلا حرج، ولا جناح عليه. وينبغي أن تعلم: أن المبيت بالمزدلفة، وبمنى، والرّمي في يوم العيد، وفي اليوم الثاني بعده، والثالث: وهو الثاني من أيام التّشريق واجب، فمن ترك شيئا من ذلك فعليه دم، انظر ما ذكرته في الدّماء في الآية رقم [196]. {لِمَنِ اتَّقى} الله في حجّه بأن قام بشرطه، وأركانه، وواجباته، وآدابه.

{وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا..} . إلخ؛ أي: خافوا الله، وأيقنوا: أنكم مجموعون إليه للحساب، والجزاء، فيجازيكم بأعمالكم، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ. هذا؛ وأصل:({اِتَّقى}) و ({اِتَّقُوا}) اوتقى، واوتقوا، فقلبت الواو تاء، وأدغمت التاء بالتاء.

تنبيه: يكثر النهي في القرآن الكريم عن العجلة، واستعجال الشيء قبل أوانه، وهذا النهي أكثر ما يوجّه للكافرين الذين طلبوا استعجال العذاب، وقد يوجه إلى بني آدم جميعا، وقد توجّه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سورة (طه) رقم [114] وفي سورة (القيامة) أيضا. بينما حث الله تعالى على المسارعة إلى فعل الطاعات، فقال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [133]:{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وقال جل ذكره في سورة (الحديد) رقم [21]: {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} كما وصف أنبياءه، ورسله بأنهم {كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} في الآية رقم [90] من سورة (الأنبياء) وهذا لا يناقض ما ورد:«العجلة من الشّيطان، والتّأنّي من الرّحمن» . وقال الشاعر: [البسيط]

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

لأن المسارعة إلى الطّاعات مستثناة من ذلك، كما أنّ هناك أمورا تسن المبادرة إلى فعلها كأداء الصلاة المكتوبة إذا دخل وقتها، وقضاء الدين بحق الموسر، وتزويج البكر البالغ إذا أتى الكفؤ، ودفن الميت، وإكرام الضيف إذا نزل. وخذ ما يلي: فعن عليّ-رضي الله عنه، وكرّم الله وجهه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ! ثلاث لا تؤخّرها: الصّلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت كفؤا» . أخرجه الترمذي، وجاء في الشّعر العربي الحثّ على العجلة، قال بشار بن برد الأعمى:[البسيط]

من راقب النّاس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطّيّبات الفاتك اللهج

ص: 476

واختصره سلم الخاسر، فقال:[مخلّع البسيط]

من راقب النّاس مات همّا

وفاز باللذّة الجسور

ونسب للأعشى، ولغيره ما يلي:[البسيط]

وربّما فات قوما جلّ أمرهم

من التّأنّي وكان الجزم لو عجلوا

ف «لو» مصدرية، والتقدير، وكان الحزم تعجيلهم. وقال آخر:[البسيط]

وربّما ضرّ بعض النّاس بطؤهم

وكان خيرا لهم لو أنّهم عجلوا

الإعراب: ({اُذْكُرُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {فِي أَيّامٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مَعْدُوداتٍ:} صفة {أَيّامٍ} . {فَمَنْ:} الفاء: حرف عطف وتفريع. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَعَجَّلَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {فِي يَوْمَيْنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» .

{إِثْمَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا) والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرت مرارا، والجملة الاسمية:{فَمَنْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية:{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ:} في محل رفع خبرها، وزيدت الفاء في خبرها؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم.

{وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ:} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها بلا فارق، ومتعلق الفعل:{تَأَخَّرَ} محذوف لدلالة المقام عليه، وانظر الشرح. {لِمَنِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الذي ذكر من التأخير، أو من الأحكام لمن اتقى. وقدّر مكي رحمه الله تعالى: المغفرة لمن اتقى المحرّمات. وقيل: تقديره: الإباحة في التأخير، والتعجيل لمن اتقى. و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة.

{اِتَّقى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (من) والمفعول محذوف، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها، والجملة الاسمية التي رأيت تقديرها في محل نصب حال مؤكدة لمضمون الكلام السابق برمّته.

{وَاتَّقُوا:} الواو: حرف عطف. (اتقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله،

ص: 477

والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

({اُذْكُرُوا..}.) إلخ لا محل لها مثلها. {وَاعْلَمُوا:} أمر، وفاعله. {أَنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {تُحْشَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنَّكُمْ،} و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي: ({اِعْلَمُوا})، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204)}

الشرح: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ:} يروقك، ويعظم في نفسك ما يقوله. هذا؛ والعجب-بفتح العين، والجيم-: انفعال نفساني، يعتري الإنسان عند استعظامه، أو استطرافه، أو استنكاره ما يرد عليه، ويشاهده. وقال الراغب-رحمه الله تعالى-: العجب: حيرة تعرض للإنسان بسبب الشيء، وليس هو شيئا له في ذاته حالة حقيقية، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب، ومن لا يعرفه، وحقيقة: أعجبني كذا: ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه، انتهى جمل نقلا من السّمين. والعجب-بضم العين، وسكون الجيم-: رؤية النفس، وهو نوع من الكبر، وهو من المهلكات، ففي حديث أنس-رضي الله عنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم:«وثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه» رواه البيهقي. وعنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو لم تذنبوا؛ لخشيت عليكم ما هو أكبر منه: العجب» . رواه البزار بإسناد جيد.

({يُشْهِدُ اللهَ}): يحلف كذبا، ويشهد الله على أنّ ما في قلبه موافق للسانه؛ أي: يظهر الإيمان بلسانه، ثم يظهر منه خلاف ذلك. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ:} شديد الخصومة، والعداوة لك يا محمد، ولصحابتك الكرام. هذا؛ و {أَلَدُّ} صفة مشبّهة، واللّدد: شدة الجدال، ورجل ألدّ، وامرأة لدّاء، وهم أهل لدد، قال الشاعر:[الكامل]

وألدّ ذي حنق عليّ كأنّما

تغلي عداوة صدره في مرجل

وقال آخر: [الخفيف]

إنّ تحت التّراب عزما وحزما

وخصيما ألدّ ذا مغلاق

هذا؛ وقال تعالى في سورة مريم-على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام-:{فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنّ أبغض الرّجال إلى الله، الألدّ الخصم» . رواه البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ، والنّسائيّ عن عائشة، رضي الله عنها.

ص: 478

و {الْخِصامِ:} مصدر: خاصم، يخاصم، وقال الخليل، رحمه الله تعالى، وقال الزجاج: هو جمع: خصم، كصعب، وصعاب، وضخم، وضخام. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما» . رواه الترمذي، رحمه الله تعالى. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه؛ إلاّ أوتوا الجدل، ثمّ قرأ: {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» }. رواه الترمذي، وابن ماجة.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة، والتي بعدها في الأخنس بن شريق الثقفي، واسمه أبيّ، والأخنس لقب لقّب به؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ستعرفه في سورة (آل عمران) كان منافقا حسن المنظر، حلو الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء بعد ذلك، فأظهر الإسلام، وقال: الله يعلم أنه صادق، ويحلف بالله: أنه مؤمن برسالته، ومحبّ له، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرّبه، ويدني مجلسه، ولكن الله تعالى قد كذّبه في دعواه، فقد مرّ بزرع، وحمر لبعض المسلمين، فأحرقه، وأحرقها، كما بينت الآية التالية. وهذا وأمثاله من المنافقين، والكذابين يطلق عليهم في عرف الشّرع الإسلامي: أصحاب الوجهين، واللّسانين، وما أكثرهم في هذا الزمن! وخذ ما يلي:

عن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ذو الوجهين في الدّنيا، يأتي يوم القيامة؛ وله وجهان من نار» . رواه الطبرانيّ في الأوسط. وعن عمار بن ياسر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له وجهان في الدّنيا؛ كان له يوم القيامة لسانان من نار» . رواه أبو داود، وابن حبان. وعن أنس-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان ذا لسانين؛ جعل الله له يوم القيامة لسانين من نار» . رواه الطبرانيّ، وغيره.

ورحم الله صالح بن عبد القدّوس؛ إذ يقول: [الكامل]

لا خير في ودّ امرئ متقلّب

حلو اللّسان وقلبه يتلهّب

يلقاك يحلف أنّه بك واثق

وإذا توارى عنك فهو العقرب

يعطيك من طرف اللّسان حلاوة

ويروغ منك كما يروغ الثّعلب

الإعراب: {وَمِنَ النّاسِ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف، ({مِنَ النّاسِ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. هذا هو الإعراب المتعارف عليه وهو الظاهر، ولا أعتمده، وإنما أعتمد ما ذكرته في الآية رقم [8]. {يُعْجِبُكَ:} فعل مضارع، والكاف مفعول به. {قَوْلُهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة:{مِنَ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والجملة الاسمية:{وَمِنَ النّاسِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {فِي الْحَياةِ} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان ب:

ص: 479

{قَوْلُهُ} لأنه مصدر. {الدُّنْيا:} صفة: {الْحَياةِ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. ({يُشْهِدُ}) مضارع، والفاعل يعود إلى {مِنَ} {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {عَلى ما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي قَلْبِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:({يُشْهِدُ..}.) إلخ معطوفة على جملة:

{يُعْجِبُكَ..} . إلخ. كذا قيل، والأولى أن تكون في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وهو يشهد

إلخ، وهذه الجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{يُعْجِبُكَ} المستتر، والرابط الواو والضمير، وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ محذوف؛ لأن الجملة المضارعية المقترنة بالواو لا تقع حالا، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

وذات بدء بمضارع ثبت

حوت ضميرا ومن الواو خلت

وذات واو بعدها انو مبتدا

له المضارع اجعلنّ مسندا

{وَهُوَ:} الواو: حرف عطف. ({هُوَ}): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

{أَلَدُّ:} خبره، وهو مضاف، و {الْخِصامِ} مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، فهي من تعدّد الحال، وهو جملة. وإن اعتبرتها حالا من فاعل:(يشهد) فهي حال متداخلة.

{وَإِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205)}

الشرح: {وَإِذا تَوَلّى:} أدبر، وانصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج. وانظر الآية رقم [64]. {سَعى فِي الْأَرْضِ:} أي: مشى بقدميه في الأرض؛ ليستعمل مكره، ودهاءه، وإدارة الدّوائر على الإسلام، وأهله. وهذا كان منه بعد إلانة القول، وحلاوة المنطق.

{لِيُفْسِدَ فِيها:} بقطع الأرحام، وسفك دماء المسلمين. {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ:} الزرع.

{وَالنَّسْلَ:} الحيوانات التي تتوالد. وذلك: أن الأخنس الخبيث، كان بينه وبين بني ثقيف خصومة، فبيّتهم، فأحرق زروعهم، وأهلك مواشيهم؛ التي كانت متروكة في تلك الزروع. وانظر الآية السابقة.

وقيل: المعنى: إذا صار واليا، وملك رقاب الناس؛ سعى في الأرض؛ ليفسد فيها بالظلم، والعدوان، كما يفعل ولاة السوء، والظلمة. وعلى كلّ فالآية عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات في كل زمان، ومكان؛ لأن خصوص السبب، لا يمنع التعميم. {وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ،} أي: لا يرضى بالإيذاء، والضرر، والضرر قرين الشرك بالله.

ص: 480

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. ({إِذا}): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب.

{تَوَلّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر، يعود إلى (من) تقديره: هو، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على القول المشهور المرجوح، وجملة:{سَعى فِي الْأَرْضِ} جواب ({إِذا})، لا محل لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، ويجوز عطفه على جملة:{يُعْجِبُكَ..} . إلخ في الآية السابقة، فيكون من جملة الصلة، أو الصفة مثلها:{لِيُفْسِدَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، {فِيها:} جار ومجرور متعلقان به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{سَعى} .

{وَيُهْلِكَ:} معطوف على: (يفسد) منصوب مثله، والفاعل يعود إلى «من» أيضا. {الْحَرْثَ:}

مفعول به. {وَالنَّسْلَ:} معطوف عليه. {وَاللهُ:} الواو واو الحال، ({اللهُ}) مبتدأ. {لا:} نافية.

يحب: فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {الْفَسادَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} والرابط: الواو فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

{وَإِذا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ..} . إلخ: أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله، وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عما أنت عليه من التلوّن، وارجع إلى الحق؛ امتنع، وأبى، وأخذته الحميّة، والغضب بالإثم. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: هذه صفة الكافر، والمنافق الذّاهب بنفسه زهوا، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في بعض هذا. وقال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك. وروي: أنه قيل لعمر رضي الله عنه: اتق الله، فوضع خده على الأرض تواضعا لله تعالى. لكن في هذه الأيام إذا قيل لأحدهم: هذا لا يحله الشرع، وإن أحله القانون؛ يقول: هو لا يؤمن بهذا الشرع.

هذا؛ و {الْعِزَّةُ:} القوة، والغلبة، من: عزّه، يعزه: إذا غلبه، قال تعالى في سورة (النساء) رقم [139]:{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} وقال تعالى في سورة (فاطر) رقم [10]:

{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} وفي سورة (المنافقون) رقم [8]: {وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والعزة في هذه الآية: الحمية، والأنفة، ومنه قول الشاعر:[الرمل]

أخذته عزّة من جهله

فتولّى مغضبا فعل الضّجر

ص: 481

وقال تعالى في سورة (ص): {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ} . ذكر: أنّ يهوديّا كانت له حاجة عند هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه سنة، فلم يقض حاجته، فوقف على الباب يوما، فلما خرج هارون؛ سعى؛ حتى وقف بين يديه، وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين! فنزل هارون عن دابته، وخرّ ساجدا، فلمّا رفع رأسه؛ أمر بحاجته، فقضيت، فلمّا رجع قيل له: يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك لقول يهودي، قال: لا ولكن تذكّرت قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ..} .

إلخ. {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ:} كافيه معاقبة، وجزاء جهنم، كما تقول للرجل: كفاك ما حلّ بك.

{وَلَبِئْسَ الْمِهادُ:} الفراش؛ أي: ما يفترشه في الآخرة، والمهاد: جمع. المهد، وهو الموضع المهيّأ للنوم، ومنه مهد الصبي، قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [46]:{وَيُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ} . وفي هذه الجملة تهكم بالمنافقين، والكافرين، حيث جعلت لهم جهنم غطاء، ووطاء، فأكرموا بذلك، كما تكرم الأمّ ولدها بالغطاء، والوطاء اللّينين.

الإعراب: {وَإِذا:} مثل الآية السابقة. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {اِتَّقِ:} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل تقديره: أنت. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل رفع نائب فاعل:{قِيلَ،} وانظر ما ذكرته فيما مضى كثيرا.

{أَخَذَتْهُ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الْعِزَّةُ:} فاعله، والجملة الفعلية جواب:({إِذا}) لا محل لها، و ({إِذا}) ومدخولها معطوف على مثله في الآية السابقة:{بِالْإِثْمِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضّمير المنصوب.

{فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ:} الفاء: أراها الفصيحة. (حسبه جهنم): مبتدأ، وخبر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدّر ب «إذا» ، التقدير: وإذا كان ما ذكر شأنه، وحاله؛ فحسبه جهنم. والجملة الشرطية هذه مستأنفة، لا محل لها.

و {وَلَبِئْسَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة جوابا لقسم مقدر. (بئس): فعل ماض جامد لإنشاء الذم. {الْمِهادُ:} فاعله، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: المذمومة هي، أو جهنم. والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين بالواو.

{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)}

الشرح: لما ذكر الله صنيع المنافقين؛ ذكر بعده صنيع المؤمنين الصّادقين. هذا؛ وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية أقوال كثيرة، وروايات مختلفة، والمعتمد: أنها نزلت في صهيب بن سنان بن

ص: 482

مالك الرّومي، وهو عربي الأصل سباه الرّوم، وهو صغير، فجلب إلى مكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان. وقيل: بل هرب من الرّوم، فقدم مكة، وحالف ابن جدعان، وكان-رضي الله عنه-من السّابقين إلى الإسلام، شهد بدرا، والمشاهد كلّها، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وثلاثين.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآية في صهيب-رضي الله عنه. وذلك: أنّه لمّا أراد الهجرة، منعه كفار قريش أن يهاجر بماله، وأخذوه، وعذبوه، فقال لهم: إنّي شيخ كبير، ولا يضركم: أمنكم كنت، أم من غيركم؟ فهل لكم أن تأخذوا مالي، وتذروني، وديني؟! ففعلوا ذلك، وكان شرط عليهم رحله، ونفقة. وفي رواية ثانية: خرج من مكة مهاجرا، فلحقه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، وأخذ قوسه، وقال: لقد علمتم أنّي من أرماكم، وايم الله! لا تصلون إليّ؛ حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي بيدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم! فقالوا: لا نتركك تذهب عنا غنيّا، وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلّنا على مالك بمكة، ونخلي عنك. فعاهدوه على ذلك، ففعل، فلمّا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له:«ربح بيعك أبا يحيى» ، وتلا عليه الآية. وفي رواية: تلقّاه أبو بكر، وعمر-رضي الله عنهما ورجال، فقال له الصّدّيق: ربح بيعك أبا يحيى، فقال له صهيب: وبيعك فلا يخسر! فما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا. وقرأ عليه الآية الكريمة.

{يَشْرِي نَفْسَهُ:} يبيعها، بمعنى: يبذلها في طاعة الله من صلاة، وصيام، وحجّ، وجهاد، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر. وقال تعالى عمّا فعل إخوة يوسف فيه:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي: باعوه، وأصله: الاستبدال، ومنه قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [111]:{إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ..} . إلخ. ومنه قول الشاعر: [الطويل]

وإن كان ريب الدّهر أمضاك في الألى

شروا هذه الدّنيا بجنّاته الخلد

{اِبْتِغاءَ:} ابتغاء طلب مرضاة الله. {وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء، وكلّفهم بالجهاد، فعرضهم لثواب الغزاة، والشّهداء. هذا؛ والرأفة: أشدّ الرحمة، و {رَؤُفٌ} صيغة مبالغة، ومن رأفة الله بعباده أن جعل النّعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته: أنّه يقبل توبة عبده المذنب، ومن رأفته: أن نفس العباد، وأموالهم ملكه، ثم إنه تعالى يشتري ملكه بملكه فضلا منه، ورحمة، وإحسانا. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [143] فإنه جيد، والحمد لله!.

الإعراب: {وَمِنَ النّاسِ} انظر الآية رقم [204] فهو مثله بلا فارق. {يَشْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {مِنَ}. {نَفْسَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة:{مِنَ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالإضافة. {اِبْتِغاءَ} مفعول لأجله، وهو مضاف، و {مَرْضاتِ} مضاف

ص: 483

إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {مَرْضاتِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله أيضا، وفاعله محذوف أيضا، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من لفظ الجلالة؛ فلست مفندا، والرابط:

الواو، وإعادة الاسم الكريم بلفظه للتعظيم. هذا؛ وجاز وقوع الحال من المضاف إليه؛ لأن المضاف عامل فيه، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

ولا تجز حالا من المضاف له

إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله

أو كان جزء ما له أضيفا

أو مثل جزئه فلا تحيفا

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)}

الشرح: لمّا بيّن الله سبحانه: أنّ من الناس مؤمن، وكافر، ومنافق؛ قال: كونوا على ملّة واحدة، واجتمعوا على الإسلام، واثبتوا عليه. فالسّلم هنا بمعنى الإسلام، ومنه قول الشاعر الكندي:[الوافر]

دعوت عشيرتي للسّلم لمّا

رأيتهم تولّوا مدبرينا

أي: إلى الإسلام، وذلك لمّا ارتدت قبيلة كندة بعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم مع الأشعث بن قيس الكندي. هذا؛ ويقرأ «السلم» بكسر السين وفتحها، وهو: الاستسلام، والخضوع، والطاعة، و {السِّلْمِ} أيضا: الإسلام، وقال حذيفة ابن اليمان-رضي الله عنه-في هذه الآية: الإسلام ثمانية أسهم: الصّلاة سهم، والزّكاة سهم، والصّوم سهم، والحجّ سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له في الإسلام. هذا؛ والسّلم: المسالمة، والمصالحة، قال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [61] مخاطبا نبيّه صلى الله عليه وسلم:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} وهو أيضا بكسر السين وفتحها، وهو يذكّر، ويؤنث بدليل:(لها) و {كَافَّةً} . و {كَافَّةً} بمعنى جميعا، والمعنى: تقبلوا جميع تعاليم الإسلام، ولا تقبلوا غيرها أبدا.

{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} انظر الآية رقم [168]، وخطواته:

وساوسه، وأحابيله، وزخارفه، و {مُبِينٌ} اسم فاعل من: أبان الرّباعي، أصله مبين بسكون الباء، وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، واسم الفاعل من بان الثلاثي: بائن، وأصله: باين. وعداوة الشيطان بينة بتبيين الله لنا عداوته، فكأنه بيّن؛ وإن لم نشاهده.

ص: 484

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-وأصحابه، كانوا من اليهود، وأسلموا، فعظّموا السبت، وكرهوا لحوم الإبل بعد إسلامهم. وانظر الآية رقم [146] للكلام على عبد الله بن سلام، وانظر نداء المؤمنين في الآية رقم [104]. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«والّذي نفس محمّد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة، يهوديّ، ولا نصرانيّ، ثم يموت، ولا يؤمن، بالّذي أرسلت به؛ إلاّ كان من أصحاب النّار» . أخرجه مسلم.

الإعراب: ({يا}): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. ({أَيُّهَا}): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب ({يا})، و (ها) حرف تنبيه لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من لفظ: (أي). {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {اُدْخُلُوا} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {فِي السِّلْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كَافَّةً:} حال من {السِّلْمِ} وقيل: حال من واو الجماعة، وضعّفه ابن هشام. {وَلا تَتَّبِعُوا:} الواو: حرف عطف. ({لا}) ناهية. {تَتَّبِعُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{خُطُواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {خُطُواتِ:} مضاف، و {الشَّيْطانِ:} مضاف إليه. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {عَدُوٌّ} بعدهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {عَدُوٌّ:} خبر (إنّ)، {مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية تعليل للنهي، لا محل لها.

{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}

الشرح: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} أي: إن انحرفتم عن الصّراط المستقيم من بعد مجيء الحجج الباهرة، والبراهين الساطعة على أنّ دين الإسلام هو الدّين الحق. وأصل الزلل في القدم، ثمّ استعمل في الأمور المعنوية على سبيل الاستعارة. ويقال: زلّت قدمه: إذا ذهب عزّه. وفي المثل: «زلت نعله» يضرب لمن نكب، وزالت نعمته، قال زهير بن أبي سلمى في ممدوحيه:[الطويل]

تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها

وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل

ص: 485

{مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ} أي: المعجزات وآيات القرآن، إن كان الخطاب للمؤمنين، فإن كان الخطاب لأهل الكتابين؛ ف {الْبَيِّناتُ} ما ورد في شرعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتّعريف به، وبرسالته. وفي الآية دليل على أنّ عقوبة العالم بالذّنب أعظم من عقوبة الجاهل به.

{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ:} قوي في نقمته ممّن خالفه، لا يعجزه شيء. {حَكِيمٌ:} لا يفعل إلا ما فيه حكمة، أو لا ينتقم إلا بحق. والحكيم: ذو الإصابة في الأمور كلها. وفي الآية وعيد، وتهديد لمن في قلبه شكّ، ونفاق، أو عنده شبهة في الدّين. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [129].

تنبيه: روي: أنّ أعرابيّا سمع قارئا يقرأ: فاعلموا أن الله غفور رحيم، فأنكره، ولم يكن يقرأ القرآن، وقال: إن كان هذا كلام الله، فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزّلل؛ لأنه إغراء به. ومثله روي: أن قارئا قرأ قوله تعالى في سورة المائدة: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قرأ: فإنك أنت الغفور الرحيم، فأنكره آخر، ولم يكن يقرأ القرآن أيضا، وقال: هذا لا يناسب من يقدر على التّعذيب، والمغفرة.

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {زَلَلْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{ما:} مصدرية. {جاءَتْكُمُ:} فعل ماض. والتاء للتأنيث، والكاف مفعول به.

{الْبَيِّناتُ:} فاعله، و {ما} المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه، من بعد مجيء البينات لكم. هذا؛ واعتبار {ما} موصولة، أو موصوفة، يحوج إلى تقدير عائد، أو رابط، التقدير: من بعد الّذي، أو شيء جاءتكم البينات به. وهذا تكلف لا حاجة له، وهو ضعيف معنى. {فَاعْلَمُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، وجملة:(اعلموا {أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}) في محل جزم جواب الشرط، وانظر إعراب مثلها في الآية رقم [201]. و {أَنَّ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}

الشرح: {هَلْ:} حرف استفهام معناه النفي مفيد للتّوبيخ؛ أي: لا ينبغي لهم إلا انتظار إتيان العذاب. {يَنْظُرُونَ} أي: ينتظر التّاركون الدّخول في السلم، والمتّبعون خطوات الشيطان.

ص: 486

إلا أن يأتيهم الله؛ أي: أمر الله، أو عذابه. فالكلام على حذف مضاف، مثل قوله تعالى في سورة (الحشر):{فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي: بخذلانه إياهم.

{فِي ظُلَلٍ} جمع ظلّة، كقلة، وقلل، وهي ما أظلّك، وعلاك، وتجمع (ظلة) جمع مؤنث سالما: ظللات، وأنشد سيبويه قول النابغة الجعدي-رحمه الله تعالى-:[الطويل]

إذا الوحش ضمّ الوحش في ظللاتها

سواقط من حرّ وقد كان أظهرا

وظلال: جمع ظل في الكثير، والقليل: أظلال. {مِنَ الْغَمامِ} هو السّحاب الأبيض، وإنّما يأتيهم العذاب فيه؛ لأنّه مظنّة الرّحمة، فإذا جاء العذاب منه؛ كان أفظع؛ لأنّ الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب، كان أصعب، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب بالخير، قال تعالى في بيان عذاب قوم هود-على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام-:{فَلَمّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا،} قال تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ} الآية رقم [24] من سورة (الأحقاف).

{وَالْمَلائِكَةُ} أي: وتأتيهم الملائكة. ففي تفسير ابن كثير: أي: ما ينتظرون شيئا إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق؛ حيث تنشقّ السّماء، وينزل الجبار-عز وجل-في ظلل من الغمام، وحملة العرش، والملائكة الذين لا يعلم كثرتهم إلا الله، ولهم زجل من التسبيح، يقولون: سبحان ذي الملك، والملكوت! سبحان رب العرش، والجبروت! سبحان الحيّ الذي لا يموت! سبحان الّذي يميت الخلائق، ولا يموت! سبّوح قدوس، ربّ الملائكة والرّوح.

و {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي: انتهى أمر الخلائق بالفصل بينهم، كما قال تعالى:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} الآية رقم [7] من سورة (الشورى)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [39] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ:} هو مثل قوله تعالى: {أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} رقم [53] من سورة (الشورى) وقوله جلّ ذكره في كثير من الآيات: {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ} والمقصود: تصوير عظمته تعالى يوم القيامة، وهولها وشدتها، وبيان: أن الحاكم فيها هو ملك الملوك جلّ وعلا؛ الذي لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، وهو أحكم الحاكمين. بعد هذا فخذ ما يلي:

قال الخازن-رحمه الله تعالى-: واعلم: أنّ هذه الآية من آيات الصّفات، وللعلماء في آيات الصّفات، وأحاديث الصّفات مذهبان:

أحدهما: وهو مذهب سلف هذه الأمة، وأعلام أهل السنّة: الإيمان، والتسليم لما جاء في آيات الصّفات، وأحاديث الصّفات، وأنّه يجب علينا الإيمان بظاهرها، ونؤمن بها كما جاءت، ونكل علمها إلى الله، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، مع الإيمان، والاعتقاد بأنّ الله تعالى منزّه عن سمات الحدوث، وعن الحركة والسّكون.

ص: 487

قال الكلبيّ-رحمه الله تعالى-: هذا من الّذي لا يفسّر. وسفيان بن عيينة-رحمه الله تعالى- قال: كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه؛ فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، وليس لأحد أن يفسّره إلا الله، ورسوله. وكان الزّهري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وسفيان الثّوري، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه-رضوان الله عليهم أجمعين-يقولون في هذه الآية، وأمثالها: اقرءوها كما جاءت، بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل. هذا مذهب أهل السّنّة، ومعتقد سلف الأمّة، وأنشد بعضهم في المعنى:[الطويل]

عقيدتنا أن ليس مثل صفاته

ولا ذاته شيء عقيدة صائب

نسلّم آيات الصّفات بأسرها

وأخبارها للظّاهر المتقارب

ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا

وتأويلنا فعل اللّبيب المغالب

ونركب للتّسليم سفنا فإنّها

ليسلم دين المرء خير المراكب

المذهب الثاني: وهو قول جمهور علماء المتكلمين، وذلك: أنه أجمع جميع المتكلمين من العقلاء، والمعتبرين من أصحاب النظر على أنه تعالى منزّه عن المجيء، والذهاب، ويدلّ على ذلك: أنّ كلّ ما يصحّ عليه المجيء، والذهاب، ولا ينفكّ عن الحركة، والسكون-وهما محدثان- وما لا ينفك عن المحدث؛ فهو محدث، والله تعالى منزّه عن ذلك، فيستحيل ذلك في حقّه تعالى، فثبت بذلك: أنّ ظاهر الآية ليس مرادا، فلا بد من التأويل على سبيل التفصيل. فعلى هذا قيل في معنى الآية:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ} أي: بالآيات، فيكون مجيء الآيات مجيئا لله تعالى على سبيل التفخيم لشأن الآيات. وقيل: معناه: إلا أن يأتيهم أمر الله، ووجه هذا التأويل: أن الله تعالى فسّره في آية أخرى، فقال:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} الآية [33] من سورة (النحل)، فصار هذا الحكم مفسرا لهذا المجمل في هذه الآية.

قال ابن تيميّة-رحمه الله تعالى-في رسالته التدمرية: وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلّ من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات أخر، ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه، أو صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقول في جميع ذلك من جنس واحد، وهو مذهب سلف الأمّة، وأئمتها، إنّهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلو سأل سائل: كيف يجيء سبحانه؟ فليقل له: كما لا تعلم كيفية ذاته، كذلك لا تعلم كيفية صفاته. انتهى. صفوة التفاسير. وانظر ما ذكرته رقم [7] من سورة (آل عمران)، فله اتصال بمعنى هذا الكلام.

أقول: وإنما ذهب جمهور العلماء من المتكلّمين إلى ما ذهبوا في العصر العباسي حينما كثرت الفرق الإسلامية الضالّة، وكثرت البدع، والآراء الشاذّة، فتصدى هؤلاء إلى تزييف تلك

ص: 488

الآراء الشاذّة، وصاروا يؤوّلون الآيات، والأحاديث التي توهم تشبيها لله تعالى؛ تأويلا يقبله العقل، والشرع، مثل قوله تعالى:{الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} وقوله جلّ ذكره: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} والأحاديث مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان الثّلث الأخير من اللّيل؛ ينزل ربّنا

إلخ».

ومذهب السّلف يسمّى: مذهب التّفويض، والثاني يسمّى: مذهب التأويل، ومذهب السّلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم. هذا ما أردت إيراده هنا، والله وليّ التوفيق.

الإعراب: {هَلْ} حرف استفهام إنكاري توبيخي. {يَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ يَأْتِيَهُمُ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {فِي ظُلَلٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من أمر الله المقدّر. {مِنَ الْغَمامِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {ظُلَلٍ} كما يجوز تعليقهما بالفعل السابق. {وَالْمَلائِكَةُ:} معطوف على أمر الله المقدّر، وقرئ بالجر عطفا على:{ظُلَلٍ} أو على {الْغَمامِ،} {وَقُضِيَ الْأَمْرُ:} الواو حرف عطف. ({قُضِيَ الْأَمْرُ}): فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعله، والفعل بمعنى المضارع. لذا فالجملة الفعلية معطوفة على ما بعد {إِلاّ} فهي في حيّز الانتظار. وقيل: هي مستأنفة، وليست في حيّز الانتظار، فهي باقية على ماضويّتها، وجملة:{وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} مستأنفة، لا محل لها، والفعل يقرأ بالبناء للفاعل، وبالبناء للمفعول، فهو يحتمل أن يكون لازما، ومتعديا.

{سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)}

الشرح: {سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ:} الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، أمره ربّه أن يسأل يهود المدينة، وليس المراد بهذا السّؤال العلم بالآيات؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم كان قد علمها بإعلام الله إياه، ولكن المراد بهذا السؤال التّقريع، والتّوبيخ، والمبالغة في الزّجر عن الإعراض عن دلائل الله، وترك الشكر على نعمة الله. وقيل: المراد بهذا السؤال: التقرير. وتذكير النعم؛ التي أنعم الله بها على سلفهم. انتهى خازن.

فالله تعالى يذكر عن بني إسرائيل: كم شاهدوا على يد موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-من حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به، كيده، وعصاه، وفلقه البحر، وضربه الحجر؛ ليخرج الماء منه، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدّة الحرّ، ومن إنزال المنّ، والسّلوى يوم كانوا في التّيه، وغير ذلك من المعجزات الدّالات على صدقه، وعلى قدرة الله الفاعل المختار، ومع ذلك فقد أعرض كثير منهم عنها، وبدّلوا نعمة الله بالجحود، والكفر؛

ص: 489

أي: استبدلوا بالإيمان بها الكفر، والإعراض عنها، كما قال تعالى إخبارا عن كفار قريش:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ} الآية رقم [28] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ:} فيه تهديد، ووعيد لمن يبدل نعمة الله، ويجحدها. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: {سَلْ:} أصله: اسأل، نقلت حركة الهمزة الثانية، التي هي عين الكلمة إلى الساكن قبلها، ثم حذفت تخفيفا، وحذفت همزة الوصل للاستغناء عنها، فصار وزنه:«فل» ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (ن): {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ} هذا؛ وفرق بين إثبات الهمزة، وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه، فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ، كما في الآيتين، وتثبت في العطف، مثل قوله تعالى في سورة (يوسف):{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وقوله تعالى: {وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ} .

الإعراب: {سَلْ:} فعل أمر، وفاعله تقديره: أنت. {بَنِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جرة الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {كَمْ:} اسم استفهام، وقيل: خبرية بمعنى كثير مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان للفعل بعدها، أو هي في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية في محل رفع خبرها. فيكون الرابط محذوفا، التقدير: آتيناهم إيّاها. وقال مكي: {كَمْ} في موضوع نصب بإضمار فعل بعدها، تقديره: كم آتينا آتيناهم. والجملة على جميع الاعتبارات في محل نصب مفعول به ثان ل {سَلْ} المعلّق عن العمل بسبب {كَمْ} . {مِنْ:} حرف جر صلة.

{آيَةٍ:} تمييز ل {كَمْ} على الوجهين فيها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الجر الزائد. {بَيِّنَةٍ:} صفة آية على لفظها، وجملة:

{سَلْ..} . إلخ: مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها. {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُبَدِّلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{مِنْ،} {نِعْمَةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} مصدرية. {جاءَتْهُ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى:{نِعْمَةَ اللهِ} . و {ما} المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه، التقدير: من بعد مجيئها له. {فَإِنَّ:} الفاء:

واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {شَدِيدُ:} خبرها، وهو مضاف، و {الْعِقابِ:} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ الأصل: شديد عقابه، والجملة الاسمية:(إن {اللهِ..}.) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها لأنّها لم تحل محلّ المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت جواب الشرط محذوفا، التقدير: فله السّخط، والغضب، ونحو ذلك؛ فلست مفندا، وتكون الجملة الاسمية مفيدة

ص: 490

للتعليل، ولا محلّ لها، والمعنى لا يأباه، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)}

الشرح: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ..} . إلخ، حسنت في أعينهم، وأشربت محبتها في قلوبهم، حتّى تهالكوا عليها، وأعرضوا عن غيرها، والمزيّن في الحقيقة هو الله تعالى؛ إذ ما من شيء إلا هو فاعله، وكلّ من الشيطان، والقوّة الحيوانية، وما خلقه الله فيها من الأمور البهيمية، والأشياء الشهيّة مزين بالعرض. انتهى بيضاوي. وهذا مذهب أهل السنة، والجماعة، وانظر ما ذكرته بشأن المعتزلة، وغيرهم من الفرق الضالة في الآية رقم [14] من سورة (آل عمران) وغيرها.

{وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ} أي: يهزأ كفار قريش من الذين آمنوا؛ أي: من فقراء المسلمين، كبلال، وعمار، وصهيب، وخبّاب، وغيرهم، والسّخرية بالناس حرام، فقد روى عليّ-رضي الله عنه:

أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استذلّ مؤمنا، أو مؤمنة، أو حقّره لفقره، وقلّة ذات يده؛ شهّره الله تعالى يوم القيامة، ثمّ فضحه، ومن بهت مؤمنا، أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله على تلّ من نار يوم القيامة؛ حتّى يخرج ممّا قال فيه، وإنّ عظم المؤمن أعظم عند الله، وأكرم عليه من ملك مقرّب، وليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة، وإنّ الرّجل المؤمن يعرف في السّماء، كما يعرف الرجل أهله، وولده» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [15]. هذا وقد أورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغا منه، مركوزا في طبائعهم، وعطف عليه بالفعل المضارع للدّلالة على استمرار السّخرية منهم؛ لأن صيغة المضارع تفيد الاستمرار، والتّجدد.

{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: إنّ الله تعالى يرفع درجات الفقراء المؤمنين يوم القيامة، حتّى يجعلهم في أعلى علّيين، ويضع درجات الكافرين المستكبرين حتى يجعلهم في أسفل سافلين، والمؤمنون في الآخرة في أوج العز، والكرامة، والكافرون، والفاسدون المفسدون في حضيض الذلّ، والمهانة. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة المطففين:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ،} ثمّ قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفّارِ يَضْحَكُونَ} .

عن حارثة بن وهب-رضي الله عنه: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم بأهل الجنّة؟ كل ضعيف متضعّف، لو أقسم على الله؛ لأبرّه، ألا أخبركم بأهل النّار؟ كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» . متّفق عليه.

{وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} أي: بغير تقدير، فيوسّع في الدنيا استدراجا تارة، وابتلاء أخرى، وأمّا في الآخرة، فرزقه للمؤمنين واسع، لا يضبطه عدّ، ولا كيل، ولا وزن بخلاف

ص: 491

رزق الدّنيا؛ فإنّه مضبوط محصور، ورزق الآخرة لا ينتهي عدده، ولا ينقطع مدده، صاف عن كدّ الاكتساب، وخوف الحساب، لا منّة فيه، ولا عذاب.

الإعراب: {زُيِّنَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

وجملة: {كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {الْحَياةُ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {الدُّنْيا:} صفة الحياة مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {وَيَسْخَرُونَ:} الواو: حرف عطف. ({يَسْخَرُونَ}): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها هذا، ويجوز تقدير مبتدأ قبلها، وهي خبره، أي: وهم يسخرون

إلخ، والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [204]. {مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية بعد الموصول صلته، والمتعلّق محذوف.

{وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {اِتَّقَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، تقديره: اتقوا الله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {فَوْقَهُمْ:} ظرف مكان متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالخبر المحذوف، و {يَوْمَ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ، {يَرْزُقُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ})، {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير، رزقا واسعا، ونحوه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية {وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وهو أولى من العطف على ما قبلها، والحالية ضعيفة، {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ})، والجملة الفعلية صلة:{مِنَ} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

يشاؤه {بِغَيْرِ:} متعلقان بما قبلهما، و (غير): مضاف، و {حِسابٍ:} مضاف إليه.

{كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}

الشرح: {كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً} أي: كان الناس متفقين على الحقّ. قال ابن جرير: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان بين آدم، ونوح-على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام

ص: 492

-عشرة قرون، كلّهم على شريعة من الحقّ، فاختلفوا. ودلّ على هذه الجملة لدلالة قوله:{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} . وانظر شرح أمّة في الآية رقم [128]، والإمة بكسر الهمزة: النعمة؛ لأنّ الناس يقصدون قصدها. {فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ:} انظر الآية رقم [61]. {مُبَشِّرِينَ:} للمؤمنين بالجنّة، وحسن المآل. ({مُنْذِرِينَ}): مخوفين للكافرين، والعاصين بالنّار، وسوء الحساب.

{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ} المراد به الجنس، لا المراد: أنّ الله تعالى أنزل بكلّ واحد منهم كتابا يخصّه، فإن أكثرهم لم يكن معهم كتاب يخصّهم، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم. انتهى بيضاوي، وذلك كما في أنبياء بني إسرائيل، فإنّ جميعهم كان يحكم بالتوراة؛ حتّى بعث عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، بل وحتى عيسى كان يحكم بالتّوراة؛ لأن الإنجيل الّذي أنزل عليه، لم يكن فيه سوى بعض الأحكام المغيّرة لأحكام التوراة.

{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} يحتمل رجوع الفاعل إلى {اللهُ} أو النبيّ المبعوث، أو كتابه، ويؤيد الأول قراءة الجحدري:(«لنحكم») بنون العظمة. {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي: في الحقّ، أو في الكتاب. {أُوتُوهُ} أي: الكتاب حيث آمن به بعض، وكفر به بعض آخر. {مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ:} المعجزات الظاهرات، والحجج السّاطعات على التوحيد. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} حسدا بينهم أو ظلما، وعدوانا لحرصهم على الدنيا، {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا:} ثبّتهم الله على الحق {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ:} بأمره، وتوفيقه. {وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:} ففي هذه الآية ردّ على المعتزلة بقولهم: إنّ العبد يخلق أفعال نفسه، ويستبدّ بهدايته إلى ما يشاء، ويريد.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، نحن أوّل النّاس دخولا الجنّة، بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغدا لليهود، وبعد غد للنّصارى» . المراد باليوم الذي اختلفوا فيه: يوم الجمعة.

وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه-رضي الله عنه: اختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السّبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة.

واختلفوا في الصّلاة، فمنهم من يركع، ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلّي؛ وهو يتكلم، ومنهم من يصلي؛ وهو يمشي، فهدى الله أمّة محمد صلى الله عليه وسلم للحقّ من ذلك.

واختلفوا في إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فقالت اليهود: كان يهوديّا، وقالت النّصارى: كان نصرانيّا، وجعله الله حنيفا مسلما، فهدى الله أمّة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه السلام، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانا عظيما، وجعلته النصارى إلها وولدا، وجعله الله روحه، وكلمته، فهدى الله أمّة محمد صلى الله عليه وسلم للحقّ من ذلك. وكان أبو العالية-رحمه الله يقول: في هذه الآية المخرج من الشّبهات، والضّلالات، والفتن.

ص: 493

وفي صحيح البخاري، ومسلم عن عائشة-رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللهمّ ربّ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .

وفي الدعاء المأثور: «اللهمّ أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا، فنضلّ، واجعلنا للمتّقين إماما» .

الإعراب: {كانَ:} فعل ماض ناقص. {النّاسُ:} اسمها. {أُمَّةً:} خبرها. {واحِدَةً:} صفة لها، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {فَبَعَثَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. وهناك جملة مقدرة قبلها، التقدير: فاختلفوا، فبعث. {النَّبِيِّينَ:}

مفعول به. {مُبَشِّرِينَ:} حال من النبيين. {وَمُنْذِرِينَ:} معطوف عليه، وعلامة النصب في الثلاثة الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنها جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. ({أَنْزَلَ}):

فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {مَعَهُمُ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْكِتابَ:} مفعول به. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الْكِتابَ} أي: ملتبسا بالحق، وجملة:{وَأَنْزَلَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، وقال أبو البقاء-رحمه الله تعالى-: هي في محل نصب حال، وهذا يحتاج إلى تقدير «قد» قبلها، لتقربها من الحال. {لِيَحْكُمَ:} مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل ضمير مستتر تقديره: هو، انظر الشرح، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (أنزل)، {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {النّاسُ} مضاف إليه. {فِيمَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (يحكم) أيضا، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ ب (في).

{وَمَا:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {اِخْتَلَفَ:} فعل ماض. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب (في) والرابط:

الواو، والضمير، والاستئناف ممكن. {أُوتُوهُ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والهاء مفعوله الثاني، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل: {اِخْتَلَفَ:} {مَا:} مصدرية. {جاءَتْهُمُ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الْبَيِّناتُ:} فاعله، و {مَا} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه؛ التقدير: من بعد مجيء البينات. {بَغْياً:} مفعول لأجله، وقيل: حال، ولا وجه له. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق ب {بَغْياً} أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة.

ص: 494

(هدى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:}

مفعول به. {آمَنُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لِمَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: (هدى)، ({وَمَا}) تحتمل الموصولة، والموصوفة، وجملة:{اِخْتَلَفُوا فِيهِ} صلة (ما) أو صفتها. {مِنَ الْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور ب (في) العائد بدوره على ({مَا})، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها.

{بِإِذْنِهِ:} متعلقان بالفعل: (هدى) أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الَّذِينَ آمَنُوا} التقدير:

مأذونا لهم، وجملة:{فَهَدَى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، والاستئناف ممكن.

{وَاللهُ:} مبتدأ. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى ({اللهُ})، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير، والاستئناف ممكن. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به.

{يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}) والجملة الفعلية صلة:{مِنْ} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يهدي الذي أو شخصا يشاؤه. {إِلى صِراطٍ:} متعلقان بالفعل: {يَهْدِي} . {مُسْتَقِيمٍ:} صفة {صِراطٍ} .

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214)}

الشرح: {أَمْ:} منقطعة هنا. انظر مبحثها في كتابنا: «فتح القريب المجيب» . {حَسِبْتُمْ:}

ظننتم، فهو من باب: تعب في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون السين في المضارع مع الماضي أيضا على غير قياس، وقد قرئ المضارع بفتح السين، وكسرها من البابين: الرّابع، والسادس. والمصدر: الحسبان بكسر الحاء، وحسبت المال حسبا من باب:

قتل، بمعنى: أحصيته عددا. {وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ،} أي: ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم، فتصبروا كما صبروا، أو المعنى: ولما يصبكم مثل الذين أصاب الذين من قبلكم من البلاء، قال تعالى في أول سورة (العنكبوت):{أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ:} انظر شرح هذه الآيات هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{مَسَّتْهُمُ:} أصابتهم. {الْبَأْساءُ وَالضَّرّاءُ:} انظر الآية رقم [167]. {وَزُلْزِلُوا:} خوّفوا من الأعداء تخويفا شديدا، وامتحنوا امتحانا عظيما، كما جاء في الحديث عن خبّاب بن الأرت

ص: 495

-رضي الله عنه-قال: قلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرّجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشقّ باثنتين وما يصدّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم، أو عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر، حتى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذّئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون» . رواه البخاري [3612].

{حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ} أي: بلغ بهم الضجر، ولم يبق لهم صبر؛ حتى قالوا ذلك. ومعناه: طلب الصبر، وتمنيه، واستطالة زمان الشدة، بحيث تقطّعت حبال الصّبر عندهم، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدّة، وتماديه في العظم؛ لأنّ الرسل لا يقادر قدر ثباتهم، واصطبارهم، وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتّى ضجوا؛ كان ذلك الغاية في الشدّة؛ التي لا مطمع وراءها.

{أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ:} هذا جواب من الله تعالى، ووعد لهم بالنصر، وفي ضمنه كلام آخر، التقدير: فاصبروا، كما صبروا؛ تظفروا بالنّصر، كما ظفروا. هذا؛ وقرئ:{حَتّى يَقُولَ} بالنصب على إضمار «أن» ومعنى الاستقبال؛ لأنّ «أن» تصرف الفعل المضارع له. وقرئ بالرّفع على أنه بمعنى الحال، كقولك: شربت الإبل حتى يجيء البعير بطنه، إلا أنها حال ماضية محكية. وانظر مبحث «حتّى» في كتابنا:«فتح القريب المجيب» تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

تنبيه: قال قتادة، والسّدي، وأكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصابهم من الجهد والشدّة، والحرّ، والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان كما قال الله تعالى في سورة (الأحزاب):{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ،} وقيل: نزلت في حرب (أحد) نظير هذه الآية قوله تعالى في سورة (آل عمران): {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ} رقم [142].

وقالت جماعة أخرى: نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم، وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسرّ قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله الآية الكريمة تطييبا لقلوبهم، وتفريجا لهمومهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى «بل» . {حَسِبْتُمْ:} فعل، وفاعل. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَدْخُلُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ} والفعل المضارع:{تَدْخُلُوا} في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {حَسِبْتُمْ} والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {الْجَنَّةَ:} مفعول به. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [58]. {وَلَمّا:} الواو:

ص: 496

واو الحال. (لمّا): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَأْتِكُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب (لمّا) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والكاف مفعول به.

{مَثَلُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة {خَلَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله. وقدّر الجلال، والجمل محذوفا بين المتضايفين، فالجلال قدّر: مثل ما أتى الّذين. والجمل قدّر: مثل محنة المؤمنين الّذين. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصولة، لا محل لها، وجملة:{وَلَمّا يَأْتِكُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{مَسَّتْهُمُ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الْبَأْساءُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها، وجوز اعتبارها مستأنفة. {وَالضَّرّاءُ:} معطوف على ما قبله. {وَزُلْزِلُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {حَتّى:}

حرف غاية، وجر. {يَقُولَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد {حَتّى} . {الرَّسُولُ:}

فاعله. {وَالَّذِينَ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلته.

{مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل ({زُلْزِلُوا}) وعلى قراءة الفعل بالرّفع؛ فالجملة معطوفة على ما قبلها عطفا.

{مَتى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزّمانية متعلق بمحذوف خبر مقدّم. {نَصْرُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَلا:} حرف استفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {نَصْرُ:} اسمها، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {قَرِيبٌ:} خبر: {أَنْ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف؛ أي: قيل لهم ذلك، والقائل هو الله تعالى؛ الذي لا يخلف وعده. والقول، ومقوله كلام مستأنف لا محل له. وقال أبو البقاء-رحمه الله:

هو من مقول الرّسول. والأول أقوى.

هذا؛ والجملة الاسمية فيها عدّة مؤكدات، تدل على تحقّق النصر: أولا: بدء الجملة بأداة الاستفتاح: {أَلا} التي تفيد التأكيد. ثانيا: ذكر {أَنْ} الدّالة على التوكيد أيضا. ثالثا: إيثار الجملة الاسمية على الفعلية، فلم يقل:«ستنصرون» . والتعبير بالجملة الاسمية يفيد التأكيد.

رابعا: إضافة النّصر لله ربّ العالمين القادر على كلّ شيء.

ص: 497

{يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}

الشرح: {يَسْئَلُونَكَ:} انظر الكلام على: سأل، يسأل في الآية رقم [189] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والسائل هو عمرو بن الجموح، رضي الله عنه، وكان شيخا كبيرا ذا مال جم، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عمّا ينفق، وعلى من ينفق. {ماذا يُنْفِقُونَ} أي: ما قدره، وما جنسه؟ والمراد: نفقة التطوع، لا الزكاة، فالآية محكمة لا منسوخة، فهي مبينة لمصارف صدقة الصّدقة، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الإسراء) وسورة (الروم):{وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} . هذا؛ ويعدّ علماء البلاغة هذه الآية من الأسلوب الحكيم؛ حيث قالوا: إن السائل سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الإنفاق، وعن كمية المال الذي ينفق: الربع، أو الثلث، أو النصف مثلا، فأجيب ببيان طرق إنفاق المال تنبيها على أنّ هذا هو الأولى، والأجدر بالسّؤال عنه. ومثل هذه الآية في هذا الحكم الآية رقم [189]، فقد بني الكلام في هذه على ما هو الأهم، وهو بيان المصرف؛ لأنّ النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها، كما قال الشاعر الحكيم:[الكامل]

إنّ الصّنيعة لا تكون صنيعة

حتّى يصاب بها طريق المصنع

فإذا صنعت صنيعة فاعمد بها

لله أو لذوي القرائب أو دع

{قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ:} من مال، وانظر الآية رقم [105]. {فَلِلْوالِدَيْنِ:} فواجب على الرجل الغني أن ينفق على أبويه المحتاجين في قدر ما لهما من حاجة من طعام، وكسوة، وسكن يليق بهما، وعليه أن يزوج أباه إن كانت نفسه تتشرف إلى الزّواج؛ لأن إعفاف الأب مطلوب، بل هو أولى من الطّعام، والكسوة، وعليه نفقة امرأة أبيه إن تزوّج بعد موت أمّ أولاده امرأة أجنبية، ولا يجوز للولد أن يمنع أمّه من الزّواج؛ إن طلبت الزواج بعد موت أبيه؛ لأنّ إعفافها مطلوب أيضا، وعليه أن يخرج عنهما صدقة الفطر؛ لأنّها مستحقّة بالنفقة، والإسلام. أمّا ما يتعلق بالعبادات من الأموال، فليس على الولد أن يعطيهما ما يحجّان به، ولكن من باب البرّ الّذي أوصى الله به أن يبذل لهما من المال ما يحجّان به، ولا سيما الأم التي تعبت في تربيته، ولاقت العناء الشديد في حمله، ووضعه. {وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وانظر الآية رقم [176] ففيها الكفاية. {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ:} المراد به كلّ عمل صالح من إنفاق مال، وغيره. {فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ:} يجازي به الجزاء الأوفى.

الإعراب: {يَسْئَلُونَكَ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله الأول. {ماذا:} (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. ({ذا}): اسم موصول مبني على السكون في محل

ص: 498

رفع خبره، وجملة:{يُنْفِقُونَ:} صلته، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي ينفقونه؟. هذا، ويجوز اعتبار:{ماذا} اسم استفهام مركبا، وفي إعرابه وجهان: اعتباره مفعولا متعدّيا للفعل بعده، واعتباره مبتدأ، والجملة الفعلية بعده خبره، والرابط محذوف، وهو مفعول الفعل المحذوف. وسواء أكانت الجملة اسمية، أم فعلية، فهي في محل نصب مفعول به ثان للفعل قبلها. وجملة:{يَسْئَلُونَكَ..} . إلخ مستأنفة.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {ما:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل شرطه. {أَنْفَقْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {مِنْ خَيْرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من: {ما،} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها. {فَلِلْوالِدَيْنِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (للوالدين): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فمصرفه للوالدين. والجملة الاسمية هذه في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول:

لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرت: {ما} اسما موصولا؛ فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: الذي أنفقتموه، ويكون:{مِنْ خَيْرٍ} متعلقين بمحذوف حال من هذا المحذوف، ويكون:(للوالدين) متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ، واقترن بالفاء؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، ورجّح الأول لمناسبة الجملة الثانية؛ إذ لا يصح فيها الاعتبار الثاني.

تأمّل، وعلى كلّ فالجملة:{ما أَنْفَقْتُمْ..} . إلخ سواء أكانت اسمية، أم فعلية، فهي في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} هذه الأسماء معطوفة على (الوالدين) مجرورة مثله، وعلامة الجر في الأول الياء، وفي الثاني كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وفي الأخيرين الكسرة الظاهرة، و ({اِبْنِ}): مضاف، و {السَّبِيلِ:} مضاف إليه، وإعراب الجملة:({ما تَفْعَلُوا..}.) إلخ لا يخفى عليك بعد إعراب ما تقدّم، و (ما) لا يجوز فيها إلا الشرطية، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ في محلّ جزم جواب الشرط عند الجمهور، و (ما) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، فهي في محل نصب مقول القول مثلهنّ، والجار والمجرور:{بِهِ} متعلقان ب {عَلِيمٌ} بعده، تأمل، وتدبر، وربك أعظم، وأجل، وأكرم.

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)}

الشرح: مناسبة الآية، والتي بعدها: لمّا ذكر الله تعالى في الآيات السابقة: أنّ النّاس فريقان: فريق يسعى في الأرض فسادا، ويضلّ الناس بخلابة لسانه، وقوّة بيانه، وحلاوة كلامه.

ص: 499

وفريق باع نفسه للحقّ، يبتغي به وجه الله، ورضاه، ولا يرجو أحدا سواه. ولمّا كان لا بدّ للتنازع بين الخير والشر، ولا بدّ للحقّ من سيف مصلت إلى جانبه؛ لذا شرع الله للمؤمنين أن يحملوا السّيف مناضلين، وشرع الجهاد دفعا للعدوان، وردعا للظّلم، والطغيان. صفوة التفاسير.

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ:} فرض عليكم الجهاد في سبيل الله. قال عمر بن أبي ربيعة: [الخفيف]

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جرّ الذّيول

وقد ذكرت لك فيما مضى: أنّ الله جلّت قدرته لم يأذن للمسلمين بالقتال قبل الهجرة، فلمّا هاجر الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى المدينة؛ أذن لهم بالجهاد باللّسان، والسنان. والجهاد في بدء الإسلام كان فرض عين، فلمّا عزّ الإسلام، وانتشرت دعوته؛ صار فرض كفاية، إذا قام به البعض؛ سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام، كما في أيّامنا هذه، حيث احتل اليهود اللّؤماء أراضينا، فهو فرض عين على كل قادر على حمل السلاح.

{وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} أي: كره في الطّباع البشرية. قال ابن عرفة: الكره-بضم الكاف-:

المشقة، وبالفتح: ما أكرهت عليه. هذا هو الاختيار، ويجوز الضم في معنى الفتح، فيكونان لغتين، وإنما كان الجهاد كرها؛ لأن فيه إخراج المال، ومفارقة الوطن، والأهل، والتعرض بالجسد للشّجاج، والجراح، وقطع الأطراف، وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. هذا؛ و {كُرْهٌ} مصدر وضع موضع اسم المفعول:«مكروه» للمبالغة.

{وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ:} ({عَسى}) من الله واجبة في جميع القرآن، والمعنى:

عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقّة؛ وهو خير لكم في أنّكم تغلبون، وتظفرون، وتغنون، وتؤجرون، ومن مات؛ مات شهيدا. {وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا} الدّعة، وترك القتال، {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} في أنّكم تغلبون، وتذلّون، ويذهب عزّكم، وتضعف شوكتكم. هذا؛ وبين الجملتين من المحسنات البديعية ما يسمّى بالمقابلة، فقد قابل بين الكراهية، والحب، وبين الخير، والشر.

{وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي: الله أعلم بعواقب الأمور منكم، وأدرى بما فيه صلاحكم في دنياكم، وآخرتكم، فبادروا إلى ما يأمركم به. وفي هذه الجملة طباق السّلب.

هذا؛ وإن النفس تميل إلى الشر بسبب ميلها إلى الدّعة، والراحة، وإلى الشهوات الموجبة لهلاكها، وتنفر من الخير الّذي يتسبّب عن التكاليف الإلهية الموجبة لسعادتها، وإن كان في ظاهرها مشقة، وجهد، وعناء، فالآية الكريمة تحثّ على الجهاد، فلعلّ لكم فيه وإن كرهتموه خيرا؛ لأن فيه إمّا الظفر، والغنيمة، وحسن السّمعة، والثناء من الناس، أو الشهادة، والأجر؛ الذي أعدّه الله للمجاهدين؛ الذين يبذلون أرواحهم في سبيل إعلاء كلمة الله، مع أن في تركه شرّا؛ لأن فيه الذل، والفقر، والحرمان من الأجر. والمحروم من حرم الأجر، والثواب.

ص: 500

الإعراب: {كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {عَلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان به.

{الْقِتالُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا ارتباط لها بما قبلها. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. ({هُوَ}): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كُرْهٌ:} خبره. {لَكُمْ:}

جار ومجرور متعلقان ب {كُرْهٌ؛} لأنه مصدر، أو اسم مفعول، والجملة الاسمية في محل نصب حال من القتال، والرابط: الواو، والضمير. {وَعَسى:} الواو: حرف عطف، ({عَسى}): فعل ماض جامد من أفعال الرجاء، مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهو تام هنا. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

بعد عسى اخلولق أوشك قد يرد

غنى بأن يفعل عن ثان فقد

{أَنْ تَكْرَهُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ تَكْرَهُوا:} في تأويل مصدر في محل رفع فاعل ({عَسى})، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كُتِبَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {شَيْئاً:}

مفعول به، والجملة الاسمية:{وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} في محل نصب حال من: {شَيْئاً} وهو نكرة، وكان الواجب أن تكون صفة على القاعدة:«الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال» ، والمعارض في ذلك الواو، فإنها لا تعترض بين الصفة، والموصوف، خلافا للزمخشري، وأبي البقاء، وإنّما توسّطت الواو في رأي الزمخشري؛ لتأكيد لصوق الصّفة بالموصوف. هذا الذي أجازه أبو البقاء هنا، والزمخشري في الآية الكريمة:{وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ} الآية رقم [4] من سورة (الحجر)، وهو رأي ابن خيران، وسائر النّحويين يخالفونه. انتهى. جمل نقلا عن السّمين.

أقول: ومثل هذه الآية قوله تعالى في الآية رقم [259]: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} . والشاهد على هذه المسألة في مغني اللبيب قول قيس بن ذريح، وهو الشاهد رقم [796] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

مضى زمن، والنّاس يستشفعون بي

فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع؟

وإعراب: {وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا..} . إلخ لا يخفى عليك بعد هذا، والجملة معطوفة على ما قبلها.

{وَاللهُ:} مبتدأ. {يَعْلَمُ} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}) ومفعوله محذوف، التقدير:

يعلم ما هو خير لكم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الكاف المجرورة محلاّ باللام، والرابط: الواو، والضمير في الجملة الثانية المعطوفة عليها؛ لأن الجملتين المتعاطفتين كالجملة الواحدة. {وَأَنْتُمْ:} الواو: حرف عطف.

({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا} نافية. {تَعْلَمُونَ:} فعل

ص: 501

مضارع، وفاعله، ومفعوله محذوف تقديره: لا تعلمون ذلك، وهذه الجملة خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها.

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اِسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217)}

الشرح: فقد روى أبو اليسار عن جندب بن عبد الله: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا في جمادى الآخرة قبل وقعة بدر بشهرين، وقيل: في شهر رجب، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث، فلمّا ذهب لينطلق؛ بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتابا، وأمره ألا يقرأ الكتاب؛ حتى يبلغ مكان كذا، وكذا، وقال: لا تكرهنّ أصحابك على المسير معك. فلمّا بلغ المكان؛ قرأ الكتاب، فاسترجع، وقال: سمعا، وطاعة لله، ولرسوله. قال:

فرجع رجلان، ومضى بقيّتهم معه، فلقوا ابن الحضرمي، فقتلوه، وأسروا رجلين كانا معه، هما عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت منهم نوفل بن عبد الله، وأخذوا ما كان معهم من عير، ثمّ قدموا بالعير، والأسيرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الله بن جحش-رضي الله عنه: اعزلوا ممّا غنمنا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا، فكان أول خمس في الإسلام، ثمّ نزلت الآية في سورة (الأنفال) رقم [41] تؤيّد ذلك-وكانت تلك الحادثة قد وقعت في أوّل ليلة من شهر رجب، أو في آخر ليلة منه، والأول أشهر-فعيّر المشركون المسلمين بانتهاك حرمة الشّهر الحرام، والرّسول صلى الله عليه وسلم لامهم على ذلك، فخاف المسلمون من ذلك، فنزلت الآية الكريمة تؤيّد ما فعله عبد الله، وأصحابه بالمشركين.

واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأنّ قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [133]. واختلف في ناسخ هذه الآية، وقد قال عبد الله بن جحش-رضي الله عنه-لمّا عيّرهم المشركون بقتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ما يلي:[الطويل]

تعدّون قتلا في الحرام عظيمة

وأعظم منه لو يرى الرّشد راشد

صدودكم عمّا يقول محمّد

وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله

لئلاّ يرى لله في البيت ساجد

ص: 502

فإنّا وإن عيّرتمونا بقتله

وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرميّ رماحنا

بنخلة لمّا أوقد الحرب واقد

دما وابن عبد الله عثمان بيننا

ينازعه غلّ من القدّ عاند

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ:} تقدّم الكلام على هذا فيما مضى. {قِتالٍ فِيهِ} المعنى: يسألك أصحابك يا محمد عن القتال في الشهر الحرام، أيحل لهم القتال فيه؟ فقوله تعالى:{يَسْئَلُونَكَ} يدل على الاستفهام، كما قال امرؤ القيس في معلقته رقم [81]:[الطويل]

أصاح ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في حبيّ مكلّل

{قُلْ} لهم: القتال فيه أمره كبير، ووزره عظيم، ولكن هناك ما هو أعظم، وأخطر، وهو ({صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}) أي: الإعراض عن دين الله. هذا، و ({صَدٌّ}) مصدر: صد، يصد من باب:

قتل، وله مصدر آخر: صدود. قال تعالى: {رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} رقم [61] من سورة (النّساء) ومضارعه: يصدّ. {وَكُفْرٌ بِهِ:} بالله. {وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي: ومنع، وصدّ عن بيت الله، كما فعل كفار قريش مع المسلمين. {وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ..} . إلخ، أي: إخراج الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من المسجد الحرام {أَكْبَرُ} وأعظم عند الله ممّا فعلته سريّة عبد الله بن جحش، وأصحابه-رضي الله عنه. من قتل ابن الحضرمي، وأسر رفيقيه

إلخ وكان ذلك على سبيل الخطأ، وعدم التحقّق من الشّهر الحرام، ولا تنس تعذيب المشركين للمستضعفين المسلمين، فإنّه أشدّ قبحا، وأشنع فعلا من قتل واحد في الشّهر الحرام. والعندية هنا مجاز؛ لأن الله تعالى لا يحويه مكان، ولا يحيط به.

{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ:} والشرك أكبر، وأعظم من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام. {وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ..}. إلخ؛ أي: هم مستمرون على عداوتكم، وقتالكم إلى أن يردّوكم إلى الشّرك؛ إن قدروا على ذلك، ولن يقدروا بتوفيق الله لكم، وحفظه، ورعايته لكم. والخطاب للمسلمين، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، كما يكون الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، ومن المفرد إلى الجمع، وبالعكس. وانظر الآية رقم [131].

{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ} قيّد الردّة بالموت عليها بعد أن يستتاب، فإذا لم يرجع؛ يقتل. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من بدّل دينه؛ فاقتلوه» . والمعنى: من خرج من الإسلام إلى الكفر؛ فاقتلوه، وأما من خرج من كفر إلى كفر؛ فلا سلطان عليه لأحد. والكلام على المرتد وعلى مآله طويل في كتب الفقه، وإذا أخذنا بأحكام الشريعة في هذه الأيام؛ نجد الألوف بل الملايين من أبناء المسلمين مرتدّين، ولا حول ولا قوّة إلا بالله! هذا؛ وقرئ الفعل:

{يَرْتَدَّ} في سورة (المائدة) رقم [54] بالفك، والإدغام.

ص: 503

{فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} والمراد: الأعمال النافعة بطل ثوابها، وأجرها. هذا؛ وفي المصباح المنير: حبط العمل، يحبط من باب: تعب، حبطا بالسكون، وحبوطا: فسد، وهدر. وحبط، يحبط من باب ضرب لغة، وقرئ بها في الشواذ. وحبط دم فلان من باب: تعب: هدر. وأحبطت العمل والدم بالألف: أهدرته. وفي المختار: والحبط بفتحتين: أن تأكل الماشية، فتكثر؛ حتى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها. وقيل:

هو أن ينتفخ بطنها من أكل الذرق، وهو الحندقوق. وفي الحديث:«إنّ ممّا ينبت الرّبيع ما يقتل حبطا، أو يلمّ» . انتهى. واسم هذا الدّاء: حباط. والفعل حبط: لازم، ويتعدّى بالهمزة، كما في قوله تعالى: في كثير من الآيات: {أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ} . وباقي الكلام تقدّم مثله كثيرا.

الإعراب: {يَسْئَلُونَكَ:} فعل وفاعل ومفعول به أول. {عَنِ الشَّهْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به ثان. {الْحَرامِ:} صفة الشهر. {قِتالٍ} بدل اشتمال من الشهر؛ لأن القتال يقع فيه، وهو مشتمل عليه، وقد يقع بدل الاشتمال في إبدال الظاهر من ضمير الغيبة، كما في قوله تعالى في سورة (الكهف):{وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وقوله تعالى في سورة (مريم) على نبينا، وعليها، وعلى ولدها ألف صلاة، وألف سلام:{وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ،} ومن إبدال الظاهر من ضمير التكلم قول عدي بن زيد العبادي: [الوافر]

ذريني إنّ أمرك لن يطاعا

وما ألفيتني حلمي مضاعا

وأيضا، كقول النابغة الجعدي-رضي الله عنه وهو الشاهد رقم [510] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الطويل]

بلغنا السّماء مجدنا وسناؤنا

وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

{فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان ب {قِتالٍ} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير، تقديره عنده: عن الشهر، عن قتال فيه. وقال الفراء: هو مخفوض بإضمار «عن» . وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار. والمعتمد الأول بلا شك.

وجملة: {يَسْئَلُونَكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله أنت. {قِتالٍ:} مبتدأ. {فِيهِ:} متعلقان ب {قِتالٍ} أو بمحذوف صفة له. {كَبِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَصَدٌّ:} الواو: حرف عطف. ({صَدٌّ}): مبتدأ، {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان ب ({صَدٌّ})، أو بمحذوف صفة له، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَكُفْرٌ} معطوف على ({صَدٌّ}). {بِهِ:} متعلقان ب ({كُفْرٌ}) أو بمحذوف صفة له.

ص: 504

{وَالْمَسْجِدِ:} معطوفة على {سَبِيلِ اللهِ} . {الْحَرامِ:} صفة ({الْمَسْجِدِ})، والتقدير: وصد عن المسجد. وقال أبو البقاء: متعلق بمحذوف، دل عليه:({صَدٌّ}) والتقدير: ويصدّون عن المسجد الحرام، وقال الفراء:{وَكُفْرٌ:} عطف على: {كَبِيرٌ،} {وَالْمَسْجِدِ:} عطف على الهاء في:

{بِهِ} فيكون الكلام نسقا متصلا غير منقطع، قال ابن عطية: وذلك خطأ؛ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ} أي: بالله عطف أيضا على {كَبِيرٌ} ويجيء من ذلك: أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بيّن فساده. وصحّح ابن هشام في المغني: أن خفض (المسجد) بباء محذوفة لدلالة ما قبلها عليها، لا بالعطف، ورجوع الجار والمجرور على:(به) لأنه لا يعطف على الضمير المخفوض إلا بإعادة الخافض. {وَإِخْراجُ:} معطوف على: (صدّ)، وهو مضاف، و {أَهْلِهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. التقدير: وإخراجكم أهله، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بالمصدر (إخراج). {أَكْبَرُ:} خبر المبتدأ (صدّ) وما عطف عليه، وساغ ذلك؛ لأنه أفعل تفضيل، وهو يستوي فيه الواحد، والأكثر، والمذكر، والمؤنث، إذا كان مجردا من ال، والإضافة، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

وإن لمنكور يضف أو جرّدا

ألزم تذكيرا وأن يوحّدا

{عِنْدَ} ظرف مكان متعلق ب {أَكْبَرُ} . و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وتمييز {أَكْبَرُ} محذوف، التقدير: أكبر وزرا عند الله، وجملة:{وَصَدٌّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وأيضا الجملة الاسمية:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} معطوفة على ما قبلها، وهي في محل نصب مقول القول مثلها، واعتبار هذه الجمل في محل نصب حال صحيح معنى. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا) نافية. {يَزالُونَ:} فعل مضارع ناقص مرفوع، والواو اسمه. {يُقاتِلُونَكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (يزال) وجملة: {وَلا يَزالُونَ

:} معطوفة على الجمل الاسمية قبلها، وفيه ضعف من جهة المعنى، والأولى عطفها على جملة:{يَسْئَلُونَكَ،} كما يجوز اعتبارها في محل نصب حال من واو الجماعة. فتلخص من ذلك: أن الكلام من قوله: {وَصَدٌّ} إلى قوله: {الْقَتْلِ} يجوز اعتباره معطوفا على جملة:

{قِتالٍ فِيهِ..} . إلخ فهو في محل نصب مقول القول، ويجوز اعتباره في محل نصب حال من الضمير المستتر في:{كَبِيرٌ} والرابط: الواو فقط، وأن جملة:{وَلا يَزالُونَ..} . إلخ يجوز فيها ثلاثة أوجه: العطف على جملة: {يَسْئَلُونَكَ..} . إلخ، والحالية من واو الجماعة، والاستئناف.

{حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَرُدُّوكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عَنِ}

ص: 505

{دِينِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جرّ بالإضافة. {إِنِ:} حرف شرط جازم.

{اِسْتَطاعُوا:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن استطاعوا أن يردّوكم؛ فليردوكم.

({مِنَ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ {يَرْتَدِدْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مِنَ}). {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل {يَرْتَدِدْ} المستتر، و ({مِنَ}) بيان لما أبهم في (من). {عَنْ دِينِهِ:} متعلقان بالفعل يرتدد، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَيَمُتْ:} الفاء: حرف عطف. يمت: معطوف على: {يَرْتَدِدْ} مجزوم مثله، والفاعل يعود إلى ({مِنَ}) أيضا. {وَهُوَ كافِرٌ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل (يمت) المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {حَبِطَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَعْمالُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:(أولئك..) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، والمرجح: أنه جملتا الشرط والجواب، كما رأيته فيما سبق، والجملة الاسمية:({مِنَ..}.) إلخ مستأنفة لا محل لها. {فِي الدُّنْيا} متعلقان بالفعل: {حَبِطَتْ،} وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {وَالْآخِرَةِ:} معطوف على ما قبله. {وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ:} تقدّم مثل هذه الجملة كثيرا، ويأتي مثلها، وفي محل الجملة الاسمية وجهان: عطفها على جملة جواب الشرط، واستئنافها. تأمل، وتدبّر.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}

الشرح: قال جندب بن عبد الله، وعروة بن الزبير-رضي الله عنهما: لمّا قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام؛ توقّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه؛ الّذي وفّق في فرضه له عبد الله بن جحش، وفي الأسيرين، فعنّف المسلمون عبد الله بن جحش، وأصحابه؛ حتّى شقّ ذلك عليهم، فتلافاهم الله-عز وجل-بهذه الآية في الشهر الحرام، وفرّج عنهم، وأخبر: أنّ لهم ثواب من هاجر، وغزا. وقال بعض المسلمين: إن سلموا من الإثم؛ فليس لهم أجر، فردّ الله عليهم بهذه الآية. فالإشارة إليهم في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ثم هي باقية في كلّ من فعل ما ذكره الله عز وجل.

ص: 506

{هاجَرُوا:} الهجرة معناها: الانتقال من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني، والهجر ضدّ الوصل، وهو بفتح الهاء، والهجر بضم الهاء: الفحش في القول. ({جاهَدُوا}):

قاتلوا. {فِي سَبِيلِ اللهِ:} من أجل نصر دين الله. {أُولئِكَ:} المؤمنون المهاجرون المجاهدون.

{يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ:} يطلبون رحمة الله بما فيها من خير عميم، وفضل عظيم. وإنّما قال جلّ ذكره:{يَرْجُونَ} وقد مدحهم، وأثنى عليهم بالإيمان والهجرة والجهاد؛ لأنّه لا يعلم أحد في هذه الدنيا: أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في طاعة الله كلّ مبلغ؛ لأمرين: أحدهما: لا يدري بما يختم له، والثاني: لئلا يتّكل على عمله.

هذا؛ والرجاء: الطّمع، والأمل في الشيء، والرّجاء معه خوف لا بدّ، كما أنّ الخوف معه رجاء، والرّجاء من الطّمع، والأمل (ممدود)، والرّجا بالقصر: ناحية الشيء، وطرفه، والعوام من الناس يخطئون في قولهم: يا عظيم الرجا، ويقال: ترجيته، وارتجيته، ورجيته، كله بمعنى:

رجوته، قال بشر يخاطب ابنته:[الوافر]

فرجّي الخير وانتظري إيابي

إذا ما القارظ العنزيّ آبا

والرجاء بمعنى الأمل، والطّماعية في الشّيء، ومنه قول الشاعر:[الوافر]

أترجو أمّة قتلت حسينا

شفاعة جدّه يوم الحساب

والرّجاء يأتي بمعنى عدم المبالاة إذا كان منفيّا، قال خبيب بن عدي رضي الله عنه:[الطويل]

لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما

على أيّ جنب كان في الله مصرعي

وقد يأتي الرجاء بمعنى الخوف، وبه فسر كثير من المفسرين الآية الأخيرة من سورة (الكهف) وغيرها، وهي لغة تهامة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي في صفة عسّال، وهو الذي يقطف عسل النحل:[الطويل]

إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عوامل

وقال بعض العلماء: لا يقع الرّجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد؛ أي: النّفي، كقوله تعالى:{ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً} وقال بعضهم: بل يقع في كلّ موضع دلّ عليه المعنى، وهو المعتمد. هذا، والدّبر: النحل، والنّوب بضم النون أيضا: النّحل، واحدة: نوب. {وَاللهُ غَفُورٌ} لما فعله أهل سرية عبد الله خطأ، وقلّة احتياط. {رَحِيمٌ:} بهم، فهو يجزل لهم الأجر، والمثوبة، وهما صيغتا مبالغة.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {آمَنُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق

ص: 507

المحذوف: صلة الموصول، لا محل لها. {وَالَّذِينَ هاجَرُوا:} معطوف على ما قبله، وجملة:

{وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} معطوفة على جملة الصّلة، لا محل مثلها، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {يَرْجُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ، {رَحْمَتَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مبتدأة، والجملة الاسمية:{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط الواو، وإعادة الاسم الكريم بلفظه، والاستئناف ممكن.

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}

المناسبة: لمّا ذكر الله تعالى في الآية السابقة أحكام الجهاد، وبيّن الهدف السامي من مشروعيته، وهو نصرة الحق، وإعزاز الدّين، وحماية الأمة من أن يلتهمها العدو الخارجيّ؛ ذكر بعدها ما يتعلق بإصلاح المجتمع الداخلي على أسس من الفضيلة والخلق الكريم، ولا بدّ للدولة من الإصلاح الداخلي، والخارجي؛ لتقوم دعائمها على أسس متينة، وتبقى صرحا شامخا، لا تؤثر فيه الأعاصير.

الشرح: {يَسْئَلُونَكَ:} فقد روى جماعة عن ابن عبّاس-رضي الله عنهما-قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة، كلّهن في القرآن:

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ،} {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ،} {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى..} . إلخ ما كانوا يسألون إلا عمّا ينفعهم. قال ابن عبد البر: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث.

أقول: يناقض هذا قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [101]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} وقوله تعالى في سورة المجادلة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وعن المغيرة بن شعبة-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ الله حرّم عليكم، عقوق الأمّهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم: قيل، وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال» . أخرجه البخاريّ، وغيره. فهذا يدلّ على أنّهم كانوا يكثرون السؤال.

ص: 508

{عَنِ الْخَمْرِ:} {الْخَمْرِ:} مأخوذ من خمر: إذا ستر، ومنه: خمار المرأة. وكلّ شيء غطّى شيئا فقد خمره. ومنه قول النّبي صلى الله عليه وسلم: «خمّروا آنيتكم» . فالخمر تخمر العقل، أي: تغطيه، وتستره، ومن ذلك الشّجر الكثير الملتف يقال له: الخمر بفتح الميم؛ لأنه يغطّي ما تحته، ويستره، يقال منه: أخمرت الأرض: كثر خمرها، قال الشاعر:[الوافر]

ألا يا زيد والضّحّاك سيرا

فقد جاوزتما خمر الطّريق

أي: سيرا مدلّين فقد جاوزتما الوهدة الّتي يستتر بها الذّئب، وغيره. وهو على حذف مضاف؛ إذا التقدير: يسألونك عن شرب الخمر. {وَالْمَيْسِرِ} أي: وعن تعاطي الميسر: وهو قمار العرب بالأزلام، واشتقاقه من اليسر؛ لأنّه أخذ المال بسهولة من غير تعب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الرّجل في الجاهلية يقامر الرّجل على أهله، وماله، فأيّهما قمر صاحبه؛ ذهب بماله، وأهله. والأزلام هي: سهام الميسر، وهي أحد عشر سهما، منها سبعة لها حظوظ، وفيها فروض على عدد الحظوظ، وهي: الفذّ، وفيه علامة واحدة، وله نصيب، وعليه نصيب إن خاب. الثاني: التوأم، وفيه علامتان، وله نصيبان وعليه نصيبان. الثالث:

الرّقيب، وفيه ثلاث علامات على ما ذكرنا. الرابع: الحلس، وله أربع. الخامس: النّافر، أو النافس أيضا، وله خمس. السّادس: المسبل، وله ست. السّابع: المعلّى، وله سبع، فذلك ثمانية، وعشرون فرضا، وأنصباء الجزور كذلك في قول الأصمعي، وبقي من السّهام أربعة، وهي الأغفال، لا فروض لها، ولا أنصباء، وهي: المصدّر، والمضعّف، والمنيح، والسّفيح.

وقيل: الباقية الأغفال الثلاثة: السّفيح، والمنيح، والوغد. قال بعضهم:[مجزوء الرمل]

لي في الدّنيا سهام

ليس فيهنّ ربيح

إنمّا سهمي وغد

ومنيح وسفيح

تزاد هذه الثلاثة لتكثر السّهام على الّذي يجيلها، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا. وكانت عادة العرب أن تضرب الجزور بهذه السّهام في الشدّة، وضيق الوقت، وكلب البرد على الفقراء، يشترى الجزور، ويضمن الأيسار ثمنها، ويرضى صاحبها من حقّه، وكانوا يفتخرون بذلك، ويذمّون من لم يفعل ذلك منهم، ويسمونه البرم؛ أي: البخيل. قال متمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك، ومدحه:[الطويل]

ولا برما تهدي النّساء لعرسه

إذا القشع من برد الشّتاء تقعقعا

وكانوا لا يأكلون منه شيئا، ويدعونه للفقراء، ويكتفون بمدح الناس لهم، والثّناء عليهم.

تنبيه: نزل في الخمر أربع آيات، نزل في مكّة قوله تعالى في سورة (النّحل):{وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فهذه الآية في معرض الامتنان على الناس جميعا، فكان المسلمون يشربونها، وهم في مكّة، وهي حلال لهم، وبعد

ص: 509

الهجرة إلى المدينة المنورة جاء عمر، ومعاذ، ونفر من الصّحابة رضوان الله عليهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! أفتنا في الخمر، فإنّها مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزلت الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، فشربها قوم، وتركها آخرون تورّعا، وترجيحا لمضرّتها على منفعتها، الّتي ذكرتها، ثم إن عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-دعا جماعة من الصحابة إلى بيته، فشربوا، وسكروا، فلمّا حضرت صلاة المغرب، قدّموا أحدهم يصلّي بهم، فقرأ سورة (الكافرون):{قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} إلخ، وحذف (لا) النافية، فأنزل الله تعالى قوله في سورة (النساء):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى..} . إلخ، فتركها الأكثرون، وقلّ من يشربها، وعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-كان يقول دائما: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا.

ثم إنّ عتبان بن مالك الأنصاري-رضي الله عنه-دعا جماعة من الصّحابة فيهم سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنهم أجمعين-، فأكلوا، وشربوا، حتّى أخذت منهم الخمر، فافتخروا عند ذلك، وانتسبوا، وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد-رضي الله عنه-قصيدة فيها فخر بقومه، وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير، فضرب به رأس سعد، فشجّه موضحة، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه الأنصاريّ، فقال الفاروق-رضي الله عنه: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا! ويروى: أن الحمزة-رضي الله عنه-شرب الخمرة يوما، وخرج، فلقي رجلا من الأنصار، وبيده ناضح ناقة له، والأنصاريّ يتمثّل ببيتين لكعب بن مالك-رضي الله عنه، يمدح بهما قومه، وهما:[الطويل]

جمعنا مع الإيواء نصرا وهجرة

فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر

فأحياؤنا من خير أحياء من مضى

وأمواتنا من خير أهل المقابر

فقال الحمزة-رضي الله عنه: أولئك المهاجرون، وقال الأنصاريّ: بل نحن الأنصار، فجرد الحمزة سيفه، وعدا على الأنصاريّ، فهرب الأنصاريّ، وترك ناضحه، فقطعه الحمزة بسيفه، فجاء الأنصاريّ شاكيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بفعل الحمزة، فغرم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة، فقال الفاروق-رضي الله عنه: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا! فأنزل الله تعالى آية (المائدة) قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} . إلخ إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال الفاروق-رضي الله عنه: انتهينا يا رب! فكانت الآيات مما وافق رأي عمر-رضي الله عنه-وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيّام.

هذا؛ والحكمة في وقوع التّحريم على هذا التّرتيب: أنّ الله تعالى علم: أنّ القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيرا، فعلم أنّه لو منعهم من الخمر دفعة واحدة؛ لشقّ ذلك عليهم، فلا جرم استعمل هذا التّدريج، وهذا الرّفق. قال أنس رضي الله عنه: حرّمت

ص: 510

الخمر، ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، وما حرّم عليهم شيء أشدّ من الخمر. انتهى.

ما تقدّم من الخازن، والبيضاوي، والنّسفي، والجمل، والكشّاف بتصرّف كبير.

أما بالنسبة لتحريم الخمر، فقد روى أنس-رضي الله عنه-قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: «عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له» . رواه الترمذيّ.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله حرّم الخمر، وثمنها، وحرّم الميتة، وثمنها، وحرّم الخنزير، وثمنه» . رواه أبو داود، وغيره.

وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زنى، أو شرب الخمر؛ نزع الله منه الإيمان، كما يخلع الإنسان القميص من رأسه» . رواه الحاكم.

وعن خباب بن الأرتّ-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إيّاك والخمرة؛ فإنّ خطيئتها تفرع الخطايا، كما أنّ شجرتها تفرع الشّجر» . رواه ابن ماجة.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا الخمر؛ فإنّها مفتاح كلّ شرّ» . رواه الحاكم.

وعن عثمان بن عفان-رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اجتنبوا أمّ الخبائث.. إلخ» الحديث. رواه ابن حبّان، والبيهقيّ، والأحاديث في ذلك كثيرة. وروي عن عليّ-رضي الله عنه-قال: لو وقعت قطرة خمر في بئر، فبنيت مكانها منارة؛ لم أؤذّن عليها، ولو وقعت في بحر، ثم جفّ، ونبت فيه الكلأ؛ لم أرعه.

ثمّ إنّ الشّارب يصير ضحكة للعقلاء، فيلعب ببوله، وعذرته، وربما يمسح وجهه به؛ حتّى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله، ويقول: اللهم اجعلني من التّوابين، واجعلني من المتطهّرين.

ورؤي بعضهم؛ والكلب يلحس وجهه، وهو يقول له: أكرمك الله؛ كما أكرمتني.

وأمّا القمار؛ فإنه يورث العداوة، والبغضاء؛ لأنه أكل مال الغير بالباطل، والحكم في الآية يعمّ جميع أنواع القمار فكلّ شيء فيه مقامرة؛ فهو من الميسر، وكلّ شيء فيه رهن فهو منه، حتى لعب الصبيان بالجوز، والكعاب، والطاولة. وأما النّرد (الورق) فيحرم اللعب به، ولو بغير رهن، ويدلّ على تحريمه ما روي عن بريدة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لعب بالنّرد شير؛ فكأنما صبغ يده في دم خنزير» . رواه مسلم. وعن أبي موسى الأشعريّ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لعب بالنّرد؛ فقد عصى الله ورسوله» . أخرجه أبو داود، وغيره، وقد أخرج البيهقيّ كما في الزّواجر عن يحيى بن كثير؛ قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يلعبون بالنّرد، فقال:«قلوب لاهية، وأيد عاملة، وألسنة لاغية» .

وعن عليّ-رضي الله عنه: قال: النّرد، والشّطرنج من الميسر. واختلفوا في الشّطرنج، فمذهب أبي حنيفة: أنه يحرم اللعب به، سواء كان برهن، أو بغير رهن. ومذهب الشافعي: أنّه

ص: 511

مباح بشروط، ذكرها الشّافعي، فقال: إذا خلا الشطرنج عن الرّهان، واللّسان عن الهذيان، والصلاة عن النسيان؛ لم يكن حراما، وهو خارج عن الميسر؛ لأنّ الميسر ما يوجب دفع مال، وأخذ مال، وهذا ليس كذلك. انتهى خازن. أقول: ولعلّ السبب في عدم تحريمه عند الشّافعي -رحمه الله تعالى-: أنّه قائم على النظر، والفكر. ومثله ما يسمّى اليوم ب «الضّاما» .

{قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي: وزر عظيم، والسّبب في ذلك ما قدّمته من ذكر المفاسد؛ التي تنتج من تعاطيهما، فالخمرة عدو للعقل، فإذا غلبت على عقل الإنسان؛ ارتكب كلّ قبيح، ففي ذلك آثام كبيرة، منها: إقدامه على شرب المحرّم، ومنها: فعله ما لا يحلّ فعله. وأما الإثم الكبير في الميسر؛ فهو أكل المال الحرام بالباطل، وما يجري بين المتقامرين من المشاتمة، والمخاصمة، والمعاداة، وكلّ ذلك فيه آثار كثيرة، وخطيرة. هذا؛ وقرأ حمزة والكسائي:(«كثير») وحجتهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمرة، ولعن معها عشرة، كما رأيت فيما تقدّم، وأيضا جمع المنافع يحسن معه جمع الآثام. وقرأ الباقون:{كَبِيرٌ} وحجّتهم: أنّ الذنب في القمار، وشرب الخمر من الكبائر، فوصفه بالكبير أليق. هذا؛ وقد فسر الإثم في آية (الأعراف) رقم [33] بالخمرة، واستدلوا بقول الشاعر:[الوافر]

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

{وَمَنافِعُ لِلنّاسِ:} ربح الخمر بالتجارة، فقد كانوا يجلبونها من الشّام برخص، فيبيعونها في الحجاز بربح كبير، فهذا أصحّ ما قيل في منفعتها، وقيل: من منافعها: أنّها تهضم الطعام، وتقوي الضّعيف، وتعين على الباه، وتسخّي البخيل، وتشجع الجبان، وتصفّي اللون إلى غير ذلك من اللّذة بها، وقد قال حسان-رضي الله عنه-قبل إسلامه:[الوافر]

ونشربها فتتركنا ملوكا

وأسدا ما ينهنهنا اللّقاء

وأما منفعة القمار، فهي مصير الشّيء إلى الإنسان في القمار بغير كدّ، ولا تعب. {وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما:} أعلم الله-عز وجل: أن الإثم، والضّرر أكبر من النّفع، وأعود بالضّرر في الدنيا والآخرة، فالإثم الكبير بعد التّحريم، والمنافع قبل التحريم؛ فقد سلبهما الله جميع المنافع بعد التّحريم تحريما قاطعا، ومن ظنّ: أن فيهما منفعة بعد التحريم فهو ناقص العقل، والإيمان، دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على زوجه أمّ سلمة-رضي الله عنها-وهي تسقي بنتا لها مريضة شيئا من النّبيذ، فقال لها: ما هذا؟ قالت: إنّها مريضة، وإنّي أداوي بها علّتها. فقال لها صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرّم عليها، إنّها داء، وليست بدواء» . ورحم الله من يقوله: [السريع]

من جعل الخرم شفاء له

فلا شفاه الله من علّته

وإنّ الخمر المحرّمة هي ما خامرت العقل، وغطّته، فمناط الحكم في التّحريم الإسكار، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«كلّ مسكر خمر، وكلّ خمر حرام» . فكلّ ما أسكر تحت أيّ اسم، وفي أيّ

ص: 512

لون، ومن أيّ مادّة؛ كانت فهو حرام. وخاب الفسقة، والفجرة الّذين يقولون: إنّ الله لم يحرم الخمر تحريما قاطعا؛ لأنه لم يذكر مادة: «حرّم» في تحريمها، وقد قال تعالى في تحريم الشّرك:{وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال في تحريم الخمر: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ} فالاجتناب للشرك كالاجتناب للخمر، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

{وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ:} السائل هو عمرو بن الجموح-رضي الله عنه-سأل في الآية رقم [215] عن مصرف الزّكاة، وفي هذه الآية سأل عن قدر الإنفاق، فإنه قال-رضي الله عنه:

كم أنفق؟ {قُلِ الْعَفْوَ،} أي الفضل، أي: ما فضل عن الحاجة، وتيسّر، ومنه قول أسماء بن خارجة الفزاري يخاطب زوجته حين بنى بها:[الطويل]

خذي العفو منّي تستديمي مودّتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السّفلى، وابدأ بمن تعول» . أخرجه مسلم. وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل قال: يا رسول الله! عندي دينار، قال:«أنفقه على نفسك» . قال: عندي آخر، قال:

«أنفقه على أهلك» قال: عندي آخر، قال:«أنفقه على ولدك» . قال: عندي آخر، قال:«فأنت أبصر به» . رواه ابن جرير، وأخرجه مسلم بنحوه. قال الكلبيّ: كان الرّجل بعد نزول هذه الآية؛ إذا كان له مال من ذهب، أو فضة، أو زرع، أو ضرع؛ نظر إلى ما يكفيه، وعياله لنفقة سنة، أمسكه، وتصدّق بسائره، وإن كان ممّن يعمل بيده؛ أمسك ما يكفيه، وعياله يوما، وتصدّق بالباقي؛ حتى نزلت آية الزّكاة المفروضة، فنسخت هذه الآية، وكلّ صدقة أمروا بها.

{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي: كما فصّل لكم هذه الأحكام وبيّنها، كذلك يبيّن لكم سائر الآيات في أحكامه، ووعده، ووعيده. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني في زوال الدّنيا، وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. وقال الحسن-رحمه الله تعالى-: هي والله لمن تفكّر فيها، ليعلم: أن الدنيا دار بلاء، ثم دار فناء، وليعلم: أن الآخرة دار جزاء، ثمّ دار بقاء. وانظر التفكر في آل عمران رقم [191].

الإعراب: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ:} الإعراب مثل الآية [217] إفرادا، وجملة.

{وَالْمَيْسِرِ:} معطوف على ما قبله. {قُلْ:} فعل أمر، والفاعل تقديره: أنت. {فِيهِما:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {إِثْمٌ:}

مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {كَبِيرٌ:} صفة: {إِثْمٌ} . {وَمَنافِعُ:} معطوفة على: {إِثْمٌ} عطف مفرد على

ص: 513

مفرد. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب: ({مَنافِعُ})، أو هما متعلقان بمحذوف صفة له. {وَإِثْمُهُما:} الواو:

واو الحال. ({إِثْمُهُما}): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله؛ لأنّ الخمر، والميسر هما اللذان يؤثمان، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {أَكْبَرُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب (في) العائد على الخمر، والميسر، والرابط: الواو، والضمير. {مِنْ نَفْعِهِما:} متعلقان ب {أَكْبَرُ} والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية.

{وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ:} انظر الإعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [215] والجملة الفعلية معطوفة على أول الآية، لا محل لها مثلها. {الْعَفْوَ} يقرأ بالنصب، والرفع، فالنصب على تقدير فعل، تقديره: أنفقوا العفو، وهذا إن جعلت:{ماذا} اسما واحدا مركبا في محل نصب مفعول به مقدّم للفعل بعده، والرفع على أنّه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: قل: المنفق العفو، وهذا، إن جعلت ({ماذا}) مبتدأ، وخبرا؛ لأن ({الْعَفْوَ}) جواب، وإعراب الجواب كإعراب السّؤال، وحكى النّحويون: ماذا تعلّمت: أنحوا أم شعرا؟ بالنّصب، والرّفع على أنّهما جيدان حسنان؛ إلا أنّ التفسير في الآية على النّصب. والجملة سواء أكانت اسمية، أم فعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ الْعَفْوَ} مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{كَذلِكَ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، عامله الفعل الّذي بعده، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {يُبَيِّنُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله.

{لَكُمُ:} متعلقان به. {الْآياتِ} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وتقدير الكلام: يبين الله لكم الآيات تبيينا مثل هذا التبيين، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تَتَفَكَّرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية تعليل للتبيين. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْآخِرَةِ} معطوف على الدّنيا.

{فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}

الشرح: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى:} روى أبو داود، والنّسائي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: لما أنزل الله تعالى قوله: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله: {إِنْ}

ص: 514

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، واعتزل الأوصياء اليتامى، ومخالطتهم، والاهتمام بشئونهم تحرّجا من الإثم، فشقّ ذلك على الأوصياء، واليتامى، فذكروا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فخلطوا طعامهم بطعام اليتامى، وشرابهم بشرابهم.

{قُلْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} أي: مخالطتهم، ومداخلتهم لإصلاح أحوالهم، وإصلاح أموالهم بالحفظ، والتنمية خير من مجانبتهم. {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} أي:

إذا خلطتم أموالهم بأموالكم على وجه المصلحة لهم؛ فهم إخوانكم في الدين، وأخوّة الدين أقوى من أخوة النّسب، ومن حقوق هذه الأخوة المخالطة بالإصلاح، والنفع.

{وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ:} وعد، ووعيد، فالوعيد لمن يفسد في مال اليتيم، ويضرّ بمصالحه، والوعد لمن يقوم بتربية اليتيم، وحفظ ماله، والاهتمام بشأنه. والعلم يقتضي المجازاة على الإفساد، والإصلاح. وبالجملة: الله تعالى أعلم وأدرى بمن يقصد بمخالطتهم الخيانة، والإفساد لأموالهم، ويعلم كذلك من يقصد لهم الإصلاح، فيجازي كلاّ بعمله. وبين المفسد، والمصلح طباق، وهو من المحسّنات البديعية.

{وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ:} أي: لو شاء تعالى لأوقعكم في الحرج، والمشقّة، وشدّد عليكم، ولكنّه يسّر عليكم الدّين، وسهّله رحمة بكم. والعنت هنا: المشقة، والتضييق. {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ:} غالب على أمره، قويّ لا يقهره أحد. {حَكِيمٌ:} في صنعه يضع الأمور مواضعها لحكمة يعلمها. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لا يحسن مكانه غفور رحيم. وانظر الآية رقم [209].

الإعراب: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ:} تقدّم إعراب مثل هذه الكلمات إفرادا، وجملة.

{إِصْلاحٌ:} مبتدأ، وهو نكرة سوغ الابتداء به وصفه بالجار والمجرور:{لَهُمْ،} أو بعمله فيهما؛ إن علقتهما به؛ لأنه مصدر. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ إِصْلاحٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {تُخالِطُوهُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{فَإِخْوانُكُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إخوانكم): خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

فهم إخوانكم، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول:

لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مقول القول مثله.

ص: 515

{وَاللهُ:} الواو: واو الحال. ({اللهُ}): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود على (الله)، {الْمُفْسِدَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (إخوانكم) والرابط: الواو، وضمير مقدر؛ إذا التقدير: المفسد لأموالهم، والمصلح لأموالهم. والاستئناف ممكن. {مِنَ الْمُصْلِحِ:} متعلقان بالفعل: {يَعْلَمُ} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: {الْمُفْسِدَ} وذلك على اعتبار (ال) للتعريف.

{وَلَوْ:} الواو: حرف عطف ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {لَأَعْنَتَكُمْ:} اللام: واقعة في جواب ({لَوْ})، (أعنتكم): فعل ماض، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والجملة الفعلية جواب ({لَوْ})، لا محل لها، و ({لَوْ}) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، واعتباره في محل نصب مقول القول غير بعيد.

والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ:} مفيدة للتعليل، لا محل لها.

{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}

الشرح: {وَلا تَنْكِحُوا:} لا تتزوّجوا، فهو من الثلاثي المتعدي لواحد، وهو بفتح تاء المضارعة، بخلاف الآتي؛ فإنّه بضمّها؛ لأنه من الرّباعي وهو حقيقة في العقد، مجاز في الوطء على الأصحّ عند الشافعي، رضي الله عنه، والعكس عند غيره. {الْمُشْرِكاتِ:} جمع: مشركة، وهي الوثنية، مثل: مشركي العرب في الجاهلية، والمجوس، وكل من يدين بدين غير سماوي.

هذا؛ و {الْمُشْرِكاتِ} تعمّ الكتابيات؛ لأنّ أهل الكتاب مشركون، لقوله تعالى في سورة (التوبة):

{وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} وكان ابن عمر-رضي الله عنهما-يقول: حرّم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربّها عيسى، وهو عبد من عباد الله، ومع ذلك فقد خصّت هذه الآية بقوله تعالى في سورة (المائدة):{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ..} . إلخ. {حَتّى يُؤْمِنَّ:} فإن آمنت المشركة؛ فأحر بها أن تكون زوجة، ويحصل أجر، وثواب لمن يكون سببا في إيمانها. هذا؛ ويجوز عند غير الشافعي زواج الكتابية، وتركها على دينها بدون شروط، وعند الشّافعي يجوز زواجها مع بقائها على دينها بشرطين: الأول أن يكون نسبها عائدا إلى يعقوب، على نبينا، وعليه

ص: 516

ألف صلاة، وألف سلام، والثاني: أن يعلم عدم دخول أحد آبائها في اليهودية، أو النّصرانية بعد بعثة محمّد صلى الله عليه وسلم.

{وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} بحسنها، وجمالها، وقدّها، واعتدالها. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم وحذّر من التزوّج لذلك، فقال:«لا تزوّجوا النّساء لحسنهنّ، فعسى حسنهنّ أن يرديهنّ، ولا تزوّجوهنّ لأموالهنّ؛ فعسى أموالهنّ أن تطغيهنّ، ولكن تزوّجوهنّ على الدّين، والخلق، ولأمة خرماء سوداء، ذات دين أفضل» رواه ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

هذا؛ وقال مقاتل-رحمه الله تعالى-: نزلت الآية الكريمة في مرثد بن أبي مرثد الغنوي، واسمه كنّاز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة سرّا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكّة امرأة يحبّها في الجاهلية، يقال لها: عناق، فجاءته، فقال لها: إنّ الإسلام حرّم ما كان بينهما في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال: حتّى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن، فنهاه عن التزوّج بها؛ لأنّه كان مسلما، وهي مشركة، وانظر مثل هذا في رقم [3] من سورة (النور).

هذا؛ وقال السّدّيّ، وغيره: كان لعبد الله بن رواحة-رضي الله عنه-أمة سوداء، فلطمها في غضب، ثمّ ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال:«يا عبد الله! ما هي؟» . فقال: تصوم، وتصلّي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«هذه مؤمنة» . فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنّها، ولأتزوجنّها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، وقالوا: نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فنزل قوله تعالى:{وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} . وقال الطبري، وغيره: نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-فقال لها حذيفة:

يا خنساء! قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك، ودمامتك، وأنزل الله ذكرك في كتابه. هذا، وقال ابن حبيب من المالكية: ونكاح اليهودية، والنصرانية؛ وإن كان الله قد أحلّه مستثقل مذموم. أقول: والسبب في ذلك هو الخوف على الأولاد والّذين تنجبهم من أن يتأثّروا بديانتها، وهذا كله متوقف على شخصية الزّوج، ورجوليته؛ لأنّنا رأينا، وسمعنا: أن رجالا مسلمين تزوجوا نصرانيات، فلمّا كانوا مستقيمين بيّنوا لهن محاسن الإسلام، وأخذوهن باللطف، والمعروف، والدّعوة الحسنة حتّى آمنّ، وصرن أعبد منهم.

طرفة: تزوج رجل مسلم اسما من عائلة كان لها مجد غابر نصرانيّة بإذن أهلها، فأنجبت منه بنتين، فكانت تصحبهما معها إلى الكنيسة؟! والزوج متهتّك ذو شخصية هزليّة، فقلت لقريبه:

كيف يسمح لها أن تصحب البنتين إلى الكنيسة، فقال لي: هي أحسن منه، هي تعرف: أنّها لها دين، وهو لا يعرف: أنّه له دين يدين به، فكانت خيرا منه، فأيّدته.

ص: 517

{وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} أي: ولا تزوجوا المشركين بناتكم، فقد أجمعت الأمّة على أنّ المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام من وجوه: الأول: لأن الإسلام يعلو، ولا يعلى عليه، والزواج فيه علوّ، وتسلّط للرّجل على المرأة، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان. الثاني: جاز أن يتزوج المسلم الكتابية، ولا يجوز أن يتزوج الكتابيّ المسلمة؛ لأنّ المسلم يقدّس ما تقدّسه الكتابية في دينها، من تعظيم مريم، وتقديس عيسى، على نبينا، وعليهما ألف صلاة وألف سلام، فلا يؤذيها بسب ما تعظّمه في دينها، بخلاف الكافر إذا تزوج مسلمة؛ فلا يعظّم ما تعظمه في دينها، فقد يؤذيها بسبّ، وشتم ما تقدّسه في دينها، وهذا لا يحتاج إلى إيضاح.

هذا؛ وفي الآية الكريمة دليل بالنّصّ على أن لا نكاح إلى بوليّ، قال محمد بن علي بن الحسين الشهير بالباقر: النّكاح بوليّ في كتاب الله، ثمّ قرأ:{وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ..} . إلخ قال ابن المنذر: ثبت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلاّ بوليّ» وقد اختلف أهل العلم في النكاح بغير ولي، فقال كثير من أهل العلم:«لا نكاح إلا بولي» . روي هذا الحديث عن عمر بن الخطاب، وعليّ، وابن مسعود، وابن عبّاس، وأبي هريرة-رضي الله عنه، وبه قال من التابعين سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وابن المبارك، والشّافعي، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، ومالك، وأبو ثور، والطّبريّ رضي الله عنهم أجمعين.

ويعضد ما تقدّم قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ} رقم [232] الآتية، وقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [19]:{وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ} فلولا أنّ الولي له حقّ في الإنكاح؛ ما نهي عن العضل، وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [25]:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وقال تعالى في سورة (النور) رقم [32]: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} وقال تعالى عن قول شعيب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في سورة (القصص) رقم [27]:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [34]: {الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ} فقد تعاضد الكتاب، والسنة على أنه لا نكاح إلا بوليّ، ولا تنس الخطاب للأولياء في هذه الآية بقوله تعالى:{وَلا تَنْكِحُوا} .

وروى الدّارقطنيّ عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزوّج المرأة المرأة، ولا تزوّج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوّج نفسها» .

وروى أبو داود من حديث سفيان عن الزّهري، عن عروة، عن عائشة-رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها، فنكاحها باطل-ثلاث مرّات- فإن دخل بها؛ فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا؛ فالسّلطان وليّ من لا وليّ له» . وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها» فإن المعنى في أنه لا يعقد عليها إلا برضاها،

ص: 518

لا أنها أحقّ بنفسها في أن تعقد عقد النكاح على نفسها دون وليّها، ولو كانت ثيبا، أو بنت خمسين سنة، وعن عائشة-رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلاّ بولي، وشاهدي عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك؛ فهو باطل، فإن تشاجروا؛ فالسلطان وليّ من لا وليّ له» . في هذا الحديث زيادة «شاهدي عدل» وبه أخذ الشّافعيّ رضي الله عنه.

هذا؛ وقد كان الزّهري، والشعبيّ يقولان: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين، فذلك نكاح جائز، وبقولهما أخذ أبو حنيفة، رضي الله عنه. وقال أيضا: إن زوجت نفسها غير كفؤ؛ فالنّكاح جائز، وللأولياء أن يفرّقوا بينهما. قال ابن المنذر-رحمه الله تعالى-: وأما ما قاله النعمان؛ فمخالف للسنة، خارج عن قول أكثر أهل العلم. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى: لا يجوز النكاح إلا بوليّ. فإن سلّم الولي جاز، وإن أبى والزوج كفؤ؛ أجازه القاضي. وهو قول محمد بن الحسن، ولا خلاف بين أبي حنيفة وأصحابه: أنه إذا أذن لها وليها، فعقدت النّكاح بنفسها جاز، وحمل القائلون بمذهب الزّهري قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا نكاح إلاّ بوليّ» على الكمال، لا على الوجوب، واستدلّوا على هذا بقوله تعالى:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ} وقوله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية رقم [232] الآتية، وأيضا رقم [239]، وبما روى الدّارقطني عن سماك بن حرب، قال: جاء رجل إلى عليّ-رضي الله عنه فقال: امرأة أنا وليّها، تزوّجت بغير إذني، فقال عليّ-كرم الله وجهه-: ينظر فيما صنعت، فإن كانت تزوّجت كفؤا؛ أجزنا ذلك لها، وإن كانت تزوجت غير كفؤ لها؛ جعلنا ذلك إليك. وفي الموطأ: أنّ عائشة-رضي الله عنها-زوّجت بنت أخيها عبد الرحمن؛ وهو غائب، ولكن ثبت:

أنّ عائشة قرّرت المهر، وأحوال النكاح، وتولّى العقد أحد عصبتها، ونسب العقد إلى عائشة لمّا كان تقريره إليها. واختلف في الأولياء، فالأرجح: أنّهم العصبات على ترتيب الإرث.

{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ} أي: مملوك. {خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أي: بحسنه، وماله، وحسبه، ومنصبه. {أُولئِكَ} أي: المشركون من رجال، ونساء. {يَدْعُونَ إِلَى النّارِ} أي: إلى الأعمال الموجبة إلى النار، فإن صحبتهم، ومخالطتهم، ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النّسل. {وَاللهُ يَدْعُوا} أي: المؤمنين إلى العمل المؤدي على غفران الذنوب، ثمّ إلى دخول الجنة. {بِإِذْنِهِ:} بتوفيقه للطاعات، وإرادته للخيرات. وبين الجملتين مقابلة، وهي من المحسّنات البديعيّة. {وَيُبَيِّنُ آياتِهِ:} أحكام شريعته. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ:} يتعظون، فيعملون بأحكامه، ومواعظه. انتهى كلّه من القرطبي بتصرف كبير.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. ({لا}) ناهية جازمة. {تَنْكِحُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف في الجمع للتفريق. {الْمُشْرِكاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه

ص: 519

جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يُؤْمِنَّ:} فعل مضارع مبني على السكون، وهو في محل نصب ب «أن» المضمرة، ونون النسوة فاعله، ومتعلقه محذوف، التقدير: يؤمنّ بالله ورسوله، و «أن» المضمرة، والفعل {يُؤْمِنَّ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{وَلَأَمَةٌ:} الواو: واو الاعتراض. اللام: لام الابتداء. (أمة): مبتدأ. {مُؤْمِنَةٌ:} صفة لها.

{خَيْرٌ:} خبر المبتدأ. {مِنْ مُشْرِكَةٍ:} متعلقان ب {خَيْرٌ؛} لأنه أفعل تفضيل، والجملة الاسمية معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. وقال البيضاويّ، والجمل-رحمهما الله تعالى-: تعليل للنّهي. ولا أرى له وجها؛ لأن الواو لا تفيد التعليل، ولو قالا: هي في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من نون النسوة؛ لكان وجها مقبولا. والرابط: الواو فقط. {وَلَوْ:} الواو:

واو الحال. ({لَوْ}): وصلية. {أَعْجَبَتْكُمْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى {مُشْرِكَةٍ} والجملة الفعلية في محل نصب حال من الموصوف ب {مُشْرِكَةٍ،} التقدير: امرأة مشركة، وهو أولى من اعتبارها حالا من:{مُشْرِكَةٍ،} والرابط: الواو والضمير، وتكون الحال متداخلة على وجه مرّ ذكره، أو هي مكررة.

{وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ:} إعراب هذا الكلام مثل إعراب سابقه، مع ملاحظة حذف المفعول الأول للفعل:({لا تَنْكِحُوا})، إذ التقدير: لا تنكحوا بناتكم المشركين.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، يكون فيه تغليب الذكور على الإناث. هذا؛ وإن اعتبرت الفعل مبنيا على السكون، ونون النسوة فاعله؛ يكون فيه تغليب الإناث على الذّكور، والأول أولى لشرف الذكور، وعلى الوجهين فالجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية، لا محلّ لها على الاعتبارين. ({اللهُ}) مبتدأ. {يَدْعُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}). {إِلَى الْجَنَّةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، {وَالْمَغْفِرَةِ:}

معطوفة على ما قبله. {بِإِذْنِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {يَدْعُوا} المستتر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ يَدْعُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، ({يُبَيِّنُ}) فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}) {آياتِهِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِلنّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من {آياتِهِ} التقدير: واضحات للناس، وجملة:{وَيُبَيِّنُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {يَدْعُوا..} .

إلخ فهي في محل رفع مثلها وجملة: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} مفيدة للتعليل، لا محل لها.

ص: 520

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}

الشرح: كان أهل الجاهلية لا يساكنون الحيّض من النّساء، ولا يؤاكلونهنّ، كفعل اليهود والمجوس، واستمرّ ذلك إلى أن سأل ثابت بن الدّحداح-رضي الله عنه-مع نفر من الصّحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت الآية الكريمة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«اصنعوا كلّ شيء إلاّ النّكاح» . فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئا من أمرنا؛ إلا خالفنا فيه! وإذا علمت: أنّ النّصارى كانوا لا يتحاشون شيئا حتى الجماع؛ تبيّن لك: أن شريعتنا الغرّاء وسط بين التّفريط، والإفراط.

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ:} أي: يسألك المسلمون عن المحيض. هذا؛ وقد جاء هذا الفعل ثلاث مرات مقرونا بواو العطف، وجاء أربع مرات غير مقرون بواو العطف، كما رأيت فيما مضى ذكره في هذه السورة الكريمة. والجواب: أن السؤالات الأواخر وقعت في وقت واحد، فجمع بينها بواو العطف المفيدة لمطلق الجمع، وأما السؤالات الأولى، فوقعت في أوقات متفرقة، فلذلك استؤنفت كلّ جملة منها، وجيء بها وحدها. انتهى. جمل بتصرف كبير.

{الْمَحِيضِ:} الحيض، وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضا، ومحاضا، ومحيضا، فهي حائض بدون تاء، كطالق، وعاقر؛ لأنها أوصاف خاصّة بالنساء، وروي: حائضة عن الفرّاء، وأنشد:[الطويل]

كحائضة يزنى بها غير طاهر

هذا؛ وللحيض أسماء كثيرة؛ منها: الطّمث، ومنها: ضاحك، كما في سورة هود رقم [71] قوله تعالى:{وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ،} ومنها: كابر، كما في سورة يوسف رقم [31] {فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}. والحيض: خلقة في النّساء، وطبع معتاد معروف منهنّ، تترك المرأة الصّوم، والصلاة في أيام حيضها، وفي أيام نفاسها وجوبا، ويحرم عليها قراءة القرآن، ودخول المسجد، والطواف في المسجد الحرام، وتمكين زوجها منها، ولكنّها تقضي الصّوم، ولا تقضي الصلاة لكثرتها، وتراكمها في كلّ شهر بخلاف الصّوم.

فقد روى البخاريّ-رحمه الله تعالى-عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو فطر إلى المصلّى، فمرّ على النساء، فقال:«يا معشر النّساء! تصدّقن، فإنّي أريتكنّ أكثر أهل النّار» . فقلن: وبم يا رسول الله؟! قال: «تكثرن اللّعن، وتكفرن

ص: 521

العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرّجل الحازم من إحداكنّ». قلن: وما نقصان عقلنا، وديننا يا رسول الله؟! قال:«أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرّجل؟» قلن:

بلى! قال: «فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ، ولم تصم؟» قلن: بلى يا رسول الله! قال: «فذلك من نقصان دينها» .

هذا؛ وأمّا نكران العشير؛ فقد فسّر في حديث آخر بأنّ الرجل مهما صنع مع المرأة من معروف، ثم رأت ما يغيّر خاطرها؛ تقول: ما رأيت منك خيرا قط! وهذا واقع، وكثير في هذا الزمن.

{قُلْ هُوَ أَذىً} أي: هو شيء تتأذّى به المرأة، وغيرها، وهو كناية عن القذر، ويطلق أيضا على القول المكروه، ومنه قوله تعالى في الآية رقم [264]:{لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى} وقوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [48]: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} وفي حديث شعب الإيمان: «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» .

{فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ} أي: في زمن الحيض، أو في محلّه، فظهر بذلك: أنّ المحيض يطلق على الحيض نفسه إذا كان مصدرا، وعلى زمانه، وعلى مكانه، وهذا مقرّر في القواعد النحوية، مثل قوله تعالى في سورة (طه) حكاية عن قول فرعون الطاغية لموسى-عليه السلام:{فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ} ف {مَوْعِداً} يحتمل اسم الزمان، واسم المكان. أمّا كيفية اعتزال الرجل المرأة في أيام حيضها، ونفاسها أيضا؛ فقد روي في ذلك حديثان: الأول: قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لمن سأله: ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال:

«شدّ عليها إزارها، ثمّ شأنك بأعلاها» . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة-رضي الله عنها: «شدّي عليك إزارك، ثمّ عودي إلى مضجعك» . وقال صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كلّ شيء إلاّ النّكاح» . والأول أحوط؛ لأنّ من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ:} هو كناية عن جماعهنّ، وهو أبلغ في النهي عن التعبير بالجماع.

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [186]. هذا؛ ويقرأ الفعل بتسكين الطاء، وتشديدها على أن أصله:

يتطهّرن، فعل به ما فعل بقوله تعالى:{يَطَّوَّفَ} في الآية رقم [158]. {فَإِذا تَطَهَّرْنَ} أي:

اغتسلن بالماء، وهو قول الشافعي، ومالك، وأحمد رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة، وصاحباه-رضي الله عنهم: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة؛ لم يجز حتى تغتسل، أو يدخل عليها وقت صلاة، واختلف في الزوجة الكتابية، هل تجبر على الاغتسال، من الحيض، والنفاس، أو لا تجبر؟ لا شكّ إن امتنع عنها مدّة؛ فإنها تخضع، وتغتسل بدون إكراه لها، وهو أفضل له.

{فَأْتُوهُنَّ:} جامعوهن، وهو كناية أيضا، وهذا شأن الله-جلّ الله، وتعالى شأنه-في كتابه من استعمال الكنايات في الألفاظ غير الحسنة. {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ:} {مِنْ} بمعنى «في»

ص: 522

أي: فأتوهنّ في المحل الذي أمر الله بالإتيان فيه. وهو معروف. والأمر للإباحة. هذا؛ وأقل الحيض عند الشّافعي، وأحمد، ومالك يوم، وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما، وأقلّه عند أبي حنيفة ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام، وما نقص عن الأقل، وزاد على الأكثر؛ فهو استحاضة عند الجميع. والمستحاضة لا تمنع من عبادة من العبادات، لكنّها تتحفّظ بعد دخول وقت الصلاة، وتتوضّأ، وتبادر للصّلاة.

{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ} من الذنوب، فهو صيغة مبالغة، وانظر الآية رقم [37]:{وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أي: من الأقذار، والفواحش، ومن إتيان المرأة في أيام الحيض. هذا؛ ومعنى محبة الله للعبد: رضاه عنه، ورحمته، ورضوانه، وبغضه له هو العكس.

هذا؛ والنهي للتّحريم، وهي بمعنى: إلى أن، ويجب على من وطئ الحائض في أوّله أن يتصدق بدينار مع التّوبة، وعلى من وطئ في آخره أن يتصدّق بنصف دينار. وقدّم الله بالذّكر التائبين من الوطء بالحيض، والتائبين من غيره على من لم يذنب؛ لئلا يقنط التائب من الرحمة، ولا يعجب المتطهر بنفسه، كما قال تعالى في الآية رقم [32] من سورة (فاطر):{فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} .

الإعراب: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ} هذه الكلمات تقدّم إعراب مثلها فيما تقدّم جملة، وإفرادا، {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَذىً:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَاعْتَزِلُوا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدر، (اعتزلوا): فعل أمر مبني على حذف النّون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {النِّساءَ:} مفعول به. {فِي الْمَحِيضِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {النِّساءَ} وهو أولى من تعليقهما بالفعل قبلهما؛ إذا المعنى: متلبسات في الحيض. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان الحيض أذى كما ذكر؛ فاعتزلوا

إلخ. {وَلا:} الواو: حرف عطف، (لا) ناهية جازمة. {تَقْرَبُوهُنَّ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا)، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَطْهُرْنَ:} فعل مضارع مبني على السكون في محل نصب ب «أن» المضمرة بعد {حَتّى،} ونون النسوة فاعله، والمتعلق محذوف، و «أن» المضمرة بعد:{حَتّى} والفعل: {يَطْهُرْنَ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} ونون النسوة فاعله، والمتعلق محذوف، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل قبلهما.

{فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزّمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السّكون في محل نصب. {تَطَهَّرْنَ:} فعل، وفاعل،

ص: 523

والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {فَأْتُوهُنَّ:} الفاء:

واقعة في جواب (إذا). (ائتوهنّ): فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والنون حرف دالّ على جماعة الإناث، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها جواب لشرط غير جازم، وهو (إذا)، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {مِنْ حَيْثُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و {حَيْثُ} مبني على الضم في محل جرّ. {أَمَرَكُمُ:} فعل ماض، والكاف مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة:{حَيْثُ} إليها، {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية، تعليل للأمر، لا محلّ لها. {التَّوّابِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} إعراب هذه المفردات واضح إن شاء الله، والجملة الفعلية معطوفة على خبر:{إِنَّ} .

{نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}

الشرح: روى الأئمّة، واللّفظ لمسلم-رحمه الله تعالى-عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرّجل امرأته من دبرها في قبلها؛ جاء الولد أحول، فنزلت الآية:{نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ} أي: مقبلات، ومدبرات، قائمات، وقاعدات، مستلقيات، ومجبّيات

إلخ، لكن في الفرج فقط، وفي الحديث:«أقبل، وأدبر، واتّق الدّبر، والحيضة» . أخرجه الترمذيّ. هذا؛ والحرث: مصدر، أخبر به عن الجمع، مثل:

رجل صوم، وقوم صوم، والحرث: بمعنى المحترث، وهو على حذف مضاف؛ أي: موضع حرث، أو على سبيل التشبيه، فالمرأة كالأرض، والنطفة من الرّجل كالبذر، والولد كالنبات الخارج من الأرض. وأنشد ثعلب:[مجزوء الرمل]

إنّما الأرحام أرضون لنا محترثات

فعلينا الزّرع فيها وعلى الله النّبات

قال الزّمخشري-رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ،} {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ،} {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ} هو من الكنايات اللطيفة، والتعريضات المستحسنة، وهذه، وأمثالها في كلام الله آداب حسنة، على المؤمنين أن يتعلّموها، ويتأدّبوا بها. ويتكلّفوا مثلها في محاوراتهم، ومكاتباتهم، وخذ ما يلي:

عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: إن ابن عمر-والله يغفر له-أوهم، إنّما كان هذا الحيّ من الأنصار-وهم أهل وثن-مع هذا الحيّ من يهود، وهم أهل كتاب، وكانوا يرون لهم

ص: 524

فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب، ألا يأتوا النّساء إلا على حرف (على جنب)، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النّساء شرحا منكرا، ويتلذّذون منهنّ مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة؛ تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت: إنّما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك، وإلا؛ فاجتنبني، حتّى شري أمرهما، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله-عز وجل:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ؛} أي: مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد. أخرجه أبو داود. ومعنى قوله:(أوهم) ابن عمر، فإنه قال: يأتيها في قبلها، وسكت، ولم يزد على ذلك.

{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} أي: الأعمال الصّالحات، وما ينفعكم غدا، فحذف المفعول، وقيل: هو طلب الولد الصّالح، وقيل: التسمية قبل الوطء، وفيه الترغيب من النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال:«لو أنّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله؛ قال: بسم الله، اللهمّ جنّبنا الشّيطان، وجنّب الشّيطان ما رزقتنا، فإنّه إن يقدّر بينهما ولد في ذلك؛ لم يضرّه شيطان أبدا» . أخرجه البخاريّ، ومسلم عن ابن عبّاس-رضي الله عنهما-واللفظ لمسلم.

{وَاتَّقُوا اللهَ} تحذير، ووعيد. {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ:} صائرون إلى الله، وذلك بالبعث، والحشر بعد الموت فاستعدّوا للقائه بالعمل الصّالح، وترك العمل السّيّئ. وعن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب يقول:«إنكم ملاقوا الله حفاة، عراة، مشاة، غرلا» ثمّ تلا قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ..} . إلخ. أخرجه مسلم بمعناه.

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ:} المستوجبين للمدح، والتعظيم بترك القبائح، وفعل الأعمال الصّالحات، ولا تنس الالتفات من خطاب الجماعة إلى خطاب المفرد.

بعد هذا؛ فقد رأيت: أنّه لا يجوز للرّجل أن يأتي امرأته في أيّام حيضها، ونفاسها، كما لا يجوز له أن يأتيها في دبرها. وخذ ما يلي من قول سيد الخلق، وحبيب الحقّ صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله ابن عمرو-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي اللّوطيّة الصّغرى، يعني: الرّجل يأتي امرأته في دبرها» . رواه أحمد، والبزّار. وعن خزيمة بن ثابت-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لا يستحيي من الحقّ-ثلاث مرات-لا تأتوا النّساء في أدبارهنّ» . رواه ابن ماجة، والنّسائي. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى النّساء في أعجازهنّ؛ فقد كفر» . رواه الطّبرانيّ في الأوسط. وعنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«ملعون من أتى امرأة في دبرها» . رواه أحمد، وأبو داود، وعنه أيضا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا، فصدّقه؛ كفر بما أنزل الله على محمّد صلى الله عليه وسلم» .

رواه خمسة غير البخاريّ، ومسلم.

ص: 525

الإعراب: {نِساؤُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {حَرْثٌ} خبر المبتدأ.

{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف صفة: {حَرْثٌ} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {فَأْتُوا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدّر. (ائتوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {حَرْثَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشّرط المقدر ب «إذا» التقدير: وإذا كان نساؤكم حرثا لكم؛ فأتوا حرثكم. {أَنّى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب حال تقدم على عامله، وقيل: هو في محل نصب على الظرفية متعلّق بالفعل بعده. {شِئْتُمْ:} فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان للفعل قبلها. هذا؛ والجملة الشرطية التي رأيت تقديرها معطوفة على الجملة الاسمية، لا محل لها مثلها.

{وَقَدِّمُوا:} الواو: حرف عطف. ({قَدِّمُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف، انظر تقديره في الشّرح، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وأيضا جملة:{وَاعْلَمُوا..} . إلخ. {أَنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {مُلاقُوهُ:} خبر (أنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنّه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جرّ بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي:(اعلموا). {وَبَشِّرِ:}

الواو: حرف استئناف، (بشر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها.

{وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}

الشرح: {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً:} العرضة: فعلة بمعنى: مفعول، كالقبضة بمعنى المقبوض، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء، من عرض العود على الإناء، فيعترض دونه، ويصير حاجزا، ومانعا منه، تقول: فلان عرضة دون الخير. والعرضة أيضا: المعرض للأمر؛ بمعنى المعدّ، والمهيّأ، قال الشاعر أبو تمّام:[الطويل]

دعوني أنح وجدا كنوح الحمائم

ولا تجعلوني عرضة للّوائم

وفلان عرضة للنّاس: لا يزالون يقعون فيه، والعرضة: الهمّة، والقدرة، قال حسّان-رضي الله عنه:[الوافر]

وقال الله قد أعددت جندا

هم الأنصار عرضتها اللّقاء

ص: 526

{أَنْ تَبَرُّوا} أي: في أن تفعلوا الخير، والمعروف، والإحسان. {وَتَتَّقُوا:} الله.

{وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ:} والمعنى: لا تمنعنّكم الأيمان بالله عز وجل من فعل الخير، وتقوى الله، والإصلاح بين الناس؛ إذا كانوا متنازعين متخاصمين. {وَاللهُ سَمِيعٌ} لأقوالكم، وأيمانكم.

{عَلِيمٌ} بنيّاتكم، وأحوالكم، وأفعالكم، فهما صيغتا مبالغة.

هذا؛ والإصلاح بين النّاس مقامه عظيم، وأجره كبير، وخذ ما يلي:

فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام، والصّلاة، والصّدقة؟» قالوا: بلى! قال: «إصلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة» . رواه أبو داود، والتّرمذيّ، وقال الترمذي أيضا: ويروى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشّعر، ولكن تحلق الدّين» .

هذا؛ وقد أباح الرّسول صلى الله عليه وسلم الكذب لإصلاح ذات البين، كما إذا غيّر الكلام القبيح من أحد المتخاصمين بكلام حسن. وخذ ما يلي:

فعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط-رضي الله عنها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح» . وفي رواية أخرى: «ليس بالكاذب من أصلح بين النّاس، فقال خيرا، أو نمى خيرا» . رواه أبو داود.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-حين حلف: أنّه لا ينفق على مسطح ابن خالته لافترائه على عائشة، رضي الله عنها. والقصّة مذكورة بكاملها في سورة (النّور) وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة-رضي الله عنه-حين حلف: أنّه لا يكلّم ختنه-أي: صهره- بشير بن النعمان، ولا يصلح بينه، وبين أخته عمرة، وهي زوجة بشير-رضي الله عنهم-أجمعين.

والمعنى: لا تمتنعوا من فعل الخير؛ إذا حلفتم عليه، بل ائتوه، وكفروا، كقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة:«إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها؛ فائت الّذي هو خير، وكفّر عن يمينك» .

رواه البخاريّ، ومسلم. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها؛ فليكفّر عن يمينه، وليفعل الّذي هو خير» . رواه مسلم، وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها؛ إلاّ أتيت الّذي هو خير، وتحلّلتها» . رواه البخاريّ، ومسلم. وقيل:

معنى الآية الكريمة: لا تكثروا الحلف بالله؛ وإن كنتم بارّين متّقين مصلحين، فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجراءة على الله، وقد نهى الله عن كثرة الحلف، كما نهى عن تصديق من يكثر الحلف.

فقال تعالى في سورة (القلم): {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف، ({لا}): ناهية جازمة. {تَجْعَلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النّون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف

ص: 527

للتّفريق فيه وفيما بعده. {اللهَ عُرْضَةً:} مفعولان للفعل: {تَجْعَلُوا،} والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لِأَيْمانِكُمْ} متعلقان بمحذوف صفة: {عُرْضَةً} وأجيز تعليقهما بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَنْ تَبَرُّوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والمصدر المؤوّل منهما في محل نصب على نزع الخافض، التقدير:

في أن تبروا. وهذا على قول الخليل، والكسائي، رحمهما الله تعالى. وقال الزمخشريّ، وتبعه البيضاويّ، والنّسفيّ، والجمل: عطف بيان ل (أيمانكم) أي: للأمور المحلوف عليها، الّتي هي البرّ، والتقوى، والإصلاح بين الناس. وقيل: المصدر المؤول في محل رفع مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: البرّ، والتّقوى، والإصلاح أولى، وأمثل، مثل قوله تعالى:{طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} . وهو قول الزّجاج، والنّحاس، وهو يفيد: أنّ الجملة الاسمية تعليل للنّهي، وقال الزّجاج أيضا: محل المصدر النّصب بفعل محذوف، التّقدير: لا تمنعنّكم اليمين بالله-عز وجل عن البر، والتقوى، والإصلاح. وإذا رجعنا إلى قول البصريين، والكوفيين في مثل ذلك، فالبصريون يعتبرون المصدر في محل جر بإضافة مفعول لأجله محذوف، التقدير: مخافة أو كراهة بركم، والكوفيون يقدّرون: لئلا تبروا، كقوله تعالى:{يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} الآية رقم [176] من سورة (النساء). {وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا:} هذان الفعلان معطوفان على: {تَبَرُّوا} وهما مثله في الإعراب، والتأويل، والتقدير. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. و {بَيْنَ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ:} معترضة في آخر الكلام، وهي متضمّنة معنى الوعيد، والتهديد، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين.

{لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}

الشرح: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ:} اللغو: هو السّاقط من الكلام؛ الذي لا يعتدّ به، ولغو اليمين ما لا عقد معه، قال الفرزدق:[الطويل]

ولست بمأخوذ بلغو تقوله

إذا لم تعمّد عاقدات العزائم

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو قول الرّجل في درج كلامه، واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، وإي والله، وكلاّ والله لمجرد التّوكيد لقوله، فهذا لا إثم فيه، ولا كفارة. وعليه قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [89]:{لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ} .

وعن عروة بن الزبير: أنّ خالته الصّدّيقة بنت الصّدّيق-رضي الله عنهم، قالت: أيمان اللغو ما كانت في المراء، والهزل، والمزاحة، والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب. وقيل: اللّغو: أن يحلف الرجل على شيء يرى أنّه صادق، ثم يتبيّن له خلاف ذلك. وبه قال أبو حنيفة، ومالك.

والأول هو مذهب الشافعي، ولا كفارة على مذهبه، ولا كفارة على مذهب مالك، وأبي حنيفة،

ص: 528

كلّ فيما ذهب إليه، ومذهب الشّافعي هو قول عائشة، والشعبي، وعكرمة، ومذهب مالك، وأبي حنيفة هو قول ابن عبّاس، والحسن، ومجاهد، والنخعي، وغيرهم. {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: لكن يؤاخذكم بما عزمتم عليه، وقصدتم له، كما قال تعالى في آية (المائدة):

{وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ} . وكسب القلب هو العقد، والعزم، والنية. و {وَاللهُ غَفُورٌ} لعباده فيما هو لغو من أيمانهم، والتي أخبر أنه لا يؤاخذهم عليها، ولو شاء لآخذهم، وألزمهم الكفارة في العاجل، والعقوبة عليها في الآجل. {حَلِيمٌ} في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة.

قال الحليمي-رحمه الله تعالى-في معنى: الحليم: إنّه الّذي لا يحبس إنعامه، وإفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكنّه يرزق العاصي، كما يرزق المطيع، ويقيه؛ وهو منهمك في معاصيه، كما يقي البرّ المتّقي، وقد يقيه الآفات، والبلايا، وهو غافل لا يذكره فضلا عن أن يدعوه، كما يقيها الناسك الذي يدعوه، ويسأله. وقال أبو سليمان الخطّابي: الحليم: ذو الصفح، والأناة الذي لا يستفزّه غضب، ولا يستخفّه جهل جاهل، ولا عصيان عاص، ولا يستحقّ الصّافح من العجز اسم الحليم، إنما الحليم الصفوح مع القدرة على الانتقام، المتأنّي؛ الذي لا يعجّل بالعقوبة.

تنبيه: لا يجوز الحلف إلا باسم من أسماء الله الحسنى، أو بصفة من صفاته تعالى؛ مثل قولك: وقدرة الله، وعزة الله

إلخ. أما كفارة اليمين؛ فقد ذكرت في آية المائدة مخيرة ابتداء مرتبة انتهاء، وقد أنكرت على من يفتي بإعطاء عشرة مساكين خمسة كيلوات من القمح كفارة اليمين، وأما اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، فهي التي يقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حقّ. وخذ ما يلي:

عن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «من اقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه؛ فقد أوجب الله له النّار، وحرّم عليه الجنّة» . قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئا يسيرا؟ فقال: «وإن كان قضيبا من أراك» . رواه مسلم والنّسائيّ وابن ماجة.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء ممّا عصي الله به هو أعجل عقابا من البغي، وما من شيء أطيع الله فيه أسرع ثوابا من الصّلة، واليمين الفاجرة تدع الدّيار بلاقع» . رواه البيهقيّ. ولا تنس: أنّ حقّ الكافر أعظم جرما من حقّ المسلم.

الإعراب: {لا:} نافية. {يُؤاخِذُكُمُ:} فعل مضارع، والكاف مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بِاللَّغْوِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي أَيْمانِكُمْ} متعلقان ب: (اللغو)؛ لأنه مصدر، كما يجوز تعليقهما بمحذوف حال من (اللغو) على اعتبار (ال) فيه للتعريف، أي: اللغو كائنا في أيمانكم، وبمحذوف صفة له على اعتبار (ال) فيه للجنس، التّقدير: اللغو الكائن في أيمانكم. والكاف ضمير متصل في محلّ جرّ بالإضافة.

ص: 529

{وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنْ}): حرف استدراك مهمل، لا عمل له. {يُؤاخِذُكُمُ:}

فعل مضارع، والكاف مفعوله، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {كَسَبَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، {قُلُوبُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالّذي، أو بشيء كسبته قلوبكم، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بكسب قلوبكم، والجملة الاسمية:{وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} معترضة في آخر الكلام، الغاية منها تأكيد الغفران، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من فاعل:{يُؤاخِذُكُمُ} المستتر؛ فلست مفنّدا. والرابط: الواو، والضمير.

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}

الشرح: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ:} يحلفون، والمصدر: إيلاء، وأليّة، فالإيلاء في اللغة: الحلف، قال الشاعر:[الطويل]

فآليت لا أنفكّ أحدو قصيدة

تكون وإيّاها بها مثلا بعدي

وفي الشرع: اليمين على ترك وطء الزّوجة. وقال ابن دريد في مقصورته: [الرجز]

أليّة باليعملات يرتمي

بها النّجاء بين أجواز الفلا

وجمع ألية: ألايا، قال الشّاعر:[الطويل]

قليل الألايا حافظ ليمينه

وإن سبقت منه الأليّة برّت

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان إيلاء الجاهلية السّنة، والسّنتين، وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقّت الله للمسلمين أربعة أشهر، فمن آلى بأقلّ من ذلك، فليس بإيلاء حكميّ. ولا تنس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم آلى على نسائه كما ستراه في سورة الأحزاب حينما سألته زيادة النّفقة، وكذلك آلى من زينب-رضي الله عنها-حيث ردت هديّته. ذكره ابن ماجة.

هذا؛ ويقال: آلى، يؤلي، وتألّى تألّيا، وائتلى ائتلاء؛ أي: حلف، ومنه قوله تعالى:{وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ..} . إلخ [النور: 22]. {مِنْ نِسائِهِمْ} أي: يحلفون على نسائهم ألا يجامعوهن. والإيلاء: الحلف، وحقّه أن يعدّى ب «على» ولكن لمّا ضمن هذا القسم معنى البعد عدّي ب «من». {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي: انتظار، وتمهل، وترقّب، وتأخّر، ومنه قوله تعالى في كثير من الآيات:{قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ،} وقال الشاعر: [الطويل]

تربّص بها ريب المنون لعلّها

تطلّق يوما أو يموت حليلها

ص: 530

والحكم في ذلك: أنّ الزوج إذا حلف لا يطأ زوجته مدّة أقل من أربعة أشهر؛ فليس لها حق المطالبة بذلك، وإذا حلف مدّة أربعة أشهر؛ فلها الحقّ أن ترفع دعواها إلى الحاكم، كما سيأتي. وجعل الله للزوج مدّة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر، لقوله تعالى في سورة (النّساء) رقم [34]:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ} . وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهرا تأديبا لهنّ، وقد قيل: إنّ الأربعة الأشهر، هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها. وقد روي: أن الفاروق-رضي الله عنه-كان يطوف ليلة بالمدينة، فسمع امرأة تنشد:[الطويل]

تطاول هذا اللّيل واسودّ جانبه

وأرّقني أن لا حليل ألاعبه

فو الله لولا الله أنّي أراقبه

لحرّك من هذا السّرير جوانبه

مخافة ربّي والحياء يصدّني

وأكرم بعلي أن تنال مراتبه

فسأل عمر-رضي الله عنه-عن المرأة، فقيل له: إنّ زوجها مع المجاهدين في العراق، فاستدعى نساء، فسألهنّ: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقلّ صبرها في ثلاثة، وينفد صبرها في أربعة، فجعل عمر-رضي الله عنه-مدّة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت استردّ الغازين، ووجّه آخرين. وهذا-والله أعلم-يقوي اختصاص مدّة الإيلاء بأربعة أشهر.

{فَإِنْ فاؤُ:} رجعوا في المدة، أو بعدها عن اليمين إلى الوطء، ويحنث في يمينه، فيكفّر عنها، يقال: فاء، يفيء، فيئة، وفيوءا، وإنّه لسريع الفيئة، يعني: الرجوع. قال الشاعر: [الطويل]

ففاءت، ولم تقض الّذي أقبلت له

ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

{فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ} أي: لهم ما أتوه من ضرر المرأة بالحلف. {رَحِيمٌ:} أي: بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة.

الإعراب: {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {يُؤْلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.

{مِنْ نِسائِهِمْ:} متعلّقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {تَرَبُّصُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، و {تَرَبُّصُ} مضاف، و {أَرْبَعَةِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لظرفه، و {أَرْبَعَةِ} مضاف، و {أَشْهُرٍ} مضاف إليه. {فَإِنْ:} الفاء حرف تفريع، وعطف.

(إن): حرف شرط جازم. {فاؤُ:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فَإِنْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {غَفُورٌ رَحِيمٌ} خبران ل (إنّ)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد، و (إنّ) ومدخولها كلام مفرّع عمّا قبله، لا محلّ له.

ص: 531

{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}

الشرح: {عَزَمُوا الطَّلاقَ:} العزم، والعزيمة: ما عقدت عليه نفسك من أمر: أنّك فاعله.

و {الطَّلاقَ:} حل عقدة النكاح، وأصل معناه: التّخلية. يقال: نعجة طالق، وناقة طالق؛ أي:

مهملة، قد تركت في المرعى، لا قيد لها، ولا راعي. {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ} لأقوال المولين. {عَلِيمٌ} بأحوالهم، وجميع تصرفاتهم.

ملخص الإيلاء: أن يحلف الرّجل أن لا يطأ امرأته مدّة تزيد على أربعة أشهر، فتنتظره الزّوجة مدّة أربعة أشهر، فإن وطئها؛ فبها، ونعمت، ويكون قد حنث في يمينه، وعليه الكفارة، وإن لم يطأها؛ وقعت الفرقة، والطّلاق بمضيّ تلك المدة عند أبي حنيفة، وعند الشّافعي، وأحمد ومالك: ترفع أمرها للقاضي، فيأمره إمّا بالفيئة، أو الطّلاق، فإن أبى عنهما؛ طلّق عليه الحاكم طلقة رجعيّة. هذا هو خلاصة حكم الإيلاء، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ..} . إلخ: إعراب هذه الآية مثل إعراب سابقتها بلا فارق. وقيل:

{الطَّلاقَ} منصوب على نزع الخافض، التقدير: على الطلاق. وقيل: إنّ جواب الشرط محذوف، التقدير: فليوقعوه، وعليه تكون الجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ مفيدة للتعليل.

{وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}

الشرح: {وَالْمُطَلَّقاتُ:} جمع: مطلقة بصيغة مفعول. لمّا ذكر الله الإيلاء، وأنّ الطلاق قد يقع فيه؛ بيّن تعالى حكم المرأة بعد التّطليق. ولفظ ({الْمُطَلَّقاتُ}) عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهنّ، وخرجت المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [49]:{فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها،} وخرجت الحامل بقوله تعالى في سورة (الطلاق) رقم [4]:

{وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ:} ينتظرن، ويتمهّلن عن النّكاح، والأزواج، وهو بمعنى الأمر؛ إذ المعنى: لينتظرن، وتغيير العبارة للتّأكيد، والإشعار بأنه ممّا يجب أن يسارع إلى امتثاله، وهو كقولك في الدعاء: رحمه الله. أخرج مخرج الخبر ثقة بالاستجابة، كأنّما وجدت الرّحمة، فهو يخبر عنها. وبناؤه على المبتدأ مما يزيده فضل تأكيد؛ لأن الجملة الاسمية تدلّ على الثبات، والدّوام بخلاف الفعلية. وفي ذكر الأنفس بعث لهن على التربّص؛ لأن أنفس النساء طوامح إلى الرّجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن، ويغلبنها على الطّموح، ويجبرنها على التربّص. وانظر شرح (النّفس) في الآية رقم [9].

ص: 532

{ثَلاثَةَ قُرُوءٍ:} جمع: قرء، بفتح القاف، وضمّها، ولكن جمع الأول: قروء، وأقرؤ، وجمع الثاني: أقراء، وقروء جمع كثرة، والموضع موضع قلّة، فكان الوجه: ثلاثة أقراء.

واختلف في تأويله، فقيل: ووضع جمع الكثرة في موضع جمع القلة. وقيل: لمّا جمع المطلقات؛ أتى بلفظ جمع الكثرة؛ لأن كل مطلقة تتربص ثلاثة قروء. وقيل: التقدير: ثلاثة أقراء، من: قرء. انتهى. عكبري. واختلف في الأقراء، فقال أبو حنيفة، وأحمد-رحمهما الله تعالى-: القرء: الحيض، وهو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم من التابعين. ودليلهم ما جاء في الحديث عن فاطمة بنت أبي حبيش: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «دعي الصّلاة أيّام أقرائك» . فهذا لو صحّ؛ لكان صريحا في أنّ القرء هو الحيض. مختصر ابن كثير. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار. وهو قول عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وهو مذهب الشّافعي، ومالك، واستشهد أبو عبيدة وغيره بقول الأعشى:[الطويل]

أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة

تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

أراد: أنه كان يخرج للغزو، ولم يغش النّساء، فتضيع أقراؤهن زمان الطّهر، لا زمان الحيض. وأصل القرء: الانتقال من الطّهر إلى الحيض، وهو المراد به في الآية؛ لأنّه الدال على براءة الرّحم، لا الحيض. وقال آخر في الحيض:[الرجز]

يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض

يعني: أنّه طعنه، فكان له دم كدم الحائض. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة-رضي الله عنها-في أنّ الأقراء هي الأطهار، وفي أيامنا تعطي المحاكم الشّرعية مدة ثلاثة أشهر للمطلقة المدخول بها، سواء أكانت من ذوات الحيض، أم لا؟ وهو جيّد، وفيه زيادة احتياط لبيان براءة الرّحم، وحفظ الفروج.

{وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ} أي: يخفين ما في أرحامهن من الولد، أو الحيض استعجالا في العدّة، أو إبطالا لحقّ الزوج في الرجعة، وزيادة النفقة عليه. {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ:} هذا وعيد عظيم شديد لتأكيد تحريم الكتمان، وإيجاب لأداء الأمانة في الإخبار عن الرّحم بحقيقة ما فيه. وليس مفهوم الشّرط في الإيمان على أنّه أبيح لمن لا يؤمن أن يكتم؛ لأن ذلك لا يحل لمن لا يؤمن أيضا، فهو كقوله تعالى في سورة (النور):{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} رقم [33].

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ} أي: في زمن التربّص، وهو العدّة الواجب مراعاتها. والبعولة جمع: بعل، وهو الزّوج، سمّي بعلا؛ لعلوه على الزّوجة بما قد ملكه من زوجيتها. ومنه قوله:

ص: 533

{أَتَدْعُونَ بَعْلاً} الآية رقم [125] من سورة (الصّافات)، والبعل: المستعلي على غيره، ولمّا كان الزوج مستعليا على المرأة، قائما بأمرها؛ سمّي بعلا، ويقال للمرأة أيضا: بعل، وبعلة، كما يقال لها: زوج، وزوجة، والتاء في البعولة لتأنيث الجمع، كعمومة، وخئولة. وفي الكشاف:

والبعولة جمع بعل، والتاء لاحقة لتأنيث اللفظ، كما في الحزونة، والسهولة. {إِنْ أَرادُوا} أي:

الأزواج. {أَصْلَحا} أي: إن أراد لأزواج بالرّجعة الإصلاح، وحسن العشرة، لا الإضرار بهنّ.

وهذا الشرط لا مفهوم له مثل سابقه.

{وَلَهُنَّ:} من الحقوق. {مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ:} للأزواج، وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم الحقوق، والواجبات المتبادلة بين الزوجين فيما يلي: عن عمرو بن الأحوص الجشمي-رضي الله عنه:

أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع يقول بعد أن حمد الله، وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال:«ألا استوصوا بالنّساء خيرا، فإنما هنّ عوان عندكم، ليس تملكون منهنّ شيئا غير ذلك؛ إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن؛ فاهجروهنّ في المضاجع، واضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن أطعنكم؛ فلا تبغوا عليهنّ سبيلا، ألا إنّ لكم على نسائكم حقّا، ولنسائكم عليكم حقّا، فحقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقّهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ، وطعامهنّ» . رواه ابن ماجة، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّي لأحبّ أن أتزين لامرأتي، كما أحبّ أن تتزيّن لي؛ لأن الله يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ..} . إلخ. {وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي: في الفضيلة في الخلق والخلق، والمنزلة بين الناس، وطاعة الله، والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة، وهو واضح في الميراث، والجهاد، ومن ذلك وجوب طاعتها له إذا دعاها إلى فراشه، ولا يجب عليه إجابتها لذلك، لكن يسنّ؛ حتى يعفّها. قال تعالى في سورة (النساء) رقم [34]:{الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ} .

قال ابن عباس-رضي الله عنهما-التقدير: بما ساق لها من المهر، وبما أنفق عليها.

وقيل: إنّ فضيلة الرجل على المرأة بأمور، منها: العقل، والشهادة، والميراث، والدّية، وصلاحية الإمامة، والقضاء، وللرّجل أن يتزوج عليها، وليس لها ذلك، وبيد الرجل الطلاق، وبيده الرجعة إذا طلقها رجعيّا، وليس بيدها شيء من ذلك. ولا تنس: أنّ هذه الدرجة تكليف، لا تشريف، لقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ} . {وَاللهُ عَزِيزٌ} أي: قوي في انتقامه ممّن عصاه، وخالف أمره. {حَكِيمٌ:} في أمره، ونهيه، وشرعه، وتشريعه. ولا يصلح مكان هذه الجملة {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} انظر الآية رقم [218].

بعد هذا أذكر: أنه كان الرّجل في الجاهلية يطلّق امرأته ما شاء من الطلاق، ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدّتها، ولو طلقها ألف مرة، كان له الحق في مراجعتها، فعمد رجل في الإسلام

ص: 534

لامرأته، فقال لها: لا آويك، ولا أدعك تحلّين! قالت: وكيف؟ قال: أطلقك، فإذا دنا مضيّ عدّتك؛ راجعتك. فشكت المرأة أمرها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ..} . {الطَّلاقُ مَرَّتانِ..} . إلخ، أما الرجعة إن كانت قبل انقضاء العدّة؛ فلا يكلّف الزوج شيئا ماديّا، ولا تتوقّف الرجعة على رضا الزّوجة، وموافقتها، وأمّا بعد انقضاء العدة؛ فيكلّف الزوج مهرا جديدا، وتحتاج إلى عقد جديد بوليّ، وشاهدين، كما رأيت فيما تقدّم، وتحتاج أيضا إلى موافقة الزوجة؛ لأنها بانقضاء عدّتها ملكت نفسها. هذا؛ والرجعة قبل انقضاء العدّة تحتاج إلى لفظ: راجعت زوجتي، ونحو ذلك عند الشافعي، ومالك، وتحصل الرّجعة قبل قضاء العدّة عند أبي حنيفة بالوطء، والنّظر بشهوة إلى فرجها، وكذا إن قبّلها، أو لمسها بشهوة، ونحو ذلك، ويسنّ الإشهاد على الرّجعة خوفا من الإنكار، قال تعالى في سورة (الطلاق):{فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} رقم [2].

وفسر الشّيعة الإشهاد على الطّلاق، ولذلك لا يقع الطلاق عندهم إلا إذا أشهد عليه، ووجد من يفتي بذلك، فيتحمّل الذّنوب لقاء دريهمات يأخذها من الناس، وحسابهم على الله تعالى.

الإعراب: ({الْمُطَلَّقاتُ}): مبتدأ. {يَتَرَبَّصْنَ:} فعل مضارع مبني على السكون، ونون النسوة فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.

{بِأَنْفُسِهِنَّ} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة، والنون حرف دالّ على جماعة الإناث. وقيل: الباء زائدة، و (أنفسهن): توكيد للضمير. وليس بشيء؛ لأنه لا يوجد فاصل لصحّة التوكيد. قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته: [الرجز]

وإن تؤكّد الضّمير المتّصل

بالنّفس، والعين فبعد المنفصل

عنيت ذا الرّفع وأكّدوا بما

سواهما، والقيد لن يلتزما

{ثَلاثَةَ:} مفعول به على حذف مضاف، التقدير: يتربصن مضيّ ثلاثة، فلما حذف المضاف؛ أقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: هو ظرف زمان على تقدير مدّة ثلاثة. و {ثَلاثَةَ:}

مضاف، و {قُرُوءٍ:} مضاف إليه. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {يَحِلُّ:} فعل مضارع، {لَهُنَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والنون حرف دال على جماعة الإناث في كلّ الآية. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَكْتُمْنَ:} فعل مضارع مبني على السكون، وهو في محل نصب ب {أَنْ،} ونون النسوة فاعله، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل رفع فاعل:{يَحِلُّ،} التقدير: ولا يحل لهنّ كتمان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {خَلَقَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو

ص: 535

الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو شيئا خلقه الله. {فِي أَرْحامِهِنَّ:} متعلقان بالفعل خلق، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف. {أَنْ:} حرف شرط جازم.

{كُنَّ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والنون اسمها.

{يُؤْمِنَّ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان) والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، التقدير: إن كن يؤمن؛ فلا يكتمن. والجملة الشرطية بكاملها بمنزلة الحال من نون النسوة، وهي غير مقيد بها الكتمان كما رأيت في الشرح. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالْيَوْمِ:} معطوفة على لفظ الجلالة. {الْآخِرِ:} صفة اليوم.

{وَبُعُولَتُهُنَّ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَحَقُّ:} خبر المبتدأ. {بِرَدِّهِنَّ:}

متعلقان ب {أَحَقُّ} لأنه صفة مشبهة، أو اسم فاعل، ففاعله مستتر فيه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله. {فِي ذلِكَ} متعلقان ب {أَحَقُّ} أو ب (ردهنّ) لأنه مصدر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية السابقة لا محل لها مثلها، واعتبارها في محل نصب حال من نون النسوة غير مستبعد، وعليه فالرابط: الواو، والضمير. {أَنْ} حرف شرط. {أَرادُوا:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِصْلاحاً:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها، على مثال ما تقدّم، وجواب الشرط محذوف، التقدير: إن أرادوا إصلاحا؛ فهم أحقّ بردّهنّ. والجملة الشرطية في محل نصب حال من فاعل: {أَحَقُّ} المستتر، وانظر ما ذكرته في سابقتها.

({لَهُنَّ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِثْلُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {الَّذِي} مضاف إليه مبني على السكون في محل جر. {عَلَيْهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {بِالْمَعْرُوفِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {مِثْلُ،} وجوز أن يكونا متعلقين بالخبر المحذوف، الذي متعلق به ({لَهُنَّ}) والأول أولى، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية السابقة لا محل لها أيضا، والاستئناف ممكن. {وَلِلرِّجالِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {عَلَيْهِنَّ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، وجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال من {دَرَجَةٌ} وهو ضعيف. {دَرَجَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، وفي هذه الجملة إيجاز، وإبداع لا يخفى، فقد حذف من الأول بقرينة الثاني، ومن الثاني بقرينة الأول. والمعنى: ولهنّ على الرّجال من الحقوق، مثل الذي للرّجال عليهنّ من الحقوق. ومثله يسمّى في علم البيان الاحتباك. وفي الجملة من المحسنات البديعية:

الطباق بين ({لَهُنَّ}) و ({عَلَيْهِنَّ})، وهو طباق بين حرفين. والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} معترضة في آخر الكلام. انظر معناها في الشرح.

ص: 536

{الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (229)}

الشرح: عن عروة بن الزبير-رضي الله عنهما-قال: كان الرجل إذا طلق امرأته، ثمّ ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها؛ كان له ذلك، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته، فطلقها، حتى إذا شارفت انقضاء عدّتها؛ ارتجعها، ثم قال: والله لا آويك إليّ، ولا تحلّين أبدا، فأنزل الله تعالى:{الطَّلاقُ مَرَّتانِ} . وثبت: أنّ أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت العدّة عندهم معلومة مقدّرة، ولما نزلت الآية الكريمة؛ استقبل الناس الطلاق جديدا من ذلك اليوم من كان طلق، ومن لم يكن طلق. انتهى خازن. أخرجه الترمذيّ. هذا؛ والطلاق اسم مصدر بمعنى التطليق، كالسلام بمعنى التسليم، والمعنى: التّطليق الرجعي اثنتان؛ لما روي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثالثة؟ فقال: «إمساك {بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» . أخرجه الدارقطنيّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

هذا؛ والطلاق في أصله مباح، وقد يكون مكروها؛ إذا كانت الزّوجة صالحة مستقيمة، وقد يكون مندوبا؛ إذا كانت سيئة الخلق، لا تخضع لأوامر الزّوج، وقد يكون واجبا؛ إذا كانت المرأة معوجّة السلوك في عرضها، وخلقها، أو تخونه في ماله، ونفسها، فقد روى الدّارقطني عن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحبّ إليه من العتاق، ولا خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطّلاق، فإذا قال الرجل لمملوكه: أنت حرّ إن شاء الله؛ فهو حرّ، ولا استثناء له، وإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فله استثناؤه، ولا طلاق عليه» . وهذا في طلاق الصّالحة المستقيمة، كما قدمت. وممّن رأى الاستثناء في الطلاق طاوس، وحمّاد، وأبو ثور، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا يراه مالك، والأوزاعي، والحسن، وقتادة. انتهى قرطبي بتصرف.

هذا؛ وللطلاق ألفاظ صريحة لا تحتاج إلى نيّة عند الشّافعي، وهي لفظ الطلاق، والسّراح، والفراق، وهو ممّا ورد به القرآن، قال تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} وقوله: {أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ،} وهناك ألفاظ كثيرة تعدّ كناية عن الطلاق، إن نوى الطلاق؛ يقع، وإن لم ينوه؛ لم يقع. وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق. ولفظ:(عليّ الحرام) هو من

ص: 537

الكنايات عند الشّافعي، ومن الطلاق عند أبي حنيفة، كما هو مشهور في مذهبه. هذا؛ واختلف في لفظ الثلاث: قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: واتفق أئمّة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السّلف، وشذّ طاوس، وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع واحدة، وقال بعضهم: لا يلزم منه شيء، وهو قول مقاتل بن سليمان، ويحكى عن داود: أنه قال: لا يقع. وروى كثيرون عن ابن عباس-رضي الله عنهما فيمن طلّق امرأته ثلاثا: أنه قد عصى ربه، وبانت منه امرأته، ولا ينكحها إلا بعد زوج. وفي ذلك ما يدلّ على وهن رواية طاوس، وغيره، وما كان لابن عباس أن يخالف الصّحابة إلى رأي نفسه.

وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر-رضي الله عنه: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم.

هذا؛ والطلاق على ضربين: سنّيّ: وهو أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، وبدعي: وهو أن يطلقها في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، وعدّ منه الطلاق بلفظ الثلاث.

هذا؛ ومعنى ما تقدم: الطّلاق المشروع؛ الذي يملك به الزوج الرّجعة مرتان، وليس بعدها إلا المعاشرة بالمعروف مع حسن المعاملة، أو التسريح؛ أي: التطليق بإحسان بألا يظلمها من حقّها شيئا، ولا يذكرها بسوء، ولا ينفّر الناس عنها.

{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} أي: ولا يحلّ لكم أن تضاجروهن، وتضيقوا عليهن؛ ليفتدين منكم بما أعطيتموهنّ من المهور، أو بعضها، كما قال تعالى:{وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} رقم [19] من سورة (النساء)، وانظر الآية رقم [231] الآتية. {إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ} المعنى: إلا أن يظنّ كلّ واحد من الزّوجين بنفسه: أنه لا يقيم حقّ النكاح لصاحبه حسب ما يجب عليه فيه لكراهة يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ. واختلف هل يكتفي الزوج أن تردّ عليه ما أعطاها؟، فمذهب الشافعي يجوز أن يأخذ منها أكثر ممّا أعطاها. والخوف هنا بمعنى العلم، أي: أن يعلما ألا يقيما حدود الله.

{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي: فإن خفتم سوء العشرة بينهما، وأرادت الزوجة أن تختلع بالنزول عن مهرها، أو بدفع شيء من المال لزوجها؛ حتّى يطلقها، فلا إثم، ولا مؤاخذة عليهما. والخطاب للولاة، وللأولياء. هذا؛ وأصل {خِفْتُمْ:} (خوفتم) فحذفت الواو لثقل الكسرة عليها، فصار الفعل:({خِفْتُمْ}) ثم قلبت الفتحة كسرة لخفتها، وهي دالة على حركة المحذوف، ولو كانت دالة على المحذوف؛ لكانت ضمّة.

ص: 538

تنبيه: أول خلع حصل في الإسلام كان بما يلي: روى عكرمة عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: أوّل من خالع في الإسلام أخت عبد الله بن أبي ابن سلول، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا، إنّي رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدّة، إذا هو أشدّهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها، فقال: أتردّين عليه حديقته؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته. ففرّق بينهما، رواه ابن ماجة، ورواه البخاريّ بتغيير ببعض ألفاظه.

كما اختلف في المرأة فقيل: اسمها: جميلة، وقيل: اسمها: حبيبة، وقيل: هي أخت عبد الله المنافق. وقيل: هي بنته، والمعتمد: أنّها أخته، وقيل: هي حبيبة بنت سهل الأنصاري، والزوج هو ثابت بن قيس ابن شمّاس رضي الله عنه، وكان في أذنيه صمم.

بعد هذا: فإن كان الزوج مضارّا للزّوجة، وحملها على الافتداء؛ فحرام عليه رائحة الجنّة، ولها العذر بتخليصها نفسها من ظلمه، وأمّا إذا لم يكن لها عذر، وسألت الافتداء منه؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أيّما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنّة» ، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة.

وهذه الصحابية قد بينت العذر في بغضها لثابت، وهذا عذر مقبول، مع كون ثابت من كرام الصّحابة. انظر ما ذكرته بشأنه في سورة (الحجرات) رقم [2] فإنّه جيد والحمد لله، ولا تنس أن ما يعجب الرجل من امرأته، يعجبها منه مثله.

تنبيه: يصحّ الخلع في الحيض، والطّهر؛ لأنه لا يوصف بسنّيّ، ولا بدعيّ، وتملك المرأة به نفسها، فلا رجعة للزّوج عليها إلا بعقد جديد، ومهر، ووليّ، وشاهدين. وهل ينقص الخلع عدد الطّلاق؟ فخذه بما يلي: فعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنهما-سأله، فقال: طلّق رجل امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، أيتزوّجها؟ قال: نعم، ليس الخلع بطلاق. ذكر الطلاق في أوّل الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء، ثم قرأ:{الطَّلاقُ مَرَّتانِ..} . إلخ.

وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رواية عن عثمان، وابن عمر، وبه يقول الإمام أحمد، وهو مذهب الشّافعي في القديم. والقول الثاني في الخلع: إنّه طلاق بائن، وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعي في الجديد. وللشّافعي قول آخر في الخلع، وهو: أنّه إذا لم يكن بلفظ الطلاق، وعري عن البيّنة؛ فليس بشيء بالكلّية، والمفتى به القول الأوّل.

ويؤيّده حديث الرّبيّع بنت معوّذ-رضي الله عنها: أنها اختلعت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تعتدّ بحيضة، فهذا يدل على أن الخلع فسخ لا طلاق، وذلك: أنّ الله تعالى قال:

{وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ولو كانت هذه مطلقة لم يقتصر بها على قرء واحد.

وروى الترمذيّ، وأبو داود، والدّارقطنيّ عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر

ص: 539

امرأة ثابت بن قيس-رضي الله عنه-أن تعتدّ بحيضة واحدة. هذا؛ ويكون الخلع مخلصا، ومخرجا من الحلف بالثّلاث، وتفسيره بما يلي:

إذا حلف على الشّيء بالطّلاق بالثّلاث، تجري المخالعة بينهما، ثم يفعل المحلوف عليه، ثم يرتجعها بعقد جديد، ومهر جديد، ووليّ، وشاهدين، ويكون قد فعل المحلوف عليه، وهي بائنة منه. ولا تنس: أنّ الحلف بالطلاق يمين الفسّاق، فقد ورد في أحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم:«لا يحلف بالطّلاق إلاّ فاسق، ولا يرضى به إلاّ منافق» . وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف بالطّلاق، فقام مغضبا، وظهرت الكراهية في وجهه، وقال:«ألعبا بدين الله؛ وأنا فيكم؟! ألعبا بدين الله؛ وأنا بين أظهركم؟! من كان حالفا؛ فليحلف بالله، أو ليصمت» . انتهى كلّه من القرطبيّ بتصرف كبير.

{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها} أي: هذه الأحكام هي التي شرعها الله في حدوده، فلا تتجاوزوها، كما ثبت في الحديث الصحيح: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حدّ حدودا، فلا تعتدوها، وفرض فرائض، فلا تضيّعوها، وحرّم محارم، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها» . وانظر رقم [187] آخرها ففيها بحث جيّد، والحمد لله!.

{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ:} يتجاوز ما شرعه الله، فقد عرض نفسه لسخط الله، وغضبه، وهو من الظالمين لأنفسهم، المستحقّين للعقاب الشديد، والعذاب الأليم، وقد روعي لفظ ({مَنْ}) في رجوع الفاعل إليها، ومعناه في الإشارة إليها، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {الطَّلاقُ:} مبتدأ. {مَرَّتانِ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والكلام على حذف مضاف؛ إذ التقدير:

عدد الطلاق مرتان. {فَإِمْساكٌ،} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (إمساك): مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: فعليكم إمساك، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالواجب إمساك.

{بِمَعْرُوفٍ:} متعلقان ب (إمساك) لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، وفاعله ومفعوله محذوفان، التقدير: فإمساككم إيّاهنّ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالابتداء، والثانية بالإتباع. {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ:} معطوفة على ما قبلها وهو مثله بالإعراب، هو مثله بالإعراب، والتقدير، والتركيب

إلخ، {وَلا} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية.

{يَحِلُّ:} فعل مضارع. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، {أَنْ تَأْخُذُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَأْخُذُوا} في محل رفع فاعل يحلّ، والتقدير: ولا يحلّ لكم أخذ شيء.

{مِمّا:} جار، ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {شَيْئاً} كان صفة له، فلما قدّم عليه؛ صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدّم عليها صار حالا» . {آتَيْتُمُوهُنَّ:} فعل، وفاعل، والميم علامة جمع الذّكور، وحركت بالضّمّ لتحسين اللّفظ، فتولّدت واو الإشباع، والهاء مفعول

ص: 540

به، والنّون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء آتيتموهن إيّاه.

{شَيْئاً:} مفعول به ل {تَأْخُذُوا} . {إِلاّ:} أداة استثناء {أَنْ يَخافا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَخافا} في محل جر بحرف جرّ محذوف، التقدير: إلا في حال خوف عدم القيام بحقوق الزّوجية، والجار والمجرور متعلّقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال.

أن: حرف ناصب. (لا): نافية. {يُقِيما:} فعل مضارع منصوب ب (أن) وعلامة نصبه حذف النون، والألف فاعله، والمصدر المؤول في محل نصب مفعول به، وانظر ما قدّرته. {حُدُودَ:}

مفعول به، وهو مضاف. {اللهِ:} مضاف إليه.

{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {خِفْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وإعراب:{أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ} ومحله مثل إعراب ما قبله، {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {جُناحَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْهِما:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر (لا).

{فِيمَا:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف. {اِفْتَدَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى المرأة المفهومة من المقام. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) على اعتبارها موصولة، أو صفتها على اعتبارها موصوفة، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء، والجملة الاسمية:(لا {جُناحَ..}.) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل لها.

{تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {حُدُودَ:} خبر المبتدأ، و {حُدُودَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة، (لا): نافية جازمة.

{تَعْتَدُوها:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، و (ها) مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا وحاصلا؛ فلا تعتدوها، والجملة الشرطية هذه معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَعَدَّ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الألف والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) تقديره:«هو» . {حُدُودَ:} مفعول

ص: 541

به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{هُمُ:} ضمير فصل لا محل له. {الظّالِمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ ثانيا، و {الظّالِمُونَ} خبره، فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر:(أولئك)، والجملة الاسمية هذه في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَتَعَدَّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}

الشرح: {فَإِنْ طَلَّقَها} أي: الزوج بعد الطّلقتين ثالثة. قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-:

{فَإِنْ طَلَّقَها} متعلق بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} وتفسير لقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} اعترض بينهم ذكر الخلع، دلالة على أن الطلاق يقع مجانا تارة، وبعوض أخرى. {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي: من بعد الطلقة الثالثة. قال القرطبيّ: احتجّ بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أنّ المختلعة يلحقها الطلاق، قالوا: فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق.

{حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ:} نكاحا صحيحا بشروطه جميعها، وبعد انقضاء عدتها من المطلق. {فَإِنْ طَلَّقَها} أي: الزوج الثاني. {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا:} فلا إثم، ولا مؤاخذة أن يرجع كلّ من المرأة والزوج الأول إلى بعضهما بعد انقضاء عدتها من الثاني، وذلك بعقد جديد، ومهر جديد، ووليّ وشاهدين.

{إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما..} . إلخ؛ أي: إن رأى كلّ من الزّوجين صلاح حاله، وأنّه يقوم بحق الآخر عليه، وأمّل كلّ منهما حياة هانئة مع الآخر. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها:} يوضّحها. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: الحقّ، وفيهم إيمان، وخوف من الله، وإنما خص أهل العلم بالذكر؛ لأن الجاهل إذا كثر له أمره، ونهيه؛ فإنه لا يحفظه، ولا يتعاهده، والعالم يحفظ، ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء، ولم يخاطب الجهّال.

هذا؛ وقال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا: هل على الزوجة خدمته أو لا؟ فبعضهم لم يكلفها خدمته، وإنما قصر أمرها على الاستمتاع بها. أقول: والحقّ: أن هذا يعود إلى حال الزّوج عسرا، ويسرا، وإلى البيئة، فكثير من الناس كانوا فقراء، وكانوا يخدمون غيرهم، فدالت الأيام لهم، فصار عندهم عبيد، وإماء، وخدم، وحشم. وكثير كانوا يخدمون، فدالت الأيام عليهم، والدهر ذو تقلب. وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر، وحديثه بما

ص: 542

ذكرت، ألا ترى: أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كن يتكلّفن الطّحين، والخبيز، والطبيخ، وفرش الفراش، وتقريب الطعام، وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصّرن في ذلك، وقول فاطمة الزهراء-رضي الله عنها:

«طحنت حتّى مجلت يداي» مشهور. والرسول صلى الله عليه وسلم اعتبرها مجاهدة؛ إذا قامت بشئون بيتها، وتربية أولادها، فالمغزل في يدها كالسّيف في يد زوجها، وخذ ما يلي:

عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إنّي وافدة النساء إليك؛ هذا الجهاد كتبه الله على الرّجال، فإن يصيبوا؛ أجروا، وإن قتلوا؛ كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن معشر النساء نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبلغي من لقيت من النّساء: أنّ طاعة الزّوج، واعترافا بحقّه يعدل ذلك، وقليل منكنّ يفعله» . رواه الطّبرانيّ، والبزار.

بعد هذا أذكر: أنّ تزوج المرأة بالزّوج الثاني لا بدّ من الدّخول فيها على مذهب الجمهور، وأنّه لا يكفي العقد عليها؛ لما روى البخاريّ، ومسلم عن عائشة-رضي الله عنها-قالت:

جاءت امرأة رفاعة القرظي، واسمها تميمة، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظي، وكانت عند ابن عمها رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي، فطلقها ثلاثا، وتزوجت غيره، فجاءت للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله كنت عند رفاعة، فطلقني، فبتّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير-بفتح الزاي المشددة-وإنما معه مثل هدبة الثّوب، فتبسّم الرّسول صلى الله عليه وسلم، وقال:

«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟» قالت: نعم. قال: «لا؛ حتّى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته» وأبو بكر جالس.

فإذا علم الزّوج من نفسه: أنّه لا يقدر أن يقوم بحقوق الزوجة المادية، والمعنوية؛ فلا يحل له الإقدام على خطبة أنثى، والعقد عليها؛ حتّى يبيّن لها، وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علّة تمنع الاستمتاع بها، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا؛ فله الردّ، فإن كان العيب بالرّجل؛ فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن لم يدخل بها؛ فلها نصفه، وإن كان العيب بالمرأة؛ ردّها الزوج، وأخذ ما أعطاها من الصّداق، فقد روي: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة، فوجد بكشحها برصا، فردّها، وقال:«دلّستم عليّ» . ومن المنصوص عليه في الفقه من العيوب: الجنون، والجذام، والبرص، والرّتق، والقرن، وأذكر من العيوب هنا: أنه إذا تزوجها بكرا، فوجدها ثيبا، أو كانت لا تأتيها العادة الشّهرية منتظمة-وهذا قد يمنع الحمل-ففي هاتين الحالتين إن وطئها تكن الحقوق بالمصالحة، والتّسامح. والله أعلم.

هذا؛ والحكمة من تزوّج المرأة بالزّوج الثاني الزّجر، والرّدع عن التّسرّع إلى الطلاق، والنفور منه، ومن العود إلى المرأة المطلقة ثلاثا، والرغبة فيها. والنكاح بشرط التحليل فاسد

ص: 543

عند الشّافعي، وأحمد، ومالك. ولو تزوجها، ولم يشترط في العقد: أنه يفارقها؛ فالنّكاح صحيح، ويحصل به التّحليل إذا طلّقها، وانقضت العدّة، غير أنه يكره إذا كان في عزمهما ذلك.

وبه قال الشّافعي، وأبو حنيفة.

هذا وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم: «المحلّل، والمحلّل له» . فخذه بما يلي: عن جابر-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«لعن الله المحلّل، والمحلّل له» . رواه الترمذيّ. وعن عقبة بن عامر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟!» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «هو المحلّل، والمحلّل له» . رواه ابن ماجة. وعن عمر بن نافع عن أبيه: أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر-رضي الله عنهما، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوّجها أخ له من غير مؤامرة منه، ليحلّها لأخيه، هل تحلّ للأول؟ فقال: لا؛ إلا نكاح رغبة، كنّا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الحاكم في المستدرك.

هذا؛ والطلاق سلاح شرعه الله حينما يستفحل النزاع بين الزوجين، ويبدو أن لا وفاق بينهما، والنّصارى الذين كانوا لا يبيحونه قطعا أدركوا حكمة الطلاق؛ فأباحوه في هذه الأيام، وحكمت به محاكمهم، ووقعت الفرقة بين كثير من الأزواج عندهم، ولكن الكثير من المسلمين قد أساءوا استعمال هذا السّلاح في هذه الأيام، كما هو مشاهد، وواقع. فلا حول، ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم!

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (إن): حرف شرط جازم، {طَلَّقَها:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل محذوف لدلالة المقام عليه، و (ها):

مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، انظر الشرح. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا):

نافية. {تَحِلُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى المرأة المطلقة. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط، و (إن) ومدخولها كلام مفرع عما قبله لا محل له. {مِنْ بَعْدُ} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من الفاعل المستتر، وقد يبنى ({بَعْدُ}) على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {تَنْكِحَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة، والفاعل محذوف لدلالة المقام عليه، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{تَحِلُّ،} وساغ ذلك لاختلاف معاني الحروف. {زَوْجاً:} مفعول به. {غَيْرَهُ:}

صفة: {زَوْجاً} والهاء في محل جر بالإضافة، والإضافة للضمير لا تزيده تعريفا لشدة إبهامه.

هذا؛ ولا يخفى عليك بعد هذا الإعراب إعراب: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما} . والمصدر المؤول من: {أَنْ يُقِيما} في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في مراجعتهما، والجار

ص: 544

والمجرور متعلقان بما يتعلق: {عَلَيْهِما} وقد مرّ مثله معنا. {أَنْ:} حرف جازم. {ظَنّا:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، وألف الاثنين فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها، مثل ما تقدّم. {أَنْ يُقِيما:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي:(ظن)، {حُدُودَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{وَتِلْكَ حُدُودُ:} مبتدأ، وخبر، و {حُدُودَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، {يُبَيِّنُها:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} و (ها):

مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{حُدُودَ} أو من: {اللهِ} والرابط على الاعتبارين: الضمير فقط، والعامل في الحال: اسم الإشارة. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة {يَعْلَمُونَ} في محل جر صفة:(قوم) ولم يذكر مفعول للفعل؛ لأنه بمعنى: يفهمون، ويعملون بمقتضى العلم.

{وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}

الشرح: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ..} . إلخ: الخطاب للأزواج. {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ:} قاربن انقضاء عدّتهن؛ لأنّه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، بخلافه في الآية التالية. {فَأَمْسِكُوهُنَّ..} .

إلخ: هذا أمر من العلي القدير للرّجال، بأنّه إذا طلّق أحدهم المرأة طلاقا رجعيّا، أن يحسن في أمرها؛ إذا قاربت انقضاء عدّتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها؛ أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف، وهو أن يشهد على رجعتها، ويعاشرها بالمعروف الّذي أمر الله ورسوله به، أو يتركها؛ حتى تنقضي عدّتها وتذهب إلى حال سبيلها، من غير شقاق ولا مخاصمة، ولا تشاجر. {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً:} قال ابن عباس، ومجاهد-رضي الله عنهم:

كان الرجل يطلّق امرأته، فإذا قاربت انقضاء العدّة راجعها، يقصد ضرها؛ لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها، فتعتدّ، فإذا شارفت على انقضاء عدّتها؛ طلّق؛ لتطول عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعّدهم عليه، فقال جلّ ذكره:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .

{وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً} أي: لا تهزءوا بأحكام الله، وأوامره، ونواهيه، فتجعلوا شريعته مهزوءا بها بمخالفتكم لها. قال الحسن، وقتادة-رضي الله عنهما: هو الرّجل يطلّق،

ص: 545

ويقول: كنت لاعبا. أو يعتق، أو ينكح، ويقول: كنت لاعبا. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: طلّق رجل امرأته، وهو يلعب لا يريد الطّلاق، فأنزل الله تعالى:{وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً} فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطّلاق. وقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث جدّهنّ جدّ، وهزلهنّ جدّ: النّكاح، والطّلاق، والرّجعة» . رواه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجة. والمراد بالرّجعة:

رجعة المرأة المطلّقة، وهي في عدّتها. وراوي الحديث هو أبو هريرة-رضي الله عنه، وروي عن علي، وابن مسعود وأبي الدرداء-رضي الله عنهم-كلهم قالوا: ثلاث اللعب فيهن، واللاعب فيهن جادّ: النكاح، والطلاق، والعتاق.

{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ} أي: بالإسلام وإرسال الرّسول صلى الله عليه وسلم بالهدى، والبيّنات. {وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ:} القرآن. {وَالْحِكْمَةِ:} هي السنّة المطهّرة، وانظر الآية رقم [129] فهو جيد.

والحمد لله! {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي: يأمركم، وينهاكم عن ارتكاب المحارم، ويخوّفكم عقابه. وإنّما لم يثنّ: الضمير؛ لأنه عائد على ({ما}) وانظر ما ذكرته في الآية رقم [270] فإنّه جيد. والحمد لله! {وَاتَّقُوا اللهَ..} . إلخ: تقدّم مثله كثيرا، ومضمونه التّأكيد، والوعيد، والتّهديد.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. ({إِذا}): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {طَلَّقْتُمُ:} فعل، وفاعل. {النِّساءَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على المشهور المرجوح. {فَبَلَغْنَ:} الفاء: حرف عطف. (بلغن): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {أَجَلَهُنَّ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون في الكلّ حرف دالّ على جماعة الإناث. {فَأَمْسِكُوهُنَّ:} الفاء: واقعة في جواب ({إِذا}). (أمسكوهن): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية جواب ({إِذا}) لا محل لها.

{بِمَعْرُوفٍ:} متعلقان بما قبلهما. {أَوْ:} حرف عطف، وجملة:{سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ:} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وإعرابها مثلها أيضا.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية. {تُمْسِكُوهُنَّ:} مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{ضِراراً:} مفعول لأجله، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال؛ أي: مضارين، كجاء زيد ركضا. {لِتَعْتَدُوا:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف فيه، وفيما بعده للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ باللام، والجار والمجرور متعلقان ب {ضِراراً} فيكون علّة للعلّة، ولا يجوز تعليقهما بالفعل؛ لأن المفعول لأجله لا يتعدّد إلا بالعطف، وهو مفقود هنا، انتهى.

جمل. و {وَإِذا} ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله.

ص: 546

{وَمَنْ:} الواو: واو الاعتراض. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَفْعَلْ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، والفاعل يعود إلى ({مَنْ})، تقديره: هو.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع نصب مفعول به، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {ظَلَمَ:} فعل ماض، والفاعل يعد إلى ({مَنْ}). {نَفْسَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جزم عند الجمهور، وخبر المبتدأ الّذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، والمرجّح: أنه جملة الشرط، والجواب. والجملة الاسمية معترضة بين الجملتين المتعاطفتين، الغرض منها التأكيد، والتهديد، والوعيد.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية. {تَتَّخِذُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا})

إلخ، والواو فاعله. {آياتِ:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {آياتِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، {هُزُواً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها من جمل، لا محل لها. {وَاذْكُرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. {نِعْمَتَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.

{عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{نِعْمَتَ اللهِ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَما:} الواو: حرف عطف، ({ما}): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوفة على {نِعْمَتَ اللهِ} فهو عطف خاص على عام. {أَنْزَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({اللهِ})، والجملة الفعلية صلة ({ما}) والعائد محذوف، التقدير: والذي أنزله. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الْكِتابِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف العائد إلى ({ما})، {مَنْ:} بيان لما أبهم فيها. {وَالْحِكْمَةِ:} معطوف على: {الْكِتابِ} . {يَعِظُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهِ})، والكاف مفعول به. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل:{أَنْزَلَ} أو من مفعوله، والرابط: الضمير فقط على الاعتبارين، وجوز أبو البقاء اعتبار ({ما}) مبتدأ، وجملة:{يَعِظُكُمْ بِهِ} في محل رفع خبره. ولا أراه قويّا، وتكون الجملة الاسمية على رأيه معترضة بين المتعاطفين.

{وَاتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. {اللهِ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وجملة:{وَاعْلَمُوا..} . إلخ: معطوفة على ما قبلها أيضا.

{أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسم {أَنَّ} . {بِكُلِّ:} متعلقان ب {عَلِيمٌ،} و (كلّ) مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {عَلِيمٌ:} خبر: {أَنَّ} . و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي:({اِعْلَمُوا}).

ص: 547

{وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)}

الشرح: فقد ثبت: أنّ هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني، وأخته. وخذ ما يلي:

عن معقل-رضي الله عنه، قال: كانت لي أخت تخطب، وأمنعها من النّاس، فأتاني ابن عمّ لي، فأنكحتها إيّاه، فاصطحبا ما شاء الله، ثم طلّقها طلاقا له رجعة، ثمّ تركها؛ حتى انقضت عدّتها، فلمّا خطبت إليّ؛ أتاني يخطبها مع الخطّاب، فقلت له: خطبت إليّ، فمنعتها النّاس، وآثرتك بها، فزوّجتك، ثمّ طلقتها طلاقا لك فيه رجعة ثم تركتها؛ حتى انقضت عدّتها، فلمّا خطبت إليّ؛ أتيني تخطبها مع الخطّاب؟! والله لا أنكحتها لك أبدا! ففيّ نزلت هذه الآية، فكفّرت عن يميني، وأنكحتها إيّاه. أخرجه البخاريّ.

وفي رواية الترمذي: ثم طلّقها تطليقة لم يراجعها؛ حتّى انقضت عدّتها، فهويها، وهويته، ثمّ خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع ابن لكع! أكرمتك بها، وزوجتكها، فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك! فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله الآية، فلمّا سمع معقل-رضي الله عنه-قال: سمع لربّي، وطاعة. ثمّ دعاه، فزوّجه إيّاها، وكفّر عن يمينه رضي الله عنه.

{وَإِذا طَلَّقْتُمُ:} الخطاب للأزواج، والأولياء، والنّساء. {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: انقضت عدّتها يقينا بخلاف الآية السابقة. {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ:} فلا تمنعوهن أن يرجعن إلى أزواجهنّ بعقد جديد. هذا؛ والعضل: التضييق، والمنع، وهو راجع إلى معنى الحبس. ومن قول معاوية: معضلة ولا أبا حسن لها، يريد عليّا-رضي الله عنه؛ الّذي كان يحلّ المعضلات من الأمور، وانظر حلّه المعضلة في الآية التالية. والمعضلة: مسألة صعبة ضيقة المخارج، وقال طاوس: لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلا ابن عبّاس رضي الله عنهما. وكلّ مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشّافعي-رضي الله عنه:[المتقارب]

إذا المعضلات تصدّينني

كشفت حقائقها بالنّظر

هذا؛ والعضل: الحبس، قال الشّاعر:[الوافر]

وإنّ قصائدي لك فاصطنعني

عقائل قد عضلن عن النّكاح

وقال آخر: [الكامل]

فلأعضلنّ قصائدي من بعده

حتّى أزوّجها من الأكفاء

ص: 548

وداء عضال: أي: شديد عسر البرء، أعيا الأطباء. هذا؛ وفي قوله تعالى:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ..} . إلخ دليل قويّ للشّافعي، وموافقيه: أن المرأة لا تتولى نكاح نفسها، ولو كانت ثيبا، وبنت خمسين سنة، وقد ذكرته في الآية رقم [221]. {إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي: إذا تراضى الأزواج، والزّوجات المطلّقات. والمعروف هنا: ما وافق الشّرع من عقد حلال بشروطه: مهر

إلخ، وقيل: هو أن يرضى كلّ منهما، ويتعهّد بما التزمه لصاحبه بحقّ العقد؛ حتّى تحصل الصّحبة الحسنة، والعشرة الجميلة. هذا؛ وفي واو الجماعة تغليب الذّكور على الإناث.

{ذلِكَ:} إشارة إلى الأحكام المذكورة. {يُوعَظُ بِهِ} أي: ينتفع به، ويهتدي إلى طريق السداد، وهم المؤمنون بالله واليوم الآخر. هذا؛ وأفرد {ذلِكَ} ولم يقل: ذلكم؛ لأنّه محمول على معنى الجمع بدليل ما بعدها. {ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي: الاتّعاظ بما ذكر، والتمسّك بأوامر الله، خير، وأنفع لكم، وأطهر من الآثام، وأوضار الذّنوب، والمعاصي. {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي: والله يعلم ما هو أصلح لكم من الأحكام والشّرائع، وأنتم لا تعلمون ذلك، فامتثلوا أمره تعالى، ونهيه في جميع ما تأتون، وما تذرون.

قال الإمام الفخر الرازي-رحمه الله تعالى-: الحكمة في إثبات حقّ الرّجعة: أنّ الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري هل تشق عليه المفارقة، أو لا؟ فإذا فارقه؛ فعند ذلك تظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرّجوع؛ لعظمت المشقّة على الإنسان؛ إذ قد تظهر المحبّة بعد المفارقة، ثمّ لما كان كمال التّجربة لا يحصل بالمرّة الواحدة؛ أثبت الله تعالى حقّ المراجعة مرّتين، وهذا يدلّ على كمال رحمته تعالى، ورأفته بعباده!. انتهى. صفوة التفاسير.

الإعراب: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ:} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية السابقة. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَنْكِحْنَ:} فعل مضارع مبني على السكون في محل نصب ب {أَنْ،} ونون النسوة في محل رفع فاعل، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف عند الخليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير:

فلا تعضلوهن من نكاح أزواجهنّ، وهو في محل نصب بنزع الخافض عند سيبويه. {إِذا:}

ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، مبني على السكون في محل نصب. {تَراضَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ الّتي هي فاعله، والألف للتفريق. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلّق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِالْمَعْرُوفِ:}

متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أو بمحذوف صفة مصدر محذوف، التقدير: تراضوا تراضيا كائنا بالمعروف، وجملة:{تَراضَوْا..} . إلخ في محل جر بإضافة: {إِذا} إليها، وإن اعتبرتها شرطية؛ فجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه.

ص: 549

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يُوعَظُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل. {كانَ:} فعل ماض ناقص واسمه يعود إلى: {مَنْ} تقديره: هو. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {كانَ} على قول من يجيز التعليق بالفعل الناقص، أو هما متعلقان بما بعدهما. {يُؤْمِنُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {بِاللهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْيَوْمِ:} معطوف على ({اللهُ}). {الْآخِرِ} صفة ({الْيَوْمِ})، وجملة:({يُؤْمِنُ..}.) إلخ في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ صلة الموصول لا محلّ لها.

{ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {أَزْكى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.

{لَكُمْ:} متعلقان ب {أَزْكى} وقيل: متعلقان بمحذوف صفة له. وليس بشيء. {وَأَطْهَرُ:}

معطوف على {أَزْكى،} وحذف متعلقه اكتفاء بسابقه، والجملة الاسمية:{ذلِكُمْ أَزْكى} مؤكدة للأولى وهو أولى من اعتبارها بدلا منها. {وَاللهُ:} الواو: واو الحال. ({اللهُ}): مبتدأ. {يَعْلَمُ:}

فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ})، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال مؤكدة لمضمون ما قبلها. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}

الشرح: لمّا ذكر الله تعالى جملة من الأحكام المتعلّقة بالنكاح، والطلاق، والعدة، والرّجعة، والعضل؛ ذكر في هذه الآية الكريمة حكم الرّضاع؛ لأنّ الطلاق يحصل به الفراق، وقد يطلّق الرّجل زوجته، ويكون لها منه طفل ترضعه، وربما أضاعت الطفل، أو حرمته الرضاع انتقاما من الزوج، وإيذاء له في ولده، لذلك وردت هذه الآية لندب الوالدات المطلّقات إلى رعاية الأطفال، والاهتمام بشأنهم.

ص: 550

{وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ} أي: ليرضعن، فهو خبر بمعنى الأمر، وهذا الأمر للندب، وللوجوب، فالأوّل عند وجود ثلاثة شروط: قدرة الأب على الاستئجار، ووجود غير الأم، وقبول الولد للبن غيرها، وللوجوب عند فقد واحد منها. هذا؛ وإن تربية الطفل بلبن الأم أصلح من غيرها، لكمال شفقتها عليه، ويدلّ على أنه لا يجب على المرأة إرضاع ولدها قوله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولو وجب عليها الرضاع؛ لما استحقّت الأجرة. وقال تعالى: {وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى} سورة (الطلاق) هذا نصّ صريح في ذلك، انظر شرح الآية هناك، فإنه جيد، والحمد لله!.

{حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ:} الحول، والعام، والسّنة بمعنى واحد، والحول: من: (حال): إذا انقلب من حال إلى حال، و {كامِلَيْنِ:} توكيد؛ لأنّه مما يتسامح فيه، فيقال: أقمت عند فلان يومين -والقائل يريد يوما وبعض اليوم الآخر-كما في قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} وقد مرّ في الآية رقم [203]. {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: وعلى الأب نفقة الوالدات المطلّقات، وكسوتهن بما هو متعارف عليه بدون إسراف، ولا تقتير لتقوم بخدمة الولد حقّ القيام، وإنما عبر سبحانه بهذا؛ لأن الوالدات إنما ولدن للآباء، ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم، وينسب للمأمون ما يلي:[البسيط]

لا تزدرين فتى من أن يكون له

أمّ من الرّوم أو سوداء عجماء

فإنّما أمّهات النّاس أوعية

مستودعات وللأبناء آباء

هذا ولم تحذف النون من (تزدرين) مع كونه مجزوما ب (لا) الناهية لضرورة الشعر.

والهاء في (له) عائدة على (ال) لأنّ المعنى: الذي يولد له، وهو الوالد. هذا؛ والرضاع المحرّم هو الذي يكون في حدود الحولين، وبعدهما لا تحريم بالرّضاع، كما رأيته في الآية رقم [23] من سورة (النساء).

{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها:} إلا طاقتها، ومقدرتها على الإنفاق، والمعنى: أن أبا الولد لا يكلّف في الإنفاق عليه، وعلى أمّه إلا ما قد تتّسع به مقدرته، كذلك لا تكلف المرأة الصّبر على التقتير في الأجرة، بل يراعى القصد، والاعتدال، وفي هذه الأيام القاضي الشّرعي هو الذي يقرّر نفقة المطلقة، ونفقة الولد حسب دخل الرّجل الشّهري، هذا، وكثيرا ما نسمع من ويلات الطلاق من قبل الفاسقين، والفاسدين؛ الذين ينكحون ثانية، وثالثة، ويتركون الأولى، ويدعون لها أولادها بدون إنفاق عليها، وعلى أولادهم؛ سواء طلّقوا، أم لم يطلقوا! فلا حول ولا قوة إلا بالله!.

هذا؛ وفي هذه الآية دليل على أنّ الحضانة للأم، ويقدر مدّتها في هذه الأيام القاضي الشرعي، والرّسول صلى الله عليه وسلم قال للأم:«أنت أحقّ به ما لم تنكحي» . فقد روى أبو داود عن

ص: 551

الأوزاعي، قال: حدّثني عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو: أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إنّ ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلّقني، وأراد أن ينتزعه منّي. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنت أحقّ به ما لم تنكحي» . وخذ ما يلي هذه الطّرفة:

فقد روى القالي في أماليه عن أبي عبيدة، قال: جرى بين أبي الأسود الدّؤلي وامرأته كلام في ابن لها منه، وأراد نزعه منها، فصارا إلى زياد بن أبيه، وهو والي البصرة، فقالت المرأة:

أصلح الله الأمير، هذا ابني، كان بطني وعاءه، وحجري فناءه، وثديي سقاءه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام، حتّى إذا استوفى فصاله، وكملت خصاله، واستوكعت أوصاله، وأمّلت نفعه، ورجوت خيره أراد أن يأخذه كرها، فآوني أيها الأمير، فقد رام قهري، وأراد قسري. فقال أبو الأسود: أصلحك الله، هذا ابني حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، أنا أقوم في أدبه، وأنظر في أوده، وأمنحه علمي، وألهمه حلمي، حتى يكمل عقله، ويستحكم فتله. فقالت المرأة: أصلحك الله، حمله خفّا، وحملته ثقلا، وضعه شهوة، ووضعته كرها. فقال زياد: ردّ على المرأة ولدها، فهي أحقّ به منك، ودعني من سجعك. انتهى. فإن تزوّجت المطلقة؛ فأمّها أحقّ بحضانة أولادها الصّغار.

{لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أي: لا يضرّ الوالدان بالولد، فيفرطا في تعهّده، أو يقصّرا في ما ينبغي له، أو يضارّ أحدهما الآخر، بسبب الولد، فترفض الأمّ إرضاعه؛ لتضرّ أباه بتربيته، أو ينتزع الأب الولد منها إضرارا بها؛ مع رغبتها في إرضاعه، ليغيظ أحدهما صاحبه. وإضافة الولد لكلّ منهما في الموضعين للاستعطاف.

{وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ:} اختلفوا في تأويله، فقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه وغيره: المراد: وارث أبي الصّبيّ، فعليه أن ينفق على الطّفل، وعلى والدته التي ترضعه، وتحضنه من غير تقصير، ولا إفراط، ولا تفريط. وهو قول الجمهور، وقد استدلّ الحنفيّة، والحنابلة بذلك على وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض؛ سواء كانوا من جهة الأب، أو من جهة الأم، كما في المواريث، ويرجح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعا:«من ملك ذا رحم محرم؛ عتق عليه» . وقيل: المراد: وارث الصّبيّ إذا مات. وقيل: المراد: الوارث هو الصّبيّ نفسه؛ أي: عليه إذا ورث أباه بعد موته إرضاع نفسه من المال الذي ورثه.

{فَإِنْ أَرادا} أي: الأب، والأم. {فِصالاً:} فطاما للولد. {عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ} أي: عن اتفاق بينهما على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا مؤاخذة، ولا إثم عليهما. فيؤخذ منه: أنه لا يجوز لأحدهما أن يستبدّ بفطامه دون مشاورة الآخر. وفي هذا احتياط لمصلحة الطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله

ص: 552

بعباده، قال تعالى في سورة (الطلاق):{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى} .

{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا..} . إلخ: هذا خطاب للآباء إذا أرادوا أن يستأجروا مرضعات لأولادهم غير أمهاتهم، فلا إثم عليهم، ولا حرج، ولا سيما إذا تزوّجت أم الولد غير أبيه بعد طلاقها منه، أو طلبت فوق أجرة المثل. والسين، والتاء للطلب، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وانظر الالتفات في الآية رقم [131].

{إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي: دفعتم الأجرة إلى المرضعة كاملة. وقال مجاهد:

أسلمتم إلى الأمهات أجرهنّ بحساب ما أرضعن إلى وقت الاسترضاع. و (المعروف):

الإحسان، والإجمال في القول. أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة لمن ترضع الطفل مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن؛ حتى يؤمن تفريطهن في إرضاع الطفل. {وَاتَّقُوا اللهَ:} خافوا الله فيما أوجب عليكم من الحقوق، وفيما أجب عليكم لأولادكم، وهو يعمّ المرضعات. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: لا يخفى عليه خافية من جميع أعمالكم سرّها، وعلانيتها، فإنه تعالى يعلمها.

بعد هذا فقوله تعالى: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} مثل قوله تعالى في سورة (لقمان) رقم [14]: {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} وقد استنتج من الآيتين ومن آية (الأحقاف) رقم [15] وهي قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً:} أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر. وهو استنتاج قوي، وصحيح.

روى محمّد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله الجهني، قال: تزوّج رجل منّا امرأة من جهينة، فولدت ولدا لتمام ستّة أشهر من زواجها، فانطلق زوجها إلى عثمان-رضي الله عنه-فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها؛ بكت أختها، فقالت: ما يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قطّ، فيقضي الله سبحانه وتعالى فيّ ما شاء، فلمّا أتي بها عثمان-رضي الله عنه-أمر برجمها، فبلغ ذلك عليّا-رضي الله عنه-فأتاه، فقال: ما تصنع؟ قال: ولدت لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له عليّ كرم الله وجهه: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى! قال: أما سمعت الله عز وجل يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال في سورة (البقرة): {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ..} .

إلخ، وقال في سورة (لقمان):{وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} فلم تجده بقي إلا ستة. قال: فقال عثمان رضي الله عنه: والله ما فطنت بهذا، عليّ بالمرأة، فوجدوها قد فرغ منها، قال: فقال معمر رضي الله عنه: فو الله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلمّا رآه أبوه، قال: إنّي والله لا أشك فيه. قال: وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة، فما زالت تأكله؛ حتّى مات. أخرجه ابن أبي حاتم. انتهى. مختصر ابن كثير. انظر ما قاله معاوية في حقّ عليّ في الآية السابقة، وقد صار مثلا من الأمثال عند وجود مشكلة معضلة.

ص: 553

هذا؛ ويفيد قوله: «فوجدوها قد فرغ منها» : أنها أقيم عليها حد الرّجم، وانتهى أمرها.

وذكر القرطبي في تفسير سورة (الأحقاف): أنّ عثمان-رضي الله عنه-رجع عن قوله، ولم يحدّها، والمروي في الموطأ: أنّها رجمت. وفي تيسير الوصول، فأمر عثمان بردّها، فوجدت قد رجمت. وهذا هو المعتمد، رحمها الله تعالى. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:

إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر؛ كفاه من الرّضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر؛ كفاه من الرّضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا وضعته لستة أشهر؛ فحولين كاملين؛ لأنّ الله تعالى يقول:{وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} . هذا؛ وأصل الكلام: وأنّ حمله وفصاله ثلاثون شهرا. ولا يصح المعنى إلا بهذا. هذا؛ والواقع يوحي بأنّ المرأة المذكورة كانت ثيبا؛ إذ لو كانت بكرا لكان حدّها الجلد، لا الرّجم، تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {وَالْوالِداتُ:} الواو: حرف عطف. ({الْوالِداتُ}): مبتدأ. {يُرْضِعْنَ:} فعل مضارع مبني على السكون، ونون النسوة فاعله. {أَوْلادَهُنَّ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.

{حَوْلَيْنِ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {كامِلَيْنِ:} صفة {حَوْلَيْنِ} منصوب مثله، وعلامة نصبهما الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنهما مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{يُرْضِعْنَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ، التقدير:

ذلك؛ أي: ما تقدّم من إرضاع الولد حولين، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {أَرادَ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، أو الرابط. {أَنْ يُتِمَّ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} والفاعل يعود إلى (من)، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به.

{الرَّضاعَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{أَرادَ..} . إلخ: صلة (من) أو صفتها، والجملة الاسمية:

({الْوالِداتُ})

إلخ مستأنفة، أو هي معترضة بين المتعاطفتين، لا محل لها على الاعتبارين.

({عَلَى الْمَوْلُودِ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان ب {الْمَوْلُودِ} على أنهما في محل رفع نائب فاعله. {رِزْقُهُنَّ:} مبتدأ مؤخر.

{وَكِسْوَتُهُنَّ:} معطوف على ما قبله، والهاء: في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{بِالْمَعْرُوفِ:} علقهما أبو البقاء بمحذوف حال من: {رِزْقُهُنَّ} وهذا لا يجيزه كثير من النحاة؛ لأن الحال هيئة فاعل، أو مفعول، والأولى تعليقهما بمحذوف حال من الضمير في الخبر المحذوف. {لا:} نافية. {تُكَلَّفُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {نَفْسٌ:} نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {إِلاّ:} حرف حصر. {وُسْعَها:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مفيدة للتعليل لا محلّ لها.

ص: 554

{لا:} نافية، أو ناهية. {تُضَارَّ:} قرئ بالرّفع، والجزم، وبالبناء للفاعل، وبالبناء للمجهول، وأصل الأول (تضارر) بكسر الراء الأولى في الأول، وبفتحها في الثاني، ومثله في الآية رقم [282] الآتية، وقرئ بالفكّ («تضارر») وبالإدغام:{تُضَارَّ؛} فعلى الفكّ هو ظاهر، وعلى الإدغام؛ فعلى الرفع بالضّمّة ظاهرة، وعلى الجزم والإدغام، فإنّه حرك بالفتحة لالتقاء السّاكنين، وكان الفتح أولى لتجانس الألف والفتحة قبلها، كما هو القاعدة في جزم المضعّف.

{والِدَةٌ:} نائب فاعله. {بِوَلَدِها:} متعلقان بالفعل قبلهما والباء للسببية، و (ها) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بمنزلة البدل ممّا قبلها، لا محل لها مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {مَوْلُودٌ:} معطوف على: {والِدَةٌ} . {لَهُ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل. {بِوَلَدِهِ:} متعلقان بالفعل المحذوف؛ إذ التقدير: ولا يضارّ مولود له، والهاء في محل جر بالإضافة. ({عَلَى الْوارِثِ}): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِثْلُ:} مبتدأ مؤخر، و {مِثْلُ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها أيضا.

{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {أَرادا:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والألف فاعله. {فِصالاً:} مفعول به، {عَنْ تَراضٍ} متعلقان بمحذوف صفة {فِصالاً،} وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذّر، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي.

{مِنْهُما:} جار ومجرور متعلقان ب {تَراضٍ} . {وَتَشاوُرٍ:} معطوف على {تَراضٍ} . {فَلا:}

الفاء: واقعة في جواب الشّرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {جُناحَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْهِما:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَإِنْ:}

الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {أَرَدْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها. {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النّون

إلخ، والمصدر المؤول منهما في محل نصب مفعول به، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَوْلادَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جرّ بالإضافة. {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ:} إعرابه مثل ما قبله، والجملة الاسمية في محلّ جزم جواب الشرط

إلخ، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله. هذا ومفعول:{تَسْتَرْضِعُوا} في الحقيقة محذوف، و {أَوْلادَكُمْ} منصوب بنزع الخافض، وتقدير الكلام: وإن أردتم أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم. {إِذا:} ظرف زمان متعلّق ب ({جُناحَ}). {سَلَّمْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها. وقيل: {إِذا} شرطية، فيكون جوابها محذوفا، دلّ

ص: 555

عليه ما قبلها، وتكون {إِذا} ومدخولها كلام مؤكّد لمضمون الشرط السابق. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به.

{آتَيْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: الذي آتيتموهن إيّاه نقدا. {بِالْمَعْرُوفِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [231] إفرادا وجملا. {بِما} جار ومجرور متعلقان ب {بَصِيرٌ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية.

{تَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محلّ جر بالباء، التقدير: بعلمكم. {بَصِيرٌ:} خبر: {أَنْ} .

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}

الشرح: لمّا ذكر الله عز وجل عدّة الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الإرضاع؛ ذكر عدّة الوفاة أيضا؛ لئلا يتوهم: أنّ عدة الوفاة مثل عدّة الطلاق، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ..} . إلخ.

وأصل التوفّي أخذ الشّيء وافيا، فمن مات؛ فقد استوفى عمره كاملا، ورزقه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

«يا أيّها النّاس اتّقوا الله، وأجملوا في الطّلب، فإنّ نفسا لن تموت حتّى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتّقوا الله، وأجملوا في الطّلب، خذوا ما حلّ، ودعوا ما حرم» . أخرجه ابن ماجة، والحاكم عن جابر رضي الله عنه. هذا؛ ويقرأ الفعل بالبناء للمجهول، وبالبناء للمعلوم، بمعنى:

يستوفون آجالهم.

{وَيَذَرُونَ أَزْواجاً:} المراد بالأزواج هنا: النّساء؛ لأنّ العرب تطلق اسم الزوج على المرأة، والرجل، كما رأيت في الآية رقم [25]. {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} انظر [228] {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً:}

أي: وعشرة أيام، وإنّما قال: وعشرا؛ لأنّ العرب إذا أبهمت العدد من الليالي، والأيام؛ غلّبوا الليالي، حتى إنّ أحدهم ليقول: صمت عشرا من الشهر؛ لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام؛ فإذا أظهروا الأيام؛ قالوا: صمنا عشرة أيام. وقيل: إن هذه الأيام أيام حزن، ولبس إحداد؛ فشبّهها بالليالي على سبيل الاستعارة.

ووجه الحكمة في أنّ الله تعالى حدّ العدة في هذا القدر؛ لأن الولد يتحرك في بطن أمه لنصف مدّة الحمل، وقيل: إنّ الروح ينفخ في الولد في هذه العشرة أيام. ويدلّ على ذلك ما روي

ص: 556

عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق:«أنّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ، أو سعيد، ثم ينفخ فيه الرّوح» . أخرجاه في الصّحيحين بزيادة. فدلّ هذا الحديث على أنّ خلق الولد يجتمع في مدة أربعة أشهر، ويتكامل خلقه بنفخ الروح فيه في هذه الأيام الزائدة.

وهذا الحكم يشمل الزّوجات المدخول بهنّ، وغير المدخول بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأهل السّنن: أنّ ابن مسعود رضي الله عنه-سئل عن رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها مهرا، فتردّدوا إليه مرارا في ذلك، فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا؛ فمن الله، وإن كان خطأ فمنّي، ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: لها الصّداق كاملا. وفي لفظ: لها صداق مثلها، ولا وكس، ولا شطط، وعليها العدّة، ولها الميراث. فقام معقل بن يسار الأشجعي-رضي الله عنه-فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في «بروع بنت واشق» ففرح عبد الله-رضي الله عنه بذلك فرحا شديدا.

ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها، وهي حامل، فإن عدّتها بوضع الحمل، لقوله تعالى:{وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سورة (الطلاق). وكان ابن عباس-رضي الله عنهما-يرى: أن عليها أن تتربّص بأبعد الأجلين: من الوضع، أو من أربعة أشهر، وعشر، للجمع بين الآيتين، وهذا مسلك جيد، ومأخذ قويّ، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية-رضي الله عنها-المخرج في الصّحيحين من غير وجه: أنّها توفي عنها زوجها سعد بن خولة، وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها؛ تجمّلت للخطّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك-رضي الله عنه-فقال لها: ما لي أراك متجمّلة لعلك ترجين النّكاح؟ والله ما أنت بناكح؛ حتى يمرّ عليكم أربعة أشهر، وعشر! قالت-رضي الله عنها: فلمّا قال لي ذلك؛ جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوّج؛ إن بدا لي. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي أنّ ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة، لما احتجّ به عليه، ويصحح ذلك عنه: أنّ أصحابه أفتوا بحديث سبيعة، كما هو قول أهل العلم قاطبة. انتهى. مختصر ابن كثير. هذا؛ وسعد بن خولة-رضي الله عنه-من بني عامر، وكان من أهل بدر، توفي في حجّة الوداع، وأبو السّنابل-رضي الله عنه-من بني عبد الدار. هذا؛ وقال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها غير أنّه لا يقربها حتى تطهر.

هذا؛ ويجب على من توفي عنها زوجها الإحداد، وهو ترك الزينة، والطّيب، ودهن الرأس بكلّ دهن، والكحل المطيّب، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة؛ فيرخص لها. وبه قال مالك،

ص: 557

وأبو حنيفة، وقال الشّافعي: تكتحل به باللّيل، وتمسحه بالنّهار. عن أم سلمة-رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة، وقد جعلت عليّ صبرا، فقال:«ما هذا يا أمّ سلمة؟» فقلت: إنّما هو صبر يا رسول الله! ليس فيه طيب، فقال:«إنه يشبّ الوجه، فلا تجعليه إلا باللّيل. وتنزعينه بالنّهار. ولا تمتشطي بالطّيب، ولا بالحنّاء؛ فإنّه خضاب» . قلت:

بأيّ شيء أتمشّط يا رسول الله! قال: «بالسّدر تغلّفين به رأسك» . أخرج أبو داود، والنّسائي نحوه، ومعنى يشبّ الوجه: يحسّنه، وينوّره. والسّدر: يشبه الشّجر المسمّى في بلادنا بالغار.

وعن زينب بنت أبي سلمة، قالت: دخلت على أمّ حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت بطيب، فيه صفرة خلوق، أو غيره، فدهنت به جارية، ثم مست بعارضيها، ثمّ قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر:«لا يحلّ لامرأة، تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشرا» .

قالت زينب-رضي الله عنها: ثمّ دخلت على زينب بنت جحش-رضي الله عنها-حين توفي أخوها، فدعت بطيب، فمسّت منه، ثم قالت: والله ما لي بالطّيب من حاجة غير أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشرا» . متفق عليه.

هذا؛ ومن الإحداد أن لا تخرج من بيتها حتى تنتهي عدّتها كالمطلقة، وثبت: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان: «امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله» وكانت متوفى عنها زوجها. أخرجه مالك في موطئه عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة.

هذا؛ وتخرج المعتدّة من مسكنها لقضاء حوائجها؛ إذا لم يكن لها من يقضيها لها، ولا يجوز لها المبيت إلا في بيت عدّتها إلا إذا خافت على نفسها، أو مالها، فعند ذلك يجوز لها ذلك. هذا؛ والمطلقة طلاقا رجعيّا تنتقل إلى عدّة الوفاة، وترثه، بخلاف البائنة، والمطلقة ثلاثا، فلا تنتقلان إلى عدّة الوفاة، ولا ترثان، كما إذا ماتتا، فلا يرثهما أيضا.

تنبيه: هذه الآية ناسخة لحكم الآية رقم [240] وإن كانت متأخّرة بالتّرتيب، لكنّها متقدّمة بالنزول، كما ستقف عليه.

{فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ:} انقضت عدّتهن يقينا. واختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها، أو طلاقه، فقالت طائفة من الصّحابة والتابعين: العدّة في الطلاق، والوفاة من يوم يموت، أو يطلق. وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وقالت طائفة من الصّحابة، والتابعين:

إنّ عدتها من يوم يبلغها الخبر. والصّحيح الأوّل؛ لأنّ الله تعالى علّق العدّة بالوفاة، أو الطلاق، ولأنّها لو علمت بموته، فتركت الإحداد عمدا، انقضت عدّتها، فإذا تركته مع عدم العلم؛ فهو أهون. والمعنى: أنّ العدة لا تقضى. والله أعلم.

ص: 558

{فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ..} . إلخ الخطاب للأولياء؛ لأنهم هم الذين يتولّون العقد في المذهب الشّافعي. {فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يعني: من التزيين، والتطييب، والنقلة من المسكن الذي كانت معتدة فيه، ونكاح من يجوز لها نكاحه. واحتجّ الحنفية على جوار النكاح بغير وليّ بهذه الآية؛ لأنّ إضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة، وأجاب الشّافعي: أنّ قوله تعالى:

{فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ} خطاب للأولياء، ولو صح العقد بغير وليّ؛ لما كان مخاطبا، وأجيب عن قوله:{فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ:} إنّما هو التزين، والتطيب بعد انقضاء العدّة، لا أنها تزوّج نفسها.

{وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يعني: أنه تعالى لا تخفى عليه خافية. و (الخبير): من أسماء الله الحسنى، وهو: العالم بكنه الشيء، وحقيقته من غير شكّ. و (الخبير) في صفة المخلوقين إنّما يستعمل في نوع من العلم، وهو الذي يوصل إليه بالاجتهاد، والفكر، والله تعالى منزّه عن ذلك كلّه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محلّ رفع مبتدأ. {يُتَوَفَّوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول، أو للمعلوم مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو الفاعل، أو نائب الفاعل. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَيَذَرُونَ أَزْواجاً} معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها.

{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [228]، لكن الجملة الفعلية هنا خبرا للمبتدإ غير مسلّم؛ لأنها لم تشتمل على ضمير يعود إلى المبتدأ، لذا فإنّ في إعراب هذا التركيب ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ التقدير: وأزواج الذين يتوفون

إلخ، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مستعمل عربية. الثاني: أنّ التقدير: يتربصن بعدهم، قال الأخفش: فيكون الرابط مقدرا، والمقدر كالمذكور. الثالث: أنّ {يَتَرَبَّصْنَ..} . إلخ: خبر مبتدأ محذوف، التقدير: أزواجهم يتربصن

إلخ، والجملة خبر عن الأول، قاله المبرد. انتهى جمل نقلا عن السّمين بتصرف كبير. وقال مكّي: وقياس قول سيبويه: أنّ الخبر محذوف، تقديره: وفيما يتلى عليكم الّذين

إلخ، مثل:{وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ} . والجملة الاسمية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ..} . إلخ: معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة لا محل لها.

{فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السّكون في محل نصب. {بَلَغْنَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {أَجَلَهُنَّ:} مفعول به، والهاء في محل جرّ بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا).

(لا): نافية للجنس، تعمل عمل «إنّ» .

ص: 559

{جُناحَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: (لا). {فِيما:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف. {فَعَلْنَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: في الّذين، أو: في شيء فعلنه. {فِي أَنْفُسِهِنَّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{بِالْمَعْرُوفِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، والجملة الاسمية:{فَلا جُناحَ..} . إلخ، جواب:(إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ:} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية السابقة، والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها.

{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}

الشرح: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ:} لا إثم، ولا مؤاخذة عليكم. {فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ:} وهن في عدّة الوفاة، أو في عدّة الطلاق البائن، وهو مباح في العدّة، وهو أن يقول لها: إنّك لجميلة، وإنّك لصالحة، ومن يجد مثلك؟ وإني أريد أن أتزوج، وإنّي فيك لراغب، وأرجو أن يرزقني الله امرأة صالحة، ونحو ذلك من الكلام الموهم من غير تصريح، بأن يقول:

إنّي أريد أن أتزوّجك. وخطبة النساء بكسر الخاء. وبضمها: الموعظة، والإرشاد، والنصيحة.

هذا؛ والتعريض للمعتدّة الرّجعية لا يجوز. {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} أي: أضمرتم، وسترتم، وأخفيتم في أنفسكم رغبتكم في نكاح المعتدّات من وفاة، أو من طلاق بائن.

هذا؛ والفرق بين الكناية، والتعريض واضح: في الكناية: أن تذكر الشيء بغير لفظه، الموضوع له، كقولك: طويل النّجاد، والحمائل لطويل القامة. وكثير الرّماد، وجبان الكلب، ومهزول الفصيل؛ للمضياف. والتّعريض: أن تذكر شيئا تدل به على شيء، لم تذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك؛ لأسلّم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم. ولذا قالوا:[الطويل]

وحسبك بالتّسليم منّي تقاضيا

وكأنه إمالة الكلام إلى عرض، يدل على العرض، ويسمّى التلويح؛ لأنه يلوح منه ما يريده.

{عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ:} لا محالة، ولا تنفكّون عن النّطق برغبتكم فيهنّ، ولا تصبرون عنه، وفيه طرف من التّوبيخ، مثل قوله تعالى:{عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} . هذا؛ وشهوة النفس، والتّمني، لا يخلو منها أحد، فلمّا كان هذا الخاطر كالشّيء السّاقط؛ أسقط عنه الحرج.

ص: 560

{وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا:} اختلفوا في هذا السّر المنهي عنه، فقيل: هو الزّنى؛ كان الرجل يدخل على المرأة يعرّض بالنّكاح، ومراده الزّنى، ويقول لها: عديني، فإذا انقضت عدّتك؛ أظهرت نكاحك. ومنه قول الأعشى من قصيدته الّتي مدح بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[الطويل]

فلا تقربنّ جارة إنّ سرّها

عليك حرام فانكحن أو تأبّدا

وقال الحطيئة: [الوافر]

ويحرم سرّ جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع

وقيل: السرّ: الجماع؛ أي: لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيبا لهن في النّكاح، فإنّ ذكر الجماع مع غير الزّوجة فحش. وهذا قول الشّافعي، رضي الله عنه. وقال امرؤ القيس:[الطويل]

ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني

كبرت وألاّ يحسن السّرّ أمثالي

{إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً:} هو ما ذكر من التعريض بالخطبة من غير تصريح بذلك، و {إِلاّ} متعلّق. {لا تُواعِدُوهُنَّ} أي: لا تواعدوهن مواعدة قطّ إلا مواعدة معروفة غير منكرة.

{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} أي: لا تعقدوا عقد النكاح على معتدة الوفاة، أو غيرها حتّى تنتهي عدّتها المفروضة عليها. وعزم على الشيء: قرر، وصمّم على فعله، وذكر العزم للمبالغة في النّهي عن مباشرة النكاح، فإذا نهى عنه؛ كان النهي عن الفعل من باب أولى. هذا؛ وسمّى الله العدّة، وانتهاءها: كتابا؛ لأنها فرضت به، وهو كقوله تعالى:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ} .

{وَاعْلَمُوا..} . إلخ؛ أي: اعتقدوا، وأيقنوا: أنّ الله يعلم ما تخفون في أنفسكم، وما تظهرون من أقوالكم، وأعمالكم، {فَاحْذَرُوهُ:} خافوا حسابه، وعقابه، ففيه تهديد، ووعيد لمن يخالف الشّرع الشّريف في هذه الأحكام، أو بعضها. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ:} لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، بل يستر عليه. هذا؛ واختلفوا فيمن تزوّج امرأة في عدّتها، فدخل بها، فإنه يفرّق بينهما، ويجب عليها عدّتان: إتمام عدة الأول، واستئناف عدّة الثاني، وهل تحرم عليه أبدا؟ قولان: الجمهور على أنّها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك-رحمه الله تعالى-إلى أنّها تحرم عليه على التأبيد، ومأخذ هذا أنّ الزّوج لما استعجل ما أجّل الله؛ عوقب بنقيض قصده، فحرمت عليه على التأبيد. كالقاتل لمورثه يحرم من الميراث. ومن طلب شيئا قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه.

تنبيه: عدّة الوفاة عدّة تفجّع مهما كان عمر المرأة، وأمّا عدّة الطلاق؛ فالغالب: أنها لبراءة الرّحم من الحمل، وقد تكون تعبّديّا، كطلاق الآيسة، والصّغيرة؛ الّتي لم تحض. والله أعلم بمراده، وأسراره.

ص: 561

الإعراب: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ:} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية السابقة. {مِنْ خِطْبَةِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلاّ بالباء، والعامل الفعل. {عَرَّضْتُمْ،} أو بمحذوف حال من (ما)، وتكون ({مِنْ}) بيانا لما أبهم في (ما) والعامل هو الاستقرار المحذوف. و {خِطْبَةِ} مضاف، و {النِّساءِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. وجملة:{وَلا جُناحَ..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية السابقة.

{أَوْ:} حرف عطف. {أَكْنَنْتُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف، انظر تقديره في الشّرح.

{فِي أَنْفُسِكُمْ:} متعلّقان بما قبلهما، والكاف في محل جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{عَرَّضْتُمْ..} . إلخ. {عَلِمَ اللهُ:} فعل ماض، وفاعله.

{أَنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {سَتَذْكُرُونَهُنَّ:} السين: حرف استقبال.

(تذكرونهن): فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي ({عَلِمَ})، والجملة الفعلية مفيدة للتعليل، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محلّ نصب حال من تاء الفاعل؛ فالرابط الضّمير فقط، ويجب تقدير:«قد» قبلها، ويكون المعنى: حالة كونكم معلومين عند الله.

{وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنْ}): حرف استدراك مهمل، لا عمل له، {لا:} ناهية جازمة. {تُواعِدُوهُنَّ:} فعل مضارع مجزوم ب {لا} وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {سِرًّا:} مفعول به ثان، وقيل: هو حال بمعنى: مستسرين، فيكون المفعول الثاني محذوفا. وقيل: هو صفة لمصدر محذوف، التقدير:

مواعدة سرّا. وقيل: التقدير: في سرّه، فيكون ظرفا، أو هو منصوب بنزع الخافض، وجملة:

{لا تُواعِدُوهُنَّ..} . إلخ معطوفة على محذوف، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا؛ فاذكروهن، ولكن

إلخ.

{إِلاّ:} حرف استثناء منقطع. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَقُولُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النّون، والواو فاعله، والألف للتّفريق. {قَوْلاً} مفعول مطلق. {مَعْرُوفاً:} صفة له، وجملة:{أَنْ تَقُولُوا} في تأويل مصدر في محل نصب على الاستثناء المنقطع، والمستثنى منه محذوف، وتقدير الكلام: لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة، أو: إلا مواعدة بقول معروف، فيكون مجرورا بحرف جرّ محذوف، ومتعلقا بالمستثنى. {وَلا تَعْزِمُوا:} إعرابه مثل إعراب سابقه. {عُقْدَةَ:} منصوب على نزع الخافض، التقدير: على عقدة، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{لا تُواعِدُوهُنَّ..} . إلخ، لا محل لها مثلها، و {عُقْدَةَ} مضاف، و {النِّكاحِ} مضاف

ص: 562

إليه. {حَتّى:} حرف غاية وجر. بعدها «أن» مضمرة. {يَبْلُغَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد {حَتّى} . {الْكِتابُ:} فاعله. {أَجَلَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والفعل {يَبْلُغَ} في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل: {تَعْزِمُوا} .

{وَاعْلَمُوا:} الواو: حرف عطف. ({اِعْلَمُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {يَعْلَمُ} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ})، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ}. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي أَنْفُسِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والكاف في محل جرّ بالإضافة، و {أَنْ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي ({اِعْلَمُوا}) والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها، وجملة:{فَاحْذَرُوهُ} معطوفة على ما قبلها، ولا يخفى عليك إعراب:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .

{لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}

الشرح: {لا جُناحَ عَلَيْكُمْ..} . إلخ: لا إثم، ولا مؤاخذة، ولا تبعة في طلاق النساء اللّاتي لم يدخل بهن الأزواج بعد إجراء العقد عليهنّ، ولم يسمّ الأزواج لهنّ مهرا أيضا، فهؤلاء يجب على الأزواج أن يعطوهنّ شيئا من المال تطييبا لخاطرهنّ، وما يعطى لهنّ على سبيل الهدية يسمّى متعة ماليّة، وهذا القدر المالي يختلف باختلاف حال الزّوج المالي المادّي.

ومعنى {تَمَسُّوهُنَّ:} تجامعوهنّ، فيعلّمنا ربّنا أن نتحاشى الألفاظ الفاحشة في الكلام، ومثل هذا الأدب كثير في القرآن الكريم، وقرئ:(«تماسّوهنّ») من المفاعلة؛ لأن الوطء يتم بها.

{فَرِيضَةً:} المراد بها ما يسمّى من المهر للمرأة. {الْمُوسِعِ:} الغني. {الْمُقْتِرِ:} الفقير الضيق الحال. وهو بفتح القاف، وتشديد التاء: البخيل الشحيح.

هذا؛ ويفهم من نصّ الآية الكريمة: أنه لا يشترط تسمية المهر في العقد، وإنّما التسمية سنّة، وبعد العقد، وبعد الدخول إن اتّفقا على مهر؛ وإلا؛ فلها مهر مثلها.

تنبيه: المطلّقات أربع: مطلقة مدخول بها، ومفروض لها، وقد ذكر حكمها قبل هذه الآية: أنّه لا يسترد منها شيء من المهر، وأنّ عدّتها ثلاثة قروء. ومطلقة غير مفروض لها، ولا مدخول بها، فهذه الآية في شأنها، ولا مهر لها، بل أمر الله تعالى بإمتاعها. وبيّن الله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [49] أنّ غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدّة عليها، وطلاقها لا يوصف

ص: 563

بسنّيّ، ولا بدعيّ. ومطلقة مفروض لها، غير مدخول بها ذكرها الله تعالى في الآية التالية.

ومطلقة مدخول بها، غير مفروض لها، ذكرها الله تعالى في قوله:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} رقم [24] من سورة (النساء). فذكر الله تعالى في هذه الآية، والتي بعدها مطلقة قبل المسيس، وقبل الفرض، ومطلقة قبل المسيس، وبعد الفرض، فجعل للأولى المتعة، وجعل للثانية نصف الصّداق؛ لما لحق الزّوجة من دحض العقد، ووصم الحلّ الحاصل للزوج بالعقد، وقابل المسيس بالمهر الواجب. انتهى. قرطبي بتصرف.

وإن وقع الموت قبل الفرض، فخذه بما يلي: عن ابن مسعود-رضي الله عنه: أنّه سئل عن رجل تزوّج امرأة لم يفرض لها، ولم يدخل بها؛ حتّى مات. فقال: لها مثل صداق نسائها، لا وكس، ولا شطط، وعليها العدّة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي-رضي الله عنه، فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منّا، مثل الذي قضيت، ففرح بها ابن مسعود، رضي الله عنه. وقال عليّ، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر-رضي الله عنهم: لها الميراث، ولا صداق لها، وعليها العدّة. وهو قول الشّافعيّ. وروي عنه: أنّه رجع بمصر عن هذا القول.

هذا؛ واختلف في المتعة، هل هي واجبة لكل مطلّقة، أم هي على سبيل النّدب؟ والمعتمد الوجوب؛ فقد روى الثعلبيّ: أنّ رجلا من الأنصار، عقد على امرأة من بني حنيفة، ولم يسمّ لها مهرا، ثم طلّقها قبل أن يمسّها، فنزلت الآية الكريمة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:«متّعها؛ ولو بقلنسوتك» .

وروى الدّارقطنيّ عن سويد بن غفلة، قالت: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن عليّ-رضي الله عنهما-فلمّا أصيب عليّ، وبويع الحسن بالخلافة، قالت: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين! فقال:

يقتل عليّ، وتظهرين الشماتة؟! اذهبي فأنت طالق ثلاثا! قال: فتلفّعت بساجها، وقعدت؛ حتّى انقضت عدّتها، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقيّة ما بقي لها من صداقها، فقالت:[الطويل]

متاع قليل من حبيب مفارق

فلمّا بلغه قولها؛ بكى، وقال: لولا أني سمعت جدّي-أو: حدثني أبي: أنه سمع جدي- يقول: «أيّما رجل طلّق امرأته ثلاثا مبهمة، أو ثلاثا عند الأقراء؛ لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره؛ لراجعتها» . وخاب الّذين يقولون: لفظ الثلاث لا يقع إلا واحدة!.

الإعراب: {لا جُناحَ عَلَيْكُمْ:} انظر إعراب هذه الجملة فيما تقدّم. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {طَلَّقْتُمُ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله.

{النِّساءَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} مصدرية ظرفية زمانية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر، التقدير: زمن عدم المسيس، والفرض، وقيل: هي شرطية مقدّرة ب «إن» فتكون من باب اعتراض الشرط على

ص: 564

الشرط، ويكون الثاني قيدا في الأول، كما في قولك: إن تأتني، إن تحسن إليّ؛ أكرمك. أي:

إن تأتني محسنا إليّ. والمعنى: إن طلقتموهن غير ماسّين لهنّ. وهذا المعنى أقعد من الأوّل.

انتهى جمل بتصرّف.

هذا؛ ويظهر لي وجه بعيد: أنّ {ما} اسم موصول بمعنى «اللاتي» واستعمال: {ما} للعاقلات هنا لمعنى دقيق لطيف، وهو أنّ المرأة ملك الرّجل، كسائر ما يملك من غير العاقلين؛ لسببين: الأوّل: أنّ للرجل قوامة على المرأة بسبب الإنفاق عليها، قال تعالى:{الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ} رقم [34] من سورة (النساء) والثاني: أنّ الرّجل يملك رقبة المرأة بعقدة النكاح التي بينهما، كما ستراه في الآية التالية، وخذ قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [3]:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ..} . إلخ.

{لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَمَسُّوهُنَّ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والنون في الجميع حرف دالّ على جماعة الإناث، والجملة الفعلية محلّها بحسب معنى ({ما}). {أَوْ:} حرف عطف. {تَفْرِضُوا:} مضارع معطوف على ما قبله، فهو مجزوم مثله، والواو فاعله. هذا، واعتبره البيضاوي تبعا للزمخشري: أنّ الفعل منصوب ب «أن» مضمرة بعد (أو). وأنّ المعنى: إلا أن تفرضوا. أو: حتى تفرضوا، وعليه ينتفي الجناح عن المطلّق على الأوّل بانتفاء الجماع، أو الفرض، وعلى الثاني بانتفاء الجماع فقط؛ إذ لو مسّ، أو فرض؛ لزم الكلّ، أو النصف. انتهى جمل نقلا عن كرخي. {لَهُنَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فَرِيضَةً:} مفعول به، وقيل: مفعول مطلق.

{وَمَتِّعُوهُنَّ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، واقعة جوابا لشرط غير جازم، وتقدير الكلام: إذا طلقتم النساء قبل المسيس، والفرض؛ فلا تعطوهنّ المهر، ومتعوهنّ. {عَلَى الْمُوسِعِ:} متعلقان بمحذوف خير مقدّم. {قَدَرُهُ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية، قيل:

مستأنفة، وقيل: في محل نصب حال، وعليه: فتحتاج إلى تقدير رابط؛ أي: على الموسع منكم قدره، والجملة الثانية:{وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} معطوفة عليها. {مَتاعاً:} مفعول مطلق لفعل محذوف، أو للفعل المذكور.

{بِالْمَعْرُوفِ:} متعلقان ب {مَتاعاً} . {حَقًّا:} صفة: {مَتاعاً،} وقيل: مفعول مطلق لفعل محذوف، وهو أولى. {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} متعلقان ب {حَقًّا} أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

ص: 565

{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}

الشرح: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ..} . إلخ: لمّا ذكر الله تعالى حكم المفوضة في الآية السّابقة، وهي التي لم يسمّ لها مهر حال العقد عليها، كما رأيت؛ أتبعه بحكم المسمّى لها مهر. ومعنى:

{تَمَسُّوهُنَّ:} تجامعوهن. {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً:} سمّيتم لهن مهرا. {فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ} أي: فلهنّ نصف المهر المسمّى.

ومذهب الشافعي-رحمه الله تعالى-: أنّ الخلوة من غير مسيس، لا توجب إلا نصف المهر المسمّى؛ لأن المسيس، إمّا حقيقة في المسّ باليد، أو جعل كناية عن الجماع، وأيّهما كان فقد وجد الطلاق قبله. وقال أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-: الخلوة الصحيحة تقرّر المهر. ومعنى الخلوة الصحيحة: أن يخلو بها، وليس هناك مانع حسّيّ، ولا شرعيّ، فالحسّيّ: نحو الرّتق، والقرن، أو يكون معهما ثالث. والشّرعي: نحو الحيض، والنفاس، وصوم الفرض، وصلاة الفرض، والإحرام، سواء كان فرضا، أو نفلا. والآية حجّة لمذهب الشافعي.

قال شريح القاضي-رحمه الله تعالى-: لم أسمع: أنّ الله تعالى ذكر في كتابه بابا، ولا سترا، فإن زعم: أنّه لم يمسّها؛ فلها نصف الصّداق. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا خلا بها، ولم يمسّها؛ فلها نصف المهر. هذا؛ ولو مات أحد الزّوجين بعد التّسمية، وقبل المسيس، فلها المهر كاملا، وعليها العدّة، إن كان الزوج هو الميت بالاتفاق، وانظر الآية رقم [20] من سورة (النساء).

{إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ} يعني: النساء المطلقات، والمعنى: إلا أن تترك المرأة المطلقة نصيبها من الصّداق، فتهبه للزوج، فيعود جميع الصداق له، بشرط أن تكون العافية بالغة عاقلة راشدة، بخلاف التي في حجر أب، أو وصيّ، فلا يجوز وضعها لشيء من صداقها، ولا خلاف فيه.

{أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ:} فيه قولان: أحدهما: أنّه ولي المرأة، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما-وكثير من التّابعين، وبه قال الشافعي في القديم، والإمام مالك قال به أيضا.

والقول الثاني: أنه الزّوج، وهو قول عليّ، وابن عباس في الرواية الأخرى، وجبير بن مطعم رضي الله عنهم-وكثير من التابعين، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي في الجديد، وأحمد، وجمهور الفقهاء.

{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى:} الخطاب للأزواج، والزّوجات، وفيه تغليب الذكور على الإناث، ومثله ما بعده. {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ:} المعروف، والإحسان لا تهملوه، بل

ص: 566

استعجلوه بينكم، قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: الفضل: إتمام الرّجل الصداق كلّه، أو ترك المرأة النصف الّذي لها. عن عليّ-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتينّ على النّاس زمان عضوض، يعضّ المؤمن على ما في يديه» ؛ وقد قال الله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} «شرار يبايعون كلّ مضطرّ» . رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر، فإن كان عندك فضل؛ فعد به على أخيك، ولا تزده هلاكا إلى هلاكه، فإنّ المسلم أخو المسلم، لا يحزنه، ولا يحرمه.

{إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ:} فيه وعد للمحسن، ووعيد للمسيء؛ أي: لا يخفى عليه شيء من أموركم. وعن جبير بن مطعم-رضي الله عنه: أنه تزوج امرأة، ثمّ طلقها قبل أن يدخل بها، فأكمل لها الصّداق، وقال: أنا أحق بالعفو. وعنه: أنه دخل على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه-فعرض عليه بنتا له، فتزوّجها، فلمّا خرج طلّقها، وبعث إليها بالصّداق كاملا، فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها عليّ، فكرهت ردّه. قيل له: لم بعثت إليه بالصّداق، قال:

فأين الفضل؟ والمراد بالتزوج بالاثنتين: إجراء عقد النكاح. وفي هذه الأيام حدّث ولا حرج عن ظلم المرأة، وأكل حقوقها، وتعسّفها، وامتهانها.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {طَلَّقْتُمُوهُنَّ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحرّكت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والنون فيه، وفيما بعده حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بما قبلهما.

{أَنْ تَمَسُّوهُنَّ:} فعل مضارع منصوب ب ({إِنْ})، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والمصدر المؤول منهما في محل جر بإضافة:{قَبْلِ} إليه. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. ({قَدْ}): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {فَرِيضَةً:} مفعول به، وقيل: مفعول مطلق، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من الهاء، والرابط: على الاعتبارين: الواو، والضمير. {فَنِصْفُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (نصف): مبتدأ خبره محذوف، التقدير: فعليكم، أو: فلهن نصف، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالواجب نصف، وقرئ بالنّصب على تقدير: فأدّوا النصف، (نصف): مضاف، و (ما): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبني على السكون في محل جر بالإضافة.

{فَرَضْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: نصف الذي، أو: شيء فرضتموه، والجملة الاسمية:{فَنِصْفُ..} . إلخ: في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها.

ص: 567

{إِلاّ:} حرف حصر، أو: استثناء. {إِنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَعْفُونَ:} فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، التي هي فاعله، وهو في محل نصب ب {إِنْ} و {إِنْ} والفعل في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، والتقدير: فنصف ما فرضتم إلا في حال عفوهنّ، أو عفو الزوج، فلا تنصيف حينئذ.

{أَوْ:} حرف عطف. {يَعْفُوَا:} معطوف على ما قبله، فهو منصوب تبعا لمحلّه، ومؤوّل مثله بمصدر. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعله. {بِيَدِهِ:}

متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {عُقْدَةُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {النِّكاحِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها.

{وَأَنْ تَعْفُوا:} الواو: واو الحال. {تَعْفُوا:} مضارع منصوب ب ({إِنْ}) وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول منهما في محل رفع مبتدأ.

{أَقْرَبُ:} خبره. {لِلتَّقْوى} متعلقان ب {أَقْرَبُ} وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل نصب حال ممّا قبله؛ لأن الخطاب للأزواج، والزوجات على سبيل التغليب، والرابط: الواو، والضمير. {وَلا:} الواو: حرف استئناف. {تَنْسَوُا:}

فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله.

{الْفَضْلَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من:{الْفَضْلَ} والكاف في محل جر بالإضافة.

{إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ:} انظر إعراب مثلهما فيما تقدم، وهي مفيدة للتعليل، أو هي مستأنفة.

{حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (238)}

الشرح: توسطت هاتان الآيتان الآمرتان بالمحافظة على الصلاة خلال الآيات الكريمة المتعلقة بأحكام الأسرة وعلاقات الزّوجين عند الطّلاق، أو الافتراق لحكمة عالية، وهي: أنّ الله تعالى لمّا أمر بالعفو، والتسامح، وعدم نسيان الفضل بعد الطّلاق؛ بيّن، بل وحثّ على المحافظة على الصّلاة؛ لأنّها أعظم وسيلة إلى نسيان هموم الدّنيا، وأكدارها، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر شديد؛ فزع إلى الصّلاة، وقال:«أرحنا بلال، أرحنا بلال» . فالطّلاق، وما ينتج عنه يولّد الشّحناء، والبغضاء، والصّلاة تدعو إلى الإحسان، والتّسامح، وتنهى عن الفحشاء، والمنكر، وذلك أفضل وسيلة لتربية النفس الإنسانيّة، فلا ريب: أنّها عماد الدين،

ص: 568

ورأس الإيمان، واليقين. هذا؛ وانظر ما ذكرته في آية الدّعاء المقحمة بين آيات الصّيام؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

{حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ} أي: الخمس، فيأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها، وإتمام ركوعها، وسجودها، وخشوعها، كما ثبت في الصّحيحين عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله! أيّ العمل أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها» . قلت: ثمّ أي؟، قال:«ثم بر الوالدين» . قلت: ثم أي؟ قال:

«الجهاد في سبيل الله» . هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (المعارج): {إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} ثم ذكر ثماني صفات، وقال في العاشرة:{الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} . وقال أبو البقاء: في {حافِظُوا} معنى لا يوجد في: احفظوا، وهو تكرير الحفظ.

{وَالصَّلاةِ الْوُسْطى:} تأنيث الأوسط، ووسط الشيء: أعدله، ومنه قوله تعالى في الآية رقم [143]:{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} انظر شرحها هناك، فإنّه جيد. والحمد لله!

وقال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: [البسيط]

يا أوسط النّاس طرّا في مفاخرهم

وأكرم النّاس أمّا برّة وأبا

وإفراد الصّلاة الوسطى بالذّكر، وقد دخلت في عموم الصّلوات تشريفا لها. واختلف فيها على عشرة أقوال، والمعتمد: أنّها صلاة العصر لأحاديث صحيحة وردت في ذلك، خرّجها مسلم، وأنصّها حديث ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصّلاة الوسطى صلاة العصر» . أخرجه الترمذيّ. وعن عليّ-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب، وفي رواية: يوم الخندق: «ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا، كما شغلونا عن الصّلاة الوسطى حتّى غابت الشّمس» . وفي رواية أخرى: «شغلونا عن الصّلاة الوسطى؛ صلاة العصر» . وزاد في أخرى: «ثمّ صلاّها بين المغرب، والعشاء» . أخرجاه في الصّحيحين، والإمام أحمد أخرجه كذلك.

وعن ابن مسعود-رضي الله عنه، قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر، حتى احمرّت الشّمس-أو: اصفرت-فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم، وقبورهم نارا» . أو: «حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا» . وقد خصّت صلاة العصر بمزيد من التأكيد، والأمر بالمحافظة عليها، والتغليظ لمن ضيّعها، ويدلّ على ذلك ما روي عن أبي المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة، فقال في يوم ذي غيم: بكّروا بصلاة العصر. فإن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك صلاة العصر، فقد حبط عمله» . رواه البخاريّ، وغيره.

وعن ابن عمر-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الّذي تفوته صلاة العصر؛ فكأنّما وتر

ص: 569

أهله، وماله». رواه الستّة، ومالك أيضا. ومعنى وتر: أي: نقص، وسلب أهله، وماله. وقال صلى الله عليه وسلم:«إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب» .

{وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ:} مطيعين خاضعين خاشعين في الصّلاة، وغيرها. والقنوت: أن تذكر الله قائما. والقنوت: طول القيام. قاله ابن عمر-رضي الله عنهما-وقرأ قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصّلاة طول القنوت» . أخرجه مسلم، وغيره، وقال الشاعر:[الرمل]

قانتا لله يدعو ربّه

وعلى عمد من النّاس اعتزل

وقال السّدّيّ-رحمه الله تعالى-: قانتين: ساكتين، دليله: أنّ الآية نزلت في المنع من الكلام في الصّلاة، وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام، وهذا هو الصحيح؛ لما رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، فيردّ علينا، فلمّا رجعنا من عند النّجاشي؛ سلّمنا عليه، فلم يردّ علينا، فقلنا: يا رسول الله! إنّا كنّا نسلّم عليك في الصلاة، فتردّ علينا! فقال:«إنّ في الصّلاة لشغلا» . وروى زيد بن أرقم؛ قال: كنّا نتكلّم في الصّلاة يكلّم الرّجل صاحبه؛ وهو إلى جنبه في الصّلاة، حتّى نزلت:{وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ} فأمرنا بالسّكوت، ونهينا عن الكلام. ومن القنوت أيضا: طول الرّكوع، والسّجود، وغضّ البصر، والهدوء في الصّلاة، وخفض الجناح، والخشوع فيها. وكان العلماء إذا قام:

أحدهم يصلّي؛ يهاب الرّحمن أن يلتفت، أو يقلّب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا إلا ناسيا. خازن.

الإعراب: {حافِظُوا:} فعل أمر مبني على حذف النّون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{عَلَى الصَّلَواتِ:} متعلقان بما قبلهما، والآية معترضة كما بيّنته في الشرح.

{وَالصَّلاةِ:} معطوف على ما قبله عطف خاص على عام. {الْوُسْطى:} صفة الصلاة مجرور مثله، وعلامة جره الكسرة المقدرة على الألف للتعذّر. ({قُومُوا}): فعل أمر مثل سابقه.

{لِلّهِ:} متعلّقان بما قبلهما. {قانِتِينَ} حال من واو الجماعة. هذا؛ وجوز تعليق {لِلّهِ} ب: {قانِتِينَ} والمعنى لا يأباه.

{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}

الشرح: لما أمر الله تعالى عباده بالمحافظة على الصّلوات، والقيام بحدودها، وشدّد الأمر بتأكيدها؛ ذكر الحال التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل، وهي حال القتال، والتحام الحرب. فقال جلّ ذكره:{فَإِنْ خِفْتُمْ..} . إلخ؛ المعنى: إن لم يمكنكم أن

ص: 570

تقوموا قانتين موفين حدود الصّلاة من إتمام الركوع، والسجود، والخضوع، والخشوع؛ لخوف عدوّ، أو سيل، أو خوف سبع؛ فصلّوا مشاة على أرجلكم، أو ركبانا على دوابّكم، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، ولا تهملوها أصلا.

وصلاة الخوف قسمان، أو نوعان: أحدهما: أن يكون في حال القتال، وهو المراد بهذه الآية. والثاني في غير حال القتال، وهو المذكور في سورة النّساء في قوله تعالى:{وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} رقم [102].

(رجالا): جمع: راجل. {أَوْ رُكْباناً:} جمع راكب، فإذا التحم القتال، ولم يكن لأحد تركه؛ فمذهب الشّافعي: أنّهم يصلون ركبانا على الدّواب (على السّيارات، والدّبابات، والطّيارات)، ومشاة على الأرجل، والأقدام، إلى القبلة، وإلى غير القبلة، يومئون بالرّكوع، والسّجود، ويكون السجود أخفض من الرّكوع، ويحترزون عن الصّياح، فإنّه لا حاجة إليه، وقال أبو حنيفة: لا يصلّي الماشي، بل يؤخر الصّلاة، ويقضيها؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخّر الصّلاة يوم الخندق، فصلّى الظّهر، والعصر، والمغرب بعد ما غربت الشّمس، فيجب علينا الاقتداء به في ذلك. واحتجّ الشّافعيّ-رحمه الله تعالى-بهذه الآية، وأجيب عمّا ذكر يوم الخندق بأنه لم يكن نزل حكم صلاة الخوف، فلمّا نزلت الآية الكريمة لم يؤخر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك صلاة قطّ. هذا؛ ومالك يقول بقول الشّافعي، وأمّا الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-فصلاة الخوف عنده تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان، وعلى ذلك ينزل الحديث؛ الذي رواه مسلم عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السّفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، وتأوّل الشّافعيّ هذا بأنّ المراد به ركعة مع الإمام، وركعة أخرى يأتي بها منفردا.

ولعلّك تدرك معي أهميّة الصّلاة في الدّين بأنّها لم تسقط في عذر من الأعذار، لا في السّفر، ولا في المرض، وجد الماء، أم لم يوجد، ولا في شدّة الحرب، فيجب أن تصلّى بأية كيفية كانت، وعلى أيّة حالة حصلت، وقد شدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم في طلبها، واعتبر من تركها عمدا كافرا. وخذ ما يلي:

عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بين الرّجل وبين الكفر ترك الصّلاة» . رواه مسلم، وأحمد. وعن بريدة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة، فمن تركها؛ فقد كفر» . رواه أحمد، وأبو داود، والنّسائيّ، والترمذيّ. وغير ذلك كثير.

{فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ} أي: أقيموا الصّلاة كما أمرتم، فأتمّوا لها ركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، وخشوعها. {كَما عَلَّمَكُمْ..}. إلخ؛ أي: مثل ما أنعم الله عليكم، وهداكم

ص: 571

للإيمان، وعلّمكم ما ينفعكم في الدّنيا، والآخرة، فقابلوه بالشّكر، والذّكر، كقوله تعالى بعد ذكر صلاة الخوف في الآية رقم [10] من سورة (النساء):{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ..} . إلخ.

{كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ:} قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فاشكروا الله على الأمن، واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علّمكم من الشّرائع، وكيف تصلّون في حال الخوف، وفي حال الأمن.

هذا؛ وبين {خِفْتُمْ} وبين: {أَمِنْتُمْ} طباق، وهو من المحسنات البديعية. وقال أبو السّعود-رحمه الله تعالى-: في إيراد هذه الشّرطية بكلمة (إن) المنبئة عن عدم تحقّق وقوع الخوف، وقلّته، وإيراد الثانية بكلمة (إذا) المنبئة عن تحقّق وقوع الأمن، وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى، والإطناب في جواب الثانية من الجزالة، ولطف الاعتبار ما فيه عبرة لأولي الأبصار. انتهى جمل نقلا منه.

هذا؛ وأشرح قوله، وأوضّحه بما يلي:(إن) تفيد الشّكّ في المعنى، وتجزم في اللّفظ، و (إذا) بالعكس تجزم في المعنى، ولا تجزم في اللفظ، ولذا ألغز بعضهم بقوله:[الكامل]

سلّم على شيخ النّحاة وقل له

عندي سؤال من يجبه يعظّم

أنا إن شككت رأيتموني جازما

وإذا جزمت فإنّني لم أجزم

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن) حرف شرط جازم. {خِفْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَرِجالاً:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (رجالا): حال عامله محذوف، التقدير: فصلوا رجالا. وهو جمع: راجل كما رأيت، فهو مشتق، وليس جامدا، والجملة المقدّرة هذه في محل جزم جواب الشّرط، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف ومفرّع عمّا قبله، لا محل له.

{فَإِذا:} الفاء: حرف عطف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {أَمِنْتُمْ:} فعل، وفاعل، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:(إذا) إليها على المشهور المرجوح. {فَاذْكُرُوا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (اذكروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التّعظيم، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله.

{كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): تحتمل الموصولة، والمصدرية.

{عَلَّمَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهَ} والكاف مفعوله، فعلى اعتبار:(ما) موصولة فالجملة الفعلية صلتها، والعائد محذوف، التقدير: كالّذي علّمكم إيّاه، وعلى اعتبارها

ص: 572

مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور على الاعتبارين متعلّقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا.

التقدير: اذكروا الله ذكرا كائنا مثل الذي علمكموه. أو: كائنا مثل تعليمه إياكم.

وعلى التقدير الأوّل ثبت المفعول الثاني. تأمّل. هذا؛ وإن اعتبرت الكاف حرف تعليل؛ فالجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ويكون التقدير: اذكروا الله لتعليمه إيّاكم، فيكون مثل قوله تعالى في الآية رقم [198]:{وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ} . ما: اسم موصول بدل من (ما) الأوّل على اعتبارها موصولة، ومفعول ثان للفعل (علم) على اعتبار الأولى مصدرية. {لَمْ:}

حرف نفي، وجزم. {تَكُونُوا:} مضارع ناقص مجزوم بلم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{تَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف خبره، والجملة الفعلية صلة (ما)، والعائد محذوف، وهو مفعول:{تَعْلَمُونَ} .

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}

الشرح: ذهب جماعة من المفسّرين في تأويل هذه الآية: أنّ المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت؛ لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها، ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر، والعشر، ونسخت النفقة بالرّبع، والثّمن في سورة (النساء). قاله ابن عباس وغيره، قال البخاري: قال ابن الزبير-رضي الله عنه: قلت لعثمان بن عفان-رضي الله عنه: هذه الآية في البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً..} . إلخ؛ قد نسختها الآية رقم [234]، فلم تكتبها، ولا تدعها؟! قال: يا بن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه. فأجابه بأنّ هذا أمر توفيقي، لا يجوز تغييره، ولا إبداله. فأخزى الله الذين يقولون: إنّ عثمان حرّف القرآن، وغيّر فيه!.

فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدّمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية متقدّمة في التلاوة، وهي متأخرة في التنزيل، كقوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهاءُ} رقم [142] مع قوله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} رقم [144]. انتهى كشاف.

{وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ} أي: فيجب أن يعين لهنّ ما يكفيهن نفقة عام كامل من مال الزّوج المتوفّى. {غَيْرَ إِخْراجٍ:} قال عطاء رحمه الله: إن شاءت؛ اعتدت في بيت زوجها، وسكنت في وصيتها، وإن شاءت؛ خرجت، ولا وصية لها، لقول الله تعالى:{فَلا جُناحَ}

ص: 573

{عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} فهي مخيّرة، ولا تجبر على الخروج من بيت المتوفّى عنها.

{مِنْ مَعْرُوفٍ} هو مثل قوله تعالى فيما سبق: {بِالْمَعْرُوفِ} وهو الذي لا ينكره الشرع الشريف من التزيّن، والتطيّب، والتّعرّض للخطاب. {وَاللهُ عَزِيزٌ:} قوي، وغالب، وقاهر، ينتقم ممّن يخالف أوامره. {حَكِيمٌ:} فيما دبّر، وقضى، وحكم. ففيه وعيد، وتهديد، لا يصلح محلّه:

{(غَفُورٌ رَحِيمٌ)} كما رأيت فيما تقدّم.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُتَوَفَّوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، وجملة:{وَيَذَرُونَ أَزْواجاً:} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {وَصِيَّةً:}

مفعول مطلق، عامله محذوف، التقدير: يوصون وصية، وقدّر الجلال، فليوصوا وصية، وعليه ف ({وَصِيَّةً}) مفعول به للمقدّر. وعلى الاعتبارين فالجملة المقدرة في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. هذا؛ ويقرأ:(«وصيّة») بالرفع على أنّها مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: عليهم وصية، أو على أنها خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالواجب وصية، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ:(الذي). {لِأَزْواجِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صفة وصية، أو هما متعلقان بها على اعتبارها مصدرا، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَتاعاً} بدل من (الوصية) أو صفة لها على نصبها، وقيل: حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، أي: متمتّعات. وقيل: مفعول ثان لفعل محذوف، التقدير: ويعطوهنّ متاعا، وهذه الجملة معطوفة على المقدّرة قبلها. {إِلَى الْحَوْلِ:} متعلقان ب {مَتاعاً} أو بمحذوف صفة له. {غَيْرَ:}

حال من (أزواجهم) أو صفة: {مَتاعاً} أو بدل منه، وقيل: نائب مفعول مطلق، وهو ضعيف، {غَيْرَ} مضاف، و {إِخْراجٍ:} مضاف إليه. {فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع. (إن {خَرَجْنَ..}.) إلخ:

انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [234]، مع ملاحظة أنّ الشّرط هنا هو (إن). {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ:} هذه الجملة معترضة في آخر الكلام الغاية منها التّهديد، والوعيد.

{وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)}

الشرح: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ:} قد بيّن الله في الآية رقم [236] المتعة، وقدرها، وقد رأيت فيما سبق: أنّ هذه المتعة إنّما تتبع حال الزّوج المطلّق ضيقا، وسعة، وهو تأويل قوله تعالى هنا:{بِالْمَعْرُوفِ،} وقد فسّر النسفي كلمة: {مَتاعٌ} بنفقة العدّة. وهو غير مسلّم له: فمتعة المطلقة زيادة على نفقة العدّة. {حَقًّا} أي: وجبت وجوبا، وقد رأيت فيما سبق: أنّها واجبة، وغير واجبة. هذا؛ وقد قال الخازن: لمّا نزل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ..} . إلخ؛

ص: 574

قال رجل من المسلمين: إذا فعلت أحسنت، وإن لم أرد لم أفعل، فأنزل الله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ..} . إلخ، فجعل المتعة لهنّ بلام التّمليك. انتهى. فيكون المتأخر ناسخا للسّابق. هذا؛ وقال زيد بن أسلم: هو نسخ محض. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ:} الواو: حرف عطف. ({لِلْمُطَلَّقاتِ}): متعلقان بمحذوف خبر مقدّم.

{مَتاعٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها. {حَقًّا:}

مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: حقّ ذلك حقّا، والجملة الفعلية هذه في محل رفع صفة ثانية ل {مَتاعٌ،} والصفة الأولى متعلّق ب: (المعروف). {عَلَى الْمُتَّقِينَ:} متعلقان ب {حَقًّا} أو بمحذوف صفة له.

{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}

الشرح: {كَذلِكَ..} . إلخ: الإشارة إلى ما تقدّم من أحكام المطلّقات، والعدد.

{يُبَيِّنُ..} . إلخ: هذا وعد من العليم الحكيم بأنّه سيبين لعباده من الدّلائل، والأحكام ما يحتاجون إليه في دنياهم، وآخرتهم. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ:} تفهمون، وتتدبّرون، فتستعملون العقل فيها.

الإعراب: {كَذلِكَ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، عامله الفعل الذي بعده، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {يُبَيِّنُ:} فعل مضارع. {اللهُ:}

فاعله. {لَكُمْ:} متعلقان به. {آياتِهِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وتقدير الكلام: يبيّن الله لكم آياته تبيينا مثل هذا التبيين.

والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها.

{تَعْقِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية تعليل للتبيين، لا محلّ لها.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)}

الشرح: مناسبة الآيات الآتية لما قبلها: لمّا ذكر الله تعالى أحكام الأسرة بالتّفصيل، والتّنظيم التي تربط بين أفرادها، وذكر طرق إصلاحها باعتبار: أنّها النواة، واللّبنة؛ التي يشاد منها صرح المجتمع الفاضل؛ ذكر بعدها أحكام الجهاد، وذلك لحماية العقيدة، وصيانة

ص: 575

المقدّسات، وتأمين البيئة الصّالحة للأسرة المسلمة، التي تنشد الحياة الكريمة، فلا صلاح للأسرة إلا بصلاح المجتمع، ولا بقاء لها، ولا خلود إلا ببقاء الحقّ، وأنصاره، ولهذا أمر الله تعالى بالقتال، وضرب عليه الأمثال بالأمم السّابقة، وكيف جاهدت في سبيل الحق، وانتصرت القلّة مع إيمانهم على الكثرة، والتزامهم له، وجهادهم في سبيله.

{أَلَمْ تَرَ..} . إلخ: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ أحد، والاستفهام تعجّب، وتشويق إلى استماع ما بعده؛ إن كان المخاطب لم يعلم بحال المذكورين، أو هو استفهام، وتقرير؛ إن كان المخاطب يعلم بحالهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير، ولم يسمع؛ لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجّب.

{وَهُمْ أُلُوفٌ:} جمع: ألف، وهو جمع كثرة، ويجمع أيضا على آلاف، وهو جمع قلّة.

واختلف في عددهم، فقيل: هم سبعون ألفا. وقيل غير ذلك. {حَذَرَ الْمَوْتِ:} خوف الموت، وفرارا منه. {فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا} فماتوا. {ثُمَّ أَحْياهُمْ:} أعاد الله إليهم أرواحهم، بعد موتهم.

{إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ:} صاحب كرم، وجود، وإنعام؛ حيث يذكر لهم من القصص ما فيه عبرة لمن يعتبر، ويتذكّر. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ} فضل الله، وإنعامه.

تنبيه: المراد بما في الآية الكريمة أهل قرية «داوردان» قرية قبل واسط، وقع فيها طاعون، فخرجوا هاربين، فأماتهم الله، ثمّ أحياهم؛ ليعتبروا! ويتيقّنوا: أن لا مفرّ من قضاء الله تعالى، وقدره. أو هم قوم من بني إسرائيل، دعاهم ملكهم إلى الجهاد، ففرّوا خوف الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام، ثمّ أحياهم بدعوة نبيهم حزقيل، وهو الخليفة الثالث من خلفاء موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام. ويقال له: ذو الكفل؛ لأنه تكفّل سبعين نبيّا، وأنجاهم من القتل، فقد مرّ فيهم، وهم موتى، فتعجب من حالهم، فأوحى الله إليه أن ناد: قوموا بإذن الله.

فنادى، فقاموا يقولون: سبحانك اللهم، وبحمدك، لا إله إلا أنت. وفائدة القصّة تشجيع المسلمين على الجهاد، والتّعرّض للشّهادة، وحثّهم على التوكّل، والاستسلام للقضاء. انتهى.

بيضاوي بتصرّف. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [73] فإنّه جيد. والحمد لله!.

وفي هذه القصّة عبرة، ودليل على أنّه لا يغني حذر من قدر، وأن لا ملجأ من الله إلا إليه، فإنّ هؤلاء خرجوا فرارا من الوباء طلبا لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، ثمّ أحياهم.

وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها. وقال مجاهد: إنّهم لما أحيوا؛ رجعوا إلى قومهم، يعرفون: أنّهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما؛ حتى ماتوا لآجالهم؛ التي كتبت لهم. وفيه ردّ على من يقول: كيف أميت هؤلاء مرّتين في الدّنيا، وقد قال الله تعالى:{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى} الآية رقم [56] من سورة (الدخان)؟ قيل: إن موتهم، وإحياءهم كان معجزة من معجزات ذلك النّبيّ،

ص: 576

ومعجزات الأنبياء خوارق للعادات. فلا يقاس عليها. وفي هذه الآية احتجاج على اليهود، ومعجزة عظيمة لنبيّنا صلى الله عليه وسلم حيث أخبرهم بأمر لم يشاهدوه، وهم يعلمون صحّة ذلك.

هذا؛ وأخرج أبو عيسى الترمذيّ عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد-رضي الله عنهما:

أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر الطّاعون: فقال: «بقيّة رجز، أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع في أرض؛ وأنتم فيها؛ فلا تخرجوا منها، وإذا وقع في أرض، ولستم بها؛ فلا تهبطوا عليها» . وبمقتضى هذا عمل عمر، والصّحابة-رضوان الله عليهم-لما رجعوا من «سرغ» -موضع في الشام-حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-بالحديث على ما هو مشهور في الموطّأ، وغيره، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجّا عليه لمّا قال له حين رجع عمر من فلسطين، وكان طاعون عمواس: أفرارا من قدر الله؟! فقال عمر-رضي الله عنه: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله.

المعنى: لا محيص للإنسان عمّا قدّره الله له، وعليه، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرّز من المخاوف، والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقّي من المكروهات. ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت واديا، له عدوتان، إحداها خصبة، والأخرى جدبة؟ أليس إن رعيت الخصبة؛ رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة؛ رعيتها بقدر الله؟! ثم رجع-رضي الله عنه-من موضعه ذلك إلى المدينة المنورة.

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وانظر الشرح. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{تَرَ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت، وهو لازم؛ لأنّه بمعنى:«تنظر» تعدى بحرف الجر. {إِلَى الَّذِينَ} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {خَرَجُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ دِيارِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَهُمْ أُلُوفٌ:} الواو: واو الحال.

({هُمْ أُلُوفٌ}): مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الواو، والضمير. {حَذَرَ:} مفعول لأجله، وهو مضاف، و {الْمَوْتِ:} مضاف إليه، من: إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والجملة الفعلية:{أَلَمْ تَرَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

(قال): فعل ماض. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {اللهُ:} فاعله. {مُوتُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {خَرَجُوا} لا محل لها مثلها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَحْياهُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهُ} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فماتوا، فأحياهم.

ص: 577

{إِنَّ} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {لَذُو:} اللام: هي المزحلقة. (ذو): خبر {إِنَّ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو، نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الخمسة، و (ذو) مضاف، و {فَضْلٍ} مضاف إليه. {عَلَى النّاسِ:} متعلقان ب {فَضْلٍ} أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنَّ}): حرف مشبه بالفعل.

{أَكْثَرَ:} اسمها، وهو مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه، وجملة:{لا يَشْكُرُونَ:} في محل رفع خبر ({لكِنَّ})، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}

الشرح: في هذه الآية خطاب لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [190] فإنّه جيد والحمد لله! وقيل:

الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل. {وَاعْلَمُوا:} أيقنوا، واعتقدوا. {سَمِيعٌ:} لأقوالكم.

{عَلِيمٌ} بنياتكم وأحوالكم، فيجازيكم عليها. فيه وعد لمن بادر للجهاد في سبيل الله، ووعيد لمن تخلّف عنه، والاسمان صيغتا مبالغة، كما لا يخفى، وكما أنّ الحذر لا يغني من القدر؛ فكذلك الفرار من الجهاد لا يقرب أجلا، ولا يبعده.

الإعراب: {وَقاتِلُوا:} الواو: حرف عطف. ({قاتِلُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، تقديره: الكفار ونحوه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فأطيعوا الله، وقاتلوا

إلخ، والجملة المحذوفة تقع في التقدير جوابا لشرط محذوف، وتقدير الكلام: وإذا كان الموت واقعا على كل حال؛ فأطيعوا الله، وقاتلوا

إلخ {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. ({اِعْلَمُوا}): فعل أمر وفاعله. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {سَمِيعٌ عَلِيمٌ:} خبران لها. و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي ({اِعْلَمُوا}). تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم.

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}

الشرح: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ:} إقراض الله مثل لتقديم العلم الذي يطلب به ثوابه، والقرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، قال لبيد-رضي الله عنه:[الرمل]

وإذا جوزيت قرضا فاجزه

إنّما يجزي الفتى ليس الجمل

ص: 578

وقال الزجّاج: القرض في اللغة: البلاء الحسن، والبلاء السيئ. قال أميّة بن أبي الصّلت:[البسيط]

كلّ امرئ سوف يجزى قرضه حسنا

أو سيّئا، ومدينا مثل ما دانا

وقال آخر: [المتقارب]

تجازى القروض بأمثالها

فبالخير خيرا وبالشّرّ شرّا

وطلب القرض في هذه الآية وأمثالها إنّما هو تأنيس، وتقريب للنّاس بما يفهمون، والله هو الغنيّ الحميد، لكنّه تعالى شبّه إعطاء المؤمنين المال، وإنفاقهم في الدّنيا الذي يرجون ثوابه بالقرض، كما شبّه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنّة بالبيع والشراء، كما ذكر الله بقوله:

{إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ..} . إلخ الآية رقم [111] من سورة (التوبة)، وكما كنى الله سبحانه وتعالى عن الفقير بنفسه العلية المنزّهة عن الحاجات ترغيبا في الصّدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدّسة عن النقائص والآلام، ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى:«يا بن آدم مرضت فلم تعدني، استطعمتك فلم تطعمني، استسقيتك فلم تسقني، وقال: يا ربّ كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنّك لو سقيته لوجدت ذلك عندي» . أخرجه البخاريّ، ومسلم، وهذا كلّه خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به. ويجب على المستقرض ردّ القرض؛ لأنّ الله تعالى بيّن: أنّ من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله، بل يردّ الثواب قطعا، وأبهم الجزاء، وقد بيّن الله تعالى في الآية رقم [261] الآتية: أنّ النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر، وقال هاهنا:{فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً} وهذا لا نهاية له.

وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي على باب الجنّة مكتوبا: الصّدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصّدقة؟ قال: لأنّ السّائل يسأل، وعنده ما يكفيه، والمستقرض لا يستقرض إلاّ من حاجة» . أخرجه ابن ماجة، وفي رواية:«ما بال القرض أفضل من الصّدقة، وهو يعود، والصّدقة لا تعود؟!» . ولكن في هذه الأيام القرض ضال إلا ما ردّه الله، وذلك لسوء معاملة الناس.

هذا وقال العلماء في القرض بمعنى الصّدقة: لا يكون القرض حسنا حتى تجتمع فيه أوصاف عشرة، وهي: أن يكون المال من الحلال، وأن يكون من أجلّ المال، وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه، وأن تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها، وأن تكتم الصدقة ما أمكنك، وأن لا تتبعها بالمنّ، والأذى، وأن تقصد بها وجه الله، ولا ترائي بها النّاس، وأن تستحقر ما تعطي؛ وإن كان كثيرا، وأن يكون من أحبّ أموالك إليك، وأ لا ترى عزّ نفسك، وذلّ الفقير، وخذ ما يلي:

ص: 579

عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه، قال: لمّا نزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ..} . إلخ قال أبو الدحداح-رضي الله عنه: يا رسول الله! إن الله عز وجل ليريد منّا القرض؟! قال: «نعم يا أبا الدّحداح» . قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربّي عز وجل حائطي، قال: وحائطه فيه ستمائة نخلة، وأم الدّحداح وعيالها فيه، قال: فجاء أبو الدّحداح، فناداها: يا أمّ الدّحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي، فقد أقرضته ربّي عزّ، وجلّ، فقالت الزّوجة الصّالحة: ربح بيعك، وبارك الله لك فيما اشتريت! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«كم من عذق رداح، ودار فياح لأبي الدّحداح في الجنّة» . هذا و {قَرْضاً} مصدر جاء بخلاف المصدر، كقوله تعالى في سورة (نوح):{وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} . {فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً:} كثرة لا يقدرها، ولا يعرفها إلا الله، و {أَضْعافاً} جمع: ضعف، وهو بكسر الضاد وسكون العين مثل الشّيء، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه: أمثاله، هذا هو الأصل في الضّعف، ثم استعمل في المثل، وما زاد، وليس للزيادة حدّ، فيقال: هذا ضعف هذا، أي: مثله، أو مثلاه، أو ثلاثة أمثاله، وهكذا، ويقال: أضعفت الشيء، وضعّفته، وضاعفته، فمعناه ضممت إليه مثله فصاعدا، وقال بعضهم: ضاعفت أبلغ من ضعّفت، ولذا قرأ أكثرهم في سورة (الأحزاب) رقم [30] {يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} وفي الآية رقم [69] من سورة (الفرقان):{يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ} وفي الآية رقم [40] من سورة (النساء): {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} هذا وللضّعف بفتح الضاد والضّعف بكسرها، والضّعف بضمها معان نظمها بعضهم بقوله:[الرجز]

في الرّأي والعقل يكون الضّعف

والوهن في الجسم فذاك الضّعف

زيادة المثل كذا والضّعف

جمع ضعيف، وهو شاكي الضّرّ

{يَقْبِضُ:} يمسك الرزق عمّن يشاء ابتلاء، ({يَبْصُطُ}): يوسّعه لمن يشاء امتحانا، وهو يقرأ بالسين والصاد، وبينهما طباق، وهو من المحسّنات البديعيّة.

الإعراب: {مَنْ ذَا الَّذِي:} {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، {ذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع خبره. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {ذَا} أو هو بدل منها. هذا؛ وجوز أن يكون {مَنْ ذَا} اسما مركبا مبنيّا على السكون في محل رفع مبتدأ، و {الَّذِي} خبره. {يُقْرِضُ:} فعل مضارع. والفاعل يعود إلى من {اللهَ} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {قَرْضاً:}

مفعول مطلق، وقيل: مفعول به، {حَسَناً:} صفته. {فَيُضاعِفَهُ:} الفاء: هي السببية.

(يضاعفه): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء. والفاعل يعود إلى {اللهَ} . {لَهُ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَضْعافاً:} حال، وقيل: مفعول مطلق، وقيل: مفعول ثان لتضمّن المضاعفة معنى التصيير. {كَثِيرَةً:} صفة أضعافا، و «أن» المضمرة والفعل المضارع

ص: 580

في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيّد من الفعل السابق، التقدير: من ذا الذي يحصل منه قرض لله، فمضاعفه له. هذا ويقرأ الفعل بالرّفع، فيكون في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو يضاعفه، والجملة الاسمية مستأنفة على حدّ:{كُنْ فَيَكُونُ} في كثير من الآيات. ({اللهَ}): مبتدأ. {يَقْبِضُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهَ})، والجملة الفعلية في محل رفع خبره. ({يَبْصُطُ}): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهَ}) أيضا، ومفعوله محذوف مثل سابقة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. ({إِلَيْهِ}):

جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {تُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (246)}

الشرح: {أَلَمْ تَرَ:} انظر مثله في الآية رقم [243]{الْمَلَإِ:} الجماعة الأشراف، والوجهاء، سمّوا بذلك؛ لأنّهم يملئون القلوب مهابة، والعيون حسنا، وبهاء، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، ومعشر، ونفر. {مِنْ بَعْدِ مُوسى} أي: بزمن طويل. {إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ:} انظره فيما يأتي. {اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً:} عيّن لنا أميرا ينظّم أمورنا، ونقاتل معه عدوّنا. {قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ..}. إلخ: المعنى: إني أتوقّع جبنكم في القتال؛ إن فرض عليكم، وندبتم إليه، فأدخل {هَلْ} على فعل التوقّع، مستفهما عمّا هو المتوقع عنده تقريرا، وتثبيتا.

{تَوَلَّوْا:} هربوا، وولّوا الأدبار:{إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر.

{وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ:} هذا وعيد، وتهديد لهم على ظلمهم بترك الجهاد، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدّعة، والرّفاهية تتمنّى الحرب أوقات الرّاحة، فإذا حضرت؛ جبنت، وولّت الأدبار، وعن هذا المعنى نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:«لا تتمنّوا لقاء العدوّ، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم؛ فاثبتوا» . رواه الأئمة.

تنبيه: سبب طلب بني إسرائيل من نبيهم ما ذكر في الآية الكريمة: أنه مات موسى-على نبينا، وعليه ألف سلام-وخلفه يوشع بن نون، أقام فيهم أمر الله، وحكم بالتوراة، ثمّ خلفه كالي بن يوقنا، ثمّ حزقيل المذكور في الآية رقم [243] ثم إلياس، ثم اليسع، ثم ظهر لهم

ص: 581

أعداؤهم العمالقة بزعامة جالوت، فقاتلوهم، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيرا منهم، ولم يكن لهم إذ ذاك نبي يدبر أمورهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى فولدت غلاما، فسمّته شمويل، ومعناه بالعربية: إسماعيل، وعرف بابن العجوز، وإنّما قيل له ذلك؛ لأن أمه كانت سألت الله الولد، وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها، فلما كبر سلمته التوراة في بيت المقدس، وكفله شيخ من علمائهم، فلما كبر نبأه الله تعالى، وأرسله إليهم، فقالوا له: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل معه في سبيل الله، وكان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، وطاعة أنبيائهم، فكان الملك هو يسيّر الجموع، والنبي يرشده، ويقيم أمره. انتهى.

خازن. بتصرف.

الإعراب: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [243]. {مِنْ بَنِي:}

متعلقان بمحذوف حال من الملأ، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي} مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بمحذوف حال من {بَنِي إِسْرائِيلَ} فهي حال متداخلة، أو بمحذوف حال من {الْمَلَإِ} فتكون حالا متعدّدة، و {بَعْدِ} مضاف، و {مُوسى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر. {إِذْ:} قال أبو البقاء: بدل من {بَعْدِ} لأنهما زمانان، وأما الجمل تبعا للجلال فعلّقه بمحذوف مضاف إلى الملأ، وقدّره: ألم تر إلى قصة الملأ. وهو قول ابن هشام في المغني، فهو على الأول مبني على السكون في محل جر، وعلى الثاني في محل نصب. {قالُوا:} فعل ماض وفاعله والألف للتفريق. {لِنَبِيٍّ:} متعلقان بما قبلهما. {لَهُمُ:} متعلقان بمحذوف صفة (نبي).

{اِبْعَثْ:} فعل أمر والتماس، وفاعله: أنت. {لَنا:} متعلقان به. {مَلِكاً:} مفعول به، وجملة:{اِبْعَثْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {نُقاتِلْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، وفاعله مستتر تقديره: نحن، وقد قرئ بالرفع والياء:(«يقاتل») على أن تكون جملته في محل نصب صفة ملكا، كما قرئ بالرّفع، والنون على الاستئناف. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى النبي. {هَلْ:} حرف استفهام. {عَسَيْتُمْ:}

فعل ماض مفيد للترجي والتوقع، مبني على السكون، والتاء اسمه. {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط.

{عَلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْقِتالُ:} نائب فاعل {كُتِبَ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط

ص: 582

محذوف، التّقدير: إن كتب عليكم القتال؛ فلا تقاتلون. {أَلاّ:} (أن) حرف مصدري ونصب.

(لا) نافية. {تُقاتِلُوا:} مضارع منصوب ب «أن» وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والمصدر المؤول من «أن» والفعل المضارع في محل نصب خبر {عَسَيْتُمْ،} والجملة الشرطية معترضة بين اسم (عسى) وخبرها، وجملة:{هَلْ عَسَيْتُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قالُوا:} ماض وفاعله. {وَما لَنا:} الواو: حرف عطف على محذوف، التقدير: أيّ غرض لنا في ترك القتال، وقد عرض لنا ما يوجبه، ويحثّ عليه. وهذا تقدير البيضاوي، وهو حلّ معنى كما ترى. وقال الجمل، وأبو البقاء: دخلت الواو لتدلّ على ربط هذا بما قبله. ({ما}):

اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. ({لَنا}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {أَلاّ:} (أن): حرف مصدري ونصب. (لا): نافية. {نُقاتِلْ:} فعل مضارع منصوب ب (أن) والفاعل تقديره نحن، والمصدر المؤول منهما في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:

وما لنا في ترك القتال، والجار والمجرور متعلقان ب ({ما}) لتضمنها معنى الفعل:«استفهم» . وقال أبو البقاء: متعلقان بالخبر المحذوف، الذي تعلّق به {لَنا،} وقال الأخفش: (أن) زائدة، والجملة حال، تقديره: وما لنا غير مقاتلين، مثل قوله تعالى حكاية على قول أولاد يعقوب لأبيهم:{ما لَكَ لا تَأْمَنّا،} وقد أعمل ({إِنْ}) وهي زائدة. انتهى. والكلام: {وَما لَنا..} . إلخ كلّه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها؛ لأنّها بمنزلة جواب عن الكلام السابق. {وَقَدْ} الواو: واو الحال. ({قَدْ}): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{أُخْرِجْنا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون، و (نا) في محل رفع نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {نُقاتِلْ} المستتر، والرابط الواو والضمير. {مِنْ دِيارِنا:} متعلقان بما قبلهما. {وَأَبْنائِنا:} معطوف على ما قبله، و (نا) في محل جر بالإضافة، وهذا ظاهر الإعراب، وفي المعنى لا بدّ من تقدير فعل، أي: وأبعدنا من أبنائنا.

{فَلَمّا} الفاء: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول:

حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى «حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوّب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان به. {الْقِتالُ:} نائب فاعله. والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا. {تَوَلَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {أَلاّ:} أداة

ص: 583

استثناء. {قَلِيلاً:} منصوب على الاستثناء. {مِنْهُمْ:} متعلقان ب {قَلِيلاً} . {وَاللهُ:} الواو:

واو الاعتراض. ({اللهِ}): مبتدأ. {عَلِيمٌ:} خبره. {بِالظّالِمِينَ:} متعلقان بما قبله. والجملة الاسمية: {وَاللهُ..} . إلخ استئنافية، الغرض منها الوعيد والتهديد كما رأيت.

{وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)}

الشرح: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ:} انظر الآية السابقة. {إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ:} اختار لكم طالوت ملكا. {طالُوتَ:} اسم أعجمي مثل: داود، وجالوت، وجمعها: طواليت، ودواويد، وجواليت، وهي ممنوعة من الصرف، ولو سمّيت رجلا بطاوس وراقود؛ لصرفت وإن كانا أعجميين، والفرق بين هذا وبين الأوّل أنك تقول: الطاوس، فتدخل الألف واللام، فيمكّن في العربية، ولا يمكّن هذا في ذاك. وذلك: أنه لمّا سأل الله إرسال ملك لهم، أرسل الله له عصا، وقرنا فيه دهن القدس، وقيل له: إنّ صاحبك الذي يكون ملكا هو من يكون طوله طول هذه العصا، وانظر إلى القرن الذي فيه الدهن، فإذا دخل عليكم رجل، فانتشر الدّهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل، فادهن رأسه بالدّهن، وملّكه عليهم، واسمه: طالوت، فدخل طالوت. فوجد فيه ما ذكر، فقال له: أنت ملك بني إسرائيل الّذي أمرني ربّي أن أملكك عليهم.

فقال: أو لم تعلم: أنّ سبطي أدنى من سبط ملوك بني إسرائيل؟! قال: بلى! والله يؤتي ملكه من يشاء.

{قالُوا:} أي: بنو إسرائيل لمّا قال لهم نبيهم: إنّ ملكهم طالوت: {أَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا} أي: كيف يملكنا {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ؟!} فهو استبعاد، واستغراب لما قال لهم النبي، وبيّنوا له السبب؛ بأنّه ليس من بيت الملوك، وبأنّه فقير، وإنّما قالوا ذلك؛ لأنّ طالوت كان راعيا، أو سقاء، أو دبّاغا. {قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ:} اختاره لكم ملكا، وليس الأمر لي. {وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أي: منحه قوّة في العلم الّذي هو ملاك الإنسان، وقوّة في الجسم الذي هو معينه في الحروب، وعدّته عند اللّقاء.

هذا؛ وقد كان طالوت من سبط بنيامين، ولم تكن فيهم النبوّة والملك، وإنّما كانت النبوة في أولاد لاوي بن يعقوب، والملك في أولاد يهوذا، وكان فيهم من السّبطين خلق يومئذ. {قالَ إِنَّ اللهَ..} . إلخ، لمّا استبعدوا تملكه؛ ردّ عليهم نبيّهم ذلك بأمور أربعة: الأول: أن الله هو الذي

ص: 584

اختاره ملكا عليهم، وهو أعلم بالمصالح، الثاني: أنّ الله منحه من العلم ما يجعله أهلا لذلك؛ ليتمكّن بالعلم من معرفة الأمور السياسيّة، ومنحه من قوة الجسم، وطوله؛ ليكون أعظم خطرا في القلوب، وأقوى على مكابدة الحروب، الثالث: أن الله تعالى مالك الملك على الإطلاق، فله أن يختصّ بملكه من يشاء، الرابع: أن الله واسع الفضل يوسع على الفقير، ويغنيه، عليم بمن يليق بالملك. انتهى. بيضاوي بتصرّف، وانظر شرح {واسِعٌ} في الآية رقم [115].

الإعراب: {وَقالَ:} فعل ماض. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان به، {نَبِيُّهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال، {بَعَثَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {لَكُمْ:}

جار ومجرور متعلقان به. {طالُوتَ:} مفعول به. {مَلِكاً:} حال من {طالُوتَ} أو هو مفعول ثان على تضمين {بَعَثَ} معنى: أرسل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:({قالَ..}.) إلخ معطوفة على ما قبلها.

{أَنّى:} اسم استفهام وتعجب، مبني على السكون في محل نصب حال، عامله ما بعده، وقال القرطبيّ: في محل نصب على الظرف، ولا وجه له. {يَكُونُ:} فعل مضارع ناقص.

{لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {الْمُلْكُ:} اسمه مؤخر. هذا؛ وجوز اعتبار {يَكُونُ} تامّا، فيكون {لَهُ} متعلقين به، و {الْمُلْكُ} فاعله، {عَلَيْنا:} متعلقان ب: {الْمُلْكُ} . وقال أبو البقاء: في محل نصب حال من {الْمُلْكُ،} والأول أقوى، وجملة:{أَنّى يَكُونُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَنَحْنُ:} الواو: واو الحال. ({نَحْنُ}): ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {أَحَقُّ:} خبره، {بِالْمُلْكِ مِنْهُ:} كلاهما متعلقان ب {أَحَقُّ} لأنه اسم تفضيل، والجملة اسمية في محل نصب حال من (نا) المجرورة ب (على) والرابط الواو والضمير. {وَلَمْ:} الواو: حرف عطف، ({لَمْ}): حرف نفي وقلب وجزم، {يُؤْتَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم ب ({لَمْ}) وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، ونائب الفاعل يعود إلى {طالُوتَ} وهو المفعول الأول. {سَعَةً:} مفعول ثان. {مِنَ الْمالِ:} متعلقان ب {سَعَةً} أو بمحذوف صفة له، والجملة الفعلية {وَلَمْ يُؤْتَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، وجملة:{قالَ إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {نَبِيُّهُمْ}. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، {اللهَ:}

اسمها. {اِصْطَفاهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والهاء مفعول به. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل

ص: 585

لها. {وَزادَهُ:} الواو: حرف عطف. ({زادَهُ}): فعل ماض والفاعل يعود إلى {اللهَ} والهاء مفعول به أول، {بَسْطَةً:} مفعول به ثان، {فِي الْعِلْمِ:} متعلقان ب {بَسْطَةً} أو بمحذوف صفة له. {وَالْجِسْمِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

{وَاللهُ:} (الواو): حرف استئناف. ({اللهَ}): مبتدأ. {يُؤْتِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى ({اللهَ}). {مُلْكَهُ:} مفعول به أول، والهاء في محل جر بالإضافة، {مِنَ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان.

{يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهَ})، والجملة الفعلية صلة {مِنَ} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو شخصا يشاؤه، والجملة الفعلية:{يُؤْتِي..} .

إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ:} معترضة في آخر الكلام، مؤكدة لما قبلها.

{وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}

الشرح: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ:} بعد أن طلبوا علامة دالة على ملك طالوت. {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} أي: علامة تمليك طالوت عليكم. {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ:} كان من خشب الشّمشاذ بكسر الشين، وهو الذي تتخذ منه الأمشاط، وكان مموها بالذّهب، طوله ثلاثة أذرع، وعرضه ذراعان، وكان عند آدم عليه السلام فيه صور جميع الأنبياء فقد رآها آدم كلها، ثم توارثه أولاده إلى أن وصل إلى موسى، على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام، فكان يضع فيه التوراة، ومتاعه، وكان عنده إلى أن مات، ثم توارثه بنو إسرائيل بعده، وكانوا إذا اختلفوا في شيء؛ تحاكموا إليه، فيكلّمهم، ويحكم بينهم، وكانوا إذا خرجوا للقتال؛ يقدّمونه بين أيديهم، وكانوا معدّين جماعة لحمله، ثم يقاتلون العدو، فإذا سمعوا صيحة استيقنوا بالنّصر، فلما عصوا الله، وأفسدوا في الأرض؛ سلّط الله عليهم العمالقة، فغلبوهم على التابوت، وسلبوه، وجعلوه في موضع البول، والغائط، فلمّا أراد الله أن يملك طالوت؛ سلط الله عليهم البلاء، حتى إنّ كلّ من بال عنده ابتلي بالبواسير، وهلكت من بلادهم خمس مدائن، فعلم الكفار: أن ذلك بسبب استهانتهم بالتّابوت، فأخرجوه، فاحتملته الملائكة، وأتت به بني إسرائيل، كما ذكرت الآية الكريمة.

{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ:} طمأنينة لقلوبكم بسببه، فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت.

ص: 586

ونظيره قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [40]: {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي: أنزل عليه ما سكن به قلبه، وقال وهب بن منبه: السكينة: روح من الله تتكلّم، فكانوا إذا اختلفوا في أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت في الحرب كان الظفر لهم، {وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ..} .

إلخ: وهي نعل موسى وعصاه، وعمامة هارون، وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم، ورضاض ألواح التوراة التي تكسّرت حين ألقاها موسى عند عودته من جبل الطور، ورأى قومه قد عبدوا العجل، فغضب، وألقى ألواح التوراة، فتكسرت، فنزع منها ما كان صحيحا، وأخذ رضاض ما تكسر، فجعله في التابوت. ولفظ ({آلُ}) مقحم، فإن المراد موسى وهارون أنفسهما، وقيل: بل المراد أنبياء بني إسرائيل من بعدهما، والأول أقوى، ومثله في آل عمران رقم [33].

{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً..} . إلخ: أي: في إتيان التابوت لعلامة واضحة على تمليك طالوت عليكم.

وهذا يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي، وأن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى.

فحملته الملائكة بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت، فأقروا بملكه، وتسارعوا إلى الجهاد معه، فاختار من شبابهم سبعين ألفا، وكان من جملتهم داود النبي قيل منحه النبوة، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: ({قالَ}): فعل ماض. {لَهُمْ:} متعلّقان به. {نَبِيُّهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {آيَةَ:}

اسمها، وهو مضاف، و {مُلْكِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَأْتِيَكُمُ:}

فعل مضارع منصوب ب {إِنَّ} والكاف مفعول به. {التّابُوتُ:} فاعله، واكتفى بمفعول واحد؛ لأنه بمعنى: يجيئكم، و {إِنَّ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {سَكِينَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {التّابُوتُ}. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {سَكِينَةٌ،} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. ({بَقِيَّةٌ}): معطوف على {سَكِينَةٌ} . {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ({بَقِيَّةٌ})، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {تَرَكَ آلُ:} ماض وفاعله، و {آلُ:} مضاف، و {مُوسى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف التقدير: من الذي، أو: من شيء تركه آل موسى. {آلُ:} معطوف على ما قبله، وهو مضاف، و {هارُونَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {تَحْمِلُهُ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به، {الْمَلائِكَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من {التّابُوتُ} .

ص: 587

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآيَةً:} اللام: لام الابتداء، (آية):

اسم {إِنَّ} مؤخر. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (آية). والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{إِنَّ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط. والتاء اسمه. {مُؤْمِنِينَ:} خبره منصوب وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم مؤمنين؛ فإن في ذلك

إلخ، والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول.

{فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ (249)}

الشرح: {فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ:} خرج من بلده بالشّباب الّذين اختارهم لقتال العمالقة، وكان الوقت قيظا، فسلكوا مفازة، وسألوا الله أن يجري لهم نهرا. {قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ:} مختبركم. {بِنَهَرٍ:} ليظهر منكم المطيع والعاصي، وهذا النهر ممتد بين فلسطين والأردن، ويسمّى نهر الشريعة، ويقرأ بفتح الهاء، وسكونها، ويجمع على أنهر، ونهر، ونهور.

{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي: من شرب من النهر فليس من أشياعي، وأتباعي. {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي:} ومن لم يذقه؛ فإنه منّي، أي: من أشياعي، وأتباعي، وإنّما علم ذلك بالوحي إن كان نبيا، كما قيل، أو بإخبار النبيّ شمويل، ولم يقل: ومن لم يشربه؛ لأنّه من عادة العرب إذا كرروا شيئا أن يكرّروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللّغات، فلا عبرة بقدح من يقول: لا يقال: طعمت الماء. هذا وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة-رضي الله عنه:

أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«من حمل علينا السّلاح فليس منّا، ومن غشّنا فليس منّا» . هذا وقال النابغة الذبياني يخاطب به عيينة بن حصن الفزاري: [الوافر]

إذا حاولت في أسد فجورا

فإنّي لست منك ولست منّي

{إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} أي: اكتفى بغرفة، وهذه الغرفة كفته، فلم يعطش بعدها، بخلاف الذي شرب كثيرا فإنه لم يرو. {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} أي: شرب أكثرهم كثيرا،

ص: 588

واكتفى القليل بغرفة. هذا؛ والاغتراف: الأخذ من الشيء باليد، وبآلة، ومنه الغرفة، {غُرْفَةً:}

بضم الغين وفتحها قراءتان ولغتان، ورحم الله عمرو بن العلاء الذي كان يطلب دليلا لغويّا على قراءة الفتح، فوجده في قول أمية بن أبي الصّلت، وهو الشاهد رقم [553] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الخفيف]

ربّما تكره النّفوس من الأم

ر له فرجة كحلّ العقال

بفتح فاء (فرجة) فقد روي: أنه-رحمه الله تعالى-هرب من الحجّاج إلى اليمن، فسمع أعرابيّا يوما ينشد القصيدة التي منها هذا البيت، وقد فتح فاء (فرجة) فقال: ما وراءك يا أعرابي؟! قال: مات الحجّاج، فقال-رحمه الله تعالى-: والله فلم أدر بأيهما أفرح؟ أبموت الحجّاج أم بقوله (فرجة)؛ لأنّي كنت أطلب شاهدا لاختياري القراءة في سورة البقرة: {إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} يريد فتح الغين من (غرفة). كما فتحت الفاء في (فرجة)، هذا، وقال عليّ-رضي الله عنه: الأكف أنظف الآنية، ومنه قول الحسن:[البسيط]

لا يدلفون إلى ماء بآنية

إلاّ اغترافا من الغدران بالرّاح

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من شرب بيده، وهو يقدر على إناء، يريد به التّواضع، كتب الله له بعدد أصابعه حسنات، وهما إناء عيسى ابن مريم عليهما السلام؛ إذ طرح القدح، فقال: أفّ هذا مع الدّنيا» أخرجه ابن ماجة، من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما.

{فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي: قطع النهر هو والذين اقتصروا على الغرفة.

{قالُوا لا طاقَةَ لَنَا..} . إلخ: لا قدرة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فلم يقطعوا النهر معه، واسودت شفاههم، وغلبهم العطش، فلم يرووا، وجبنوا. {قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ:} قال الذين شربوا قليلا، وجاوزوا معه النهر، وامتلأت قلوبهم إيمانا، ويقينا، وصرامة، وشجاعة؛ {كَمْ مِنْ فِئَةٍ..}. إلخ: كثير من الجماعات القليلة قد غلبت الكثيرة بإرادة الله ومشيئته، فليس النصر عن كثرة العدد، وإنّما النّصر من عند الله العزيز الحكيم، وفي قولهم هذا- رضوان الله عليهم-تحريض على القتال، واستشعار للصبر، واقتداء بمن صدق ربّه، ووثق به.

قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل، لكن الأعمال القبيحة، والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدّام اليسير من العدو، كما شاهدناه غير مرّة، وذلك بما كسبت أيدينا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟!» فالأعمال فاسدة، والضّعفاء مهملون، والصّبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة، قال تعالى في سورة آل عمران:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،} وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ}

ص: 589

{اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ،} وقال جلّ ذكره: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال) رقم [45]. فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي غير موجودة فينا، فإنا لله، وإنا إليه راجعون على ما أصابنا، وحلّ بنا، ولم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه؛ لظهور الفساد، ولكثرة الطّغيان، وقلّة الرشاد، حتّى استولى العدوّ شرقا وغربا، برّا، وبحرا، وعمّت الفتن، وعظمت المحن، ولا عاصم إلا من رحم الله.

{وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ} أي: بالمعونة، أو الهداية، والتوفيق، والرعاية، والسّداد، هذا، ومعية الله على نوعين: عامّة، وخاصة، فالأولى لكل الناس، وهي معيّة بالعلم، والقدرة، والإحاطة.

والثانية للمؤمنين المتّقين، والمحسنين، وهي الحفظ، والنصر، والتأييد، والمعونة، قال تعالى:

{إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ،} وقال جل ذكره: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [246]. {فَصَلَ طالُوتُ} ماض وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبار (لمّا) ظرفا.

{بِالْجُنُودِ:} متعلقان بما قبلهما. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل تقديره: هو، يعود إلى {طالُوتُ}. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، {اللهَ:} اسمها، {مُبْتَلِيكُمْ:} خبر. {إِنَّ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء للثقل، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود إلى {اللهَ}. {بِنَهَرٍ:} متعلقان باسم الفاعل، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، جملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.

{فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع، (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{شَرِبَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره: هو. {مِنْهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في الأصل صفة لمفعول به محذوف، التقدير: شرب ماء منه. الفاء: واقعة في جواب الشّرط. (ليس): فعل ماض ناقص، واسمه مستتر يعود إلى (من) أيضا. {مِنِّي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (ليس) والجملة في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فهي مبتدأ، وجملة:{شَرِبَ مِنْهُ} صلته، وجملة:(ليس {مِنِّي}) في محل رفع خبره، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة اسمية على الاعتبارين، وهي في محل نصب مقول القول أيضا، ولا يخفى عليك إعراب {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} إفرادا، وجملة، وهي معطوفة عليها فمحلّها مثلها.

ص: 590

{إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مستثنى من ({مَنْ}) الأولى، وهو قول ابن هشام في «المغني». {اِغْتَرَفَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} تقديره: هو. {غُرْفَةً:} مفعول مطلق، وقيل: مفعول به، والأول على قراءته بفتح الغين، والثاني على قراءته بضم الغين، قاله ابن هشام في «المغني». {بِيَدِهِ:} متعلقان ب ({غُرْفَةً})، أو بمحذوف صفة لها، وجوز تعليقهما بالفعل قبلهما، وجملة {اِغْتَرَفَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{فَشَرِبُوا مِنْهُ} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{إِلاّ:} أداة استثناء. {قَلِيلاً} مستثنى ب ({إِلاّ}). {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {قَلِيلاً،} {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): مثل ما قبلها. {جاوَزَهُ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {طالُوتُ} والهاء مفعول به. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد للضمير المستتر. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع معطوف على الضمير المستتر. {آمَنُوا:} فعل ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة {جاوَزَهُ..} .

إلخ في محل جر بإضافة (لمّا) إليها

إلخ. {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق.

{لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {طاقَةَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب.

{لَنَا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ({لا}). {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلّق بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان. {بِجالُوتَ} متعلّقان بالخبر المحذوف، أو بخبر ثالث، فيكون الخبر قد تعدّد، وهو شبه جملة، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصّرف للعلمية والعجمة، {وَجُنُودِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا طاقَةَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{قالَ الَّذِينَ:} ماض وفاعله. {يَظُنُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والميم في الجميع حرف دال على جماعة الذكور. {مُلاقُوا:} خبر (أنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وهو مضاف، و {اللهَ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله. وفاعله مستتر فيه، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي {يَظُنُّونَ،} {كَمْ:} خبرية بمعنى كثير، مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ. وجوّز البيضاوي اعتبارها استفهامية. {مَنْ:} حرف جر صلة، {فِئَةٍ:} تمييز ل: {كَمْ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {قَلِيلَةٍ:} صفة {فِئَةٍ} على اللّفظ. {غَلَبَتْ:} فعل ماض، والتاء

ص: 591

للتأنيث، والفاعل يعود إلى {فِئَةٍ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {كَمْ،} والجملة الاسمية {كَمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فِئَةٍ:} مفعول به. {كَثِيرَةً:} صفة {فِئَةٍ} . {بِإِذْنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، والأول أولى. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهَ}): مبتدأ.

{مَعَ:} ظرف مكان متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {مَعَ} مضاف، و {الصّابِرِينَ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة إن كانت من كلام الله تعالى أخبر بها عن حال {الصّابِرِينَ،} ومعطوفة على ما قبلها إن كانت من مقول ({الَّذِينَ آمَنُوا}).

{وَلَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَاُنْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)}

الشرح: {وَلَمّا بَرَزُوا:} ظهروا، ودنوا منهم، ومنه سمّيت المبارزة في الحرب لظهور كلّ قرن إلى صاحبه. (جالوت): اسم ملك العمالقة، ويقال: إنّ البربر من نسله. {قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً:} اصبب علينا، فيه استعارة تمثيلية، حيث شبّه حالهم، والله تعالى يفيض عليهم، ويتكرّم بالصّبر بحال الماء يصب، ويفرغ على الجسم، فيعمّه كلّه، ظاهره، وباطنه، فيلقي في القلب بردا، وسلاما، وهدوءا، واطمئنانا. هذا؛ وقد دعا أولئك القوم بثلاث دعوات، تفيد أسباب النّصر، فقالوا: أولا: ربنا أفض علينا صبرا يعمّنا في جمعنا، وفي خاصّة نفوسنا لنقوى على قتال أعدائك. {وَثَبِّتْ أَقْدامَنا} أي: ثبتنا في ميدان الحرب، ولا تجعل للفرار سبيلا إلى قلوبنا. وهي الدّعوة الثانية. {وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} أي: انصرنا على من كفر بك، وكذّب رسلك، وهي الدعوة الثالثة.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو يقول: «اللهم بك أصول، وأجول» . ويقول أيضا عند لقاء الأعداء: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من شرورهم، وأجعلك في نحورهم» .

الإعراب: {وَلَمّا} الواو: حرف عطف. (لمّا): انظر مثلها فيما تقدّم. {بَرَزُوا:} فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محلّ لها على اعتبار (لمّا) حرفا. {لِجالُوتَ:} متعلّقان بالفعل قبلهما. وقيل:

متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، وهو ضعيف. وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة. {وَجُنُودِهِ:} معطوف عليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {قالُوا:} ماض، وفاعله. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَفْرِغْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر، تقديره: أنت. {عَلَيْنا:} متعلقان بما قبلهما. {صَبْراً:} مفعول به، والجملة الفعلية في

ص: 592

محلّ نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها معطوف على ما قبله. ({ثَبِّتْ}): فعل دعاء، وفاعله تقديره: أنت. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {أَقْدامَنا:} مفعول به، و (نا) في محل جر بالإضافة. ({اُنْصُرْنا}): فعل دعاء. وفاعله مستتر فيه، و (نا) مفعول به، والجملة معطوفة على ما قبلها. {عَلَى الْقَوْمِ:} متعلقان بما قبلهما.

{الْكافِرِينَ:} صفة {الْقَوْمِ} مجرور مثله

إلخ.

{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)}

الشرح: {فَهَزَمُوهُمْ:} غلب جيش طالوت جيش العمالقة، وانتصروا عليهم بأمر الله تعالى وإرادته، ومعونته. {داوُدُ} ابن إيشا، وكان من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، على نبينا وعليهم ألف صلاة وألف سلام. وهو من أهل بيت المقدس، وكان إيشا أبو داود في عسكر طالوت مع ستّة من بنيه، وكان داود سابعهم، وهو صغير يرعى الغنم، فأوحى الله إلى شمويل أنّ داود بن إيشا هو الذي يقتل جالوت، فطلبه من أبيه، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار، دعاه كلّ واحد منها أن يحمله، وقالت له: إنّك تقتل بنا جالوت، فحملها في مخلاته، ورمى بها جالوت، فقتله، وزوّجه طالوت ابنته، وروي: أنّه حسده، وأراد قتله، ثمّ تاب.

{جالُوتَ:} هو جبار العمالقة، من أولاد عمليق بن عاد، وكانت بيضته فيها ثلاثمائة رطل.

{وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} أي: جمع الله لداود الملك بعد طالوت والنبوة بعد شمويل، ولم يجتمعا لغير داود، وابنه سليمان، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام.

{وَعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ:} من صنعة الدّروع، وكلام الطّير، والدّواب وغير ذلك، وقد دام ملك طالوت أربعين سنة، وكانت مدّة ملك داود بعد طالوت سبع سنين، وقد ألان الله لداود الحديد حتّى صار في يده كالعجين، كما ذكر الله في سورة (سبأ) كما علّمه الله فهم منطق الطير، والبهائم على جميع أشكالها، وأصنافها، وسخّر له الجبال يسبّحن معه بالعشي والإشراق.

{وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ..} . إلخ: في هذا الكلام تأويلات، وتفسيرات، خذها فيما يلي:

الأول: عام، وهو: أنّ الله يدفع الناس بتولية بعضهم البعض الآخر؛ أي: يجعل البعض حكاما، والبعض الآخر محكومين، فالحاكم ينصف المظلوم من الظّالم، ويكبح جماح الأشرار، والمعتدين، ويعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، وهذا ما نراه في الحكومات القائمة في كلّ زمان، ومكان، ولا سيّما في الحكومات الديمقراطية الّتي لا تسلّط للفرد فيها على الجماعة؛ حتى ولو كانت كافرة، وهو كثير، ومشاهد في زمننا هذا.

ص: 593

الثاني: وهو معزيّ لابن عباس-رضي الله عنهما، وهو أنّ الله تعالى يدفع المشركين بجنود المسلمين. ولولا وجود مسلمين مجاهدين؛ لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخرّبوا المساجد والبلاد، وأهلكوا العباد، ونشروا في الأرض الفساد، وهذا أيضا كثير ومشاهد في زمننا هذا وفي الأزمان الغابرة، وهو كقوله تعالى في سورة (الحج):{وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً} .

الثالث: وهو خاصّ، وهو معنويّ غير مشاهد، ولا محسوس، وهو: أنّ الله يدفع بالمؤمنين، والأبرار البلاء عن الفسّاق، والفجّار. ومعنى {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ:} لهلك من فيها بنزول البلاء عاجلا. روى الإمام أحمد بن حنبل-رحمه الله تعالى-عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله ليدفع بالمسلم الصّالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» ، ثمّ قرأ الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ لله ملائكة تنادي كلّ يوم: لولا عباد ركّع، وأطفال رضّع، وبهائم رتّع؛ لصبّ عليكم العذاب صبّا» أخذ بعضهم المعنى، فقال:[الرجز]

لولا عباد للإله ركّع

وصبية من اليتامى رضّع

ومهملات في الفلاة رتّع

صبّ عليكم العذاب الأوجع

هذا، وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم؟ فقيل: هم الأبدال، وهم أربعون رجلا كلّما مات واحد بدّل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم، اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق، وروي عن عليّ-رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الأبدال يكونون بالشّام، وهم أربعون رجلا، كلّما مات منهم رجل، أبدل الله مكانه رجلا، يسقى بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء، ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء» . ذكره التّرمذي الحكيم في نوادر الأصول.

وخرج أيضا عن أبي الدرداء-رضي الله عنه، قال: إنّ الأنبياء كانوا أوتادا للأرض، فلمّا انقطعت النّبوّة؛ أبدل الله مكانهم قوما من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، يقال لهم: الأبدال، لم يفضلوا الناس بكثرة صوم، ولا صلاة، ولكن بحسن الخلق، وصدق الورع، وحسن النّيّة، وسلامة القلوب لجميع المسلمين، والنّصيحة لهم، ابتغاء مرضاة الله، بصبر، وحلم، ولبّ، وتواضع في غير مذلّة، فهم خلفاء الأنبياء، قوم اصطفاهم الله لنفسه، واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صدّيقا، منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم، خليل الرّحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض، والبلايا عن النّاس، وبهم يمطرون. وبهم يرزقون، ولا يموت الرجل منهم حتّى يكون قد أنشأ من يخلفه. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 594

الإعراب: {فَهَزَمُوهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (هزموهم): فعل ماض، وفاعله، ومفعوله.

{بِإِذْنِ:} متعلقان بما قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (إذن) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الواقعة جوابا ل:(لمّا) في الآية قبل السابقة، لا محل لها مثلها. {وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ:}

ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا، {وَآتاهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به أول، {اللهِ:} فاعله، {الْمُلْكَ:} مفعول به ثان، {وَالْحِكْمَةَ:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا. {وَعَلَّمَهُ:} فعل ماض ومفعوله، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهِ} أيضا، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو: من شيء يشاؤه.

{وَلَوْلا:} الواو: حرف استئناف. ({لَوْلا}): حرف امتناع لوجود. {دَفْعُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {النّاسَ:} مفعول به للمصدر، {بَعْضَهُمْ:} بدل من الناس بدل بعض من كل، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِبَعْضٍ:}

متعلقان بالمصدر {دَفْعُ} على أنهما مفعوله الثاني، أفاده أبو البقاء، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: موجود، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {لَفَسَدَتِ:} اللام: واقعة في جواب ({لَوْلا})، (فسدت): فعل ماض، والتاء للتأنيث. {الْأَرْضُ:} فاعله، والجملة الفعلية جواب ({لَوْلا}) لا محلّ لها، و (لولا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف، ({لكِنَّ}): حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {ذُو:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو} مضاف، و {فَضْلٍ} مضاف إليه.

{عَلَى الْعالَمِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة {فَضْلٍ،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{وَلكِنَّ..} . إلخ معطوفة على ({لَوْلا}) ومدخولها، لا محلّ لها مثله.

{تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}

الشرح: {تِلْكَ..} . إلخ: الإشارة إلى ما تقدّم ذكره من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} إلى هنا، والمعنى: إنّ ما قصصنا عليك يا محمد من الأمور الغريبة، والقصص العجيبة، الّتي وقعت في بني إسرائيل، هي من آيات الله، وأخباره المغيبة، التي أوحاها إليك

ص: 595

بالحق بواسطة جبريل الأمين. {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ:} في هذه الجملة ثلاثة مؤكّدات: واو الحال، وإنّ، ولام الابتداء، تؤكّد للرّسول صلى الله عليه وسلم: أنّه من جملة المرسلين، والدّليل هو إخباره الناس بهذه القصص القديمة من غير أن يعرفها بقراءة كتب، ولا استماع أخبار من إذاعات، وغيرها، ومن غير أن يدرس في الجامعات، ويحمل الإجازات والدكتوراة.

الإعراب: {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {آياتُ:} خبر المبتدأ، و {آياتُ:} مضاف، و {اللهِ:}

مضاف إليه، {نَتْلُوها:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الواو للثقل، والفاعل ضمير مستتر تقديره: نحن، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {آياتُ اللهِ} والعامل في الحال اسم الإشارة لما فيها من معنى الفعل، والرابط: الضمير فقط. هذا؛ وأجيز اعتبار {آياتُ} بدلا من اسم الإشارة، واعتبار الجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والأول أقوى؛ لأنّ إبدال الاسم من اسم الإشارة يجب أن يكون مقرونا بال كما هو معروف، ويؤيد الوجه الأول قوله تعالى:{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً،} {وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} . {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول، وهذا يعني: أنها حال متداخلة. {وَإِنَّكَ:} الواو: واو الحال. ({إِنَّكَ}): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ:} اللام: لام الابتداء زحلقت إلى الخبر كراهة توالي مؤكّدين. هذا؛ وإنّ (من {الْمُرْسَلِينَ}) متعلقان بمحذوف خبر إن وعلامة الجر الياء

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الكاف في {عَلَيْكَ} والرابط الواو والضمير، وهذا يعني: أنّها حال متكررة.

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اِقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)}

الشرح: {تِلْكَ الرُّسُلُ:} لم يقل: «ذلك» مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة. {فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} أي: خصصنا بمنقبة ليست لغيره. {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ} أي: كلمه الله بغير واسطة كموسى؛ حيث كلّمه ربه على جبل الطور، وكمحمد صلى الله عليه وسلم حين كلّمه ربّه في ليلة الإسراء، والمعراج، وهذا تفصيل للتفضيل، ويسمى في البلاغة التقسيم. {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ:} المراد به سيّد الخلق، وحبيب الحق، نبينا المعظم صلى الله عليه وسلم؛ حيث رفعه درجات على غيره، بعموم الدّعوة، وختم النبوة، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات الكثيرة، التي من أهمّها القرآن الكريم

ص: 596

المعجزة الخالدة، ولم يصرّح باسمه الكريم لتفخيم شأنه، كأنه العلم المتعيّن لهذا الوصف، المستغني عن التعيين، ولا تنس ما في الآية من الالتفات الذي أذكره، وخذ ما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبيّ من الأنبياء إلاّ وقد أعطي من الآيات، ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» متّفق عليه.

وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة، فليصلّ، وأحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى النّاس عامّة» . متّفق عليه.

{وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ:} الحجج الدّامغات، والمعجزات الباهرات، وهي: إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الميّت، وغير ذلك ممّا ذكر في آل عمران، وسورة المائدة.

{وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ:} قوّيناه بجبريل عليه السلام، رواه أبو مالك، وأبو صلاح عن ابن عباس-رضي الله عنهما، ومعمر بن قتادة، وقال حسّان-رضي الله عنه:[الوافر]

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس به خفاء

قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: إنّما سمّي جبريل: روح القدس؛ لأنّ القدس هو الله، وروحه جبريل، فالإضافة للتشريف، وقال الرّازي-رحمه الله تعالى-: وما يدلّ على أنّ روح القدس جبريل، قوله تعالى في سورة (النّحل):{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وقال النّحاس-رحمه الله تعالى-: سمّي جبريل روحا، وأضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحا من غير ولادة والد ولده، وكذلك سمّي عيسى روحا لهذا. هذا؛ والقدس:

الطّهر، وعيسى مأخوذ من العيس، وهو بياض يخالطه شقرة، قاله أبو البقاء، أما مريم فهي بالعبرية بمعنى الخادم، ثمّ سمّي به كثير من النّساء، ومريم في لسان العرب هي الّتي تكره مخالطة الرّجال، ولم تذكر امرأة باسمها صريحا في القرآن الكريم إلا مريم ابنة عمران، وقد ذكرت فيه في ثلاثين موضعا. هذا؛ وفي القاموس المحيط: المريم هي التي تحبّ مخالطة الرجال، ولا تفجر، وهذا يناقض ما قبله، قال الشاعر:[الطويل]

وزائرة ليلا كما لاح بارق

تضوّع منها للكساء عبير

فقلت لها أهلا وسهلا أمريم؟

فقالت: نعم من أنت؟ قلت لها: زير

{وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ:} المراد به ما وقع ويقع بين أتباع الرّسل من الاختلافات، والمنازعات التي تؤدّي في كثير من الأحيان إلى الحروب الطّاحنة، وبيّن ربنا جلّت

ص: 597

قدرته، وتعالت حكمته: أن ما يقع إنّما هو بمشيئته، كما قال تعالى:{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً} {لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً} . {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ:} بالله، ورسله، وكتبه، وملائكته، {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} أي: بعد نبيه حيث ترك تعاليمه، وخالف أمره، كما فعل اليهود، والنصارى بعد موسى، وعيسى، وغيرهما، وكما فعل كثير من المسلمين، ويفعلون.

وفي قوله: {فَمِنْهُمْ} تفصيل للاختلاف، مثل سابقه، وبين {آمَنَ} و {كَفَرَ} طباق. {وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا:} كرره للتأكيد، أي: لو شاء الله ألا يقتتلوا؛ لم يقتتلوا؛ إذ لا يجري في ملكه إلا ما يوافق مشيئته، وهذا يبطل قول المعتزلة، فإنّهم يقولون: شاء أن لا يقتتلوا، فاقتتلوا، وقد صفع ابن المنير الزّمخشريّ صفعة لطيفة على حيله، وتحيله. {وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ:}

أثبت الله لنفسه الإرادة، كما هو مذهب أهل السنة، يعني: أنّ الله تعالى يوفق من يشاء لطاعته والإيمان به فضلا منه، ورحمة، ويخذل من يشاء عدلا منه، لا اعتراض عليه في ملكه، وفعله.

سأل رجل عليّا-رضي الله عنه-عن القدر، فقال: طريق مظلم، فلا تسلكه، فأعاد السؤال، فقال: بحر عميق، فلا تلجه، فأعاد السؤال، فقال: سرّ الله قد خفي عليك، فلا تفتشه.

تنبيه: أثبتت الآية الكريمة التفاضل بين الرّسل، كما أثبته الله في سورة (الإسراء) بقوله:

{وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} وهذا مشكل، والأحاديث الثابتة بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا تخيّروا بين الأنبياء» و «لا تفضّلوا بين أنبياء الله» . رواه الشّيخان عن أبي هريرة-رضي الله عنه-بلفظ: استبّ رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال اليهوديّ: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فلطم المسلم بيده وجه اليهودي

إلخ، وفي ذلك أجوبة:

الأول: أن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتّفضيل.

القول الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه سيد ولد آدم، وأنّ القرآن ناسخ للمنع من التفضيل.

القول الثالث: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: «لا تخيّروني على موسى» وقوله: «لا يقل أحد:

أنا خير من يونس بن متّى» التواضع.

القول الرابع: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخوض في ذلك؛ لأنّه يؤدّي إلى الجدال، وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر، ويقلّ احترامهم لبعض الأنبياء عند المماراة.

القول الخامس: أن التفضيل تابع للتفاوت في الفضائل النّفسانية التي وهبها الله لكلّ واحد، ولهذا اشتهر منهم أولو العزم، الّذين تحمّلوا المتاعب، والمصاعب فما وهنوا، وما استكانوا لما أصابهم في سبيل الله، وعلى ما تقدّم فلا تفاضل من جهة النّبوة، التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها.

وهكذا القول في الصّحابة إن شاء الله الذين اشتركوا في الصّحبة، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب، والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكلّ شملتهم الصّحبة،

ص: 598

والعدالة، والثّناء عليهم، ما عدا الّذين برز نفاقهم، فهم مغضوب عليهم، محرومون من رحمة الله، ورضوانه، ويكونون في أعمق واد من أودية جهنّم.

تنبيه: في الآية الكريمة التفاتات كثيرة: منها: التفات من التكلّم بقوله: {فَضَّلْنا} إلى الغيبة بقوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ،} ثم منه إلى التكلّم بقوله: {وَآتَيْنا،} {وَأَيَّدْناهُ} ثمّ منه إلى الغيبة بقوله: {وَلَوْ شاءَ اللهُ..} . إلخ، وللالتفات فوائد كثيرة: منها تطرية الكلام، وصيانة السّمع عن الضّجر، والملال؛ لما جبلت عليه النّفوس من حبّ التنقّلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد هذه فوائده العامّة، ويختصّ كلّ موضع بنكت، ولطائف باختلاف محلّه، كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه حيث السّامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل المتكلّم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصّصه بالمواجهة.

الإعراب: {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الرُّسُلُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه.

{فَضَّلْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر المبتدأ. {بَعْضَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جرّ بالإضافة، {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وجوّز السفاقسي، وأبو البقاء اعتبار {الرُّسُلُ} خبر المبتدأ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الرُّسُلُ،} والعامل في الحال اسم الإشارة، وهذا غير متعارف عليه في مثل هذا التّركيب.

{مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السّكون في محلّ رفع مبتدأ مؤخر. {كَلَّمَ اللهُ:} فعل ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة {مَنْ} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: منهم الذي، أو:

شخص كلّمه الله، وهذا الإعراب هو المتعارف عليه والمشهور في مثل هذه الجملة، ولا أعتمده، والأصحّ: أنّ مضمون الجار والمجرور مبتدأ، و {مَنْ:} هي الخبر؛ لأنّ ({مَنْ}) الجارة دالة على التبعيض؛ أي: وبعضهم من كلمه الله، وجمع الضمير يؤيّده، ويؤيده قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [110]:{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ،} ف (أكثرهم) معطوف على مضمون {مِنْهُمْ،} وقوله تعالى في سورة (المائدة)[66]: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ؛} ف (كثير) معطوف على مضمون {مِنْهُمْ} وخذ قول الحماسي: [الكامل]

منهم ليوث لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت، وضمّ حبل الحاطب

هذا؛ وليوث: جمع: ليث، وهو السّبع، لا ترام: لا تقصد، قمشت: جمعت من هنا وهناك، والمراد: رذالة الناس، والقمش: الرديء من كلّ شيء، والجملة الاسمية:{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ:} هذه تحتمل أن تكون مستأنفة لا محلّ لها، وأن تكون بدلا من جملة {فَضَّلْنا..} .

ص: 599

إلخ، قال بعض المتأخرين: هذا مردود؛ لأنّ الاسمية لا تبدل من الفعلية، قال ابن هشام: ولم يقم دليل على امتناع ذلك. ({رَفَعَ}): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {بَعْضَهُمْ:} مفعول به، {دَرَجاتٍ:} مفعول به ثان، وكان في الأصل مجرورا بحرف جر، فلمّا حذف الجار وصل إليه الفعل بنفسه، ويسمّى مثل ذلك منصوبا بنزع الخافض، وقيل: هو حال، ولا وجه له، وقيل:

هو مفعول مطلق وهو غريب، وجملة:({رَفَعَ..}.) إلخ معطوفة على ما قبلها. ({آتَيْنا}): فعل وفاعل. {عِيسَى:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.

{اِبْنَ:} صفة عيسى، أو بدل منه. و {اِبْنَ} مضاف، و {مَرْيَمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي {الْبَيِّناتِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:

{وَآتَيْنا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وهو أولى من العطف على ما قبلها. (أيدناه): فعل، وفاعل، ومفعول به، {بِرُوحِ:} متعلقان بما قبلهما، و (روح) مضاف، و {الْقُدُسِ} مضاف إليه، وجملة:{وَأَيَّدْناهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف، ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ اللهُ:}

فعل ماض وفاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: ألا يقتتلوا، ونحوه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {مَا:} نافية. {اِقْتَتَلَ الَّذِينَ:} فعل ماض وفاعله، والجملة الفعلية جواب ({لَوْ}) لا محل لها، و ({لَوْ}) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْدِ:} يجوز أن يكونا متعلقين بالفعل قبلهما، ويجوز اعتبارهما بدلا ممّا قبلهما بإعادة حرف الجر. {مَا:}

مصدرية. {جاءَتْهُمُ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الْبَيِّناتِ:} فاعله، و {مَا} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه. والتقدير: من بعد مجيئهم البينات. {وَلكِنِ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنِ}): حرف استدراك مهمل لا عمل له.

{اِخْتَلَفُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جواب ({لَوْ}) لا محلّ لها مثله.

{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (منهم {مَنْ آمَنَ}) إعراب هذه الجملة مثل إعراب الجملة السابقة، والتي بعدها مثلها أيضا، والجملتان الاسميتان مستأنفتان لا محل لهما {وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا:} مثل إعراب سابقتها بلا فارق بينهما. {وَلكِنِ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنِ}) حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {يَفْعَلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {مَا:} اسم موصول، أو نكرة موصولة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به.

{يُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية صلة ({مَا}) أو صفتها، والعائد

ص: 600

أو الرابط محذوف، التقدير: يفعل الذي، أو: شيئا يريده، وجملة:{يَفْعَلُ..} . إلخ في محل رفع خبر ({لكِنِ})، والجملة الاسمية معطوفة على جواب ({لَوْ}) لا محل لها مثله.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ (254)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرم وصف، وألطف عبارة؛ أي: يا من صدقتم الله ورسوله، وتحلّيتم بالإيمان؛ الذي هو زينة الإنسان، وقد خاطب الله عباده المؤمنين بقوله:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكرهم بأنّ الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقّى أوامر الله ونواهيه بحسن الطاعة والامتثال، وإنّما خصّهم الله بالنّداء؛ لأنهم هم المستجيبون لأمره، المنتهون عما نهى عنه؛ إذ الغالب أن يتبع هذا النداء بأمر، أو نهي.

{أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ:} الإنفاق: بذل المال، وهو يشمل الواجب، مثل الزكاة، والكفارات على جميع أنواعها، واختلاف مراتبها، والمندوب؛ أي: صدقات التطوّع، قال ابن جريج، وسعيد بن جبير-رحمهما الله تعالى-: هذه الآية تجمع الزّكاة المفروضة، والتطوّع. هذا؛ والفعل الماضي: أنفق، وهو رباعي الحروف، مضارعه: يؤنفق، ويكون ثلاثيّا: نفق، قاله الزّمخشري-رحمه الله تعالى-:{مِمّا رَزَقْناكُمْ:} صريح بأنّ المال الذي بيد العبد إنّما هو من فضله تعالى، وكرمه، وجوده، والعبد موكل على المال وكالة، كما قال تعالى في سورة (الحديد):{وَأَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} .

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ:} المراد به يوم القيامة. {لا بَيْعٌ فِيهِ} أي: ولا شراء، والمعنى لا يباع أحد من نفسه، ولا يفادى بمال، ولو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهبا، لا يقبل. {وَلا خُلَّةٌ:}

ولا صداقة، ولا مودة، وهي بضم الخاء، وهي أيضا ما خلا من النبات، يقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها، والخلة بالفتح: الفقر، والحاجة، وهي أيضا الخمرة الحامضة، وهي بكسر الخاء نبات معروف، تنظف به الأسنان من آثار الطّعام، وهي أيضا ما يبقى بين الأسنان.

هذا؛ والخلّة بالضم: الخليل، يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ لأنّه في الأصل مصدر قولك:

خليل بيّن الخلّة. هذا، والخليل هو الصّديق الّذي صفت مودّته، فتجد من خلاله مثل ما يجد من خلالك، ويسعى لمصلحتك، كما يسعى لمصلحته، بل قد يؤثرك على نفسه، ويبذل روحه من أجلك، كما قال ربيعة بن مقروم الضّبيّ:[الوافر]

أخوك أخوك من تدنو وترجو

مودّته، وإن دعي استجابا

إذا حاربت حارب من تعادي

وزاد سلاحه منك اقترابا

ص: 601

وهو معدوم في هذا الزّمن؛ الذي فسد أهله، وصاروا خلّا ودودا، كما قال القائل:[الوافر]

سألت النّاس عن خلّ ودود

فقالوا: النّاس من خلّ ودود

فقلت: أليس فيهم ذو وفاء؟

فقالوا: كان ذلك في الجدود

احفظ البيتين، ولا تنس ما فيهما من الجناس التام، لذا فإنه لا وجود للصديق بالمعنى الحقيقي، بل صار وجوده مستحيلا، كما قال:[الكامل]

قد قيل: إنّ المستحيل ثلاثة

الغول والعنقاء والخلّ الوفي

وقال الآخر: [الوافر]

سألت النّاس عن خلّ وفيّ

فقالوا ما إلى هذا سبيل

تمسّك إن ظفرت بذيل حرّ

فإنّ الحرّ في الدّنيا قليل

وممّا هو جدير بالذكر: أنّ كل صداقة لا تكون على أساس من التّقوى تنقلب عداوة في الدنيا والآخرة، خذ قوله تعالى في سورة (الزخرف):{الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} وانظر نتيجة صداقة إبليس اللّعين في سورة (إبراهيم) رقم [22] وفي سورة (ق) أيضا.

وفي مصنّف أبي داود عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرّجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ولقد أحسن من قال: [السريع]

من لم تكن في الله خلّته

فخليله منه على خطر

{وَلا شَفاعَةٌ} أي: ولا يقبل منها شفاعة، كما في الآية رقم [48]. والشّفاعة: التوسّل، وابتغاء الخير، والذي يكون منه التوسّل يسمّى الشّفيع، والشفاعة في الدّنيا تكون حسنة، وتكون سيئة، فالأولى هي التي روعي فيها حقّ مسلم، أو دفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حدّ من الحدود، ولا في حق من حقوق العباد، والسيئة ما كانت بخلاف ذلك، وقيل: الشفاعة الحسنة هي الدّعوة للمسلم؛ لأنّها بمعنى الشّفاعة إلى الله تعالى، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من دعا لأخيه بظهر الغيب، استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك» فذلك النصيب الذي ذكر الله بقوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} رقم [85] من سورة (النساء)، وروى مسلم عن أمّ الدّرداء-رضي الله عنهما، قالت: حدّثني سيّدي: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«إذا دعا الرّجل لأخيه بظهر الغيب. قالت الملائكة: ولك بمثله» .

ولا ريب: أنّ المراد بالشفاعة في هذه الآية الشّفاعة يوم القيامة، والشّفاعة العظمى مختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم ثمّ يتلوها شفاعات أخر، كما هو معلوم من الدين، وأحكامه، وهو مذهب أهل الحقّ، والسّنّة، والجماعة.

ص: 602

وأنكر المعتزلة الشّفاعة، وخلّدوا أهل الكبائر من المسلمين الّذين دخلوا النار في العذاب، والأخبار متظاهرة بأنّ من كان من العصاة المذنبين الموحّدين من أمم النبيين هم الّذين تنالهم شفاعة الشّافعين من الملائكة، والنبيين، والشهداء، والصالحين، قال ابن المنير المعلّق على الكشّاف: أما من جحد الشفاعة؛ فهو جدير ألا ينالها، وأمّا من آمن بها، وصدّقها، وهم أهل السّنّة، والجماعة؛ فأولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم: أنها تنال العصاة من المذنبين، وإنّما ادّخرت لهم في الآخرة.

أقول: والأحاديث في الشّفاعة كثيرة مشهورة، وفي كتب الأحاديث مسطورة، والدّليل القرآنيّ يوحي بأنّ أقواما تنالهم الشّفاعة، كما أنّه يصرّح بأن أقواما لا تنالهم بكفرهم، وعظيم جرائمهم، وهو كثير.

قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: فإن قالوا: قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب ردّ هذه الأخبار، مثل قوله تعالى في سورة (غافر):{ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ،} وفي الآية رقم [48]: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ،} قلنا: ليست هذه الآية عامة في كلّ ظالم، والعموم لا صيغة له، فلا تعمّ هذه الآيات كلّ من يعمل سوءا، وكلّ نفس، وإنّما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك، وانظر قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [79]:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} تجد ما يسرك ويثلج صدرك، وقد أجمع المفسّرون على أنّ المراد ب (نفس) في الآية رقم [48] النّفس الكافرة، لا كلّ نفس. انتهى بتصرف.

بعد هذا؛ المعنى للآية الكريمة: أنفقوا من المال الّذي رزقناكموه من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرّطتم، والخلاص من عذابه؛ إذ لا بيع فيه؛ فتحصّلون ما تنفقون، أو تفتدون به من العذاب، ولا خلّة؛ حتّى يعينكم عليه أخلاّؤكم، أو يسامحوكم به، ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرّحمن ورضي له قولا؛ حتّى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم في حطّ ما في ذممكم، والمراد ب:{وَالْكافِرُونَ:} المانعون للزّكاة، كما في قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [97]:{وَمَنْ كَفَرَ} مكان من لم يحج؛ وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار بقوله تعالى:

{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ} رقم [6 - 7] سورة (فصلت). انتهى. بيضاوي بتصرف كبير، فلم يبق لما قاله عطاء بن دينار، والحمد لله الذي قال:{وَالْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ،} ولم يقل: والظالمون هم الكافرون، فلم يبق لقوله معنى، ولا فائدة.

الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. ({أَيُّهَا}) منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب ({يا}) وها: حرف تنبيه، لا محل له من الإعراب، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنه حينئذ يجب نصب

ص: 603

المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ رفع بدلا من (أيّ) أو عطف بيان عليه. {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها؛ {أَنْفِقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعله، والجملة فعلية لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها.

{مِمّا:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف صفة لمفعول به محذوف، التّقدير: أنفقوا شيئا كائنا ممّا

إلخ، أو هما متعلقان بالفعل قبلهما على أنّهما مفعول به؛ لأنّ (من) للتبعيض، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {رَزَقْناكُمْ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أنفقوا من الذي، أو من شيء رزقناكموه. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل {أَنْفِقُوا} أيضا. {أَنْ يَأْتِيَ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والمصدر المؤول منهما في محل جر بإضافة {قَبْلِ} إليه. {يَوْمٌ:} فاعل {يَأْتِيَ} .

{لا:} نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {بَيْعٌ:} اسم {لا} . {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا} . {لا:} صلة في الموضعين، و {خُلَّةٌ} و {شَفاعَةٌ:} معطوفان على {بَيْعٌ} عطف مفرد على مفرد، وإن اعتبرت ({لا}) عاملة فيهما، فخبرها محذوف في الموضعين لدلالة خبر الأولى عليه. هذا؛ وإن اعتبرت ({لا}) مهملة لا محل لها ف:{بَيْعٌ} يكون مبتدأ، خبره: الجار والمجرور: {فِيهِ،} ويجوز فيهما بعده الوجهان اللّذان ذكرتهما في حال عمل ({لا}) عمل «ليس» وهما عطف {خُلَّةٌ} و {شَفاعَةٌ} عطف مفرد على مفرد، أو هما مبتدءان، وخبرهما محذوف لدلالة خبر الأول عليه، كما أجيز إعمال ({لا}) فيهما عمل «ليس» فهذه ثلاثة أوجه في {خُلَّةٌ} و {شَفاعَةٌ} على رفع بيع، ومثل الآية الكريمة قول عبيد بن حصين الرّاعي النّميري، وهو الشّاهد رقم [301] من كتابنا:«فتح رب البريّة» : [البسيط]

وما هجرتك حتّى قلت معلنة

لا ناقة لي في هذا، ولا جمل

هذا؛ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو الأسماء الثلاثة بالفتح من غير تنوين، وخرجت هذه القراءة على إعمال {لا} الأولى عمل «إنّ». و {بَيْعٌ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب، و {فِيهِ} متعلقين بمحذوف خبرها، والواو حرف عطف، و {لا:} صلة لتأكيد النفي في الموضعين، و {خُلَّةٌ} و {شَفاعَةٌ:} معطوفان على بيع، ويجوز اعتبار {لا} عاملة في الثلاثة، والجار والمجرور:{فِيهِ} متعلقان بمحذوف خبر الأولى، وخبر الثانية والثالثة محذوفان؛ لدلالة خبر الأولى عليهما. هذا؛ ويجوز في غير القرآن: لا بيع فيه ولا خلّة؛ ببناء الأول على الفتح، ورفع الثاني، وشواهده في كتب النّحو قول الشّاعر، وهو الشاهد رقم [302] من كتابنا فتح رب البريّة:[الكامل]

هذا-لعمركم-الصّغار بعينه

لا أمّ لي، إن كان ذاك ولا أب

ص: 604

ويجوز أن تبني الأول، وتنصب الثاني؛ وتنوّنه، وشواهده في كتب النّحو قول الآخر، وهو الشّاهد رقم [304] من كتابنا فتح ربّ البريّة:[السريع]

لا نسب اليوم، ولا خلّة

اتّسع الخرق على الرّاقع

ويجوز في غير القرآن أيضا أن ترفع الأول، وتبني الثاني، وشواهده في كتب النحو قول أميّة ابن أبي الصّلت، وهو الشاهد رقم [303] من كتابنا المذكور:[الوافر]

فلا لغو ولا تأثيم فيها

وما فاهوا به أبدا مقيم

وهذه الأوجه كلّها تجري في الجملة: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . وخذ قول ابن مالك رحمه الله في ألفيته مقرّرا جميع الوجوه الّتي ذكرتها، وزيادة:[الرجز]

وركّب المفرد فاتحا كلا

حول ولا قوّة، والثاني اجعلا

مرفوعا أو منصوبا، أو مركّبا

وإن رفعت أوّلا لا تنصبا

بعد هذا فجملة: {لا بَيْعٌ..} . إلخ في محل رفع صفة {يَوْمٌ،} والرابط: الضمير المجرور ب (في) وما بعدها معطوف عليها، إما جملة، أو إفرادا، كما رأيت تفصيله. ({الْكافِرُونَ}): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. {هُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ ثان. {الظّالِمُونَ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر الأول. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير فصلا لا محل له، {الظّالِمُونَ} خبر ({الْكافِرُونَ}) وعلى الاعتبارين فالجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام أفادت التهديد والوعيد لمانعي الزّكاة، والصدقات.

{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}

الشرح: هذه الآية سيدة آي القرآن، وأعظم آية، نزلت ليلا، ودعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه، فكتبها، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة، ترغّب في قراءتها في جميع الأحوال، في دبر الصّلوات الخمس، وعند النّوم، وفي الصّباح، والمساء، وهي حفظ من الشياطين، والمردة، والسحرة، والمعتدين، والظّالمين، أكتفي بما يلي:

عن أبيّ بن كعب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: {اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فضرب في صدري،

ص: 605

وقال: «ليهنك العلم يا أبا المنذر» أخرجه مسلم، وغيره، وزاد الترمذيّ الحكيم في روايته:

«فو الّذي نفسي بيده إنّ لهذه الآية لسانا، وشفتين تقدّس الملك عند ساق العرش» .

ومن حديث أبي ذر-رضي الله عنه-الطويل، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم؟ {اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ..} . إلخ.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أشرف آية في القرآن آية الكرسيّ، قال بعض العلماء:

لأنّه يكرّر فيها اسم الله تعالى بين مضمر، وظاهر ثماني عشرة مرّة.

{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} إخبار بأنّه سبحانه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق. {اللهُ:} علم على الذّات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به لتخلّف شروط الإجابة، الّتي أعظمها أكل الحلال. ولم يسمّ به أحد سواه، قال تعالى في سورة (مريم) رقم [65]:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: هل تسمّى أحد ({اللهُ}) غير ({اللهُ})؟ وقد ذكر في القرآن الكريم في ألفين، وثلاثمائة وستين موضعا، علما بأنّه لم يذكر في سورتي الرّحمن، والواقعة. {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي: الحيّ في نفسه؛ الذي لا يموت أبدا، القيّم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غنيّ عنها، ولا قوام لها بدون أمره، وهما اسمان من أسماء الله الحسنى، وأصل {الْحَيُّ:}

الحيي بياءين متحركتين، فسكنت الأولى، ثمّ أدغمت في الثانية، وأصل {الْقَيُّومُ:} القيووم؛ لأنّه من: قام بالأمر يقوم، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، قال الشّاعر:[الخفيف]

إنّ ذا العرش للّذي يرزق النّا

س وحيّ عليهم قيّوم

{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} أي: لا يعتريه نقص، ولا غفلة، ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كلّ نفس بما كسبت، شهيد على كلّ شيء، لا يغيب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السّماء، وهو السّميع العليم، و (السّنة) بكسر السين: النّعاس في قول الجميع، قال عديّ بن الرقاع العاملي:[الكامل]

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

في عينه سنة، وليس بنائم

وفرّق المفضل بينهما، فقال: السّنة في الرأس، والنّعاس في العين، والنّوم في القلب، وبالجملة: السّنة والنعاس فتور يعتري الإنسان، ولا يفقد معه عقله، والمراد بهذه الآية: أنّ الله تعالى لا يدركه خلل، ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال، والأصل في {سِنَةٌ} وسنة؛ حذفت الواو، كما حذفت من يسن الماء والأصل: وسن، يسن؛ مثل: وعد، يعد. هذا؛ والوسن أيضا النّعاس، قال المتنبّي أبو الطّيب:[البسيط]

أبلى الهوى أسفا يوم النّوى بدني

وفرّق الهجر بين الجفن والوسن

ص: 606

وهذا هو الشاهد رقم [966] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» .

هذا؛ والنّوم قسمان: نوم العين، ونوم القلب، فنوم العين: فترة طبيعية، تعتري الإنسان، وتتعطّل حواسّه بها، وأمّا نوم القلب؛ فهو تعطيل القوى المدركة، والثّاني لم يقع منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ قلبه لا ينام، كما في حديث الصّحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إنّ عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي» ورحم الله البوصيري؛ إذ يقول: [البسيط]

لا تنكر الوحي من رؤياه إنّ له

قلبا إذا نامت العينان لم ينم

وهذا، والمنام مصدر بمعنى النّوم، أو اسم مكان بمعنى موضعه، أو اسم زمان بمعنى زمانه؛ لأنّ مفعلا يصلح لهذا كلّه. هذا وقدمت السّنة بالذّكر؛ لأنّها سابقة في الوجود على النّوم، قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: والنّاس يذكرون في هذا الباب عن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر، قال: وقع في نفس موسى: هل ينام الله جلّ ثناؤه، فأرسل الله إليه ملكا. فأرّقه ثلاثا، ثمّ أعطاه قارورتين في كلّ يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما، قال: فجعل ينام، وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ، فينحّي إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة، فاصطفقت يداه، فانكسرت القارورتان، قال: ضرب الله له مثلا: أن لو كان ينام؛ لم تمتسك السّماء والأرض، ولا يصحّ هذا الحديث، ضعفه غير واحد، منهم البيهقيّ. انتهى. قرطبي.

وفي مختصر ابن كثير عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ بني إسرائيل، قالوا: يا موسى! هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله! فناداه ربّه عز وجل: يا موسى! سألوك هل ينام ربّك؟ خذ زجاجتين في يديك، فقم الليلة، ففعل موسى، فلمّا ذهب من الليل ثلث نعس، فوقع لركبتيه، ثم انتعش، فضبطهما حتّى إذا كان آخر الليل؛ نعس، فسقطت الزّجاجتان، فانكسرتا، فقال:

يا موسى لو كنت أنام؛ لسقطت السّماوات والأرض، فهلكت، كما هلكت الزّجاجتان في يديك، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي، رواه ابن أبي حاتم.

أقول: خذ قوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [41]: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} انظر شرحها هناك؛ فإنّه جيد، والحمد لله!.

{لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ:} {لَهُ:} أي: بالملك التام، الجميع خلقا، وعبيدا في قهره، وتحت سلطانه، وقد ذكر ما فيهما دونهما للردّ على المشركين العابدين لبعض الكواكب، الّتي في السّماء، والأصنام الّتي في الأرض، يعني: فلا تصلح أن تعبد؛ لأنها مملوكة لله، مخلوقة له، والتعبير ب {ما} التي لغير العاقل، للتغليب وفيه ردّ على المشركين الذين قالوا عن الأصنام {ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى} .

{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ:} الاستفهام معناه النفي، وفيه ردّ لزعم المشركين: أنّ الأصنام تشفع لهم، وهو كقوله تعالى في سورة (النّجم):{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي}

ص: 607

شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى وكقوله تعالى في سورة (الأنبياء): {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى} وهذا من عظمة الله، وجلاله، وكبريائه عز وجل؛ حيث لا يجرؤ أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كما في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الشّفاعة:

«آتي تحت العرش، فأخرّ ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفّع» .

{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ:} الضمير يعود إلى الخلق المعبّر عنهم ب {ما؛} والمعنى:

يعلم الله ما هو حاضر، وشاهد لهم، وهو الدّنيا وما فيها، وما خلفهم، أي: أمامهم من أمر الآخرة، ويجوز أن يكون المعنى {ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ:} أمر الآخرة، {وَما خَلْفَهُمْ:} أمر الدّنيا؛ لأنّ الإنسان مستقبل للآخرة، مستدبر للدنيا، فهو دليل قاطع على إحاطة علمه عز وجل بجميع الكائنات، ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها.

{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ} أي: لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا بما أعلمهم الله إياه على ألسنة الرّسل، أو المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته، وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله تعالى في سورة (طه):{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ:} يقال: فلان وسع الشيء سعة: إذا احتمله، وأطاقه، وأمكنه القيام به، وأصل الكرسيّ في اللغة: من تركّب الشيء بعضه على بعض، ومنه الكرّاسة لتركيب بعض أوراقها على بعض، والكرسيّ في العرف: اسم لما يقعد عليه، وسمّي به لتركيب خشباته بعضها على بعض، واختلفوا في الكرسيّ هنا على أربعة أقوال:

أحدها: أنّ الكرسيّ هو العرش نفسه، قاله الحسن البصري؛ لأنّ العرش، والكرسي اسم للسّرير؛ الذي يصحّ التمكّن عليه.

الثاني: أنّ الكرسيّ غير العرش، وهو أمامه، وهو فوق السّماوات السّبع، ودون العرش، قال السّدّي رحمه الله تعالى: إنّ السموات والأرض في جوف الكرسيّ كحلقة ملقاة في فلاة، والكرسيّ في جنب العرش كحلقة في فلاة، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّ السموات السّبع في الكرسيّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس.

القول الثالث: إنّ الكرسي هو الاسم الأعظم؛ لأنّ العلم يعتمد عليه، كما أنّ الكرسي يعتمد عليه، وقال ابن عباس: كرسيّه: علمه، وهو قول ثان له، ورجّحه الطبري، قال: ومنه الكرّاسة التي تضمّ العلم، ومنه قيل للعلماء: كراسي؛ لأنّهم يعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، قال الشاعر:[الطويل]

يحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة

كراسيّ بالأحداث حين تنوب

ص: 608

أي: علماء بحوادث الأمور.

القول الرابع: المراد بالكرسيّ: الملك، والسّلطان، والقدرة؛ لأنّ الكرسيّ موضع السلطان، والملك، فلا يبعد أن يكنى عن الملك بالكرسيّ على سبيل المجاز. انتهى. خازن.

هذا وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما السّماوات السّبع في الكرسيّ إلاّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس» ، وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ذرّ-رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله! أيّ ما أنزل الله عليك أعظم؟ قال: «آية الكرسي» . ثمّ قال: «يا أبا ذرّ ما السّماوات السبع مع الكرسيّ إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على الحلقة» . أخرجه البيهقيّ، وغيره، وذكر: أنّه صحيح، وهذا من الأمور المغيّبة، التي يجب على المسلم الإيمان بها، والتّسليم بحقائقها، ولا مجال للعقل فيها، والسّؤال عن ذلك ب «كيف» ونحوها يحدث بلبلة في عقله، واضطرابا في إيمانه.

{وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما:} ولا يثقل عليه، ولا يصعب حفظهما، {وَهُوَ الْعَلِيُّ:} المتعالي عن الصفات التي لا تليق به. {الْعَظِيمُ:} بمعنى عظيم القدر، والخطر، والشرف، وقيل: هو بمعنى المعظم، وأنكره بعضهم، فقالوا: لو كان بمعنى معظم؛ لوجب أن لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق، وبعد فنائهم؛ إذ لا معظّم له حينئذ.

قال الزّمخشري في كشافه: فإن قلت: لم فضّلت هذه الآية؛ حتى ورد فيها ما ورد، منه قوله صلى الله عليه وسلم:«ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوما، ولا يدخلها ساحر، ولا ساحرة أربعين ليلة، يا عليّ علّمها ولدك، وأهلك، وجيرانك، فما نزلت آية أعظم منها» .

وعن عليّ-رضي الله عنه: سمعت نبيّكم صلى الله عليه وسلم على أعواد هذا المنبر، وهو يقول:«من قرأ آية الكرسيّ في دبر كلّ صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنّة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلاّ صدّيق، أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه، أمّنه الله على نفسه، وجاره، وجار جاره، والأبيات حوله» .

وتذاكر الصّحابة-رضوان الله عليهم-أفضل ما في القرآن، فقال لهم عليّ كرّم الله وجهه: أين أنتم من آية الكرسيّ؟! ثم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ! سيّد البشر آدم، وسيد العرب محمّد، ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيّد الرّوم صهيب، وسيّد الحبشة بلال، وسيّد الجبال الطّور، وسيّد الأيام الجمعة، وسيّد الكلام القرآن، وسيّد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسيّ» .

قلت: كما فضلت سورة الإخلاص من اشتمالها على توحيد الله تعالى، وتعظيمه؛ وتمجيده، وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من ربّ العزة، فما كان ذكرا له، كان أفضل من سائر الأذكار، وبهذا يعلم: أن شرف العلوم، وأعلاها عند الله منزلة علم أهل العدل، والتوحيد، ولا يغرنّك عنه كثرة أعدائه، قال الشاعر:[البسيط]

ص: 609

إنّ العرانين تلقاها محسّدة

ولن ترى للئام النّاس حسّادا

فهو يعني: علم أهل العدل، والتوحيد: علم الاعتزال، ويعني بالعرانين: شيعة المعتزلة، كما هو دأبه في نصرة مذهبهم، ويروى: أنّه رجع عن هذا المذهب قبل وفاته، وترك نصرته عفا الله عنا، وعنه.

الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {إِلهَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له.

{هُوَ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول: كونه بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء، والثاني: كونه بدلا من {لا} وما عملت فيه؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء، والثالث: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأقوى. {الْحَيُّ} يجوز فيه أربعة أوجه: أحدها: أن يكون بدلا من {هُوَ} بدل ظاهر من مضمر، الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحيّ، وحسّن حذفه توالي اللفظ ب {هُوَ} مرّتين، الثالث: أن يكون خبرا ثانيا، لقوله:{اللهُ} أخبر عنه أولا بقوله: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} وذلك عند من يرى تعدّد الخبر مختلفا في الإفراد، والجملة، الرابع: أن يكون صفة للضمير، وذلك عند الكسائيّ، فإنّه يجيز وصف الضمير الغائب بصفة مدح، فهو يشترط هذين الشّرطين: أن يكون غائبا، وأن تكون الصفة صفة مدح. {الْقَيُّومُ:} يجري فيه ما جرى في سابقه، وإن اعتبرته بدلا من {الْحَيُّ} فلست مفندا، بل هو الأقوى؛ لأنهما اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى على المعتمد. والله أعلم، وأجلّ، وأكرم، والجملة الاسمية {اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{لا:} نافية. {تَأْخُذُهُ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به. {سِنَةٌ:} فاعله. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. {لا} صلة لتأكيد النفي. {نَوْمٌ:} معطوف على {سِنَةٌ،} والجملة الفعلية تحتمل ثلاثة أوجه: أن تكون في محلّ رفع خبر ثالث للمبتدإ، وأن تكون في محلّ نصب حال من الضمير المستتر في {الْقَيُّومُ،} وأن تكون مستأنفة لا محلّ لها. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر.

{فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {مَنْ ذَا الَّذِي:} {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {ذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع خبره.

{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {ذَا،} أو هو بدل منها.

هذا؛ وجوز أن يكون {مَنْ ذَا} اسما مركبا مبنيّا على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَشْفَعُ:}

فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.

{عِنْدَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وقيل: الظرف متعلق بمحذوف حال من فاعل {يَشْفَعُ} المستتر. {إِلاّ:} حرف حصر، {بِإِذْنِهِ:} متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، والهاء في محل جرّ بالإضافة.

ص: 610

{يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَيْدِيهِمْ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة. {ما:} اسم موصول معطوف على ما قبله. {خَلْفَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}):

نافية. {يُحِيطُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {بِشَيْءٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ عِلْمِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة (شيء)، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر، {بِما:} بدل من قوله: {بِشَيْءٍ} كما تقول: ما مررت بأحد إلا بزيد، و ({ما}) تحتمل الموصولة والموصوفة. {شاءَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: إلا بالذي، أو: بشيء شاءه، وجملة:{وَلا يُحِيطُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.

{وَسِعَ:} فعل ماض. {كُرْسِيُّهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {السَّماواتِ:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم، {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{وَسِعَ..} . إلخ تحتمل ما ذكرت من أوجه. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {يَؤُدُهُ:} فعل مضارع، والهاء مفعوله. {حِفْظُهُما:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، ({هُوَ}): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ:}

خبران للمبتدإ، والجملة الاسمية تحتمل الأوجه الثلاثة التي ذكرت فيما مضى قبلها، بعد هذا ينبغي أن تعلم: أنّ كل جملة في الآية الكريمة مستقلة، ويجوز الوقف على آخرها.

{لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا اِنْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}

الشرح: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ..} . إلخ المعنى: لا تكرهوا أحدا على الدّخول في دين الإسلام، فإنّه بيّن واضح، وجليّ؛ دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونوّر بصيرته؛ دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه، وبصره، فإنّه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا. هذا، والدّين اسم لجميع ما يتعبّد به الله تعالى. هذا، والدّين يطلق على العادة، والشأن، والحال، كما في قول امرئ القيس في معلقته رقم [10]:[الطويل]

كدينك من أمّ الحويرث قبلها

وجارتها أمّ الرّباب بمأسل

ص: 611

هذا، والدّين أيضا: الملّة، والشريعة، ومنه قوله تعالى في سورة (يوسف) رقم [76]:{ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ،} ويوم الدين: يوم الجزاء والحساب، ومنه: كما تدين تدان، أي: كما تفعل تجازى. هذا؛ والدّين بفتح الدال القرض المؤجّل، وجمع الأول:

أديان: وجمع الثاني: ديون وأدين. هذا؛ والدّينونة: القضاء، والحساب. والدّيانة: اسم لجميع ما يتعبد به الله تعالى. {قَدْ تَبَيَّنَ:} يقال: تبين الشيء وبان، وأبان، واستبان كلّه بمعنى واحد، وهو لازم. وقد يستعمل بعضها متعدّيا، {الرُّشْدُ:} الاهتداء، والاستقامة على طريق الحقّ، وضدّه: الغيّ، والضّلال، يقال: رشد، يرشد، رشدا، ورشد، يرشد، رشدا، فالأول من الباب الأول، والثاني من الباب الرّابع.

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ:} هو الأصنام، أو الشيطان، أو الكاهن، وكلّ رأس في الضلالة وداع إليه، وهو يطلق على المفرد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، واشتقاقه من: طغى، يطغى، أو من: طغا يطغو: إذا تجاوز الحدّ، ومنه قوله تعالى في سورة (الحاقة):{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} ويجمع على: طواغيت، ولم يرد في القرآن الكريم بلفظ الجمع، والكفر بالطاغوت:

عدم الرضا به، وعدم الانقياد له. {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى} أي: فقد تمسّك بالدّين بأقوى سبب، والعروة في الأصل موضع شدّ اليد، وأصل المادة تدل على التعلّق، ومنه: عروته إذا ألمحت به متعلقا به، واعتراه الهمّ تعلّق به. {الْوُثْقى:} تأنيث الأوثق، وهي للتفضيل، كفضلى تأنيث الأفضل، وجمع الوثقى: الوثق، مثل: الفضلى، والفضل، وفي الآية تشبيه، والمشبه به:

الإيمان، وقيل: استعارة تمثيلية؛ حيث شبه المستمسك بدين الإسلام بالمستمسك بالحبل المحكم، وعدم الانفصام ترشيح.

{لا انْفِصامَ:} لا انقطاع لها، والانفصام في اللغة: الانكسار من غير بينونة، والفصم: كسر مع بينونة، وفي صحيح الحديث عن عائشة-رضي الله عنها:«فيفصم عنه-صلى الله عليه وسلم-الوحي؛ وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» . وخذ قوله تعالى في سورة (لقمان): {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى} . هذا؛ ولما كان الكفر بالطّاغوت، والإيمان بالله ما ينطق به اللسان، ويعتقده القلب؛ حسن قوله تعالى:{سَمِيعٌ} من أجل النّطق، {عَلِيمٌ:} من أجل المعتقد.

تنبيه: خذ سبب الآية الكريمة فيما يروى عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كانت المرأة من الأنصار قبل الإسلام لا يعيش لها ولد، فكانت تنذر: لئن عاش لها ولد؛ لتهوّدنّه، فإذا عاش جعلته في اليهود، فجاء الإسلام، وفيهم منهم، فلمّا أجليت بنو النضير، كان فيهم عدد من أولاد الأنصار، فأرادوا استردادهم، وقالوا: هم أبناؤنا، وإخواننا، فنزلت الآية الكريمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قد خيّر أصحابكم فإن اختاروكم؛ فهم منكم، وإن اختاروهم؛ فأجلوهم معهم» .

وقيل: كان لرجل من الأنصار، يقال له: أبو الحصين ابنان متنصّران قبل الإسلام، ثم قدما المدينة المنوّرة في نفر من النّصارى يحملون الزيت. فلزمهما أبوهما، وقال: لا أدعكما حتّى

ص: 612

تسلما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الأب: يا رسول الله! أيدخل بعضي النار؛ وأنا أنظر إليه؟! فنزلت الآية الكريمة، فخلّى سبيلهما، وقيل: نزلت في أهل الكتاب؛ إذا قبلوا بذل الجزية، لم يكرهوا على الإسلام. انتهى. خازن.

هذا واختلف في هذه الآية، فقيل: إنّها منسوخة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام، وقاتلهم، ولم يرض منهم إلا الإسلام، فنسختها الآية في سورة التّوبة، وفي سورة التّحريم، وهي قوله تعالى:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ} وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل النّاس؛ حتّى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها؛ عصموا منّي دماءهم وأموالهم

».

وقيل: إنّها ليست بمنسوخة، وإنّما نزلت في أهل الكتاب خاصّة، وأنّهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية، والذين يكرهون: أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام، فهم الّذين نزل فيهم:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ} والحجّة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه، قال:

سمعت عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-يقول لعجوز نصرانيّة: أسلمي أيتها العجوز؛ تسلمي، إنّ الله بعث محمدا بالحقّ، قالت: أنا عجوز، والموت إليّ قريب، فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ..} . إلخ، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {إِكْراهَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {فِي الدِّينِ:} متعلقان بمحذوف خبر {لا،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {تَبَيَّنَ:} فعل ماض. {الرُّشْدُ:} فاعله. {مِنَ الْغَيِّ:} متعلقان بالفعل: {تَبَيَّنَ،} وهما في محل نصب مفعول به، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الرُّشْدُ} والجملة الفعلية مفيدة للتعليل، لا محل لها، {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف، (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَكْفُرْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {بِالطّاغُوتِ:} متعلقان به. {وَيُؤْمِنْ:} معطوف على ما قبله مجزوم مثله والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {بِاللهِ:} متعلقان به، {فَقَدِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق مثل سابقه. {اِسْتَمْسَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد. {بِالْعُرْوَةِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْوُثْقى:} صفة (العروة) مجرورة مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذّر، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {لا انْفِصامَ لَها:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ،} وهي في محل جر صفة ثانية ل (عروة)، أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدّم، والرابط على الاعتبارين الضمير، والجملة الاسمية:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ:}

معترضة في آخر الكلام، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين.

ص: 613

{اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)}

الشرح: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا:} أي: متولّي أمورهم، وناصرهم على أعدائهم. هذا؛ ويكثر قوله تعالى:{ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} فالولي: من يتولّى شئون غيره، والنّصير: المعين والمساعد، والفرق بينهما أنّ الولي قد يضعف عن النّصرة، والمعاونة، والنّصير قد يكون أجنبيّا من المنصور، فبينهما عموم، وخصوص من وجه. هذا؛ والولي لله: العارف بالله تعالى على حسب ما يمكن المواظبة على الطّاعات، المعرض على الانهماك في اللّذات والشّهوات. وفيه وجهان: أحدهما: أنّه فعيل بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، فعلى هذا هو من يتولّى الله حفظه، ورعايته، فلا يكله إلى غيره، ونفسه طرفة عين، كما قال تعالى:

{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ،} والوجه الثاني: أنّه فعيل مبالغة من فاعل، كرحيم، وعليم، بمعنى:

راحم، وعالم، فعلى هذا هو من يتولّى عبادة الله تعالى، من غير أن يتخلّلها عصيان، أو فتور، وكلا المعنيين شرط في الولاية، فمن شرط الولي أن يكون محفوظا، كما أنّه من شرط النّبيّ أن يكون معصوما، فكلّ من كان للشرع عليه اعتراض؛ فليس بوليّ، بل هو مغرور مخادع، ذكره الإمام أبو القاسم القشيري، وغيره من أئمة الطّريقة، رحمهم الله تعالى من شرح ألفاظ الزبد للشّيخ أحمد بن حجازي الفشني، رحمه الله تعالى، وربنا يقول في الحديث القدسيّ:«من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب» انظر الآية رقم [279] الآتية.

{يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ:} الظلمات: جمع ظلمة، وهي الكفر، والجهل، والظلم، ونحو ذلك، وإنّما جمعها لتعدّد فنون الضّلال، والمعاصي. {النُّورِ:} الهدى، والإيمان، وإنّما لم يجمع؛ لأن الإيمان واحد لا يتعدّد بخلاف الضّلال، قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [153]:{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .

وقال الشاعر الحكيم: [البسيط]

الطّرق شتّى وطرق الحقّ مفردة

والسّالكون طريق الحقّ أفراد

لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم

فهم على مهل يمشون قصّاد

والنّاس في غفلة عمّا يراد بهم

فجلّهم عن سبيل الحقّ رقّاد

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ} المراد به الجمع، ولذا قرئ:(الطّواغيت)، وفسر بكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وسائر رءوس الضّلالة في كلّ زمان، ومكان.

ص: 614

{يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ:} في معنى هذا الإخراج قولان: إما في مقابلة الأول، أو فيمن آمن من اليهود بالنّبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده، وبعثته، كما رأيته فيما سبق في الآية رقم [89] ثمّ كفر به بعد بزوغ فجر الإسلام. هذا؛ وإنّ في الكلام استعارة؛ حيث استعير لفظ الظّلمات للكفر، وما يتعلق به، والجامع بينهما عدم الاهتداء، واستعير لفظ النّور للإيمان بجامع الاهتداء في كلّ منهما. {أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ:} جعل الله الكفار أصحاب النار، بمعنى مالكيها بملازمتهم لها، وعدم انفكاكهم عنها، وقل مثله في {أَصْحابُ الْجَنَّةِ}. {هُمْ فِيها خالِدُونَ:}

مقيمون، ماكثون، لا محيد لهم عنها، ولا محيص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمّا أهل النّار، الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها، ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النّار بخطاياهم، فأماتتهم إماتة حتّى إذا صاروا فحما أذن لهم في الشّفاعة» رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة-رضي الله عنه، والمذكورون في آخر الحديث هم عصاة المسلمين يدخلون النار، ويعذّبون على حسب جرائمهم، ثمّ يخرجون منها حمما ثمّ يدخلون الجنة.

هذا و {أَصْحابُ} جمع: صاحب، ويكون بمعنى المالك كما هنا، ويكون بمعنى الصّديق، ويجمع أيضا على صحب، وصحاب، وصحابة، وصحبة، وصحبان، ثم يجمع أصحاب على أصاحيب، والصّحابيّ: هو من اجتمع مع الرّسول صلى الله عليه وسلم في حياته ولو ساعة بشرط أن يكون مسلما موحّدا، فإن اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وجالسه في حياته وهو غير مؤمن ثمّ آمن به بعد وفاته، مثل كعب الأحبار؛ فيقال عنه: تابعي.

الإعراب: {اللهُ وَلِيُّ:} مبتدأ، وخبر، و {وَلِيُّ} مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {آمَنُوا:}

فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {يُخْرِجُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، أو في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وجوز الاستئناف، وهو ضعيف. {مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ:}

كلاهما متعلقان بالفعل {يُخْرِجُهُمْ} . {الَّذِينَ:} مبتدأ أول، وجملة:{كَفَرُوا..} . إلخ مع المتعلق المحذوف صلته، {أَوْلِياؤُهُمُ:} مبتدأ ثان، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة جمع اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الطّاغُوتُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {الَّذِينَ،} والجملة الاسمية هذه معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع. {يُخْرِجُونَهُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية يجوز فيها ما جاز بسابقتها. {مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل لها، {أَصْحابُ:} خبره، وهو مضاف، و {النّارِ:} مضاف إليه من إضافة جمع اسم

ص: 615

الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما.

{خالِدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من {أَصْحابُ النّارِ،} والعامل في الحال اسم الإشارة لما فيه من معنى الفعل، والرابط: الضمير فقط، وجوز اعتبارها خبرا ثانيا ل {أُولئِكَ،} والأول أقوى؛ لأنّ لها نظائر مثل قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً} .

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (258)}

الشرح: لما ذكر الله تعالى الإيمان بالله وصفاته القدسية العلية، وذكر ولايته للمؤمنين، وولاية الطاغوت للكافرين؛ ذكر هنا نموذجا عن تحكم الطغيان في نفوس الكفرة المعاندين، ومجادلتهم في وحدانية الله، فذكرها هنا قصصا ثلاثة: الأولى في بيان إثبات الخالق الحكيم، والثانية، والثالثة في إثبات الحشر، والبعث بعد الفناء.

{أَلَمْ تَرَ..} . إلخ: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد، والاستفهام تعجب وتشويق إلى استماع ما بعده إن كان المخاطب لم يعلم بحال المذكورين، أو استفهام تقرير إن كان المخاطب يعلم بحال المذكورين، ويجوز أن يخاطب به من لم ير، ولم يسمع؛ لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب.

{إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ:} هو النّمرود بن كوش، بن كنعان، بن سام، بن نوح النبي، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، كان ملك زمانه، وهو أوّل من وضع التاج على رأسه، وتجبّر في الأرض، وادّعى الرّبوبية، وهو صاحب النّار، والبعوضة، وكان هلاكه كما يلي:

طلب المحاربة مع الله تعالى، ففتح الله عليه بابا من البعوض، فستروا عين الشّمس، وأكلوا عسكره، ولم يتركوا إلا العظام بعد أن أكلوا لحومهم، وشربوا دماءهم، ودخلت واحدة منها في دماغه، فأكلته؛ حتّى صارت مثل الفأرة، فكان أرحم الناس به من يجمع له يديه، ثمّ يضرب بهما رأسه، فبقي في ذلك أربعين يوما، وقيل: أربعين سنة، ثم انفجر رأسه وخرجت، وهي تقول: هذا جزاء من يحارب الله، وكان ملكه فيما ذكروا أربعمائة عام.

وفي قصص هذه المحاجة روايتان:

ص: 616

إحداهما: أنّهم خرجوا إلى عيد لهم، فتخلف إبراهيم ودخل على أصنامهم، فكسرها، فلما رجعوا، وتساءلوا من كسرها؟ قال لهم:{أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟!} فقالوا: فمن تعبد؟ قال: أعبد ربّي الذي يحيي ويميت.

والثانية: أن نمرود كان يحتكر الطّعام، فكان إذا أتى أحد يمتار سأله: من ربّك؟ فيقول:

أنت، فيميره، فخرج إبراهيم عليه السلام إليه ليميره الطّعام لأهله، فقال له: من ربك؟ قال: ربي الّذي يحيي، ويميت

إلخ، فردّه بغير طعام، فرجع إبراهيم إلى أهله، فمرّ على كثيب رمل أعفر، فملأ غرارتين منه تطييبا لقلوب أهله إذا دخل عليهم، فلمّا أتى أهله؛ وضع متاعه، فنام، فقامت زوجته سارة عليها السلام إلى رحله، ففتحته، فإذا هو طعام أجود ما رآه أحد، فصنعت منه خبزا، فلما استيقظ قرّبته إليه، فقال لها عليه السلام: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعلم: أن الله قد رزقه ذلك بقلب الرّمل قمحا، فحمد الله تعالى.

{أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ} أي: طغى، وتجبّر؛ لأنّ الله آتاه الملك، وكان الأحرى به أن يشكر الله، ويعبده، قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: ملك الأرض أربعة: مؤمنان، وكافران؛ فأمّا المؤمنان؛ فسليمان بن داود وإسكندر ذو القرنين، وأما الكافران؛ فنمرود، وبختنصر. وقيل:

كلاهما ولد زنى، وجدا لقيطين عند الأصنام، فبختنصر حقيقة لقيط، فاسمه مركب من: بخ:

بمعنى ابن بالفارسية، وتنصّر: اسم الصّنم، فمعناه: ابن الصنم.

{إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ:} هذا الكلام كان جوابا للنمرود اللّعين لمّا قال له: من تعبد؟ {قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أي: بالقتل، والعفو، فدعا برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر. {قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ:} هذا من إبراهيم عليه الصلاة والسلام انتقال إلى حجة أوضح، فإنّه لمّا رآه غبيّا أحمق؛ قال له هذا الكلام، والمعنى:

إذا كنت كما تدّعي من أنك تحيي، وتميت، فالّذي يحيي، ويميت هو الّذي يتصرف بالوجود، في خلق ذراته، وتسخير كواكبه، وحركاته، فهذه الشمس تبدو كلّ يوم من المشرق، فإن كنت إلها كما ادعيت تحيي وتميت، فائت بها من المغرب؟.

{فَبُهِتَ:} أفحم، وأخرس، وتحيّر، ودهش، وهذا الفعل من الأفعال التي جاءت على صورة المبني للمجهول، والمعنى فيها للمعلوم. هذا؛ ويقال: بهت الرّجل، وبهت، وبهت، إذا انقطع، وسكت متحيّرا، وورد في الخبر:«أنّ الله تعالى قال: وعزّتي، وجلالي! لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أنّي القادر على ذلك» . هذا وبين {يُحْيِي} و ({يُمِيتُ}) وبين {الْمَشْرِقِ} و {الْمَغْرِبِ} طباق، وهو من المحسّنات البديعيّة.

هذا؛ و {الْمَشْرِقِ:} موضع شروق الشمس، و {الْمَغْرِبِ:} موضع غروبها، وفي سورة (الرحمن):{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي: مشرقي الشّتاء، والصيف، ومغربيهما، وفي سورة

ص: 617

(المعارج): {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنّا لَقادِرُونَ} فقد جمع المشرق والمغرب، كما ترى باعتبار مشارق الشّمس ومغاربها في السّنة، وهي ثلاثمائة وستون، تشرق كلّ يوم في واحد منها، وكذا تغرب في واحد منها. هذا؛ وفي تقديم المشرق على المغرب في جميع حالاته يوحي بأفضليته عليه، وكان من حقّ المشرق والمغرب، فتح العين، وهي الراء فيهما؛ لأن المصدر الميمي، واسمي الزمان، والمكان إذا أخذ أحدهما من فعل ثلاثي مفتوح العين، أو مضمومها في المضارع أن يكون بفتح العين قياسا، ولكن التلاوة جاءت بكسرها، وأيضا جاء كثير بكسر العين، وهو مذكور في كتب اللغة، والنحو، من ذلك: المسجد والمنبت، والمسقط، والمرفق، والمنخر، والمجزر، والتحقيق أنها أسماء نوعية غير جارية على فعلها، وإلا فلا مانع من الفتح.

{وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ:} لا يرشدهم، ولا يوفقهم إلى حجّة يدحضون بها حجج أهل الحق عند المحاجّة، والمخاصمة، وفي الآية الكريمة دليل على جواز مناظرة الكفار، والملحدين؛ لإظهار الحقّ، وفي القرآن الكريم، والسّنة المطهّرة من هذا كثير لمن تأمّله، انظر آية المباهلة في سورة (آل عمران) رقم [61].

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وانظر الشرح. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَرَ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت، وهو لازم لأنّه بمعنى تنظر، تعدّى بحرف الجر. {إِلَى الَّذِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {حَاجَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى النمرود، وهو غير مذكور، ولكنّه مفهوم من المقام، كما في قوله تعالى في سورة (الواقعة):{فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ،} وفي سورة (القيامة):

{كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ} فإن الفاعل في الآيتين الرّوح، ولم يتقدّم لها ذكر، وأيضا قوله تعالى في سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ومثل هذه الآيات في الشّعر كثير، أكتفي بقول حاتم الطّائي:[الطويل]

لعمرك ما يغني الثّراء عن امرئ

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر

{إِبْراهِيمَ:} مفعول به. {فِي رَبِّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{حَاجَّ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الفعلية:{أَلَمْ تَرَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {آتاهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهو في محل نصب ب {أَنْ،} والهاء في محل نصب مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {الْمُلْكَ:} مفعول به ثان:

و {أَنْ} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف عند الخليل، التقدير:

لإتيانه الملك، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {حَاجَّ،} وفي محل نصب بنزع الخافض عند

ص: 618

سيبويه. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون في محل نصب متعلق ب {حَاجَّ} أو ب (أتى)، وقيل: بدل من المصدر المؤول، وليس بشيء؛ لأنّ الظرف غير المصدر، إلا أن تقدر {إِذْ} بمعنى «أن» المصدرية. انتهى. عكبري. وقال الجلال: بدل من {حَاجَّ} بدل اشتمال؛ لأنّ وقت القول المذكور يشتمل على المحاجّة، وعلى غيرها؛ لأنّه أوسع منها. انتهى. جمل.

{قالَ إِبْراهِيمُ:} ماض، وفاعله. {فَإِنَّ} الفاء: صلة، وقال الجمل: والفاء في جواب شرط مقدر، أي: إن كنت قادرا كقدرة الله؛ فإنّ الله

إلخ، وقال أبو البقاء-رحمه الله تعالى -: أو دخلت الفاء إيذانا بتعلّق هذا الكلام بما قبله، والمعنى: إذا ادعيت الإحياء، والإماتة، ولم تفهم؛ فالحجّة أنّ الله يأتي بالشّمس، هذا هو المعنى. أقول: اعتبار الفاء الأولى صلة، والثانية الفصيحة هو الأولى، والأقوى. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {يَأْتِي:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهُ} .

{بِالشَّمْسِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل جزم، إن كان الشرط المقدر «إن» ولا محل لها إن كان الشرط المقدر «إذا». {مِنَ الْمَشْرِقِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {فَأْتِ:} الفاء: هي الفصيحة على المعتمد. (ائت): فعل أمر مبني على حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:

أنت. بها: جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنَ الْمَغْرِبِ:} متعلقان به أيضا، والجملة الفعلية لا محل لها كما رأيت، وهي من جملة مقول القول.

{فَبُهِتَ:} الفاء: حرف استئناف. (بهت): فعل ماض مبني للمجهول. {الَّذِي:} نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {كَفَرَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة صلته، لا محل لها. {وَاللهُ:} الواو: واو الاعتراض. ({اللهُ}): مبتدأ.

{لا:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}) والجملة في محل رفع خبر المبتدأ، {الْقَوْمَ:} مفعول به. {الظّالِمِينَ:}

صفة {الْقَوْمَ} منصوب مثله، والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام، أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين.

تنبيه: ذكرت لك في الإعراب: أنّ مفعول {يُحْيِي وَيُمِيتُ} و {أُحْيِي وَأُمِيتُ} محذوف، وفيه وفي أمثاله قال ابن هشام في المغني: إذا تعلق الإعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل، فيقتصر عليهما، ولا يذكر المفعول ولا ينوى؛ إذ المنويّ كالثّابت، ولا يسمّى محذوفا؛ لأنّ الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول له، ومنه ما ذكر في هذه الآية، وقوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [9]:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ،} وقوله تعالى في الآية رقم [187] في هذه السورة وفي سورة (الأعراف) رقم [31]: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا..} . إلخ، وقوله تعالى في سورة (الدّهر):{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} .

ص: 619

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَاُنْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَاُنْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}

الشرح: {أَوْ كَالَّذِي..} . إلخ: التقدير عند الكسائي، والفراء: هل رأيت كالّذي حاجّ إبراهيم في ربه؟ أو كالذي مر على قرية؟ وقال المبرد: المعنى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالّذي مرّ على قرية؟ فأضمر في الكلام: من هو. انتهى. قرطبي. وقيل: الكاف مزيدة، وتقدير الكلام: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مرّ على قرية؟. انتهى.

بيضاوي. وهو فحوى قول الزّمخشري: ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ، كأنه قيل:

أرأيت كالّذي حاجّ إبراهيم؟ أو كالّذي مرّ على قرية؟ وتخصيص الكلام بحرف التشبيه؛ لأن المنكر للإحياء كثير، والجاهر بكيفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدّعي الرّبوبية.

والذي مرّ هو عزير بن شرخيا، وهو من سبط هارون بن عمران. {عَلى قَرْيَةٍ:} هي بيت المقدس حين خرّبه بختنصر بعد سليمان بن داود، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام، وانظر ما ذكرته في أول سورة (الإسراء). وقيل: هي القرية التي خرج منها الألوف المذكورون في الآية رقم [243]، وليس بشيء. هذا؛ والقرية اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة وعلى غيرها، كيف لا؟ وقد جعل الله جل ذكره مكة المكرمة أم القرى في قوله تعالى شأنه في الآية رقم [92] من سورة (الأنعام):{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها،} كما تطلق على الضّيعة الصغيرة، وهي مأخوذة من: قريت الماء في المكان: جمعته، وفي القاموس المحيط: القرية بكسر القاف وفتحها، والنسبة إليها قرويّ، وقرئيّ، والفتح أقوى.

{وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها:} خالية، ساقطة حيطانها على سقوفها، فوقف متنكرا فيما آل إليه أمرها بعد العمارة العظيمة، والزخرفة الجميلة؛ التي صنعها سليمان فيها. {قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها:} وذلك لما رأى من دثورها، وشدّة خرابها، وإحياؤها إنما هو بعمارتها، وتشييدها، ووجود السكان فيها، وخوت الدار، وخويت: لا سكان فيها، ومنه قوله تعالى في سورة (النمل) رقم [52]:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا،} وقوله هذا تلهّف على مدينته التي عهد فيها أهله، وأحبته، ثمّ رآها خرابا يبابا، وعلى كلّ فموت القرية هو موت سكانها، فهو مجاز مرسل من قبيل إطلاق المحل، وإرادة الحال.

ص: 620

{فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ:} قبض روحه، وتركه جثّة هامدة لا حراك فيها، والعام: السنة، والحول، وجمعه: أعوام. {ثُمَّ بَعَثَهُ:} أحياه بردّ روحه إليه. ويحكى في قصص هذه الآية: أنّ الله تعالى بعث لها ملكا من الملوك يعمرها، ويجدّ في ذلك حتّى كان كمال عمارتها بعث القائل، وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، ورجع بنو إسرائيل إليها، فلمّا أحياه الله، فكان أوّل شيء أحياه فيه عيناه لينظر بها إلى صنع الله، كيف يحيي الله بدنه، فلمّا استوى قائما سويّا، قال الله له بواسطة الملك:{كَمْ لَبِثْتَ:} كم نمت، ومكثت في هذه الحال؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم؛ وذلك أنّه مات أوّل النهار، ثم بعثه في آخر النّهار. فلما رأى الشمس عصرا ظنّ: أنها شمس ذلك اليوم، ومثله ما ذكر الله في شأن أهل الكهف:{قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . {قالَ:} أي الملك لعزيز. {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ} أي: مكثت ميتا مائة عام كاملة. {فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي: إن شككت في ذلك؛ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتغيّر بمرور الزمن، وكان معه عنب، وتين، وعصير، فوجدها على حالها لم تفسد، والهاء في {يَتَسَنَّهْ} أصلية، أو هاء السكت، واشتقاقه من السّنة على الوجهين؛ لأنّ لامها هاء؛ لأن الأصل سنهة، والفعل سانهت، يقال: سانهت فلانا، أي:

عاملته سنة، أو واو لأن الأصل سنوة، والفعل سانيت. قال النّحاس: أصح ما قيل فيه: أنه من السّنة، أي لم تغيره السّنون، ويحتمل أن يكون من السّنة، وهي الجدب، ومنه قوله تعالى:

{وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} وانظر الإعراب. هذا؛ ولم يثنّ فاعله مع كونه عائدا على الطعام والشراب؛ لأحد أمرين: إما لكونهما متلازمين، فصارت كالشيء الواحد، وهو الغذاء، وإما لأنّ الضمير يعود إلى الشراب فقط، وثمّ جملة أخرى مقدرة حذفت لدلالة هذه عليها، والتقدير: انظر إلى طعامك لم يتسنه، وإلى شرابك لم يتسنه. انتهى. {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ} أي: دليلا على البعث، والحشر، والنشور بعد الموت.

{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها:} نحييها، أو نرفع بعضها فوق بعض، ونركبه عليه، والنشز: المرتفع من الأرض، والارتفاع، ومنه المرأة النشوز، والناشز: وهي المرتفعة عن موافقة زوجها، قال تعالى:{وَاللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ} ومنه قوله تعالى في سورة (المجادلة):

{وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا،} وقال الشاعر: [الطويل]

ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه

إذا ما علا نشزا حصان مجلّل

{ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً:} الكسوة ما وارى الجسد من الثياب، واستعيرت هنا لما أنشئ من اللحم الذي غطى العظم، وهي استعارة جيدة، وحسنة. {فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ:} لمّا اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه، {قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ..}. إلخ: قال: أيقنت وعلمت علم مشاهدة أنّ الله قادر، ومقتدر لا يعجزه شيء.

ص: 621

هذا والحمار معروف، يكون وحشيّا، ويكون أهليّا، وأنثاه: أتان، ويقال: حمارة أيضا، ويجمع على حمير، وحمر، وحمور، وحمرات، وكلّها للكثرة، ويجمع جمع قلّة على أحمرة، قال الرّاعي النّميري، أو القتال الكلابي، وهو الشّاهد رقم [32] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

هنّ الحرائر، لا ربّات أحمرة

سود المحاجر، لا يقرأن بالسّور

ولفظ {الْحَمِيرَ} ورد في سورة (النّحل)، وفي سورة (لقمان) ولفظ {حُمُرٌ} ورد في سورة (المدثّر)، ولفظ المفرد ذكر في هذه السورة والحمار الأهلي يوصف بالهداية إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها، ولو مرّة واحدة، وبحدّة السمع، وللناس في مدحه وذمّه أقوال متباينة، وقد أطال الدّميري الكلام فيه.

بعد هذا اذكر: أن بني إسرائيل لمّا بالغوا في الفساد؛ سلّط الله عليهم بختنصر البابلي ملك الفرس، فسار إليهم في ستمائة ألف راية، فخرّب بيت المقدس الذي بناه سليمان على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وجعل بني إسرائيل أثلاثا: ثلثا قتله، وثلثا أقرّه بالشام، وثلثا سباه، وكان هذا الثلث مائة ألف فقسمه بين الملوك الذين كانوا معه، وكان عزير من جملة السّبي، فلمّا خلص من السبي، وجاء إلى بيت المقدس، ورآها على تلك الحالة، قال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ وكان راكبا على حمار، دخلها، وطاف بها فلم ير أحدا، وكان إذ ذاك غالب أشجارها حاملا ثمره، فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب، فشرب منه، وجعل فضل الفاكهة في سلّة، وفضل العصير في زقّ أو ركوة، ثم ربط حماره بحبل قوي وثيق، وألقى الله عليه النوم، فلمّا نام نزع روحه، وأمات حماره، وبقي عصيره وتينه المعبّر عنه بالطعام عنده، وذلك ضحى، ومنع لحمه من السّباع، والطير.

فلما مضى من وقت موته سبعون سنة أرسل الله ملكا من الملائكة إلى ملك من ملوك فارس، يقال له: بوشك، وكان صالحا، وقال له: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك، فتعمر بيت المقدس، حتى يعود كما كان، فسار بجنوده حتى أتاه، فعمره، وصار أحسن ما كان، ورد الله من بقي من بني إسرائيل إلى بيت المقدس ونواحيه، فعمروه في ثلاثين سنة، وكثروا أحسن ممّا كانوا، وأعمى الله العيون عن العزير هذه المدّة، فلم يره أحد، فلما مضت المئة أحيا الله تعالى منه عينيه، وسائر جسده ميت، ثمّ أحيا الله تعالى جسده، وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره، وعظامه بيض متفرقة، فسمع صوتا من السّماء: أيتها العظام البالية! إنّ الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع بعضها إلى بعض، ثم نودي: إنّ الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا، فكان كذلك، ثم نودي: إنّ الله يأمرك أن تحيا، فقام الحمار بإذن الله، ثم نهق. انتهى. خازن.

هذا وقال الأعمش: جعل الله عزيرا موضع آية: أنّه جاء شابّا على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحفدة شيوخا، وروي عن عليّ-رضي الله عنه: أنّ عزيرا خرج من أهله، وخلّف امرأته

ص: 622

حاملا، وله خمسون سنة، فأماته الله مائة عام، ثم بعثه، فرجع إلى أهله، وهو ابن خمسين سنة، وله ولد من مائة سنة، فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة، وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: لمّا أحيا الله عزيرا ركب حماره، فأتى محلّته، فأنكر الناس، وأنكروه، فوجد في منزله عجوزا عمياء كانت أمة لهم، خرج عنهم عزير، وهي بنت عشرين سنة، فقال لها: هذا منزل عزير؟ فقالت:

نعم، ثمّ بكت، وقالت: فارقنا عزير منذ كذا، وكذا سنة، قال: فأنا عزير، قالت: إن عزيرا فقدناه منذ مائة سنة، قال: فالله أماتني مائة سنة، ثم بعثني، قالت: فعزير كان مستجاب الدّعوة للمريض، وصاحب البلاء، فيفيق، فادع الله يرد عليّ بصري! فدعا الله، ومسح على عينيها بيده، فصحّت مكانها كأنّها نشطت من عقال: قالت: أشهد أنّك عزيز، ثم انطلقت إلى بني إسرائيل، وفيهم ابن العزير شيخ ابن مائة وثمانية وعشرين سنة، وبنو بنيه شيوخ، فقالت: يا قوم! هذا عزير: فأقبل إليه ابنه مع الناس، وقال: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فنظرها فإذا هو عزير.

وقيل: لما رجع عزير إلى قريته، وكان بختنصر قد أحرق التّوراة، فكان يحفظها في صدره، فلمّا قال لهم: أنا عزير، فلم يصدقوه، فقال: أنا عزير، وقد بعثني الله إليكم لأجدّد لكم توراتكم، قالوا: فأملها علينا، فأملاها عليهم من ظهر قلبه، فقالوا: ما جعل الله التوراة في قلب رجل بعد ما ذهبت إلا أنّه ابنه، وانظر ما ذكرته في سورة (التوبة) رقم [30].

تنبيه: قاتل الله اليهود أنى يؤفكون، فقد حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث ما هو من صميم عقائدهم، وبأمور من تاريخهم، وبأشياء كثيرة من مفاسدهم، لا يعلم ذلك إلا المهرة فيهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتصل بواحد من علمائهم، فمن أين أتى بذلك؟ إن هو إلا وحي يوحى.

خاتمة بل فائدة: لم يحفظ التوراة غيبا سوى أربعة: موسى وهارون، ويوشع بن نون وعزير، بينما يوجد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل زمان الألوف من حفظة القرآن غيبا والحمد لله!.

الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {كَالَّذِي:} الكاف اسم بمعنى «مثل» مبني على الفتح في محل نصب، انظر تقديره في الشرح، والكاف مضاف، و (الذي): اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وقيل: الكاف صلة، و (الذي) معطوف على مثله في الآية السابقة، انظر الشرح أيضا. {مَرَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الذي) وهو العائد، والجملة الفعلية صلته، لا محل لها، {عَلى قَرْيَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَهِيَ:} الواو: واو الحال. ({هِيَ}): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خاوِيَةٌ:} خبر المبتدأ، وفاعله مستتر فيه. {عَلى عُرُوشِها:} متعلقان ب {خاوِيَةٌ،} و (ها) في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {قَرْيَةٍ،} وهي نكرة، وكان الواجب أن تكون صفة على القاعدة:«الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال» والمعارض في ذلك الواو، فإنّها لا تعترض بين الصّفة والموصوف، خلافا للزمخشري وأبي البقاء، وإنما توسّطت الواو في رأي الزمخشري لتأكيد لصوق

ص: 623

الصّفة بالموصوف، وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا، والزّمخشري في الآية الكريمة:{وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ} رقم [4] من سورة (الحجر) هو رأي ابن خيران وسائر النحويين يخالفونه، ومثل هذه الآية رقم [21] والشاهد على هذه المسألة في مغني اللبيب قول قيس بن ذريح، وهو الشاهد رقم [796] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

مضى زمن، والنّاس يستشفعون بي

فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع؟

وقد أغرب الجمل في اعتبارها حالا من فاعل {مَرَّ،} كما أغرب أبو البقاء كلّ الغرابة باعتبار الجار والمجرور بدلا من {عَلى قَرْيَةٍ،} وقدّر تقديرات لا وجه لها بعد أن ذكر تعليقهما ب {خاوِيَةٌ} وهو الوجه الصحيح لا غير. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى عزير المعبر عنه ب:(الذي {مَرَّ}). {أَنّى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزّمانية متعلق بالفعل بعده، وهو بمعنى: متى، أو هو في محل نصب حال من {هذِهِ} إن كان بمعنى:

كيف. {يُحْيِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {هذِهِ:}

الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذه): اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به.

{اللهُ:} فاعله. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، ويحتمل تعليقه بمحذوف حال من {هذِهِ،} و {بَعْدَ} مضاف، و {مَوْتِها:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها؛ لأنّها بمنزلة جواب لسؤال مقدر. {فَأَماتَهُ:} الفاء: حرف عطف. (أماته): فعل ماض، والهاء مفعول به.

{اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالَ..} . إلخ، لا محلّ لها مثلها {مِائَةَ} ظرف زمان متعلق بما قبله، وقيل: متعلق بفعل محذوف، تقديره: فأماته، فلبث مائة عام؛ لأنّ الإماتة سلب الحياة، وهي لا تمتدّ. {ثُمَّ:} حرف عطف. {بَعَثَهُ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ} أو إلى الملك. {كَمْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بالفعل بعده، وتمييزه محذوف التقدير: كم يوما، كم شهرا

إلخ. {لَبِثْتَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ كَمْ لَبِثْتَ} مستأنفة لا محل لها أيضا. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى عزير. {لَبِثْتَ:} فعل وفاعل. {يَوْماً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {أَوْ:} حرف عطف.

{بَعْضَ:} معطوف على ما قبله، فهو ظرف مثله، و {بَعْضَ} مضاف، و {يَوْمٍ:} مضاف إليه، وجملة:{لَبِثْتَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ} أو إلى الملك. {بَلْ:} حرف عطف.

{لَبِثْتَ:} فعل وفاعل، {مِائَةَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، وهو مضاف، و {عامٍ:}

ص: 624

مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: ما لبثت يوما أو بعض يوم، بل لبثت مائة عام، وهذا الكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَانْظُرْ:} الفاء: هي الفصيحة. (انظر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت.

{إِلى طَعامِكَ:} متعلقان بما قبلهما. {وَشَرابِكَ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {لَمْ:} حرف نفي وقلب وجزم. {يَتَسَنَّهْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} وعلامة جزمه السكون، أو حذف حرف العلة، وهو الألف، والهاء للسكت، وانظر الشرح، والفاعل تقديره: هو، وانظر الشرح أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ({شَرابِكَ})، وجملة:

(انظر

) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر، التقدير: إذا لم يحصل لك طمأنينة في أمر البعث؛ فانظر، والشرط المقدر، ومدخوله في محل نصب مقول القول، وجملة:({اُنْظُرْ إِلى حِمارِكَ}) معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وهي من جملة مقول القول.

{وَلِنَجْعَلَكَ:} الواو: حرف عطف. ({لِنَجْعَلَكَ}): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر، تقديره: نحن، والكاف مفعول به أول. {آيَةً:} مفعول به ثان.

{لِلنّاسِ:} متعلقان بمحذوف صفة {آيَةً،} و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ باللام، والجار والمجرور معطوفان على محذوف، والمحذوف متعلق بمحذوف، وتقدير الكلام: فعلنا ما فعلنا من إحيائك بعد ما ذكر لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل، ولنجعلك

إلخ، والكلام كلّه معترض بين الجمل المتعاطفة؛ لا محلّ له.

والجملة: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ} معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة مقول القول أيضا.

{كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من الهاء الواقعة مفعولا به.

{نُنْشِزُها:} فعل مضارع، والفاعل تقديره: نحن، و (ها) مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بدل اشتمال من {الْعِظامِ،} التقدير: انظر إلى العظام كيفية نشزها، وهو إعراب ابن هشام في مغني اللبيب، وبعضهم يعتبر الجملة الفعلية في محل نصب سدّت مسدّ المفعول به للفعل (انظر) المعلّق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، ومثل هذه الآية كثير في القرآن الكريم، كما في سورة (الفرقان) رقم [45]، وفي سورة الغاشية، ومثل ذلك قول الفرزدق، وهو الشاهد رقم [373] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

إلى الله أشكو بالمدينة حاجة

وبالشّام أخرى كيف يلتقيان

{ثُمَّ:} حرف عطف. {نَكْسُوها:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره: نحن، و (ها) مفعول به أول. {لَحْماً:} مفعول به ثان:

والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في التركيب، والتأويل.

{فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول:

حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى «حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جنّي،

ص: 625

وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوّب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {تَبَيَّنَ:} فعل ماض، والفاعل ضمير يعود إلى الإحياء، التقدير:

فلمّا تبيّن له ذلك، وانظر ما يأتي. {لَهُ:} متعلقان بالفعل {تَبَيَّنَ،} والجملة الفعلية لا محلّ لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى عزير. {أَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: أنا. {أَنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه.

{قَدِيرٌ:} خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي {أَعْلَمُ..} . إلخ في محلّ نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. وقال الجمل: معطوف على مقدر يستدعيه المقام، كأنّه قيل: فأنشزها الله تعالى، وكساها لحما، فنظر إليها، فتبيّن له كيفية الإحياء، فلمّا تبين له ذلك؛ قال

إلخ، وهذا كما ترى حلّ معنى، بعد هذا؛ قال الزمخشري -رحمه الله تعالى-: اعتبر الكلام من باب التنازع، حيث قال: وفاعل {تَبَيَّنَ} مضمر، تقديره: فلمّا تبين له: أن الله على كل شيء قدير؛ قال: أعلم أنّ الله على كل شيء قدير. فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كما في قولهم: ضربني، وضربت زيدا، وشرحه: أن الفعل {تَبَيَّنَ} يطلب فاعلا، و {أَعْلَمُ} يطلب مفعولا، وكلاهما تنازعا المصدر المؤول، ويصلح أن يكون فاعلا ل:{تَبَيَّنَ} ومفعولا ل {أَعْلَمُ،} وعبارة السمين: وفي فاعل {تَبَيَّنَ} قولان: أحدهما مضمر يفسره سياق الكلام، تقديره: فلمّا تبين له كيفية الإحياء، التي استغربها، وقدّره الزمخشري: فلمّا تبين له ما أشكل عليه؛ يعني: من أمر الإحياء، والأول أولى؛ لأن قوة الكلام تدلّ عليه بخلاف الثاني، والثاني-وبه بدأ الزمخشري-: أن تكون المسألة من باب التنازع، وشرحها ما قدّمته، والله وليّ التوفيق، ولم يرتض ابن هشام هذا التّنازع، فقد قال: الصّواب: أنّ فاعل {تَبَيَّنَ} ضمير مستتر، إمّا للمصدر، أي: فلمّا تبين له تبين، أو لشيء دلّ عليه الكلام؛ أي: فلمّا تبيّن له الأمر، أو: ما أشكل عليه.

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاِعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}

الشرح: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى:} اختلفوا في سبب هذا السّؤال من إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فقيل: إنّه مرّ على دابّة ميتة، وهي جيفة

ص: 626

حمار، وقيل: بل كانت حوتا ميتا بساحل البحر، فرآها وقد توزّعها دواب البحر والبر، فإذا مدّ البحر جاءت الحيتان، فأكلت منها، وإذا جزر البحر جاءت السّباع، فأكلت منها، فإذا ذهبت السّباع جاءت الطّير، فأكلت منها، فلما رأى إبراهيم عليه السلام ذلك تعجّب منها، وقال: يا ربّ إني قد علمت: أنّك تجمعها من بطون السّباع، وحواصل الطّير، وأجواف الدّواب، فأرني كيف تحييها؛ لأعاين ذلك، فأزداد يقينا! فعاتبه ربه بقوله:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أي: توقن، وتصدّق بقدرتي.

{قالَ بَلى} أي: يا ربّ قد علمت، وصدّقت، وآمنت. هذا؛ و {بَلى} حرف جواب ك «نعم» و «جير» و «أجل» و «جلل» و «إي» إلا أنّ «بلى» جواب لنفي متقدّم وإبطال ونقض وإيجاب له، سواء دخله الاستفهام أم لا، فتكون إيجابا له، نحو قول القائل: ما قام زيد؟ فتقول: بلى قد قام، وقوله:

أليس زيد قائما؟ فتقول: بلى، أي: هو قائم، قال تعالى في سورة الأعراف رقم [172]:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم؛ لكفروا.

{وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: سألتك ليسكن قلبي، ويستقرّ عند المعاينة، والمشاهدة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«ليس الخبر كالمعاينة» رواه ابن عباس، رضي الله عنهما. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم، إذ قال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الدّاعي» . رواه البخاريّ، ومسلم. فمعناه:

لو كان شاكا لكنّا أحقّ بالشكّ منه، ونحن لا نشكّ، فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك.

والسؤال كان عن حالة الإحياء؛ لأنّ السؤال ب «كيف» إنّما يكون عن حالة شيء موجود متقرّر الوجود عند السّائل، والمسئول، فأراد إبراهيم عليه السلام بهذا السؤال أن يترقّى من علم اليقين إلى عين اليقين، والهمزة في قوله تعالى:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ليست للاستفهام، وإنّما هي ألف إيجاب، وتقرير، مثل قوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ،} {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى} وقال جرير في مدح بني أميّة، وهو الشاهد رقم [11] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح؟

{قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ:} يقرأ بكسر الصّاد، ومعناه: قطّعهنّ، ومزّقهنّ، وقرئ بضمّها، ومعناه: أملهنّ، واضممهنّ. وقد قرئ بضم الصّاد وتشديد الرّاء مضمومة، ومفتوحة، والمعنى: اجمعهن إليك لتتأمّلهنّ، وتعرف صفاتهنّ، لئلا يلتبس عليك أمرهنّ بعد الإحياء، فأخذ طاووسا، وديكا، وغرابا، وحمامة-ومنهم من ذكر النّسر بدل الحمامة-فذبحهنّ، وقطّعهنّ، وخلط لحمهنّ، وجعلهنّ على أربعة جبال، وقيل: سبعة، وأمسك رءوسهنّ بيده، وقال لهنّ:

تعالين بإذن الله، فجعل كلّ جزء يطير إلى الآخر، حتّى صارت جثثا، ثم أقبلن نحوه، فانضممن إلى رءوسهن، وإبراهيم عليه السلام ينظر إليهنّ.

ص: 627

قيل: إنّما أخذ إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-الطيور الأربعة دون غيرها، ولم يعينها له ربّه؛ لأنّ في الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حبّ الزينة والجاه، وفي النّسر: إشارة إلى شدّة الشّغف بالأكل، وفي الدّيك إشارة إلى شدّة الشغف بحب السّفاد، وفي الغراب إشارة إلى شدّة الحرص، ففي هذه الطّيور مشابهة لما في الإنسان من جميع هذه الأوصاف، وفيه إشارة إلى أنّ الإنسان إذا ترك هذه الصفات الذّميمة؛ ارتقى أعلى الدرجات في الجنّة، وفاز بما يتمنّاه فيها.

{ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً:} مسرعات مشيا، أو طيرانا، {وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ:} قويّ لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، فما شاء كان بلا مانع؛ لأنّه القاهر لكلّ شيء، وما لم يشأ لم يكن.

{حَكِيمٌ} في أفعاله، وأحكامه، وقضائه، وقدره. بعد هذا: أما {الطَّيْرِ} فهو اسم جنس جمعي، مثل: خيل، وغنم، وقيل: بل هو جمع طائر، مثل: صحب، وصاحب، ويصحّ إطلاقه على المفرد، والمثنّى، والجمع، والمذكّر، والمؤنّث، وجمع الطير: طيور، وأطيار، مثل: فرخ، وفروخ، وأفراخ. وقال قطرب، وأبو عبيدة: قد يقع الطّير على الواحد، كما في قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [49]:{فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ،} وطائر الإنسان: عمله الذي قلّده، قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [13]:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} والطير أيضا: الاسم من التطيّر، ومنه قولهم: لا طير إلاّ طير الله، كما يقال: لا أمر إلا أمر الله. انتهى مختار الصّحاح.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. ({إِذْ}): ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلّق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، وقيل: مفعول به لهذا الفعل المحذوف. {قالَ إِبْراهِيمُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية في محلّ جرّ بإضافة ({إِذْ}) إليها. {رَبِّ} منادى حذف منه حرف النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلّم المحذوفة للتّخفيف، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلّم المحذوفة في محلّ جرّ بالإضافة، وفي مثل هذا المنادى لغات أخرى: فتح الباء مع حذف الياء: (ربّ)، وإثبات الياء وإسكانها:(يا ربّي)، وإثبات الياء وفتحها:(يا ربّي)، وإثبات الياء وقلبها ألفا:(يا ربّا). قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته: [الرجز]

واجعل منادى صحّ إن يضف ليا

كعبد عبدي عبد عبدا عبديا

وهناك لغة سادسة: بضم الباء والقطع عن الإضافة (يا ربّ)، وبها قرئ قوله تعالى حكاية عن قول يوسف-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:({قالَ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}).

{أَرِنِي:} فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محلّ نصب حال من الموتى، والعامل الفعل {تُحْيِ،} وهو فعل

ص: 628

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل تقديره: أنت. {الْمَوْتى:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان للفعل قبلها، التقدير: أرني كيفيّة إحياء الموتى، وقد علّق الفعل عن العمل بها بسبب الاستفهام، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والكلام:{وَإِذْ قالَ..} . إلخ معطوف على ما قبله في الآية السابقة، فهو يتضمّن عطف قصّة على قصّة كما هو ظاهر.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله، {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وعتاب.

الواو: حرف عطف على محذوف، التقدير: أشككت، ولم تؤمن؟. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم. {تُؤْمِنْ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) والفاعل تقديره: أنت، والمتعلق محذوف، التقدير: بي، وبقدرتي، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {إِبْراهِيمُ}. {بَلى:} حرف جواب في محل نصب مقول القول، وبعدها جملة محذوفة انظر الشرح. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف، ({لكِنْ}):

حرف استدراك مهمل لا عمل له. {لِيَطْمَئِنَّ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {قَلْبِي:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة، والفعل (يطمئن) في تأويل مصدر في محل جرّ باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: سألتك ذلك لاطمئنان قلبي، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المقدّرة بعد {بَلى،} والكلام كلّه في محل نصب مقول القول، وجملة ({قالَ..}.) إلخ مستأنفة لا محل لها. {قالَ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله، {فَخُذْ:} الفاء: هي الفصيحة. (خذ): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَرْبَعَةً:} مفعول به. {مِنَ الطَّيْرِ:} متعلقان بمحذوف صفة {أَرْبَعَةً،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: إذا أردت مشاهدة ذلك؛ فخذ أربعة من الطير، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة {قالَ..}. إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَصُرْهُنَّ:} الفاء: حرف عطف. (صرهنّ): فعل أمر، وفاعله تقديره: أنت، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

قال ابن هشام: وهذا لا يصحّ إذا فسر (صرهن) ب «قطعهنّ» وإنّما تعلقه ب «خذ» ، وأمّا إن فسر ب «أملهنّ» فالتعلق به، وعلى الوجهين يجب تقدير مضاف، أي: إلى نفسك، وانظر التنبيه الآتي، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِجْعَلْ:} فعل أمر، وفاعله:

أنت. {عَلى كُلِّ:} متعلقان بما قبلهما. و {كُلِّ} مضاف، و {جَبَلٍ:} مضاف إليه. {مِنْهُنَّ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {جُزْءاً،} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {ثُمَّ:} حرف عطف. {اُدْعُهُنَّ:} فعل أمر

ص: 629

مبني على حذف حرف العلة، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل تقديره: أنت، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{يَأْتِينَكَ:} فعل مضارع مبني على السكون، وهو في محل جزم جواب الأمر، ونون النسوة فاعله، والكاف مفعول به. {سَعْياً:} حال بمعنى: ساعيات، وقيل: مفعول مطلق للفعل قبله؛ لأنّ السعي، والإتيان متقاربان، فكأنّه قال: يأتينك إيتاء. {وَاعْلَمْ:} الواو: حرف عطف.

({اِعْلَمْ}): فعل أمر، وفاعله تقديره: أنت. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَزِيزٌ حَكِيمٌ:} خبران ل {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي ({اِعْلَمْ})، والكلام كله في محل نصب مقول القول.

تنبيه: قوله تعالى في هذه الآية: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ،} وقوله تعالى في سورة (مريم): {وَهُزِّي إِلَيْكِ..} . إلخ وقوله في سورة (القصص): {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ،} وقوله تعالى في سورة (الأحزاب): {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ،} فقال ابن هشام-طيّب الله ثراه-في هذه الآيات: وهذا كلّه يتخرّج على التعلّق بمحذوف، كما قيل في اللام في:«سعيا لك» ، وإما على حذف مضاف، التقدير: فصرهنّ إلى نفسك، واضمم إلى نفسك جناحك

إلخ، وذلك لأنّه لا يتعدّى فعل المضمر إلى ضميره المتّصل إلا في باب «ظنّ» وأورد قول الأعور الشنّي، وهو الشاهد رقم [257] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [المتقارب]

هوّن عليك فإنّ الأمور

بكفّ الإله مقاديرها

فليس بآتيك منهيّها

ولا قاصر عنك مأمورها

وأيضا الشاهد رقم [267] و [268] من كتابنا المذكور.

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)}

الشرح: لمّا ذكر الله تعالى في الآيات السابقة: أنّ الناس فريقان: أولياء الله، وهم المؤمنون، وأولياء الطّاغوت، وهم الكافرون، ثمّ أعقبه بذكر نموذج للإيمان، ونموذج للطغيان؛ ذكر هنا ما يرغب في الإنفاق في سبيل الله، وخاصّة في أمر الجهاد لأعداء الله.

{مَثَلُ الَّذِينَ..} . إلخ هو على حذف مضاف، التّقدير: مثل نفقة الذين ينفقون {فِي سَبِيلِ اللهِ:} في طاعة الله، وفي وجوه الخير التي يحبّها، ويرضاها، والمراد هنا: الجهاد؛ إذ لا يذكر في القرآن لفظ القتال أو الجهاد إلا ويقرن بكلمة {فِي سَبِيلِ اللهِ،} وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ الغاية من الجهاد بالنفس، والمال غاية شريفة نبيلة، هي إعلاء كلمة الله، لا حبّ السيطرة، أو المغنم، أو الاستعلاء في الأرض، أو غير ذلك من الغايات الدنيئة. {كَمَثَلِ حَبَّةٍ:} الحبة

ص: 630

اسم جنس لكلّ ما يزرعه ابن آدم، ويقتاته، وأشهر ذلك البرّ، فكثيرا ما يراد بالحبّ، ومنه قول المتلمّس، وهو الشاهد رقم [149] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه

والحبّ يأكله في القرية السّوس

وحبّة القلب: سويداؤه، والحبّة بكسر الحاء: بذور البقول ما ليس بقوت، والحبّة بضم الحاء: الحبّ والمحبّة، يقال: نعم، وحبّا، وكرامة، والحبّ بكسر الحاء: الحبيب. {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ} أي: أخرجت ساقا تشعب منه سبع شعب في كلّ واحدة منها سنبلة، وهذا مشاهد في الذّرة، والدّخن، وفي القمح في الأراضي الخصبة، والسّنبلة، والسّبلة بمعنى واحد. وأسند الله تعالى الإنبات إلى الحبّة، لمّا كانت من الأسباب، كما يسند إلى الأرض والماء، والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى، فهو إسناد مجازي، ويسمّى المجاز العقلي، وفي الآية تشبيه مرسل مجمل لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.

{وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} أي: يزيد على سبعمائة، فيكون مثل المتصدّق مثل الزّارع، إن كان حاذقا في عمله، والبذر جيدا، والأرض خصبة يكون الزّرع أكثر، فكذلك المتصدّق إذا كان صالحا، مخلصا، والمال من حلال، ووضعه عند المستحقّ، فيصير الثواب أكثر، والأجر أعظم، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب، ولا يقبل الله إلاّ الطّيّب، فإنّ الله يقبلها بيمينه، ثمّ يربّيها لصاحبها كما يربّي أحدكم فلوّه حتّى تكون مثل الجبل» رواه الشيخان، وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [40]{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} .

{وَاللهُ واسِعٌ:} يسع خلقه كلهم بالكفاية والرزق والجود والعطاء، وهو واسع الفضل والرحمة، وقيل: واسع القدرة، والعلم، والرزق. وقيل: هو الغني الّذي وسع جميع مخلوقاته غناه. {عَلِيمٌ:} بأفعال عباده، ما يغيب عنه منها شيء، قال تعالى:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} .

تنبيه: استدل بهذه الآية على أن اتّخاذ الزرع من أجلّ الحرف التي يتخذها الناس، والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله بها المثل لنفقة المؤمن في سبيل الله، فقال جل ذكره:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ..} . إلخ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم:«ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو بهيمة، أو إنسان إلا كان له صدقة» والزراعة من فروض الكفاية، فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها، وما كان في معناها من غرس الأشجار، حكي عن المعتضد العباسي: أنه قال: رأيت عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه-في المنام، فناولني المسحاة، وقال: خذها فإنّها مفاتيح خزائن الأرض، وروت عائشة-رضي الله عنها-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«التمسوا الرّزق في خبايا الأرض» .

ص: 631

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنهما، وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا حثّ على الصّدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك؛ جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم، وقال: يا رسول الله! كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربّي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت!» وقال عثمان-رضي الله عنه: يا رسول الله! عليّ جهاز من لا جهاز له، وجاء بمال كثير، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ ارض عن عثمان، فإنّي عنه راض!» .

الإعراب: {مَثَلُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ جرّ بالإضافة، وهناك مضاف محذوف، انظر تقديره في الشرح. {يُنْفِقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، {أَمْوالَهُمْ:}

مفعول به، والهاء في محل جرّ بالإضافة، {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، {كَمَثَلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (مثل):

مضاف، و {حَبَّةٍ} مضاف إليه. {أَنْبَتَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {حَبَّةٍ} والجملة الفعلية صفة {حَبَّةٍ}. {سَبْعَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {سَنابِلَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى المجموع، وهي علّة تقوم مقام علتين من موانع الصّرف. {فِي كُلِّ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، و {كُلِّ} مضاف، و {سُنْبُلَةٍ:} مضاف إليه، {مِائَةُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {حَبَّةٍ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل جر صفة {سَنابِلَ} . هذا؛ وجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صفة {سَنابِلَ} و {مِائَةُ} فاعلا بالجار والمجرور، ولكن الأوّل أشهر.

{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهِ}): مبتدأ. {يُضاعِفُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهِ})، والمفعول محذوف، التقدير: الأجر والثواب، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة صلة الموصول، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: للذي، أو: لشخص يشاؤه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}

الشرح: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ:} ذكرت لك في الآية السابقة: أنّ الآيات نزلت في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنهما. {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا:} المنّ

ص: 632

هو: ذكر الصّنيعة، وتعداد النّعمة، والمنّان من بني آدم، هو الذي يعطي العطاء، ثم يذكّر من أعطاه، ويعدّد له ما فعله من الخير، مثل أن يقول له: أعطيتك كذا، وفعلت لك كذا، وصنعت معك كذا، وهو تكدير، وتعيير تنكسر منه القلوب، لذا كان مذموما، يمحق الثواب، ويبطله، بل ويغضب الله تعالى، كما بيّنت الآية الكريمة، التي نحن بصدد شرحها، قال عبد الرحمن بن زيد: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلا شيئا، ورأيت أنّ سلامك يثقل عليه؛ فلا تسلّم عليه، والعرب تمدح بترك المنّ، وكتم المعروف، وتذمّ على إظهاره، والمنّ به، قال قائلهم في المدح بترك المنّ:[الرمل]

زاد معروفك عندي عظما

أنّه عندك مستور حقير

تتناساه كأن لم تأته

وهو في العالم مشهور كبير

وقال قائلهم يذم المنّان بالعطاء: [الطويل]

أتيت قليلا ثم أسرعت منّة

فنيلك ممنون لذاك قليل

وقال آخر: [الطويل]

وإنّ امرأ أسدى إليّ صنيعة

وذكرنيها مرّة للئيم

وقال آخر: [البسيط]

أفسدت بالمنّ ما أسديت من حسن

ليس الكريم إذا أسدى بمنّان

وفي نوابغ الكلم: صنوان: من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضنّ، وفيها: طعم الآلاء أحلى من المنّ، وهو أمر من اللأواء مع المنّ، والمنّ لا يليق إلا في جانب الله تعالى؛ لأنه المتفضل بما يملكه حقيقة، وغيره لا ملك له حقيقة، فلا يليق به المنّ، كيف لا؟ وقد سمّى نفسه سبحانه: المنان.

{أَذىً:} هو أن يشكو منهم بسبب ما أعطاهم، أو يسمعهم كلاما يجرح به كرامتهم.

{لَهُمْ أَجْرُهُمْ:} ثواب أعمالهم، {عِنْدَ رَبِّهِمْ:} العنديّة عنديّة تشريف، لا عنديّة مكان.

{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ:} في الآخرة، ولا فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة. {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ:} على ما خلفوه من الأموال والأولاد؟ ولا على ما فاتهم من الحياة الدنيا، وزهرتها، فلا يأسفون عليها؛ لأنهم صاروا إلى نعيم دائم لا يزول.

تنبيه (بل فائدة): لم يقترن قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} هنا بالفاء، واقترن بها في الآية رقم [274] الآتية، وأيضا في الآية رقم [62]، والفرق بينهما: أنّ الموصول هنا لم يضمّن معنى الشرط بخلافه ثمّة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 633

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يُنْفِقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {أَمْوالَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يُتْبِعُونَ:} مضارع، وفاعله، {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به أول.

{أَنْفَقُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الّذي، أو: شيئا أنفقوه، وإن اعتبرت {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: ثم لا يتبعون إنفاقهم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. {مَنًّا} مفعول به ثان.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): صلة لتأكيد النفي. {أَذىً:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها.

{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {أَجْرُهُمْ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف، أو ب {أَجْرُهُمْ} لأنه مصدر، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون في موضع الحال من المبتدأ، التقدير: فلهم أجرهم ثابتا عند ربهم، وهو غير مسلّم له؛ لأن مجيء الحال من المبتدأ لا يجيزه كثير من النحاة، وعلى رأسهم سيبويه؛ لأن الحال تبين هيئة الفاعل، أو المفعول، ولو قال: متعلّق بمحذوف خبر ثان للمبتدإ، لسلم له و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{لَهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها على الاعتبارين، {وَلا:}

الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية مهملة، أو هي صلة لتأكيد النفي، ولا يجوز إعمالها إعمال ليس؛ لأنها تكرّرت {خَوْفٌ:} مبتدأ. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره، ويجوز تعليقهما ب {خَوْفٌ} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، وعليهما فالخبر محذوف، تقديره: حاصل، أو موجود، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الوجهين فيها، فهي في محل رفع مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): مهملة مثل ما قبلها. {هُمْ:} مبتدأ.

{يَحْزَنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. هذا؛ وقرأ جماعة:(«فلا خوف») بفتح الفاء على اعتبار ({لا}) عاملة عمل «إنّ» التي لنفي الجنس، والاختيار عند النحويين الرفع، والتنوين على الابتداء؛ لأنّ الثاني معرفة، لا يكون فيه إلا الرّفع؛ لأنّ ({لا}) لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا، ليكون الكلام من وجه واحد، ويجوز أن تكون (لا) في قولك:

ص: 634

({وَلا خَوْفٌ}) بمعنى ليس. انتهى. قرطبي. وقد ذكرت لك: أنها إذا تكررت؛ أهملت، أي: لا تعمل عمل «ليس» ، تأمّل، وتدبر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}

الشرح: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ:} كلام حسن، وردّ على السائل جميل، وقيل: عدة حسنة تعده بها. {وَمَغْفِرَةٌ} أي: تستر عليه خلّته، وفقره، ولا تهتك ستره، وقيل: هو أن يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه حال ردّه، وقد قال الرّسول صلى الله عليه وسلم:«الكلمة الطيّبة صدقة، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» . أخرجه مسلم، فيتلقّى السّائل بالبشر، والتّرحيب، ويقابله بالطلاقة، والتقريب؛ ليكون مشكورا؛ إن أعطى، ومعذورا؛ إن منع. وقد قال بعض الحكماء: الق صاحب الحاجة بالبشر، فإن عدمت شكره؛ لم تعدم عوزه، وحكى ابن لنكك: أن أبا بكر بن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة لم يقضها، وظهر له ضجر، فقال:[الكامل]

لا تدخلنّك ضجرة من سائل

فلخير دهرك أن ترى مسئولا

لا تجبهن بالرّدّ وجه مؤمّل

فبقاء عزّك أن ترى مأمولا

تلقى الكريم فتستدلّ ببشره

وترى العبوس على اللّئيم دليلا

واعلم بأنّك عن قليل صائر

خبرا فكن خبرا يروق جميلا

{وَمَغْفِرَةٌ:} المغفرة هنا السّتر للخلّة، وسوء حالة المحتاج، ومن هذا قول الأعرابي، وقد سأل قوما بكلام فصيح، فقال له قائل: ممّن الرّجل؟ فقال له: اللهمّ غفرا، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب. وقيل: المعنى: تجاوز عن السّائل إذا ألحّ، وأغلظ، وجفى خير من التصدّق عليه مع المنّ والأذى، ويجوز أن يكون المعنى: وغفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنّون بها على النّاس.

{يَتْبَعُها أَذىً:} بالمنّ، والتعيير، أو بالكلام الجافي القاسي، {وَاللهُ غَنِيٌّ} أي: مستغن عن صدقة العباد، وهو الغني الكامل الغنى الذي لا يحتاج إلى أحد. {حَلِيمٌ:} أي: يحلم، ويغفر، ويصفح، ويتجاوز عن المنّان بعطيته، والمؤذي للسّائل بقوله، وفعله، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، قال الحليمي-رحمه الله تعالى-في معنى (الحليم): إنّه الذي لا يحبس إنعامه وإفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكنّه يرزق العاصي، كما يرزق المطيع، ويبقيه وهو منهمك في معاصيه، كما يبقي البرّ المتّقي، وقد يقيه الآفات، والبلايا، وهو غافل، لا يذكره، فضلا عن أن يدعوه، كما يقيها الناسك الذي يدعوه، ويسأله، وقال أبو سليمان الخطّابي:(الحليم): ذو الصّفح، والأناة؛ الذي لا يستفزّه غضب، ولا يستخفّه جهل جاهل، ولا عصيان عاص، ولا

ص: 635

يستحقّ الصّافح من العجز اسم (الحليم)، إنّما (الحليم) الصّفوح مع القدرة على الانتقام، المتأنّي الّذي لا يعجّل بالعقوبة.

الإعراب: {قَوْلٌ:} مبتدأ. {مَعْرُوفٌ:} صفة له. {وَمَغْفِرَةٌ:} معطوف على ما قبله.

{خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، {مِنْ صَدَقَةٍ:} متعلقان ب {خَيْرٌ} . {يَتْبَعُها:} فعل مضارع. و (ها):

مفعول به. {أَذىً:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، (الله) مبتدأ. {غَنِيٌّ حَلِيمٌ:} خبران له، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام لا محلّ لها.

هذا؛ وقال أبو البقاء، والقرطبي، ومكّي أوجها أخر في الإعراب: منها اعتبار خبر {قَوْلٌ} محذوفا، التقدير: قول معروف أولى، أو أمثل من غيره. وقال القرطبيّ: قال النحاس: ويجوز أن يكون {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} خبر ابتداء محذوف، أي: الذي أمرتم به قول معروف، وعليه ف {وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ..}. إلخ: مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، وما قدّمته من الإعراب أقوى، وأولى، وهو ما في شرح ابن عقيل، والله وليّ التوفيق، وبه أستعين.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ..} . إلخ: المراد: ثواب صدقاتكم. قال جمهور العلماء في هذه الآية: إنّ الصدقة التي يعلم الله من صاحبها: أنّه يمنّ ويؤذي بها؛ فإنها لا تقبل.

وقيل: بل قد جعل الله للملك عليها أمارة، فهو لا يكتبها، وقال بعض البلغاء: من منّ بمعروفه؛ سقط شكره، ومن أعجب بعمله؛ حبط أجره. قال أبو بكر الورّاق، فأحسن:[مجزوء الرجز]

أحسن من كلّ حسن

في كلّ وقت وزمن

صنيعة مربوبة

خالية من المنن

وقد وردت أحاديث شريفة بالنهي عن المنّ في الصّدقة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذرّ رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» . وعن أبي الدّرداء-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يدخل الجنّة عاقّ، ولا منّان، ولا مدمن خمر، ولا مكذّب بقدر» . رواه ابن مردويه، وأخرجه أحمد، وابن ماجة.

ص: 636

{كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ:} مثّل الله تعالى الّذي يمنّ، ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس لا لوجه الله تعالى، وبالكافر الذي ينفق؛ ليقال: جواد، وليثنى عليه بأنواع الثناء، والرّياء: شرك كما صرحت به الأحاديث الشّريفة الكثيرة، وخذ ما يلي:

عن شدّاد بن أوس-رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام يرائي؛ فقد أشرك، ومن صلّى يرائي؛ فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي؛ فقد أشرك» . رواه البيهقيّ.

وعن محمود بن لبيد-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر» قالوا: ما الشرك الأصغر؟ يا رسول الله! قال: «الرّياء، يقول الله عز وجل إذا جزى النّاس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدّنيا، فانظروا: هل تجدون عندهم جزاء» . رواه الإمام أحمد، والبيهقيّ.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى:

أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري؛ تركته وشركه». أخرجه مسلم.

{وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ} أي: الإيمان الحقيقي. {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ:} هو آخر أيام الدّنيا، فيه الحشر، والنشر، والحساب، والجزاء، ودخول أهل الجنّة الجنّة بالفضل الإلهيّ، ودخول أهل النّار النّار بالعدل الربّانيّ.

{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ:} الصّفوان: الحجر الأملس الكبير، قال الأخفش: وهو جمع، واحده: صفوانة، وقيل: هو اسم جنس كالحجر، وجمعه: صفي، ففيه تشبيه تمثيلي؛ لأنّ وجه الشبه منتزع من متعدّد. {عَلَيْهِ تُرابٌ:} على ذلك الصّفوان تراب يستره، ويغطيه. {فَأَصابَهُ وابِلٌ:} مطر شديد نزل عليه. {فَتَرَكَهُ صَلْداً:} أملس، لا شيء عليه من ذلك التراب، فهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق، والمرائي، والمنّان بصدقته، يؤذي النّاس بمنّه، وتعييره، فيرى الناس: أن لهؤلاء أعمالا في الظاهر، كما يرى التّراب على الصّفوان، فإذا جاء المطر الشّديد؛ أذهبه، وأزاله، وكذلك حال هؤلاء يوم القيامة، تبطل أعمالهم، وتضمحلّ لأنّها لم تكن لله تعالى، كما أذهب المطر ما على الصّفوان من التّراب. هذا؛ والمطر أوّله رشّ، ثمّ طشّ، ثمّ طلّ، ثم هطل، ثم وابل، ثمّ جود، والوابل: المطر الشديد الغزير، قال النّابغة الذبياني:[الطويل]

فلا زال قبر بين بصرى وجاسم

عليه من الوسميّ جود ووابل

فينبت حوذانا وعوقا منوّرا

سأتبعه من خير ما قال قائل

{لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا} أي: لا يقدرون على ثواب شيء ممّا عملوا في الدنيا، وواو الجماعة عائدة على المنّان، والمؤذي، والمرائي، وقيل: عائدة على (الّذي)، وجمع الضمير، كما في قوله تعالى:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} الآية رقم [69] من سورة

ص: 637

(التوبة)؛ لأن المراد به الجنس، أو الجمع، أو الفريق، كما أنّ الضمائر الأربعة السّابقة له باعتبار اللفظ، ومثل هذه الآية الكريمة الآية رقم [17] من هذه السّورة، ومثل الآيات قول الأشهب بن زميلة النّهشلي، وهو الشّاهد رقم [346] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والمكرّر برقم [956] لكلام فيه، وهو:[الطويل]

وإنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

{وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} إلى الخير، والهدى، والرشاد، وفيه تعريض بأنّ الرّياء، والمنّ، والأذى مع إنفاق المال من صفات الكفّار، ولا بدّ للمؤمن إن أراد النّجاة من غضب الله أن يتجنّب هذه الصفات الذّميمة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: ({يا}): أداة نداء تنوب مناب أدعو. ({أَيُّهَا}): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب ({يا})، و (ها): حرف تنبيه، لا محل له من الإعراب، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنّه حينئذ يجب نصب المنادى.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من (أي)، أو عطف بيان عليه.

{آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها. {لا:} ناهية جازمة. {تُبْطِلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب (لا)، وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{صَدَقاتِكُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، {بِالْمَنِّ:} متعلّقان بالفعل قبلهما. {وَالْأَذى:} معطوف على ما قبله مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر. {كَالَّذِي:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، واقع مفعولا مطلقا للفعل قبله، التقدير: لا تبطلوا

إبطالا مثل الذي، وهذا ليس مذهب سيبويه، رحمه الله تعالى، وإنّما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل السابق، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأنّ حذف الموصوف، وإقامة الصّفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها، ومثله في مغني اللّبيب لابن هشام، لذا فالتقدير: لا تبطلوا صدقاتكم مشبهين الّذي

إلخ، فهذا التقدير لا حذف فيه.

{يُنْفِقُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الّذي، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة له، لا محلّ لها. {مالَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، {رِئاءَ:} فيه ثلاثة أوجه: اعتباره صفة لمصدر محذوف، التقدير: إنفاقا رئاء النّاس، ومفعولا لأجله، وحالا، التقدير: مرائيا الناس، والأوّل ضعيف، و {رِئاءَ:} مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {يُؤْمِنُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى

ص: 638

(الذي) أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما، {وَالْيَوْمِ:} معطوف على ما قبله. {الْآخِرِ:} صفة له.

{فَمَثَلُهُ:} الفاء: حرف استئناف، (مثله): مبتدأ، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {كَمَثَلِ:}

متعلّقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، وقيل: معطوفة على جملة الصّلة، فلا محل لها أيضا. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {تُرابٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل جر صفة {صَفْوانٍ} . هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلّقين بمحذوف صفة {صَفْوانٍ} و {تُرابٌ} فاعلا بمتعلّقه، فهو وجه جيّد لا غبار عليه.

(أصابه): فعل ماض، والهاء في محل نصب مفعول به. {وابِلٌ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، فهي في محلّ جرّ مثلها. (تركه): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {وابِلٌ،} والهاء مفعول به أوّل. {صَلْداً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. {لا:} نافية. {يَقْدِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {عَلى شَيْءٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {شَيْءٍ،} و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. وجملة:

{كَسَبُوا:} مع المتعلق المحذوف صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير:

على شيء من الّذي، أو: من شيء كسبوه من الأعمال، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محلّ جرّ ب (من)، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة {شَيْءٍ} التقدير:

من كسبهم. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ، {لا:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثّقل، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}). {الْقَوْمَ:}

مفعول به. {الْكافِرِينَ:} صفة له منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام لا محلّ لها.

{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}

الشرح: {وَمَثَلُ..} . إلخ: وهذا مثل آخر ضربه الله لنفقة المؤمن الكامل الإيمان، المنفق ماله ابتغاء مرضاة الله، وطلبا لرحمته، وكرمه، وجوده، {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: تصديقا، ويقينا، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما، وقال مجاهد، والحسن البصري: معناه: وأنهم يتثبّتون أين يضعون صدقاتهم، وقال الحسن: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت، فإن كان ذلك لله؛ أمضاه، وإن خالطه شكّ؛ أمسك، أقول: وينبغي أن يخص بصدقته الأبرار المتّقين، ويبحث عن الفقراء المتعفّفين، ويخصّ أرحامه الفقراء بشيء من صدقاته، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الصدقة

ص: 639

على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة، وصلة» أخرجه النّسائيّ، والترمذيّ عن سليمان بن عامر-رضي الله عنه.

وروي: أنّ أم المؤمنين ميمونة-رضي الله عنها-أعتقت جارية في سبيل الله، فقال لها سيّد الخلق، الناطق بالصّدق صلى الله عليه وسلم:«أمّا إنّك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» .

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّما رجل أتاه ابن عمّه يسأله من فضله، فمنعه، منعه الله فضله يوم القيامة» أخرجه الطّبرانيّ. هذا؛ وقد قال تعالى في سورتي (الإسراء) و (الروم): {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ،} وقال زهير في معلّقته، انظر شرحها وإعرابها في كتابنا:«فتح الكبير المتعال» : [الطويل]

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستغن عنه ويذمم

{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ:} الجنّة: البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار الكثيفة حتى تغطّيها، وتستر ما فيها، فهي مأخوذة من لفظ: الجنّ، والجنين، لاستتارهم. {أَصابَها وابِلٌ:}

نزل عليها مطر شديد، والرّبوة: المكان المرتفع عن الأرض؛ لأنّ ما ارتفع من الأرض عن سيل الماء والأودية؛ كان ثمرها أحسن، وأزكى، إذا كان لها من الماء ما يرويها، فإذا كانت الأرض بهذه الصّفة؛ كثر ريعها، وحملت أشجارها. قال الأعشى في معلّقته رقم [12] انظر شرحها وإعرابها في كتابنا فتح الكبير المتعال:[البسيط]

ما روضة من رياض الحزن معشبة

خضراء جاد عليها مسبل هطل

أراد بالحزن: ما غلظ، وارتفع من الأرض. {فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ} أي: فأعطت ثمرتها مثلين، قيل: إنّها حملت في سنة من الرّيع ما يحمله غيرها في سنتين. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ:} تأكيد منه تعالى لمدح هذه الرّبوة، فإنها إن لم يصبها وابل فإنّ الطلّ يكفيها، وينوب مناب الوابل في إخراج الثّمرة ضعفين، وذلك لكرم الأرض، وطيبها، والطّلّ: المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف، وقال قوم، منهم مجاهد: الطّلّ: النّدى، فشبّه الله نموّ نفقات هؤلاء المخلصين الّذين يربّي الله لهم صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل، بنمو نبات الحبة بالرّبوة الموصوفة، بخلاف الصّفوان الذي ينكشف عنه ترابه، فيبقى صلدا.

وخرّج مسلم، وغيره عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب-ولا يقبل الله إلا الطّيّب-فإنّ الله يقبلها بيمينه، ثمّ يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل» . {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ:} تحذير من الرياء، وترغيب في الإخلاص؛ أي: فإنّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية، فيجازي كلّ إنسان بما يستحق. وقرئ الفعل بالياء أيضا، كأنّه يريد به الناس أجمع، أو يريد المنفقين فقط، فهو وعد محض.

ص: 640

هذا وفي قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ:} تشبيه تمثيليّ؛ لأنّ وجه الشبه منتزع من متعدّد، كما في قوله تعالى:{كَمَثَلِ صَفْوانٍ} .

هذا و (مثل) بفتح الميم والثاء بمعنى: مثل، ومثيل، وشبه، وشبيه. ومثل: اسم متوغّل في الإبهام، لا يتعرّف بإضافته إلى الضّمير، وغيره من المعارف، ولذلك نعتت به النّكرة في قوله تعالى حكاية عن قول فرعون وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} الآية رقم [47] من سورة (المؤمنون)، ويوصف به المفرد، والمثنى، والجمع، تذكيرا، وتأنيثا، كما في الآية الكريمة، وتستعمل على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى الشبيه، كما في الآية الكريمة، والثاني:

بمعنى نفس الشيء، وذاته، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رقم [11] من سورة (الشورى)، والثالث: زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} الآية رقم [137] من هذه السورة، أي: بما آمنتم.

وأما المثل في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية رقم [24] من سورة (إبراهيم) -على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-فهو القول السائر بين الناس، والذي فيه غرابة من بعض الوجوه، والممثل بمضربه؛ أي: الحالة الأصلية التي ورد الكلام فيها، وما أكثر الأمثال في اللّغة العربية، علما بأنّ الأمثال لا تغيّر، تذكيرا، وتأنيثا، إفرادا، وتثنية، وجمعا، بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل، أي: أصله، مثل (الصّيف ضيّعت اللّبن) فإنّه يضرب لكلّ من فرّط في تحصيل شيء في أوانه، ثم طلبه بعد فواته.

هذا؛ وأصاب فلانا البلاء: وقع عليه، وأصابهم المطر: نزل عليهم، كما في هذه الآية وسابقتها، وتقول: أصاب السّهم، يصيب، فلم يخطئ هدفه، وأصاب الرجل في قوله، أو في رأيه: أتى الصواب. ويأتي «أصاب» بمعنى: قصد، وأراد، قال تعالى في حق سليمان-على نبينا وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} .

قال الشاعر: [المتقارب]

أصاب الكلام، فلم يستطع

فأخطا الجواب لدى المفصل

فائدة: قال مكيّ بن أبي طالب القيسيّ-رحمه الله تعالى-في التركيب {فَإِنْ لَمْ يُصِبْها} ونحوه: دخلت (إن) على (لم) ليرتدّ الفعل إلى أصله في لفظه، وهو الاستقبال؛ لأنّ «لم» تردّ لفظ المستقبل إلى معنى المضي، و «إن» ترد الماضي إلى معنى الاستقبال، فلمّا صارت «لم» ولفظ المستقبل بعدها بمعنى الماضي؛ ردتها «إن» إلى الاستقبال؛ لأن «إن» ترد الماضي إلى معنى الاستقبال. انتهى.

الإعراب: ({مَثَلُ}): مبتدأ، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وهناك مضاف محذوف؛ إذ التقدير: ومثل نفقة الذين. و {يُنْفِقُونَ:} فعل مضارع

ص: 641

مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {أَمْوالَهُمُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {اِبْتِغاءَ:} مفعول لأجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال، واستحسن لعطف ({تَثْبِيتاً}) عليه، و {اِبْتِغاءَ} مضاف، و {مَرْضاتِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {مَرْضاتِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، {وَتَثْبِيتاً:} معطوف على ما قبله، {مِنْ أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان ب ({تَثْبِيتاً}) والهاء في محل جر بالإضافة، كمثل: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و ({مَثَلُ}) مضاف، و {جَنَّةٍ:} مضاف إليه.

{بِرَبْوَةٍ:} متعلقان بمحذوف صفة ({جَنَّةٍ})، والجملة الاسمية:({مَثَلُ..}.) إلخ معطوفة على ما قبلها.

{أَصابَها:} فعل ماض، و (ها): مفعول به، {وابِلٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل {جَنَّةٍ} أو صفة (ربوة)؛ لأنّ الجنة بعض الرّبوة، ويجوز أن تكون في محل نصب حال من {جَنَّةٍ} يعد وصفها بما تقدّم. (آتت): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهي محذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة، والفاعل يعود إلى (الجنّة)، والمفعول الأول محذوف، التقدير: فآتت صاحبها. {أُكُلَها:} مفعول به ثان، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

{ضِعْفَيْنِ} حال من {أُكُلَها} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه مثنّى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُصِبْها:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} وهو في محل جزم فعل الشرط، و (ها): مفعول به. {وابِلٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفية. {فَطَلٌّ:} الفاء: واقعة في جواب الشّرط، (طلّ): مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: فطلّ يكفيها، أو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالذي يصيبها طلّ، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد، و (إنّ) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهِ}): مبتدأ. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب {بَصِيرٌ} الآتي، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {تَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

بالذي، أو: بشيء تعملونه بصير، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر، التقدير: بعملكم بصير. {بَصِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام لا محلّ لها، الغرض منها: التّهديد، والوعيد.

ص: 642

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}

الشرح: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ:} الخطاب لكلّ عاقل يتأتّى له التفكّر، والاعتبار، والاتعاظ، والمعنى: أيحبّ، ويتمنّى أحدكم مثل ما ذكر في هذه الآية الكريمة:{أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ:} بستان فيه الأشجار المختلفة، التي من جملتها النّخيل، والأعناب، وخصّ الله هذين النّوعين بالذّكر لشرفهما، وكثرة منافعهما، و {نَخِيلٍ} فيه قولان: أحدهما: أنّه اسم جمع، واحده: نخلة، والثاني: جمع: نخل؛ الذي هو اسم جنس، و ({أَعْنابٍ}) جمع: عنب؛ الذي هو اسم جنس جمعي، مثل: تمر، ويفرّق بينه وبين واحده بالتاء، وهي عنبة، وتمرة.

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي: من تحت أشجار النّخيل، والعنب، وكذلك من تحت القصور. {لَهُ} أي: لأحدكم. {فِيها:} في الجنة المذكورة. {مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ:} من كل أنواع الثّمار غير النخيل، والأعناب، وهذا يدلّ على أنّ تلك الجنّة احتوت على سائر أنواع الأشجار، والثمار، {وَأَصابَهُ الْكِبَرُ:} أدركه الشيخوخة، والعجز، والهرم. {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ:}

أولاد صغار لا يقدرون على الكسب لضعفهم، وعجزهم. {فَأَصابَها إِعْصارٌ:} رياح شديدة عاتية. {فِيهِ نارٌ:} ملتهبة شديدة. {فَاحْتَرَقَتْ} أي: أحرقت النار تلك الجنّة بما فيها.

{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ..} . إلخ: أي: مثل هذا البيان الواضح في هذا المثل الرائع الحكيم يبين الله لكم دلائل قدرته في كتابه الحكيم؛ لكي تتفكروا، وتتدبّروا بما فيها من العبر والعظات، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ} رقم [43] من سورة (العنكبوت)، وفي الآية الكريمة استعارة تمثيلية، وهي تشبيه حال بحال لم يذكر فيه سوى المشبه به فقط، وقامت قرائن تدلّ على إرادة التشبيه، وانظر التفكر في (آل عمران) رقم [191]. بعد هذا: في الآية الكريمة مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق، والمرائي، والمنّان، يقول: مثل عمل هؤلاء في حسنه كحسن جنّة، ينتفع بها صاحبها، فلما كبر، وضعف، وصار له أولاد صغار ضعاف أصاب جنته إعصار شديد، فيه نار، فأحرقتها، وهو أحوج ما يكون إليها، فحصل في قلبه من الغمّ، والحسرة ما لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لكبره، وضعفه، وضعف أولاده، فهو لا يجد ما يعود به على أولاده، وهم لا يجدون ما يعودون به عليه، فبقوا جميعا متحسّرين، عجزة، لا حيلة لهم، فكذلك حال من أتى يوم القيامة بأعمال حسنة، ولم يقصد بها وجه الله تعالى، فيبطلها الله؛ وهو في غاية الحاجة إليها، حين لا مستعتب له، ولا توبة، وخذ ما يلي: فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 643

«يؤتى يوم القيامة بصحف مختّمة، فتنصب بين يدي الله تعالى، فيقول الله تبارك وتعالى: ألقوا هذه، واقبلوا هذه، فتقول الملائكة: وعزّتك وجلالك ما رأينا إلاّ خيرا، فيقول الله عز وجل: إنّ هذا كان لغير وجهي، وإنّي لا أقبل إلاّ ما ابتغي به وجهي» رواه الطبرانيّ، والبيهقيّ، والبزار.

وقال عبيد بن عميرة: قال عمر-رضي الله عنه-يوما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون نزلت هذه الآية: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ..} . إلخ؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر-رضي الله عنه، وقال: قولوا: نعلم، أو: لا نعلم، فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! فقال عمر: قل يا بن أخي، ولا تحقر نفسك، فقال: ضرب الله مثلا لعمل، قال:

لأيّ عمل؟ قال: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشّيطان، فعمل بالمعاصي؛ حتّى أحرق أعماله كلّها، أخرجه البخاري. انتهى. خازن.

الإعراب: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار ({يَوَدُّ أَحَدُكُمْ}): مضارع، وفاعله، والكاف في محل جرّ بالإضافة. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب (أن). {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم على نقصانه، ومتعلقان به على تمامه.

{جَنَّةٌ} اسم {تَكُونَ} مؤخّر، أو فاعل به، والمصدر المؤوّل: من: {أَنْ تَكُونَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{أَيَوَدُّ..} . إلخ مستأنفة في الإعراب، ومتّصلة بما قبلها في المعنى. {مِنْ نَخِيلٍ:} متعلقان بمحذوف صفة جنة. {وَأَعْنابٍ:} معطوف على ما قبله.

{تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان به. و (ها) في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعل {تَجْرِي} والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل {جَنَّةٌ} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدّم، وأجاز مكيّ اعتبارها في محل نصب خبر {تَكُونَ}. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف. أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. هذا؛ والمبتدأ محذوف والجار والمجرور: {مِنْ كُلِّ} متعلقان بمحذوف صفة، وتقدير الكلام: له فيها ثمر، أو: رزق كائن من كل الثمرات، والجملة الاسمية يجوز فيها ما جاز في الجملة الفعلية التي قبلها من اعتبارات، و {كُلِّ} مضاف، و {الثَّمَراتِ} مضاف إليه.

{وَأَصابَهُ} الواو: واو الحال. ({أَصابَهُ}): فعل ماض، والهاء مفعوله. {الْكِبَرُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ باللاّم، وهي على تقدير «قد» قبلها، والرابط الواو، والضمير، وهي حال متداخلة. ({لَهُ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {ذُرِّيَّةٌ:} مبتدأ مؤخر. {ضُعَفاءُ:} صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، وقال الجمل: هي حال من الضمير المنصوب،

ص: 644

فتكون حالا متداخلة أيضا، وجملة:{فَأَصابَها إِعْصارٌ} معطوفة على صفة الجنّة، قاله أبو البقاء، يعني: على قوله: {مِنْ نَخِيلٍ} وما بعده. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {نارٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صفة {إِعْصارٌ} . هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور متعلّقين بمحذوف صفة {إِعْصارٌ،} واعتبار {نارٌ} فاعلا في الجار والمجرور.

{فَاحْتَرَقَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {نارٌ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (أصابها {إِعْصارٌ}) فهي من جملة صفة ({جَنَّةٌ}) أيضا.

{كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه، وجر. و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلّقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل الذي بعده، التقدير: يبين الله دلائل قدرته، وفوائد حكمته تبيينا مثل تبيينه حال أعمال المنافقين والمرائين والمنّانين، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {يُبَيِّنُ اللهُ:} مضارع وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم.

{لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تَتَفَكَّرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة في محل رفع خبر:(لعلّ) والجملة الاسمية في محل نصب حال من ضمير الخطاب، والرابط: الضمير فقط، وبعضهم يعتبرها للتعليل لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ انظر الآية رقم [254]، وهو خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان سبب النزول خاصّا كما ستعرفه. {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ:} المراد به الحلال كما في قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [92]: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ} هذا وظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة الذهب، والفضة، وعروض التجارة؛ لأنّ ذلك يوصف بأنّه مكتسب، وجمهور العلماء على وجوب الزكاة في مال التّجارة، دليل ذلك ما روي عن سمرة بن جندب-رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإخراج الصدقة من الذي يعدّ للبيع. أخرجه أبو داود.

وعن أبي عمرو بن خماس: أن أباه، قال: مررت بعمر بن الخطاب-رضي الله عنه، وعلى عنقي أدمة أحملها، فقال عمر: ألا تؤدي زكاتك يا خماس؟ فقلت: ما لي غير هذا، وأهب في القرظ، قال: ذاك مال فضع، فوضعتها، فحسبها، فأخذ منها الزكاة.

ص: 645

فإذا حال الحول على عروض التّجارة، قوّمت، فإن بلغت قيمتها النّصاب أخرج منها ربع العشر. وخذ ما يلي:

عن المقدام-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاما قطّ خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبيّ الله، داود كان يأكل من عمل يده» أخرجه البخاريّ.

وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنّ أولادكم من كسبكم» أخرجه الترمذيّ، والنسائي.

{وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ:} ظاهر الآية يدلّ على وجوب الزّكاة في كل ما خرج من الأرض من النبات، ممّا يزرع الآدميون، لكن جمهور العلماء خصّصوا هذا العموم، فأوجبوا الزكاة في النّخيل والكروم، وفيما يقتات، ويدّخر من الحبوب، وأوجب أبو حنيفة رضي الله عنه الزكاة في كلّ ما يقصد من نبات الأرض، كالفواكه، والبقول، والخضراوات، كالبطيخ، والقثاء، والخيار، ونحو ذلك، دليل الجمهور ما روي عن معاذ-رضي الله عنه: أنّه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضروات، وهي البقول: فقال: «ليس فيها شيء» أخرجه الترمذيّ، وقال الزهريّ، والأوزاعيّ، ومالك: تجب الزكاة في الزّيتون، وتجب في الثّمار عند بدوّ الصلاح، وهو أن يحمرّ البسر، ويصفرّ وقت الإخراج بعد الاجتناء، والجفاف، وفي الحبوب عند الاشتداد، ووقت الإخراج بعد الدراس، والتصفية.

{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي: ولا تقصدوا الرديء من أموالكم. {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي:

من الخبيث، عن البراء بن عازب-رضي الله عنه-قال: نزلت الآية فينا معشر الأنصار؛ كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين، فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع؛ أتى القنو، فضربه بعصاه، فسقط البسر، أو التمر، فيأكل، وكان الناس ممّن لا يرغب في الخير، فيأتي بالقنو، فيه الشّيص، والحشف، وبالقنو قد انكسر، فيعلقه، فأنزل الله تعالى الآية.

{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي: لو أنّ أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى؛ لم يأخذه إلا على إغماض، وحياء؛ فكيف تؤدّون منه حق الله تعالى؟! قال البراء-رضي الله عنه: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده، أخرجه الترمذي. هذا؛ والإغماض في اللغة: غض البصر، وإطباق الجفن، والمراد به هنا: التجوّز والمساهلة؛ لأنّ الإنسان إذا رأى ما يكره؛ أغمض عينيه؛ لئلا يرى ذلك، ففي الكلام مجاز مرسل، أو استعارة، ومن ذلك قول الطرماح:[الخفيف]

لم يفتنا بالوتر قوم وللذّ

لّ أناس يرضون بالإغماض

وقد يحتمل أن يكون منتزعا من تغميض العين؛ لأنّ الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عينيه، قال الشاعر:[الطويل]

ص: 646

إلى كم وكم أشياء منك تريبني؟

أغمّض عنها العين ليست بذي عمى

وإمّا من قول العرب: أغمض الرجل: إذا أتى غامضا من الأمر. هذا {وَلَسْتُمْ:} حذفت عينه لالتقاء الساكنين: الياء والسين، إذ أصله: ليس: بكسر الياء، ثم سكنت الياء للتخفيف، ولم تقلب ألفا على القياس؛ لأنّ التخفيف بالتّسكين في الجامد أسهل من القلب، فلمّا اتصل بضمير رفع متحرك؛ سكنت العين، فالتقى ساكنان: الياء والسين فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، {وَاعْلَمُوا} أيقنوا:{أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ:} عن نفقاتكم، فلم يأمركم بها لاحتياجه إليها، بل لنفعكم بها، واحتياجكم لثوابها، فينبغي لكم أن تتحروا فيها الطيب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّبا

» إلخ الحديث أخرجه مسلم-رحمه الله تعالى-عن أبي هريرة-رضي الله عنه، ويراد بالطيب في هذه الحديث الحلال، كما يراد منه الجيد، وذكرت لك في الآية رقم [265] قوله صلى الله عليه وسلم: «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب

» إلخ. {حَمِيدٌ:} محمود على أفعاله، وعلى كلّ حال من التعذيب، والإثابة، والخير، والشر، وهو سبحانه مستحقّ للحمد في ذاته، محمود، تحمده الملائكة، وتنطق بحمده ذرات المخلوقات.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ:} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [264]. {مِنْ طَيِّباتِ:} متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف، التقدير: أنفقوا شيئا كائنا من طيبات، أو هما متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعول به؛ لأن {مِنْ} للتبعيض، و {طَيِّباتِ:} مضاف، و {ما} في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {كَسَبْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: طيبات الذي، أو: طيبات شيء كسبتموه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: طيبات كسبكم. {وَمِمّا:} الواو:

حرف عطف. ({مِمّا}): جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما، وهناك محذوف، تقديره: ومن طيبات ما أخرجنا، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة، وهي في محل جر بإضافة ذلك المحذوف إليها. {أَخْرَجْنا:} فعل وفاعل. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، وتقدير الكلام: ومن طيبات الذي، أو: شيء أخرجناه لكم. {مِنَ الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المقدر الواقع مفعولا به.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَيَمَّمُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{الْخَبِيثَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَنْفِقُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها، الأولى بالابتداء، والثانية بالإتباع. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. وأجيز

ص: 647

تعليقهما ب {الْخَبِيثَ} أو بمحذوف حال منه، والأول أقوى. {تُنْفِقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْخَبِيثَ،} والرابط: الضمير المجرور محلاّ ب ({مِنْ}) وهو مما يقوي التعليق به، وعلى التعليق ب {الْخَبِيثَ} فتحتاج الجملة إلى تقدير رابط، التقدير: تنفقونه.

{وَلَسْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({لَسْتُمْ}): فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور، {بِآخِذِيهِ:} الباء: حرف جر صلة. (آخذيه):

خبر (ليس) مجرور لفظا منصوب محلاّ، وعلامة الجر اللفظي، والنصب المحلي الياء نيابة عن الكسرة، والفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:({لَسْتُمْ..}.) إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو، والضمير {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {تُغْمِضُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: إلا بإغماضكم، والجار والمجرور متعلقان ب (آخذيه) وأجاز أبو البقاء اعتبار المصدر المؤول في محل نصب على الحال، والعامل فيه (آخذيه) والمعنى:

لستم بآخذيه في حال من الأحوال إلا في حال الإغماض. {فِيهِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَاعْلَمُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {أَنْفِقُوا..} . إلخ وما عطف عليها، والاستئناف ممكن بالإعراض عمّا قبلها.

{الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)}

الشرح: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ:} يخوّفكم من الفقر، وانظر الآية رقم [271] الآتية. هذا؛ والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير، وإذا قيّد بالموعد ما هو، فقد يقدر بالخير، وبالشرّ، كالبشارة، لكنّ الوعيد لا يكون إلا بالشرّ. هذا و (يعد) أصله: يوعد فحذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها، وهما الياء والكسرة في مضارع الغائب، وتحذف من مضارع المتكلّم، والمخاطب قياسا عليه. {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ:} بالبخل، ومنع الزّكاة، والصّدقة. قال الكلبيّ:

كلّ فحشاء في القرآن فهي الزنى إلا هذا الموضع، وفي هذه الآية لطيفة، وهي أن البخل صفة مذمومة عند كلّ أحد، فلا يستطيع الشّيطان أن يحسّن له البخل إلا بتلك المقدّمة، وهي التخويف من الفقر، فلهذا قال تعالى:{الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ..} . إلخ. هذا والفعل ({يَأْمُرُكُمْ}) وما فيه «أمر» يتعدّى لمفعولين، تارة بنفسه، كما في قولك: أمرتك الخير، وقال عمرو بن معدي كرب الزّبيدي

ص: 648

-رضي الله عنه، وهو الشاهد رقم [597] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» رقم [485] من كتابنا: «فتح رب البرية» : [البسيط]

أمرتك الخير، فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

وتارة يتعدّى إلى الثاني بحرف الجر، كما في قولك: أمرتك بالخير، ومثله: استغفر، واختار، وكنى، وسمّى، ودعا، وصدّق، وزوّج، وكان، ووزن، قال الشاعر: وهو الشّاهد رقم [486] من كتابنا فتح ربّ البرية: [البسيط]

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد، إليه الوجه والقبل

وقد تحذف الهمزة من أمره، فتقول: مر، كما تحذف من أمر: أخذ، يأخذ، فتقول: خذ، وتحذف من أمر: أكل يأكل، فتقول: كل، والأصل: اؤمر، وأؤخذ، واؤكل، فحذفت الهمزتان من الأفعال الثلاثة لاجتماع الضّمّات، وقد قالوا: اؤمر أؤخذ، فاستعمل على الأصل، ومنه اؤمر في الآية رقم [145] من سورة (الأعراف)، وفي الآية رقم [132] من سورة (طه)، والآية رقم [17] من سورة (لقمان).

{وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ:} لذنوبكم، وسترا لعيوبكم، وخلفا لما تنفقون زائدا عن الأصل، ورزقا حسنا. {وَفَضْلاً:} كرما، وجودا منه تعالى، فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، والفضل إشارة إلى منافع الدنيا، وما يحصل من الرّزق، والخلف. {وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ:} انظر الآية رقم [261] ففيها الكفاية، وخذ ما يلي:

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ للشّيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمّة، فأمّا لمّة الشّيطان فإيعاد بالشرّ، وتكذيب بالحقّ، وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير، وتصديق بالحقّ، فمن وجد ذلك؛ فليعلم: أنّه من الله تعالى، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى؛ فليتعوّذ بالله من الشّيطان، ثمّ قرأ: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ..}. إلخ» . أخرجه الترمذيّ، والنّسائي، وغيرهما.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخرج رجل شيئا من الصّدقة حتّى يفكّ عنها لحيي سبعين شيطانا» . أخرجه الإمام أحمد.

طرفة: يروى: أنّ واعظا ذكر هذا الحديث في مجلس وعظه. فتحمّس أحد السّامعين، وقال: أنا أفك لحيي سبعين شيطانا السّاعة، فذهب إلى بيته، فملأ ذيله من القمح، أو الشعير، فتعلّقت به زوجته، وأخذت تتلتله، وتقول له: الله يساعدنا نحن كذا.. نحن كذا حتى ألقت ما في ذيله في العتبة، فرجع خائبا، فقال له الواعظ: ما لك؟ فقال: غلبت سبعين شيطانا، فجاءت أمّهم، فغلبتني.

هذا؛ والشيطان: اسم يطلق على عدو الله إبليس، وقد يطلق على كلّ نفس عاتية خبيثة، خارجة عن الصراط المستقيم من الإنس، والجن، والحيوان، وما أكثر الشيطان بهذا المعنى من بني آدم، قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [112]:{وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي}

ص: 649

{بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} انظر شرحها هناك، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ الغفاري-رضي الله عنه:«يا أبا ذرّ تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجنّ» . قال: أو للإنس شياطين؟ قال: «نعم» . ولا تنس أنّ لكلّ واحد من بني آدم شيطانا بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة-رضي الله عنها، وقد رآها غضبى:«أجاءك شيطانك؟» قالت: أولي شيطان؟ قال: «نعم؛ ما من أحد إلاّ وله شيطان» قالت:

وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا؛ إلاّ أنّني أعانني الله عليه فأسلم، فلا يأمر إلاّ بخير» . يروى بضم الميم وفتحها. هذا والشيطان: واحد الشياطين، مأخوذ من: شطن: إذا بعد، والنّون أصلية، فهو مصروف على هذا، وسمّي الشّيطان شيطانا لبعده عن الحقّ، وتمرّده عليه، قال جرير:[البسيط]

أيّام يدعونني الشّيطان من غزل

وهنّ يهوينني إذ كنت شيطانا

وقيل: مأخوذ من شاط: إذا احترق، وشاط: بطل، فالنون زائدة، وعليه فهو غير مصروف، و «شطن» من باب: قعد، و «شاط» من باب: ضرب. هذا؛ واشتاط الرّجل: إذا احتد غضبا، واشتاط: إذا هلك، قال الأعشى في معلقته رقم [64]:[البسيط]

قد نخضب العير في مكنون فائله

وقد يشيط على أرماحنا البطل

ويقوي الاعتبار الأول، ويضعف الثاني: أنّ سيبويه-رحمه الله تعالى-حكى: أنّ العرب تقول: تشيطن فلان: إذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بيّن أنه تفيعل من: شطن، ولو كان من شاط؛ لقالوا: تشيّط.

الإعراب: {الشَّيْطانُ:} مبتدأ. {يَعِدُكُمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانُ،} والكاف مفعول به أول. {الْفَقْرَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {وَيَأْمُرُكُمْ:} الواو: حرف عطف. ({يَأْمُرُكُمْ}): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانُ،} والكاف مفعول به.

{بِالْفَحْشاءِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:({اللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً}): معطوفة على سابقتها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {مِنْهُ:}

جار ومجرور متعلقان ب {مَغْفِرَةً} . {وَفَضْلاً:} معطوف على {مَغْفِرَةً،} وقد حذف متعلقه لدلالة ما قبله عليه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)}

الشرح: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنها: يعني: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله، وقال مجاهد

ص: 650

رحمه الله تعالى: الحكمة ليست بالنبوة، ولكنّه العلم، والفقه، والقرآن، وقال أبو العالية-رحمه الله تعالى-: الحكمة: خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة. وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود-رضي الله عنه، مرفوعا عن أنس قال صلى الله عليه وسلم:«رأس الحكمة مخافة الله» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [129] فإنّه جيد، والحمد لله!.

{مَنْ يَشاءُ} أي: يريد الله من عباده {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ..} . إلخ، أي: من أعطي، ومنح الحكمة؛ فقد أعطي الخير الكثير لمصير صاحبها إلى السّعادة الأبدية، لذا فأصل الحكمة:

المنع، ومنه: حكمة الدابة؛ لأنها تمنعها من النفور، والجماح، قال الشاعر:[الكامل]

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

{وَما يَذَّكَّرُ} أي: وما يتّعظ، وينتفع بما وعظه الله، وأصل الفعل: يتذكر، فقلبت التاء ذالا، ثمّ أدغمتا. {إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ} أي: أصحاب العقول السليمة والقلوب الفاهمة، ولا واحد له من لفظه، وإنّما واحده «ذي» المضاف إن كان مجرورا، و «ذا» المضاف إن كان منصوبا، و «ذو» المضاف إن كان مرفوعا، و {الْأَلْبابِ} جمع: لب، وهو العقل الخالي من الهوى، سمّي بذلك لأحد وجهين: إمّا لبنائه من: لبّ بالمكان: أقام به، وإمّا من: اللّباب، وهو الخالص من كلّ شائبة. هذا؛ واللبيب: العاقل الفاهم، والجمع: ألباء، والأنثى: لبيبة، وجمعها: لبيبات، ولبائب، واللّب: خالص كلّ شيء.

الإعراب: {يُؤْتِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله). {الْحِكْمَةَ:} مفعول به أول. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبني على السّكون في محلّ نصب مفعول به. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية صلة {مَنْ} أو صفته، والعائد أو الرابط محذوف، إذ التقدير: الذي، أو شخصا يشاؤه، والجملة الفعلية:{يُؤْتِي..} . إلخ: في محل نصب حال من لفظ الجلالة في الآية السابقة، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {وَمَنْ:} الواو: واو الحال، {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُؤْتَ:} فعل مضارع مبني للمجهول فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: هو يعود إلى {مَنْ} وهو المفعول الأول.

{الْحِكْمَةَ:} مفعول به ثان. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط «قد» : حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أُوتِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل تقديره (هو) يعود إلى {مَنْ} أيضا، وهو المفعول الأول. {خَيْراً:} مفعول به ثان. {كَثِيراً:} صفة له، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشّرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل:

الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ في محل نصب حال من مفعول {يَشاءُ} المحذوف، والرابط: الواو فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

ص: 651

{وَما:} الواو: حرف عطف. ({ما}): نافية. {يَذَّكَّرُ:} فعل مضارع. {إِلاّ:} حرف حصر.

{أُولُوا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم.

و {أُولُوا} مضاف، و {الْأَلْبابِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة السابقة على الوجهين المعتبرين فيها، أو هي مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام. لا محلّ لها على الاعتبارين.

{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)}

الشرح: {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ:} قليلة، أو كثيرة، طاعة، أو معصية، سرّا، وعلانية، واجبة كالزّكاة، والكفّارات على اختلاف أنواعها، أو غير واجبة كصدقة التّطوّع. {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ:} بشرط، أو بغير شرط، في طاعة، أو في معصية، وفّيتم به، أم لم توفّوا به. {فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ:} لا يخفى عليه، وهو مجازيكم به، وإنّما وحّد الضمير مع أنّه عائد على النّفقة، والمنذر، أي: فلم يقل: يعلمهما؛ لأنّ ردّ الضمير على الثاني منهما، فهو كقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [112]:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} وقوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [62]: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ،} وقيل: إن الكناية عادت على ما في قوله: {وَما أَنْفَقْتُمْ} لأنّها اسم، فهو كقوله تعالى:{وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} رقم [231]، كما أنشد سيبويه لامرئ القيس وهو في معلقته:[الطويل]

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل

قال ابن عطية رحمه الله تعالى: ووحد الضمير في {يَعْلَمُهُ،} وقد ذكر شيئين من حيث أراد: ما ذكر، أو نصّ. {وَما لِلظّالِمِينَ} أي: الواضعين الصدقة في غير موضعها، وقيل: الذين يريدون بصدقاتهم الرياء، والسمعة، وقيل: هم الذين يتصدّقون بالمال الحرام، وقيل: لمن منع الزكاة، أو صرف المال في معاصي الله. {مِنْ أَنْصارٍ:} من أعوان يدفعون عنهم عذاب الله تعالى، ففيه وعيد شديد، وتهديد عظيم، وخذ ما يلي:

فعن عائشة-رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه» . أخرجه البخاري.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر نذرا لم يسمّه؛ فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية؛ فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه؛ فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا، فأطاقه فليف به» أخرجه أبو داود.

وعن عمران بن حصين-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم» . أخرجه النّسائيّ.

ص: 652

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال:«إنّه لا يأتي بخير، وإنّما يستخرج به من البخيل» متفق عليه.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ النّذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدّره له، ولكن النّذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» . أخرجه مسلم.

قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون سبب النّهي عن النذر كون الناذر يصير ملتزما مالا، فيأتي به تكلّفا من غير نشاط، أو يكون سببه كونه يأتي على سبيل المعاوضة عن الأمر الّذي طلبه، فينقص أجره، وشأن العبادة أن تكون متمحّضة لله تعالى، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون النّهي؛ لكونه قد يظنّ بعض الجهلة أنّ النذر يردّ القدر، أو يمنع من حصول المقدور، فنهي عنه خوفا من اعتقاد ذلك، وسياق الحديث يؤكّد هذا.

وقوله في بعض روايات الحديث: «إنّه لا يأتي بخير» ، «إنه لا يردّ شيئا من القدر» وقوله:

«فيخرج بذلك من البخيل، ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» معناه: أنّه لا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدأ، وإنّما يأتي بها في مقابلة شيء يريده، كقوله: إن شفى الله مريضي؛ فلله عليّ كذا، ونحو ذلك ممّا يحصل بالنّذر، والله أعلم! انتهى. خازن.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محلّ نصب مفعول به مقدّم لفعل شرطه. {أَنْفَقْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها من الإعراب. {مِنْ نَفَقَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من ({ما}). و {مِنْ:} بيان لما أبهم فيها.

{مِنْ نَذْرٍ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة ب {أَوْ} على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشّرط. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}

اسمها. {يَعْلَمُهُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشّرط، والشرط ومدخوله كلام مستأنف لا محل له.

هذا وجوز اعتبار ({ما}) موصولة مبنية على السكون في محلّ رفع مبتدأ، والجملة بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: الذي أنفقتموه، والجار والمجرور {مِنْ نَفَقَةٍ:} متعلقان بمحذوف من العائد المحذوف، العائد على ({ما})، والجملة الاسمية: (إن

) إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على هذا الاعتبار مستأنفة، لا محل لها، كما في الوجه الأول.

{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {لِلظّالِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أَنْصارٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة

ص: 653

على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجرّ الزائد. هذا؛ وهناك من يجيز اعتبار {أَنْصارٍ} فاعلا بالجار والمجرور قبله لاعتماده على النفي، ولم يذكر تعليق الجار والمجرور، فهما متعلقان بفعل محذوف، تقديره: وما يوجد للظالمين أنصار. هذا؛ وإن اعتبرت ({ما}) نافية حجازية تعمل عمل ليس، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبرها مقدّما، و {أَنْصارٍ} اسمها مؤخر، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي في محلّ نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، والرابط: الواو فقط، أو هي مستأنفة، أو معترضة اعتراضا تذييليّا في آخر الكلام، لا محلّ لها على الوجهين.

{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}

الشرح: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ} أي: تجهروا بها، وتظهروها، والصّدقة: ما يخرجه المسلم من ماله على وجه القربة، فيدخل فيه الزّكاة الواجبة، وصدقة التطوّع. {فَنِعِمّا هِيَ} أي: فنعمت الخصلة هي، فهذا ثناء على الجهر بها، وإظهارها. {وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ:} فهذا حكم على أنّ الإخفاء خير من الجهر بها، ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف؛ فاستره، وإذا اصطنع إليكم فانشروه. قال دعبل الخزاعي في ممدوحيه:[المتقارب]

إذا انتقموا أعلنوا أمرهم

وإن أنعموا أنعموا باكتتام

وقال سهل بن هارون: [البسيط]

خلّ إذا جئته يوما لتسأله

أعطاك ما ملكت كفّاه واعتذرا

يخفي صنائعه، والله يظهرها

إنّ الجميل إذا أخفيته ظهرا

وقال العبّاس عم النبي صلى الله عليه وسلم-رضي الله عنه: لا يتمّ المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله، وتصغيره، وستره، فإذا عجّلته؛ هنيته، وإذا صغّرته؛ عظّمته، وإذا سترته؛ أتممته، وقال بعض الشعراء، فأحسن:[الرمل]

زاد معروفك عندي عظما

أنّه عندك مستور حقير

تتناساه كأن لم تأته

وهو عند النّاس مشهور خطير

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: جعل الله صدقة السرّ في التطوّع تفضل علانيتها، يقال:

بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفا، قال: وكذلك جميع الفرائض، والنّوافل في الأشياء كلّها، أي: في الصّلاة، والصّوم، وغيرهما.

ص: 654

هذا واتّفق العلماء على أنّ كتمان صدقة التطوع أفضل، وإخفاؤها خير من إظهارها؛ لأنّ ذلك أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، وفي صدقة السرّ أيضا فائدة ترجع إلى الفقير الآخذ، وهي: أنّه إذا أعطي في السر؛ زال عنه الذل والانكسار، وإذا أعطي في العلانية يحصل له الذلّ والانكسار، ويدلّ على أن صدقة السرّ أفضل ما روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: إمام عادل، وشابّ نشأ في طاعة الله تعالى، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله تعالى، اجتمعا على ذلك، وتفرّقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه من خشية الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب، وجمال، فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة، فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» . أخرجاه في الصّحيحين، وفي الحديث أيضا:«صدقة السّرّ تطفئ غضب الربّ عز وجل» .

وأما الزّكاة الواجبة فالجهر بها أفضل من الإسرار لأمرين: أولهما: ليقتدى بفاعلها، وثانيهما: لئلا يتّهم بمنعها، ولا سيما إن كان ظاهر الغنى.

{وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ:} يمحو، ويزيل، أو يعفو، ويصفح، وأصل التكفير في اللغة: التغطية، والسّتر، ويقرأ الفعل بالياء والنون، وبالرّفع وبالجزم عطفا على جملة جواب الشرط، والسيئات: هي المعاصي، والمخالفات التي يفعلها العبد، ومفردها: سيئة. {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يعني: لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والخبير من أسماء الله الحسنى، وهو العالم بكنه الشيء وحقيقته من غير شك، والخبير في صفة المخلوقين إنّما يستعمل في نوع من العلم، وهو الّذي يوصل إليه بالاجتهاد، والفكر، والله تعالى منزّه عن ذلك كلّه.

هذا؛ و «نعم» فعل ماض لإنشاء المدح، و «بئس» فعل ماض لإنشاء الذم، قال في المختار:

نعم: منقول من: نعم فلان-بفتح النون وكسر العين-: إذا أصاب النّعمة، و «بئس» منقول من:

«بئس» بفتح الباء، وكسر الهمزة: إذا أصاب بؤسا، فنقلا إلى المدح، والذم، فشابها الحروف، فلم يتصرّفا، وفيهما أربع لغات:«نعم، وبئس» بكسر، وسكون، وهي أفصحهن، ثم «نعم، وبئس» بكسر أولهما، وثانيهما، غير أن الغالب في (نعم) أن يتصل بها (ما) كما في الآية التي نحن بصدد شرحها، وكما في قوله تعالى في الآية رقم [58] من سورة (النساء):{نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ} و «بئس» اتصلت بها (ما) على اللغة الفصحى، كما في قوله تعالى في الآية رقم [90]:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ..} . إلخ، والآية رقم [93]:{بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ..} . إلخ، والآية رقم [150] من سورة الأعراف:{بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي..} . إلخ، واللغة الثالثة:«نعم، وبأس» بفتح، وسكون، والرابعة:(نعم، وبئس) بفتح وكسر، وهي الأصل فيهما، ولا بدّ لهما من شيئين:

فاعل، ومخصوص بالمدح، أو الذم، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

فعلان غير متصرّفين

نعم وبئس رافعان اسمين

ص: 655

مقارني ال أو مضافين لما

قارنهما كنعم عتبى الكرما

ويرفعان مضمرا يفسّره

مميّز كنعم قوما معشره

والقول بفعليتهما إنّما هو قول البصريّين، والكسائي، بدليل دخول تاء التأنيث عليهما في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«من توضّأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» وقال الكوفيون إلا الكسائيّ: هما اسمان، بدليل دخول حرف الجر عليهما في قول أعرابي، وقد أخبر بأنّ امرأته ولدت بنتا له: والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرّها سرقة، وقول آخر: نعم السّير على بئس العير، وأوّله البصريون على حذف كلام مقدّر، التقدير: والله ما هي بولد مقول فيه:

نعم الولد، ونعم السّير على عير مقول فيه: بئس العير، والمعتمد في ذلك قول البصريّين.

هذا ويجب في فاعلهما أن يكون مقترنا بال، أو مضافا لمقترن بها، أو ضميرا مميزا بنكرة، أو كلمة «ما» فالأول: كما في قوله تعالى: «نعم المولى ونعم النّصير» ، والثاني: نحو قوله تعالى: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ،} والثالث: مثل قوله تعالى: {بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً،} والرابع: كما في الآية التي بين أيدينا، وهذا شرح لأبيات ابن مالك.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تُبْدُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{الصَّدَقاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية لا محل؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، {فَنِعِمّا:}

الفاء: واقعة في جواب الشّرط، (نعم): فعل ماض جامد دال على إنشاء المدح، وفاعله ضمير مستتر، و (ما): نكرة تامّة بمعنى شيء مبنية على السكون في محل نصب على التمييز، والجملة الفعلية في محل رفع خبر مقدّم، و {هِيَ:} مبتدأ مؤخر، ويجوز أن تكون خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: الممدوحة هي، والجملة:(نعما {هِيَ}) سواء أكانت اسمية، أم فعلية في محل جزم جواب الشّرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحل محلّ المفرد.

{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم، {تُخْفُوها:} فعل مضارع فعل الشرط، والواو فاعله، و (ها) مفعول به. {وَتُؤْتُوهَا:} معطوف على ما قبله مجزوم مثله، وعلامة الجزم فيهما حذف النّون، والواو فاعله، و (ها) مفعول به أوّل. {الْفُقَراءَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها على نحو ما سبق. هذا؛ ويجوز اعتبار ({تُؤْتُوهَا}): منصوبا ب «أن» مضمرة بعد الواو. على القاعدة: «وإذا» عطف مضارع على فعل الشرط بالواو، أو بالفاء، يجوز اعتباره مجزوما، أو منصوبا ب «أن» مضمرة بعد الواو {فَهُوَ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

{خَيْرٌ:} خبره. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْرٌ} والجملة الاسمية في محل جزم

ص: 656

جواب الشرط عند الجمهور

إلخ. و ({يُكَفِّرُ}): فعل مضارع، وفاعله يعود إلى ({اللهُ}) فعلى قراءته بالجزم معطوف على جواب الشرط، وعلى قراءته بالرّفع، فهو مع فاعله في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو يكفر. أو: فنحن نكفر، والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها وانظر ما أذكره في الآية رقم [285] الآتية. {عَنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{مِنْ سَيِّئاتِكُمْ:} قيل: {مِنْ} زائد في الإيجاب، و {سَيِّئاتِكُمْ:} مفعول به، وهذا على مذهب الأخفش، وعند سيبويه المفعول محذوف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة له، التقدير: يكفر شيئا كائنا من سيئاتكم. وقيل: متعلقان بالفعل قبلهما على أن {مِنْ:} للتبعيض، والكاف في محل جر بالإضافة.

{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب {خَبِيرٌ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {تَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو: بشيء تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بمصدر في محل جرّ بالباء، التقدير: بعملكم. {خَبِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

({اللهُ..}.) إلخ مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام، الغرض منها الحثّ على الصّدقات، والتّرغيب في الإخلاص.

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)}

الشرح: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ:} الخطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم، ويعمّ كلّ مسلم، والمعنى: لا يجب عليك أن تجعل الناس مؤمنين مهديين، وإنّما عليك الإرشاد، والنّصح بالمعروف، والحث على محاسن الأعمال، والنّهي عن القبائح. {وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ:} فهذا تصريح بأن الهداية من الله تعالى، يخصّ بها من يشاء من عباده، وفيه ردّ على القدريّة، وطوائف من المعتزلة كما تقدّم.

هذا وروى سعيد بن جبير-رضي الله عنه-مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول الآية الكريمة: أنّ المسلمين كانوا يتصدّقون على فقراء أهل الذمّة، فلمّا كثر فقراء المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تتصدّقوا إلاّ على أهل دينكم» ، فنزلت الآية الكريمة مبيحة للصّدقة على من ليس من دين الإسلام، فأمر صلى الله عليه وسلم بعدها بالصّدقة على كلّ سائل من أيّ دين. رواه ابن أبي حاتم.

وروى ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّه قال: كان ناس من الأنصار لهم قرابات من المشركين، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية. رواه

ص: 657

النّسائيّ. هذا، والمعتمد: أنّ هذه الصّدقة التي أبيح إعطاؤها لغير المسلمين، إنّما هي صدقة التطوّع، وأما المفروضة؛ فلا يجزئ دفعها لكافر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن آخذ الصّدقة من أغنيائكم، وأردّها في فقرائكم» . وقال الرّسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ-رضي الله عنه: «خذ الصّدقة من أغنيائهم، وردّها على فقرائهم» .

هذا وقال ابن العربي: فأمّا المسلم العاصي؛ فلا خلاف: أنّ صدقة الفطر تصرف إليه إلا إذا كان يترك أركان الإسلام من الصّلاة، والصّيام، فلا تدفع إليه الصّدقة؛ حتّى يتوب، وسائر أهل المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها؛ لدخولهم في اسم المسلمين.

{وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} أي: الأجر، والثواب لكم، فلا تمنّوا على أحد، ولا تنفقوا الخبيث من أموالكم، فهو مثل قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ} وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله! ما منّا أحد إلاّ ماله أحبّ إليه! قال: «فإنّ ماله ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» . أخرجه البخاريّ.

هذا وقد حكي: أنّ بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف، ثمّ يحلف: أنّه ما فعل مع أحد خيرا، فقيل له في ذلك، فيقول: إنّما فعلت مع نفسي، ويتلو:{وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} . وخذ قوله تعالى في آخر سورة (المزمّل): {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} .

هذا؛ والمراد ب: {خَيْرٍ} في هذه الآية في الموضعين: المال، قال تعالى في سورة العاديات:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ،} ويكون الخير بمعنى: الطّعام، كما في قوله تعالى حكاية عن قول موسى-على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في سورة (القصص) رقم [24]:

{رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ،} ويكون بمعنى القوّة، كما في قوله تعالى في سورة (الدخان) رقم [37]:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ويكون بمعنى العبادة والطاعة، كما في قوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [73]:{وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} ويكون بمعنى الوحي، كما في قوله تعالى في الآية رقم [105] من هذه السّورة:{ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . وأخيرا: يكون بمعنى المطر، قال الشّاعر-وهو الشّاهد رقم [202] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

سقى الحيا الأرض حتّى أمكن عزيت

لهم فلا زال عنها الخير مجدودا

{وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ:} طلب مرضاته تعالى، ورضوانه، قال عطاء الخراساني: يعني إذا أعطيت لوجه الله؛ فلا عليك ما كان عمله، والمعنى: أنّ المتصدق إذا تصدّق ابتغاء وجه الله؛ فقد وقع أجره على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب: البرّ أو فاجر، أو مستحقّ، أو غيره؟ وهو مثاب على قصده، ومستند هذا تمام الآية، والحديث المخرّج

ص: 658

في الصحيحين، عن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال رجل لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد زانية، فأصبح النّاس يتحدّثون: تصدّق الليلة على زانية! فقال: اللهمّ لك الحمد على زانية! لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فوضعها في يد غنيّ، فأصبحوا يتحدّثون: تصدّق اللّيلة على غنيّ! فقال: اللهمّ لك الحمد على غنيّ! لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدّق الليلة على سارق! فقال:

اللهمّ لك الحمد على زانية! وعلى غنيّ، وعلى سارق، فأتي (في المنام) فقيل له: أمّا صدقتك فقد قبلت، أما الزّانية فلعلّها أن تستعفف عن زناها، وأمّا الغنيّ فلعلّه يعتبر، فينفق ما أعطاه الله، وأمّا السّارق فلعلّه يستعفف عن سرقته».

{وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ:} فهذه الجملة تأكيد، وبيان لما قبلها، وهي تفيد فائدة زائدة، وهي: أنّ ثواب الإنفاق يدّخر للمنفقين يوم القيامة، ولا يبخسون منه شيئا، فيكون ذلك البخس ظلما لهم، ومثل هذا يسمّى في علم المعاني إطنابا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} مقدّم. {هُداهُمْ:} اسمها مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والهاء في محل جرّ بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، وهو أقوى، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَلكِنَّ:}

الواو: حرف عطف. ({لكِنَّ}): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر ({لكِنَّ}) والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {مَنْ:}

اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والجملة الفعلية صلة {مَنْ} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يهدي الذي، أو: شخصا يشاء هدايته.

({ما}): اسم شرط مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدّم. {تُنْفِقُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ خَيْرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من ({ما})، و {مَنْ} بيان لما أبهم فيها. {فَلِأَنْفُسِكُمْ:} الفاء:

واقعة في جواب الشرط. (لأنفسكم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو لأنفسكم، والجملة الاسمية هذه في محل جزم جواب الشرط، والجملة الشرطية:

{وَما تُنْفِقُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، {وَما:} الواو: واو الاعتراض.

({ما}): نافية. {تُنْفِقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف يدل عليه المقام، والجملة الفعلية معترضة بين المتعاطفتين لا محل لها، وقال البيضاوي: حال، أو عطف على ما قبله، والأول لا وجه له، والثاني لا يصحّ إلا على قول من يعتبر النفي بمعنى النّهي.

ص: 659

{إِلاَّ:} حرف استثناء، أو حرف حصر. {اِبْتِغاءَ} قال الجمل: هو استثناء من أعمّ العلل؛ أي: والمعنى: لا تنفقوا أموالكم لغرض إلا لهذا الغرض. انتهى. و {اِبْتِغاءَ} مضاف، و {وَجْهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {وَجْهِ:} مضاف، و {اللهَ:} مضاف إليه.

{وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ:} انظر ما قبله، فهو مثله. {يُوَفَّ:} فعل مضارع مبني للمجهول جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، ونائب الفاعل، تقديره:(هو) يعود إلى {خَيْرٍ} . {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان به، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها ومؤكدة لها. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {تُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، والاستئناف ممكن بالإعراض عمّا قبلها.

{لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}

الشرح: {لِلْفُقَراءِ..} . إلخ: قال السّدي-رحمه الله تعالى-: المراد بهم فقراء المهاجرين من قريش، وغيرهم، وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، لم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر، وكانوا يأوون إلى صفّة في المسجد، قال أبو ذرّ-رضي الله عنه: كنت من أهل الصّفّة، وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر كل رجل فينصرف برجل، ويبقى من بقي من أهل الصّفة، عشرة، أو أقل، فيؤتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعشائه، فنتعشى معه، فإذا فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناموا في المسجد، وانظر في الآية [267] ما ذكره البراء بن عازب-رضي الله عنه، وكانوا رضوان الله عليهم في المسجد ضرورة، وكانوا يأكلون من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين؛ استغنوا عن تلك الحال، فخرجوا، ثمّ ملكوا، وتأمّروا، ثم ذكر الله من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب العطف، والشفقة عليهم، فقال جل ذكره:{الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ:} حبسوا، ومنعوا عن التصرف في معايشهم خوف العدو، لكون البلاد كلها كفرا مطبقا، وهذا في صدر الإسلام، فقلّتهم وضعفهم يمنعان من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفار عليهم

ص: 660

إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة، فبقوا فقراء، وهو فحوى قوله تعالى:{لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} يعني: سفرا للتسبب في طلب المعاش، والضرب في الأرض: هو السّفر، قال تعالى في سورة (النساء) رقم [101]:{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ،} وقال جلّ ذكره في سورة (المزمل): {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ} .

هذا والحصر: المنع، والحبس، قال تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وهو يحتمل أن يكون من الرباعي «أحصر» ومن الثلاثي «حصر» وقال أبو عبيدة، والكسائي: أحصر بالمرض، وحصر بالعدو، وفي المجمل لابن فارس على العكس؛ فحصر بالمرض، وأحصر بالعدو، وقالت طائفة: يقال: أحصر فيهما جميعا من الرباعي، حكاه أبو عمر، والصحيح أنهما يستعملان فيهما، وهو ما قدمته أولا، قال القرطبي-رحمه الله تعالى-:

الأكثر من أهل اللغة على أن حصر في العدو، وأحصر في المرض، وأصل الكلمة من الحبس، ومنه: الحصير للذي يحبس نفسه على البوح بسره، والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات القش إلى بعض، هذا، ويقال: ألحف، وأحنى، وألحّ في المسألة سواء، قال بشار بن برد الأعمى:[الرجز]

الحرّ يلحى، والعصا للعبد

وليس للملحف مثل الرّدّ

واشتقاق الإلحاف من اللّحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجود الطّلب في المسألة، كاشتمال اللحاف من التغطية، أي: هذا السائل يعمّ الناس بسؤاله، فيلحفهم بذلك، ومنه قول ابن أحمر:[الوافر]

فظلّ يحفّهنّ بقفقفيه

ويلحفهنّ هفهافا ثخينا

يصف ذكر النعام، يحضن بيضه بجناحيه، ويجعل جناحه لها كاللحاف، وهو رقيق مع ثخنه.

هذا والحصير: الملك؛ لأنه كالمحبوس من وراء حجاب، قال لبيد-رضي الله عنه:[الكامل]

وقماقم غلب الرّقاب كأنّهم

جنّ لدى باب الحصير قيام

والإلحاف في المسألة مع الغنى عنها حرام، لا يحلّ، فقد روى أبو هريرة-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من سأل النّاس أموالهم تكثّرا، فإنّما يسأل جمرا، فليستقلّ أو ليستكثر» أخرجه مسلم.

وعن ابن عمر-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتّى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» أخرجه البخاريّ، ومسلم.

{يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ} أي: بحالهم. {أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي: إنّهم من تركهم السؤال، والتوكل على الله، والقناعة، والرضا بقضاء الله، وقدره يظنّهم الجاهل بحالهم أغنياء. هذا؛

ص: 661

والفعل: حسب، يحسب من باب: تعب في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون السين في المضارع، ومع الماضي أيضا على غير قياس، وقد قرئ المضارع بفتح السين وكسرها من البابين: الرابع، والسادس، والمصدر: الحسبان بكسر الحاء. وحسبت المال حسبا من باب قتل بمعنى: أحصيته عددا.

{تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ:} السّيما بالقصر: العلامة، وقد تمدّ، فيقال: السيماء، والسّمة أيضا:

العلامة التي يعرف بها الشيء، واختلفوا في معناها، فقيل: هي الخضوع، والتواضع. وقيل: هي أثر الجهد من الحاجة، والفقر. وقيل: هي صفرة ألوانهم من الجوع، ورثاثة ثيابهم من الضرّ، وسوء الحال. {لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً} أي: لا يسألون الناس أبدا، وقيل: إن سألوا لا يلحّون بالسؤال، وإنما يسألون برفق وتلطف، ولا يكلّفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل، وله ما يغنيه عن المسألة؛ فقد ألحف في المسألة، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ أحد، وخذ ما يلي:

فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أصحاب الصّفّة، فرأى فقرهم، وجهدهم، وطيب قلوبهم، فقال:«أبشروا يا أصحاب الصّفة! فمن بقي من أمّتي على العنت الذي أنتم عليه، راضيا بما فيه، فإنّه من رفقائي في الجنّة» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف، ويبغض البذيء السّائل الملحف» . وعن أبي هريرة-رضي الله عنه:

أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الّذي تردّه اللّقمة واللّقمتان، والتّمرة والتّمرتان، ولكن المسكين الّذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدّق عليه، ولا يقوم فيسأل النّاس» رواه البخاريّ ومسلم، وغيرهما، وعنه أيضا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الغنى عن كثرة المال والعرض، ولكن الغنى غنى النّفس» متفق عليه.

وقال الإمام أحمد عن رجل من مزينة: أنه قالت له أمّه: ألا تنطلق، فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يسأله النّاس! قال: فانطلقت أسأله، فوجدته قائما يخطب، وهو يقول:«ومن استعفّ أعفّه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن يسأل النّاس، وله عدل خمس أواق؛ فقد سأل النّاس إلحافا» فقلت بيني وبين نفسي: لنا ناقة لهي خير من خمس أواق، ولغلامي ناقة أخرى، فهي خير من خمس أواق، فرجعت، ولم أسأل.

وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل، وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا، أو خموشا، أو كدوحا في وجهه» قالوا: يا رسول الله! وما غناه؟ قال: «خمسون درهما أو حسابها من الذّهب» ، أخرجه أبو داود، والترمذي، والنّسائي، والإمام أحمد.

فالرّسول صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يكون عزيز النفس، مرفوعها، لذا نفّر من السّؤال، والمسألة، ورغّب في العمل، فعن الزبير بن العوام-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 662

«لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها، فيكفّ بها وجهه خير له من أن يسأل النّاس، أعطوه، أم منعوه» رواه البخاريّ، وغير ذلك كثير، وخذ ما يلي:

عن الأصمعي-رحمه الله تعالى-قال: مررت في بعض سكك الكوفة، فإذا برجل قد خرج من حشّ، على كتفه جرّة، وهو يقول:[الطويل]

وأكرم نفسي إنّني إن أهنتها

وحقّك لم تكرم على أحد بعدي

[الوافر]

لنقل الصّخر من قلل الجبال

أحبّ إليّ من منن الرّجال

يقول النّاس: كسب فيه عار

وكلّ العار في ذلّ السّؤال

فقلت له: إكرامها بمثل هذا؟! قال: نعم، واشفني عن سؤلي، فقلت: إذا سألته، ثم قال:

صنع الله بك، وترك، فقلت: قد عرفني، فأسرعت فصاح بي وأنشد:[الطويل]

وأكرم نفسي إنّني إن أهنتها

وجدّك لم تكرم على أحد بعدي

بقي أن تعرف: لو أعطي الإنسان شيئا لم يسأله ماذا يفعل؟ فخذ الجواب مما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله شيئا من هذا المال من غير أن يسأله، فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه» . ورواته محتج بهم في الصحيح.

وعن عابد بن عمرو-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من عرض له من هذا الرّزق شيء من غير مسألة، ولا إشراف نفس، فليتوسّع به في رزقه، فإن كان غنيّا، فليوجّهه إلى من هو أحوج إليه منه» . رواه أحمد، والطبراني، والله أعلم، وأجلّ، وأكرم.

الإعراب: {لِلْفُقَراءِ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

الصدقات للفقراء، أو هما متعلقان بفعل محذوف، التقدير: أدوا زكاة أموالكم للفقراء، وقيل:

متعلقان بقوله: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} في الآية السابقة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة (الفقراء) أو بدل منه، ويجوز اعتباره مفعولا به لفعل محذوف، التقدير:

أعني الذين، كما يجوز اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين، وهذان الاعتباران على القطع. {أُحْصِرُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: مجاهدين في سبيل، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {لا:} نافية. {يَسْتَطِيعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، {ضَرْباً:} مفعول به. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وقيل: مستأنفة وهو ضعيف.

ص: 663

{يَحْسَبُهُمُ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به. {الْجاهِلُ:} فاعله. {أَغْنِياءَ:} مفعول به ثان.

{مِنَ التَّعَفُّفِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية قل فيها مثل سابقتها. {تَعْرِفُهُمْ:}

فعل مضارع، والفاعل تقديره: أنت، والهاء مفعول به. {بِسِيماهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر، والهاء في محل جر بالإضافة.

وقل في الجملة مثل ما قبلها. {لا:} نافية. {يَسْئَلُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله، {النّاسَ:} مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: لا يسألون الناس شيئا، وقل في الجملة الفعلية مثل ما قبلها.

{إِلْحافاً:} فيه ثلاثة أوجه: مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: يلحفون إلحافا، والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من واو الجماعة، ومفعول لأجله، أي لا يسألون الناس لأجل الإلحاف، وحال، تقديره: لا يسألون ملحفين. انتهى. نقلا من السمين. {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ:} انظر إعرابه في الآية السابقة، مع ملاحظة: أنّ جواب الشرط محذوف، التقدير: فهو يجازيكم به، والجملة الشرطية بكاملها تحتمل العطف على ما في الآية السابقة، والاستئناف، والاعتراض في آخر الكلام الغرض منه الترغيب في الإنفاق، وخصوصا على المتعفّفين الذين لا يسألون الناس. {فَإِنَّ:} الفاء: حرف تعليل. (إنّ): حرف مشبه بالفعل.

{اللهِ:} اسمها. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان ب {عَلِيمٌ} بعدهما. {عَلِيمٌ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليلية لا محل لها، وهذا أولى من اعتبارها جوابا للشرط المتقدّم.

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}

الشرح: نزلت الآية الكريمة في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-حين تصدّق بأربعين ألف درهم: عشرة في الليل، وعشرة في النّهار، وعشرة بالسرّ، وعشرة بالعلانية، وقيل: نزلت في عليّ كرم الله وجهه تصدق بأربعة دراهم، ولم يكن يملك غيرها، تصدّق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرّا، وبدرهم جهرا، وكون ما ذكر سببا لنزولها لا يقتضي خصوص الحكم به، بل العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وهذا يقال في كلّ الآيات القرآنية، التي نزلت بسبب ما.

وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّها نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله، وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«هم أصحاب الخيل» ، وقد ذكر الله ذلك صراحة في قوله:

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} الآية رقم [60] من سورة (الأنفال) انظر شرحها هناك تجد ما يسرك ويثلج صدرك، {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ..}. إلخ: انظر الآية رقم [262] ففيها الكفاية.

ص: 664

هذا وفي الآية إشارة إلى أنّ صدقة السرّ أفضل من صدقة العلانية؛ لأنّه تعالى قدم نفقة الليل على نفقة النهار، وقدّم السرّ على العلانية، انظر ما ذكرته في الآية رقم [271].

والجملة في الآية الكريمة مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات؛ حتّى إنّ النفقة على الأهل تدخل في ذلك، فعن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه:

أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له:«وإنّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاّ أجرت عليها حتّى ما تجعل في في امرأتك» رواه البخاريّ، ومسلم. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا أنفق الرّجل على أهله نفقة، وهو يحتسبها؛ كانت له صدقة» ، رواه البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ. هذا؛ وبين الليل والنّهار، وبين السرّ والعلانية طباق لفظيّ، وهو من المحسّنات البديعية.

هذا؛ و (ينفقون) ماضيه: نفق، قال الزمخشري رحمه الله تعالى: إنّ كلّ ما فاؤه نون وعينه فاء، يدلّ على معنى الخروج والذّهاب، مثل: نفق، ونفخ، ونفذ، ونفش

إلخ.

هذا، والمال قال فيه ابن الأثير: المال في الأصل: ما يملك من الذّهب، والفضة، ثم أطلق على كلّ ما يقتنى، ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنّها كانت أكثر أموالهم، وقال الجوهري: ذكر بعضهم: أنّ المال يؤنث، وأنشد لحسّان-رضي الله عنه:[البسيط]

المال تزري بأقوام ذوي حسب

وقد تسوّد غير السّيّد المال

وعن الفضل الضّبيّ: المال عند العرب الصّامت، والناطق، فالصّامت: الذهب، والفضة، والجواهر، والناطق: البعير، والبقرة، والشاة فإذا قلت عن بدوي: كثر ماله؛ فهو النّاطق، وإذا قلت عن حضريّ: كثر ماله؛ فهو الصامت. هذا؛ والنّشب يطلق على المال الثابت، كالضياع، والدور، وقد قال عمرو بن معدي كرب الزّبيدي-رضي الله عنه-في ذلك:[البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

هذا، و (الليل) فهو واحد بمعنى الجمع، واحدته: ليلة، مثل: تمر، وتمرة، وقد جمع على: ليال، فزادوا فيه الياء على غير قياس، ونظيره: أهل، وأهال، وشبه، ومشابه، وحاجة، وحوائج، وذكر، ومذاكر، وكأنّ: ليلى في القياس جمع ليلاة، وقد استعملوا ذلك في الشّعر، وأنشد ابن الأعرابي، وهو الشاهد رقم [66] من كتاب:«فتح القريب المجيب» : [الرجز]

يا ويحه من جمل ما أشقاه

في كلّ ما يوم وكلّ ليلاه

واللّيل الشرعي: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وهو أحد قولين في اللغة، والقول الآخر: هو من غروب الشمس إلى طلوعها، والنّهار ضد الليل، وهو لا يجمع كما لا يجمع

ص: 665

العذاب، والسّراب، فإن جمعته قلت في الكثير: نهر-بضمتين-كسحاب، وسحب، وفي القليل: أنهر، وقال ابن فارس: النّهر معروف، والجمع: أنهر، وأنهار، ويقال: إنّ النهار يجمع على نهر، قال الشاعر:[الرجز]

لولا الثّريدان هلكنا بالضّمر

ثريد ليل وثريد بالنّهر

والنّهار: من طلوع الفجر، أو: من طلوع الشمس على ما تقدّم في نهاية اللّيل إلى غروب الشمس، وقد يطلق عليهما اسم اليوم، كما تراه في الآية رقم [203] هذا والليل يطلق على الحبارى، أو فرخها، وفرخ الكروان، والنّهار يطلق على فرخ القطا. انتهى. قاموس، وقد ألغز بعضهم بقوله:[الوافر]

إذا شهر الصّيام إليك وافى

فكل ما شئت ليلا أو نهارا

الإعراب: الذين ينفقون أموالهم: انظر الآية رقم [262]. {بِاللَّيْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{وَالنَّهارِ:} معطوف على ما قبله. {سِرًّا وَعَلانِيَةً:} حال بمعنى مسرّين ومعلنين، قال أبو البقاء: وهما مصدران في موضع الحال، وقد أغرب البيضاوي-رحمه الله تعالى-في قوله:

وقيل: الفاء للعطف، والخبر محذوف؛ أي: ومنهم الذين، ولذلك جوّز الوقف على {وَعَلانِيَةً،} (لهم {أَجْرُهُمْ..}.) إلخ: انظر الآية رقم [262] ففيها الكفاية، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)}

الشرح: لمّا ذكر تعالى الأبرار المؤدّين النفقات، المخرجين الزّكوات، المتفضّلين بالبرّ، والصدقات لذوي الحاجات، والقرابات في جميع الأحوال، والأوقات، وحضّهم على أن يكون ما يتصدّقون به، من الكسب الطّيب؛ ذكر هنا ما يقابل ذلك، وهو الرّبا: الكسب الخبيث، الّذي هو شحّ، ودنس، بينما الصّدقة عطاء، وسماحة، وطهارة، يظهر الفارق بوضوح بين الكسب الطيب وثمرته، وبين الكسب الخبيث ونتيجته، فكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء، فقال تعالى:

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} أي: الآخذون الرّبا، وإنّما ذكر الله الأكل؛ لأنه أعظم منافع المال؛ لأنّ المال لا يؤكل، إنّما يصرف في المأكول، ثمّ يؤكل، ولأنه دالّ على الجشع، وهو

ص: 666

أشد الحرص، ويلحق به اللباس، والكسوة، والادّخار، والإنفاق على العيال، وجميع منافعه.

والرّبا في اللغة: الزيادة، يقال: ربا الشّيء يربو: إذا زاد، وكثر، ونما، قال تعالى في سورة (الحجّ) رقم [5]:{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} . وفي الشرع: مقابلة عوض بآخر مجهول التّماثل في معيار الشّرع حالة العقد، أو مع تأخير في العوضين، أو أحدهما، وهو حرام قطعا بجميع أنواعه.

{لا يَقُومُونَ:} يعني من قبورهم يوم القيامة، {إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ} أي:

يصرعه، وأصل الخبط: الضرب، والوطء على غير هدى، واستواء، يقال: ناقة خبوط، التي تضرب الأرض بقوائمها، وتطأ الناس بأخفافها، ومنه قولهم: يخبط خبط عشواء؛ للرّجل الذي يتصرّف في الأمور على غير اهتداء، وتمييز وتدبّر، قال زهير في معلّقته:[الطويل]

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته، ومن تخطئ يعمّر، فيهرم

{مِنَ الْمَسِّ:} من الجنون، يقال: مسّ الرّجل، فهو ممسوس: إذا كان به جنون، قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصّرع من جهة الجنّ، وزعم: أنّه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مسّ.

وقد روى النّسائيّ عن أبي اليسر-رضي الله عنه-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فيقول:

«اللهمّ إنّي أعوذ بك من التردّي، والهدم، والغرق، والحريق، وأعوذ بك أن يتخبّطني الشّيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا!» وعن أنس-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه كان يقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الجنون، والجذام، والبرص، وسيّئ الأسقام، والمسّ، والجنون!» رواه أبو داود.

وروي في حديث الإسراء: «فانطلق بي جبريل، فمررت برجال كثير، كلّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم، منضّدين على سابلة آل فرعون، وآل فرعون يعرضون على النار بكرة وعشيّا، فيقبلون مثل الإبل المهيومة، فيتخبّطون الحجارة، والشّجر، لا يسمعون، ولا يعقلون، فإذا أحسّ بهم أصحاب تلك البطون؛ قاموا، فتميل بهم بطونهم، فيصرعون، ثم يقوم أحدهم، فيميل به بطنه، فيصرع، فلا يستطيعون، براحا؛ حتى يغشاهم آل فرعون، فيطئونهم مقبلين، ومدبرين، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدّنيا والآخرة، وآل فرعون يقولون: اللهم لا تقم السّاعة أبدا، فإنّ الله تعالى يقول: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} قلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الرّبا {لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» }. أخرجه البغويّ بسند الثعلبي عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه.

(ذلك) أي: العذاب الذي نزل بهم بسبب قولهم في الدّنيا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أي:

بالحلّ، والإباحة، وذلك: أنّ أهل الجاهلية، كان أحدهم إذا حل أجل دينه على غريمه يطالبه

ص: 667

به، فيقول الغريم لصاحب الحقّ: زدني في الأجل، حتّى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك، وكانوا يقولون: سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالرّبح، أو عند المحلّ لأجل التأخير، فكذّبهم الله تعالى، وردّ عليهم بقوله:{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} . هذا؛ ولم يقل: إنّما الرّبا مثل البيع، مع أن الكلام في الرّبا لا في البيع؛ لأنّه جيء به على طريقة المبالغة، ويسمّى التشبيه المقلوب، وهو أعلى مراتب التشبيه؛ حيث يجعل المشبّه مكان المشبّه به، والأصل في الآية أن يقال: الربا مثل البيع، ولكنّه بلغ من اعتقادهم في حل الرّبا أن جعلوه أصلا يقاس عليه، فشبهوا به البيع، والتشبيه المقلوب باب واسع من أبواب النّحو، انظر كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، وخذ منه قول رؤبة بن العجّاج وهو الشاهد رقم [1187] منه:[الرجز]

ومهمه مغبرة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه

{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا:} أي: وأحل الله لكم الأرباح في التّجارة بالبيع، والتجارة، وحرّم الرّبا الذي هو زيادة المال لأجل تأخير الأجل، وذلك لأنّ الله تعالى خلق الخلق فهم عبيده، وهو مالكهم يحكم فيهم بما شاء، ويستعبدهم بما يريد، وليس لأحد أن يعترض عليه في شيء ممّا أحلّ، أو حرّم، وإنما على كافة الخلق الطّاعة، والتسليم لحكمه، وأمره، ونهيه.

{فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي: فمن بلغه وعظ من الله، وزجر بالنّهي عن الرّبا، وإنما ذكر الفعل؛ لأنّ الموعظة من المؤنث المجازي، ولأنّ الوعظ، والموعظة شيء واحد. {فَانْتَهى:}

عن أكل الربا. {فَلَهُ ما سَلَفَ:} تقدّم أخذه قبل التحريم، لا يسترد منه ما أخذه بعقد الربا.

{وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ} يعني: بعد النّهي، إن شاء عصمه؛ حتى يثبت على الانتهاء، وإن شاء خذله؛ حتى يعود إلى أكل الرّبا. وقيل: معناه: وأمره إلى الله فيما يأمره، وينهاه، ويحلّ له، ويحرم عليه، وليس له من أمر نفسه شيء، والمعنى في حق المسلم: فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه. {وَمَنْ عادَ:} إلى أكل الرّبا بعد التّحريم، والنّهي. {فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ،} والآية تفيد تخليد آكل الرّبا في النار، وهذا مع الاستحلال؛ لأنّهم بالاستحلال صاروا كافرين؛ لأن من أحلّ ما حرّم الله-عز وجل-فهو كافر، فلذا استحقّ الخلود، وبهذا تبيّن: أنّه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفاسقين في النّار.

هذا وبين ({أَحَلَّ}) و ({حَرَّمَ}) طباق، وهو من المحسّنات البديعية؛ أما الحرام في الأصل فهو كلّ ممنوع، والحرمات كلّ ممنوع منك ممّا بينك وبين غيرك. وقولهم: لفلان بي حرمة؛ أي:

أنا ممتنع من مكروهه، وحرمة الرّجل محظورة به من غيره، وقوله تعالى:{وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فالمحروم: هو الممنوع من المال، والتلذّذ به، والإحرام بالحجّ، والعمرة: هو المنع من أمور معروفة في الفقه الإسلاميّ.

ص: 668

هذا وروى أبو داود-رحمه الله تعالى-عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما، قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاّ، لا ينزعه عنكم؛ حتى ترجعوا إلى دينكم» .

وفسر أبو عبيدة الهرويّ «العينة» فقال: هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمّى، ثم يشتريها منه بأقلّ من الثمن الّذي باعها به، وسمّيت: عينة لحضور النقد لصاحب العينة، وذلك: أنّ العين هو المال الحاضر، والمشتري إنّما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره. انتهى. قرطبي. وهي مذمومة، وحيلة لأكل الرّبا، ولذلك اعتبرها الرّسول صلى الله عليه وسلم من الأمور الّتي تغضب الله تعالى، وتكون سببا لتسليط الذّلّ على المسلمين وإهانتهم حتى يتوبوا، ويرجعوا إلى دينهم.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يَأْكُلُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {الرِّبا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.

{لا:} نافية. {يَقُومُونَ:} مضارع وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {يَقُومُ:} فعل مضارع. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {يَتَخَبَّطُهُ:} فعل مضارع. {الشَّيْطانُ:} فاعله. {مِنَ الْمَسِّ} متعلقان ب {لا يَقُومُونَ،} وقال أبو البقاء: متعلقان بالفعل {يَتَخَبَّطُهُ} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، وتقدير الكلام:

لا يقومون إلا قياما مشابها قيام الّذي

إلخ.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمْ:} الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتّفريق. {إِنَّمَا:} كافة، ومكفوفة.

{الْبَيْعُ:} مبتدأ. {مِثْلُ:} خبره، وهو مضاف، و {الرِّبا} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جرّ بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ:} الواو: واو الحال. ({أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْبَيْعُ،} والرابط: الواو. وإعادة ({الْبَيْعُ}) بلفظه للبيان،

ص: 669

والوضوح، وهي على تقدير «قد» قبلها، والتي بعدها معطوفة عليها، وهي في محل نصب حال من {الرِّبا} والرابط: الواو. وإعادة {الرِّبا} بلفظه للبيان، والوضوح أيضا.

{فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {جاءَهُ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره: هو، والهاء مفعول به. {مَوْعِظَةٌ:} فاعله. {مِنْ رَبِّهِ:} متعلقان ب {مَوْعِظَةٌ،} أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَلَهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(له): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {سَلَفَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {ما} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الاسمية:(له {ما سَلَفَ}) في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو ({مِنَ}) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجّح عند المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت ({مِنَ}) اسما موصولا مبتدأ، فجملة:{جاءَهُ..} . إلخ صلته، والجملة الاسمية:(له {ما سَلَفَ}) في محل رفع خبره، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة لا محل لها. {وَأَمْرُهُ:}

الواو: حرف عطف. ({أَمْرُهُ}): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جزم مثلها.

{وَمَنْ عادَ:} الواو: حرف عطف. ({مَنْ عادَ}): إعراب الكلمتين مثل ما قبلهما.

{فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَصْحابُ:} خبره، وهو مضاف، و {النّارِ:}

مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وعلى اعتبار (من) موصولا؛ فهي في محل رفع خبره، والجملة الاسمية على الاعتبارين معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {أَصْحابُ النّارِ} والعامل في الحال اسم الإشارة، لما فيه من معنى الفعل، والرابط: الضمير فقط، وجوز اعتبارها خبرا ثانيا ل (أولئك)، والأول أقوى.

{يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ (276)}

الشرح: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا} أي: ينقصه، ويهلكه، ويذهب ببركته، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لا يقبل الله منه صدقة، ولا حجّا، ولا جهادا، ولا صلة رحم، بل ويعاقبه عليه،

ص: 670

قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ} وقال أيضا: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: «الرّبا وإن كثر فإنّ عاقبته إلى قلّ» . وفي مسند الإمام أحمد يرويه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.

{وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ:} يزيدها، ويكاثرها، ويضاعفها، ويبارك فيها، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلاّ الطيب، إلا أخذها الرّحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل، كما يربّي أحدكم فلوّه، أو فصيله» أخرجه مسلم، وتقدّم ما يشبهه برواية البخاريّ.

{وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ} يعني: كلّ مصرّ على كفره، مقيم عليه، مستحلّ لأكل الرّبا، {أَثِيمٍ:} متماد في الإثم، وقيل: المراد: الكفار ويحتمل أن يكون راجعا إلى مستحل الرّبا، و (الأثيم): يرجع إلى من يفعله مع اعتقاد التّحريم، فتكون الآية جامعة للفريقين، وخذ ما يلي:

فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: آكل الرّبا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء» ، رواه أحمد، وغيره، وعدّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أكل الرّبا من الكبائر السّبع، والسّبع الموبقات، والأحاديث المنفرة من الرّبا كثيرة مشهورة، ومسطورة، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتينّ على النّاس زمان، لا يبقى منهم أحد إلاّ آكل الرّبا، فإن لم يأكله؛ أصابه من غباره» رواه أبو داود، وابن ماجة.

تنبيه: في الآية الكريمة مسألة بيانية، لم يتعرّض لها المفسرون، وهي ما إذا وقعت «كلّ» في حيز النفي؛ كان النفي موجها إلى الشّمول خاصّة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد، كقولك:(ما جاء كلّ القوم ولم آخذ كلّ الدّراهم، وكلّ الدّراهم لم آخذ) وإن وقع النفي في حيزها، اقتضى السّلب عن كلّ فرد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قال له ذو اليدين: أنسيت أم قصرت الصلاة يا رسول الله؟!: «كلّ ذلك لم يكن» . وقد يشكل على قولهم في القسم الأول قوله تعالى في سورة (لقمان) رقم [18]: {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ،} ومثلها في سورة (الحديد) رقم [23]، وقوله تعالى في سورة (ن):{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ،} وما في الآية التي نحن بصدد شرحها حيث وقعت {كُلَّ} في حيز النفي، فتفيد: أن المنفي الشّمول، وأنّ البعض ثابت له المحبّة من الله. والجواب عن الآيات: أن دلالة المفهوم إنّما يعوّل عليها عند عدم المعارض، وهو موجود هنا؛ إذ دلّ الدّليل، والإجماع على تحريم الاختيال، والفخر، والحلف، والكفر مطلقا، ومستند هذا الإجماع الأحاديث الشّريفة الكثيرة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يَمْحَقُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله. {الرِّبا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {وَيُرْبِي:} الواو:

حرف عطف. ({يُرْبِي}): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل

ص: 671

يعود إلى {اللهُ} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {الصَّدَقاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. ({اللهُ}): مبتدأ.

{لا:} نافية. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {كَفّارٍ:} مضاف إليه، وهو صفة لموصوف محذوف، التقدير: كلّ شخص كفّار. {أَثِيمٍ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف، والجملة الاسمية تحتمل العطف على ما قبلها، والاستئناف، والحالية، من لفظ الجلالة، وهو الأقوى، والرابط: الواو، وإعادة اسم الجلالة بلفظه.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالله، ورسوله، واليوم الآخر

إلخ. {وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ:} على اختلاف درجاتها، وتفاوت مراتبها، والتي منها تحريم الرّبا بأنواعه. هذا؛ وعطف العمل الصالح على الإيمان في الآية الكريمة وغيرها يوحي بأنّ العمل قرين الإيمان، وقد لا يجدي الإيمان بدون عمل، وهو ما أفاده قول الرّسول صلى الله عليه وسلم:«الإيمان والعمل قرينان، لا يقبل الله أحدهما بدون صاحبه» كما أنّ الإيمان مشروط لقبول العمل الصالح، ويسمّى مثل هذا في علم المعاني: احتراسا.

{وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ:} خصّ الصّلاة والزكاة بالذّكر، وقد تضمّنها عمل الصّالحات تشريفا لهما، وتنبيها على قدرهما؛ إذ هما رأس الأعمال: الصّلاة في أعمال البدن، والزكاة في أعمال المال.

ومعنى ({أَقامُوا الصَّلاةَ}): أدّوها في أوقاتها، وحافظوا على طهارتها، وأتمّوا لها ركوعها، وسجودها، وخشوعها، ومن لم يؤدّها على الوجه الأكمل، يقال عنه: صلّى، ولا يقال: أقام الصّلاة. هذا؛ والصّلاة في اللّغة: الدعاء والتّضرّع، وهي في الشرع: أقوال، وأفعال مخصوصة، مبتدأة بالتكبير، مختتمة بالتّسليم، ولها شروط، وأركان، ومبطلات، ومكروهات، ومندوبات مذكورة في الفقه الإسلامي. هذا؛ وبيّن الله تعالى: أنّ أجود ما يستعان به على تحمّل المتاعب، والمصائب الصّبر، والصّلاة، قال تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} الآية رقم [153]، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر؛ فزع إلى الصلاة؛ هذا؛ والصلاة من العبد معناها: التضرّع والدّعاء، ومن الملائكة على العبد معناها: الاستغفار، وطلب الرّحمة له، ومن الله على عباده معناها: الرّحمة، وإنزال البركات.

وقد جمعت الأنواع الثلاثة في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الآية رقم [56] من سورة (الأحزاب).

ص: 672

{وَآتَوُا الزَّكاةَ} أدّوها، والإيتاء: الإعطاء، يقال: آتيته: أعطيته، قال الله تعالى، حكاية عن قول المنافق في سورة (التّوبة) رقم [75]:{لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} وأتيته بالقصر من غير مد بمعنى: جئته، فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مدّ، ومنه الحديث ولآتينّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنّه. هذا؛ وأصل آتوا «آتيوا» فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان:

الياء والواو، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، فصار «آتوا». ويقال في إعلاله أيضا: تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:(آتاوا) فاجتمع ساكنان: الألف والواو، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار: آتوا، وبقيت الفتحة على التاء دليلا على الألف المحذوفة، وما ذكرته يجري في إعلال كلّ فعل ناقص، مثل: نجا، ورمى، وسعى، ودعا، وغزا، هذا، وتحرك واو الجماعة بالضّمة إذا لقيها ساكن، كما في هذه الآية (آتوا) ولم تحرك بالكسرة؛ لأنّ الكسرة لا تناسبها، وقيل: حركت بالضم دون غيره؛ ليفرق بين الواو الأصلية وبين واو الجماعة في نحو قولك: «لو اجتهدت؛ لنجحت» . وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة، وقيل: ضمت؛ لأنّ الضّمة هنا أخفّ من الكسرة؛ لأنها من جنس الواو، وقيل: غير ذلك.

هذا والزكاة في اللغة التطهير والإصلاح والنماء والمدح، يقال: زكا الزرع والمال، يزكو، إذا كثر وزاد، وسمي الإخراج من المال زكاة، وهو نقص منه حيث ينمو بالبركة، قال تعالى في سورة سبأ رقم [39]:{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} كما يقال: زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة والإغفال، فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق، الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس، وقد قال تعالى في سورة التوبة رقم [103]{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} .

والزكاة في الشرع: اسم لما يخرج من مال، أو بدن على وجه مخصوص، وهي أحد أركان الإسلام الخمسة الّتي بني عليها الإسلام، ومن ثمّ يكفر جاحدها على الإطلاق، أو في القدر المجمع عليه، ويقاتل الممتنع عن أدائها، وتؤخذ منه قهرا، كما فعل الصدّيق-رضي الله عنه، وتدفع الزكاة لأشخاص معلومين مذكورين في الآية رقم [60] من سورة (التوبة)، وزكاة الفطر لا يوجد نصّ صريح في القرآن عليها، إلا ما تأوّله بعض المفسرين في قوله تعالى في سورة الأعلى:

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى،} وتحدّثت عنها بعونه تعالى عند الكلام على آي الصيام.

هذا وأضيف: أنّ الزكاة قرينة الصّلاة، فقد روي: أنّ أعرابيّا جاء إلى ابن عباس-رضي الله عنهما، فقال له: يا بن عباس! أنت حبر الأمة، وترجمان القرآن، علّمك الله أسرار الكتاب، وفقّهك في الدّين، فقل لي بربك: لماذا قرن الله الصّلاة إلى الزّكاة في القرآن في أكثر من ثلاثين آية؟ فقال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: ذلك لتعلم أنّ الصلاة، والزّكاة توأمان، لا يقبل الله إحداهما بدون الأخرى، تلك حقّ الله، وهذه حقّ الناس، ورضي الله عن الصدّيق الذي سوّى

ص: 673

بين المرتدّين ومانعي الزكاة في المحاربة، والقتال، كما هو معلوم ومشهور، وخذ قول أبي العتاهية الصّوفي، رحمه الله:[الكامل]

أقم الصّلاة لوقتها بشروطها

فمن الضّلال تفاوت الميقات

وإذا اتّسعت برزق ربّك فاجعلن

منه الأجلّ لأوجه الصّدقات

في الأقربين وفي الأباعد تارة

إنّ الزّكاة قرينة الصّلوات

هذا؛ وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى في غير هذا الموضع-: وفي حديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فرّق بين ثلاث، فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة، من قال: أطيع الله ولا أطيع الرسول، والله يقول:{أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ،} ومن قال: أقيم الصّلاة، ولا أوتي الزكاة، والله يقول:{وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ} ومن فرّق بين شكر الله وشكر والديه، والله عز وجل يقول:

{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ». انتهى. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ..} . إلخ: انظر الآية رقم [262] ففيها الكفاية.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها.

{وَعَمِلُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملتان بعدها معطوفتان عليها، لا محل لهما أيضا.

{الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، وهو صفة لموصول محذوف. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ..}. إلخ: انظر الآية رقم [262] ففيها الكفاية، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [254] ففيها الكفاية، فالله يأمر عباده المؤمنين بتقواه، وينهاهم عمّا يقرّبهم إلى سخطه، ويبعدهم عن رضاه، والمعنى: خافوا الله، وراقبوه فيما تفعلون، {وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا} أي: اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رءوس الأموال بعد هذا الإنذار. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} مصدقين بما شرع الله لكم من تحليل البيع، وتحريم الربا، وغير ذلك.

وقد ذكروا: أنّ هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عمير، من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربا في الجاهلية، فلمّا جاء الإسلام، ودخلوا جميعا في الإسلام؛ طلبت ثقيف أن تأخذه منهم. فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدّي الربا في الإسلام، فكتب عتّاب ابن أسيد والي مكة بعد فتحها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ص: 674

فقالوا: نتوب إلى الله، ونذر ما بقي من الرّبا، فتركوه كلّهم. ذكره ابن جريج، ومقاتل، والسدّيّ. وخذ ما يلي:

فعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» . أخرجه مسلم، رحمه الله تعالى. فنصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جريان الرّبا في هذه الأشياء الستّة.

هذا وأما (ذر) فهو بمعنى: أعرض، واترك، والمستعمل من هذه المادة: المضارع، والأمر فقط، ومثله:(دع) ومضارعه: يدع، فكلا المادتين ناقص التصرّف، وهما بمعنى الترك والإعراض، وقد سمع سماعا نادرا الماضي منهما. فقالوا: ودع ووذر بوزن وضع، إلا أن ذلك شاذ في الاستعمال؛ لأن العرب كلهم إلا قليلا منهم أميت هذا الماضي من لغاتهم، وليس المعنى: أنهم لم يتكلموا به البتة، بل تكلموا به دهرا، ثمّ أماتوه بإهمالهم استعماله، فلمّا جمع العلماء ما وصل إليهم من لغات العرب؛ وجدوه مماتا، إلا ما سمع منه سماعا نادرا، فقد قرئ قوله تعالى في سورة (الضّحى):(«ما ودعك ربّك وما قلى») بالتّخفيف، وقال الشاعر:[الطويل]

وثمّ ودعنا آل عمرو وعامر

فرائس أطراف المثقّفة السّمر

وقال آخر: [الرمل]

ليت شعري يا خليلي ما الّذي

نما له في الحبّ حتّى ودعه

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «دعوا الحبشة ما ودعوكم» . وسمع المصدر منه في قوله صلى الله عليه وسلم: «لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات، أو لأحرّقنّ عليهم بيوتهم» أي: عن تركهم إيّاها، وسمع منه اسم الفاعل، واسم المفعول في أبيات من الشعر، قال خفاف بن ندبة-رضي الله عنه:[الطويل]

إذا ما استحمّت أرضه من سمائه

جرى وهو مودوع وواعد مصدّق

هذا رأي أكثر النّحاة. وقال محبّ الدين الخطيب شارح شواهد الكشّاف-رحمه الله تعالى-: فقد رويت هذه الكلمة، أي:(دع) عن أفصح العرب-يقصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم-ونقلت عن طريق القراء، فكيف تكون إماتة؟ وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذه سبيله، فيجوز القول بقلّة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة، وأضيف: إن كثيرا من النّحاة يقولون في ماضي: (عم ويعم) ما قيل في ماضي (دع، وذر) وخذ قول امرئ القيس وهو الشاهد رقم [308] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [85] من كتابنا فتح ربّ البرية:[الطويل]

ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي

وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟

وهل يعمن من كان أحدث عهده

ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال؟

ص: 675

الإعراب: {يا أَيُّهَا:} ({يا}): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. ({أَيُّهَا}): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب ({يا})، و (ها): حرف تنبيه لا محلّ له من الإعراب، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه ولا يقال ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنّه حينئذ يجب نصب المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من (أيّ) أو عطف بيان عليه. {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها. {اِتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، والجملة بعدها معطوفة عليها. {ما:} اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {بَقِيَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {ما} وهو العائد أو الرابط، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، {مِنَ الرِّبا:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر. و {مِنَ} بيان لما أبهم في {ما،} {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمها. {مُؤْمِنِينَ:} خبر {كُنْتُمْ:} منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم مؤمنين؛ فاتقوا الله وذروا

إلخ، والجملة الشرطية لا محل لها كالجمل الّتي قبلها.

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)}

الشرح: بالإضافة لما ذكرته من سبب نزول الآيات، قيل: نزلت في العباس، وعثمان رضي الله عنهما، وكانا قد أسلفا في التّمر، فلما كان وقت الجذاذ؛ قال صاحب التّمر لهما:

إن أنتما أخذتما حقّكما لم يبق ما يكفي عيالي، فهل لكما أن تأخذا النّصف، وتؤخرا النصف، وأضعف لكما، ففعلا، فلمّا حلّ الأجل طلبا منه الزّيادة، فبلغ ذلك النّبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهما، وأنزل الله هذه الآيات، فسمعا، وأطاعا. وأخذا رءوس أموالهما، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع فيما رواه جابر-رضي الله عنه-من إفراد مسلم رحمه الله تعالى:«ألا كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أوّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد، فقتله بنو هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع ربانا؛ ربا عبّاس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كلّه» .

ص: 676

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا:} فإن لم تتركوا الرّبا، وتمتثلوا أمر الله، وأمر رسوله بذلك، وانظر {فَإِنْ لَمْ يُصِبْها} في الآية رقم [265]. {فَأْذَنُوا:} فاعلموا، وأيقنوا، ويقرأ:(«فآذنوا») بمد الهمزة وكسر الذال، ومعناه: فأعلموا غيركم. والفعل على القراءتين مأخوذ من الأذان، وهو الإعلام في اللّغة. {بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ:} محاربة الله للمرابي في النار يوم القيامة، فعن ابن عبّاس-رضي الله عنهما. قال: يقال لآكل الرّبا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب، ومحاربة الرّسول صلى الله عليه وسلم له بالسّيف في الدّنيا، وهذا يقتضي أن يقاتل المرابي حتّى ينتهي عن الرّبا، ويعلن توبته، وقتاله كقتال البغاة. يروى: أن أصحاب الرّبا حين نزلت الآية الكريمة؛ قالوا: لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله، واكتفوا برءوس أموالهم، وأعلنوا توبتهم. {لا تَظْلِمُونَ:} غرماءكم بأخذ الزيادة على رأس المال. {وَلا تُظْلَمُونَ:} أنتم من قبلهم بالمطل، والنقصان، ويفهم منه: أنهم إن لم يتوبوا؛ فليس لهم رأس مالهم، وهو سديد على ما قلناه؛ إذ المصرّ على التّحليل مرتدّ، وماله فيء. انتهى. بيضاوي.

تنبيه: لم يؤذن الله أحدا بالمحاربة غير آكل الرّبا، والمؤذي لأولياء الله الصّالحين، وخذ ما يلي: فقد روى البخاريّ-رحمه الله تعالى-عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى قال: من عادى لي وليّا، فقد آذنته بالحرب

إلخ». هذا والولي: هو الذي لم يفعل كبيرة، ولم يصرّ على صغيرة. هذا؛ ويقرأ الفعل:(«ما بقي») بسكون الياء، ومثل هذا يرد في الشعر العربي، قال جرير في عبد الملك بن مروان، وهو الشاهد رقم [1132] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكمو

ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

وقال عمر بن أبي ربيعة، وهو الشاهد رقم [347] من الكتاب المذكور:[البسيط]

كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركمو

يا أشبه النّاس كلّ النّاس بالقمر

إنّي لأجذل أن أمسي مقابله

حبّا لرؤية من أشبهت في الصّور

الشاهد فيهما تسكين ياء (رضي) وياء (أمسي) مع أنّ الواجب تحريكها بالفتحة. هذا؛ وقرأ الحسن: («ما بقى») بالألف، وهي لغة طيّئ، ومنه قول الشاعر:[الطويل]

لعمرك لا أخشى التّصعلك ما بقى

على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف، وقيل: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم.

{لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَفْعَلُوا:} فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ وهو في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

ص: 677

{فَأْذَنُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشّرط. (ائذنوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط، والجملة الشرطية مستأنفة لا محلّ لها. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَرَسُولِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {تُبْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها

إلخ، والمتعلّق محذوف. {فَلَكُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، (لكم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {رُؤُسُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {أَمْوالِكُمْ:}

مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها. {لا:} نافية، {تَظْلِمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الضمير فقط.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. {لا:} نافية. {تَظْلِمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}

الشرح: {وَإِنْ كانَ..} . إلخ: بعد خضوع أصحاب الدّيون لأمر الله، وأمر رسوله، حيث رضوا برءوس أموالهم، وتجاوزوا عن الرّبا، كما رأيت في الآية السابقة؛ طالبوا المدينين برءوس أموالهم، وألحّوا في الطّلب، فشكا المدينون الإعسار، وطلبوا الإمهال، والإنظار، فأبوا، فنزلت الآية الكريمة الّتي توجب الإنظار إلى اليسار، والسّعة، وتحثّ على الصدقة بإسقاط بعض الدّيون عن المعسرين، أو بإبرائهم منها، والإسقاط، أو الإبراء سنّة، وهو أفضل من الإمهال، وهو واجب، وهذا من المستثنيات من قاعدة:«الواجب أفضل من المندوب» ، ومنه ابتداء السّلام سنّة، وهو أفضل من الردّ مع كونه واجبا، هذا، وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، انظر الالتفات في الآية رقم [253].

هذا والعسرة: الضيق المالي، والفقر، والحاجة. والنّظرة: الإمهال، والانتظار، ومنه قوله تعالى في الآية رقم [104]:{وَقُولُوا انْظُرْنا،} وقال علقمة الفحل: [الطويل]

فإنّكما إن تنظراني ساعة

من الدّهر ينفعني لدى أمّ جندب

وقال عمرو بن كلثوم في معلّقته رقم [20]: [الوافر]

ص: 678

أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبّرك اليقينا

{إِلى مَيْسَرَةٍ:} إلى زمن اليسار، وهو ضدّ الإعسار، وهو وجدان المال الذي يؤديه في دينه. {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي: وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدّين، فتتركوا رءوس أموالكم للمعسر خير لكم. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ:} أنّ التصدق خير لكم وأفضل؛ لأنّ فيه الثناء الجميل في الدّنيا، والثّواب الجزيل في العقبى، وخذ ما يلي:

عن أبي قتادة-رضي الله عنه: أنه طلب غريما له، فتوارى عنه، ثمّ وجده، فقال: إنّي معسر، قال: فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة؛ فلينفّس عن معسر، أو يضع عنه» ، أخرجه مسلم.

وعن أبي اليسر-رضي الله عنه-قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر معسرا، أو وضع عنه؛ أظلّه الله يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه» أخرجه مسلم.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن قبلكم تاجر يداين النّاس، فإن رأى معسرا؛ قال لفتيانه: تجاوزوا عنه؛ لعلّ الله أن يتجاوز عنّا، فتجاوز الله عنه» متّفق عليه.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض تام بمعنى: وجد، وحدث، مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {ذُو:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، وهو مضاف، و {عُسْرَةٍ:}

مضاف إليه. هذا؛ وقيل: {كانَ} ناقصة، وتكلف تقدير خبر لها، ولا داعي لهذا التكلّف.

وقرئ: («كان ذا عسرة») وعليه فهي ناقصة، واسمها محذوف، التقدير: كان المدين ذا عسرة، و (ذا) خبرها منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، وعلى كلّ فجملة:{كانَ..} . إلخ لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

هذا؛ ومن ورود «كان» تامة في الشّعر العربي قول الشاعر: [الطويل]

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي

إذا كان يوم ذو كواكب أشحب

{فَنَظِرَةٌ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (نظرة): خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

فالواجب نظرة، أو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: فعليكم نظرة، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد، و ({إِنْ}) ومدخولها كلام مستأنف، أو معطوف على ما قبله لا محلّ له مثله. {إِلى مَيْسَرَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (نظرة)، أو ب (نظرة). {وَإِنْ:} الواو: واو الحال، (أن): حرف مصدري ونصب. {تَصَدَّقُوا:} فعل مضارع منصوب ب (أن) وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {وَأَنْ تَصَدَّقُوا:} في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْرٌ}

ص: 679

وتقدير الكلام: صدقاتكم، أو تصدقكم خير لكم، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من تاء الفاعل في الآية السابقة، فلست مفندا، وهي حال مقدرة، والرابط: الواو والضمير، ويكون ما بينهما كلاما معترضا بين الحال وصاحبها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف للتعميم، التقدير:

تعلمون: أنه خير، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كُنْتُمْ} والجملة الفعلية لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، التقدير: إن كنتم تعلمون: أنه خير؛ فافعلوه، ونحو ذلك، والجملة الشرطية معترضة في آخر الكلام لا محل لها، الغرض منها الحثّ على الصّدقة، والتصدّق.

{وَاِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)}

الشرح: {وَاتَّقُوا:} خافوا، واحذروا، وأصله: اتّوقيوا، فأبدل من الواو تاء، ثمّ أدغمت التاء في التاء، وسكنت الياء بعد حذف ضمتها، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فصار ({اِتَّقُوا}) ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو. {يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ:} هو يوم القيامة الذي يحاسب الله فيه الناس على أعمالهم. {ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ:} تجزى كلّ نفس جزاء عملها. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي: بنقص حسنة، أو زيادة سيّئة، وهذه الجملة تأكيد لما قبلها.

روي عن ابن عبّاس-رضي الله عنهما: أنّها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام، وقال للرّسول صلى الله عليه وسلم: ضعها في رأس المائتين والثّمانين من سورة البقرة، وعاش بعدها أحدا وعشرين يوما. وقيل: أحدا وثمانين، وقيل: سبعة أيام، ثمّ توفي يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة الشّريفة، والآية تتضمّن الوعيد، والتهديد؛ ليستعدّ المؤمن ليوم الرّحيل من هذه الدّنيا الفانية.

الإعراب: {وَاتَّقُوا:} الواو: حرف عطف. ({اِتَّقُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {يَوْماً:} مفعول به. {تُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون والواو نائب فاعله. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {يَوْماً،} والرابط الضمير المجرور محلاّ ب (في). {إِلَى اللهِ:} متعلقان ب {تُرْجَعُونَ،} وجملة: ({اِتَّقُوا..}.) إلخ معطوفة على مثلها في الآية رقم [278] لا محل لها مثلها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {تُوَفّى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {كُلُّ:} نائب فاعله، وهو المفعول الأول، وهو مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به

ص: 680

ثان. {كَسَبَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {نَفْسٍ} والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو: شيئا كسبته، وإن اعتبرت ({ما}) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به ثان، التقدير: توفى كلّ نفس كسبها، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{تُرْجَعُونَ..} . إلخ فهي في محل نصب مثلها.

{وَهُمْ:} الواو: واو الحال. ({هُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{لا:} نافية. {يُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {كُلُّ نَفْسٍ،} وجمع الضمير لعوده على {كُلُّ،} والرابط: الواو والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَاِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}

الشرح: لمّا ذكر الله تعالى الربا، وبيّن ما فيه من قبح وشناعة؛ لأنّه زيادة مقتطعة من عرق المدين، ولحمه، وهو كسب خبيث يمقته الإسلام، ويحرمه؛ أعقبه بذكر القرض الحسن بلا فائدة. وذكر الأحكام الخاصة بالدّين، والتّجارة والرّهن، وكلّها طريقة شريفة لتنمية المال، وزيادته بما فيه صلاح الفرد، والمجتمع.

وآية الدين أطول آيات القرآن على الإطلاق مما يدلّ على عناية الإسلام بالنّظم الاقتصادية، وقد قال ابن جرير الطّبري عن سعيد بن المسيب: أنه بلغه: أن أحدث القرآن بالعرش آية الدّين.

ص: 681

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لمّا حرم الله الرّبا؛ أباح السّلم، وقال: أشهد أن السّلف المضمون إلى أجل مسمّى، قد أحلّه الله في كتابه، وأذن فيه. هذا وهي تتناول جميع المداينات إجماعا، وقال خويز منداد: إنّها تضمنت ثلاثين حكما. {بِدَيْنٍ:} تأكيد مثل قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} وحقيقة الدّين عبارة عن كل معاملة، كان أحد العوضين فيها نقدا، والآخر في الذّمّة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدّين ما كان غائبا، قال الشاعر:[الوافر]

لترم بي المنايا حيث شاءت

إذا لم ترمني في الحفرتين

إذا ما أوقدوا حطبا ونارا

فذاك الموت نقدا غير دين

{إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: معين معلوم، قال ابن المنذر: دلّ قوله تعالى على أنّ السّلم إلى الأجل المجهول غير جائز، ودلّت السّنّة على مثل معنى كتاب الله، فقد ثبت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهم يستلفون في الثّمار السّنتين، والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أسلف في تمر، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . رواه البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن ابن عباس-رضي الله عنهما. وجوز المالكية السّلم إلى الحصاد، والجذاذ؛ لأن ذلك يختصّ بوقت، وزمن معلوم.

{فَاكْتُبُوهُ:} أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة، والحفظ، فأمر العباد أمر إرشاد لا أمر إيجاب، كما ذهب إليه بعضهم، قال ابن جريج-رحمه الله تعالى-: من ادّان فليكتب، ومن ابتاع، فليشهد؛ فقد روى الإمامان: الحافظ ابن مردويه، والحاكم في مستدركه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل له امرأة سيّئة الخلق فلم يطلّقها، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ، ورجل أقرض رجلا مالا، فلم يشهد» قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، وقال قتادة-رحمه الله-ذكر لنا أنّ أبا سليمان المرعشي، كان رجلا صحب كعبا، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ فقالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع بيعا إلى أجل، فلم يشهد، ولم يكتب، فلما حلّ ماله جحده صاحبه، فدعا ربّه، فلم يستجب له؛ لأنه قد عصى ربّه.

{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أي: بالقسط، والحق، ولا يجر في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة، ولا نقصان، ومن غير تقديم أجل، أو تأخيره. قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها، عدل في نفسه مأمون.

{وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ:} ولا يمتنع كاتب من كتابة وثيقة بين المتداينين.

واختلف في وجوب الكتابة على الكاتب، والشهادة على الشاهد، فأحسن ما قيل: إنه فرض

ص: 682

كفاية، وهو قول الشّعبي، فإن لم يوجد إلا واحد، وجب عليه ذلك، وقيل: هو على النّدب، والاستحباب، وذلك؛ لأن الله تعالى لمّا علمه الكتابة، وشرّفه بها، استحبّ له أن يكتب ليقضي حاجة أخيه المسلم، ويشكر تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه، وهو المعتمد، ودليل ذلك: أنه يجوز له أن يتقاضى أجرا على كتابته، ولو كانت واجبة؛ لا يجوز له أخذ الأجرة عليها.

هذا؛ و {يَأْبَ:} من الإباء، وهو الامتناع، أو أشدّه، وإباء الله: قضاؤه ألا يكون الأمر، أو عدم قضائه أن يكون، قال تعالى في سورة (التّوبة) رقم [32]:{وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} . ويكون متعدّيا إن كان بمعنى: كره، ولازما إن كان بمعنى: امتنع، وهذا الفعل يتضمّن النفي، والإيجاب؛ لأنه بمعنى: لا يقبل إلا

إلخ. هذا؛ وأبى، يأبى من الباب الثالث شاذّ؛ لأنه لم يكن عينه أو لامه حرفا من حروف الحلق، ولم يجئ منه إلا قلى، يقلى، وغسى، يغسى، وجبى، يجبى، وعسى، يعسى.

{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} أي: يلقي الذي عليه الحق، ويقرّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه من الحقّ، فيذكر قدره، وجنسه، وصفة الأجل، ونحو ذلك. والإملال، والإملاء: لغتان فصيحتان معناهما واحد، تقول: أمللت، وأمليت. وجاء القرآن باللّغتين. {وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} أي: وليخف ربّه في إملائه على الكاتب. {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} أي: ولا ينقص من الحقّ الذي عليه شيئا في الإملاء، فيكون جحودا لبعض حقّه.

{فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} أي: جاهلا بالإملاء، وقيل: هو الطفل الصغير. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: السفيه: هو المبذر، المفسد لماله، ودينه. هذا، والسّفه: سخافة العقل. ومن ركب متن الباطل كان سفيها، فكل هذه المعاني يجوز إطلاقها على السّفه، والسّفيه. وانظر (سفه) في الآية رقم [130]. {أَوْ ضَعِيفاً:} صبيّا، أو شيخا عاجزا. هذا؛ والبذيء اللسان يسمى: سفيها؛ لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهّال الناس، وأصحاب، العقول الخفيفة، والعرب تطلق السّفه على ضعف العقل تارة، وعلى ضعف البدن أخرى، قال الشاعر:[السريع]

نخاف أن تسفه أحلامنا

ويجهل الدّهر مع الحالم

وقال ذو الرّمّة: [الطويل]

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم

{أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} أي: لا يقدر على الإملاء لخرس، أو جهل باللغة، أو لعيّه، أو جهله بأداء الكلام، أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكاتب، أو يجهل بما له، أو عليه، فهؤلاء كلّهم لا يصحّ إقرارهم وإملاؤهم، فلا بدّ من أن يقوم غيرهم مقامهم، وهو قوله تعالى:{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي: ولي كلّ واحد من هؤلاء المحجور عليهم؛ لأنّه يقوم مقامه في صحة الإقرار،

ص: 683

والإملاء؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالوليّ صاحب الدّين، يعني إن عجز الذي عليه الحق من الإملاء فليملل صاحب الحقّ؛ لأنه أعلم بحقه. {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ:} الاستشهاد: طلب الشهادة، وهي سنّة على المعتمد، رتب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية، والبدنية، والحدود، وجعل في كلّ فنّ شهيدين إلا في الزنى فإنّهم أربعة. و ({شَهِيدٌ}) بناء مبالغة، وقوله:({رِجالِكُمْ}) نصّ في رفض شهادة الكفّار والصّبيان، والنّساء.

والكفار يشهد بعضهم لبعض، وعلى بعض. وأمر الله بالاستشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة.

{فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ:} فشهادة المرأتين تقوم مقام شهادة الرجل الواحد، وهذا إنّما يكون في الأموال، وما يقصد به المال عند الشافعي، وبما عدا الحدود، والقصاص عند أبي حنيفة، وأما الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء فتكفي شهادة أربع نسوة، وقد بين الله سبحانه السّبب بجعل شهادة المرأتين مقابل شهادة الرجل الواحد بقوله:{أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى:} فالمرأة يغلب عليها النسيان، حتى لو نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى، فتقول: حضرنا مجلس كذا، وسمعنا كذا، فيحصل بذلك الذكرى، وقد جعل ذلك من نقص العقل، كما قال مسلم رحمه الله تعالى عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «يا معشر النّساء! تصدّقن وأكثرن الاستغفار، فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار» . فقالت امرأة منهنّ جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: «تكثرن اللّعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل، ودين أغلب لذي لبّ منكنّ» قالت: يا رسول الله ما نقصان العقل والدّين؟ قال: «أمّا نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث اللّيالي لا تصلّي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدّين» .

وعن أبي سعيد-رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو في فطر.

فمرّ على النساء، فقال:«يا معشر النّساء! تصدّقن، فإنّي أريتكنّ أكثر أهل النّار» فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللّعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكنّ» قلن: وما نقصان عقلنا، وديننا يا رسول الله؟ قال:«أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرّجل؟» قلن: بلى! قال: «فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ، ولم تصم؟» قلن: بلى! قال: «فذلك من نقصان دينها» .

ومن قول علي-رضي الله عنه-في وصف النّساء: يتظلّمن، وهنّ الظّالمات، ويتمنّعن وهنّ الراغبات، لو صنعت مع إحداهنّ الخير الدّهر كلّه، ثم رأت ما يغير خاطرها، تقول: ما رأيت خيرا قطّ، وهذا تفسير لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«تكفرن العشير» .

{وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا} أي: لا يمتنع الشهداء عن تحمّل الشّهادة إذا دعوا إلى تحمّلها، وذكرت آنفا: أن تحمّل الشهادة فرض كفاية. هذا، وفسر قوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ}

ص: 684

{الشُّهَداءِ} أي: ممن ترضون دينه، وخلقه، وأمانته، وهو ما يعبر عنه بالعدالة، وهي الاعتدال في الأحوال الدينية، وذلك يتمّ بأن يكون مجتنبا للكبائر، محافظا على مروءته، وغير مصرّ على الصغائر، ظاهر الأمانة غير مغفل هذا، وإذ قد شرط الله تعالى الرضا، والعدالة في المداينة، فاشتراطها عند الأئمّة في النّكاح أولى، خلافا لأبي حنيفة حيث قال: إنّ النّكاح ينعقد بشهادة فاسقين.

{وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ} أي: لا تملّوا أن تكتبوا الحقّ على أيّ حال كان من القلّة، والكثرة إلى أجله، قال الأخفش: يقال: سئمت، أسأم، سأما، وسآمة وسآما، وسأمة وسأما، قال زهير في معلقته رقم [58]:[الطويل]

سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش

ثمانين حولا-لا أبا لك-يسأم

{ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ:} أعدل. {وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ:} أصح، وأحفظ. {وَأَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا:}

وأقرب إلى اليقين وعدم الريبة؛ لأنكم ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه، فيفصل بينكم. {إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً..}. إلخ؛ أي: إذا كان البيع الحاضر يدا بيد؛ فلا حاجة إلى الكتابة لانتفاء المحذور، وهو التنازع، ومعنى {تُدِيرُونَها:} تعاطيها يدا بيد. {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ..} . إلخ: فلا بأس ولا مؤاخذة. {وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ:} أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا، ناجزا، أو كالئا؛ لأنه أبعد من وقوع الاختلاف، وهو أمر ندب بلا شكّ، ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضّحاك. قال: وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم وكتب، وقد باع ولم يشهد، واشترى، ورهن درعه عند يهودي، ولم يشهد، ولو كان الإشهاد واجبا؛ لوجب مع الرهن لخوف المنازعة.

{وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ:} يحتمل الفعل البناء للفاعل، والبناء للمفعول، فالمعنى على الأول: لا يدخل الكاتب، والشاهد الضّرر على صاحب الحق، والمدين بزيادة أو نقص. وعلى الثاني: لا يدخل الضرر من صاحب الحق والمدين على الكاتب، والشهيد، بأن يدعى الشّاهد إلى الشهادة، والكاتب إلى الكتابة، وهما مشغولان؛ فإن اعتذرا بعذرهما؛ أخرجهما وآذاهما، وقال: خالفتما أمر الله. ونحو هذا من القول الفظ، فيضربهما. هذا؛ وعلى الأول فأصل الفعل:(يضارر) وعلى الثاني، فأصله:(يضارر) بفتح الراء الأولى، والأول بكسرها، ومثله قوله تعالى في الآية رقم [233]:{لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها} .

({إِنْ تَفْعَلُوا}) يعني: المضارّة {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي: معصية. فعن سفيان الثوري-رحمه الله تعالى-قال: فالكاتب، والشاهد يعصيان بالزيادة، والنقصان، وذلك في الكذب المؤذي في الأموال، والأبدان، وفيه إبطال الحق، وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية، وخروج عن الصّواب من حيث المخالفة لأمر الله.

ص: 685

{وَاتَّقُوا اللهَ..} . إلخ: وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علّمه، أي: يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه فرقانا؛ أي: فيصلا يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [29]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً..} .

إلخ. هذا وكرّر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث؛ لإدخال الرّوعة في القلوب، وتربية المهابة في النفوس.

فائدة: العلم نوعان: كسبيّ، ووهبيّ، أما الأول؛ فيكون تحصيله بالاجتهاد، والمثابرة والمذاكرة، وأما الثاني؛ فطريقه: تقوى الله، والعمل الصالح، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} . وهذا العلم يسمّى العلم اللّدنّي، قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [66]:

{وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً} وهو العلم النافع الذي يهبه الله لمن يشاء من عباده المتقين، وإليه أشار الإمام الشّافعي رحمه الله تعالى بقوله:[الوافر]

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأنّ العلم نور

ونور الله لا يهدى لعاصي

تنبيه: الآية الكريمة في بيع السّلم، أو السّلف عبارتان في معنى واحد، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب: السّلم؛ لأن السّلف يقال على القرض، والسّلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك، وأرخص صلى الله عليه وسلم فيه؛ لأنه لمّا كان بيع معلوم في الذمّة، كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة واحد من المتبايعين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثّمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبّانها لينفقه عليها، فظهر: أن بيع السلم من المصالح الحاجيّة، وقد سمّاه الفقهاء: بيع المحاويج، وللسّلم شروط متفق عليها، ومختلف فيها، وهي تسعة، ستّة في المسلم فيه، وثلاثة في رأس مال السّلم.

أما الستة التي في المسلم فيه؛ فأن يكون في الذمّة، وأن يكون موصوفا، وأن يكون مقدّرا، وأن يكون مؤجّلا، وأن يكون الأجل معلوما، وأن يكون موجودا عند محل الأجل، وأما الثلاثة التي في رأس مال السلم فأن يكون معلوم الجنس، وأن يكون مقدّرا، وأن يكون نقدا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

وهذه الشروط في المذهب المالكي، وخذها في المذهب الشافعي، وهي ما يلي: قال أبو شجاع رحمه الله تعالى: ويصحّ السّلم حالا، ومؤجّلا فيما تكامل فيه خمسة شرائط: أن يكون مضبوطا بالصّفة، وأن يكون جنسا لم يختلط فيه غيره، ولم تدخله النار لإحالته، وأن لا يكون معينا، ولا من معين. ثمّ لصحة المسلم فيه ثمانية شرائط، وهو أن يصفه بعد ذكر جنسه، ونوعه

ص: 686

بالصفات؛ التي يختلف بها الثّمن، وأن يذكر قدره بما ينفي الجهالة وإن كان مؤجّلا ذكر وقت محله، وأن يكون موجودا عند الاستحقاق في الغالب عنه، وإن يذكر موضع قبضه، وأن يكون الثمن معلوما، وأن يتقابضا قبل التفرق، وأن يكون عقد السّلم ناجزا، لا يدخله خيار الشرط.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية رقم [278] فإعرابها مثله. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {تَدايَنْتُمْ:} فعل وفاعل. {بِدَيْنٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان به أيضا، وقيل: متعلقان بمحذوف صفة (دين)، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {مُسَمًّى:} صفة {أَجَلٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، {فَاكْتُبُوهُ:}

الفاء: واقعة في جواب {إِذا،} (اكتبوه): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. والهاء مفعوله، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام لا محل له؛ لأنه مبتدأ كالجملة الندائية قبله، {وَلْيَكْتُبْ:} فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {كاتِبٌ:} فاعله. {بِالْعَدْلِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان ب {كاتِبٌ:} أو بمحذوف صفة له، وقيل: الباء زائدة، و (العدل) مفعول به، والأول أولى بالاعتبار، والجملة الفعلية:{وَلْيَكْتُبْ..} . إلخ معطوفة على جواب {إِذا} لا محل لها مثله.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {يَأْبَ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها. {كاتِبٌ:}

فاعله. {أَنْ يَكْتُبَ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والفاعل يعود إلى {كاتِبٌ،} و {أَنْ يَكْتُبَ:}

في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، إن كان {يَأْبَ} بمعنى يكره؛ أي: يكره الكتابة، وفي محل نصب بنزع الخافض إن كان بمعنى: يمتنع؛ أي: يمتنع من الكتابة، وجملة:{وَلا يَأْبَ..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما):

مصدرية. {عَلَّمَهُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف. {اللهُ:}

فاعل. و (ما) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، واقع مفعولا مطلقا، التقدير: أن يكتب كتابة كائنة مثل تعليم الله له، ويجوز اعتبار (ما) اسما موصولا مجرورا بالكاف، ويكون التقدير أن يكتب كتابة كائنة مثل الّتي علمه الله إيّاها، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدّم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها.

ص: 687

{فَلْيَكْتُبْ:} الفاء: حرف عطف. (ليكتب): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، والفاعل يعود إلى {كاتِبٌ،} ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (ليكتب

) إلخ، وهي مؤكدة لها. {وَلْيُمْلِلِ:} فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

{عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْحَقُّ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة، لا محل لها. هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صلة الموصول، و {الْحَقُّ:} فاعلا بالجار والمجرور؛ أي: بمتعلقه، التقدير: ليملل الّذي استقر عليه الحق.

{وَلْيَتَّقِ:} فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى الّذين. {اللهُ:} منصوب على التعظيم.

{رَبَّهُ:} بدل منه، أو عطف بيان عليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَلا يَبْخَسْ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} أيضا. ({مِنْهُ}): جار ومجرور متعلقان به. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. هذا؛ ويجوز تعليق الجار والمجرور {مِنْهُ} بمحذوف حال من {شَيْئاً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» .

{فَإِنْ:} الفاء: حرف عطف وتفريع. (إن): حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع اسم {كانَ} . {عَلَيْهِ الْحَقُّ:} مثل سابقه بلا فارق. {سَفِيهاً:} خبر {كانَ} . {أَوْ ضَعِيفاً:}

معطوف على ما قبله، وجملة:{كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لا:} نافية. {يَسْتَطِيعُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الذي، والجملة الفعلية معطوفة على {سَفِيهاً،} التقدير: أو كان غير مستطيع. {أَنْ يُمِلَّ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والفاعل يعود إلى الذي. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد للفاعل المستتر، والمصدر المؤول في محل نصب مفعول به. {فَلْيُمْلِلْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ليملل): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {وَلِيُّهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل، أو إضافة الصفة المشبهة للمفعول، والفاعل مستتر تقديره:

هو. {بِالْعَدْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز اعتبار الباء زائدة، فيكون العدل مفعولا به مجرورا لفظا، منصوبا محلاّ، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد، والجملة الشرطية مفرعة، ومعطوفة على ما قبلها لا محلّ لها أيضا.

ص: 688

{وَاسْتَشْهِدُوا:} الواو: حرف عطف. (استشهدوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {شَهِيدَيْنِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِنْ رِجالِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز تعليقهما بمحذوف صفة {شَهِيدَيْنِ،} والأولى تعليقهما ب {شَهِيدَيْنِ؛} لأنه مبالغة اسم فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {فَإِنْ:} الفاء: حرف عطف وتفريع. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُونا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ،} وهو في محل جزم فعل الشرط، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين اسمه. {رَجُلَيْنِ:} خبره منصوب

إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها مثل ما تقدّم. {فَرَجُلٌ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (رجل): مبتدأ.

{وَامْرَأَتانِ:} معطوف عليه مرفوع مثله، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (رجل {وَامْرَأَتانِ}) أي: كائنون من، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: من الذين ترضونهم. {مِنَ الشُّهَداءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف الواقع مفعولا به. هذا؛ وخبر المبتدأ محذوف؛ إذ التقدير: يشهدون. هذا؛ وجوز اعتبار (رجل {وَامْرَأَتانِ}) خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير:

فالمستشهد رجل

إلخ، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي في محل جزم جواب الشرط

إلخ، وعليه فالجملة الجوابية فعلية. تأمّل. و ({أَنْ}) ومدخولها كلام معطوف ومفرع عما قبله، لا محل لها من الإعراب. {تَضِلَّ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ،} والمصدر المؤول منهما في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بضلال، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وتعدّد النساء لأجل ضلال إحداهما، وهذا كلام محمول على المعنى، التقدير: وتعدّد النساء لأن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلّت. أو لضلالها.

انتهى عكبري بتصرف كبير. أقول: ولا مانع من اعتبار تعدّد المقدّر فعلا ماضيا، والنّساء المقدّر أيضا فاعلا به، والجار والمجرور «لضلال» متعلقين بالفعل الماضي، فتكون الجملة فعلية. هذا؛ وقال مكي: الجار والمجرور متعلقان بالفعل «يشهدون» المقدّر خبرا، واعتبر اللام المقدرة للعاقبة مثل قوله عبد الله بن الزّبعرى: وهو الشاهد رقم [388] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [المتقارب]

فإن يكن الموت أفناهم

فللموت ما تلد الوالده

وأرى أن لا وجه له. {إِحْداهُما:} فاعل {تَضِلَّ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية.

ص: 689

{فَتُذَكِّرَ:} معطوف على {تَضِلَّ} منصوب مثله. {إِحْداهُما:} فاعله. {الْأُخْرى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. هذا؛ وقرئ:({أَنْ}) بكسر الهمزة على أنها حرف شرط جازم، ويكون {تَضِلَّ} فعل الشرط مجزوما، وحرك بالفتحة على قاعدة المضعّف، كما يقرأ («تذكر») بالرفع على أن الجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهي تذكر، والجملة الاسمية هذه في محل جزم جواب الشرط، على حد قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [95]:{وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ،} والجملة الشرطية: {أَنْ تَضِلَّ..} . إلخ فيها معنى التعليل. وقال القرطبيّ، ومكيّ: في محل رفع صفة ({اِمْرَأَتانِ}). هذا؛ وأقول: إن معنى القراءتين يختلف فالفتح على معنى التعليل، والكسر على معنى: إن وقع ضلال فالضلال منتظر.

ومثل ذلك قول الفرزدق، وهو الشاهد رقم [29] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» حيث يروى بفتح الهمزة وكسرها، وخذه:[الطويل]

أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا

جهارا، ولم تغضب بقتل ابن حازم؟

{وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ:} انظر مثله فيما تقدّم، والجملة الفعلية معطوفة على ما تقدّم. {إِذا:}

انظر إعرابها في أول الآية. {ما:} صلة. {دُعُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، على المشهور المرجوح، وجواب {إِذا} محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إذا ما دعوا للشهادة فلا يأبوا تحملها. هذا؛ وإن اعتبرت {إِذا} مجردة من الشرطية فتكون ظرفا متعلقا بالفعل قبلها، ولا تحتاج إلى جواب.

{وَلا تَسْئَمُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {أَنْ تَكْتُبُوهُ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والمصدر المؤول في محل نصب مفعول به. {صَغِيراً:} حال من الضمير المنصوب، وقيل: خبر ل «كان» محذوفة، وليس بشيء. {كَبِيراً:} معطوف عليه. {إِلى أَجَلِهِ} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، أي: مستقرّا في ذمّة المدين إلى وقت حلوله، وقيل: متعلقان بالفعل قبلهما، ولا وجه له لعدم استمرار الكتابة إلى أجله؛ إذ تنتهي في زمن يسير، قاله أبو حيان، وهو في مغني اللّبيب، والهاء في محل جر بالإضافة.

{ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَقْسَطُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {عِنْدَ:}

ظرف مكان متعلق ب {أَقْسَطُ،} و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه. {وَأَقْوَمُ} معطوف على ما قبله. {لِلشَّهادَةِ:} متعلقان ب ({أَقْوَمُ})، وفيه وفي سابقه ضمير مستتر هو فاعل لهما.

ص: 690

{وَأَدْنى:} معطوف على ({أَقْوَمُ}) مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذّر.

{أَلاّ:} (أن) حرف ناصب. (لا): نافية. {تَرْتابُوا:} فعل مضارع منصوب ب (أن)، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: أدنى في عدم الرّيب والشّكّ. {أَلاّ:} حرف حصر. {أَنْ تَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب {أَنْ،} واسمه محذوف لعلمه من المقام؛ إذ التقدير:

إلا أن تكون المعاملة تجارة حاضرة.

وقال الزمخشري رحمه الله تعالى: التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب: [الطويل]

بني أسد هل تعلمون بلاءنا؟

إذا كان يوما ذا كواكب أشفعا

أي: إذا كان اليوم يوما. هذا؛ ويقرأ برفع («تجارة») على أنّ {تَكُونَ} تام بمعنى تحصل، أو تقع، و («تجارة») فاعله، و («حاضرة») صفة تجارة، والمصدر من ({أَنْ تَكُونَ}) في محل نصب على الاستثناء من الجنس؛ لأنه أمر بالكتابة في كل معاملة، واستثنى منها التجارة الحاضرة، والتقدير:

إلا في حال حضور التجارة، وقال مكيّ-رحمه الله تعالى-: المصدر المؤول في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، والأول أصوب. {تُدِيرُونَها:} فعل مضارع، وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب، أو في محل رفع صفة ثانية ل {تِجارَةً} ويجوز أن تكون في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدّم. هذا؛ وقيل: الجملة في محل نصب خبر {تَكُونَ} على رفع ({تِجارَةً}) واعتبار الفعل ناقصا. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَلَيْسَ:} الفاء: حرف عطف. (ليس): فعل ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (ليس) مقدم. {جُناحٌ:} اسمها مؤخر. {أَلاّ تَكْتُبُوها:} إعرابه مثل:

{أَلاّ تَرْتابُوا} والمصدر المؤول في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في عدم الكتابة، والجار والمجرور متعلقان ب {جُناحٌ} أو بمحذوف صفة له. وجملة:{فَلَيْسَ..} . إلخ معطوفة على الجملة من قوله: {إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً..} . إلخ، والسببية فيها واضحة، أفاده سليمان الجمل، أي: تسبب عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة. {وَأَشْهِدُوا:} فعل أمر، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِذا:} انظر مثلها في أول الآية {تَبايَعْتُمْ:}

فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إذا تبايعتم؛ فأشهدوا، ويجوز أن تكون ظرفا مجردا عن الشرطية، فلا تحتاج إلى جواب، ويكون المعنى: افعلوا الشهادة وقت التبايع. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}):

ناهية جازمة. {يُضَارَّ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وحركت الراء بالفتحة للخفّة. {كاتِبٌ:}

فاعله، والمفعول محذوف، التقدير: لا يضار كاتب أحد المتداينين، وهذا على اعتبار الفعل مبنيّا

ص: 691

للمعلوم، وعلى اعتباره مبنيّا للمجهول، ف {كاتِبٌ:} نائب فاعله، وعلى فك الفعل فالجزم ظاهر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): معطوفة على ما قبلها. {شَهِيدٌ:} معطوف على {كاتِبٌ} . {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({أَنْ}): حرف شرط جازم. {تَفْعَلُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والمفعول محذوف، التقدير: المضارة، والجملة الفعلية لا محل لها

إلخ. {فَإِنَّهُ:} الفاء:

واقعة في جواب الشرط. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {فُسُوقٌ:} خبر (إنّ).

{بِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب ({فُسُوقٌ})، والجملة الاسمية:{فَإِنَّهُ فُسُوقٌ} في محل جزم جواب الشرط، و (إنّ) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله. {وَاتَّقُوا:} فعل أمر وفاعله. (الله) منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَيُعَلِّمُكُمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وهو يعلمكم الله، والجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة. هذا ورجّح الاستئناف على الحالية. {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى.

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}

الشرح: لما ذكر الله تعالى النّدب إلى الإشهاد، والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان؛ عقّب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرّهن، ونصّ من أحوال العذر على السّفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيّما في ذلك الوقت لكثرة الغزو. ويدخل في ذلك بالمعنى كلّ عذر، فربّ وقت يتعذّر فيه الكاتب في الحضر، كأوقات أشغال الناس، وباللّيل، وأيضا فالخوف على خراب ذمّة الغريم عذر، يوجب طلب الرهن، ولا سيما في هذا الزمن. وقد رهن النّبيّ صلى الله عليه وسلم درعه عند يهوديّ طلب منه سلف الشّعير، فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال صلى الله عليه وسلم:«كذب إنّي لأمين في الأرض، أمين في السّماء، ولو ائتمنني لأدّيت، اذهبوا إليه بدرعي» فمات، ودرعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند اليهوديّ بثلاثين صاعا من شعير لأهله. أخرجه النّسائيّ من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما، وفي الصحيحين عن عائشة، وأنس ما يشبه ذلك، واسم اليهودي: أبو الشّحم.

هذا وفي النّفس من هذا الرّهن شيء، ما الذي ألجأ الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، والمسلمون فدوه بأرواحهم، وأموالهم، وعند وفاته صلى الله عليه وسلم كان بعض المسلمين أثرياء، كعثمان وعبد الرحمن بن

ص: 692

عوف، وكثير من الأنصار كانوا على جانب عظيم من الثّراء. فكيف رضي المسلمون بهذا الرّهن، ولا سيّما بعد أن تفوه اليهوديّ بما تفوّه به، لا أجد تفسيرا لذلك؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يضرب مثلا لحلّ معاملة أهل الكتاب بالبيع، والشّراء، والرّهن، وغير ذلك من أنواع المعاملات. والله أعلم.

هذا؛ والرهن: احتباس العين وثيقة بالحقّ، ليستوفى الحقّ من ثمنها، أو من ثمن منافعها عند تعذّر أخذه من الغريم. وهو في اللّغة بمعنى الدّوام، والثبوت، والاستمرار.

هذا؛ وبما أن الرّهن وثيقة لوفاء الدّين، لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون، فقد أخرج الدّارقطني عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرّهن، ولصاحبه غنمه وعليه غرمه» ، المعنى: لصاحبه منفعته، وعليه نفقته، ومصروفه. قال ابن عبد البر: وقد أجمعوا: أنّ لبن الرهن، وظهره للرّاهن. هذا وغلق الرّهن في يد مرتهنه: إذا لم يفتكّ. قال الشاعر: [الطويل]

أجارتنا من يجتمع يتفرّق

ومن يك رهنا للحوادث يغلق

وقال زهير بن أبي سلمى: [البسيط]

وفارقتك برهن لا فكاك له

يوم الوداع فأمسى الرّهن قد غلقا

{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي: فإن كان الّذي عليه الحقّ أمينا عند صاحب الحقّ، ولم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به. {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ} المعنى: فليؤد المدين الّذي عليه الحقّ، والذي كان أيضا في ظنّ الدّائن، الذي هو صاحب الحقّ أمينا، {أَمانَتَهُ} أي: حقّه، وسمى الدّين: أمانة-وإن كان مضمونا-لائتمانه عليه؛ حيث أمن من جحوده، فلم يكتب، ولم يشهد عليه، ولم يأخذ منه رهنا، وهذا حثّ للمدين على أن يكون عند حسن ظنّ الدائن الذي ائتمنه، وأن يؤدي إليه حقّه، الذي ائتمنه عليه.

{وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} أي: المدين في أداء الحقّ عند حلول الأجل من غير مماطلة، ولا جحود، بل يعامله معاملة حسنة، كما أحسن ظنّه فيه، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال النّاس، يريد أداءها؛ أدّى الله عنه، ومن أخذ أموال النّاس يريد إتلافها؛ أتلفه الله» . رواه البخاريّ، وغيره.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشّهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا!.

قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله وكيلا! قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمّى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبه يقدم عليه للأجل الذي أجّله، فلم يجد

ص: 693

مركبا، فأخذ خشبة، فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبها، ثمّ زجّج موضعها، ثمّ أتى بها البحر، فقال: اللهم إنّك تعلم أنّي تسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا، فقلت: كفى بالله كفيلا! فرضي بك، وسألني شهيدا، فقلت: كفى بالله شهيدا! فرضي بك، وإنّي جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإنّي أستودعكها! فرمى بها في البحر؛ حتّى ولجت فيه، ثمّ انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الذي كان أسلفه ينظر لعلّ مركبا قد جاء بماله، فإذا الخشبة الّتي فيها المال، فأخذها حطبا لأهله، فلمّا نشرها وجد المال والصّحيفة، ثمّ قدم الذي كان أسلفه، وأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: هل كنت بعثت إليّ بشيء؟ قال: أخبرك أنّي لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه! قال: فإنّ الله قد أدّى عنك الذي بعثته في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشدا»، رواه البخاريّ معلقا مجزوما، والنّسائي، وغيره مسندا.

{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ} أي: إذا دعيتم إلى إقامتها، وأدائها، وذلك لأنّ الشاهد متى امتنع من إقامة الشّهادة، وكتمها؛ فقد أبطل بذلك حقّ صاحب الحقّ، فلهذا نهى عن كتمان الشهادة! وبالغ في الوعيد عليه، فقال تعالى:{وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أي: فاجر قلبه، وإنما أضيف الإثم إلى القلب؛ لأن الأفعال من الدّواعي، والصّوارف إنما تحدث في القلب، فلمّا كان الأمر كذلك؛ أضيف الإثم إلى القلب، قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشّهادة، فإنّه تعالى، قال:{فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وأراد به مسخ القلب، نعوذ بالله من ذلك! انتهى. خازن.

وقال النسفي-رحمه الله تعالى-: وإنّما أسند إلى القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؛ لأنّ كتمان الشهادة إنّما يضمرها في القلب، ولا يتكلّم بها، فلمّا كان إثما مقترفا مكتسبا بالقلب؛ أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، كما تقول: هذا مما أبصرته عيني، وممّا سمعته أذني، وممّا عرفه قلبي، ولأن القلب رئيس الأعضاء، والمضغة التي إن صلحت؛ صلح الجسد كلّه، وإن فسدت؛ فسد الجسد كلّه، فكأنه قيل: فقد تمكّن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان منه، ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسّيئات، الإيمان، والكفر، وهما من أفعال القلوب؟! وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب؛ فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وشهادة الزّور، وكتمان الشّهادة، وهو مأخوذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما يلي:

فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كتم شهادة إذا دعي إليها، كان كمن شهد بالزّور» رواه البخاريّ.

ص: 694

وعن أبي بكر-رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثا): الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزّور، ألا وشهادة الزّور، وقول الزور، وكان متكئا فجلس، فما زال يكرّرها حتّى قلنا: ليته سكت!» رواه البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ.

هذا وقال تعالى حكاية عن قول الشّاهدين العدلين: {وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} رقم [106] من سورة (المائدة). هذا؛ ولا تنس: أنّ الله تعالى قد قرن شهادة الزور بعبادة الأوثان، والأصنام، قال جلّ ذكره في سورة الحج رقم [30]:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} . {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ:} فيه تهديد، ووعيد للذين لا يقومون بأداء الشّهادة على وجهها.

الإعراب: (إن): حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {عَلى سَفَرٍ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان)، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَجِدُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كاتِباً:} مفعول به، وفي الجملة الفعلية ثلاثة أوجه: أحدها: أنها معطوفة على جملة فعل الشرط، الثاني: أنها عطف على خبر (كان)، الثالث: أنها في محل نصب حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وأضعفها أولها، وأقواها ثانيها. {فَرِهانٌ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (رهان): خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالوثيقة رهان، أو هو مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: فرهان مقبوضة تستوثقون بها، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد. و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما في الآية السابقة. (إن): حرف شرط جازم. {أَمِنَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {بَعْضُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة. {بَعْضاً:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها

إلخ، {فَلْيُؤَدِّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ليؤد): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعله. {اُؤْتُمِنَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلته، لا محل لها. {أَمانَتَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية: (ليؤد

) إلخ في محل جزم جواب الشرط

إلخ، و (إن) ومدخولها معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف، لا محل له على الاعتبارين، وجملة:{وَلْيَتَّقِ اللهَ} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها بلا فارق.

{رَبَّهُ:} بدل مطابق من لفظ الجلالة، أو عطف بيان عليه، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

ص: 695

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَكْتُمُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الشَّهادَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَكْتُمْها:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ})، والهاء مفعول به. {فَإِنَّهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {آثِمٌ:} خبر (إنّ). {قَلْبُهُ:} فاعل ب {آثِمٌ} والهاء في محل جر بالإضافة، وجوز اعتبار {آثِمٌ} خبرا مقدما، و {قَلْبُهُ:} مبتدأ مؤخرا، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ). هذا؛ وجوز اعتبار {آثِمٌ} مبتدأ، و {قَلْبُهُ} فاعلا سادا مسد خبره، ويحصل جملة في محل رفع خبر (إنّ)، كما جوز اعتبار {قَلْبُهُ} بدلا من {آثِمٌ،} بدل البعض من الكل، أو بدلا من الضمير المستتر في {آثِمٌ،} وهذان ضعيفان. هذا؛ وقرئ بنصب: («قلبه») على أنّه مفعول ب {آثِمٌ} وقال ابن هشام في المغني: والصّواب: أنه مشبه بالمفعول به لحسن وجهه أو بدل من اسم (إنّ) وعلى جميع الوجوه فجملة: (إنه

) إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجّح عند المعاصرين، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، و {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [271].

خاتمة: قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: لمّا أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد، وأخذ الرّهان؛ كان ذلك نصّا قاطعا على مراعاة حفظ الأموال، وتنميتها، وردّا على الجهلة المتصوفة، ورعاعها الّذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم، ولا يتركون كفاية لأنفسهم، وعيالهم، ثمّ إذا احتاج، وافتقر عياله؛ فهو إما أن يتعرّض لمنن الإخوان، أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدّنيا، وظلمتهم، وهذا الفعل مذموم منهيّ عنه، قال أبو الفرج الجوزي: ولست أعجب من المتزهدين الّذين فعلوا هذا مع قلّة علمهم، إنما أتعجب من أقوام لهم علم، وعقل: كيف حثّوا على هذا، وأمروا به مع مضادّته للشّرع، والعقل، وممّا يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها، قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد

إلخ» الحديث بطوله أخرجه أبو داود، وغيره عن سعيد بن زيد-رضي الله عنه.

أقول: وليت متصوفة هذه الأيام يفعلون ما فعل أولئك، ولكنّهم بالعكس؛ انكبّوا على الدنيا، وأخذوا يسلبون، وينهبون، ويجرون في ركاب الظّالمين. ويتكلّمون باسم الدّين الحنيف، يحسّنون القبيح، ويقبّحون الحسن. واتخذوا اللّحى، والعمائم مصيدة للدّنيا، إلا من رحم ربّك، وحفظه وتولاه، ولا حول، ولا قوة إلا بالله!.

ص: 696

{لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}

الشرح: {لِلّهِ ما فِي..} . إلخ؛ أي: كلّ ما فيهما ملك لله تعالى خلقا، وعبيدا، وفي {ما} تغليب غير العاقل على العاقل؛ لأنّهم أكثر، وقال الجمل: في هذه الآية استدلال على قوله:

{وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ،} فاستدلّ بسعة ملكه على سعة علمه. {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ:}

تظهروا ما في أنفسكم من السّوء، والعزم عليه. {أَوْ تُخْفُوهُ:} تسرّوه في قلوبكم، وضمائركم.

هذا؛ وما يخطر على البال، وتتحدّث به النفس له مراتب خمسة: القصد، والهاجس، والخاطر، وهمّ، وعزم، فنظمها بعضهم في قوله:[البسيط]

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا

وخاطر فحديث النّفس فاستمعا

يليه همّ فعزم كلّها رفعت

سوى الأخير، ففيه الأخذ قد وقعا

في الآية الكريمة أقوال كثيرة، أكتفي بقولين:

الأوّل: أنها منسوخة بالآية التالية قاله كثير من الصحابة والتابعين، وذلك: أنّه لمّا نزلت اشتد ذلك على الصّحابة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثوا على الرّكب، وقالوا: يا رسول الله! كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصّلاة، والصّيام، والجهاد، والصّدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا، كما قال أهل الكتابين من قبلكم:

سمعنا، وعصينا؟! بل قولوا: سمعنا، وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير» فلمّا أقرّ بها القوم، وذلّت بها ألسنتهم؛ أنزل الله في أثرها:{آمَنَ الرَّسُولُ..} . إلخ، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله قوله:{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها} .

القول الثاني: أنّها محكمة غير منسوخة، والله يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل، وعلى ما لم يعملوه ممّا ثبت في نفوسهم، وأضمروه، ونووه، وأرادوه، فيغفر للمؤمنين، ويأخذ به أهل الكفر، والنّفاق، ذكره الطّبريّ عن قوم، فقد روي عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس-رضي الله عنهما: أنه قال: لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول: «إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم، فأمّا المؤمنون، فيخبرهم، ثمّ يغفر لهم، وأمّا أهل الشّكّ والرّيب؛ فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، فذلك قوله:{يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ..} . إلخ، وهو قوله عز وجل:{وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} من الشكّ، والنّفاق، وقال الضحاك: يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسرّه؛ ليعلم: أنّه لم يخف عليه، وفي الخبر: «إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: هذا يوم تبلى فيه

ص: 697

السّرائر، وتخرج الضمائر، وأن كتّابي لم يكتبوا إلاّ ما ظهر من أعمالكم، وأنا المطّلع على ما لم يطّلعوا، ولم يخبروه، ولم يكتبوه، فأنا أخبركم به، وأحاسبكم عليه، فأغفر لمن أشاء، وأعذّب من أشاء، فيغفر للمؤمنين، ويعذب الكافرين». وهذا أصحّ ما في الباب. انتهى قرطبي.

وروى ابن جرير عن مجاهد، والضحاك: أنه قال: هي محكمة، لم تنسخ، واختار ابن جرير ذلك، واحتجّ على أنّه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة، وأنّه تعالى قد يحاسب، ويغفر، وقد يحاسب، ويعاقب بالحديث الذي رواه قتادة عن صفوان بن محرز-رضي الله عنه، قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما، وهو يطوف؛ إذ عرض له رجل، فقال: يا بن عمر! ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النّجوى؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدنو المؤمن من ربّه عز وجل حتّى يضع عليه كنفه، فيقرّره بذنوبه، فيقول له: هل تعرف كذا؟ فيقول: ربّ أعرف-مرّتين-حتّى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ. قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا، وإنّي أغفرها لك اليوم» قال: فيعطى صحيفة حسناته، أو كتابه بيمينه، وأمّا الكفار، والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الأشهاد:{هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمِينَ} رواه مسلم رحمه الله تعالى. هذا؛ وبين {تُبْدُوا} و {تُخْفُوهُ} وبين (يغفر) و ({يُعَذِّبُ}) طباق، وهو من المحسّنات البديعية.

الإعراب: {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {فِي السَّماواتِ:}

متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: الذي وجد، أو سيوجد. {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه، وتقديره. {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف.

(إن): حرف شرط جازم. {تُبْدُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون نيابة عن السّكون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتّفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي أَنْفُسِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: الذي يوجد في أنفسكم، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَوْ:} حرف عطف. {تُخْفُوهُ:} فعل مضارع معطوف على ما قبله مجزوم مثله

إلخ، والهاء مفعول به.

{يُحاسِبْكُمْ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، والكاف مفعول به. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب «إذا» الفجائية.

{فَيَغْفِرُ:} يقرأ هذا الفعل بالجزم، والنّصب، والرفع، فالجزم بالعطف على جواب الشرط، والنصب على إضمار «أن» بعد الفاء على اعتبارها للسّببية، وعليه، فتؤوّل «أن» المضمرة مع الفعل بمصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيّد من الفاعل السّابق، والرفع على الاستئناف؛

ص: 698

أي: على اعتبار الجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو يغفر، والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها، وفاعل (يغفر) على جميع الاعتبارات يعود إلى {اللهُ،} وما ذكرته في الآية الكريمة من وجوه الإعراب مقرّر في القواعد النّحوية كما يلي: «إذا عطف مضارع بالواو أو بالفاء على فعل الشرط يجوز جزمه، ونصبه، وإذا عطف على الجواب مضارع بالواو، أو بالفاء يجوز جزمه، ونصبه، ورفعه» ، وخذ قول ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

والفعل من بعد الجزا إن يقترن

بالفا أو الواو بتثليث قمن

وجزم أو نصب لفعل إثر فا

أو واو ان بالجملتين اكتنفا

ومن شواهده الشّعرية قول الشّاعر: [الوافر]

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والشّهر الحرام

وتأخذ بعده بذناب عيش

أحبّ الظّهر، ليس له سنام

{لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (من): تحتمل الموصولة، والموصوفة.

{يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: للذي، أو: لشخص يشاؤه. {وَيُعَذِّبُ:} معطوف على (يغفر) رفعا، ونصبا، وجزما، وباقي الإعراب مثل سابقه، {اللهُ:} مبتدأ، {عَلى كُلِّ:}

متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام مبينة لكمال قدرته جلّ علاه، لا محلّ لها.

{آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}

الشرح: {آمَنَ:} صدق. {الرَّسُولُ:} محمّد صلى الله عليه وسلم. {بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ:} أي: من القرآن، وتعاليم السّماء النازل بها الوحي. {وَالْمُؤْمِنُونَ} أي: آمنوا بما آمن به محمّد صلى الله عليه وسلم.

{كُلٌّ:} أي: كلّهم. {آمَنَ بِاللهِ:} بأنّه واحد أحد، فرد صمد، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} لا إله غيره، ولا رب سواه.

{وَمَلائِكَتِهِ:} أي بوجودهم، وأنّهم معصومون مطهّرون، وأنّهم السّفرة الكرام البررة، وأنّهم الوسائط بين الله وبين رسله. {وَكُتُبِهِ:} أي: بأنّ الكتب المنزلة من عند الله هي وحي من الله إلى رسله، وأنّها حقّ، وصدق من عند الله من غير شكّ، ولا ارتياب، وأنّ القرآن لم

ص: 699

يحرّف، ولم يبدّل، ولم يغيّر، وأنّه مشتمل على المحكم، والمتشابه، وأنّ محكمه يكشف عن متشابهه. {وَرُسُلِهِ:} بأنّهم رسل الله إلى عباده، وأمناؤه على وحيه، وأنّهم معصومون، وأنّهم أفضل الخلق، وأنّ بعضهم أفضل من بعض بدليل قوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} الآية رقم [253].

{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ:} كما فعل اليهود والنّصارى حيث أنكر اليهود نبوّة عيسى عليه السلام، ثم أنكروا مع النّصارى نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، أمّا نحن؛ فنؤمن بجميع الرّسل من لدن آدم إلى عهد حبيبنا، وشفيعنا محمّد صلى الله عليه وسلم. {وَقالُوا سَمِعْنا} أي: سماع قبول فيما يأمرنا الله به.

{وَأَطَعْنا} أي: وأطعناه فيما ألزمنا به من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلّمنا لله فيما أمرنا به، ونهانا عنه. {غُفْرانَكَ} أي: نسألك غفرانك يا ربنا! {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي: قالوا: إليك يا ربنا مرجعنا، ومآلنا، ومعادنا، فاغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، ففيه إقرار بالبعث والجزاء.

فقد روى البغويّ بغير سند عن حكيم بن جابر: أنّ جبريل الأمين عليه السلام، قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله عز وجل أثنى عليك، وعلى أمّتك، فسل تعطه!» فسأل

إلى آخر السّورة.

الإعراب: {آمَنَ الرَّسُولُ:} ماض، وفاعله. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، {مِنْ رَبِّهِ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل العائد إلى (ما)، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، {وَالْمُؤْمِنُونَ:} يحتمل أن يكون معطوفا على الرسول، والوقف عليه، وأن يكون مبتدأ، والوقف على {رَبِّهِ} فهو مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {كُلٌّ:} مبتدأ، والمضاف إليه محذوف، التقدير: كلهم. {آمَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {كُلٌّ} باعتبار لفظه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة:{كُلٌّ آمَنَ:} مستأنفة على اعتبار المؤمنون معطوفا على ما قبله، وهي في محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ، والرابط الضمير الذي قدرته.

{بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} هذه الأسماء معطوفة على لفظ الجلالة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{لا:} نافية. {نُفَرِّقُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، التقدير: يقول، أو يقولون، وهذه الجملة في محل نصب حال من {كُلٌّ}. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله. {بَيْنَ:} مضاف، و {أَحَدٍ:}

مضاف إليه {مِنْ رُسُلِهِ:} متعلقان بمحذوف صفة {أَحَدٍ} . (قالوا): ماض مبني على الضم،

ص: 700

والواو فاعله، والألف للتفريق. {سَمِعْنا:} فعل وفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَأَطَعْنا:} فعل، وفاعل، والمفعول محذوف أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {آمَنَ..} . إلخ.

{غُفْرانَكَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: اغفر غفرانك، أو هو مفعول به ثان لفعل محذوف، التقدير: نسألك غفرانك، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية على الوجهين في محل نصب مقول القول. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء. (ونا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول أيضا. ({إِلَيْكَ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْمَصِيرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على محذوف، التقدير: منك المبتدأ، وإليك المصير، والكلام كلّه في محل نصب مقول القول.

{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاُعْفُ عَنّا وَاِغْفِرْ لَنا وَاِرْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)}

الشرح: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها:} التكليف: ما فيه كلفة، وقد يكون فيه مشقّة، وتكلّفت الأمر: تجشمته، وهذا نصّ على أنّ الله تعالى لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلوب، أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلّف، وفي مقتضى إدراكه، ومقدوره، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر، وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة-رضي الله عنه-قال: ما وددت: أنّ أحدا ولدتني أمّه إلا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنّي تبعته يوما، وأنا جائع، فلمّا بلغ منزله؛ لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثارة، فشقّه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السّمن، والرّبّ (دبس التمر إذا طبخ) وهو يقول:[البسيط]

ما كلّف الله نفسا فوق طاقتها

ولا تجود يد إلاّ بما تجد

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-في رواية عنه: هم المؤمنون خاصّة، وسّع الله عليهم أمر دينهم، ولم يكلفهم ما لا يستطيعون، كما قال:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال تعالى: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ،} وهذا من لطفه تعالى بخلقه، ورأفته

ص: 701

بهم، وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصّحابة في قوله تعالى:

{وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} أي: هو وإن حاسب، وسأل؛ لكن لا يعذب إلا بما يملك الشّخص دفعه، فأمّا ما لا يملك دفعه من وسوسة النّفس، وحديثها؛ فهذا لا يكلّف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السّيئة من الإيمان.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه، فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلّم به، قال:«وقد وجدتموه؟!» قالوا: نعم، قال:«ذاك صريح الإيمان» أخرجه مسلم، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال:«تلك صريح الإيمان» أخرجه مسلم أيضا.

هذا وذكرت الجملة: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها} في سورة (الأنعام) رقم [152] بعد نهي، وأمرين، وذكرت في سورة (الأعراف) رقم [41] بعد ذكر الإيمان، والعمل الصالح؛ ليبين الله:

أن المطلوب من التكاليف والأعمال الصالحة ما سهل فعله، وما فيه عسر، ومشقّة فلسنا مكلّفين بفعله، وغير مؤاخذين بتركه، والوسع: الطاقة، والقدرة.

{لَها ما كَسَبَتْ:} الضمير يعود إلى النفس. و {لَها ما كَسَبَتْ} من الخير {وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} أي: من الشر، أي: لا ينتفع بطاعتها أحد غيرها، ولا يتضرّر بمعاصيها غيرها، وتخصيص الكسب بالخير، والاكتساب بالشّرّ؛ لأن الاكتساب فيه اعتمال، والشر تشتهيه النفس، وتنجذب إليه، فكانت أجدّ في تحصيله، بخلاف الخير. انتهى. بيضاوي. وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: وجاءت العبارة في الحسنات ب {لَها} من حيث هي بما يفرح المرء بكسبه، ويسرّ بها، فتضاف إلى ملكه، وجاءت السّيئات ب ({عَلَيْها}) من حيث هي أثقال، وأوزار، ومتحمّلات صعبة، وهذا كما تقول: لي مال، وعليّ دين، وكرّر فعل الكسب، فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال تعالى:{فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} قال ابن عطيّة-رحمه الله تعالى-:

ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي ما تكتسب دون تكلّف بها؛ إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى، ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يتكلّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتخطّاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى، وفي الجملتين ما يسمّى بالطباق المعنوي، وهو من المحسّنات البديعيّة.

{رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا} أي: لا تؤاخذنا؛ إن حصل منا تفريط، أو تقصير بحقّك بسبب نسيان، أو خطأ، لا عن عمد، كما آخذت غيرنا، وقد تكرّم الله على هذه الأمة؛ حيث رفع عنها ذلك؛ فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله وضع عن أمّتي الخطأ، والنّسيان، وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجة، وابن حبان، وعن أمّ الدرداء رضي الله عنها-عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تجاوز لأمّتي عن ثلاث: عن الخطأ، والنّسيان،

ص: 702

والاستكراه» وطلب رفع المؤاخذة اعتراف بنعمة الله علينا، وقد كانت الأمم السابقة تؤاخذ بالخطإ، والنّسيان. {رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً..}. إلخ: الإصر: الأمر الغليظ الصعب، ومنه قول النابغة:[البسيط]

يا مانع الضّيم أن يغشى سراتهم

والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفوا

هذا وسميت التكاليف الشّاقّة إصرا؛ لأنّها تثقل كاهل صاحبها، ومنه قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [157]{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} كما يسمى العهد والميثاق إصرا؛ لأنّه ثقيل، ومنه قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [81]:{قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي} . {كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا:} المراد به ما كلّف به بني إسرائيل من قتل النفس في التّوبة، وإخراج ربع المال في الزّكاة، وقرض موضع النّجاسة، ومن أصاب ذنبا أصبح؛ وذنبه مكتوب على باب داره، ونحو ذلك من الأثقال، والآصار الّتي فرضت عليهم: كانوا يبتعدون عن المرأة في أيام حيضها، وإذا جمعوا الغنائم لم يأكلوها، بل تنزل نار من السّماء، فتأكلها، لذا دعاهم الله إلى الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم؛ ليخفّف عنهم هذه الأحكام الشّاقة، قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [157]:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} . هذا؛ والإصرار:

العهد، قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [81]:{قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي} .

{رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} أي: من التّكاليف الشّاقّة، أو من العقوبات، والمصائب، والشّدائد التي لا نستطيع حملها، وقيل: هيجان الغلمة، والعزوبة، وقيل: هو الفرقة، والقطيعة، وقيل: هو حديث النفس، والوسوسة، كما تقدم. {وَاعْفُ عَنّا} أي: تجاوز عن ذنوبنا، وسيئاتنا. {وَاغْفِرْ لَنا:} استر علينا ذنوبنا، ولا تفضحنا، والغفر: الستر.

{وَارْحَمْنا:} تغمّدنا برحمتك التي تنجّينا بها من عقابك، فإنه ليس بناج من عقابك، وسخطك إلا من رحمته، وأصل الرّحمة: رقّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ولهذا وصف بها الله تعالى، فليس يراد إلا الإحسان المجرد، والتفضّل على العباد دون الرقّة، وقيل: إنّ طلب العفو هو أن يسقط عنه عقاب ذنوبه، وطلب المغفرة هو أن يستر عليه صونا له من الفضيحة، كأن العبد يقول: أطلب منك العفو، وإذا عفوت عنّي، فاستره عليّ، فإذا عفا الله عن العبد، وستره، وتعطّف عليه بالرّحمة-التي هي الإنعام والإحسان-فإنه يفوز بالنعيم والثواب. {أَنْتَ مَوْلانا:}

ولينا، وناصرنا، ومتولّي أمورنا. {فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} أي: الجاحدين؛ الذين عبدوا غيرك، وجحدوا وحدانيتك، وكذّبوا برسالة نبيك صلى الله عليه وسلم.

تنبيه: ورد في فضل سورة البقرة أحاديث ترغّب في قراءتها، وتنوّه بشأنها، وهناك أحاديث تخصّ آية الكرسي بمزيد من الفضل، وأحاديث تنوّه بشأن هاتين الآيتين اللتين ختم الله بهما هذه السورة الكريمة، أذكر منها ما رواه عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

ص: 703

يقول: «أنزل الله عليّ آيتين من كنوز الجنّة، ختم بهما سورة البقرة، من قرأهما بعد العشاء مرّتين أجزأتاه عن قيام اللّيل» ، وقيل:«كفتاه من شرّ الشّيطان، فلا يكون له عليه سلطان» رواه مسلم.

وعن أبي ذرّ-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه؛ الّذي تحت العرش، فتعلّموهنّ، وعلّموهنّ نساءكم، وأبناءكم، فإنّهما صلاة، وقرآن، ودعاء» رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاريّ، وقال الإمام عليّ رضي الله عنه: ما أظنّ أنّ أحدا عقل، وأدرك الإسلام ينام حتّى يقرأهما، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز، تحت العرش، لم يؤتهنّ نبيّ قبلي» .

الإعراب: {لا:} نافية. {يُكَلِّفُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله. {نَفْساً:} مفعول به أوّل. {إِلاّ:} حرف حصر. {وُسْعَها:} مفعول به ثان، وقيل: المفعول الثاني محذوف، التقدير: لا يكلف الله نفسا عبادة، وعليه ف {وُسْعَها} منصوب بنزع الخافض، التقدير: إلا بوسعها، والأول أقوى، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لَها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل له. {كَسَبَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {نَفْساً،} والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو: شيء كسبته، وعلى اعتبار ({ما}) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع مبتدأ مؤخّر، التقدير: لها كسبها، وهي مستأنفة كما رأيت، واعتبارها صفة {نَفْساً} بعيد. {وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ:} إعرابها مثل إعراب سابقتها، وهي معطوفة عليها لا محلّ لها مثلها.

{رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا) في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لا:} دعائية. {تُؤاخِذْنا:} فعل مضارع مجزوم ب {لا} والفاعل مستتر تقديره: أنت، و (نا) مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {نَسِينا:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط. و (نا) فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن نسينا؛ فلا تؤاخذنا، وجملة:

{أَخْطَأْنا} معطوفة على ما قبلها، وهي مثلها في إعرابها، و {إِنْ} ومدخولها كلام لا محل له كالجملة الندائية. هذا؛ ويستشهد بهذا الكلام على مجيء (نا) مشتركة بين الرفع، والنصب، والجر.

{رَبَّنا:} هذه الجملة الندائية معترضة بين الجمل المتعاطفة لإظهار مزيد الضراعة، والالتجاء إلى الربّ الكريم، وقل مثل ذلك في الثالثة، وجملة:{وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً} معطوفة على جملة: {لا تُؤاخِذْنا} وهي مثلها في محلّها، وإعرابها، {كَما:} الكاف: حرف تشبيه. وجر.

ص: 704

(ما): مصدرية. {حَمَلْتَهُ:} فعل وفاعل ومفعول به. {عَلَى الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ قَبْلِنا:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: على الذين وجدوا من قبلنا. (ونا) في محل جر بالإضافة، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: ولا تحمل علينا إصرا حملا كائنا مثل حمله. هذا؛ ويجوز اعتبار {ما} موصولة مجرورة بالكاف، وجملة:

{حَمَلْتَهُ} صلته، ويكون التقدير: مثل الذي حملته، وهذا ليس مذهب سيبويه-رحمه الله تعالى- وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل السّابق، وإنّما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأنّ حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة. وليس هذا منها، ومثله في المغني لابن هشام.

{رَبَّنا:} مثل سابقتها، {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): دعائية. {تُحَمِّلْنا:} فعل مضارع مجزوم بلا، والفاعل تقديره: أنت، و (نا) مفعول به أول. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {طاقَةَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق {لَنا،} أو متعلقان بمحذوف خبر ثان. (اعف):

فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره أنت. {عَنّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، ومثلها {وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا} .

{أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، {مَوْلانا:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من:

إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية معترضة بين المتعاطفين لا محل لها، وإن اعتبرتها مفيدة للتعليل؛ فتكون الفاء بعدها مفيدة للسببية المحضة، وهي عاطفة على رأي ابن هشام، وعلى رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وأرى: أنها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدّر، التقدير: وإذا كنت مولانا، فانصرنا

إلخ، واعتبار الفاء للسببية هو مفاد كلام الجمل، نقلا عن السّمين.

وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

انتهت سورة البقرة بعون الله تعالى وتوفيقه شرحا وإعرابا والحمد لله ربّ العالمين

ص: 705