المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم سورة المائدة هي مدنية إلاّ قوله - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٣

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم سورة المائدة هي مدنية إلاّ قوله

‌سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المائدة هي مدنية إلاّ قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية رقم [3]، فإنّها نزلت بعرفة في حجّة الوداع يوم عرفة والنبيّ صلى الله عليه وسلم واقف بها، فقرأها في خطبته، وقال:«يا أيها الناس إنّ سورة (المائدة) من آخر القرآن نزولا، فأحلّوا حلالها، وحرّموا حرامها» . وإنّما خصّ النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة من بين سور القرآن بالذكر-وكل سور القرآن يجب أن يحل المسلم حلالها، ويحرم حرامها-لزيادة الاعتناء بها، فهو كقوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [36]:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ..} . إلخ حيث أكد اجتناب الظلم في أربعة منها، وإن كان الظلم لا يجوز في شيء من جميع أشهر السنة؛ لزيادة الاعتناء بها.

وقيل: إنّما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة بالذّكر؛ لأنّ فيها ثمانية عشر حكما لم تنزل في غيرها من سور القرآن. قال البغويّ: روي عن ميسرة؛ قال: إنّ الله تعالى أنزل في هذه السورة ثماني عشر حكما لم ينزلها في غيرها، وهي:{وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ،} {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ،} {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ،} وتمام الطّهور في قوله تعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ

،} {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ،} {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله تعالى: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ،} وقوله تعالى: {ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ} وقوله تعالى: {شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} . وفريضة تاسعة عشرة، وهي قوله عز وجل:{وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السّورة، أمّا ما في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة، وهو في هذه السّورة عام لجميع الصلوات.

هذا؛ وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما-قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (المائدة) وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها، أي: لثقل الوحي الذي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمّيت سورة (المائدة) لورود ذكر المائدة فيها، حيث طلب الحواريّون من عيسى-عليه السلام-آية تدلّ على صدق نبوّته، وتكون لهم عيدا.

ص: 5

وقصة المائدة أعجب ما ذكر فيها؛ لاشتمالها على آيات كثيرة، ولطف عظيم من الله تعالى.

وهي مائة وعشرون آية.

بسم الله الرحمن الرحيم

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرم وصف، وألطف عبارة، أي: يا من صدّقتم الله، ورسوله، وتحلّيتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان. وقد خاطب الله عباده المؤمنين في هذه السّورة بالنّداء الدّالّ على الإقبال عليهم، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكّرهم بأنّ الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقّى أوامر الله ونواهيه بحسن الطّاعة، والامتثال. وإنّما خصّهم الله بالنّداء؛ لأنّهم هم المستجيبون لأمره، المنتهون عمّا نهى الله عنه؛ إذ الغالب أن يتبع هذا النداء بأمر، أو بنهي.

{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يقال: وفى، وأوفى لغتان، قال تعالى في سورة (التّوبة):{وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ،} وقال في سورة (النّجم): {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى} وقال طفيل الغنوي: [البسيط]

أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته

كما وفى بقلاص النّجم حاديها

فجمع بين اللّغتين، وقلاص النّجم: هي العشرون نجما الّتي ساقها الدّبران في خطبته الثّريا. كما تزعم العرب. والعقود: جمع عقد، يقال: عقدت العهد، والحبل، فهو يستعمل في المعاني، والأجسام. قال الحطيئة في مدح بغيض بن عامر بن شمّاس:[البسيط]

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا

والمراد ب: (العقود) ما يعم جميع ما ألزم الله به عباده، وفرضه عليهم من التكاليف، والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات، والمعاملات، ونحوها ممّا يجب الوفاء به، ويحسن دينا. وما في هذه السورة الكريمة من أحكام يبين ذلك، ويوضحه.

قال الحسن-رحمه الله تعالى-: يعني بذلك عقود الدّين، وهي ما عقده المرء على نفسه من بيع، وشراء، وإجارة، وكراء، ومناكحة، وطلاق، وموادعة، ومصالحة، وتمليك، وتخيير، وغير ذلك من الأمور ممّا كان غير خارج عن الشّريعة، وكذلك ما عقده الشّخص لله على نفسه من الطّاعات كالحجّ، والصّيام

إلخ.

{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} أي: أكل لحمها، والانتفاع بصوفها، وشعرها، ودرّها، ونسلها، وجميع أجزائها. والبهيمة: كلّ حيّ لا يميّز، ولا يعقل، وإضافتها إلى الأنعام للبيان، كقولك: ثوب خز، وخاتم فضة، ونحو ذلك.

ص: 6

والمراد ب: {الْأَنْعامِ} الأزواج الثمانية المذكورة في سورة (الأنعام) وهي: الإبل، والبقر، والغنم، والماعز، ويلحق بها الظباء، وبقر الوحش، وما يماثلها في الاجترار، وعدم الأنياب دون ذوات الحافر.

{إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ:} إلا ما يقرأ عليكم تحريمه، أي: في الآية التالية، ونحوها، وفي السنة أيضا قول الرّسول صلى الله عليه وسلم:«كلّ ذي ناب من السّباع، فأكله حرام» .

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وهذه الآية ممّا تلوح فصاحتها، وكثرة معانيها على قلّة ألفاظها لكلّ ذي بصيرة بالكلام، فإنّها تضمّنت خمسة أحكام: الأول: الأمر بالوفاء بالعقود.

الثاني: تحليل بهيمة الأنعام. الثالث: استثناء ما يلي بعد ذلك. الرّابع: استثناء حال الإحرام فيما يصاد. الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصّيد لمن ليس بمحرم. وحكى النقاش: أنّ أصحاب الكندي قالوا له: أيّها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن. فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة ثمّ خرج، فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إنّي فتحت المصحف، فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلّل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثمّ أخبر عن قدرته، وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد. انتهى.

تنبيه: فسر ابن عباس-رضي الله عنهما-بهيمة الأنعام بالجنين، والأجنّة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها؛ إذا ذبحت، أو نحرت، ذهب أكثر العلماء في تحليلها، وهو مذهب الشّافعي، ويدلّ عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّه قال في الجنين: «ذكاته ذكاة أمّه» . أخرجه الترمذيّ، وابن ماجة. وفي رواية أبي داود؛ قال: قلنا: يا رسول الله! ننحر الناقة، ونذبح البقرة، والشاة، ونجد في بطنها الجنين، أنلقيه، أم نأكله؟ قال:«كلوه إن شئتم، فإنّ ذكاته ذكاة أمّه» . وشرط بعضهم الإشعار، وتمام الخلق، قال ابن عمر-رضي الله عنهما: ذكاة ما في بطنها ذكاتها؛ إذا تمّ خلقه، ونبت شعره. ومثله عن سعيد بن المسيّب-رحمه الله تعالى-وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا يحل أكل الجنين؛ إذا خرج بعد ذكاة الأم ميتا.

وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} المعنى: أحل لكم ما تقدّم ذكره ما عدا صيد الوحوش في حال إحرامكم بحجّ، أو عمرة، أو في حال وجودكم بأرض الحرم فإنّ الصيد في هاتين الحالتين محرّم عليكم. {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} يعني: أنّ الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وفرض ما يشاء أن يفرضه عليكم من أحكامه، وفرائضه ممّا فيه مصلحة لعباده، لا اعتراض عليه، ولا معقّب لحكمه.

الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو، أو أنادي. (أيّها): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب: (يا). و (ها): حرف تنبيه لا محلّ له من الإعراب، وأقحم

ص: 7

للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنّه يجب حينئذ نصب المنادى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من (أيّ) وانظر الآية رقم [133] من سورة (النساء)؛ إن أردت الزيادة. {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {أَوْفُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{بِالْعُقُودِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة النّدائية قبلها.

{أُحِلَّتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بَهِيمَةُ:} نائب فاعله، وهو مضاف. و {الْأَنْعامِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء من:{بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} . وهذا عند البصريين. وقال الفرّاء: في محل رفع على البدلية من: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} . {يُتْلى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذّر، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، وأصل الكلام: إلا ما يتلى عليكم تحريمه، أو آية تحريمه، فحذف المضاف الذي هو: آية، وأقيم المضاف إليه مقامه، ثم حذف المضاف ثانيا، وأقيم الضمير المجرور مقامه، فانقلب الضمير المجرور مرفوعا، واستتر في:{يُتْلى،} وعاد على {ما} . وقدّره الزمخشري في الكشّاف: إلا محرم ما يتلى عليكم. انتهى. جمل. والأول أقوى. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {يُتْلى،} والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها.

{غَيْرَ:} حال من الكاف، وقيل: حال من واو الجماعة في: {أَوْفُوا} قاله مكي، وغيره، و {غَيْرَ:} مضاف، و {مُحِلِّي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، و (محلّي) مضاف، و {الصَّيْدِ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {حُرُمٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المستتر في:{مُحِلِّي} والرابط: الواو، والضمير. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}

اسمها. {يَحْكُمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} . {ما:} موصولة، أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به.

{يُرِيدُ:} فعل مضارع والفاعل يعود إلى: {اللهَ} والجملة الفعلية صلة: {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يحكم الذي، أو: شيئا يريده، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية، لا محلّ لها من الإعراب.

ص: 8

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية السابقة. {لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ} جمع: شعيرة، أي:

لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور. هذا؛ وقال عطاء بن أبي رباح: {شَعائِرَ اللهِ:} جميع ما أمر الله به، ونهى عنه. وقال الحسن: دين الله كلّه، كقوله تعالى في سورة (الحج):{ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} والمراد هنا: مناسك الحج، من وقوف بعرفات، ومبيت بمزدلفة، ورمي للجمار، وسعي، وطواف، وحلق، وغير ذلك. والمراد: النّهي عن هتك حرمة هذه المناسك بفعل شيء مخلّ فيها، والحث على أدائها على الوجه الأكمل. وفي الكلام استعارة؛ حيث استعار الشّعيرة، وهي: العلامة للمتعبّدات؛ التي تعبّد الله بها العباد من الحلال، والحرام.

{وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ:} الشهر فيه لأهل اللغة قولان: أشهرهما: أنّه اسم لمدّة الزمان الذي يكون مبدؤها الهلال ظاهرا إلى أن يستتر، سمّي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في العبادات، والمعاملات، وغيرهما. والثاني قاله الزجاج: أنّه اسم للهلال نفسه. ويجمع على أشهر، وشهور. و {الْحَرامَ:} المحرّم. والأشهر المحرّمة أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وشهر رجب. قال تعالى في سورة (التوبة) رقم [36]:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع: «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق السّماوات والأرض، السّنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر الّذي بين جمادى، وشعبان» سمّيت حرما لتحريم القتال فيها، وكان القتال محرّما في هذه الأشهر في بدء الإسلام، ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [123]:{الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ،} والمعنى: الشهر الحرام مقابل بمثله، أي: فكما قاتلوكم فيه؛ فاقتلوهم في مثله.

هذا؛ والحرام في الأصل: كلّ ممنوع. وقولهم: لفلان بي حرمة، أي: ممتنع من مكروهه.

وحرمة الرجل محظورة به عن غيره، وقوله تعالى:{وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فالمحروم هو: الممنوع من المال، والتلذّذ به. والإحرام بالحج هو: المنع من أمور معروفة. والبيت

ص: 9

الحرام: الكعبة المعظمة، ويلحق بها جميع الحرم؛ لما صحّ من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكّة، فقال:«إنّ هذا البلد حرام حرّمه الله تعالى يوم خلق السّماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفّر صيده، ولا تلتقط لقطته إلاّ لمن عرّفها، ولا يختلى خلاه» . والحلال: ضد الحرام.

{وَلا الْهَدْيَ:} هو ما أهدي إلى الحرم من النّعم ليذبح فيه، ويأكله الفقراء، والمساكين.

والمراد: النّهي عن التعرّض له بسوء. {وَلا الْقَلائِدَ:} هو كل ما علق على أسنمة الهدايا، وأعناقها علامة: أنّه لله سبحانه: من نعل، أو قشر شجر، وهي سنّة إبراهيميّة بقيت في الجاهلية، وأقرّها الإسلام، وعطفها على الهدي من ذكر الخاصّ بعد العام، فإنّها أشرف الهدي، وأعظمه، قال الشاعر:

حلفت بربّ مكّة والمصلّى

وأعناق هدين مقلّدات

والمعنى: ولا تستحلّوا الهدي خصوصا المقلّدات منها. وقيل: أراد أصحاب القلائد، وذلك: أن العرب في الجاهلية كانوا إذا أرادوا الخروج من الحرم؛ قلّدوا أنفسهم، وإبلهم من لحاء شجر الحرم إذا رجعوا من مكّة؛ ليأمنوا على أنفسهم من العدو، فإنّهم كانوا إذا رأوا شخصا جعل في عنقه تلك القلادة عرفوا: أنّه راجع من الحرم، فلا يتعرضون له. فعلى هذا فالعطف للمغايرة.

{وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ} أي: ولا تستحلوا القاصدين إلى البيت الحرام، وهو الكعبة المعظمة شرفها الله، وعظمها. {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً:} يطلبون من الله الرزق، والأرباح في التجارة، ويطلبون رضا الله عنهم بزعمهم؛ لأنّ الكافر لا حظّ له في الرضوان، لكن يظن:

أن فعله ذلك طلب الرضوان، فيجوز أن يوصف به بناء على ظنّه. {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا:} أمر إباحة، أي: إن حللتم من إحرامكم؛ فاصطادوا الوحوش الّتي يحلّ أكلها؛ لأنّ الله تعالى حرّم الصيد على المحرم حالة إحرامه، أو كان في أرض الحرم، كما تقدم.

{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي: لا يحملنكم: {شَنَآنُ قَوْمٍ:} بغض قوم، وعداوتهم. {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي: منعوكم عن المسجد الحرام، وهذا كان من قريش عام الحديبية. {أَنْ تَعْتَدُوا:} عليهم انتقاما منهم بأخذ أموالهم، وقتلهم. هذا؛ وقرئ بفتح الهمزة، وكسرها، فالفتح على التعليل. والكسر، فمعناه: إن وقع صدّ لكم؛ فلا يكسبنكم بغض من صدّكم أن تعتدوا، فالصدّ منتظر، ومنه قول الفرزدق-وهو الشاهد رقم [29] من كتابنا فتح القريب المجيب يروى بفتح همزة:«أن» ، وكسرها، وخذه:[الطويل]

أتغضب أن أذنا قتيبة حزّتا

جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم؟

ص: 10

{وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى} أي: ليعن بعضكم بعضا على ما يكسب البرّ، والتقوى. قال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: البر: متابعة السّنّة. {وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ} أي: لا يعن بعضكم بعضا على الإثم، وهو الكفر، والعدوان، وهو الظلم، فيأمر الله عز وجل عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات على جميع أنواعها، وهو البرّ. وترك المنكرات، والمعاصي جميعها، وهو التّقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المأثم، والمحارم.

هذا؛ وفي الجملتين من المحسّنات البديعية: المقابلة.

وعن النواس بن سمعان-رضي الله عنهما-قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البرّ، والإثم، فقال:«البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطّلع عليه النّاس» . أخرجه مسلم. هذا؛ وفسر الإثم في الآية رقم [32] من سورة (الأعراف) بالخمر، واستدلّ عليه بقول بعض الجاهليين:[الوافر]

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

{وَاتَّقُوا اللهَ} خافوا الله، واحذروا أن تهملوا ما أمركم به، أو تعتدوا، وتجاوزوا إلى ما نهاكم عنه:{إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ:} لمن خالف أوامره، وتعدّى حدوده. ففيه وعيد، وتهديد عظيمين.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في الحطم، واسمه: شريح بن هند بن ضبعة البكري، أتى المدينة وحده، وخلف خيله خارج المدينة، ودخل على النبيّ، فقال: إلام تدعو الناس؟ فقال:

«إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة» . فقال: حسن إلا أنّ لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلّي أسلم، وآتي بهم! فخرج من عنده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلّم بلسان شيطان، فلمّا خرج شريح؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

«لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرّجل بمسلم» . فمر بسرح من سرح المسلمين، فاستاقها؛ وهو يرتجز ويقول:[الرجز]

قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزّاز على ظهر وضم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزّلم

خدلّج السّاقين خفّاق القدم

فطلبه المسلمون، فلم يدركوه، فلمّا كان العام القابل، وخرج الرّسول صلى الله عليه وسلم لعمرة القضية فسمع تلبية حجّاج اليمامة، فقال: هذا الحطم، وأصحابه، وكان قد قلّد ما نهب من سرح المدينة، وأهداه إلى مكّة، فتوجّهوا في طلبه، فنزلت الآية الكريمة، والمعنى: لا تحلّوا ما أشعر لله، وإن كانوا مشركين. ولكن قد نسخ هذا الحكم بسورة (التوبة) وبالآيات التي تأمر بقتال المشركين أينما كانوا. والله أعلم بمراده.

ص: 11

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ:} انظر الآية السابقة. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية معطوفة على سابقتها. {الشَّهْرَ:} مفعول به لفعل محذوف، دلّ عليه ما قبله، فهو مجزوم مثله؛ إذ التقدير: ولا تحلو الشّهر. {الْحَرامَ:} صفته. {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ:} مثل سابقه في التقدير. {آمِّينَ:} مفعول به لفعل محذوف كالذي قبله، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، وفاعله ضمير مستتر فيه. والأصل: ولا تحلّوا قتال آمّين: فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. {الْبَيْتَ:} مفعول به ل {آمِّينَ} . {الْحَرامَ:} صفته. {يَبْتَغُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {فَضْلاً:} مفعول به. {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان ب {فَضْلاً؛} لأنّه مصدر، أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَرِضْواناً:} معطوف على:

{فَضْلاً} والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في: {آمِّينَ،} وقول مكي:

صفة ل: {آمِّينَ} صححه ابن هشام في المغني، وهو وصف بعد العمل خلافا لأبي البقاء.

{وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب. {حَلَلْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {فَاصْطادُوا:}

الفاء: واقعة في جواب (إذا). (اصطادوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف للعلم به، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محلّ لها. (وإذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله، والاستئناف ممكن. {وَلا:} الواو:

حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {يَجْرِمَنَّكُمْ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محلّ جزم ب (لا) الناهية، والكاف مفعول به. {شَنَآنُ:} فاعله، وهو مضاف.

و {قَوْمٍ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {أَنْ:}

حرف مصدري، ونصب. {صَدُّوكُمْ:} فعل ماض وفاعله ومفعوله، والفعل الماضي في محل نصب ب {أَنْ،} وهما في تأويل مصدر في محل نصب مفعول لأجله، أو هو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لصدّهم إيّاكم. والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وانظر الشرح.

{عَنِ الْمَسْجِدِ:} معلقان بالفعل قبلهما. {الْحَرامَ:} صفة: {الْمَسْجِدِ} .

{أَنْ تَعْتَدُوا:} فعل مضارع منصوب ب: (أن) وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل منهما في محل نصب مفعول به ثان، التقدير: لا يجرمنّكم شنآن قوم الاعتداء عليهم. {وَتَعاوَنُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {عَلَى الْبِرِّ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالتَّقْوى:} معطوف على ما قبله

ص: 12

مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا، وأصل الفعل: لا تتعاونوا، فحذفت تاء المضارعة.

{وَاتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. {اللهِ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {أَنْ:} حرف مشبّه بالفعل. {اللهِ:}

اسمها. {شَدِيدُ:} خبرها، وهو مضاف، و {الْعِقابِ:} مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ الأصل: شديد عقابه، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محلّ لها.

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاِخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}

الشرح: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ:} انظر الآية رقم [173] من سورة (البقرة) ففيها الكفاية؛ حيث تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

(المنخنقة): هي الدّابة الّتي ماتت خنقا بسبب حبل في رقبتها، أو حبس الهواء عنها، ونحو ذلك. (الموقوذة): هي الدابّة الّتي تموت بضرب حجر، أو عصا، ونحو ذلك. ولا يلتفت لقول من يقول: إنّها المريضة، ويسمّونها المنقوذة. (المتردية): هي التي وقعت من مكان عال في بئر، أو غيره، فماتت. (النطيحة): هي التي نطحتها دابة أخرى، فماتت، وهي اسم مفعول بمعنى منطوحة، ويخطئ من يفسرها ب: منكوحة، وهو يريد الأنثى من البقر، والغنم، والماعز، فلذا يحرّم أكل لحم الأنثى ممّا ذكر، مع أنّ كتب اللغة لا توافق على تفسيرها بما ذكر، والقرآن عربيّ. وإنّما لم تحذف التاء من الأسماء المذكورة مع أنّها بمعنى المفعول؛ لأنّها صفات لموصوف محذوف، وهو الشّاة، كأنّه تعالى قال: حرمت عليكم الشّاة المنخنقة

إلخ.

{وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ:} قال قتادة-رحمه الله تعالى-: كان أهل الجاهلية إذا جرح السّبع شيئا، فقتله، أو أكل منه؛ أكلوا ما بقي منه، فحرّمه الله تعالى. و {السَّبُعُ} يقع على كل حيوان له ناب، ويعدو على النّاس، والدّواب، فيغرس بنابه، كالأسد، والذئب، والنّمر، والفهد، ونحوه.

وفي الآية محذوف، تقديره: وما أكل السبع منه؛ لأنّ ما أكله السّبع؛ فقد فقد، فلا حكم له.

ومعنى {إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ:} إلا ما أدركتموه؛ وقد بقيت فيه حياة مستقرّة من هذه الأشياء المذكورة جميعها، وهذا قول عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة-رضي الله عنهم أجمعين-،

ص: 13

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يقول الله تعالى: ما أدركتم من هذا كلّه؛ وفيه روح؛ فاذبحوه، فهو حلال. وأمّا كيفية إدراكها؛ فقال أكثر أهل العلم من المفسّرين: إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف، أو ذنب يتحرّك. فأكله جائز. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا طرفت بعينها، أو ركضت برجلها، أو تحركت؛ فاذبح فهو حلال. واختار الزجّاج وابن الأنباري: أنّ معنى التّذكية: أن تلحقها، وفيها بقيّة تشخب معها الأوداج، ويضطرب المذبوح لوجود الحياة فيه قبل ذلك؛ وإلا؛ فهو كالميتة.

وأصل (الذكاة) في اللّغة: تمام الشيء. فالمراد من التّذكية تمام قطع الأوداج، وإنهار الدم.

ويدل عليه ما روي عن رافع بن خديج عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنهر الدّم، وذكر اسم الله عليه؛ فكلوه، ليس السنّ الظّفر، وسأحدّثكم عن ذلك، أمّا السّنّ؛ فعظم، وأمّا الظّفر؛ فمدى الحبشة» . أخرجاه في الصّحيحين. هذا وأقل الذّبح في الحيوان المقدور عليه قطع المريء، والحلقوم. وأكمله قطع الودجين مع ذلك. وغير المقدور عليه كحيوان وقع في بئر، أو شرد؛ فجرحه في أيّ جزء منه يحلّه، والله الموفّق.

{وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ:} واحد النصاب، وهي: أحجار كانت منصوبة حول الكعبة، أو في مكان آخر يذبحون عليها، ويعدّون ذلك قربة. وقيل: هي الأصنام التي كانوا يعبدونها، فتكون:

{عَلَى} بمعنى اللام، ويكون المراد تعظيمها بهذا الذّبح، لا المانع ذكر اسمها، فإن ما يذكر اسم الله عليها قد تقدّم بقوله تعالى:{وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ:} قال الأعشى من قصيدته الّتي مدح بها النّبي صلى الله عليه وسلم: [الطويل]

وذا النّصب المنصوب، لا تنسكنّه

لعافية والله ربّك فاعبدا

{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ:} تطلبوا القسم، والحكم بالأزلام، وهذا من المحرّمات.

و (الأزلام): جمع: زلم بوزن جمل، أو صرد لغتان: قدح-بكسر القاف-سهم صغير لا ريش له، ولا نصل، وكانت سبعة مستوية، مكتوب على واحد: أمرني ربي، وعلى واحد: نهاني ربي، وعلى واحد: منكم، وعلى واحد: من غيركم، وعلى واحد: ملصق، وعلى واحد:

العقل، وواحد غفل، أي: غير مكتوب عليه شيء. وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا سفرا، أو تجارة، أو نكاحا، أو اختلفوا في نسب، أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام؛ جاءوا إلى هبل، وكان أعظم صنم لقريش بمكة، وكان في الكعبة، وجاءوا بمائة درهم، وأعطوها صاحب القداح؛ حتى يجيلها لهم، فإن خرج: أمرني ربي؛ فعلوا ذلك الأمر، وإن خرج: نهاني ربي؛ لم يفعلوا. وإذا أجالوا على نسب، فإن خرج: منكم؛ كان وسطا فيهم، وإن خرج: من غيركم؛ كان حليفا فيهم، وإن خرج: ملصق؛ كان على حاله. وإن اختلفوا في العقل، وهو الدّية، فمن خرج عليه قدح العقل؛ تحمّله، وإن خرج الغفل؛ أجالوا ثانيا؛ حتّى يخرج المكتوب عليه. فنهاهم الله عن ذلك، وحرّمه، وسمّاه: فسقا. انتهى. خازن.

ص: 14

وقيل: هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة، وهو نوع من القمار، فقد كانوا يتآمرون على ناقة تذبح، فيقطعونها ثمانية وعشرين قطعة، ويأتون بعشرة أقداح، اسم الأول: الفذ، يربح قطعة واحدة، والثاني: التوأم، يربح قطعتين، والثالث: الرقيب، يربح ثلاثا، والرابع: الحلس، يربح أربعا، والخامس: النافس، يربح خمسا، والسادس: المسبل، يربح ستّا، والسّابع: المعلّى، يربح سبعا، والثّامن: السّفيح، والتاسع: الوغد، والعاشر:

المنيح، وهذه الأقداح الثلاثة خاسرة لا نصيب لها من الرّبح. يجعلون هذه الأقداح العشرة في خريطة، ويسلمونها إلى رجل مشهور بالأمانة بعيد عن التلاعب، فيخضّها، ثمّ يخرج منها قدحا باسم أحد المتقامرين، ثمّ يخضها ثانية، ويخرج منها قدحا باسم غيره، وهكذا حتى تنتهي القداح العشرة، فمن خرج باسمه الفذ؛ فله سهم واحد، ومن خرج باسمه التوأم؛ فله سهمان إلى أن تنتهي الأسهم الرابحة، أمّا القداح الثلاثة تتمة العشرة؛ فلا تربح شيئا، وأصحاب هذه القداح يدفعون ثمن المقامر عليه مع الرّابحين بالتّساوي طيبة بها نفوسهم مفتخرين. وكان الرّابحون لا يأخذون شيئا ممّا ربحوه، بل يتبرعون بجميعه إلى الفقراء والمحتاجين، ويكتفون بمدح الناس، وثنائهم عليهم. قال عنترة في معلّقته رقم [54] في وصف من قتله:[الكامل]

ربذ يداه بالقداح إذا شتا

هتّاك غايات التّجار ملوّم

وقال لبيد-رضي الله عنه-في معلقته رقم [73 و 74]: [الكامل]

وجزور أيسار دعوت لحتفها

بمغالق متشابه أجسامها

أدعو بهنّ لعاقر، أو مطفل

بذلت لجيران الجميع لحامها

{ذلِكُمْ فِسْقٌ} أي: ما ذكر من هذه المحرمات في هذه الآية؛ لأنّ المعنى: حرّم عليكم تناول كذا، وكذا؛ فإنه فسق، والفسق: ما يخرج من الحلال إلى الحرام. وقيل: إنّ الإشارة عائدة على الاستقسام بالأزلام، والأول أصحّ. {الْيَوْمَ:} لم يرد به يوما بعينه، وإنّما أراد الزمن الحاضر، وما يتّصل به من الأزمنة. وإنّما المعنى: الآن يئس الذين كفروا من دينكم، فهو كما تقول: اليوم قد كبرت، تريد الآن قد كبرت، ولم تقصد به اليوم، قال النّمر بن تولب الصحابي رضي الله عنه وهو الشاهد رقم [209] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الخفيف]

ربّ أمر يسوء ثمّ يسرّ

وكذاك الزّمان حلو ومرّ

وقيل أراد به: يوم نزولها، وقد نزلت على الرّسول صلى الله عليه وسلم، وهو واقف بعرفة بعد عصر الجمعة، وذلك في حجّة الوداع سنة عشر من الهجرة. {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} أي: يئسوا أن ترجعوا عن دينكم إلى دينهم كفارا، وذلك: أنّ الكفار كانوا يطمعون في أن يعود المسلمون إلى دينهم، فلمّا قوي الإسلام؛ أيسوا من ذلك، وكان ذلك هو اليوم الذي دخل فيه رسول الله

ص: 15

صلّى الله عليه وسلّم مكّة عام حجّة الوداع أو هو اليوم الذي فتح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة. هذا؛ و {يَئِسَ} ضد طمع بمعنى: قطع أمله، وقد يأتي بمعنى علم، وهي لغة النخع، وقيل: هي لغة هوازن، وإنّما استعمل اليأس بمعنى العلم؛ لأنّه سبب عن العلم بأن الميئوس منه لا يكون، وبه فسر قوله تعالى في سورة (الرعد) رقم [31]:{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً} واستدلوا لهذه اللغة بقول سحيم بن وثيل اليربوعي، وقال القرطبي في غير هذا الموضع: هو لمالك بن عوف النّصري: [الطويل]

أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني

ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم؟

وزهدم: اسم فرس سحيم. وقال رباح بن عدي: [الطويل]

ألم ييئس الأقوام أنّي أنا ابنه

وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

{فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} الخشية: خوف يشعر بتعظيم، ومهابة المخوف منه، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه. هذا؛ والماضي: خشي، والمصدر: خشية، والرجل خشيان، والمرأة خشيا، وهذا المكان أخشى من ذلك، أي: أشد خوفا منه. هذا؛ وقد يأتي «خشي» بمعنى «علم» القلبية، قال الشاعر المسلم:

ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى

سكن الجنان مع النّبيّ محمّد

قالوا: معناه: علمت، وقوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [80]:{فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} قال الأخفش: معناه: كرهنا.

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالنصر، والإظهار على الأديان كلّها، أو بتوضيح قواعد العقائد، وشرح أصول الشرائع، وتبيين قواعد الاجتهاد، وتتميم الفرائض، وذلك: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلمّا هاجر إلى المدينة المنورة؛ أنزل الله الآيات التي تبيّن الحلال، والحرام إلى أن حجّ، فلمّا حجّ، وكمل الدّين؛ نزلت هذه الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة بعد عصر يوم عرفة، وهو واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكادت عضد الناقة تندق من ثقل الوحي فبركت، وكان ذلك في حجّة الوداع سنة عشر من الهجرة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحجّ بعد النبوّة غير هذه الحجّة، وسمّيت حجّة الوداع لشرحه صلى الله عليه وسلم أمور الدّين، وتبيين ما يلزم المسلمين في دينهم، ودنياهم، وكثرة وصاياهم بالتقوى-رضي الله عنهم-وحثهم على أعمال البرّ، والخير؛ حتّى قالوا: كأنّها وصية مودّع. روى الأئمة عن طارق بن شهاب-رضي الله عنه-قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر-رضي الله عنه-فقال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود؛ لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال-رضي الله عنه: وأيّ آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} فقال الفاروق-رضي الله عنه: إنّي لأعلم

ص: 16

اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم الجمعة، وقد اتخذنا يوم نزولها عيدا. متّفق عليه. وقد روي: أنّ الحجّ بعد ذلك إذا صادف الوقوف بعرفات يوم الجمعة كانت الحجة بسبعين حجّة، وتسمّى: الحج الأكبر.

هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد: يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وعيد للنّصارى، وعيد للمجوس، ولم تجمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله، ولا بعده، وروي: أنّه لما نزلت هذه الآية بكى عمر-رضي الله عنه-فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟!» فقال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل فإنّه لم يكمل إلا نقص، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«صدقت» فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحدا وثمانين يوما، ولم ينزل بعدها آية حلال أو حرام، وإن نزل بعدها آية موعظة، وهي قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [281]:{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} وعاش بعد هذه الآية أحدا وعشرين يوما.

{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} يعني: بإكمال الدّين، والشّرائع، والأحكام، كما وعدتكم؛ إذ قلت:

{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فكان من تمام النّعمة أن دخلوا مكّة آمنين، وحجّوا مطمئنين، لم يخالطهم أحد من المشركين. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} أي: اخترت لكم الإسلام دينا من الأديان.

{الْإِسْلامَ} في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [19]: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ} وقال جلّ ذكره في الآية [85] منها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وخذ ما يلي:

عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عليه السلام، عن الله تعالى؛ قال:«إنّ هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصالح له إلاّ السّخاء، وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه» . رواه البغوي، والطبراني في الأوسط.

{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ:} ألجأته الضرورة إلى تناول شيء من المحرّمات في مجاعة. {غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ} غير مائل منحرف لمعصية بأن يأكلها تلذذا، أو متجاوزا حدّ الحاجة، والرّخصة.

وانظر: {غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} في الآية رقم [173] من سورة (البقرة) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

هذا؛ و (المخمصة): الجوع، وخلاء البطن من الطّعام، والخمص: ضمور البطن، ورجل خميص، وخمصان، وامرأة خميصة، وخمصانة، ومنه: أخمص القدم، ويستعمل كثيرا في الجوع، ومثله الغرث، قال الأعشى:[الطويل]

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

أي: منطويات على الجوع، قد أضمر بطونهنّ. وقال النّابغة في خمص البطن من جهة ضمره:[الكامل]

ص: 17

والبطن ذو عكن خميص ليّن

والنّحر تنفجه بثدي مقعد

وعن عمر-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله؛ لرزقكم كما يرزق الطّير، تغدو خماصا، وتروح بطانا» . أخرجه الترمذي.

الإعراب: {حُرِّمَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث حرف لا محلّ له.

{عَلَيْكُمُ:} جار، ومجرور متعلقان به. {الْمَيْتَةُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {وَالدَّمُ وَلَحْمُ} معطوفان على:{الْمَيْتَةُ،} و {وَلَحْمُ:} مضاف، و {الْخِنْزِيرِ:} مضاف إليه.

{وَما} اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع معطوفة على: {الْمَيْتَةُ} .

{أُهِلَّ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لِغَيْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلا بالباء، وهو ضعيف، (غير) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.

{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {أُهِلَّ} . وهما في محل رفع نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضّمير المجرور محلاّ بالباء: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ:} هذه الأسماء معطوفة على: {الْمَيْتَةُ} أيضا. (ما): مثل سابقتها.

{أَكَلَ السَّبُعُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: والذي، أو: شيء أكله السّبع.

{إِلاّ:} أداة استثناء. {ما:} تحتمل ما ذكرته فيما قبلها، فهي مبنية على السّكون في محل رفع معطوفة على:{الْمَيْتَةُ} . {ذُبِحَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها. {عَلَى النُّصُبِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَأَنْ:} الواو: حرف عطف. (أن): حرف مصدري ونصب. {تَسْتَقْسِمُوا:} فعل مضارع منصوب ب (أن) وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل من الفعل وناصبه في محل رفع معطوف على:{الْمَيْتَةُ..} .

إلخ. {بِالْأَزْلامِ:} متعلقان بما قبلهما.

{ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {فِسْقٌ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلّق بالفعل بعده. {يَئِسَ} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ دِينِكُمْ:} متعلقان بالفعل: {يَئِسَ} والكاف في محلّ جرّ بالإضافة.

{فَلا:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة. وأراها الفاء الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدّر. (لا): ناهية

ص: 18

جازمة. {تَخْشَوْهُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب لشرط مقدّر ب:«إذا» التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا؛ فلا تخشوهم. والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثله. {وَاخْشَوْنِ:} فعل أمر مبني على حذف النون لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا.

{الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما بعده. {أَكْمَلْتُ:} فعل، وفاعل. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {دِينِكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، وجملة:{وَأَتْمَمْتُ..} . إلخ معطوفة عليها لا محلّ لها مثلها. {عَلَيْكُمُ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {نِعْمَتِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَرَضِيتُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {دِيناً:} مفعول به ثان لرضيت على اعتباره بمعنى جعلت، وصيرت، وقيل: تمييز. وقيل: حال، والأول هو أقوى.

{فَمَنِ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اُضْطُرَّ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره: هو. {فِي مَخْمَصَةٍ:} متعلقان بما قبلهما. {غَيْرَ:} حال من نائب الفاعل، وهو مضاف، و {مُتَجانِفٍ:} مضاف إليه. {لِإِثْمٍ:} متعلقان ب {مُتَجانِفٍ} وجواب الشرط محذوف، التقدير: فلا إثم عليه، والجملة الاسمية المقدرة في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجّح عند المعاصرين، هذا؛ وإن اعتبرت (من) موصولة؛ فتكون مبتدأ، وجملة:

{اُضْطُرَّ..} . إلخ صلتها، وخبرها الجملة الاسمية المقدّرة، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي مفرّعة عمّا قبلها، ومستأنفة لا محلّ لها، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مفيدة للتعليل لا محلّ لها. هذا، وكلام القرطبي يشير إلى أنّ هذه الجملة هي الجواب للشرط؛ لذا قدّر: فإنّ الله له غفور رحيم، قال: فحذف الضمير، وأنشد سيبويه قول أبي النّجم العجلي-وهو الشاهد رقم [365] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الرجز]

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

ص: 19

{يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاُذْكُرُوا اِسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)}

الشرح: {يَسْئَلُونَكَ..} . إلخ: انظر الآية رقم [218] من سورة (البقرة) فالبحث فيها جيد.

والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والسائل هم المؤمنون، فإنّ الله-عز وجل-لمّا بين المحرّم عليهم؛ سألوه عن الحلال لهم. والحلال ضدّ الحرام، وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: نزلت الآية بسبب عديّ بن حاتم، وزيد بن مهلهل، وهو زيد الخيل الّذي سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، قالا: يا رسول الله! إنّا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإنّ الكلاب تأخذ البقر، والحمر، والظباء، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما تقتله، فلا ندرك ذكاته، وقد حرّم الله الميتة، فماذا يحلّ لنا؟ فنزلت الآية الكريمة. انتهى.

{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ:} المستلذّات، وكلّ ما تستطيبه العرب، وتستلذّه من غير ما ورد بتحريمه نصّ من كتاب، أو سنّة، والعبرة في الاستطابة، والاستلذاذ بأهل المروءة، والأخلاق الجميلة، فإنّ أهل البادية منهم من يستطيبون أكل جميع الحيوانات، فلا عبرة بهم. {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ} أي: وأحلّ صيد ما علّمتم من الجوارح، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. والجوارح: جمع جارحة، وهي الكواسب من السباع، والطير، كالفهد، والنمر، والكلب، والبازي

إلخ، سميت جوارح من الجرح؛ لأنّها تجرح الصيد عند إمساكه، وقيل:

سمّيت جوارح؛ لأنّها تكسب، والجوارح: الكواسب من: جرح، واجترح: إذا اكتسب، ومنه قوله تعالى في سورة (الأنعام):{وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} . وفي سورة (الجاثية): {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ} . ومعنى {مُكَلِّبِينَ:} معلّمين، ومؤدّبين. {تُعَلِّمُونَهُنَّ:} تعلمون الجوارح الاصطياد. {مِمّا عَلَّمَكُمُ} أي: من العلم الذي علّمكم الله. ففي الآية الكريمة دليل على أنّه لا يجوز صيد جارحة ما لم تكن معلّمة، وصفة التعليم: أن يعلم الرّجل جارحة الصيد، وذلك بأن يوجد فيها أمور: أن تسترسل؛ إذا أرسلت، وتنزجر؛ إذا انزجرت، وإذا أخذت صيدا؛ لم تأكل منه شيئا، وأن لا ينفر منه؛ إذا أراده، وأن يجيبه؛ إذا دعاه. فهذا هو تعليم الجوارح.

فعن عدي بن حاتم-رضي الله عنه-قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنّا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال:«إذا أرسلت كلبك المعلّم، وذكرت اسم الله عليه؛ فكل ممّا أمسك عليك، إلاّ أن يأكل الكلب؛ فلا تأكل، فإنّي أخاف أن يكون إنّما أمسك على نفسه. وإن خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها، فأمسكن، وقتلن؛ فلا تأكل، فإنّما سمّيت على كلبك، ولم تسمّ على غيره» . متفق عليه. وقال-رضي الله عنه: وسألته عن المعراض، فقال:«إذا أصبت بحدّه؛ فكل، وإذا أصبت بعرضه، فقتل، فإنّه وقيذ؛ فلا تأكل» .

ص: 20

{وَاتَّقُوا اللهَ:} خافوه، وقفوا عند حدوده. {إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ:} لا يحتاج إلى عد، ولا إلى عقد، ولا إلى إعمال فكر، كما يفعله الحسّاب، ولهذا قال في سورة (الأنبياء):{وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه يوم الأحزاب: «اللهمّ منزّل الكتاب سريع الحساب

» والمعنى: أنّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، فكما يرزقهم في ساعة واحدة؛ يحاسبهم كذلك في ساعة واحدة. قال تعالى في سورة (لقمان):{ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . وقيل للإمام علي-رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا أخذ الله في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها، ولم يقل أهل النار إلا فيها. هذا؛ ويقيل من القيلولة، وهي الاستراحة وقت الظهيرة، ومعنى الحساب، وفائدته: تعريف الله العباد مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إيّاهم ما قد نسوه بدليل قوله تعالى في سورة (المجادلة):{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} .

هذا؛ وقد دلّت الآية على جواز اتخاذ الكلاب، واقتنائهما للصيد. وثبت ذلك في صحيح السّنّة، وزادت الحرث، والماشية، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام قد أمر بقتل الكلاب؛ حتى كان يقتل كلب المرأة من البادية يتبعها.

فعن ابن عمر-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتنى كلبا، إلاّ كلب صيد، أو ماشية؛ نقص من أجره كلّ يوم قيراطان» رواه مالك، والبخاري، ومسلم، والترمذيّ، والنسائي.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أمسك كلبا، فإنّه ينقص من عمله كلّ يوم قيراط إلاّ كلب حرث، أو ماشية» . رواه البخاريّ، ومسلم. وجعل النقص من أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة، إمّا لترويع الكلب المسلمين، وتشويشه عليهم بنباحه، كما قال زياد الأعجم، وقد نزل بعمّار، فسمع لكلابه نباحا، فأنشأ يقول:[لطويل]

نزلنا بعمّار فأشلى كلابه

علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل

فقلت لأصحابي أسرّ إليهم

أذا اليوم أم يوم القيامة أطول

وإما لمنع دخول الملائكة البيت، كما ورد في الأحاديث الصّحيحة. أو لنجاسته، كما يراه الشافعي-رضي الله عنه. وقال الرّسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الرّوايتين: قيراطان، وفي الأخرى قيراط، وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب: أحدهما أشدّ أذى من الآخر، كالأسود الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها، فقال:«عليكم بالأسود البهيم ذي النّقطتين، فإنّه شيطان» . أخرجه مسلم. ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة، أو بمكّة قيراطان، وبغيرهما قيراط، والله أعلم.

ص: 21

الإعراب: {يَسْئَلُونَكَ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله الأول. {ماذا:} (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر. {أُحِلَّ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ذا) وهو العائد، ويجوز اعتبار (ماذا): اسم استفهام مركبا، وفي إعرابه وجهان: اعتباره مفعولا به مقدّما للفعل بعده، واعتباره مبتدأ، والجمل الفعلية خبره، والرابط: رجوع نائب الفاعل إليه، وسواء أكانت الجملة اسمية، أم فعلية، فهي في محل نصب مفعول به ثان للفعل قبلها، وجملة:{يَسْئَلُونَكَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره: أنت. {أُحِلَّ:} فعل ماض مبني للمجهول.

{لَكُمُ:} متعلقان به. {الطَّيِّباتُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {وَما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السّكون في محل رفع، معطوفة على:{الطَّيِّباتُ} . {عَلَّمْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: والذي، أو: والحيوان علمتموه.

{مِنَ الْجَوارِحِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضّمير المحذوف، و {مِنَ:} بيان لما أبهم في (ما).

{مُكَلِّبِينَ:} حال من: «تاء الفاعل والميم» منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنّون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {تُعَلِّمُونَهُنَّ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والنون علامة جمع الإناث، والجملة الفعلية في محلّ نصب حال ثانية من تاء الفاعل، أو من الضمير المستتر في:{مُكَلِّبِينَ} فتكون حالا متداخلة. وقيل: مستأنفة لا محلّ لها، وهي معترضة على اعتبار (ما) شرطية. {مِمّا:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف هو المفعول الثاني للفعل: (تعلم) أي: تعلمونهنّ شيئا ما

إلخ، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {عَلَّمَكُمُ:} فعل ماض، والكاف مفعول به أول. {اللهُ:}

فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني، فإنّ التقدير: من الذي، أو: من شيء علّمكم الله إيّاه.

{فَكُلُوا:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية السابقة. (كلوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله؛ لأنّ (من) الجارة بمعنى بعض، و (ما): موصولة، أو موصوفة. {أَمْسَكْنَ:}

فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، وهو مفعول الفعل، فإنّ التقدير: فكلوا من الّذي، أو من حيوان أمسكنه عليكم، وجملة: (كلوا

) إلخ لا محلّ لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء.

ص: 22

هذا وقد أجاز بعضهم اعتبار (ما) شرطية، فتكون مفعولا به مقدّما لفعل شرطها، وهو:

{عَلَّمْتُمْ،} وجملة: (كلوا

) إلخ في محل جزم جوابها، وتكون الجملة الشرطية برمّتها معطوفة على الطّيبات؛ لأنّها داخلة في الحلّ، أو مستأنفة لا محلّ لها، والغرض منها بيان نوع من أنواع الحلال، فهي من ذكر الخاص من بعد العام، كما يجوز اعتبار (ما) موصولة في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها على نحو ما تقدّم، وتكون جملة: (كلوا

) إلخ في محل رفع خبرها، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، وتكون الجملة اسمية يجوز فيها ما جاز فيها على اعتبارها شرطية. والمعتمد الأوّل في إعرابها.

{وَاذْكُرُوا:} الواو: حرف عطف. (اذكروا): فعل أمر، وفاعله. {اِسْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: اذكروا، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (كلوا

) إلخ على جميع الوجوه المعتبرة فيها، ومثلها جملة:

(اتقوا الله). {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {سَرِيعُ:} خبرها، وهو مضاف.

و {الْحِسابِ:} مضاف إليه من إضافة الصّفة المشبهة لفاعلها؛ إذ التقدير: سريع حسابه، والجملة الاسمية مفيدة للتّعليل، لا محلّ لها. تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم.

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)}

الشرح: {الْيَوْمَ:} المراد به هنا اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية. وقيل: بل المراد به يوم عرفة الّذي تقدّم ذكره في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ..} . إلخ، ويكون ما ذكر في هذه الآية من إتمام النّعمة على المؤمنين بإحلال الطيبات، ونكاح العفيفات. وانظر شرح:{الطَّيِّباتُ} في الآية السّابقة.

{وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} المراد بهم: اليهود، والنصارى، وذبائحهم خاصّة، وأمّا ما حرم علينا من طعامهم؛ فليس بداخل تحت عموم الخطاب. قال ابن عباس: قال الله تعالى في سورة (الأنعام): {وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ثم استثنى؛ فقال: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ} يعني: ذبيحة اليهودي، والنصراني، وإن كان النّصراني يقول عند الذبح:

باسم المسيح، واليهودي يقول: باسم عزير. {وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} يعني: وذبائحنا حلّ لهم، وهذا يدلّ على أنّهم مخاطبون بشريعتنا، ودليل على حل معاملتنا معهم ببيع، أو شراء. وينبغي أن

ص: 23

تعلم: أنّ ذبائح الأضاحي، والنّذور، وجميع القربات لا يجوز لنا أن نعطيهم منها؛ لأنّها لفقراء المسلمين. وخذ ما يلي:

عن أبي ثعلبة الخشني-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل الكتاب؛ أفنأكل في آنيتهم، وبأرض أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلّم، وبكلبي المعلّم، فما يصالح لي؟ قال:«أمّا ما ذكرت من آنية أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها؛ فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها؛ فاغسلوها، وكلوا فيها، وما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه؛ فكل، وما صدت بكلبك غير المعلّم، فأدركت ذكاته؛ فكل» . أخرجه مسلم، وغيره.

{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ} أي: وأبيح لكم أيها المؤمنون زواج الحرائر العفيفات من المؤمنات. {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: وأبيح زواج الحرائر من الكتابيات العفيفات أيضا، وقد تزوّج جماعة من الصّحابة من نساء النّصارى، ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية، فقد تزوّج عثمان بن عفان-رضي الله عنه-نائلة بنت الفرافصة على نسائه، وهي نصرانيّة، وتزوّج طلحة بن عبيد يهوديّة. وروي عن ابن عمر كراهية ذلك، ويحتج بقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [221]:{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ} . وكان يقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إنّ ربّها عيسى. وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّه عامّ خصّ بهذه، فأباح الله تعالى المحصنات من أهل الكتاب، وحرّم من سواهنّ من أهل الشّرك. {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي:

إذا أعطيتموهن مهورهنّ، أي كما هنّ محصنات عفائف، فابذلوا لهنّ المهور عن طيب نفس.

وقد أفتى جابر بن عبد الله، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري-رضي الله عنهم-بأنّ الرّجل إذا نكح امرأة، فزنت قبل دخوله بها: أنّه يفرّق بينهما، وتردّ عليه ما بذل لها من المهر، رواه ابن جرير عنهم.

{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ:} فكما شرط الإحصان في النّساء، وهي العفّة عن الزنى؛ كذلك شرطها في الرّجال، وهي أن يكون الرجل أيضا عفيفا محصنا. {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ} أي: وغير متخذين عشيقات، وصديقات تزنون بهنّ سرّا، وانظر الآية رقم [22] من سورة (النّساء) فإنّه جيّد والحمد لله!.

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ} أي: ومن يجحد ما أمر الله به من توحيده، ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله. {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ:} بطل ثواب عمله في الدنيا، وخاب، وخسر في الدنيا، والآخرة. وقيل: المعنى: ومن يكفر بشرائع الإيمان، وتكاليفه؛ فقد خاب، وخسر. وقيل: لمّا أباح الله تعالى نكاح الكتابيات؛ قلن فيما بينهن: لولا أنّ الله قد رضي أعمالنا؛ لم يبح للمسلمين تزويجنا، فأنزل الله هذه الآية، والمعنى: إنّ تزوّج المسلمين إياهنّ ليس بالذي يخرجهن من الكفر. وقيل: غير ذلك. {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} إذا مات على ذلك؛ لأنّه إذا تاب، وآمن قبل الموت؛ قبلت توبته، وصحّ إيمانه.

ص: 24

هذا وفي المصباح المنير: حبط العمل، يحبط-من باب: تعب-حبطا بالسكون، وحبوطا:

فسد، وهدر. وحبط، يحبط من باب: ضرب لغة. والحبط بفتحتين أن تأكل الماشية، فتكثر حتّى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها، وقيل: هو أن ينتفخ بطنها من أكل الذرق، وهو الحندقوق. وفي الحديث:«إنّ ممّا ينبت الرّبيع ما يقتل حبطا، أو يلمّ» . انتهى. واسم هذا الداء الحباط، والفعل: حبط، لازم، ويتعدّى بالهمزة، كما في قوله تعالى في كثير من الآيات:

{فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ} .

تنبيه: قد بيّن الله-عز وجل-في هذه الآية الكريمة حلّ تناول طعام اليهود، والنصارى، وحلّ نكاح نسائهم، والطّعام يطلق على كل طعام، ويشمل ذبائحهم التي يذبحونها بأيديهم، علما بأنّ حلّ ذبائحهم، ونكاح نسائهم مشروط عند الشافعي-رضي الله عنه-بشروط لا تتوفر في هذه الأيام، ومن أهمّها أن يكون منسوبا إلى إسرائيل، وهو يعقوب عليه السلام، وأن لا يعلم دخول أحد من آبائه، وأجداده في اليهودية، أو النصرانية بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا غيرممكن كما هو معلوم، لذا فالتّحريم هو المفتى به في مذهب الشافعي، وأمّا غير الشافعي فإنّه لا يشترط هذه الشروط، وحلّ نكاح نسائهم من غير أن تسلم؛ أي: مع بقائها على دينها، وأمّا إذا أسلمت؛ فإنّها صارت من المؤمنات. وينبغي أن تعلم: أنّه لا يحل ذبائح المجوس، ولا نكاح نسائهم، ولا ذبائح، ونكاح نساء من لفّ لفّهم من الوثنيين؛ الذين يعبدون الشّمس، أو القمر، أو يؤلّهون بشرا، أو حيوانا، وإن ألحقوا بأهل الكتاب بضرب الجزية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» .

تنبيه: يتساءل كثير من النّاس-ولا سيما النّصارى-: لماذا ننكح نساءهم، ولا ننكحهم نساءنا؟ الجواب سهل بعون الله، وهو: أنّ المسلم لا يؤذيها في دينها؛ لأنّه يقدس عيسى، وأمّه، ويجلّهما، فلا يتعرّض لهما بسوء بخلاف النّصرانيّ، واليهوديّ، فإنّه لا يجلّ محمدا صلى الله عليه وسلم، بل يصمه بأبشع الصّفات، فربما يؤذي المسلمة بسبّه، وشتمه. وأيضا الإسلام يعلو، ولا يعلى، والأمر ظاهر في قوامة الرّجل على المرأة وعلوّه عليها. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلّق بالفعل بعده. {أُحِلَّ:} فعل ماض مبني للمجهول.

{لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان به. {الطَّيِّباتُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {وَطَعامُ:} الواو: حرف عطف. (طعام): مبتدأ، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جرّ بالإضافة. {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان. {حِلٌّ:}

خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية السابقة، لا محلّ لها مثلها. هذا؛ وجوّز أبو البقاء العكبري عطف (طعام) على:{الطَّيِّباتُ} عطف مفرد على مفرد، واعتبر:{حِلٌّ}

ص: 25

{لَكُمُ:} خبرا لمبتدإ محذوف، ولم يظهر لي وجه جوازه. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {حِلٌّ؛} لأنّه مصدر، والجملة الاسمية:{وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا.

(المحصنات): مبتدأ. {مِنَ الْمُؤْمِناتِ:} متعلقان ب (المحصنات) لأنّه صيغة اسم مفعول، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه، وخبر المبتدأ محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: حلّ لكم، وساغ ذلك؛ لأنّ (حل) مصدر، والمصدر يخبر به عن المفرد، والمثنى، والجمع. {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ:} مبتدأ وإعرابه مثل ما قبله، وخبره محذوف، التقدير:

حلّ لكم، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. هذا؛ وإن اعتبرت الكلام من عطف المفردات، فلا حاجة إلى تقدير خبر، ويكون الأول خبرا عن الأسماء المتعاطفة. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والكاف في محل جرّ بالإضافة.

{إِذا:} ظرف زمان متعلق بخبر المبتدأ المحذوف مبني على السكون في محل نصب.

{آتَيْتُمُوهُنَّ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولّدت واو الإشباع، والهاء مفعول به أول، والنون علامة جمع النسوة.

{أُجُورَهُنَّ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة. {مُحْصِنِينَ:} حال من تاء الفاعل منصوب

إلخ. {غَيْرَ:} حال من الضمير المستتر ب {مُحْصِنِينَ} فهي حال متداخلة، وقيل:

صفة له، ولا وجه له، وقيل: حال ثانية من تاء الفاعل، و {غَيْرَ:} مضاف، و {مُسافِحِينَ:}

مضاف إليه مجرور

إلخ. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي.

{مُتَّخِذِي:} معطوف على {مُسافِحِينَ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وهو مضاف. {أَخْدانٍ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و (لا) أفادت معنى:«غير» بلا ريب، وجملة:

{آتَيْتُمُوهُنَّ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، هذا؛ وقيل: إنّ {إِذا} شرطية، والجواب محذوف، تقديره: حللن لكم، وعليه فالجملة الشرطية في محل رفع خبر (المحصنات).

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَكْفُرْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {بِالْإِيمانِ:} متعلقان به.

{فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{حَبِطَ:} فعل ماض. {عَمَلُهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه. فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان وهو المرجّح عند المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {وَهُوَ:}

الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {فِي الْآخِرَةِ:}

ص: 26

متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، التقدير: وهو خاسر في الآخرة. {مِنَ الْخاسِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، ولم يجز تعليق:{فِي الْآخِرَةِ} ب {الْخاسِرِينَ؛} لأنّ معمول الصلة لا يتقدّم عليها، مع أنّ بعضهم علقهما به، وهذا يكون على التوسّع في الظرف والجار والمجرور، والجملة الاسمية:{وَهُوَ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة بقوله: {عَمَلُهُ،} والرابط: الواو، والضمير.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَاِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي: أردتم القيام إلى الصّلاة، وأنتم محدثون الحدث الأصغر. وربّنا جلّت قدرته نادى المؤمنين خاصّة لأنّهم هم المكلّفون بالصّلاة، وأمّا الكافر فإنّه يطالب أولا بالإيمان، ثمّ يطالب بفروع الشّريعة من صلاة، وغيرها. {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ:} جمع: وجه، وهو ما تتمّ به المواجهة، والمقابلة، وحدّه طولا: ما بين منابت شعر الرأس، وأسفل الذّقن. وحدّه عرضا: ما بين شحمتي الأذنين.

هذا؛ وعدّ الإمام أحمد-رحمه الله-المضمضة، والاستنشاق فرضا، فاعتبر الأنف والفم من الوجه الواجب غسله، وعامة الفقهاء على أنّهما سنة في الوضوء، والغسل؛ لأنّ الأمر إنّما يتناول الظّاهر دون الباطن، والعرب لا تسمّي وجها إلا ما وقعت به المواجهة، وإن الله لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما المسلمون.

{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ:} جمع يد، والمراد بها: ما بين رءوس الأصابع، وفوق المرفق؛ لأنّ ما بعد (إلى) داخل في الفرض، كما بينته أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون (إلى) بمعنى (مع)، كما في قوله تعالى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} . {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} جمع: رأس، وإنّما سمّي بذلك لعلوّه، ونبات الشّعر فيه، ومنه رأس الجبل. هذا؛ والرأس يطلق على الجملة التي يعلمها الناس ضرورة، ومنها الأذنان والوجه بما فيه، قال الشاعر:[الطويل]

إذا احتملوا رأسي وفي الرّأس أكثري

وغودر عند الملتقى ثمّ سائري

ص: 27

واختلف العلماء بالمقدار الواجب مسحه، فقال الإمام مالك، والإمام أحمد: الباء صلة، والواجب تعميم الرأس بالمسح. وقال الشافعي، وأبو حنيفة: الباء للتبعيض، والبعض ما يقع عليه الاسم عند الشافعي، ولو بمقدار الأصبع. وعند أبي حنيفة: لا يكون البعض أقل من ربع الرأس، رحمهم الله جميعا، فأخذ مالك، وأحمد بالاحتياط، فأوجبا الاستيعاب، وأخذ الشافعي باليقين، فأوجب مسح ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان السنة، وهو ما روي عن المغيرة بن شعبة-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته، وعلى العمامة، والخفين. متفق عليه. وقدّر الناصية بربع الرأس.

{وَأَرْجُلَكُمْ} يقرأ بفتح اللام عطفا على: {وُجُوهَكُمْ} وهذا لا ريب فيه، وإن عطفته على (رءوسكم) فيكون مثل قوله تعالى في سورة (الفرقان):{إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً،} وقوله تعالى في سورة (الحج): {يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ،} وقوله تعالى في سورة (الحشر): {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} انظر شرح هذه الآيات في محالها تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. ويكون المعنى هنا: وامسحوا برءوسكم، واغسلوا أرجلكم. وقراءة الجرّ على الجوار، وله نظائر في كتاب الله تعالى، وفي الشّعر العربي، فمن ذلك قوله تعالى في كثير من الآيات:{عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وقوله: (وحور عين) بجر (حور)، وإنّ {أَلِيمٍ} صفة عذاب، وقد جر لمجاورة {يَوْمٍ،} (وحور) معطوف على {وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ} وهو مرفوع، وقد جرّ لقربه من:{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ} ومن ذلك قول امرئ القيس في معلّقته، وهو الشاهد رقم [908] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

كأنّ أبانا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمّل

فجرّ «مزمل» مع كونه صفة لكبير لمجاورته ل «بجاد» وقال زهير: [الكامل]

لعب الزّمان بها وغيّرها

بعدي سوافي المور والقطر

قال أبو حاتم: كان الوجه «القطر» بالرفع، ولكنّه جرّه على جوار «المور» كما قالت العرب:

هذا حجر ضبّ خرب، فجر: خرب، وإنّما هو صفة ل:«حجر» المرفوع. والذي عليه المحققون: أنّ خفض الجوار يكون في النّعت قليلا، وفي التّوكيد نادرا كما في قول أبي الغريب -وهو في:«فتح القريب المجيب» رقم [1163] -: [البسيط]

يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم

أن ليس وصل إذا انحلّت عرا الذّنب

ولا يكون في النسق إلا لحكمة واضحة؛ لأنّ العاطف يمنع من التّجاور، ولذا بين الزمخشري الحكمة في الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، فقال: لما كانت الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة بصبّ الماء عليها؛ كانت مظنّة الإسراف المذموم شرعا، فعطفت على

ص: 28

الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها. وقيل:{إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فجيء بالغاية إماطة لظنّ من يظنّ: أنّها ممسوحة؛ لأنّ المسح لم تضرب له غاية في الشّريعة. انتهى. رحم الله الزمخشريّ المعتزليّ على هذا البيان! ومثله عن الشّافعيّ؛ لكن باختصار.

والقاطع في هذا الباب من أنّ فرض الرجلين الغسل ما قدّمناه، وما ثبت من أحاديث عن سيد الخلق وحبيب الحقّ صلى الله عليه وسلم. وخذ منها ما يلي: عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال:

تخلّف عنّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا؛ وقد أرهقتنا الصّلاة، صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:«أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النّار» . متّفق عليه، وفي رواية:«ويل للأعقاب، وبطون الأقدام من النّار» رواه البيهقي، والحاكم.

وقال الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-: عن جابر-رضي الله عنه-قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رجل رجل مثل الدّرهم لم يغسله، فقال:«ويل للأعقاب من النّار» . وقال الإمام أحمد: عن خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه رأى رجلا يصلّي، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء. ورواه أبو داود، وزاد:

والصلاة. وهذا إسناد جيد، وقويّ صحيح. والله أعلم.

ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهر، وذلك: أنّه لو كان فرض الرّجلين مسحهما، أو:

أنّه يجوز ذلك فيهما؛ لما توعّد على تركه؛ لأنّ المسح لا يستوعب جميع الرّجل، بل يجري فيه ما يجري في مسح الخفّ، وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفّين قولا منه، وفعلا، وقد خالفت الشيعة في ذلك بلا مستند، ولا دليل، مع أنّه ثابت في صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة، وهم يستبيحونها. وكذلك الآية الكريمة دالة على غسل الرجلين وجوبا؛ مع ما ثبت بالتواتر من فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلّت عليه الآية الكريمة، وهم مخالفون لذلك كلّه، وليس لهم دليل واضح صحيح في نفس الأمر. ولله الحمد على ما هدانا إليه. ولعلّ السبب في ذلك أخذهم بظاهر الألفاظ، وعدم تعمّقهم في معاني القرآن، وضعفهم في اللّغة العربية التي منهلها القرآن الكريم. خذ قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [30]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ..} . إلخ، وانظر شرحها هناك تجد ما يسرّك ويثلج صدرك، فإنّهم يفسّرونها على غير وجهها الصحيح.

عن عتبة بن عامر-رضي الله عنه-قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي، فروّحتها بعشيّ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدّث الناس، فأدركت من قوله: «ما من مسلم يتوضّأ،

ص: 29

فيحسن وضوءه، ثمّ يا قوم، فيصلّي ركعتين مقبلا عليهما بوجهه، وقلبه؛ إلاّ وجبت له الجنّة» فقلت: ما أجود هذا! فإذا قائل بين يدي يقول: الّتي قبلها أجود! فنظرت فإذا عمر قال: إنّي رأيتك جئت آنفا. قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ، أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسول الله، اللهمّ اجعلني من التّوّابين واجعلني من المتطهّرين؛ إلاّ فتحت له أبواب الجنّة الثّمانية يدخل من أيّها شاء» .

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أمّتي يدعون يوم القيامة غرّا محجّلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته وتحجيله فليفعل» . رواه البخاريّ، ومسلم. وقد قيل: إنّ قوله: (فمن استطاع

إلخ) إنّما هو مدرج من كلام أبي هريرة موقوف عليه. فأي أثر، وأيّ تحجيل لمن يمسح رجليه مسحا؟! ورحم الله من يقول:[الوافر]

ستأتي النّاس في العرصات سكرى

بلا أثر يكون لهم مزينا

وتأتي أمّة المختار غرّا

بآثار الوضوء محجّلينا

هذا؛ واستدلّ الشّافعيّ-رحمه الله تعالى-بهذه الآية على وجوب النية عند غسل الوجه.

وحجّته: أنّ الوضوء مأمور به، وكلّ مأمور به يجب أن يكون منويّا؛ لما روي في الصحيحين من حديث عمر-رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» . والوضوء من الأعمال، فيجب أن يكون منويّا. وذهب الشّافعي، ومالك، وأحمد- رحمهم الله تعالى-إلى وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء، كما في نصّ الآية، فيغسل وجهه أولا، ثمّ يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، فصار الترتيب فرضا سادسا، وأمّا أبو حنيفة فلم يعد النّيّة ركنا، ولا الترتيب أيضا، فأركان الوضوء عنده أربعة فقط.

{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ:} انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [43] من سورة النّساء ففيه الكفاية.

{ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي: إنّ الله لا يريد أن يضيّق عليكم، لذا فقد شرع لكم التيمم تيسيرا عليكم. {وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي: من الأوساخ الحسّيّة، والمعنوية، فالحسّيّة: كإزالة ما يعلق بالبدن من أقذار مرئيّة، والمعنوية: الذنوب، والسيئات؛ لأنّ الوضوء وما ينوب عنه سبب لمحو الأوزار، والخطايا.

{وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي: برخصه عليكم، أو بما شرعه لكم من أحكام. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:} نعمه التي أنعمها عليكم، فيثيبكم على ذلك، وهذا الفعل يتعدّى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرته، وشكرت له. كما تقول: نصحته، ونصحت له. والشّكر: صرف العبد

ص: 30

جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله. هذا؛ ومن أسماء الله تعالى: الشّكور، ومعناه: هو الذي يجازي على يسر الطاعات كثير الدّرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة. هذا والترجّي في هذه الآية وأمثالها، إنّما هو بحسب عقول البشر؛ لأنّ الله تعالى لا يحصل منه ترجّ لعباده. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا!.

بعد هذا فالآية دلّت على أنّ الله سبحانه وتعالى يريد بإرادة قديمة زائدة على الذّات. هذا مذهب أهل السّنّة، كما أنّه جلّت قدرته عالم بعلم، قادر بقدرة، حيّ بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلّم بكلام. وهذه كلها معان وجوديّة أزليّة زائدة على الذات. وذهب المعتزلة، والشّيعة إلى نفيها، والذي يردّ به عليهم أن يقال: لو لم يصدق كونه ذا إرادة؛ لصدق: أنّه ليس بذي إرادة، ولو صحّ ذلك؛ لكان كلّ ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة، فلم يبق إلا أن يكون الذي لم يتصف بالإرادة أنقص مما هو متّصف بها، ولا يخفى ما فيه من المحال، فإنّه كيف يتصوّر أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، والبديهة تقضي بردّه، وإبطاله، وقد وصف الباري نفسه جل جلاله، وتقدّست أسماؤه بأنّه مريد، قال تعالى:{فَعّالٌ لِما يُرِيدُ،} وقال جلّ شأنه: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

هذا؛ والإرادة: نزوع النفس، وميلها إلى الفعل، بحيث يحملها عليه. ويقال للقوّة التي هي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل، والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصوّر اتصاف الباري تعالى به، ولذا اختلف في معنى إرادته تعالى. فقيل: إرادته لأفعاله: أنّه غير ساه، ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته. وقيل: علمه باشتمال الأمر على النّظام الأكمل، والوجه الأصلح.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. {إِذا:} انظر الآية رقم [2].

{قُمْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {إِلَى الصَّلاةِ:} متعلقان بما قبلهما. {فَاغْسِلُوا:} الفاء: واقعة في جواب {إِذا} .

(اغسلوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محلّ لها. {وُجُوهَكُمْ:} مفعول به. {وَأَيْدِيَكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف فيهما في محل جر بالإضافة. {إِلَى الْمَرافِقِ:} متعلّقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان بمحذوف حال من:{الْمَرافِقِ} أي: مضافا إلى المرافق، وقال ابن هشام: الصّواب تعلّق {إِلَى} ب: «اغسلوا» محذوفا، و {إِذا} ومدخولها كلام لا محلّ له؛ لأنّه مبتدأ كالجملة الندائية قبله.

{وَامْسَحُوا:} فعل أمر، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{بِرُؤُسِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وعلى اعتبار الباء زائدة، فيكون مفعولا به صريحا منصوبا، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال

ص: 31

المحل بحركة حرف الجر الزائد. {وَأَرْجُلَكُمْ:} معطوف على وجوهكم منصوب مثله، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. وهذا على قراءة النصب، وعلى قراءة الجر، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الجوار، هذا؛ وقرئ بالرّفع على اعتباره مبتدأ، خبره محذوف، التقدير: وأرجلكم مغسولة. {إِلَى الْكَعْبَيْنِ:} متعلقان بالفعل:

(امسحوا)، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:(أرجلكم)، التقدير: مضافة إلى الكعبين.

{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {جُنُباً:} خبرها، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَاطَّهَّرُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (اطّهروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله. {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى:} مثل سابقه في إعرابه. {أَوْ:} حرف عطف. {عَلى سَفَرٍ:} معطوفان على: {مَرْضى} فهما متعلقان بمحذوف خبر: (كان) في المعنى. {جاءَ أَحَدٌ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على:{مَرْضى} كذا قيل، والأصح: أنّها معطوفة على جملة: {كُنْتُمْ مَرْضى} لا محلّ لها مثلها. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أَحَدٌ} . {مِنَ الْغائِطِ:} متعلقان بالفعل: {جاءَ} . {أَوْ لامَسْتُمُ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كُنْتُمْ مَرْضى} . {النِّساءَ:} مفعول به. {فَلَمْ:} الفاء: حرف عطف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{تَجِدُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ماءً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كُنْتُمْ مَرْضى} أيضا.

{فَتَيَمَّمُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (تيمموا): فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط

إلخ، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله. {صَعِيداً:} مفعول به. وقيل: منصوب بنزع الخافض، أي: بصعيد، وقيل: هو ظرف مكان، ومن جعل:{طَيِّباً} بمعنى: حلالا نصبه على الحال، أو المصدر، ولا بدّ من كلام مقدّر، أي: فاضربوا به ضربتين، وجملة:(امسحوا {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)} معطوفة على هذا المقدّر. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: (امسحوا).

{ما:} نافية. {يُرِيدُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله، ومفعوله محذوف. {لِيَجْعَلَ:}

اللام: لام التعليل. (يجعل): فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به أول. {مِنَ:} حرف جر صلة. {حَرَجٍ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة

ص: 32

مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، و «أن» المضمرة بعد لام التعليل، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محلّ جرّ بلام التعليل، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [26] من سورة النّساء، فالبحث فيها كاف ضاف، وجملة:{ما يُرِيدُ..} . إلخ: مستأنفة لا محلّ لها. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف.

(لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ:} إعرابه مثل إعراب ما قبله.

(ليتم): فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، يدلّ عليه ما قبله. {نِعْمَتَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلَيْكُمْ:} جار، ومجرور متعلّقان بما قبلهما.

{لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبّه بالفعل، والكاف اسمه. {تَشْكُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية مفيدة للتّعليل، لا محلّ لها.

{وَاُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)}

الشرح: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ:} هذا الخطاب موجّه إلى المؤمنين خاصّة، ونعم الله كثيرة، لا تعدّ، ولا تحصى، قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها} وأجلّها نعمة الإيمان.

وما يتعلّق به من بيان شرائع الدّين، وأحكامه. {وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ:} عهده؛ لأنّ الميثاق هو العهد المؤكّد باليمين، والمراد به حين بايعهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم على السّمع، والطّاعة في العسر، واليسر، والمنشط، والمكره، وكان ذلك ليلة العقبة، أو بيعة الرّضوان في الحديبية. وحمله بعضهم على الميثاق المأخوذ في عالم الأرواح، والمصرّح به قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [172]:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} وجعل المراد بقوله: {إِذْ قُلْتُمْ..} . إلخ إجابة الأرواح في عالم الذرّ بقولهم: {قالُوا بَلى} . وقيل:

هو تذكار لليهود بما أخذ عليهم من العهود، والمواثيق في متابعة محمّد صلى الله عليه وسلم، والأوّل أولى بالاعتبار. {وَاتَّقُوا اللهَ:} خافوه، فلا تنسوا نعمه، ولا تنقضوا عهده، وميثاقه. هذا؛ وأصل ميثاق: موثاق، قلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها، وجمعه: مواثيق، ومثله في الإعلال والجمع: ميعاد، وميراث، وميقات، وميزان

إلخ.

{قُلْتُمْ} أصله: قولتم، فقل في إعلاله: تحرّكت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان: الألف وسكون التاء، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار:(قلتم) بفتح القاف، ثمّ

ص: 33

أبدلت الفتحة ضمة لتدلّ على الواو المحذوفة، فصار: قلتم. وهناك إعلال آخر، وهو أن تقول:

أصل الفعل: قول، فلمّا اتصل به ضمير رفع متحرك، نقل إلى باب: فعل، فصار:(قولتم)، ثمّ نقلت حركة الواو إلى القاف قبلها، فصار:(قولتم) فالتقى ساكنان: العين المعتلّة ولام الفعل، فحذفت العين، وهو الواو لالتقائهما ساكنين، فصار (قلتم)، وهكذا قل في إعلال كل فعل أجوف، واوي، مسند إلى ضمير رفع متحرك، مثل: قمت، وقمنا، وقمن.

هذا؛ و (ذات) بمعنى صاحبة، فجعلت صاحبة الصدور لملازمتها، وعدم انفكاكها عنها، نحو قوله تعالى:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ،} {أَصْحابُ النّارِ} . هذا؛ و (ذات) مؤنث «ذو» الذي هو بمعنى صاحب، وقد يثنّى على لفظه، فيقال: ذاتا، أو ذاتي، كذا من غير ردّ لام الكلمة، وهو القياس، كما يثنّى «ذو» ب:«ذوا» أو «ذوي» على لفظه. ويجوز فيها (ذواتا) على الأصل بردّ لام الكلمة، وهي الياء ألفا لتحرّك العين، وهي الواو قبلها، وهو الكثير في الاستعمال، قال تعالى في سورة (الرحمن) رقم [48]:{ذَواتا أَفْنانٍ،} وقال في سورة (سبأ) رقم [16]: {ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} .

هذا؛ والتاء في (ذات) لتأنيث اللفظ، مثل: تاء (ثمّت، وربّت، ولات) ولكنّها تعرب بالحركات الظاهرة على التاء، فالجر كما في الآية الكريمة، ومثلها كثير، والرفع جاء في قوله تعالى:{فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ،} والنّصب جاء في قوله تعالى: {سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ} وكلّ معانيها في القرآن الكريم: صاحبة، إلا في موضعين، فإنّها جاءت بمعنى: الجهة، وذلك في قوله تعالى في سورة (الكهف):{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ،} وقد رأيت تثنيتها في الآيتين المذكورتين في حالتي النّصب، والجر، ولم ترد في القرآن الكريم بمعنى الجمع. هذا، ولم يتعرّض لها النحويّون بهذا المعنى مع كثرة تعرّضهم ل:«ذي» بمعنى صاحب، وتثنيته، وجمعه، ولكنّهم ذكروا (ذات) بمعنى «التي» ، و «ذوات» بمعنى «اللواتي» وذلك في مبحث الاسم الموصول، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

وكالّتي أيضا لديهم ذات

وموضع اللاّتي أتى ذوات

قال الأشموني-رحمه الله تعالى-: أي: عند طيئ ألحقوا ب «ذو» تاء التأنيث مع بقاء البناء على الضّمّ حكى الفراء: «بالفضل ذو فضّلكم الله به، والكرامة ذات فضّلكم الله بها» وقريب منه لابن هشام في أوضحه، وكلاهما أورد بيت رؤبة:[الرجز]

جمعتها من أينق موارق

ذوات ينهضن بغير سائق

والفرق بين الأولى والثانية: أنّ الأولى لا تكون إلا مضافة لما بعدها، كما رأيت؛ بخلاف الثانية؛ فإنّها معرفة بالصّلة التي تذكر بعدها، كما في بيت رؤبة: تنبّه لهذا فإنّه معنى دقيق، واسأل الله لي ولك المزيد من التوفيق.

ص: 34

هذا؛ وأضيف: أنّ جمع «ذات» : «ذوات» من لفظه، كما يجمع على «أولات» من غير لفظه، قال تعالى في سورة (الطلاق):{وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . كما يجمع المذكر «ذو» بمعنى صاحب: «أولو» من غير لفظه، وهو كثير في القرآن الكريم.

الإعراب: (اذكروا): فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق. هذا هو المتعارف عليه في إعراب هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول:

فعل أمر مبني على سكون مقدّر على آخره منع من ظهوره إرادة التخلص من التقاء الساكنين، وحرّك بالضمّة لمناسبة واو الجماعة. وما أجدرك أن تلاحظ هذا في كلّ فعل أمر مسند إلى واو الجماعة، أو إلى ألف الاثنين، مثل: اذكرا، وقد حرّك بالفتحة لمناسبة ألف الاثنين، أو إلى ياء المؤنثة المخاطبة، مثل: اذكري، وقد حرّك بالكسرة لمناسبة ياء المخاطبة. {نِعْمَةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْكُمْ:} جار، ومجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان ب {نِعْمَةَ اللهِ} أو هما متعلّقان بمحذوف حال من {نِعْمَةَ اللهِ،} وجملة: {وَاذْكُرُوا..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {وَمِيثاقَهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: (ميثاقه) أو هو بدل منه. {واثَقَكُمْ:} فعل ماض، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى {اللهِ}. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.

{إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: {واثَقَكُمْ} وقيل: متعلق بمحذوف حال من: (ميثاقه). {قُلْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {سَمِعْنا:} فعل، وفاعل، والمفعول به محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والتي بعدها معطوفة عليها، وجملة:{وَاتَّقُوا اللهَ} معطوفة على جملة:

{وَاذْكُرُوا..} . إلخ لا محلّ لها مثلها. {إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {عَلِيمٌ:}

خبرها. {بِذاتِ:} جار ومجرور متعلّقان ب (عليم). و (ذات) مضاف، و {الصُّدُورِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محلّ لها، وفيها وعد للمؤمنين، ووعيد لغيرهم.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاِتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. {كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ} انظر الآية رقم [135] من سورة (النّساء) ففيها الكفاية. {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ}

ص: 35

{تَعْدِلُوا} أي: ولا يحملنّكم عداوة قوم، وبغضهم على عدم العدل، وعلى الجور. وهذا يشمل كلّ ما يقع بين الناس من عداوة، سواء أكانوا مسلمين جميعا، أم مسلمين، وكافرين، وإن نزلت الآية بشأن عداوة الكافرين للمسلمين، فأمر الله المؤمنين بالعدل مع المشركين الذين ناصبوهم العداء، فلا ينقضوا لهم عهدا، ولا يقتلوا نساء، وصبية، وشيوخا تشفيا ممّا في قلوبهم من الغيظ. هذا و (الشنآن): البغض، والعداوة، كما رأيت في الآية رقم [2]، وهو مصدر من:

شنأته، أشنؤه، شنآنا-بالتّحريك-وقال ابن جرير: من العرب من يسقط التحريك في (شنآن)، فيقول: شنان ولم أعلم أحدا قرأ بها، ومنه قول الشاعر:[الطويل]

وما العيش إلاّ ما تحبّ وتشتهي

وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا

{عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا} انظر الآية رقم [135] من سورة (النساء) فإنّه جيد، والحمد لله!. {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} أي: عدلكم أقرب للتقوى من تركه. ودلّ الفعل على المصدر الّذي عاد عليه الضمير، كما في قوله تعالى في سورة (النور):{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ} وقوله تعالى: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} من باب استعمال أفعل التفضيل في المحلّ الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله تعالى في سورة (الفرقان):{أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وكقول بعض الصّحابيّات لعمر-رضي الله عنه: أنت أفظّ، وأغلظ من رسول الله، ومعلوم: أنّه صلى الله عليه وسلم منزّه عن الفظاظة، والغلظة. {وَاتَّقُوا اللهَ:} خافوه، واحذروا عقابه.

{إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} أي: وسيجزيكم على ما علم من أعمالكم الّتي عملتموها إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ. هذا، وقال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: وفي هذا تنبيه عظيم على أنّ العدل إذا كان واجبا مع الكفار؛ الّذين هم أعداء الله، وكان بهذه الصّفة من القوّة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الّذين هم أولياؤه، وأحباؤه.

بل كيف بوجوبه مع أهل بيته، أي: أولاده، وزوجته؟! وقد ثبت في الصّحيحين عن النّعمان ابن بشير-رضي الله عنهما: أنّه قال: نحلني أبي نحلا، فقالت أمّي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه يشهده على صدقتي، فقال صلى الله عليه وسلم:«أكلّ ولدك نحلت مثله؟» قال: لا! قال: «اتّقوا الله واعدلوا في أولادكم» . وقال: «إنّي لا أشهد على جور» . قال:

فرجع أبي، فردّ تلك الصّدقة. وخذ ما يلي:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرّحمن-وكلتا يديه يمين-؛ الّذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا» . رواه مسلم، وغيره.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. {كُونُوا:} فعل أمر ناقص مبني على حذف النون؛ لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة اسمه، والألف للتفريق.

ص: 36

{قَوّامِينَ:} خبر: {كُونُوا} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {لِلّهِ:} متعلّقان ب: {قَوّامِينَ،} وقيل:

متعلّقان ب: {شُهَداءَ} بعدهما؛ لأنّه جمع اسم فاعل. {شُهَداءَ:} خبر ثان للفعل الناقص، أو هو نعت ل:{قَوّامِينَ} . {بِالْقِسْطِ:} متعلّقان ب: {قَوّامِينَ} . أو ب: {شُهَداءَ،} وجملة:

{كُونُوا..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة النّدائية قبلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {يَجْرِمَنَّكُمْ:} فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم ب: (لا) الناهية، والكاف مفعول به. {شَنَآنُ:} فاعله، وهو مضاف، و {قَوْمٍ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {عَلى:} حرف جر.

(أن): حرف مصدري ونصب. (لا): نافية. {تَعْدِلُوا:} فعل مضارع منصوب ب: (أن) وعلامة نصبه حذف النون لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{اِعْدِلُوا:} فعل أمر، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية ابتدائية أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين. {هُوَ أَقْرَبُ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من العدل المفهوم من:{اِعْدِلُوا،} والرابط الضمير العائد عليه. وإن اعتبرتها تعليلا للأمر، فالمعنى لا يأباه. {لِلتَّقْوى:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَقْرَبُ،} وعلامة الجر كسرة مقدّرة على الألف للتعذر، وجملة:{وَاتَّقُوا اللهَ} معطوفة على جملة: {اِعْدِلُوا..} . إلخ لا محلّ لها.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {خَبِيرٌ:} خبرها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَبِيرٌ} . و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: خبير بالّذي، أو: بشيء تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جرّ بالباء، التقدير: إنّ الله خبير بعملكم.

{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)}

الشرح: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا:} الوعد يستعمل في الخير، وفي الشرّ، فإذا قلت: وعدت فلانا من غير أن تتعرض لذكر الموعود به؛ كان ذلك خيرا، وإذا قلت: أوعدت فلانا من غير ذكر الموعود به؛ كان ذلك شرّا، وهو ما في بيت طرفة بن العبد من معلّقته رقم [120]:[الطويل]

وإنّي وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وهذا هو قول الجوهري، وقول كثير من أئمّة اللغة، وأمّا عند ذكر الموعود به، أو الموعد به، فيجوز أن يستعمل «وعد» في الخير، وفي الشر، فمن الأول قوله تعالى:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ}

ص: 37

{آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} والآية التي نحن بصدد شرحها من ذلك، ومن الثاني قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [72]:{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ،} وأنشدوا قول الشاعر: [الطويل]

إذا وعدت شرّا أتى قبل وقته

وإن وعدت خيرا راث وعتّما

كما يستعمل «أوعد» فيهما أيضا، كقولك: أوعدت الرجل خيرا، وأوعدته شرّا. هذا؛ والمركّز في الطّبائع: أن من مكارم الأخلاق، وجميل العادات: أنّك إذا وعدت غيرك أن تنزل به شرّا؛ كان الخلف محمدة، وإذا وعدته خيرا؛ كان الخلف منقصة، وهذا ما أراده طرفة في بيته المتقدّم.

هذا؛ والثابت عند الأشاعرة: أنّه يجوز إخلاف الوعيد في حقّه تعالى كرما. وعند الماتريدية: لا يجوز، وأمّا الوعد؛ فلا يجوز الخلف في حقّه تعالى اتفاقا؛ لأنّه نقص. دليل الأشاعرة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«من وعده الله على عمل ثوابا؛ فهو منجز له، ومن أوعده على عمل عقابا فهو بالخيار، إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه» .

{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} أي: عملوا الأعمال الصالحات على اختلافها، وتفاوت مراتبها في دنياهم. والمراد: وفوا بعهودهم التي قطعوها لغيرهم على أنفسهم، وقاموا بالعدل التي تضمّنته الآية السابقة. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي: لذنوبهم. {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} لا تعرف كنهه أفهام الخلق، كما قال تعالى في سورة (السجدة):{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ،} وإذا كان الله تعالى قال:

{أَجْرٌ عَظِيمٌ} و {أَجْرٌ كَبِيرٌ} و {أَجْرٍ كَرِيمٍ} فمن الذي يقدر قدره؟! والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَعَدَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ نصب مفعول به أول، وجملة:{آمَنُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محلّ لها.

(عملوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، والمفعول الثاني محذوف لدلالة الجملة الاسمية عليه، تقديره: مغفرة لذنوبهم. وقيل: الجملة الاسمية هي المفعول الثّاني، ومثله قول عبد العزيز الكلابي:[الوافر]

وجدنا الصّالحين لهم جزاء

وجنّات وعينا سلسبيلا

فجملة: {لَهُمْ} جزاء في محل نصب مفعول به ثان، فلذلك عطف عليها «جنات» بالنّصب.

{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مَغْفِرَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة على الوجه الأول في المفعول به، وهي في محل نصب مفعول به ثان على الوجه الثاني فيه. {وَأَجْرٌ} معطوف على:{مَغْفِرَةٌ} . {عَظِيمٌ:} صفة له، وجملة:{وَعَدَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

ص: 38

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا:} لم يصدقوا بها. والمراد: ما شرع الله من أحكام، وأوجب على العباد أن ينفّذوها، كما يطلق على الدّلالات التي تدلّ على قدرة الخالق جلّ، وعلا. وتطلق على الآيات القرآنيّة، وتطلق على المعجزات الّتي أيّد الله بها الرسل.

{أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} أي: الّذين يخالفون أوامر الله، وينقضون عهوده مأواهم جهنم وبئس المصير. وأضاف:{أَصْحابُ} إلى: {الْجَحِيمِ} لملازمة الكفار لنار جهنّم، فلا يخرجون منها. وانظر دركات النار في الآية رقم [145] من سورة (النساء).

تنبيه: لقد جرت سنة الله في كتابه: أنّه لا يذكر أهل الجنّة إلا ويذكر أهل النار، ولا يذكر الجنّة، ونعيمها، إلا ويذكر النّار، وما فيها؛ ليكون المؤمن راغبا راهبا، فيزداد من الخير المؤدي إلى الجنّة، ويقلّل من الشرّ الموصل إلى النّار.

وينبغي أن تعلم: أنّ ما ذكر في الآيتين إنّما هو بلفظ المذكّر، وكثير في القرآن مثله، وهو يشمل الذكور، والإناث على السّواء. فيمكن أن يكون من باب تغليب الذكور على الإناث، كما يمكن أن يكون الإناث ملحقة بالذكور إلحاقا، وهناك آيات كثيرة تثني على المؤمنات الصّالحات.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول، لا محلّ لها، والمتعلق محذوف، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها. {بِآياتِنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا) في محل جر بالإضافة.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له.

{أَصْحابُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْجَحِيمِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (الذين)، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية في الآية السابقة، وقال الجمل:

مستأنفة أتى بها اسمية دلالة على الثبوت والاستقرار، ولم يأت بها فعلية كما في الوعد حسما لرجائهم، وقطعا لأملهم في دخول الجنّة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}

الشرح: المناسبة بين هذه الآيات والتي قبلها: لمّا ذكر الله تعالى ما شرعه لعباده المؤمنين في هذه السّورة الكريمة من الأحكام، ومن أعظمها بيان الحلال، والحرام؛ ذكر هنا نعمته عليهم

ص: 39

بالهداية إلى الإسلام، ودفع شرّ المعتدين، ثمّ أعقبه ببيان نعمته تعالى على اليهود، والنصارى، وأخذه العهد، والميثاق عليهم، ولكنّهم نقضوا العهد، فألزمهم الله العداوة، والبغضاء إلى يوم القيامة، ثمّ دعا الفريقين إلى التمسّك بنور القرآن، والتمسّك بشريعة خاتم المرسلين.

ذكر في سبب نزول الآية الكريمة أقوال كثيرة: أحدها: ما ذكرته في الآية رقم [102] من سورة (النساء) من قصّة غورث بن الحارث المحاربي. وثانيها: ما روي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني النّضير، ومعه الخلفاء الأربعة بعده يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري خطأ يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم حتّى نطعمك، ونقرضك، فأجلسوه في صفة، وهمّوا بالفتك به، حيث عمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك الله يده، ونزل جبريل، عليه السلام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، واعتبر ذلك نقضا للعهد الذي بينه، وبينهم وأعلن حربهم، ثم أجلاهم عن المدينة المنوّرة. انظر أول سورة الحشر. قال القشيري رحمه الله تعالى: وقد تنزل الآية في قصّة، ثم ينزل ذكرها مرّة أخرى لادّكار ما سبق.

{اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ:} انظر الآية رقم [7]. {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ:} عزموا، وقرّروا، وأرادوا. والهم: العزم على الشيء، والمقاربة من الفعل من غير دخول فيه، ومنه قوله تعالى في سورة (يوسف) الصديق، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها} وقال عمرو بن ضابئ البرجمي: [الطويل]

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

والهم: الحزن، ومثله: الغمّ، ويفرق بينهما بأنّ الأول لأجل تحصيل شيء في المستقبل، والثاني لأجل فوات شيء، وفقدانه في الماضي، وبأنّ الأوّل يطرد النّوم، ويسبب الأرق، والثاني يجلب النّوم، ويسبب الهدوء والسكون. والهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان؛ أسرع فيه الشّيب، وهزل جسمه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «الهمّ نصف الهرم» . وقال أبو الطيب المتنبي: [الكامل]

والهمّ يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصّبيّ فيهرم

هذا؛ و {قَوْمٌ} اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل: رهط، ومعشر، فإنّ المفرد لهذه الأسماء لفظ: رجل، وجمعها: أقوام، وأراهط، ومعاشر، هذا؛ و (قوم) يطلق على الرجال دون النساء بدليل قوله تعالى في سورة الحجرات رقم [11]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} . وقال زهير بن أبي سلمى: [الوافر]

وما أدري-وسوف إخال أدري-

أقوم آل حصن أم نساء؟

وهذا هو الشاهد رقم [55] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وربما دخل فيه النّساء على

ص: 40

سبيل التبع للرّجال، والنّساء جميعا، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} . وهو يذكّر ويؤنث قال تعالى في غير ما آية: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وتأنيثه باعتبار المعنى، وهم أنّهم أمّة، وطائفة، وجماعة، وسمّوا قوما؛ لأنّهم يقومون مع داعيهم بالشدائد، والمتاعب إمّا بالمعاونة على كشفها، وإمّا بالمضايقة، والإيذاء إن عارضوه، وهذا حال أعداء الخير، والإصلاح في كلّ زمان، ومكان.

{أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ:} أن يمدّوا أيديهم إليكم بالقتل، والهلاك، والإيذاء، يقال:

بسط إليه يده: إذا بطش به، وبسط إليه لسانه: إذا شتمه، فبسط اليد كناية عن البطش، والفتك.

{فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ:} منعها أن تمتدّ إليكم بسوء، وردّ مضرّتها عنكم. وكفّ الأيدي كناية عن الحبس، والمنع.

هذا؛ و: (اليد) تطلق في الأصل على اليد الجارحة، وقد تطلق على النفس، والذات، كما في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [195]:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . وقد تطلق على القدرة، والقوّة، وهو كثير مثل قوله تعالى في سورة (ص) رقم [17]:{وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} . وتطلق على الحيلة، والتدبير، فيقال: لا يد لي في هذا الأمر، ولا حيلة، ولا تدبير.

وخذ قول عروة بن حزام العذري، وهو الشّاهد رقم [116] من كتابنا:«فتح رب البريّة» : [الطويل]

وحمّلت زفرات الضّحى فأطقتها

وما لي بزفرات العشيّ يدان

كما تطلق اليد على النّعمة، والمعروف. يقال: لفلان عندي يد، أي: نعمة، ومعروف، وإحسان. وكثيرا ما تنسب الأعمال إلى الأيدي، مثل قوله تعالى في كثير من الآيات:{بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ؛} لأنّ أكثر الأعمال إنّما تزاول بالأيدي، وإن كانت من أعمال القلوب، والأرجل، والعيون والأيدي تغليبا للأكثر على الأقل. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [64] الآتية فإنّه جيد والحمد لله.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. {اُذْكُرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة النّدائية قبلها. {نِعْمَتَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان ب:

{نِعْمَتَ اللهِ} أو بمحذوف حال من: {اللهِ} . {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {نِعْمَتَ اللهِ} . {هَمَّ قَوْمٌ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ،} إليها. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَبْسُطُوا:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من الفعل، وناصبه في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: إذ همّ

ص: 41

قوم ببسط أيديهم إليكم. والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو المصدر في محل نصب بنزع الخافض. {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَيْدِيَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.

{فَكَفَّ:} الفاء: حرف عطف. (كفّ): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} .

{أَيْدِيَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{هَمَّ قَوْمٌ..} . إلخ، فهي في محل جرّ مثلها.

{وَاتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهِ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{اُذْكُرُوا..} . إلخ لا محلّ لها مثلها. {وَعَلَى اللهِ:} الواو:

فيما أرى صلة. (على الله): متعلقان بما بعدهما. {فَلْيَتَوَكَّلِ:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الزائدة، اللام: لام الأمر. (يتوكل): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {الْمُؤْمِنُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها مثلها. وقال أبو البقاء- رحمه الله تعالى-في الآية رقم [125] من سورة (آل عمران): دخلت الفاء لمعنى الشرط، والمعنى هنا: إن اعتدوا عليكم؛ فتوكلوا أنتم على الله. وعلى هذا فالواو ليست زائدة، وإنّما هي عاطفة جملة شرطية على الكلام السابق، وتكون الفاء هي الفصيحة، ولا يخفى ما فيه من التكلّف.

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ..} . إلخ: قال ابن عطية-رحمه الله تعالى-: هذه الآيات المتضمّنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوّي: أنّ الآية المتقدّمة في كفّ الأذى إنّما كانت في بني النّضير. وانظر شرح (ميثاق) في الآية رقم [7]. {بَنِي إِسْرائِيلَ:} أصل بني: بنين.

فحذفت النون للإضافة، وهو جمع: ابن، مأخوذ من البناء؛ لأنّ الابن مبنى أبيه، ولذلك ينسب المصنوع إلى الصانع، وأصله بنيّ أو بنو، وتصغيره على الأول بنيّ، وعلى الثاني بنيو، ثم يقال فيه: قلبت الواو ياء، ثم أدغمت الياء في الياء. {إِسْرائِيلَ:} هو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم، وعلى نبينا، وحبيبنا ألف صلاة وألف سلام. ومعناه في العربية: صفوة الله،

ص: 42

أو: عبد الله، ف:«إسرا» هو العبد، أو: الصفوة، و «إيل» هو الله، وفيه سبع لغات قرئ بها كلّها. وتميم يقولون: إسرائين بالنون، قال الشاعر-انظر الشاهد رقم [332] من كتابنا:«فتح ربّ البرية» وما يتعلق به-: [الرجز]

قالت-وكنت رجلا فطينا-

هذا-لعمر الله-إسرائينا

فعلى ما تقدّم يكون ليعقوب اسمان، وممّن له اسمان: يونس، ويسمّى: ذا النون. وإلياس، ويسمّى: ذا الكفل في بعض الأقوال. وعيسى عليه السلام، يقال له: المسيح، وقد سمّاه الله:

روحا، وكلمة، وكانوا يسمّونه: أبيل الأبيلين. ذكره الجوهري في صحاحه، ونبينا صلى الله عليه وسلم، له أسماء كثيرة تزيد على المائتين، وهي مذكورة بجدران مسجده الشّريف. وبنو إسرائيل: هم المنتسبون لأولاد يعقوب الاثني عشر، ويطلق عليهم في كثير من الآيات اسم: الأسباط.

هذا؛ والميثاق الذي أخذه الله عليهم هو ما يذكر في هذه الآية، وقد أخذ عهودا، ومواثيق كثيرة، فنقضوها جملة، وإفرادا. انظر الآية رقم [83] من سورة (البقرة) وما بعدها؛ فإنّه جيد والحمد لله. وإسناد أخذ الميثاق إلى الله تعالى من حيث إنّه أمر الله تعالى موسى بذلك؛ لأنّه غيرممكن أن يحصل ذلك مباشرة بينهم، وبين الله تعالى.

{وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً:} النقيب: هو الذي ينقّب عن أحوال القوم، ويفتّش عنها، كما يقال له: عريف؛ لأنّه يتعرف أحوالهم. ويقال له أيضا: كفيل؛ لأنّه يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به. روي: أنّ بني إسرائيل لمّا فرغوا من فرعون، وتخلّصوا من كيده، واستقرّوا بمصر؛ أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيّون، وقال لهم: إني كتبتها لكم دارا، وقرارا، فاخرجوا إليها، وجاهدوا من فيها، وإنّي ناصركم عليهم، وأمر موسى-عليه الصلاة والسلام-أن يأخذ من كلّ سبط نقيبا، يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم، فاختار النقباء، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وتكفّل لهم به النقباء، وسار بهم، فلمّا دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسّسون، فرأوا أجراما عظيمة، وقوة، وشوكة، فهابوا، ورجعوا، وحدّثوا قومهم، وقد نهاهم موسى-عليه السلام-أن يحدّثوهم، فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط إفرائيم بن يوسف، وكانا من النقباء. هذا؛ وذكر الخازن أشياء غريبة كعادته في الكتابة عن الإسرائيليات.

وما أجدرك أن تذكر النّقباء الذين اختارهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار في بيعة العقبة الثالثة وتقارن بين وفائهم بما عاهدوا الله عليه، وبين نقض نقباء بني إسرائيل للعهود، والمواثيق التي أبرموها مع موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وكانوا ثلاثة من الأوس، وهم:

أسيد بن الحضير، وسعد بن خيثمة، وأبو الهيثم بن التيهان-رضي الله عنهم، وتسعة من الخزرج، وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الرّبيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن

ص: 43

مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبادة بن الصّامت، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، والمنذر بن عمرو بن خنيس، وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له.

هذا؛ ولفظ: عشرة على عكس المعدود في التّذكير، والتأنيث إن كان مفردا، وعلى وفقه إن كان مركبا، تقول: عشرة رجال، وعشر نسوة، وخمسة عشر رجلا، وخمس عشرة امرأة، وشينه تسكن مع المؤنّث، وهي لغة أهل الحجاز، وقد تكسر، وهي: لغة أهل نجد، وقرئ بهما، وبالفتح أيضا، وهي لغة ثالثة، قال تعالى:{فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ} الآية رقم [89] الآتية.

{وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ:} بالعون، والنصر، والتأييد. {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ:} أديتموها على الوجه الأكمل، وهذا يثبت: أنّ لليهود صلاة، ولكنّا نجهل كيفيتها بالإضافة لما دخل شريعة موسى عليه السلام من تبديل، وتحريف، وتزييف، وانظر:(أقيموا الصلاة) في الآية رقم [103] من سورة (النّساء).

{وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ:} أعطيتموها لمستحقيها على الوجه الأكمل، وكانت في شريعة موسى- على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-ربع المال. هذا؛ والزّكاة في اللغة:

التطهير، والإصلاح، والنّماء، والمدح. يقال: زكا الزّرع، والمال، يزكو: إذا كثر، وزاد.

وسمّي الإخراج من المال زكاة، وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة. قال تعالى في سورة (سبأ) رقم [39]:{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} كما يقال: زكا فلان؛ أي: طهر من دنس الجرحة، والإغفال، فكأنّ الخارج من المال يطهّره من تبعة الحقّ الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمّى ما يخرج من الزّكاة: أوساخ الناس، وقد قال تعالى في سورة (التوبة) رقم [103]:{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} .

والزكاة في الشرع: اسم لما يخرج عن مال، أو بدن على وجه مخصوص، وهي أحد أركان الإسلام الخمسة الّتي بني عليها الإسلام، ومن ثمّ يكفر جاحدها على الإطلاق، أو في القدر المجمع عليه، ويقاتل الممتنع من أدائها، وتؤخذ منه قهرا، كما فعل الصديق-رضي الله عنه.

وتدفع الزكاة لأشخاص معلومين مذكورين في الآية رقم [60] من سورة (التوبة)، وزكاة الفطر لا يوجد نصّ صريح في القرآن عليها إلا ما تأوّله بعض المفسّرين في قوله تعالى في سورة الأعلى:

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى} وتحدّثت عنها في آية الصيام في سورة (البقرة)؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان.

هذا؛ وخصّ الله تبارك وتعالى في هذه الآية، وغيرها الصّلاة، والزّكاة بالذكر؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية، وشرعت لذكر الله، والزكاة أفضل العبادات المالية، وشرعت للعطف على الفقراء، والمساكين، ومجموعها التعظيم لأمر الله تعالى، والشّفقة على خلق الله. هذا؛ وأضيف:

أنّ الزكاة قرينة الصّلاة، فقد روي: أنّ أعرابيّا جاء إلى ابن عباس-رضي الله عنهما: فقال له:

ص: 44

يا بن عباس! أنت حبر الأمّة، وترجمان القرآن علّمك الله أسرار الكتاب، وفقّهك في الدّين، فقل لي بربك: لماذا قرن الله الصلاة إلى الزّكاة في القرآن في أكثر من ثلاثين آية؟ فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: ذلك؛ لتعلم: أنّ الصلاة، والزّكاة توأمان، لا يقبل الله إحداهما بدون الأخرى، تلك حقّ الله، وهذه حقّ الناس. ورضي الله عن الصدّيق الذي سوّى بين المرتدّين، ومانعي الزكاة في القتال، والمحاربة. وخذ قول أبي العتاهية الصّوفي، رحمه الله تعالى:[الكامل]

أقم الصّلاة لوقتها بشروطها

فمن الضّلال تفاوت الميقات

وإذا اتّسعت برزق ربّك فاجعلن

منه الأجلّ لأوجه الصّدقات

في الأقربين وفي الأباعد تارة

إنّ الزّكاة قرينة الصّلوات

هذا؛ وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-في غير هذا الموضع: وفي حديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فرّق بين ثلاث؛ فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة: من قال: أطيع الله، ولا أطيع الرّسول، والله يقول: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ،} ومن قال: أقيم الصّلاة ولا أوتي الزّكاة، والله يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} ومن فرّق بين شكر الله، وشكر والديه، والله يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» }.

{وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي:} صدّقتم برسالتهم، واتّبعتم أوامرهم، واهتديتم بهديهم. وانظر الآية رقم [164] من سورة (النساء) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ:} نصرتموهم، وقويتموهم.

والتّعزير: التوقير، والتّعظيم، وهو أيضا ضرب دون الحدّ، وهو أشد الضّرب على فعل مخالف للدّين الحنيف، والشرع الشّريف، فهو من الأضداد، انظر الآية رقم [117] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. {وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً:} انظر القرض في الآية رقم [245] من سورة (البقرة) تجد ما يسرّك ويثلج صدرك. هذا؛ و {قَرْضاً:} مصدر جاء بخلاف المصدر، كقوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [37]:{فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً} .

{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ:} لأمحونّها، ولأغفرنّها لكم.

{وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ:} انظر الآية رقم [57] من سورة (النساء) والآية رقم [65] الآتية ففيهما الكفاية. {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ} أي: بعد هذا البيان الذي تضمّن الوعد بغفران الذنوب، ودخول جنات، نعيمها لا ينفد، ولا يزول. {فَقَدْ ضَلَّ:} خرج عن جادة الحقّ، والصّواب. {سَواءَ السَّبِيلِ:} انظر الآية رقم [77] الآتية.

تنبيه: في الآية الكريمة التفات من الغيبة، والإفراد إلى التكلّم، والجمع، ثمّ إلى الغيبة والإفراد، وانظر الالتفات في الآية رقم [64] من سورة (النساء)، وفي الآية رقم [6] من سورة (الأنعام).

ص: 45

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. هذا؛ وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم يعتبرها حرف استئناف، ويعتبرون الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف. ولا أسلمه أبدا؛ لأنّه على هذا يكون حذف واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: وو الله أقسم، أو: وأقسم والله.

واللام واقعة في جواب القسم المحذوف، وبعضهم يقول: اللام موطئة للقسم، والموطئة معناها: المؤذنة، وهذه اللام إنّما تدخل على «إن» الشرطية؛ لتدل على القسم المتقدّم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدّم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر). افهم هذا، واحفظه؛ فإنّه جيّد، والله ولي التوفيق.

فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم. فالجواب:

أنّه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السّور، مثل قوله تعالى:{وَالنَّجْمِ} {وَالتِّينِ..} . إلخ، فإنّ التّقدير: وربّ النّجم، ورب التّين. الدليل عليه التصريح به في قوله تعالى في سورة (الذاريات):{فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ،} وحذف المقسم به ظاهر في قوله تعالى في سورة (مريم): {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها،} وأظهر منه في الآية رقم [73] الآتية: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} فالواو في الآيتين حرف قسم، وجر، والمقسم به محذوف بلا ريب.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَخَذَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، لا محلّ لها، والقسم، وجوابه كلام مستأنف، لا محلّ له.

{مِيثاقَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {بَنِي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة. و {بَنِي:} مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. (بعثنا): فعل، وفاعل. {مِنْهُمُ:} جار ومجرور متعلقان ب: {نَقِيباً} أو بمحذوف حال من: {اِثْنَيْ عَشَرَ} كان صفة له، فلمّا تقدّم عليه؛ صار حالا. {اِثْنَيْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنّه ملحق بالمثنى. {عَشَرَ:} مبني على الفتح لا محلّ له من الإعراب لوقوعه موقع نون المثنى، ولا يصح أن يقال: إنّه مضاف إليه لتضمّنه معنى العطف. {نَقِيباً:} تمييز. وجملة: (بعثنا

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم في محل نصب اسمها. {مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر (إنّ)، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:

ص: 46

{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {لَئِنْ:} اللام موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {أَقَمْتُمُ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {الصَّلاةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية.

ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجملة:{وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ} معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها. {وَآمَنْتُمْ:} فعل، وفاعل. {بِرُسُلِي:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والواو حرف إشباع تولّدت من إشباع ضمة الميم الأولى، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَأَقْرَضْتُمُ:} فعل، وفاعل. {اللهُ:} منصوب على التعظيم. {قَرْضاً:} مفعول به ثان، أو هو مفعول مطلق. {حَسَناً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{لَأُكَفِّرَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (أكفرنّ): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محلّ له، والفاعل مستتر تقديره: أنا، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، المدلول عليه باللام، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:(إذا اجتمع شرط وقسم؛ فالجواب للسابق منهما). وقال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

{عَنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {سَيِّئاتِكُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:

{وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، وتقدّم إعراب مثلها.

{فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كَفَرَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له.

{مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل: {كَفَرَ} المستتر، و (من):

بيان لما أبهم في (من). {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {ضَلَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من). {سَواءَ:} مفعول به، وهو مضاف. و {السَّبِيلِ:} مضاف إليه. والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، وجملة:{كَفَرَ..} . إلخ صلته، وجملة:{فَقَدْ ضَلَّ..} . إلخ خبره، ودخلت الفاء في خبره؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة لا محلّ لها.

ص: 47

{فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاِصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}

الشرح: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ:} نقض اليهود العهود، والميثاق والعهود؛ التي أبرموها مع الله بواسطة موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، كما رأيت في الآية السابقة، وانظر (النقض) في الآية رقم [155] من سورة (النساء)، وانظر شرح (الميثاق) في الآية رقم [7].

{لَعَنَهُمُ:} طردناهم، وأبعدناهم من رحمتنا. وهو قول عطاء. واللّعن: الإبعاد، والطّرد من الرحمة. وانظر الآية رقم [52] من سورة (النّساء). {وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً} أي: صلبة، لا تعي خيرا، ولا تفعله. والقسوة، والقساوة عبارة عن الغلظ مع الصّلابة كما في الحجر، وقسوة القلب: نبوته عن الاعتبار، وعدم قبوله الموعظة، والنصيحة. فقسوته مستعارة من قساوة الحجر. انظر الآية رقم [74] من سورة (البقرة) فإنّه جيد، والحمد لله! وقد قرئ:«(قسيّة)» وهو:

إمّا مبالغة: قاسية، أو بمعنى: رديئة، قال النحّاس: وهذا قول حسن؛ لأنّه يقال: درهم قسيّ:

إذا كان مغشوشا بنحاس، أو غيره، ذكر ذلك أبو عبيد، وأنشد قول أبي زبيد الطائي:[البسيط]

لها صواهل في صمّ السّلام كما

صاح القسيّات في أيدي الصّياريف

يصف وقع المساحي في الحجارة؛ إذ «السّلام» : الحجارة، والقاسية، والعاتية واحد.

{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ:} أي: يغيّرون كلام الله في التوراة، ويبدّلونه، فكانوا يغيرون صفات النبي صلى الله عليه وسلم الموجودة في التوراة، فقد وضعوا مكان: أبيض، ربعة: آدم طوال. وهكذا، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الأمر، فيخبرهم به، فيرى: أنّه يأخذون بقوله، فإذا خرجوا من عنده؛ حرّفوا كلامه. وانظر الآية رقم [41] ففيها بحث جيد، هذا وقرئ:«الكلم» بكسر الكاف، وسكون اللام، وبفتح الكاف وكسر اللام، وهو جمع: كلمة، وهو مؤلف من كلمتين، أو أكثر، أفاد فائدة، أم لم يفد، وأمّا الكلام؛ فلا يكون إلا من كلمتين، أو أكثر، أفاد فائدة يحسن السّكوت عليها. قال ابن مالك، رحمه الله تعالى:[الرجز]

كلامنا لفظ مفيد كاستقم

واسم وفعل ثمّ حرف الكلم

{وَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: نسوا وعد الله الّذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن البصريّ-رحمه الله تعالى-: تركوا عرى دينهم، ووظائف الله تعالى؛ التي لا يقبل العمل إلا بها. أو المعنى: نسوا كثيرا من أحكام التّوراة، وآياتها بسبب سوء أعمالهم. فعن ابن مسعود-رضي الله عنه:«قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية» وتلا هذه الآية.

ص: 48

هذا و (الحظّ): النصيب، والجدّ، وهو: البخت، والدّولة، يقال: فلان ذو حظّ حظيظ، ومحظوظ، وما الدنيا إلا أحاظ، وجدود، ورحم الله المعري؛ إذ يقول:[الكامل]

لا تطلبنّ بغير حظّ رتبة

قلم الأديب بغير حظّ مغزل

سكن السّماكان السّماء كلاهما

هذا له رمح، وهذا أعزل

«السّماكان» : كوكبان، يقال لأحدهما: الأعزل، وهو من منازل القمر، وهو الذي له النّوء، وسمّي أعزل؛ لأنّه لا شيء من الكواكب بين يديه، ويقال للآخر: الرّامح، وسمي رامحا بكوكب يتقدّمه. ومعنى البيتين: أنّهما مع استوائهما في وجود كلّ منهما في السّماء، امتاز أحدهما عن الآخر، فلهذا حظّ، ولا حظّ لذاك، فالمدار على القضاء الأزليّ، والسّعد الأوّلي. اللهمّ اجعلنا من السّعداء، ولا تجعلنا من الأشقياء! وما أحسن قول القائل في بيان حظوظ الرّجال:[الرمل]

خلق الحظّ جمانا وحصى

خالق الإنسان من ماء وطين

فوليد تسجد الدّنيا له

ووليد في زوايا المهملين

وقال المتنبي؛ وقد أحسن، وأجاد:[الطويل]

هو الحظّ حتّى تفضل العين أختها

وحتّى يصير اليوم لليوم سيّدا

هذا؛ والحظّ: النصيب. قال تعالى في سورة (النساء) في آية المواريث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .

{وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ:} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى: إنّ الخيانة من طبيعتهم، وطبيعة أسلافهم، كانوا يخونون رسلهم، وهؤلاء يخونونك، ويهمّون بالفتك بك، و {خائِنَةٍ} أي: نفس خائنة، أو فرقة خائنة. هذا؛ ويقال: رجل خائنة: إذا بالغت في وصفه بالخيانة. قال الكلابي يخاطب قرينا أخا عمير الحنفي، وكان له عنده دم:[الكامل]

حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن

للغدر خائنة مغلّ الإصبع

{إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ:} وهم الذين آمنوا منهم، كعبد الله بن سلام، وأصحابه-رضي الله عنهم، فإنّهم لم يخونوا. {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} أي: إن تابوا، وآمنوا، أو عاهدوا، والتزموا الجزية، وقيل: مطلق، وقد نسخ بآية السيف، وهي قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [29]:{قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ..} . إلخ، وانظر:{يَعْفُوَ} في الآية رقم [99] من سورة (النساء). {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ:} المحسنون: هم الذين أحسنوا إلى غيرهم بالعفو عنهم، والتّجاوز عن سيّئاتهم. وينبغي أن تعلم: أنّ الله يحبّ العافي عن الكافر مع خيانته، فما بالك بالعفو عن المسلم؛ إذا أساء إليك؟!.

ص: 49

الإعراب: {فَبِما:} الفاء: حرف استئناف. (بما نقضهم): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، و (ما) مقحمة بينهما. وقيل:(ما) نكرة موصوفة مجرورة بالباء، و {نَقْضِهِمْ:} بدل من (ما) وهو ضعيف، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِيثاقَهُمْ:} مفعول به للمصدر وهو النقض.

{لَعَنّاهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. (جعلنا): فعل وفاعل. {قُلُوبَهُمْ:} مفعول به أول. {قاسِيَةً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها. {يُحَرِّفُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النّون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة. {الْكَلِمَ:} مفعول به. {عَنْ مَواضِعِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرّابط الضمير فقط. وقيل: من الضمير المنصوب. وقيل: مستأنفة. والأوّل أقوى، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأنّ المضاف كجزئه، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز]

ولا تجز حالا من المضاف له

إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله

أو كان جزء ما له أضيفا

أو مثل جزئه فلا تحيفا

{وَنَسُوا:} الواو: حرف عطف. (نسوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {حَظًّا:} مفعول به. {مِمّا:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف صفة:

{حَظًّا} . و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محلّ جرّ ب:

(من). {ذُكِّرُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ بالباء. وجملة: {وَنَسُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. و «قد» قبلها مقدرة على اعتبار الحالية.

{وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {تَزالُ:} فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره: أنت. {تَطَّلِعُ:} فعل مضارع مرفوع بالضمة. {عَلى خائِنَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {خائِنَةٍ،} أو بمحذوف صفة له، وجملة:

{تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ} في محل نصب خبر: (لا تزال)، وجملة:{وَلا تَزالُ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها، وقيل: معطوفة على ما قبلها، وقيل: في محل نصب حال، والأول أقوى. {إِلاّ:}

أداة استثناء. {قَلِيلاً:} مستثنى من الضّمير المجرور محلاّ ب: (من). {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {قَلِيلاً} أو بمحذوف صفة له.

{فَاعْفُ:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [3]. (اعف): فعل أمر مبني على حذف حرف العلّة من آخره، وهو الواو، والضمّة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {عَنْهُمْ:} جار

ص: 50

ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء.

{وَاصْفَحْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت، ومتعلقه محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} . {الْمُحْسِنِينَ:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر لا محلّ له.

{وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)}

الشرح: {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى..} . إلخ: أي: ومن الذين ادّعوا أنّهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم، عليه السلام، وليسوا كذلك، فقد أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرّسول صلى الله عليه وسلم، ومناصرته، ومؤازرته واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكلّ نبيّ يرسله الله إلى أهل الأرض، ففعلوا كما فعل اليهود، حيث خالفوا المواثيق، ونقضوا العهود. {فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ:} وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي: لم يعملوا بما أمروا به، وجعلوا ذلك الهوى، والتحريف سببا للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.

{فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ} أي: فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النّصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين، يكفّر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، فكلّ فرقة تحرم الأخرى من الدّين، والرّحمة، ولا تدعها تلج معبدها، وكذلك الوثنيّون طوائف، فكلّ طائفة تكفّر الأخرى في هذه الدّنيا، ويوم يا قوم الأشهاد.

{وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ:} هذا تهديد، ووعيد أكيد للكافرين على اختلاف مللهم، ونحلهم من يهود، ونصارى، ووثنيّين على ما ارتكبوه من الكذب على الله، وعلى رسله، وما نسبوه إلى الله-عزّ، وجلّ، وتقدّس عن قولهم-وتعالى علوّا كبيرا-من جعلهم له شريكا في الملك، وصاحبة، وولدا، تعالى الواحد الأحد، الفرد الصّمد؛ الّذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.

هذا؛ و {نَصارى} جمع: نصراني، سمّوا بذلك؛ لأنّهم نصروا عيسى، على نبيّنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام، أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها: نصران، أو ناصرة، فسمّوا

ص: 51

باسمها، أو باسم من أسّسها، أو من قولهم لعيسى: نحن أنصار الله حينما قال: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ} ثم اختلفوا بعد ذلك إلى: نسطورية، ويعقوبية، وملكانية، وألّهوا عيسى، فصاروا أنصارا للشيطان، قال سيبويه-رحمه الله تعالى-: لا يستعمل في الكلام إلا مع ياء النسب.

هذا؛ و {يَوْمِ الْقِيامَةِ} هو اليوم الذي يخرج فيه النّاس من قبورهم للحساب، والجزاء، وأصل القيامة: القوامة؛ لأنّها من: قام، يا قوم، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها مثل الصّيام والسّياط، والحياض، ونحو ذلك.

هذا؛ والفعل {يُنَبِّئُهُمُ} مضارع ماضيه نبّأ. هذا، والأفعال: نبّأ، وأنبأ، وخبّر، وأخبر، وحدّث تتعدى لاثنين، إلى الأول بنفسها، وإلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفا، وقد يحذف الأول للدلالة عليه، وقد جاءت الاستعمالات الثلاث في قوله تعالى من سورة التحريم:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فقوله تعالى: {فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ} تعدّى لاثنين، حذف أوّلهما، والثاني مجرور بالباء، أي: نبأت به غيرها، وقوله:{فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ:}

ذكرهما، وقوله:{مَنْ أَنْبَأَكَ هذا} ذكرهما، وحذف الجار، فالأول تعدّى إلى الأول صريحا، وإلى الثاني بحرف الجر، والفعل الثاني مثله، والثالث تعدّى إلى مفعولين صريحين، وهذا إذا لم يدخل: نبّأ، وأنبأ على المبتدأ، والخبر، فإذا دخلا على المبتدأ، والخبر؛ تعدّى كلّ واحد إلى ثلاثة مفاعيل، ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثّالث؛ لأنّ الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل، فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر، ومثال دخول أحدهما على المبتدأ والخبر قولك: نبّأت زيدا عمرا منطلقا، أو أنبأت زيدا عمرا مجتهدا، ففي المثالين يجب نصب ثلاثة مفاعيل. والله وليّ التوفيق. ومن ذلك قول النابغة الذبياني-وهو الشاهد رقم [20] من كتابنا:«فتح رب البريّة» إعراب شواهد جامع الدروس العربيّة-: [الكامل]

نبّئت زرعة-والسّفاهة كاسمها-

يهدي إليّ غرائب الأشعار

وأيضا قوله-وهو الشّاهد رقم [21] من الكتاب المذكور-: [البسيط]

نبّئت أنّ أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زأر من الأسد

وأيضا قول قيس بن الملوّح-وهو الشاهد رقم [118] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» إعراب شواهد مغني اللّبيب-: [الطويل]

ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة

إليّ فهلاّ نفس ليلى شفيعها

هذا، و (النّبأ): الخبر وزنا، ومعنى. ويقال: النّبأ أخصّ من الخبر؛ لأنّ النبأ لا يطلق إلا على كلّ ما له شأن، وخطر من الأخبار. وقال الرّاغب: النبأ: خبر ذو فائدة، يحصل به علم،

ص: 52

أو غلبة ظنّ، ولا يقال للخبر في الأصل: نبأ حتى يتضمّن هذه الأشياء الثلاثة، وحقه أن يتعدّى عن الكذب، كالمتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا؛ وقد يجيء الفعل من (نبأ) غير مضمّن معنى: أعلم، لذلك يعدّى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف الجر، كما في الآية المذكورة.

الإعراب: {وَمِنَ الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {أَخَذْنا} بعدهما على أنّهما مفعول ثان له مقدّم، التقدير: أخذنا من الذين قالوا

إلخ، وهذه الجملة معطوفة على جملة:

(لقد أخذنا

) إلخ في الآية رقم [12] لا محلّ لها مثلها، وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر مبتدأ محذوف، قامت صفته مقامه، التقدير: من الذين قالوا: إنا نصارى قوم أخذنا ميثاقهم، فيكون مثل قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [46]:{مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ..} . إلخ. وجوز أن يكونا متعلّقين بمحذوف خبر مقدّم، وقدّر المبتدأ موصولا حذف، وبقيت صلته التقدير: ومن الذين قالوا: إنّا نصارى من أخذنا ميثاقهم، وهذا معزوّ للكوفيين، وجوز أن يكونا معطوفين على {مِنْهُمْ} في الآية السابقة، ويكون المعنى: ولا تزال تطلع على خائنة من اليهود. ومن الذين قالوا: إنا نصارى، وعليه فجملة:{أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ:} مستأنفة.

والمعتمد الأوّل.

{قالُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذف نونها للتخفيف، وبقيت ألفها دليلا عليها. {نَصارى:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية:{إِنّا نَصارى} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محلّ لها. {أَخَذْنا:} فعل، وفاعل. {مِيثاقَهُمْ:}

مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية السابقة، وهي معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. (أغرينا): فعل وفاعل. {بَيْنَهُمُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْعَداوَةَ:}

مفعول به. {وَالْبَغْضاءَ:} معطوف على ما قبله. {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بالفعل: (أغرينا) أو ب {الْعَداوَةَ} أو ب (البغضاء) على التنازع، و {يَوْمِ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه.

{وَسَوْفَ:} الواو: حرف استئناف. (سوف): حرف تسويف، واستقبال. {يُنَبِّئُهُمُ:}

فعل مضارع، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {بِما:} جار ومجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{يَصْنَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو

ص: 53

فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كانُوا،} والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: ينبئهم الله بالذي، أو: بشيء كانوا يصنعونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: ينبئهم الله بصنعهم، والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محلّ لها.

{يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15)}

الشرح: {يا أَهْلَ الْكِتابِ:} يعمّ اليهود، والنصارى. {قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا:} محمد صلى الله عليه وسلم، {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ} أي: من كتبكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن آية الرّجم، ومن قصّة أصحاب البقرة، ومن قصّة أصحاب السّبت؛ الّذين مسخوا قردة؛ وخنازير، فإنّهم كانوا يخفونها. {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي: يتركه، ولا يبيّنه، وإنّما يبين ما فيه حجّة على نبوّته، ودلالة على صدقه، وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه. وقيل: المعنى: يتجاوز عن كثير، فلا يخبركم به.

ذكر: أنّ رجلا من أحبار اليهود جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: يا هذا عفوت عنّا؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّن. وإنّما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه، فلمّا لم يبيّن له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده، فذهب، وقال لأصحابه: أرى أنّه صادق فيما يقول؛ لأنّه كان وجد في كتابه: أنّه لا يبين له ما سأل عنه. وفي إظهار ما يخفونه معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه لم يقرأ كتابهم، ولم يعلم ما فيه إلا ما علّمه ربّه منه.

هذا؛ و: (أهل) اسم جمع، لا واحد له من لفظه، مثل: معشر، ورهط، ونفر

إلخ، والأهل: العشيرة، وذو القربى، ويطلق على الزوجة، والأولاد، وعلى الأتباع أيضا، وجمعه:

أهلون، وأهال، وآهال، وأهلات، وأهلات، وبالأولين قرئ قوله تعالى في سورة (التّحريم):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ..} . إلخ.

هذا، و (الكتاب) في اللغة: الضمّ، والجمع، وسمّيت الجماعة من الجيش كتيبة لاجتماع أفرادها على رأي واحد، وخطّة واحدة، كما سمّي الكاتب كاتبا؛ لأنّه يضمّ الكلام بعضه إلى بعض، ويجمعه ويرتّبه، وفي الاصطلاح: هو اسم لجملة مختصّة من العلم، مشتملة على أبواب، وفصول، ومسائل غالبا. وقد أكثر الشعراء في مدح الكتاب، ومنه قول القائل:[الطويل]

لنا جلساء ما يملّ حديثهم

ألبّاء مأمونون غيبا ومشهدا

ص: 54

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى

وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا

فإن قلت أحياء فما أنت كاذب

وإن قلت أموات فلست مفنّدا

وبالجملة: فالكتاب نعم الذّخر، والعدّة، والشّغل، والحرفة، جليس لا يضرّك، ورفيق لا يملّك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، ويطيعك في السّفر طاعته في الحضر، إن ألفته على الأيام؛ خلّد ذكرك، وإن درسته رفع بين النّاس قدرك.

هذا والفعل جاء يستعمل لازما إن كان بمعنى: حضر، وأقبل، ومتعدّيا إن كان بمعنى:

وصل، وبلغ. فمن الأول قوله تعالى:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} . ومن الثاني قوله تعالى:

{إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ} . ومنه {جاءَكُمْ} في هذه الآية وفي الآية التّالية، ومثله «أتى» يكون لازما، ومتعدّيا بسبب ما ذكر.

الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو أو: أنادي. (أهل): منادى، وهو مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ:}

فعل ماض، والكاف مفعوله. {رَسُولُنا:} فاعله، (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (أهل الكتاب)، والعامل في الحال (يا) لما فيها من معنى الفعل، وهو مثل قول الشاعر:[البسيط]

يا أيّها الرّبع مبكيّا بساحته

{يُبَيِّنُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{رَسُولُنا} . {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {كَثِيراً:} مفعول به، والجملة الفعلية:{يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً} في محل نصب حال من {رَسُولُنا} فهي حال متداخلة، والرّابط في الأولى ضمير الخطاب فقط، وفي هذه ضمير الغيبة فقط. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان ب {كَثِيراً،} أو بمحذوف صفة له. و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من). {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تُخْفُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كُنْتُمْ،} والجملة الفعلية هذه صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو: من شيء كنتم تخفونه. {مِنَ الْكِتابِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف.

و {مِنَ:} بيان لما أبهم في (ما). {وَيَعْفُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى:{رَسُولُنا} . {عَنْ كَثِيرٍ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يُبَيِّنُ لَكُمْ..} . إلخ فهي في محل نصب حال مثلها، والرابط في الجملتين: الضمير العائد إلى: {رَسُولُنا} فقط.

ص: 55

{يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}

الشرح: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ:} المراد به القرآن الكريم، فإنّه الكاشف لظلمات الشرك، والضلالة، والمبيّن للناس ما كان خافيا عليهم من الحقّ. وقيل: المراد بالنور محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب القرآن، فيكون في الكلام استعارة تصريحية؛ حيث صرّح بذكر المشبّه به، وهو اسم جامد.

هذا؛ و: {مُبِينٌ} اسم فاعل من «أبان» الرباعي، أصله: مبين. بسكون الباء وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء قبلها بعد سلب سكونها؛ لأنّ الحرف الصّحيح أولى بالحركة من حرف العلّة. ولا تنس: أنّ اسم الفاعل من «أبان» الثلاثي «بائن» .

{يَهْدِي بِهِ} أي: بالقرآن. ووحّد الضمير؛ لأنّ المراد بهما واحد، أو لأنّ محمدا، والقرآن كواحد في الهداية. ومثله قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [62]:{وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} والآية رقم [34] منها أيضا، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها،} ومنه قول حسّان-رضي الله عنه: [الخفيف]

إنّ شرخ الشّباب والشّعر الأسو

د ما لم يعارض كان جنونا

وأيضا قول ضائي بن الحارث البرجمي-وهو الشاهد رقم [858] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، والشاهد [279] من كتابنا:«فتح رب البريّة» -: [الطويل]

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي-وقيّار-بها لغريب

{مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ} أي: من سبق في علمه تعالى: أنه يتّبع ما يرضيه، وذلك بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم. {سُبُلَ السَّلامِ:} طرق السّلامة من عذاب الله تعالى، أو المراد:

طرق الحقّ الّتي شرعها الله لعباده، ومن سلكها كان من النّاجين في الدّنيا، والآخرة.

هذا، و:{سُبُلَ:} يجوز تسكين بائه، وضمها، قال عيسى بن عمر-رضي الله عنه: كل اسم على ثلاثة أحرف أولها مضموم وأوسطها ساكن، فمن العرب من يخفّفه، ومنهم من يثقّله، مثل: رسل، وعسر، ويسر، ورحم، وحلم. هذا؛ و {سُبُلَ} جمع: سبيل، وهو الطريق، يذكّر، ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى في سورة (الأعراف):{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} . ومن التأنيث قوله تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ} والجمع على التأنيث: سبول، وعلى التذكير: سبل كما في الآية الكريمة.

ص: 56

{وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ:} بتوفيقه، وإرادته. هذا؛ و {الظُّلُماتِ} جمع: ظلمة، وقد جمعت في القرآن الكريم باعتبار تعدّد معانيها؛ إذ المراد: ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة يوم القيامة، أو المراد ظلمة شديدة، كأنّها ظلمات متراكمة. هذا؛ و «الظلمة» بمعانيها المذكورة مستعارة من ظلمة الليل الحقيقي، والجامع بينهما عدم الاهتداء في كلّ منهما، كما أنّ (النّور) بالمعنى المتقدّم، أو بمعنييه مستعار من نور النّهار، أو من نور المصباح المضيء، والجامع بينهما الاهتداء في كلّ منهما.

{وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} الهداية: دلالة بلطف، ورفق، وانظر الآية رقم [68] من سورة (النساء) فإنّه جيد، والحمد لله! هذا؛ وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة. انظر الالتفات فيما مضى.

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ:} : ماض، ومفعوله.

{مِنَ اللهِ:} متعلّقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{نُورٌ} كان صفة له

إلخ. {نُورٌ:} فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها مسوقة لبيان: أنّ فائدة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ليست منحصرة فيما ذكر من بيان ما كانوا يخفونه، بل له منافع أخرى، لا تعدّ ولا تحصى. {وَكِتابٌ:} معطوف على: {نُورٌ} . {مُبِينٌ:} صفة له. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثّقل. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل:(كتاب) أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدّم، وجوز أن تكون في محل نصب حال من:{رَسُولُنا،} وأن تكون حالا من فاعل: {يُبَيِّنُ،} والأول أقوى معنى، وأتمّ سبكا. {مَنِ:} اسم موصول مبني على السكون، أو نكرة موصوفة في محل نصب مفعول به. {اِتَّبَعَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، أو الرابط. {رِضْوانَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها. {سُبُلَ:} مفعول به ثان، وصحّح الجمل انتصابه بنزع الخافض، وتقدّم مثله كثيرا، و (سبل) مضاف، و {السَّلامِ:} مضاف إليه.

{وَيُخْرِجُهُمْ:} الواو: حرف عطف. (يخرجهم): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} أو هو عائد إلى: (من) باعتبار المعنى، وهو أولى، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، والحروف الجارّة كلّها متعلّقة بالفعل:(يخرج) وساغ ذلك لتغير لفظها، ومعناها. والهاء في محل جرّ بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله.

{وَيَهْدِيهِمْ} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} أو إلى (من) والهاء مفعول به. {إِلى صِراطٍ:} متعلقان به. {مُسْتَقِيمٍ:} صفة: {صِراطٍ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها كالّتي قبلها.

ص: 57

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}

الشرح: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هؤلاء نصارى نجران، فإنّهم قالوا هذه المقالة، وهو مذهب اليعقوبيّة، والملكانية من النّصارى، فإنّهم يقولون في المسيح: إنّه الله، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا. وإنّما قالوا هذه المقالة الخبيثة؛ لأنّهم يقولون بالحلول، وإنّ الله قد حلّ في بدن عيسى، فلمّا كان هذا اعتقادهم لا جرم حكم الله عليهم بالكفر. {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً} أي: قل يا محمد لهؤلاء النّصارى الذين يقولون ما تقدّم: فمن يقدر أن يدفع من أمر الله شيئا إن أراد أن يميت ويهلك عيسى وأمّه، ويهلك من في الأرض جميعا. والمعنى: لو كان عيسى إلها كما يفترون لقدر على دفع الهلاك عن نفسه، وعن أمّه، وغيرها. وهؤلاء استدلوا بأعمال عيسى من إحياء الميت، وإبراء الأبرص، والأكمه

إلخ على ألوهيته، وهم القائلون باتّحاد النّاسوت باللاّهوت. وقيل: لم يصرح به أحد منهم، ولكن لمّا زعموا: أنّ فيه لاهوتا، وقالوا: لا إله إلا واحد؛ لزمهم أن يكون هو المسيح. فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم، وفضحا لمعتقداتهم.

{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ، أي: ملكا، وخلقا، وعبيدا. {وَما بَيْنَهُما} أي: الموجودات بين السّماوات، والأرض من أفلاك، وكواكب في السّماء، وما على الأرض من جبال، وأنهار، وبحار

إلخ، فكلّ ذلك ملك لله تعالى، لا يشركه فيه أحد، وما يملكه الإنسان في هذه الدنيا إنّما هو ملك له في الظاهر قد منحه الله له؛ ليتمتّع به على سبيل الوكالة، والأمانة، وويل لمن قصّر في الوكالة، وخان في الأمانة!.

هذا؛ وقد أعاد الضّمير إلى: {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} مثنى، والمرجوع إليه مجموع السّماوات والأرض، وتثنية الجمع جائزة على تأويل الجماعتين، أو الصنفين، أو النوعين، أو الشيئين، كقول القطامي:[الوافر]

ألم يحزنك أنّ حبال قيس؟

وتغلب قد تباينتا انقطاعا

أراد: وحبال تغلب، فثنّى، والحبال: جمع؛ لأنّه أراد الشّيئين، أو النوعين. وقال الشاعر يذمّ عاملا على الصّدقات:[البسيط]

ص: 58

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

لأصبح النّاس أوبادا ولم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

فقد ثنّى: جمال؛ الذي هو جمع: جمل، والعقال: صدقة عام، والسّبد: المال القليل، واللّبد: المال الكثير، وأوبادا: هلكى، جمع: وبد. فهو يقول: صار عمرو عاملا على الصّدقات في سنة واحدة، فظلم، وأخذ أموالنا بغير حقّ حتّى لم يبق لنا إلا الشيء القليل من المال، فكيف حالنا، أو: كيف يبقى لأحد شيء لو صار عمرو عاملا في زكاة عامين؟! ثم أقسم، فقال: والله لو صار عمرو عاملا سنتين لصارت القبيلة هلكى، فلا يكون لهم عند التفرّق في الحرب جمالان، فيحتلوا بالغزوات.

هذا؛ وقوله تعالى: {أَنْ يُهْلِكَ..} . إلخ يفيد: أنّ عيسى-على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-مملوك مقهور، وقابل للفناء كسائر الممكنات، ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية. {يَخْلُقُ ما يَشاءُ} هذه الجملة تزيح الشّبهة عن النّصارى في أمر عيسى، عليه السلام، فهي تفيد: أنّ الله عز وجل قادر على الإطلاق، يخلق من غير أصل، كما خلق السموات والأرض، ومن أصل كخلق ما بينهما، فينشئ من أصل ليس من جنسه، كآدم خلقه من تراب، وكثير من الحيوانات، ومن أصل يجانسه، إما من ذكر وحده، كحواء، خلقت من آدم، أو من أنثى وحدها، كعيسى خلق من مريم، أو من كليهما كسائر النّاس، والحيوانات. وانظر:{يَفْعَلُ ما يَشاءُ} في الآية رقم [40] من سورة (آل عمران).

هذا؛ و (المسيح) لقب عيسى، على حبيبنا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام، وهو من الألقاب المشرّفة كالصدّيق لأبي بكر، رضي الله عنه، والفاروق لعمر رضي الله عنه، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: سمّي عيسى: مسيحا؛ لأنّه ما مسح ذا عاهة إلا برأ منها. وقيل: لأنّه مسح بالبركة، كما حكى القرآن قوله في سورة (مريم):{وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ} وقيل: لأنّه مسح من الأقذار، وطهر من الذنوب. وقيل: سمّي مسيحا؛ لأنّه كان مسيح القدمين، ولا أخمص له. ولا أرتضيه؛ لأنه عيب في الرّجال، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان خمصان الأخمصين، وأصله بالعبرانية المشيح بالشين، كما عرّب موسى، وأصله: موشى. هذا؛ وسمّي الدجال مسيحا؛ لأنّه ممسوح العينين، وقد يكون المسيح بمعنى الكذّاب، وهو بالدّجال ألصق، وعليه تكون الكلمة من الأضداد، وبعضهم يقول في الدّجال: المسيخ بالخاء، قال الشاعر:[الرجز]

إنّ المسيح يقتل المسيحا

وأطلق على الدّجال: المسيح، بالحاء؛ لأنّه يسيح في الأرض، أي: يطوفها، ويدخل جميع بلدانها إلا مكّة، والمدينة، وبيت المقدس، فالدّجال يمسح الأرض محنة، وابن مريم

ص: 59

يمسحها منحة، وفي حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سمرة بن جندب-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه سيظهر على الأرض كلّها إلا الحرم، وبيت المقدس، وأنّه يحصر المؤمنين في بيت المقدس. وذكر الحديث. وفي صحيح مسلم-رحمه الله تعالى-من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فبينما هو كذلك؛ إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق بين مهرودتين، واضعا كفّيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه؛ قطر، وإذا رفعه؛ تحدّر منه جمان كاللّؤلؤ، فلا يحلّ لكافر يجد ريح نفسه إلاّ مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه؛ حتّى يدركه بباب لدّ، فيقتله

إلخ» الحديث بطوله.

قوله: مهرودتين؛ أي: في شقتين، أو حلّتين، وقيل: الثّوب المهرود الذي يصبغ بالورس، ثم الزّعفران. والجمان بضم الجيم: حبات من الفضّة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار، ولدّ بضم اللام وتشديد الدال: بلدة في فلسطين.

هذا؛ ومريم بالعبرية بمعنى: الخادم، ثم سمّي به كثير من النّساء، ومريم في لسان العرب هي التي تكره مخالطة الرّجال، ولم تذكر امرأة باسمها صريحا في القرآن الكريم إلا مريم، وقد ذكرت فيه في ثلاثين موضعا. هذا وفي القاموس المحيط: المريم هي التي تحب مخالطة الرّجال، ولا تفجر، وهذا يناقض ما قبله، قال الشّاعر:[الطويل]

وزائرة ليلا كما لاح بارق

تضوّع منها للكساء عبير

فقال لها أهلا وسهلا أمريم

فقالت له: من أنت قال لها: زير

وانظر الآية رقم [42] من سورة (آل عمران) ففيها كبير فائدة.

الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: وعزتي، وجلالي، ونحو ذلك. أو هي لام الابتداء. و (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كَفَرَ:}

فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. والجملة الفعلية جواب القسم، أو هي ابتدائية لا محلّ لها على الاعتبارين. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْمَسِيحُ:} خبره. {اِبْنُ:} صفته، وهو مضاف، و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جرّه الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية، والتأنيث المعنوي، والجملة الاسمية:{هُوَ الْمَسِيحُ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ} . والجملة الاسمية هذه في محل نصب مقول القول. والجملة الفعلية: {قالُوا..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها صلة الموصول.

ص: 60

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {فَمَنْ:} الفاء: صلة. (من): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَمْلِكُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {مِنَ اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أوهما متعلقان بمحذوف حال من:{شَيْئاً} كان صفة له فلما قدم عليه؛ صار حالا. {شَيْئاً:} مفعول به، وجملة:{يَمْلِكُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. وقيل: الفاء عاطفة على جملة محذوفة، التقدير: قل: كذبوا، أو: ليس الأمر كذلك، فمن

إلخ، وعليه: فالمعطوف، والمعطوف عليه في محل نصب مقول القول، ولا أرى تقدير المحذوفة قويّا، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {إِنَّ:} حرف شرط جازم. {أَرادَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {إِنَّ:} حرف مصدري، ونصب. {يُهْلِكَ:} فعل مضارع منصوب ب: {إِنَّ،} والفاعل يعود إلى (الله) أيضا، والمصدر المؤول من الفعل وناصبه في محل نصب مفعول به.

{الْمَسِيحُ:} مفعول به. {اِبْنُ:} صفة له، و {اِبْنُ:} مضاف، و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ. {وَأُمَّهُ:} معطوف على: {الْمَسِيحُ} والهاء في محل جر بالإضافة.

{وَمَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محلّ نصب معطوف على: {الْمَسِيحُ} . {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {جَمِيعاً:} حال من: {الْمَسِيحُ} وما عطف عليه، وجملة:{أَرادَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائيّة، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف؛ دلّ عليه ما قبله، و {إِنَّ} ومدخولها في محل نصب مقول القول؛ لأنّه مرتبط بالجملة قبله.

{وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. (لله): متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف. و {السَّماواتِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.

{وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {وَما:} اسم موصول مبني على السكون في محلّ رفع معطوف على {مُلْكُ} . {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلّق بمحذوف صلة الموصول، أو صفة:

(ما) على اعتبارها موصوفة، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية.

{يَخْلُقُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) أيضا. {ما:} اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: يخلق الذي، أو شيئا يشاؤه، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله):

مبتدأ. {عَلى كُلِّ:} متعلّقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه.

{قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها.

ص: 61

{وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}

الشرح: {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى..} . إلخ: قال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: خوّف رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود العقاب، فقالوا: لا نخاف، فإنّا أبناء الله، وأحباؤه، فنزلت الآية الكريمة فيهم، وفي النّصارى. وقال السّدّي-رحمه الله تعالى-: زعمت اليهود أنّ الله-عز وجل-أوصى إلى إسرائيل-عليه السلام: أنّ ولدك بكري من الولد، وقال غيره: والنّصارى قالت: نحن أبناء الله؛ لأنّ في الإنجيل حكاية عن عيسى-عليه السلام: أذهب إلى أبي، وأبيكم. وقيل: المعنى نحن أبناء رسل الله، فهو على حذف مضاف، أو المعنى: نحن أتباع ابنيه: عزير، والمسيح، أو مقرّبون عنده قرب الأولاد من والدهم. وبالجملة: فقد كانوا، ولا يزالون يدّعون: أنّ لهم فضلا، ومزيّة عند الله على سائر الخلق.

{قُلْ:} الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم:{فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} أي: إن صحّ ما زعمتم؛ فلم يعذبكم بذنوبكم؟ وقد عذّبكم في الدّنيا بالقتل، والأسر، والمسخ، وتشتيت الشّمل، واعترفتم بأنّه سيعذّبكم في الآخرة بالنّار أياما معدودة بعدد الأيام التي عبد فيها آباؤكم العجل، ولا يعذّب الوالد ولده، ولا الحبيب حبيبه؛ فإذا أنتم كاذبون في دعواكم البنوة، والمحبّة. هذا؛ وقيل: معنى: {يُعَذِّبُكُمْ:} عذّبكم، فهو بمعنى المضي، ولا بأس به؛ إذ المعنى عليه. {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي: أنتم بشر من جملة المخلوقات؛ الّتي خلقها الله تعالى، ولكم ما لهم، وعليكم ما عليهم، يحاسبكم على أعمالكم، ويجازي كلاّ بما عمل.

{يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ:} لمن يستحقّ المغفرة بسبب توبة، أو طاعة. {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ:} من يستحقّ العذاب بسبب كفره، أو إدمانه المعاصي، والمنكرات. {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ..}. إلخ:

انظر الآية السّابقة. {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ:} إليه المرجع، والمال في الآخرة يحاسب كلّ إنسان على ما قدّمت يداه. هذا؛ وبين:{يَغْفِرُ} و (يعذب) طباق، وهو من المحسّنات البديعيّة.

{الْيَهُودُ:} سمّوا بذلك نسبة إلى «يهودا بن يعقوب» وهو أكبر أولاده، وقد عبّر عنهم القرآن في كثير من المواضع ب:{الَّذِينَ هادُوا} فهو مثل الأوّل. أو سمّوا بذلك لمّا تابوا من عبادة العجل، من: هاد بمعنى: تاب، ورجع، ومنه قوله تعالى حكاية عن قولهم في سورة (الأعراف):{إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ} .

هذا، وماضي:{يَشاءُ:} شاء، ولم يرد له، ولا ل: أراد، يريد أمر فيما أعلم، وأصل شاء شئ على فعل بكسر العين بدليل قولك: شئت شيئا، وقد قلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما

ص: 62

قبلها، وقد كثر حذف مفعوله، ومفعول: أراد؛ حتّى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل قوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ} وقال الشاعر: [الطويل]

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع

وقيّد بعضهم حذف مفعول هذين الفعلين بعد: «لو» وليس كذلك. {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ} إلخ: انظر مثل هذا الكلام في الآية السابقة، وكرّر للتأكيد، والتقرير.

(بشر): يطلق على الإنسان ذكرا، أو أنثى، مفردا، أو جمعا، مثل كلمة:(الفلك) تطلق على المفرد، والجمع، وسمّي بنو آدم بشرا لبدوّ بشرتهم، وهي ظاهر الجلد بخلاف أكثر المخلوقات، فإنّها مكسوة بالشّعر، أو بالصوف، أو بالرّيش. هذا. و (بشر) يطلق على المفرد، كما في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} الآية رقم [17] من سورة (مريم) ويطلق على الجمع، كما في قوله تعالى:{فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} رقم [26] من سورة (مريم) أيضا. ومنه ما في هذه الآية، وانظر شرح (لم) وما أشبهه في الآية رقم [97] من سورة (النساء) فإنّه جيد، والحمد لله!

الإعراب: {وَقالَتِ:} الواو: حرف استئناف. (قالت): فعل ماض، والتاء للتأنيث.

{الْيَهُودُ:} فاعله. {وَالنَّصارى:} معطوف على ما قبله مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف للتعذّر. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {أَبْناءُ:}

خبره، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَأَحِبّاؤُهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة، والجملة الاسمية:{نَحْنُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{وَقالَتِ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {فَلِمَ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن شرط مقدّر، التقدير: إن صحّ ما زعمتم؛ فلم

إلخ. (لم): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، وقد حذفت ألف ما الاستفهامية فرقا بين الخبر، والاستخبار.

{يُعَذِّبُكُمْ:} فعل مضارع، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} والجملة الفعلية في محل جزم جواب للشرط المقدّر ب «إن» و «إن» المقدرة، ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {بِذُنُوبِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {بَلْ:} حرف إضراب. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بَشَرٌ:} خبره. {مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {بَشَرٌ} .

و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من). {خَلَقَ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والجملة الفعلية صلة: (من) أو صفتها، والعائد والرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذين، أو: أشخاص خلقهم، والجملة الاسمية:{بَلْ أَنْتُمْ..} . إلخ مستأنفة، وهي من مقول القول أيضا.

ص: 63

{يَغْفِرُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهِ} ومفعوله محذوف، تقديره: يغفر الذنوب.

{لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: للّذي، أو لشخص يشاء مغفرته، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ..}. إلخ: انظر إعراب مثل هذا الكلام ومحلّه في الآية السابقة.

(إليه): جار ومجرور، متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {الْمَصِيرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.

{يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}

الشرح: {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا:} انظر الآية رقم [15]. {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي: على انقطاع من الرّسل بين محمّد، وعيسى، عليهما الصّلاة والسّلام. والمعنى:

مضت للرّسل مدّة قبل محمّد صلى الله عليه وسلم. واختلف في مقدار هذه المدّة: كم هي؟ فالمعتمد: أنّها بين عيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسعا وستين. ذكره الكلبي. وقال قتادة: كانت ستمائة سنة. رواه البخاريّ عن سلمان الفارسي-رضي الله عنه. وذكر ابن سعد عن عكرمة قال: بين آدم، ونوح عشرة قرون كلّهم على الإسلام، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة، فهذا ما بين آدم، ومحمد-عليهما السلام-من القرون، والسنين.

انتهى قرطبي. كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أولى النّاس بابن مريم؛ لأنّه ليس بيني وبينه نبيّ» وهذا فيه ردّ على من زعم: أنّه بعث بعد عيسى نبيّ يقال له: خالد بن سنان. والمقصود: أنّ الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرّسل، وطموس من السّبل، وتغيّر الأديان، وكثرة عبادة الأوثان، والنيران، والصّلبان، فكانت النّعمة به أتمّ النّعم، والحاجة إليه أمر عمم، وكان الفساد قد عمّ جميع البلاد، والطّغيان، والجهل قد ظهر في سائر البلاد إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين.

بالإضافة لما ذكرته في الآية السابقة من تخويف النبي صلى الله عليه وسلم لليهود، والنصارى، وقولهم:

{نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} أذكر: أنّ معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب-رضي الله عنهم-قالوا لهم: يا معشر اليهود اتقوا الله، فو الله إنكم لتعلمون: أنّه رسول الله! ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته. فقال رافع بن حريملة، ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرا، ولا نذيرا من بعده، فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة ردّا عليهم.

ص: 64

والمعنى: إنّ الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق بعد انقطاع الرّسل بعد عيسى في المدّة المذكورة؛ ليقطع حجّة اليهود، والنّصارى بعدم إرسال رسول بعد عيسى، ولئلا يبقى لهم عذر يعتذرون به. هذا؛ و {بَشِيرٍ} و {نَذِيرٍ} هو محمد صلى الله عليه وسلم بشير بالجنة، والنعيم المقيم فيها لمن اهتدى، ونذير من النّار لمن كفر، وفسق، وعصى، وشقّ على ربّه العصا.

الإعراب: {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [15]، ومفعول {يُبَيِّنُ} محذوف، تقديره: الدّين، أو أحكامه، وحذف لفهمه من المقام، أو تقديره: يبين لكم ما كنتم تخفون، وحذف لتقدّم ذكره في الآية السّابقة. {عَلى فَتْرَةٍ:} متعلقان بالفعل: {جاءَكُمْ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من فاعل: {يُبَيِّنُ} المستتر. {مِنَ الرُّسُلِ:}

متعلقان بمحذوف صفة: {فَتْرَةٍ} . {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَقُولُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» وعلامة نصبه حذف النون لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق والمصدر المؤول من الفعل وناصبه في محل جر بحرف جر محذوف عند الكوفيين، التقدير: لئلا تقولوا. والجار والمجرور متعلقان بالفعل: (يبين)، وهو عند البصريّين في محل جر بإضافة اسم إليه واقع مفعولا لأجله، التقدير: كراهة، أو مخافة قولكم: ما جاءنا

إلخ.

وانظر الآية الأخيرة من سورة (النساء) ففيها تفصيل، وبيان، وزيادة.

{ما:} نافية. {جاءَنا:} فعل ماض. و (نا) مفعول به. {مِنَ:} حرف جر صلة. {بَشِيرٍ:}

فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا):

نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي. {وَلا نَذِيرٍ:} معطوف على ما قبله. {فَقَدْ:} الفاء: حرف تعليل. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ:} ماض، ومفعوله. {بَشِيرٍ:}

فاعله، والجملة الفعلية تعليل لكلام محذوف، التقدير: لا تعتذروا بقولكم: ما جاءنا

إلخ؛ لأنّه قد جاءكم بشير، والتعليل، والمعلل كلام مستأنف لا محلّ له. {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:}

هو مثل الآية رقم [17].

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)}

الشرح: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ..} . إلخ؛ أي: اذكر يا محمد حين قال موسى لبني إسرائيل: اذكروا نعمة الله العظمى عليكم، واشكروه عليها. قال الطّبريّ-رحمه الله تعالى-:

هذا تعريف من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بتمادي هؤلاء اليهود في الغيّ، وبعدهم عن الحقّ، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدّة مخالفتهم لأنبيائهم مع كثرة نعم الله عليهم، وتتابع أياديه لديهم،

ص: 65

فسلّى بذلك نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم عمّا نزل به من الشدائد؛ التي حصلت له من مخالفة قومه، ومعاصيهم عليه. انتهى. خازن.

{إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ:} أي: كلّما مات نبيّ؛ قام فيكم نبيّ آخر من لدن أبيكم إبراهيم ومن بعده، فلم يخل زمن من نبيّ، ورسول فيكم يدعو إلى الله، ويحذّركم نقمته؛ حتى ختموا بعيسى ابن مريم، عليه السلام، ثمّ أوحى الله إلى خاتم النبيين، والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} أي: جعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم عبيدا.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان الرّجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة، والخادم، والدار سمّي: ملكا. وقال ابن جرير: عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما، وسأله رجل، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله-رضي الله عنه: لك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، فقال: إن لي خادما، قال: فأنت من الملوك. أخرجه مسلم. وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه عنده قوت يومه؛ فكأنّما حيزت له الدّنيا بحذافيرها» .

أخرجه الترمذي، وابن ماجة عن عبد الله بن محصن، رضي الله عنه. هذا وقيل: إنّ المعنى:

جعلكم كالملوك في رغد العيش. فحذف أداة التشبيه، ووجه الشبه، فأصبح بليغا.

{وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ} يعني: عالمي زمانكم، فإنّهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان، والقبط، وسائر أصناف بني آدم، كما قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [47 و 122]:{اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} .

هذا؛ و {الْعالَمِينَ} جمع: عالم بفتح اللام، وجمع لاختلاف أنواعه، وهو جواب عمّا يقال:

إنّه اسم جنس يصدق على كل ما سوى الله، والجمع لا بدّ أن يكون له ثلاثة أفراد، فأكثر، وجمع بالياء والنون كما يجمع بالواو والنون تغليبا للعقلاء على غيرهم، وهو يقال لكلّ ما سوى الله، ويدلّ له قوله تعالى حكاية عن قول موسى-على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم-لمّا قال له فرعون:{وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} . هذا؛ والعوالم كثيرة، لا تحصيها الأرقام، وهي منتشرة في هذا الكون المترامي الأطراف في البرّ، والبحر؛ إذ كلّ جنس من المخلوقات يقال له: عالم، قال تعالى:{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} ولا واحد له من لفظه، مثل: معشر، ورهط، وقوم. وقال مقاتل-رحمه الله تعالى-: العالمون ثمانون ألف عالم: أربعون ألف عالم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر. انتهى. وجمع جمع المذكر السالم، وذلك بتغليب من يعقل على ما لا يعقل، والعالم مشتق من العلامة؛ لأنّه دالّ على وجود خالقه، وصانعه، وعلى وحدانيته-جلّ، وعلا-كما قال ابن المعتز:[المتقارب]

ص: 66

فيا عجبا كيف يعصى الإل

هـ أم كيف يجحده الجاحد؟

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه الواحد

{مُوسى} هو ابن عمران، بن يصهر، بن قاهت، بن لاوي، بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. و {مُوسى:} اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية، والعجمة، وهو مركب من اسمين: الماء، والشجر، فالشجر يقال له في العبرانية:(مو) والشّجر يقال له: شا، فعربته العرب، وقالوا: موسى بالسّين، وسبب تسميته بذلك: أنّ امرأة فرعون التقطته من نهر النيل بين الماء، والشّجر لمّا ألقته أمه فيه، كما هو مذكور في سورة (طه) و (القصص).

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف، أو استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر. {قالَ:} فعل ماض.

{مُوسى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {لِقَوْمِهِ:} متعلّقان بما قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (قوم): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه في النداء خاصّة؛ لأنّه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة، فيقول:(يا قومي). ومنهم من يثبتها، ويحرّكها بالفتحة، فيقول:(يا قومي). ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول:(يا قوما) ومنهم من يحذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها، فيقول:(يا قوم). قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته: [الرجز]

واجعل منادى صحّ إن يضف ل: «يا»

كعبد عبدي عبد عبدا عبديا

ويزاد سادسة، وهي لغة القطع:(يا قوم) بضم الميم، ففي الحديث الشريف يقول:(يا ربّ! يا ربّ! يا ربّ!)، وقرئ في سورة (يوسف) رقم [33]: (قال ربّ السجن أحب إليّ

) إلخ.

والآية الكريمة كلّها في محل نصب مقول القول. {اُذْكُرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {نِعْمَتَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {نِعْمَتَ اللهِ،} أو بمحذوف حال منه. {إِذْ:} حرف تعليل، وهو أقوى من اعتبارها ظرفية. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهِ}. {فِيكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَنْبِياءَ:} مفعول به أوّل، والجار والمجرور:{فِيكُمْ} هما المفعول الثاني تقدّم على الأول، والجملة الفعلية تعليل للتذكير، لا محلّ لها، وجملة:{وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. (آتاكم): فعل

ص: 67

ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهِ} والكاف مفعول به أوّل.

{ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {لَمْ:}

حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُؤْتِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو العائد، أو الرابط. {أَحَداً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية:{لَمْ يُؤْتِ أَحَداً} صلة (ما) أو صفتها، وجملة:{وَآتاكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {مِنَ الْعالَمِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة: {أَحَداً،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{يا قَوْمِ اُدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)}

الشرح: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ:} المطهّرة، أو المباركة، وهي أرض ببيت المقدس، أو: أريحا، أو: فلسطين، أو الشّام كلّها. وسمّيت: مقدّسة؛ لأنّ الله جعلها بعد ذلك قرار الأنبياء، وسكن المؤمنين. {الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} أي: فرض دخولها عليكم، ووعدكم سكناها؛ إن آمنتم، وأطعتم. يدلّ على ذلك: أنّه حرّمها عليهم بعد ما عصوا الله، كما سيأتي قريبا، وكان ذلك لمّا خرجوا من مصر أمرهم الله بجهاد أهل أريحا من أرض فلسطين، فقالوا:

لا علم لنا بتلك الدّيار. فبعث موسى بأمر الله اثني عشر نقيبا؛ من كلّ سبط رجل، يتجسّسون الأخبار كما رأيت فيما سبق، فرأوا سكّانها من العمالقة، وهم ذوو أجسام هائلة. وذكر القرطبيّ -رحمه الله تعالى-العجيب من أوصافهم التي تدلّ على قوّتهم، وجبروتهم، وهذا كان لمّا نقض النقباء العهد، وأخبروا قومهم ما عدا يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، كما قدّمته لك. {وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ} أي: ولا ترجعوا القهقرى مرتدّين على أعقابكم، ولكن امضوا لأمر الله الذي أمركم به، أو: لا ترتدّوا عن الإيمان بالعصيان، ومخالفة الواحد الديّان. {فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} أي: فترجعوا بالخسران، والحرمان من ثواب الله في الدّنيا، والآخرة.

الإعراب: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا:} انظر الآية السابقة. {الْأَرْضَ:} ظرف مكان عند بعض النحاة، وفي مقدّمتهم سيبويه، والمحقّقون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السعة بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في:(دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشام) وأيضا قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [61]: {اِهْبِطُوا مِصْراً،} وهذا إذا كان الفعل ثلاثيّا، وأمّا إذا كان رباعيّا؛ بأن دخلت عليه همزة التعدية، ونصب مفعولين، فالمفعول الثاني يقال فيه ما ذكر في مفعول الثلاثي، والمفعول الأوّل يكون صريحا مثل: أدخلت خالدا البيت. {الْمُقَدَّسَةَ:} صفة

ص: 68

{الْأَرْضَ} . {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة ثانية للأرض، وجملة:{كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد محذوف، التقدير: التي كتبها الله لكم.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَرْتَدُّوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{اُدْخُلُوا..} . إلخ لا محلّ لها مثلها. {عَلى أَدْبارِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَتَنْقَلِبُوا:} فعل مضارع معطوف على ما قبله مجزوم مثله، أو هو منصوب ب:«أن» مضمرة بعد الفاء على اعتبارها للسببية، وهو الأولى، والأقوى، وعلامة الجزم، أو النّصب حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى النّصب تؤوّل «أن» المضمرة مع الفعل بمصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم ارتداد، فانقلاب. {خاسِرِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب

إلخ. والآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وهي من قول موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَإِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ (22)}

الشرح: {قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها} يعني: في الأرض المقدّسة. {قَوْماً جَبّارِينَ:} قوما عاتين لا طاقة لنا بهم، ولا قوّة لنا بقتالهم. وسمّوا جبارين؛ لشدّة بطشهم، وعظم خلقهم، وكانوا ذوي أجسام طويلة، وأشكال هائلة، وهم العمالقة بقيّة قوم عاد. وأصل الجبّار في صفة الإنسان فعّال؛ من: جبره على الأمر؛ يعني: أجبره عليه، وهو العاتي الّذي يجبر الناس على ما يريد.

وقيل: مأخوذ من قولهم: نخلة جبّارة: إذا كانت طويلة، مرتفعة، لا تصل إليها الأيدي. ويقال:

رجل جبّار: إذا كان طويلا، عظيما، قويّا تشبيها بالجبّار من النّخل.

{وَإِنّا لَنْ نَدْخُلَها} يعني: أرض الجبّارين؛ التي أمرهم الله بدخولها. {حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها:}

حتى يخرج الجبّارون من الأرض المقدّسة. وإنّما قالوا ذلك استبعادا لخروج الجبّارين من أرضهم. {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ:} قال العلماء بالأخبار: إنّ النقباء لمّا خرجوا يتجسّسون الأخبار لموسى-على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام-ورجعوا إليه، وأخبروه خبر القوم، وما عاينوا منهم، قال لهم موسى: لا تخبروا بني إسرائيل بهذا، فيجبنوا، ويضعفوا عن قتالهم. وقيل: إنّ النقباء الاثني عشر لما خرجوا إلى أرض الجبارين، قال بعضهم لبعض:

لا تخبروا بني إسرائيل بما رأيتم، فلمّا رجعوا، وأخبروا موسى، فأمرهم ألا يخبروا بني إسرائيل

ص: 69

بذلك، فخالفوا أمره، ونقضوا العهد، وأخبر كلّ رجل من النقباء سبطه بما رأى، إلا يوشع، وكالب. فإنّهما كتما، ووفيّا بالعهد، فلمّا علم بنو إسرائيل بذلك، وفشا ذلك فيهم؛ رفعوا أصواتهم بالبكاء، وقالوا: ليتنا متنا في أرض مصر، ولا يدخلنا الله أرضهم، فتكون نساؤنا، وأولادنا غنيمة لهم، وجعل الرّجل من بني إسرائيل يقول لصاحبه: تعالوا نجعل لنا رأسا، وننصرف إلى مصر. فلمّا قالوا ذلك، وهمّوا بالانصراف إلى مصر؛ خرّ موسى، وهارون ساجدين، وخرق يوشع، وكالب ثيابهما، وقالا ما في الآية التالية.

الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {يا مُوسى:} (يا): حرف نداء ينوب مناب: (أدعو). (موسى): منادى مفرد علم مبني على ضم مقدر على الألف المقصورة في محل نصب ب: (يا). {إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر:

{إِنَّ:} مقدّم. {قَوْماً:} اسمها مؤخّر. {جَبّارِينَ:} صفة: {قَوْماً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الاسمية، والندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {وَإِنّا:} الواو: حرف عطف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَنْ} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {نَدْخُلَها:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ} والفاعل ضمير مستتر تقديره:

نحن، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إن)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. ولعلّك تدرك معي: أنّ اتصال الضمير بالفعل {نَدْخُلَها} يؤيد ما ذهب إليه الأخفش، والمحققون من أنّ الاسم المنصوب بعد الأفعال (دخل، ونزل، وسكن) إنّما هو في محل نصب مفعول به، وإن كان رباعيّا دخلت عليه همزة التعدّي، فهو مفعول به ثان انظر الآية السابقة. {حَتّى:} حرف غاية وجر، بعدها «أن» مضمرة.

{يَخْرُجُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد: {حَتّى،} وعلامة نصبه حذف النّون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلّقان بالفعل قبلهما. {مِنْها:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {يَخْرُجُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتّفريق. {مِنْها:}

متعلقان به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي.

{فَإِنّا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّا): حرف مشبّه بالفعل مثل سابقه. و (نا): اسمها.

{داخِلُونَ:} خبرها، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحل محلّ المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له.

ص: 70

{قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)}

الشرح: {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ} أي: يخافون الله، ويراقبونه، وهما: يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا على المعتمد. {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا} أي: بالعصمة، والإيمان، فكتما ما اطّلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى، عليه السلام، بخلاف بقية النّقباء، فإنّهم أفشوا، فجبنوا.

وقال البيضاوي تبعا للكشّاف: وقيل: كانا رجلين من الجبابرة أسلما، وسارا إلى موسى. فعلى هذا «الواو» لبني إسرائيل، والرّاجع إلى الموصول محذوف، أي: من الذين يخافهم بنو إسرائيل، ويشهد له: أنّه قرئ: «(الذين يخافون)» بالضمّ، أي: المخوفين وعلى المعنى الأوّل يكون هذا من الإخافة؛ أي: من الذين يخوّفون من الله بالتّذكير، أو يخوّفهم الوعيد. انتهى.

{أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا:} بالإيمان، واليقين، والصّلاح. {اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ} باب قريتهم، أي: باغتوهم، وامنعوهم من الخروج إلى الصّحراء لئلا يجدوا للحرب مجالا. بخلاف ما إذا دخلتم عليهم الأبواب، فإنّهم لا يقدرون فيها على الكرّ، والفرّ لعظم أجسامهم، ولا يهولنّكم عظم أجسامهم، فقلوبهم ملئت رعبا منكم، فأجسامهم عظيمة، وقلوبهم ضعيفة جبانة. {فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ:} قالا ذلك تيقّنا بنصر الله، وإنجاز وعده، ولما عهداه من صنع الله بموسى، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

{وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا..} . إلخ: أي: اعتمدوا على الله، وثقوا بنصره بعد الأخذ بأسباب النصر، من تضحية، وبذل مال، ونفس في سبيل الله. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} بالله، وبنبوّة موسى. فلمّا قال الرجلان ذلك؛ أراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة، وعصوا أمرهما، وقالوا ما أخبر الله عنهم بالآية التالية:

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض. {رَجُلانِ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنّه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِنَ الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {رَجُلانِ} . {يَخافُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومفعوله محذوف. انظر الشرح، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {أَنْعَمَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {عَلَيْهِمَا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل:{رَجُلانِ،} أو في محل نصب حال منهما بعد وصفهما بما تقدّم، أو هي حال من الواو، وهو ضعيف، ويجب تقدير «قد» قبلها على اعتبارها حالا، أو هي معترضة بين القول ومقوله على اعتبارها دعائية إنشائية، قاله ابن هشام

ص: 71

-رحمه الله تعالى-: ويضعف من حيث المعنى أن تكون حالا، ولا يضعف في الصناعة لوصفها بالظرف.

{اُدْخُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْبابَ:} انظر: {الْأَرْضَ} في الآية [21]، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، وفيه معنى الشرط، واختلف في ناصبها، فقيل:

بالجواب. واعترض بأن الجواب قد يقترن بالفاء، وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها. وقيل:

بالشرط. واعترض أيضا بأنّها مضافة للشرط، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، وأجيب عن هذا الاعتراض بأنّ القائلين: إنّ الناصب هو الشرط، لا يقولون بإضافة:«إذا» إليه، فلذا كان الثاني أرجح، وإن كان الأول أشهر، فقول بعض المعربين: خافض لشرطه، منصوب بجوابه جرى على غير الرّاجح، ولذا كانت عبارة سيبويه-رحمه الله تعالى-:(خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك) محتملة لما تريد من احتمالات، لذا فقد ذكرتها كلّما عرضت «إذا» إليّ.

{دَخَلْتُمُوهُ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولّدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المرجوح المشهور. {فَإِنَّكُمْ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (إنكم):

حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {غالِبُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية جواب (إذا) لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.

{وَعَلَى:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (على الله): متعلقان بالفعل بعدهما.

{فَتَوَكَّلُوا:} الفاء: حرف صلة. (توكلوا): فعل أمر، وفاعله، والألف للتفريق. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء:

اسمه. {مُؤْمِنِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، وجملة:{وَعَلَى اللهِ..} . إلخ معطوفة على جملة: {اُدْخُلُوا..} . إلخ فهي في محل نصب مقول القول مثلها، والاستئناف ممكن.

{قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)}

الشرح: {قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها:} انظر الآية رقم [22]. {أَبَداً ما دامُوا فِيها} وهذا عناد شديد، ونكول عن الجهاد، ومخالفة ظاهرة لأمر الله، وأمر موسى، على نبينا، وحبيبنا،

ص: 72

وعليه ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ و «الأبد» عبارة عن الزمان الطويل؛ الذي لا انقطاع له، ولا يتجزأ مثل غيره من الأزمنة؛ لأنّه لا يقال: أبد كذا، كما يقال: زمن كذا، فإذا قلت: لا أكلمك أبدا، فالأبد من وقت التكلم إلى آخر العمر.

{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ:} وصفوا الله بالذّهاب، والانتقال، والله متعال عن ذلك. {إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ:} قالوا ذلك استهانة، واستخفافا بالله، وبنبيّه موسى، عليه السلام. ولا وجه لما قيل:

إنّ المراد ب: (ربّك): أخوك، وهو هارون؛ لأنّه كان أكبر من موسى، وكان موسى يطيعه.

وقال النسفي: من العلماء من حمله على الظّاهر، وقال: إنّه كفر منهم، وليس كذلك؛ إذ لو قالوا ذلك اعتقادا، وكفرا به؛ لحاربهم موسى، ولم تكن مقاتلة الجبّارين أولى من مقاتلة هؤلاء، ولكن الوجه فيه أن يقال: اذهب أنت وربك يعينك على قتالهم، قال الخازن: لكن قوله: فقاتلا يفسد هذا التأويل، والأصح: أنّهم قالوا ذلك جهلا منهم بالله، وبصفاته، ومنه قوله تعالى:{وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .

تنبيه: ما أكبر الفارق بين أصحاب موسى، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم يوم بدر حين استشارهم في قتال النّفير، فتكلّم أبو بكر-رضي الله عنه-فأحسن، ثمّ تكلّم من تكلّم من الصحابة من المهاجرين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«أشيروا عليّ أيّها النّاس» وما يقول ذلك إلا يستعلم به ما عند الأنصار؛ لأنّهم كانوا جمهور الناس يومئذ، فقال سعد بن معاذ-رضي الله عنه: كأنّك تعرض بنا يا رسول الله! فو الذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته؛ لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، وإنّا لصبر في الحرب، صدق في اللّقاء، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله! فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد-رضي الله عنه، ونشّطه ذلك. وممّن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي-رضي الله عنه، كما قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحبّ إليّ مما عدل به: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو على المشركين يوم بدر، فقال: يا رسول الله! إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:

{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ} ولكن امض، ونحن معك، نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك. فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق لذلك، وسرّه ذلك. أخرجه البخاري.

الإعراب: {قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [24]، {أَبَداً:} ظرف زمان متعلّق بالفعل قبله. {ما:} ظرفية مصدرية. {دامُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: «دام» التقدير: ما داموا موجودين فيها، و {ما} والفعل:(دام) في تأويل مصدر في محل نصب على الظرفية الزمانية،

ص: 73

وهو بدل من: {أَبَداً} بدل بعض من كل، والكلام كلّه في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب. {فَاذْهَبْ:} الفاء: صلة، أو هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدّر. (اذهب): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَنْتَ:} ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد للضمير المستتر. {وَرَبُّكَ:} معطوف على الضمير، وجاز ذلك للتأكيد بالضمير المنفصل، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز]

وإن على ضمير رفع متّصل

عطفت فافصل بالضّمير المنفصل

وقد نقل الجمل عن السّمين ثلاثة وجوه أخرى في إعرابه، لا داعي لها، وهو تكلّف.

ومثل هذه قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [35]: {اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} . والجملة الفعلية:

(اذهب) في محل نصب مقول القول، وعلى اعتبار الفاء الفصيحة فلا محلّ لها؛ لأنّها جواب لشرط محذوف، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا منّا؛ فاذهب، والكلام كله في محل نصب مقول القول، والأول أولى؛ لأنّه لا يحوج إلى تقدير محذوف. {فَقاتِلا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والألف فاعله، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {هاهُنا:} الهاء: حرف تنبيه لا محلّ له. (هنا): اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلّق بما بعده. {قاعِدُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وهي مفيدة للتّعليل.

{قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)}

الشرح: {قالَ رَبِّ..} . إلخ: لمّا نكل بنو إسرائيل عن القتال مع موسى غضب عليهم، وقال داعيا متوسلا ضارعا:{رَبِّ إِنِّي..} . إلخ. {فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} أي: افصل، وقيل: احكم، ومن الأوّل قول الشّاعر:[الرجز]

يا ربّ فافرق بينه وبيني

أشدّ ما فرقت بين اثنين

{الْفاسِقِينَ:} جمع فاسق، وهو الخارج عن حدّ الإيمان. وأصل الفسوق: الخروج عن حدّ القصد. والفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله تعالى بارتكاب المعاصي، وله ثلاث درجات: الأول: التغابي، وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إيّاها، والثانية: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها، والثالثة: الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا إيّاها. فإذا

ص: 74

شارف هذا المقام، وتخطّى خططه؛ خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر، وما دام في درجة التّغابي، أو الانهماك؛ فلا يسلب عنه اسم المؤمن؛ لاتصافه بالتّصديق؛ الذي هو مسمّى الإيمان. انتهى. بيضاوي.

تنبيه: توجّه موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-إلى ربه بهذا الكلام، باثّا حزنه إليه تعالى لمّا خالفه قومه، ولم يبق معه موافق يثق به إلا هارون أخوه، والرّجلان المذكوران، وإن كانا يوافقانه، ولكنّه لم يثق بهما؛ لما رأى من فسوق قومه، وعصيانهم لأوامر الله تعالى. وقيل: يجوز أن يراد بأخي من يؤاخيني في الدّين، فيدخلان حينئذ، وشكواه ممزوجة برقة القلب، والأسف الشديد. بمثل ذلك يستجاب الدّعاء، وتستجلب الرّحمة، وتستنزل النّصرة، ولذا غضب الله على بني إسرائيل، وفعل بهم ما تراه في الآية التالية.

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {رَبِّ:} منادى حذف منه حرف النداء، وانظر ما يجوز فيه من أوجه الإعراب في الآية رقم [20]. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه. {لا:} نافية. {أَمْلِكُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره: أنا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {نَفْسِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلم في محلّ جر بالإضافة. {وَأَخِي:} ذكر فيه الجمل نقلا عن السمين ستة أوجه: أظهرها: أنّه منصوب عطفا على: {نَفْسِي} . الثاني: أنّه منصوب عطفا على اسم: (إنّ) وخبره محذوف أيضا، والرابع: أنّه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف للدلالة المتقدّمة، ويكون قد عطف جملة اسمية غير مؤكدة على جملة اسمية مؤكدة ب:(إنّ). الخامس: أنّه مرفوع عطفا على الضمير المستتر في الفعل قبله، التقدير: ولا يملك أخي إلا نفسه، وجاز ذلك للفصل.

السادس: أنّه مجرور عطفا على ياء المتكلم، وهو جائز على مذهب الكوفيين، وغير جائز على مذهب البصريين للعطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. انتهى بتصرّف منّي. هذا؛ وقد زاد ابن هشام في شذور الذهب وجوها أخر ضعيفة، أوصلها إلى أحد عشر.

{فَافْرُقْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن شرط مقدّر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا منهم؛ فافرق

إلخ. (افرق): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و (نا) في محل جر بالإضافة والجملة الفعلية لا محلّ لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء، والكلام كلّه في محل نصب مقول القول. {وَبَيْنَ:} معطوف على ما قبله، وهو مضاف، و {الْقَوْمِ:} مضاف إليه. {الْفاسِقِينَ:} صفة {الْقَوْمِ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

ص: 75

{قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)}

الشرح: {قالَ} الله عز وجل: {فَإِنَّها} أي: الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} . {أَرْبَعِينَ سَنَةً:} ظرف زمان، فإن علّق ب:{مُحَرَّمَةٌ} كان التحريم موقتا بهذه المدّة غير مؤبّد، ويؤيد ذلك ما روي: أنّ موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-سار بعدها بمن بقي معه من بني إسرائيل، ففتح أريحا، وأقام فيها ما شاء الله، ثمّ قبض. وقيل: إنّه قبض في التّيه، ولما احتضر؛ أخبرهم بأنّ يوشع بعده نبيّ، وأنّ الله أمره بقتال الجبّارين، فسار يوشع بهم، وقتل الجبابرة، وصار الشّام كله لبني إسرائيل. وإن علق الظرف بالفعل:{يَتِيهُونَ} أي: يسيرون فيها متحيرين، لا يرون طريقا، ولا يعرفون أين يسيرون، فيكون التحريم مطلقا. روي: أنّه لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممّن قال: {إِنّا لَنْ نَدْخُلَها} . بل هلكوا جميعا في التيه. هذا؛ والتّحريم المذكور تحريم منع، لا تحريم شرع. قاله أكثر المفسّرين، ومنه قول امرئ القيس-وهو الشاهد رقم [1155] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الكامل]

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري

إنّي امرؤ صرعي عليك حرام

ف: «حرام» بكسر الميم، انظر كتابنا المذكور لتعرف لماذا كسرت الميم؟ وأصل التيه في اللغة: الحيرة، يقال منه: تاه، يتيه، تيها، وتوها، إذا تحيّر، والأرض التيهاء: التي لا يهتدى فيها. قال الشاعر: [الطويل]

بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

{فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} أي: لا تأسف، ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به، فإنّهم مستحقون ذلك، ففيه تسلية لموسى-عليه السلام-لمّا ندم على الدّعاء عليهم، وبيّن: أنّهم أحقاء بذلك العذاب لفسقهم، ولم يقل:«فلا تأس عليهم» وإنّما وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بشدّة الفسوق، ورسوخه في قلوبهم و «الأسى»: الحزن، وأسي، يأسى، أسى، أي: حزن. قال امرؤ القيس في معلّقته: [الطويل]

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

وشرح التيه: أنّهم لبثوا أربعين سنة في تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا، وكانوا ستمائة ألف مقاتل، وكانوا يسيرون من الصّباح إلى المساء، فإذا هم في المكان الذي ارتحلوا عنه، ويسيرون من المساء إلى الصباح فإذا هم في المكان نفسه، وكان ذلك عقوبة لبني إسرائيل، ما خلا موسى. وهارون، ويوشع، وكالب، فإنّ الله سهّله عليهم، وأعانهم عليه، كما سهّل النار على

ص: 76

إبراهيم، وجعلها عليه بردا، وسلاما. وبقاء هذا الجمع العظيم في هذه المساحة من الأرض مدّة أربعين سنة، بحيث لم يخرج منهم أحد، إنّما هو من باب خرق العادة، وهو في زمن الأنبياء غير مستبعد.

ولمّا آذاهم حرّ الشمس؛ أرسل الله عليهم الغمام يظلّهم في النهار، وأرسل عمودا من نور يطلع في الليل، فيضيء لهم طريقهم، وكان طعامهم من المنّ، والسلوى، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [57] مذكّرا الأبناء بنعمه على الآباء:{وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى} . وكان ماؤهم من الحجر الّذي يحملونه، فيضربه موسى بعصاه، فينفجر منه اثنتا عشرة عينا، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [60]:{وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ..} . إلخ، ومثلها في الأعراف رقم [160]، ولكن نفوسهم الخبيثة كرهت المنّ، والسّلوى، وطلبوا الثّوم، والبصل، وغيرهما، وقد قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [61]:{وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ..} . إلخ. هذا؛ وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم دائمة، فينشأ الناشئ منهم فتكون معه على مقدار هيئته، ولا تبلى حتّى يموت.

تنبيه: توفي هارون عليه السلام في التيه قبل موسى، ولم يره بنو إسرائيل، فقالوا لموسى:

أنت قتلته لحبّنا إيّاه، وكان عليه السلام رفيقا لطيفا بهم، فقال موسى: ويحكم إنّ هارون أخي، أفتروني أنّي أقتله؟! فلما أكثروا عليه؛ قام فصلى ركعتين، ثمّ دعا الله-عز وجل-فرفعت الملائكة سرير هارون بأمر الله عز وجل؛ حتى مروا به على بني إسرائيل، وتكلّمت الملائكة بموته، فصدقت بنو إسرائيل: أنّه مات. وبرّأ الله موسى ممّا قالوه، ثمّ إنّ الملائكة حملوه، ودفنوه، ولم يطّلع على موضع قبره أحد.

وفي رواية أخرى: أوحى الله إلى موسى أن انطلق بهم إلى قبره فإنّي باعثه؛ حتى يخبرهم:

أنّه مات موتا، ولم تقتله. فانطلق بهم إلى قبره، فنادى: يا هارون! فخرج من قبره ينفض رأسه، فقال: أنا قتلتك؟! قال: لا، ولكنّي متّ، قال: فعد إلى مضجعك. وانصرف.

وأمّا موسى-عليه السلام، فقال ابن إسحاق: كان صفيّ الله موسى-عليه السلام-قد كره الموت، وأعظمه، فأراد الله أن يحبب إليه الموت، فنبأ يوشع بن نون، فكان موسى يغدو، ويروح إليه، ويقول له: يا نبيّ الله! ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع: يا نبيّ الله ألم أصحبك كذا، وكذا سنة؟ فهل كنت أسألك عن شيء ممّا أحدث الله إليك حتى كنت أنت تبتدئ به، وتذكره لي؟ ولا يذكر له شيئا، فلمّا رأى موسى ذلك كره الحياة، وأحبّ الموت. وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسل ملك الموت إلى موسى، عليه الصلاة والسلام، فلمّا جاءه صكّه، ففقأ عينه، فرجع إلى ربّه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فردّ الله إليه عينه، وقال: ارجع إليه، فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما

ص: 77

غطّت يده بكلّ شعرة سنة، قال: أي ربّ! ثمّ مه؟ قال: ثمّ الموت، قال: فالآن». فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فلو كنت ثمّ لأريتكم قبره إلى جانب الطّريق تحت الكثيب الأحمر» . أخرجه مسلم.

واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت، وفقئها على أقوال كثيرة، والصّحيح من هذه الأقوال: أنّ موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-عرف ملك الموت، وأنّه جاءه ليقبض روحه، لكنه جاء مجيء الجازم بأنّه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نصّ عليه نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم من أنّ الله لا يقبض روح نبيّ حتى يخيّره، فلمّا جاء على غير هذا الوجه الذي أعلم؛ بادر بشهامته، وقوّة نفسه إلى أدبه، فلطمه، ففقأ عينه امتحانا لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتّخيير، وممّا يدل على صحة هذا: أنّه لما رجع ملك الموت، فخيره بين الحياة والموت؛ اختار الموت، واستسلم. والله بغيبه أحكم، وأعلم، هذا أصحّ ما قيل في وفاة موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا، وأخبارا الله أعلم بصحّتها، وفي الصحيح غنية عنها، وكان عمره مائة وعشرين سنة يوم توفي.

خاتمة: بعد وفاة موسى، وهارون في التيه على المعتمد تولى يوشع-عليه السلام-أمر بني إسرائيل؛ لأنّ الله منحه النبوة، والرسالة، فلمّا انقضت الأربعون سنة أخبرهم أنّ الله عز وجل قد أمره بقتال الجبّارين، فصدّقوه، وتابعوه، فتوجه بهم إلى مدينة الجبّارين، وهي أريحا، وقيل:

بيت المقدس، فحاصرها حتى فتحها، وكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، وبقيت من الجبّارين بقيّة، وكادت الشمس أن تغرب، وخشي دخول السّبت عليهم، فقال مخاطبا الشمس: إنّك مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ! فحبسها الله؛ حتّى فتحها، وأمره الله أن يأمر بني إسرائيل أن يدخلوا باب المدينة المفتوحة سجّدا، وأن يقولوا: حطّة، أي: حطّ عنا يا ربنا ذنوبنا. فبدّلوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون: حبّة في شعرة. انظر الآيتين [58 و 59] من سورة (البقرة)، والآيتين رقم [161 و 162] من سورة (الأعراف)، حيث انتقم الله منهم، وإذا عرفت: أنّ الذين كانوا مع يوشع عليه السلام هم أبناء الذين خالفوا أمر موسى عليه السلام، وتاهوا؛ عرفت الخبث، واللّؤم المتأصّل في اليهود.

والحكمة في حبس الشمس على يوشع-عليه السلام-عند قتاله الجبّارين، وإشرافه على فتح المدينة المذكورة عشيّ يوم الجمعة، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح: أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السّبت، ويعلم به عدوهم فيعمل بهم السّيف، ويجتاحهم، فكان ذلك آية خصّ بها بعد أن كانت نبوّته ثابتة بخبر موسى، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام.

ص: 78

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل تقديره:«هو» ، يعود إلى (الله). {فَإِنَّها:} الفاء:

حرف صلة، أو هي الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدّر. التقدير: إذا كان هذا فعلهم؛ فإنّها

إلخ. (إنّها): حرف مشبه بالفعل. و (ها): اسمها. {مُحَرَّمَةٌ:} خبر (إنّ). {عَلَيْهِمْ:}

جار ومجرور متعلقان ب: {مُحَرَّمَةٌ} وهما في محل رفع نائب فاعله. {أَرْبَعِينَ:} ظرف زمان متعلق ب {مُحَرَّمَةٌ،} أو بالفعل بعده على نحو ما رأيت في التفسير، منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{سَنَةً:} تمييز، والكلام كلّه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {يَتِيهُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب:(على) على تعليق الظرف ب: {مُحَرَّمَةٌ:} ومستأنفة لا محلّ لها على تعليق الظرف بالفعل:

{يَتِيهُونَ} . {فَلا:} الفاء: حرف استئناف. (لا): ناهية جازمة. {تَأْسَ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف المقصورة، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {عَلَى الْقَوْمِ:}

متعلقان بما قبلهما. {الْفاسِقِينَ:} صفة القوم.

{وَاُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)}

الشرح: المناسبة: لمّا ذكر الله تعالى تمرّد بني إسرائيل، وعصيانهم لأمر الله في قتال الجبّارين؛ ذكر قصّة ابني آدم، وعصيان قابيل لأمر الله، وإقدامه على قتل النّفس البريئة؛ الّتي حرّمها الله، فاليهود اقتدوا في العصيان بأول عاص لله في الأرض، فطبيعة الشرّ، والفساد فيهم مستقاة من ولد آدم الأوّل، فتشابهت القصتان من حيث التمرّد، والعصيان. ثم ذكر الله تعالى عقوبة قطاع الطّريق، والسّرّاق الخارجين على أمن الدولة، والمفسدين في الأرض فيما يأتي من الآيات.

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أي: اقرأ على أهل الكتاب الحاسدين لك. {نَبَأَ:} خبر. {اِبْنَيْ آدَمَ:} هما:

هابيل، وقابيل. و {آدَمَ:} اسم علم أعجمي مشتق من الأدمة بمعنى الأسوة، أو من أديم الأرض، أي من وجهها وترابها، أو من الأدمة بمعنى الألفة، قال سعيد بن جبير-رضي الله عنه:

إنّما سمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض، وإنّما سمي إنسانا؛ لأنّه نسي، وكنيته في الجنة أبو محمد وفي الأرض أبو البشر. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [30] سورة (البقرة) وما بعدها.

وأصله أأدم بهمزتين، قلبت الثانية مدّا مجانسا لحركة الأولى، كما قلبت في: إيمان، فإنّ أصله: إئمان، وكما قلبت في: أومن فإن أصله: أأمن.

ص: 79

هذا؛ و (الحق) ضدّ الباطل، قال الرّاغب-رحمه الله تعالى-: أصل الحق: المطابقة، والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقّه لدورانه على الاستقامة، و (الحقّ) يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة. ذلك؛ ويقال: فعل الله كلّه حق، نحو: الموت حقّ، والحساب حقّ، والجزاء حق

إلخ، ويقال للاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشّيء في نفسه، نحو: اعتقاد زيد في الجنة حقّ. وللفعل، والقول الواقعين بحسب ما يجب، وقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، نحو: قولك حقّ، وفعلك حق، ويقال: أحققت ذا؛ أي: أثبته حقا، أو حكمت بكونه حقّا. انتهى. بغدادي.

{قُرْباناً:} هو اسم لما يتقرّب به إلى الله تعالى، من ذبيحة، أو صدقة، أو صوم

إلخ، وقيل: هو مصدر، ولذا فإنّه لم يثنّ، أي: لم يقل: قربانين؛ مع كونهما اثنين. {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما:} وهو هابيل، وانظر شرح (أحد) في الآية رقم [152] من سورة (النساء)، فرفع قربان هابيل إلى الجنة، فلم يزل فيها إلى أن فدي به الذّبيح إسماعيل عليه السلام. {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ:} هو قابيل. {قالَ:} أي: قابيل. {لَأَقْتُلَنَّكَ:} توعّد أخاه هابيل بالقتل لفرط حسده على تقبّل قربانه. {قالَ} أي: هابيل. {إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي: تقبل الله قرباني لحسن نيّتي، وتقواي. وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه؛ لخبث نيّته، وسوء فعله.

تنبيه: روي: أنّ حوّاء-عليها السلام-كانت تلد لآدم-عليه السلام-بعد هبوطها من الجنة في كل بطن غلاما، وجارية إلا «شيثا» عليه السلام، فإنّها وضعته مفردا عوضا عن هابيل بعد قتله، وجملة أولادهما تسعة وثلاثون في عشرين بطنا، عشرون من الذكور، وتسعة عشر من الإناث أوّلهم قابيل، وتوأمته إقليما، وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث، ثم بارك الله في نسل آدم، فلم يمت؛ حتى رأى ولده، وولد ولده قد بلغوا أربعين ألفا، وكان إذا كبر أولاده؛ زوّج غلام هذا البطن جارية البطن الآخر؛ لأنّه لم يكن نساء إلا أخواتهم، واستمرّ ذلك حتّى عهد نوح، عليه الصّلاة، والسّلام، فنسخ ذلك بتحريم الأخت مطلقا.

فلمّا كبر قابيل، وهابيل، وكان الأوّل أكبر من الثاني بسنتين أمر آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل، وأن يزوج هابيل إقليما أخت قابيل، وكانت أجمل من لبودا، فذكر آدم ذلك لهما، فرضي هابيل، وسخط قابيل، وقال: هي أختي، وأنا أحق بها، فقال له أبوه: إنّها لا تحلّ لك.

فأبى، وقال: إن الله لم يأمرك بهذا، وإنّما هو رأيك، فقال لهما: قربا لله قربانا، فأيكما تقبّل قربانه؛ فهو أحق بها، وكانت القرابين إذا قبلت؛ نزلت نار بيضاء من السماء فأكلتها، وإن لم تكن مقبولة؛ لم تنزل النار، بل تأكلها الطيور، والسباع، فخرجا من عند آدم؛ ليقربا القربان، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب صبرة من طعام رديء، وأضمر في نفسه: لا أبالي: قبل، أم لم يقبل؟ لا يتزوج أختي أحد غيري، وكان هابيل صاحب غنم، فعمد إلى أحسن كبش في غنمه،

ص: 80

وأضمر في نفسه ابتغاء مرضاة الله، فوضعا قربانيهما على جبل، ثمّ دعا آدم، فنزلت نار من السّماء، فأكلت قربان هابيل، فغضب قابيل، وأضمر الشرّ في نفسه إلى أن حجّ آدم كعبة الله في مكة المكرمة، فأتى هابيل، وهو في غنمه، وقال: لأقتلنّك؛ لأنّ الله تقبّل قربانك، وردّ قرباني، فقال هابيل: وما ذنبي إنّما يتقبل الله من المتّقين

إلخ.

قال المرحوم عبد الوهاب النجار في كتابه: (قصص الأنبياء): وبجبل قاسيون شمالي دمشق مغارة الدّم، مشهورة بأنّها المكان الذي قتل قابيل أخاه هابيل عنده، ثم قال: وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير، غير الحافظ: أنّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وهابيل، أي: في المنام، وأنّه استحلف هابيل: أنّ هذا دمه، فحلف له، وذكر: أنّه سأل الله تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدّعاء، فأجابه إلى ذلك، وصدقه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إنّه، وأبا بكر، وعمر يزورون هذا المكان كلّ خميس، والله أعلم.

أقول: قد زرت ذلك المكان في عام (1958 م) ورأيت الدم لا يزال متجمّدا على الصخرة ماثلا يشاهد بالعين الباصرة بلا ريب، ولا خفاء. والله أعلم بحقيقة الأمر، وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [190] من سورة (الأعراف) فإنّه جيد، والحمد لله!

تنبيه: ذكر الله هذه الحادثة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقال له: اقرأها على اليهود اللّؤماء، وذلك كبرهان قاطع على صحّة نبوّته؛ لأنّه لم يكن يعرف القراءة، والكتابة، وقد أتى بأخبار الأوّلين، وهذا غيض من فيض، ومن قرأ القرآن، وتدبّره يجد الكثير من ذلك موجودا بين دفتيه، وهذه الحادثة مذكورة في التّوراة بكاملها، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَاتْلُ:} الواو: حرف عطف. (اتل): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره. وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنت.

{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما في الآية رقم [20] وما بعدها؛ لأنّ الواو عاطفة حادثة على حادثة. {نَبَأَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اِبْنَيْ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه مثنّى، وحذفت النون للإضافة، و {اِبْنَيْ:} مضاف، و {آدَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {بِالْحَقِّ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف حال من: {نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} أي: ملتبسا بالحقّ، وقيل: من الضمير المستتر بالفعل، والأوّل أقوى. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {نَبَأَ،} أو بمحذوف حال منه، وتعليقه بالفعل:(اتل) لا بأس به. {قَرَّبا:} فعل ماض مبني على الفتح، وألف الاثنين فاعله. {قُرْباناً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها.

{فَتُقُبِّلَ:} الفاء: حرف عطف. (تقبّل): فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى القربان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جرّ مثلها. {مِنْ أَحَدِهِما:}

ص: 81

متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية.

{وَلَمْ:} الواو: حرف عطف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُتَقَبَّلْ:} فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم ب: (لم) ونائب الفاعل يعود إلى القربان. {مِنَ الْآخَرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى قابيل تقديره: هو. {لَأَقْتُلَنَّكَ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف تقديره: والله، وهذا الجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره:

أقسم بالله. (أقتلنك): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ الّتي هي حرف لا محلّ له، والفاعل مستتر تقديره: أنا، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم المقدّر، لا محلّ لها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى هابيل، تقديره:«هو» . {إِنَّما:}

كافة، ومكفوفة. {يَتَقَبَّلُ اللهُ:} مضارع وفاعله، ومفعوله محذوف؛ أي: يتقبّل الله القربان.

{مِنَ الْمُتَّقِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما والجملة الفعلية: {إِنَّما يَتَقَبَّلُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها؛ لأنّها بمنزلة جواب لسؤال مقدّر كالتي قبلها.

{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28)}

الشرح: {لَئِنْ بَسَطْتَ..} . إلخ؛ أي: لئن قصدت قتلي؛ فأنا لا أقصد قتلك؛ فهذا استسلام من هابيل، عليه السلام، فبسط اليد كناية عن البطش، والفتك، انظر الآية رقم [11]، وفي الخبر:

«إذا كانت الفتنة؛ فكن خير ابني آدم» . وروى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:

قلت: يا رسول الله! إن دخل عليّ بيتي، وبسط يده إليّ؛ ليقتلني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كن كخير ابني آدم» وتلا هذه الآية، وقال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-وجمهور الناس: كان هابيل أشدّ قوة من قابيل، ولكنّه تحرّج. قال ابن عطية: وهذا هو الأظهر، ونحو هذا فعل عثمان-رضي الله عنه-حين حصره المجرمون، وعرض عليه عليّ، وجماعة من الصّحابة المناصرة، ولكنّه أبى، قال أيوب السّختياني: إنّ أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمّة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وروي: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» .

الإعراب: {لَئِنْ:} اللام: موطئة لقسم محذوف، التقدير: والله. (إن): حرف شرط جازم.

{بَسَطْتَ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {إِلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {يَدَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {لِتَقْتُلَنِي:} فعل

ص: 82

مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره: أنت، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل {بَسَطْتَ} .

{ما:} نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محلّ رفع اسمها. {بِباسِطٍ:} حرف جر صلة. (باسط): خبر: {ما} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفاعله مستتر تقديره:

أنا. {يَدِيَ:} مفعول به ل: (باسط) منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: (باسط)، والجملة الاسمية:{ما أَنَا..} . إلخ جواب القسم لا محلّ لها، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والكلام: {لَئِنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول؛ لأنّه من قول هابيل.

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه. {أَخافُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره: أنا. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {رَبَّ:} صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه، و {رَبَّ:} مضاف، و {الْعالَمِينَ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وعلامة الجر الياء

إلخ. وجملة: {أَخافُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وهي مفيدة للتّعليل.

{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ (29)}

الشرح: {إِنِّي أُرِيدُ..} . إلخ: المعنى: إن أردت قتلي؛ فأنا لا أريد قتلك؛ لأنّي أريد أن تحمل وزري؛ إن قتلتني. وهذا يعضده قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يوم القيامة بالظّالم، والمظلوم، فيؤخذ من حسنات الظّالم، فتزاد في حسنات المظلوم؛ حتّى ينتصف، فإن لم تكن له حسنات؛ أخذ من سيّئات المظلوم، فتطرح عليه» . أخرجه مسلم بمعناه، ويعضده قوله تعالى في سورة (العنكبوت):{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ} . وحديث: «أتدرون من المفلس؟» مشهور مسطور. {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ} أي: من المخلّدين فيها، الملازمين لها. {وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: خوّفه بالنار، فلم ينته، ولم ينزجر.

ص: 83

هذا؛ و {تَبُوءَ:} ترجع، وتنقلب، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة:{فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ،} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سيد الاستغفار. «أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي» أي: أعترف بنعمتك عليّ، وأرجع بذنبي إليك؛ لتغفره لي. وأصله في اللغة: الرّجوع، ومثله:

«آب» بتقديم الهمزة على الباء، قال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلّقته [65]:[الوافر]

فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا

{بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ:} انظر الآية رقم [2]. أمّا {أَصْحابِ} فإنّه جمع: صاحب، ويكون بمعنى المالك كما هنا، ويكون بمعنى الصّديق، ويجمع على: صحب، وصحاب، وصحابة، وصحبة، وصحبان، ثمّ يجمع أصحاب على: أصاحيب، ثم يخفّف، فيقال: أصاحب. {النّارِ:} أصلها النّور، يقال: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وهي من المؤنّث المجازي، وقد تذكّر، وتصغيرها نويرة، والجمع: أنور، ونيران، ونيرة. هذا؛ وقد جعل الله الكفار {أَصْحابِ النّارِ} بمعنى: مالكيها، لملازمتهم، وعدم انفكاكهم عنها، وقل مثله في:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ} .

هذا؛ ويكنّى بها عن جهنّم؛ التي سيعذب الله بها الكافرين، والفاسقين المفسدين يوم الدّين، كما أنّها تستعار للشدّة، والضّيق، والبلاء، قال الشاعر:[الطويل]

وألقى على قيس من النّار جذوة

شديدا عليها حرّها والتهابها

{وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ:} هذا من مقول الله تعالى، فيكون فيه وعيد، وتهديد لكلّ معتد، وظالم، وإن كان من مقول هابيل؛ ففيه وعظ مشوب بالتّهديد، والوعيد. وإنّما قال له هذا بعد أن وعظه، واستعطفه، وذكّره الله تعالى، فلم يرجع، ولم ينته، فلمّا رآه هابيل قد صمّم على القتل؛ قال له:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ..} . إلخ. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه. {أُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: أنا. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَبُوءَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} والفاعل مستتر تقديره: أنت، والمصدر المؤوّل من الفعل، وناصبه في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{أُرِيدُ..} . إلخ في محل رفع خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل آخر للنفي في الآية السابقة، وهي من مقول هابيل أيضا. {بِإِثْمِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {وَإِثْمِكَ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَتَكُونَ:} الفاء: حرف عطف. (تكون): معطوف على: {تَبُوءَ} منصوب مثله وهو مضارع ناقص، واسمه مستتر فيه وجوبا تقديره: أنت. {مِنْ أَصْحابِ:} متعلّقان بمحذوف خبر:

(تكون)، و {أَصْحابِ:} مضاف، و {النّارِ:} مضاف إليه من إضافة جمع اسم الفاعل لمفعوله،

ص: 84

وفاعله مستتر فيه. {وَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. (ذلك): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {جَزاءُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الظّالِمِينَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)}

الشرح: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ:} زينت، وسهّلت. من: طاع له المرتع: إذا اتّسع، وسهل.

وذلك: أنّ الإنسان إذا تصوّر: أنّ قتل النفس من أكبر الكبائر؛ صار ذلك صارفا له عن القتل، فإذا سهّلت عليه نفسه هذا الفعل؛ فعله بغير كلفة. وقرئ:«(فطاوعت له نفسه)» . {قَتْلَ أَخِيهِ} أي: هابيل. {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: خسر دنياه، وآخرته، أمّا دنياه؛ فأسخط والديه، وبقي بلا أخ، وأمّا آخرته فأسخط ربّه، وصار إلى النّار. وانظر (الخسران) في الآية رقم [119] من سورة (النّساء).

قال ابن جريج: لمّا قصد قابيل قتل هابيل، فلم يدر كيف يقتله؟ فتمثّل له إبليس، وقد أخذ طيرا، فوضع رأسه على حجر، ثمّ رضخه بحجر آخر، وقابيل ينظر، فعلّمه القتل، فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين؛ وهو نائم مستسلم صابر، وقيل: بل اغتاله؛ وهو نائم فقتله، وكان ابن عشرين سنة، واختلف في المكان اختلافا كثيرا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [27] واعتمده.

عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها؛ لأنّه أوّل من سنّ القتل» . أخرجه السّتّة ما عدا أبا داود، ثمّ إنّه هرب إلى أرض عدن من اليمن، فأتاه إبليس، وقال له: إنّما أكلت النّار قربان أخيك؛ لأنّه كان يعبدها، فانصب أنت نارا تكون لك، ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من عبد النّار فيما قيل، والله أعلم.

وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنّه لمّا قتل قابيل هابيل، وآدم بمكّة؛ اشتاك الشّجر، وتغيّرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبرّت الأرض، فقال آدم- على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند؛ فإذا قابيل قد قتل هابيل، وروي: أنّه لما تغيّرت الحال؛ قال: [الوافر]

تغيّرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغيّر كلّ ذي طعم ولون

وقلّ بشاشا الوجه المليح

ويروى عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّه قال: من قال: إنّ آدم قال شعرا؛ فقد كذب، وإن محمّدا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلّهم في النهي سواء. يروى: أنّ إبليس أخزاه الله جاء إلى

ص: 85

حواء مسرعا، فقال لها: يا حواء! إنّ قابيل قتل هابيل، فقالت: ويحك! وأيّ شيء يكون القتل؟ قال: لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتحرك. قالت: ذلك الموت؟ قال: فهو الموت، فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم، وهي تصيح، فقال: ما لك؟ فلم تكلّمه، ورجع إليها مرّتين، فلم تكلّمه، فقال: عليك الصّيحة وعلى بناتك، وأنا وبنيّ منها براء.

ولمّا مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة، وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين. وقيل:

بخمسين سنة، ولدت حواء له «شيثا» ، وتفسيره: هبة الله، أي: خلفا من «هابيل» فأنزل الله عليه خمسين صحيفة، وصار وصيّ آدم، ووليّ عهده، والصّحائف فيها أحكام، وعظات، وتبيين عبادات.

الإعراب: {فَطَوَّعَتْ:} الفاء: حرف عطف. (طوعت): فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محلّ له. {لَهُ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {نَفْسُهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {قَتْلَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أَخِيهِ:}

مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه من الأسماء الخمسة، والإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَقَتَلَهُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى «قابيل» والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها. (أصبح): فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى «قابيل» تقديره: هو. {مِنَ الْخاسِرِينَ:}

متعلقان بمحذوف خبر: (أصبح) والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا.

{فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ (31)}

الشرح: {فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ:} يحفر الأرض بمنقاره، ورجليه. {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي:} يدفن. {سَوْأَةَ أَخِيهِ:} جسده الميت، فإنّه يستقبح أن يرى مكشوفا متروكا في العراء. {قالَ:} أي: قابيل. {يا وَيْلَتى:} كلمة تحسر، وتلهّف، تقال عند وقوع الدّاهية العظيمة. قال الزجاج: أصلها: يا ويلتي: فأبدل من الياء ألفا؛ لأنّها أخف من الياء، والكسرة.

هذا؛ ويقرأ فيها وفي مثلها بالياء على الأصل. قال البيضاوي: أصله في الشرّ، فأطلق على كل أمر فظيع، وجاءت في سورة (هود) رقم [72] للتعجّب. {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ} يعني: مثل هذا الغراب الذي وارى الغراب الآخر في الحفرة؛ الّتي حفرها. {فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي:} أي: فأستر جثّته، وعورته عن الأعين.

ص: 86

{فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ:} يعني: على حمله، لا على قتله. وقيل: إنّه ندم على قتل أخيه؛ لأنّه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه أبواه، وإخوته، فندم لأجل ذلك، لا لأجل أنّه جنى جناية، واقترف ذنبا عظيما بقتله، فلم يكن ندمه ندم توبة، وخوف، وإشفاق من قتله، فلأجل ذلك لم ينفعه الندم. هذا؛ والغراب طائر أسود يتشاءم النّاس به. ويجمع على: أغرب، وغرب، وأغربة، وجمع الجمع: غربان.

خاتمة: قال أصحاب الأخبار: لمّا قتل قابيل أخاه هابيل؛ تركه بالعراء، ولم يدر ما يصنع به؛ لأنّه أول ميت من بني آدم، فقصدته السّباع لتأكله، فحمله على ظهره في جراب؛ حتى أنتن، فبعث الله غرابين، فاقتتلا؛ حتى قتل أحدهما الآخر، فحفر بمنقاره، ورجليه حفيرة، ثم ألقاه فيها، وواراه التراب، وقابيل ينظر، فلمّا رأى ذلك من فعل الغراب؛ قال: يا ويلتى

إلخ:

فأصبح من النادمين على حمله، لا على قتله، فلم يكن ندمه ندم توبة وخوف من فعله، فلأجل هذا لم ينفعه الندم.

وأمّا قابيل؛ فذهب طريدا شريدا، وأخذ بيد أخته إقليما، وهرب بها إلى أرض اليمن كما قدّمته، وعبد النّار، وفعلت ذريته من بعده الفواحش، والمنكرات حتى أغرقهم الله جميعا بالطّوفان في زمن نوح، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فلم يبق من ذرية قابيل أحد، وأبقى الله ذرية شيث، ونسله إلى يوم القيامة.

ولمّا مات قابيل؛ علقت إحدى رجليه بفخذه، وعلق بها، فهو معلق بها إلى يوم القيامة، وجهه إلى الشمس حيث دارت، وعليه حظيرة من نار في الصّيف، وخطيرة من ثلج في الشتاء، فهو يعذب بذلك إلى يوم القيامة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَبَعَثَ:} الفاء: حرف استئناف. (بعث الله غرابا): ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {يَبْحَثُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{غُراباً} .

{فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{غُراباً} .

{لِيُرِيَهُ:} اللام: حرف جر وتعليل. (يريه): مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} على المعتمد، وقيل: إلى (الغراب)، والهاء مفعول به أول، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبله:(بعث)، ويكون الفاعل عائدا إلى:{اللهُ،} أو بالفعل: {يَبْحَثُ} فيكون الفاعل عائدا إلى: (الغراب). {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من فاعل:

{يُوارِي} بعده، الذي هو فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى «قابيل». {سَوْأَةَ:} مفعول به، وهو مضاف. و {أَخِيهِ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{كَيْفَ يُوارِي..} . إلخ في محل نصب مفعول به ثان للفعل: (يري).

ص: 87

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى «قابيل». {يا وَيْلَتى:} (يا): حرف نداء، وندبة ينوب مناب: أدعو. (ويلتى): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، والمنقلبة ألفا في الندبة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة. وأصل النداء أن يكون لمن يعقل، وقد ينادى ما لا يعقل مجازا، والمعنى: أيها الويل احضر، فهذا أوان حضورك.

{أَعَجَزْتُ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (عجزت): فعل، وفاعل. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {أَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب: {أَنْ،} واسمه مستتر تقديره: أنا. {مِثْلَ:}

خبر {أَكُونَ} و {مِثْلَ:} مضاف، واسم الإشارة:{هذَا} مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والهاء حرف تنبيه لا محلّ له، أو عطف بيان له، وبعضهم يعتبره نعتا له، و {أَنْ} و {أَكُونَ} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هو منصوب بنزع الخافض.

{فَأُوارِيَ:} الفاء: حرف عطف. (أواري): معطوف على: (أكون) منصوب مثله، وقيل:

الفاء للسببية، والفعل منصوب ب:«أن» مضمرة بعدها، ولا وجه له، والفاعل مستتر تقديره: أنا.

{سَوْأَةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أَخِي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والكلام:{يا وَيْلَتى..} . إلخ كلّه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ:} انظر مثلها في الآية السابقة، وهي معطوفة على جملة: (بعث الله

) إلخ. أو هي مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين.

{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}

الشرح: المناسبة بين هذه الآية وبين ما تقدّم تتجلّى فيما يلي: إنّ اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة في الزّجر عن قتل النّفس؛ أقدموا على قتل الأنبياء، والرّسل، وذلك يدلّ على قساوة قلوبهم، وبعدهم عن الله، عز وجل. ولمّا كان الغرض من ذكر هذه القصّة-أي:

المتقدمة-تسلية النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ما أقدم عليه اليهود من الفتك به، وبأصحابه؛ فتخصيص بني إسرائيل بالذّكر في هذه الآية مناسب للكلام السّابق، وتوكيد للمقصود. والله أعلم. انتهى.

خازن. بتصرف.

ص: 88

{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ:} أي: من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلما، وعدوانا، وبسبب جنايته عليه.

{كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ} أي: شرعنا لهم، وفرضنا عليهم، وأعلمناهم، وتخصيص بني إسرائيل بالذّكر، وقد تقدّمتهم أمم قبلهم؛ كان قتل النفس فيهم محظورا؛ لأنّهم أوّل أمّة نزل الوعيد عليهم في قتل النّفس مكتوبا في التّوراة، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، فغلّظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم، وسفكهم الدّماء.

{أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ..} . إلخ: أي: من قتل نفسا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحلّ قتلها بلا سبب، ولا جناية فكأنّما قتل الناس جميعا. وفي تأويل ذلك أقوال كثيرة، فروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّه قال: المعنى: من قتل نبيّا، أو إمام عدل، فكأنّما قتل الناس جميعا، ومن أحياه بأن شدّ عضده، ونصره؛ فكأنّما أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا: أنّه قال: المعنى: من قتل نفسا واحدة، وانتهك حرمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعا. ومن ترك نفسا واحدة، وصان حرمتها، واستحياها خوفا من الله؛ فهو كمن أحيا النّاس جميعا. وبالجملة: فقد حرّم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بظلم، وعدوان. وهذا صريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثّيّب الزّاني، والنّفس بالنّفس، والتّارك لدينه، المفارق للجماعة» . أخرجه الخمسة ما عدا ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.

قال سعيد بن جبير-رضي الله عنه: من استحلّ دم مسلم؛ فكأنّما استحلّ دماء الناس جميعا، ومن حرّم دم مسلم؛ فكأنّما حرّم دماء الناس جميعا. والأقوال في ذلك كثيرة، وأكتفي بهذا. هذا؛ و «الإحياء» يكون بسبب عفو، أو منع من قتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة، كغرق، وحرق

إلخ؛ فكأنّما فعل ذلك بالناس جميعا، والمقصود تهويل أمر القتل، وتفخيم شأن الإحياء. هذا؛ وبين:{قَتَلَ} و {أَحْيَا} طباق وهو من المحسّنات البديعيّة.

{وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ} أي: بالبراهين السّاطعة، والحجج الدّامغة، والدّلائل الواضحة. {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ} أي: من اليهود. {بَعْدَ ذلِكَ:} أي: بعد مجيء الرّسل.

{فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ:} متجاوزون حدود الله. وإنّما قال تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ} لأنّه تعالى علم أنّ منهم من يؤمن بالله ورسوله، وهم قليل من كثير، كعبد الله بن سلام، وأصحابه. وفيه تقريع لهم، وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، وما أكثر ما وبّخهم الله، وقرّعهم على فسادهم. ومن قرأ القرآن وتدبّر معانيه؛ يجد ذلك في كثير من سوره.

بعد هذا: بين {قَتَلَ} و {أَحْيَا} طباق، وهو من المحسنات البديعية. وفي قوله تعالى:

{أَحْياها} استعارة؛ لأنّ المراد استبقاها حيّة، ولم يتعرّض لقتلها، وإحياء النفس بعد موتها لا يقدر عليه إلا الله تعالى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 89

هذا؛ وقوله تعالى: {كَتَبْنا} فإنّه يكثر التعبير بمثل هذا في القرآن الكريم، قال ابن تيميّة -رحمه الله تعالى-في كتابه:(الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح): وقوله تعالى: (جعلنا)(أعطينا)(إنا)(نحن)(نقص) و (نعطي) لفظ يقع في جميع اللّغات على من كان له شركاء، وعلى الواحد العظيم المطاع، الّذي له أعوان يطيعونه؛ وإن لم يكن له شركاء، ولا نظراء، والله تعالى خلق ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك، أو مثل، والملائكة وسائر العالمين جنوده، فإذا كان الواحد من الملوك يقول: إنّا، نحن، وفعلنا، وضربنا

إلخ، ولا يريدون أنّهم ثلاثة ملوك، فمالك الملك ربّ العالمين، وربّ كلّ شيء، ومليكه هو أحقّ أن يقول: إنّا، نحن

إلخ مع أنّه ليس له شريك، ولا مثل، بل له جنود السّماوات، والأرض. انتهى.

أقول: و (نا) هذه تسمّى نون العظمة، وليست دالة على الجماعة، فالله تعالى لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكثيرا ما يتكلّم بها العبد، فيقول: أخذنا، وأعطينا، وليس معه أحد، وهذا مستعمل، وواقع.

الإعراب: {مِنْ أَجْلِ:} متعلّقان بالفعل بعدهما، وقيل: متعلّقان ب: {النّادِمِينَ} وهو ضعيف، و {أَجْلِ:} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السّكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {كَتَبْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة إعرابا، ومتّصلة بما قبلها معنى، كما ذكرته في الشّرح. {عَلى بَنِي:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما، وعلامة جرّه الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي:} مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه، وهو ضمير الشأن. {مِنْ:} اسم شرط جازم مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ. {قَتَلَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:

{مِنْ} تقديره: هو. {نَفْساً:} مفعول به. {بِغَيْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من فاعله المستتر، و (غير) مضاف، و {نَفْسٍ:} مضاف إليه. {أَوْ:} حرف عطف. {فَسادٍ:} معطوف على {نَفْسٍ:} التقدير: غير فساد، وقرئ بالنّصب على أنّه مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أو عمل فسادا. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {فَسادٍ،} وهما متعلقان به؛ لأنّه مصدر. {فَكَأَنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشّرط. (كأنّما): كافة، ومكفوفة. {قَتَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مِنْ} . {النّاسَ:} مفعول به. {جَمِيعاً:}

حال من {النّاسَ،} وجملة: {فَكَأَنَّما..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ، الذي هو {مِنْ} مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا. هذا، وإن اعتبرت {مِنْ} اسما موصولا؛ فهي مبتدأ والجملة

ص: 90

الفعلية بعدها صلتها، وجملة (كأنّما

إلخ) في محل رفع خبره، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به للفعل:{كَتَبْنا} .

{وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً:} إعراب هذا الكلام مثل سابقه بلا فارق، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها. {وَلَقَدْ:} انظر إعراب هذه الكلمة في الآية رقم [12]. {جاءَتْهُمْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به.

{رُسُلُنا:} فاعله. و (نا) في محل جر بالإضافة. {بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محلّ لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محلّ له.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {كَثِيراً:} اسم: {إِنَّ} وهو صفة لموصوف محذوف. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {كَثِيراً} . {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلّق ب: (مسرفون) بعده، وهو مضاف، و {ذلِكَ:} مضاف إليه

إلخ. {فِي الْأَرْضِ:}

متعلقان ب: (مسرفون) أيضا. {لَمُسْرِفُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (مسرفون) خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنَّ كَثِيراً..} . إلخ معطوفة على الجملة القسمية، لا محلّ لها مثلها.

{إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)}

الشرح: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} أي: يحاربون شريعة الله، ودينه، وأولياءه، وهم المؤمنون، فهو على حذف المضاف، وفي الحديث القدسي:«من أهان لي وليّا؛ فقد بارزني بالمحاربة» . وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى يقول: من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب» . أخرجه البخاريّ، رحمه الله تعالى. ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من آذى جاره؛ فقد آذاني، ومن آذاني؛ فقد آذى الله، ومن حارب جاره؛ فقد حاربني، ومن حاربني؛ فقد حارب الله» . رواه ابن حبان عن أنس-رضي الله عنه.

{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً} أي: بالقتل، وأخذ أموال الناس، وقطع الطريق، وإخافة الناس. {أَنْ يُقَتَّلُوا..}. إلخ: فالقتل لمن قتل فقط. والصّلب لمن قتل، وأخذ المال. والقطع لمن أخذ المال، ولم يقتل. والنفي لمن أخاف النّاس فقط. والقطع من خلاف: أي: تقطع

ص: 91

أيديهم اليمنى، وأرجلهم اليسرى. والنّفي: هو الإبعاد من بلد إلى آخر، بحيث لا يمكّنون من القرار في موضع، والمقصود من ذلك الإيحاش، والبعد عن الأهل، والوطن، فإذا عيّن الحاكم المسلم جهة؛ فليس للمنفي طلب غيرها، وفسّره أبو حنيفة، ومالك بالحبس، فينفى من سعة الدّنيا إلى ضيقها، فصار كأنّه إذا سجن؛ فقد نفي من الأرض إلاّ من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك:[الطويل]

خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السّجّان يوما لحاجة

عجبنا وقلنا جاء هذا من الدّنيا

حكى مكحول-رحمه الله تعالى-: أنّ عمر-رضي الله عنه-أوّل من حبس في السّجون، وقال: أحبسه؛ حتى أعلم منه التّوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد، فيؤذيهم. والظاهر: أنّ الأرض في الآية هي أرض النّازلة، وقد تجنّب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذّنوب، ومنه حديث الذي قتل تسعا وتسعين.

{أَوْ:} في الآية الكريمة للتقسيم، والتنويع، والترتيب، وقيل: إنّها للتّخيير، فالإمام مخيّر بين هذه الأمور، والمعتمد الأوّل. {ذلِكَ} أي: الجزاء المذكور بأنواعه. {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا:} لهم ذلّ، وهوان، وفضيحة، ونكال في هذه الحياة الدنيا مع ما ادّخر الله لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وهذا يؤيد قول من قال: إنّها نزلت في المشركين، فأمّا أهل الإسلام؛ ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-قال:«أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النّساء: ألاّ نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل، ولا يعضه بعضنا بعضا-يرمي غيره بالإفك، والكذب، والبهتان-قال: فمن وفى منكم؛ فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب؛ فهو كفّارة له، ومن ستره الله؛ فأمره إلى الله إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه» .

وعن عليّ-كرّم الله وجهه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصاب في الدّنيا ذنبا، فعوقب به؛ فالله أعدل من أن يثنّي عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدّنيا، فستره الله عليه؛ فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه» . رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة برقم [2604].

وقال ابن جرير: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} أي: إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا، فلهم في الآخرة مع الجزاء الّذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي فرضتها عليهم عذاب عظيم في الآخرة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في ثمانية أشخاص من قبيلتي عكل، وعرينة، قدموا المدينة المنورة، وأظهروا الإسلام نفاقا، فأقاموا فيها أياما، فمرضوا؛ لأنّ المدينة لا تقبل من كان في

ص: 92

قلبه دخن، بل تنفيه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرخّص لهم أن يأتوا إبل الصّدقة، فشربوا من ألبانها، وأبوالها، ولمّا صحّوا، وشفوا؛ قتلوا راعي الإبل، واستاقوا الإبل، وكانت خمسة عشر بعيرا، وكان الرّاعي عبدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه: يسار، وكان نوبيّا، فأرسل الرّسول صلى الله عليه وسلم في طلبهم عشرين فارسا، أميرهم كرز بن جابر الفهري-رضي الله عنهم أجمعين-، فأدركوهم، وأتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم فسمرت أعينهم، وقطعت أيديهم، وأرجلهم، وتركوا في الحرّة يعضون الحجارة من شدّة العطش، ويستسقون، فلا يسقون حتّى ماتوا، وسمر الأعين معناه: أنّه أحمى مسامير الحديد، وكحل بها أعينهم؛ حتّى ذهب ضوؤها، وهذا الفعل وإن كان من قبيل المثلة المحرّمة، لكن فعله النبي صلى الله عليه وسلم إمّا قبل التحريم، أو لأنّهم فعلوا بالرّاعي مثل هذا الفعل.

تنبيه: خصوص السبب لا يمنع تعميم الحكم. فالحكم باق إلى يوم القيامة، فكلّ من آذى المسلمين بقتل، أو سلب مال، أو إخافة يستحق العقوبة الّتي قرّرتها الآية الكريمة، ويطلق على من يفعل ذلك اسم: البغاة، وهذا الحكم ممّا اختصت به سورة (المائدة) فلم يذكر في غيرها.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {جَزاءُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {يُحارِبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَرَسُولَهُ:} معطوف على لفظ الجلالة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:

{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ:} معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها. {فَساداً:} مفعول لأجله، وقيل: هو مصدر وقع موقع الحال بمعنى: يفسدون، أو ذوي فساد، أو هو مفعول مطلق، عامله الفعل قبله؛ لأنّه بمعنى: يفسدون، و «فساد» اسم مصدر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.

{يُقَتَّلُوا:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، وما بعده معطوف عليه، وقد قرئ بتخفيف الأفعال الثلاثة، والمصدر المؤوّل من الفعل، وناصبه في محلّ رفع خبر المبتدأ، الذي هو:{جَزاءُ} فهو إخبار بمصدر عن مصدر، التقدير: إنّما جزاء

إلخ التقتيل، والجملة الاسمية مستأنفة، أو مبتدأة، لا محلّ لها على الاعتبارين. {أَيْدِيهِمْ:} نائب فاعل ل: {تُقَطَّعَ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل. {وَأَرْجُلُهُمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء فيها في محلّ جرّ بالإضافة.

{مِنْ خِلافٍ:} متعلقان بمحذوف حال من: {أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ،} بمعنى: مختلفة. {أَوْ:}

حرف عطف. {يُنْفَوْا:} فعل مضارع معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. {مِنَ الْأَرْضِ:} متعلقان به، وحذفت الصّفة، التقدير: من الأرض التي يريدون الإقامة فيها.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {خِزْيٌ:} مبتدأ مؤخّر،

ص: 93

والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. {فِي الدُّنْيا:} متعلقان ب: {خِزْيٌ} أو بمحذوف صفة له، ويجوز أن يكون:{خِزْيٌ} خبرا ل: {ذلِكَ} . و {وَلَهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من: {خِزْيٌ} كان صفة له، فلمّا قدّم عليه صار حالا، ويجوز أن يكون:{لَهُمْ} خبرا ل:

{ذلِكَ} . و {خِزْيٌ:} فاعل بالجار والمجرور لاعتمادهما على المبتدأ، والجملة الاسمية:

{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان مقدّم، أو هما متعلّقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلّقان بمحذوف حال من الضّمير المستتر في الخبر المحذوف، وتعليقهما بمحذوف حال من:{عَذابٌ} لا يجيزه كثير من النّحويين. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر.

{عَظِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}

الشرح: {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا} أي: من المحاربين، والقطّاع. ومعنى توبتهم: رجوعهم إلى حوزة المسلمين، وتسليم أسلحتهم، واعترافهم بأنّ خروجهم كان خطأ، وجهلا. {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ:} وهذا قيد لقبول توبتهم، وهذا في حقّ الله تعالى أيضا، وأمّا حقّ العباد؛ فلا يسقط بتوبتهم، ولو كانت قبل القدرة عليهم، فإن قتلوا نفسا، أو سلبوا مالا؛ فلا بدّ من القصاص منهم؛ وأن ردّوا المال لصاحبه، كما أنّه لا تنفعهم توبتهم بعد القدرة عليهم، وهذا كلّه في حقّ المسلمين إذا خرجوا عن طاعة الحاكم المسلم العادل، وأمّا الكفار؛ فتقبل توبتهم قبل القدرة عليهم، وبعدها؛ حتى في حقّ العباد ما لم يظهر لنا منهم خداع بعد القدرة عليهم.

{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ:} اعتقدوا، وتيقنوا. {غَفُورٌ} أي: للمحاربين، والقطاع إذا تابوا قبل القدرة عليهم، وهذا في حق الله تعالى، كما قدّمت. و {غَفُورٌ:} صيغة مبالغة، و {رَحِيمٌ:} مثله.

هذا وقال قوم من الصحابة، والتابعين: لا يطالب من المال إلا بما وجد عنده، وأمّا ما استهلكه؛ فلا يطالب به، وهذا مذهب مالك، والأوزاعي غير أنّ مالكا-رحمه الله تعالى-قال:

يؤخذ بالدّم إذا طالب به وليّه، فأمّا ما أصاب من الدّماء، والأموال، ولم يطلبها أولياؤها، فلا يتبعه الإمام بشيء من ذلك، وهذا حكم عليّ-رضي الله عنه-بحارثة بن بدر الفداني، فإنّه كان محاربا، ثمّ تاب قبل القدرة عليه، فكتب له عليّ-كرّم الله وجهه-بسقوط الأموال، والدّم عنه كتابا منشورا.

وكذلك جاء رجل من مراد إلى أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-وهو على الكوفة في خلافة عثمان-رضي الله عنه-بعد ما صلّى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى! هذا مقام العائذ بك،

ص: 94

أنا فلان بن فلان المرادي، كنت قد حاربت الله، ورسوله، وسعيت في الأرض فسادا، وإنّي تبت من قبل أن يقدر عليّ. فقام أبو موسى، فقال: هذا فلان المراديّ، وإنّه كان حارب الله، ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، وإنّه قد تاب من قبل أن يقدر عليه، فلا يتعرّض له أحد إلا بخير. وروى ابن جرير: أنّ عليّا الأسديّ حارب، وأخاف السّبيل، وأصاب الدّم، والمال، فطلبه الأئمة، والعامّة، فامتنع، ولم يقدروا عليه؛ حتّى جاء تائبا، وذلك: أنّه سمع رجلا يقرأ قوله تعالى في سورة الزّمر: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا..} . إلخ، فوقف عليه، فقال: يا عبد الله! أعد قراءتها، فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثمّ جاء تائبا؛ حتى قدم المدينة من السّحر، فاغتسل، ثمّ أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى الصّبح، ثمّ قعد إلى أبي هريرة-رضي الله عنه-في أغمار أصحابه، فلمّا أسفروا؛ عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ جئت تائبا من قبل أن تقدروا عليّ! فقال أبو هريرة-رضي الله عنه: صدق، وأخذ بيده؛ حتى أتى مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا جاء تائبا، ولا سبيل لكم عليه، فترك وشأنه. ثمّ إنّه خرج مجاهدا في سبيل الله في البحر، فغرق فيه-رضي الله عنه. وخذ ما يلي:

قال العلماء: يناشد اللّصّ بالله تعالى، فإن كفّ؛ ترك، وإن أبى؛ قوتل، فإن قتل؛ فشرّ قتيل، ودمه هدر. روى النّسائي عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: «فانشد بالله» قال: فإن أبوا عليّ؟ قال: «فانشد بالله» قال: فإن أبوا عليّ؟ قال: «فانشد بالله» قال: فإن أبوا عليّ؟ قال: «فقاتل، فإن قتلت؛ ففي الجنّة، وإن قتلت؛ ففي النّار» . وأخرجه البخاريّ، ومسلم، وليس فيه ذكر المناشدة. وذكرت لك مرارا عند الكلام على الشّهادة: أنّ من قتل دون ماله فهو شهيد.

الإعراب: {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب على الاستثناء من: {الَّذِينَ يُحارِبُونَ،} وهذا بالطبع أخص من المتقدّم ليصح الاستثناء. وقيل:

هو في محل رفع مبتدأ. {تابُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بما قبلهما، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} في محل جر بالإضافة، أي: من قبل القدرة عليهم. {فَاعْلَمُوا:} الفاء: حرف استئناف، أو هي زائدة في خبر المبتدأ. (اعلموا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله.

{أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {غَفُورٌ رَحِيمٌ:} خبران ل: (إنّ) والمصدر المؤول منها، واسمها، وخبرها في محل نصب سدّ مسد مفعولي:(اعلموا)، والجملة الفعلية مستأنفة على الاعتبار الأول في الموصول، وفي محل رفع خبره على الاعتبار الثاني فيه، وعليه؛ فالرابط محذوف، التقدير: غفور لهم رحيم بهم، ومضمون الجملة الاسمية:{إِلاَّ الَّذِينَ..} .

إلخ في محل نصب على الاستثناء من الكلام السابق، واعتبار الموصول مستثنى من الكلام

ص: 95

السابق يجعل الجملة الفعلية: (اعلموا

) إلخ غير مرتبطة بما قبلها إعرابا مع كونها مرتبطة بها معنى، وقد تقدّم نظائر لها كثيرة.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَاِبْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. {اِتَّقُوا اللهَ:} أصل الفعل:

اوتّقيوا، قلبت الواو تاء، وأدغمت بالتّاء، وحذفت الضمّة التي على الياء، فالتقى ساكنان: الياء والواو، فحذفت الياء، فصار (اتّقوا) ثم قلبت الفتحة ضمة لمناسبة الواو. هذا؛ و (التّقوى):

حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأنّ أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ، والتّحرّز من المهالك في الدّنيا، والآخرة.

{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ:} اطلبوا إلى الله الوسيلة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما:

القربة، وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: أي: تقربوا إلى الله بطاعته، والعمل بما يرضيه، والوسيلة هي الّتي يتوصّل بها إلى تحصيل المقصود. قال عنترة:[الكامل]

إنّ الرّجال لهم إليك وسيلة

أن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي

والجمع: الوسائل، قال الشّاعر:[الطويل]

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا

وعاد التّصافي بيننا والوسائل

هذا؛ و (الوسيلة): درجة في الجنّة، وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع النداء: اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة، والصّلاة القائمة آت محمّدا الوسيلة، والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الّذي وعدته؛ حلّت له شفاعتي يوم القيامة» .

وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه: أنّه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذّن؛ فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صلّوا عليّ، فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة، فإنّها منزلة في الجنّة، لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة؛ حلّت له الشّفاعة» . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنّسائي.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلّيتم عليّ؛ فسلوا لي الوسيلة» قيل: يا رسول الله! وما الوسيلة؟ قال: «أعلى درجة في الجنّة، لا ينالها إلاّ رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو» . رواه أحمد، والترمذيّ.

ص: 96

هذا؛ وعلى تفسير (الوسيلة) بطاعة الله، وما يرضيه، وترك السّيّئات، فيكون في الكلام استعارة، وهناك من يتوسّل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبالصّالحين في طلب حاجاته من الله تعالى، ولا بأس به إن كان المتوسّل من الصّالحين، فيضم إلى توسّله بصلاحه توسّله بالنبيّ العظيم، والأولياء المقرّبين، وأمّا إن كان المتوسّل من الفاسدين المفسدين؛ فلا ينفعه توسّله بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو غيره.

{وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} أي: حاربوا أعداء الله بالسّنان، واللّسان، كما قال تعالى في سورة (التوبة) وفي سورة (التحريم):{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ..} . إلخ.

و «سبيل الله» دينه الّذي ارتضاه للناس أجمعين، وانظر الآية رقم [16].

{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:} تسعدون بالخلود في جنّته؛ لأنّ الفلاح اسم جامع للخلاص من كلّ مكروه، والفوز بكل محبوب، وأصل الفعل: تؤفلحون، حذفت منه الهمزة لثقلها، وانظر مثل هذا الترجّي في الآية رقم [6].

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ:} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [1]. {وَابْتَغُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، الأولى بالابتداء، والثانية بالإتباع. {إِلَيْهِ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز تعليقهما ب:{الْوَسِيلَةَ} بعدهما؛ لأنّها بمعنى المتوسّل به، أو بمحذوف حال من:{الْوَسِيلَةَ} أي: الوسيلة كائنة إليه، وهذه الحال كانت صفة ل:{الْوَسِيلَةَ} فلما قدمت عليها؛ صارت حالا، وجملة:{وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبّه بالفعل، والكاف اسمه.

{تُفْلِحُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:

(لعلّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر لا محلّ لها، وبعضهم يعتبرها في محل نصب حال، التقدير: حالة كونكم راجين الفلاح، ويمنع من الحال كون الجملة إنشائية؛ لأنّ التّرجي إنشاء.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)}

الشرح: المعنى: إنّ الكافر لو ملك الدنيا، ودنيا أخرى مثلها معها، ثمّ فدا نفسه من العذاب يوم القيامة؛ لم يقبل منه ذلك الفداء. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} . المقصود من هذا؛ أنّ العذاب لازم للكفّار، وأنّه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه بوجه من الوجوه. وملكه الدنيا على سبيل الفرض، والتّقدي. وأنّى له الملك؟! وخذ ما يلي:

عن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل لأهون أهل النّار عذابا يوم القيامة: لو كانت لك الدّنيا كلّها؛ ألست مفتديا بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك

ص: 97

أيسر من هذا، وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، ولا أدخلك النّار، وأدخلك الجنّة، فأبيت إلاّ الشّرك». هذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري، قال: «يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له:

أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك: أن لا تشرك بي

».

وهذا يتعارض ظاهره مع قوله تعالى في سورة (الأعراف): {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} ويجاب بأنّ آية (الأعراف) معناها: الخضوع، والتذلّل، وما في الحديث معناه: الانقياد، والطاعة.

وانظر الآية رقم [91] من سورة (آل عمران)، بعد هذا انظر (الكفر) في الآية رقم [136] من سورة (النساء)، أمّا {عَذابِ} فهو اسم مصدر لا مصدر؛ لأنّ المصدر تعذيب؛ لأنّه من: عذّب يعذّب بتشديد الذال فيهما. وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، ومثله: عطاء، ونبات، وسلام، من:

أعطى، وأنبت، وسلّم.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ نصب اسمها. {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتّفريق، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} تقدّم على اسمها. {ما:}

اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم (أنّ) مؤخّر. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {جَمِيعاً:} حال من (ما) مؤكدة لها، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر، وفيه قولان: أحدهما وهو قول سيبويه: أنّه في محل رفع بالابتداء، وخبره محذوف التقدير. لو إيمانهم ثابت. والثاني وهو قول المبرد: أنّه في محل رفع فاعل لفعل محذوف، التقدير: لو ثبت إيمانهم، وهو المرجّح؛ لأنّ (لو) لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدّر، والفعل المقدّر، وفاعله جملة فعلية، لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {وَمِثْلَهُ:} معطوف على (ما) منصوب مثله، وقيل: منصوب على المعيّة، ولا وجه له، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلّق بمحذوف حال من: (مثله) والهاء في محل جر بالإضافة.

{لِيَفْتَدُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل المحذوف، الذي ستعرفه، وقيل: متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وهو:{لَهُمْ} . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وقد أفرد الضمير مع كونه عائدا على اثنين، وهما:{ما فِي الْأَرْضِ} و (مثله) إما لتلازمهما فهما في حكم شيء واحد، وإمّا لأنّه حذف من الثاني لدلالة ما

ص: 98

في الأول عليه، وإمّا لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة. وانظر مثله في الآية رقم [16]. {مِنْ عَذابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {عَذابِ} مضاف، و {يَوْمِ:} مضاف إليه، و {يَوْمِ:}

مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه.

{ما:} نافية. {تُقُبِّلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره: هو، يعود إلى:{ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} . {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية جواب:{لَوْ} لا محلّ لها من الإعراب. و {لَوْ} ومدخولها في محل رفع خبر:

{إِنَّ} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ ابتدائية أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين، والجملة الاسمية:{وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} معطوفة على الجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ لا محلّ لها مثلها، واعتبارها حالا من الضّمير المجرور في:{لَهُمْ} غير مستبعد، ويكون الرابط:

الواو، والضمير.

{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)}

الشرح: في تفسير الآية وجهان: أحدهما: أنّهم يقصدون الخروج من النّار، ويطلبونه، ولكن لا يستطيعون ذلك. قيل: إذا حملهم لهب النار إلى فوق؛ طلبوا الخروج، فلا يقدرون عليه. والوجه الثاني: أنّهم يتمنّون الخروج من النّار بقلوبهم. {وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ} أي: ولهم عذاب دائم ثابت، لا يزول عنهم، ولا ينتقل أبدا.

وعن طلق بن حبيب؛ قال: كنت من أشدّ الناس تكذيبا بالشّفاعة؛ حتى لقيت جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، فقرأت عليه كلّ آية أقدر عليها يذكر فيها خلود أهل النّار، فقال:

يا طلق! أتراك أقرأ لكتاب الله، وأعلم بسنّة رسول الله منّي؟! إنّ الّذين قرأت هم أهلها، هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا، فعذّبوا، ثمّ أخرجوا منها. ثمّ أهوى بيديه إلى أذنيه، فقال: صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرجون من النّار بعد ما دخلوا» . ونحن نقرأ كما قرأت. رواه ابن مردويه.

الإعراب: {يُرِيدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله.

{أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {يَخْرُجُوا:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، ويقرأ بالبناء للمجهول، فيكون من الرّباعي، والواو نائب فاعله، والمصدر المؤوّل من الفعل، وناصبه في محلّ نصب مفعول به، وجملة:

{يُرِيدُونَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {مِنَ النّارِ:} متعلّقان بما قبلهما. {وَما:} الواو:

ص: 99

واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسمها. {بِخارِجِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (خارجين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلاّ، وفاعله مستتر فيه. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان ب: (خارجين) والجملة الاسمية: {وَما هُمْ..} . إلخ في محلّ نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (لهم): جار، ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم.

{عَذابٌ:} مبتدأ. {مُقِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}

الشرح: المناسبة: لمّا ذكر الله تعالى أخذ الأموال بطريق السّعي في الأرض، والفساد؛ ذكر حكم السّارق من غير حراب. هذا؛ وقدّم الله السّارق على السّارقة هنا، وقدّم الزانية على الزّاني في سورة (النور)؛ لأنّ الرّجل على السّرقة أجرأ، والزنى من المرأة أشنع، وأقبح، فناسب ذكر كلّ منهما المقام. وقال ابن السائب: نزلت الآية في طعمة بن أبيرق، الّذي تقدّمت قصته في سورة (النساء). وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: بدأ الله في السّارق هنا؛ لأنّ حبّ المال من الرّجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النّساء أغلب، بدأ بهما في الموضعين. هذا؛ وقطعت اليد لأنّها آلة السّرقة، ولم تقطع آلة الزنى تفاديا عن قطع النّسل. هذا؛ والسارق هو الذي يأخذ المال من حرز مثله، وهذا بخلاف الأخذ جهرا، وعنوة، وقهرا، فإنّه تقدّم حكمه في الآية رقم [33].

هذا؛ والسّارق الذي تقطع يده هو: البالغ، العاقل، العالم بتحريم السّرقة. فلو كان حديث عهد بالإسلام، ولا يعلم: أنّ السرقة حرام؛ فلا قطع عليه. والقطع يكون إذا كان المأخوذ ربع دينار، أو يساويه خفية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«القطع في ربع دينار فصاعدا» . أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة-رضي الله عنه. وعن عائشة-رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطع يد السّارق إلاّ في ربع دينار فصاعدا» . أخرجاه في الصّحيحين. والقطع يكون من الرّسغ؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق، فأمر بقطع يمينه منه، وإن كان يطلق لفظ اليد على تمام العضو.

والمراد بالأيدي: الأيمان.

{جَزاءً:} مجازاة، ومعاقبة، من: المجازاة، وهي: المكافأة على عمل ما، تكون في الخير، قال تعالى:{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} وتكون في الشرّ، قال تعالى:{وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} فقد أراد جزاء الشرّ. والجزاء من جنس العمل، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا فشرّ، والفعل منه ينصب مفعولين، تقول: جزى زيد عمرا خيرا.

ص: 100

{نَكالاً مِنَ اللهِ:} عقوبة مفروضة من الله على من اجترأ على أموال النّاس بغير حقّ، فهي تنكل من اعتبر بها، أي: تمنعه من فعل المحرّمات، وتجاوز حدود الله. والنّكال: الزّجر، والعقاب، والنّكل، والأنكال: القيود، وسمّيت القيود أنكالا؛ لأنّها ينكّل بها، أي: يمنع.

والتنكيل: إصابة الأعداء بعقوبة تنكّل بهم من وراءهم؛ أي: تخوفهم، وتروّعهم. قال تعالى في سورة (النّازعات) في حقّ فرعون اللّعين:{فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى} . وقال تعالى في حقّ اليهود اللّؤماء في سورة (البقرة) رقم [66]: {فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} .

والفعل: نكل به، ينكل من باب: قتل، نكلة قبيحة: أصابه بنازلة. ونكّل بالتّشديد مبالغة.

{وَاللهُ عَزِيزٌ} قوي في انتقامه ممّن عصاه. {حَكِيمٌ} فيما قضى، وحكم. قال الأصمعيّ- رحمه الله تعالى-: قرأت يوما هذه الآية: {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ} وإلى جنبي أعرابيّ، فقلت:{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سهوا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله، قال: ليس هذا بكلام الله! أعد، فأعدت، وتنبّهت، فقلت:{وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: نعم هذا كلام الله، فقلت:

أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أنّي أخطأت؟! فقال: يا هذا! عزّ، فحكم، فقطع، ولو غفر، ورحم؛ لما قطع. ومثله يذكر في الآية رقم [118] من هذه السورة الكريمة.

تنبيه: اعترض، ويعترض بعض الملحدين على الشّريعة الغرّاء في قطع يد السّارق بالقليل من المال، ونظم أبو العلاء المعرّي في ذلك شعرا، فقال:[البسيط]

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار؟

تحكّم ما لنا إلاّ السّكوت له

وأن نعوذ بمولانا من النّار

ولمّا قال ذلك، واشتهر عنه، تطلّبه الفقهاء، فهرب منهم، وقد أجابه النّاس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي-رحمه الله-أن قال: لما كانت أمينة؛ كانت ثمينة، ولما خانت؛ هانت. ويروى: أنّه أجابه شعرا بقوله: [البسيط]

عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها

ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري

بعد هذا أذكر: أنّ بعض الغربيين، والملحدين من الشّرقيين يعيبون على الشّريعة الإسلامية قطع يد السارق، ويزعمون: أنّ هذه العقوبة صارمة، لا تليق بمجتمع متحضّر، ويقولون: يكفي في عقوبة السّارق السّجن ردعا له، وكان من أثر هذه الفلسفة المعوجّة؛ التي لا تستند على نطق سليم أن زادت الجرائم، وكثرت العصابات، وأصبحت السّجون غاصّة بالمجرمين، وقطّاع الطّريق، الذين يهدّدون الأمن، والاستقرار، يسرق السّارق، ويقتل القاتل، ويختلس المختلس، وهو آمن مطمئنّ لا يخشى شيئا إلا ذلك السّجن، الّذي يطعم فيه، ويكسى، فيقضي مدّة العقوبة، التي فرضها القانون الوضعي، ثمّ يخرج منه إلى الإجرام أميل، وعلى الشرّ أقدر، ولا سيما إذا

ص: 101

أعطى قسطا للقضاء من المال الذي سرقه، ونهبه في هذا الزمن. يؤكّد هذا ما نقرؤه، ونسمعه عن تعداد الجرائم، وزيادتها يوما بعد يوم، وذلك لقصور العقل البشري عن الوصول إلى الدّواء النّاجع، والشّفاء النافع لمعالجة هذه الأمراض الخطيرة، أمّا الإسلام؛ فقد استطاع أن يقتلع الشّرّ من جذوره، ويد واحدة تقطع كافية لردع المجرمين، انظر قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [179]:{وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ} تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

تنبيه: قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} المراد به: المثنّى؛ لأنّ المقصود يد السّارق، ويد السّارقة، وقد جمع المضاف في محل المثنّى، وقد تكلّم السّيوطي-رحمه الله تعالى-على هذه المسألة في كتابه:(همع الهوامع) الذي شرحت شواهده، وأعربتها، وأرجو من الله أن يمنّ عليّ بالتوفيق لطباعته، وها أنا ذا أنقل لك ما قاله بالحرف؛ لتكون على بينة من أمرك.

قال رحمه الله تعالى: الأصل في كلام العرب دلالة كلّ لفظ على ما وضع له، فيدل المفرد على المفرد، والمثنى على اثنين، والجمع على الجمع، وقد يخرج الكلام عن هذا الأصل، وذلك قسمان: مسموع، ومقيس.

فالأول: ما ليس جزءا ممّا أضيف إليه. سمع: ضع في رحالهما. يريد في اثنين، وديناركم مختلفة، أي: دنانيركم، وعيناه حسنة، أي: حسنتان، وأورد أربعة أبيات شعرية شاهدا لذلك، قال: ومنه لبّيك، وإخوته، فإنّه مثنى، وضع موضع الجمع، وقالوا: شابت مفارقه، وليس له إلا مفرق واحد، وعظيم المناكب، وغليظ الحواجب، والوجنات، والمرافق، وعظيمة الأوراك، فكل هذا مسموع، لا يقاس عليه، وقاسه الكوفيّون، وابن مالك إذا أمن اللّبس، وهو ماش على قاعدة الكوفيين من القياس على الشّاذّ، والنادر. قال أبو حيّان: ولو قيس على شيء من هذا؛ لالتبست الدّلالات، واختلطت الموضوعات.

والثاني: ما أضيف إلى متضمّنه، وهو مثنى لفظا، نحو قطعت رءوس الكبشين، أي:

رأسيهما، أو معنى، نحو قول الشاعر:[الطويل]

رأيت بني البكريّ في حومة الوغى

كفاغري الأفواه عند عرين

فإنّ مثل ذلك ورد فيه الجمع، والإفراد، والتثنية، فمن الأول قوله تعالى في سورة (التحريم):{إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما،} والآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها. ومن الإفراد قراءة الحسن قوله تعالى في سورة (طه) رقم [121] وفي ثلاث آيات من سورة (الأعراف): (فبدت لهما سوأتهما) ومن التثنية قراءة من قرأ: «(فبدت لهما سوأتاهما)» ، وقراءة الجمهور من الأوّل:«فبدت لهما سوأتهما» فطرد ابن مالك قياس الجمع، والإفراد أيضا لفهم المعنى، وخصّ الجمهور القياس بالجمع، وقصروا الإفراد على ما سمع، وورد، وإنّما وافق

ص: 102

الجمهور على قياس الجمع كراهة اجتماع تثنيتين مع فهم المعنى، ولذلك شرط ألا يكون لكلّ واحد من المضاف إليه إلا شيء واحد؛ لأنّه إن كان له أكثر التبس، فلا يجوز في: قطعت أذني الزّيدين الإتيان بالجمع، ولا الإفراد للإلباس، وأورد ستّة أبيات شعرية شاهدا لذلك.

فإن فرّق متضمناهما، كقوله تعالى في الآية رقم [78] الآتية:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ..} . إلخ؛ فقال ابن مالك أيضا بقياس الجمع، والإفراد، وخلافه أبو حيّان؛ لأنّ الجمع إنّما قيس هناك كراهة اجتماع تثنيتين وقد زالت بتفريق المتضمنين قال: فالذي يقتضيه النظر الاقتصار على التثنية، وإن ورد جمع، أو إفراد اقتصر فيه على مورد السّماع. قال: وأمّا الآية فليس المراد فيها باللسان الجارحة، بل المراد الكلام، أو الرسالة، فليس جزءا من داود، ولا من عيسى عليهما السلام. انتهى.

أقول: ولم يذكر السيوطي-رحمه الله تعالى-أرجح الأوجه الثلاثة في الثاني، وهو ما أضيف إلى متضمنه، وهي جمع المضاف، وبقاء المضاف إليه على تثنيته، وإفراد المضاف، وبقاء المضاف إليه على تثنيته، وبقاء كلّ من المضاف، والمضاف إليه على تثنيته، فأرجحها الوجه الأول، وهذه لغة القرآن كما رأيت، وهو متّفق على رجحانه عند جميع النّحاة، واختلف في الوجهين الآخرين، فذهب ابن مالك إلى رجحان الثاني على الثالث، وذهب أبو حيان إلى العكس، ومنه قول الرّسول صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار

إلخ» وقد أطلت عليك الكلام في ذلك بغية الإفادة، والله ولي التوفيق، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وانظر الآية الآتية برقم [78].

الإعراب: {وَالسّارِقُ:} الواو: حرف استئناف. (السارق): مبتدأ. {وَالسّارِقَةُ:} معطوف عليه. وفي الخبر وجهان: أحدهما: محذوف، وهو قول سيبويه، التقدير: فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم حكم السارق، فقد حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وعند المبرّد الخبر هو الجملة الفعلية:{فَاقْطَعُوا..} . إلخ، وهو موافق للكوفيين في هذا، ودخلت الفاء في الخبر زائدة؛ لأنّ الكلام في معنى الشرط، التقدير: الذي يسرق، والتي تسرق فاقطعوا

إلخ، ومثل هذه الآية قوله تعالى في الآية رقم [15] من سورة (النساء):{وَالَّذانِ يَأْتِيانِها..} . إلخ، وقوله تعالى في سورة (النور):{الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا} هذا؛ وقرئ: «(السّارق والسّارقة)» بالنّصب على إضمار فعل يفسره المذكور بعده، وهو المختار في أمثاله؛ لأنّ الخبر لا يكون إنشاء إلا بإضمار، وتأويل. {فَاقْطَعُوا:} الفاء: زائدة، أو للسببية المحضة. (اقطعوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، أو هي مفسرة، أو هي مستأنفة على حسب أوجه الإعراب المتقدّم. {أَيْدِيَهُما:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {جَزاءً:} مفعول لأجله، أو هو

ص: 103

مفعول مطلق، عامله محذوف، التقدير: جازاهما جزاء. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب:

{جَزاءً} أو بمحذوف صفة له، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء. {كَسَبا:} فعل ماض مبني على الفتح، وألف الاثنين فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو:

بشيء كسباه. {نَكالاً:} مفعول لأجله أيضا، وقيل: هو بدل من: {جَزاءً} . هذا وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محل جرّ بالباء، التقدير: جزاء بكسبهما. (الله):

مبتدأ. {عَزِيزٌ حَكِيمٌ:} خبران له، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.

{فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)}

الشرح: {فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي: تاب بعد سرقته أموال الناس، وأناب إلى الله؛ فإنّ الله يتوب عليه فيما بينه، وبينه، فأمّا أموال الناس؛ فلا بدّ من ردّها إليهم، أو بدلها عند الجمهور. وسمّيت السّرقة ظلما لأمرين: الأوّل: ظلم المسروق، والثاني: ظلم نفسه بالمعصية.

{وَأَصْلَحَ} أي: أصالح نفسه بالعمل، وردّ المسروق لصاحبه. {فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ:} يقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة، أمّا القطع فلا يسقط عنه بالتّوبة على المعتمد إلا إذا عفا عنه صاحب المال قبل الرّفع إلى الحاكم، فإنّه يسقط عنه القطع. وعليه الشّافعيّ. وخذ ما يلي:

فقد روى الإمام أحمد-رضي الله عنه-عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما: أنّ امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها الّذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله! إنّ هذه المرأة سرقتنا. قال قومها: فنحن نفديها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقطعوا يدها» فقالوا: نحن نفديها بخمسمائة دينار، فقال:«اقطعوا يدها» فقطعت يدها اليمين، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟! قال: «نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمّك» فأنزل الله في سورة (المائدة): {فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ..} .

إلخ. وهذه المرأة هي المخزوميّة الّتي سرقت، وحديثها ثابت في الصّحيحين، وخذه بما يلي:

عن عائشة-رضي الله عنها، وعن والديها-أنّ قريشا أهمّهم شأن المخزوميّة؛ الّتي سرقت فقالوا: من يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثمّ قالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أسامة أتشفع في حدّ من حدود الله؟!» . ثمّ قام فاختطب، فقال:«إنّما أهلك الّذين من قبلكم: أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ، وايم الله! لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها» .

أخرجه السّتّة. وانظر التّوبة، وشروطها في الآيتين رقم [17 و 18] من سورة (النساء) فإنّه جيد، والحمد لله!.

ص: 104

الإعراب: {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تابَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» . {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بما قبلهما، و {بَعْدِ:} مضاف، و {ظُلْمِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {وَأَصْلَحَ:}

معطوف على: {تابَ} فهو مثله في محل جزم، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {فَإِنَّ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبّه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَتُوبُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الّذي هو (من) مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا مبتدأ، والجملة بعده صلته، والجملة الاسمية: (إنّ الله

) إلخ في محلّ رفع خبره، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم؛ فهو كلام جيّد، وعلى الاعتبارين فالجملة الاسمية مفرعة عمّا قبلها، ومستأنفة لا محلّ لها، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليلية، أو مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام، لا محلّ لها على جميع الوجوه.

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}

الشرح: {أَلَمْ تَعْلَمْ..} . إلخ: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكلّ من يتأتّى منه العلم، والمعرفة. ودخول الاستفهام على النفي يفيد التقرير. {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: خلقا، وعبيدا، وملكا.

وقدّمت السموات على الأرض لشرفها، ومزيد فضلها، ولأنّها لا يحصل فيها معاص، ومنكرات كما في الأرض، وخصّهما بالذّكر؛ لأنّهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع السّماوات دون الأرض، وهي مثلهنّ سبعا؛ لأنّ طبقاتها مختلفة بالذّات، متفاوتة بالصّفات، والآثار، والحركات.

{يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ:} انظر الآية رقم [18] فقد قدّم المغفرة هناك؛ لأنّ سياق الكلام للترغيب في الإيمان، وقدّم التعذيب هنا؛ لأنّ سياق الكلام للوعيد، أو هو آت على ترتيب ما سبق، أو لأنّ استحقاق التعذيب مقدّم، أو لأنّ المراد به القطع، وهو في الدّنيا.

وهذه الآية فاضحة للقدريّة، والمعتزلة في قولهم بوجوب الرّحمة للمطيع، والعذاب للعاصي؛ لأنّ الآية دالة على أنّ التعذيب، والرّحمة مفوضان إلى المشيئة، والوجوب ينافي ذلك. وجواب آخر، وهو: أنّ الله تعالى أخبر: أنّ له ملك السموات، والأرض، والمالك له أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء، وأراد، لا اعتراض لأحد في ملكه. ويؤيّد ذلك قوله تعالى:{وَاللهُ}

ص: 105

{عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:} يعني: إنّه تعالى قادر على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه، وغفران من أراد إسعاده، وإنقاذه من الهلكة من خلقه؛ لأنّ الخلق كلّهم عبيده، وملكه، يتصرّف فيهم كيف يشاء. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{تَعْلَمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {اللهَ} اسمها. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخّر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{لَهُ مُلْكُ..} . إلخ في محل رفع خبر: {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي الفعل:{تَعْلَمْ،} والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {يُعَذِّبُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يَشاءُ:} فعل مضارع، وفاعله يعود إلى:{اللهَ} أيضا، والجملة الفعلية صلة:(من) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يعذب الذي، أو: شخصا يشاء تعذيبه، وجملة:

{يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} مستأنفة لا محلّ لها، وهو أقوى من اعتبارها في محلّ نصب حال من لفظ الجلالة، وجملة:{وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها، إفرادا، وجملا. {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [17].

{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)}

المناسبة: لمّا ذكر الله تعالى قصّة ابني آدم، وإقدام الأخ على قتل أخيه بسبب البغي، والحسد، وذكر أحكام البغاة، والسّرقة؛ أعقب ذلك بذكر أمر المنافقين، وأمر اليهود في حسدهم للرّسول صلى الله عليه وسلم وتربّصهم به، وبأصحابه الدّوائر، وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحزن لما يناله من أذاهم، فالله سيعصمه من كيدهم، وينجّيه من مكرهم. ثمّ ذكر ما أنزل الله في التوراة من أحكام نورانيّة، وفوائد ربّانيّة.

ص: 106

الشرح: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ..} . إلخ: لمّا بيّن الله في الآية السابقة: أنّه مالك الملك؛ أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه، وعدم المبالاة بمكايد الأعداء، وناداه بهذا النداء، فقال:{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ} ولم يخاطبه بوصف الرّسالة في جميع القرآن إلا في موضعين في هذه السورة: هذا، وما يأتي في الآية رقم [67]، وبقيّة خطاباته بوصف النبوّة، وكلا النّداءين فيهما تشريف، وتكريم له صلى الله عليه وسلم.

{لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي: يقعون في الكفر سريعا، أي: في إظهاره، والجهر به إذا وجدوا فرصة. والمراد: المنافقون؛ الذين قال الله فيهم: {مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} فإنّهم أظهروا الإيمان بالقول، وأخفوا الكفر في القلوب. والمعنى:

لا تهتمّ يا محمد بهم، ولا تبال بكفرهم، فإنّك منصور عليهم، ومحفوظ من شرّهم، فإنهم لن يضروك أبدا.

{وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا} أي: وطائفة من اليهود كذلك يسارعون في الكفر، ويؤذونك. {سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ:} أي: إنّ سفلة اليهود، والمنافقين يسمعون الكذب من الأحبار من تحريف التوراة، والبهتان، والافتراء. وقيل: المعنى: يسمعون كلامك يا محمد؛ ليكذبوا عليك، وذلك: أنّهم كانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ يخرجون من عنده، ويقولون: سمعنا كذا، وكذا، ولم يسمعوا منه، بل كذبوا عليه عند عامّتهم، يريدون تشويه سمعته، وتحريف رسالته، ونبوّته.

{سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} المراد: بنو قريظة الذين كانوا يسكنون المدينة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكانوا ينقلون الكلام لقوم آخرين هم أهل خيبر محرّفا، ومزيفا، فقد كان بنو قريظة جواسيس، وعيونا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم. {لَمْ يَأْتُوكَ} يعني: إنّ أهل خيبر لم يأتوك، ولم يحضروا عندك يا محمد!.

{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ} أي: يغيّرون حدود الله الّتي أوجبها عليهم في التّوراة،

وذلك: أنّهم بدّلوا الرّجم بالجلد، والتّحميم. وقال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: إنّهم يغيّرون ما يسمعون من النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالكذب عليه. هذا؛ وقد قال تعالى هنا: {مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ} وقال في الآية رقم [13] وفي سورة (النساء) رقم [46]: {عَنْ مَواضِعِهِ} والفرق بينهما: أنا إذا فسّرنا: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} بالتّأويلات الباطلة، فيكون معنى قوله تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ:} أنّهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيها بيان: أنّهم يحرفون تلك اللّفظة من الكتاب، وأما قوله تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ} ففيه دلالة على أنّهم جمعوا الأمرين: يعني أنّهم كانوا يذكرون التأويلات الفاسدة، وكانوا يحرّفون اللّفظة من الكتاب، ففي قوله:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} إشارة إلى التأويل الباطل، وفي قوله:

{مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ} إشارة إلى إخراجه من الكتاب بالكلّية. انتهى. خازن. وانظر شرح {الْكَلِمَ} في الآية رقم [13]. وملخص الكلام: أنّ لليهود صفتين بارزتين: الأولى: سماع

ص: 107

الكذب من أحبارهم، ونقله إلى عوامّهم. والثانية: وسماع الحق منك يا محمد! ونقله لأحبارهم؛ ليحرفوه. {يَقُولُونَ} أي: علماء اليهود لسفلتهم. {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} يعني:

إن أفتاكم محمّد بالجلد، والتّحميم؛ فاقبلوا منه، واعلموا به. {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أي: وإن لم يفتكم بذلك، وأفتاكم بالرّجم؛ فاحذروا أن تقبلوا منه.

{وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ} أي: ضلالته في الدنيا، وعقوبته في الآخرة. {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً:} فلن تقدر على دفع أمر الله فيه. وفيه ردّ على من يقول بالصّلاح، والأصلح، وعلى من يقول: إنّ العبد يخلق أفعال نفسه كالمعتزلة. {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي: لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم من رجس الكفر، وخبث الضّلالة، كاليهود، ونفاق المنافقين.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ الله لم يرد إسلام الكافر، وأنّه لم يطهّر قلبه من الشكّ، والشّرك، ولو فعل ذلك لامن. وهذه الآية من أشد الآيات على القدريّة.

{لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ:} قيل: هو فضيحتهم حين أنكروا الرّجم، ثمّ أحضرت التوراة فوجد فيها الرّجم. وقيل: خزيهم بأخذ الجزية منهم، والقتل، والسّبي، والطّرد من أرض الحجاز إلى غيرها. وخزي المنافقين بالفضيحة، وهتك أستارهم بإظهار نفاقهم، وخبثهم، ومكرهم. {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ:} هو الخلود في جهنم، قال أبو حيّان-رحمه الله تعالى-: الآية جاءت تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتخفيفا عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر، وقطعا لرجائه من إسلامهم، وفلاحهم.

هذا والخزي، والإخزاء هو: الإذلال، قال ذو الإصبع العدواني وهو شاعر جاهليّ:[البسيط]

لاه ابن عمّك

(1)

لا أفضلت في حسب

عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني

وهذا هو الشّاهد رقم [260] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . ومنه قول حسّان بن ثابت رضي الله عنه-يخاطب به من شجّ وجه النّبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: [الطويل]

فأخزاك ربّي يا عتيب بن مالك

(2)

ولقّاك قبل الموت إحدى الصّواعق

مددت يمينا للنّبيّ تعمّدا

ودمّيت فاه قطّعت بالبوارق

(3)

وهو على هذا من الرّباعي، من: أخزى، يخزي، وهو من الثّلاثي: خزي، يخزى، خزاية بمعنى: استحيا، وخجل. قال نهشل بن حريّ الدّارميّ من قصيدة يرثي بها أخاه، وكان قتل بصفين مع الإمام عليّ، كرّم الله وجهه:[الطويل]

1) أصله: لله درّ ابن عمّك.

2) هو: عتبة بن أبي وقاص.

3) البوارق: جمع بارق، وهو السيف، لأنّه يبرق، ويلمع.

ص: 108

أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه

وهو الشاهد رقم [324] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وقال ذو الرّمّة: [البسيط]

خزاية أدركته بعد جولته

من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب

هذا؛ والحزن ضد الفرح، والسرور، ولا يكون إلا على ماض، وحزن الرجل، وأحزنه غيره، وحزنه أيضا، مثل: سلكه، وأسلكه. قال اليزيدي: حزنه لغة الحجاز، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما إلا في سورة الأنبياء، فإنّه في الأولى فقط، وهو قوله تعالى:{لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} وهي أفصح اللغتين.

تنبيه: روي: أنّ رجلا شريفا عند اليهود من خيبر زنى بامرأة شريفة في نظرهم، وكانا محصنين، فكره اليهود رجمهما عملا بالتوراة، فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة؛ ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم فيهما، وقالوا: إن أمركم محمّد بالجلد، والتحميم؛ فاقبلوا، وإن أمركم بالرّجم؛ فلا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرّجم، فأبوا، وقالوا: إنّ التّوراة لا تأمر بالرّجم، وإنّما تأمر بالجلد، والتحميم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن صوريا-وهو من علماء اليهود المعظمين عندهم-حكما بينه، وبينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له:«أنشدك الله، الذي لا إله إلا هو الّذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطّور، وأنجاكم، وأغرق آل فرعون، والّذي أنزل عليكم كتابه، حلاله وحرامه: هل تجد فيه الرّجم على من أحصن؟» قال: نعم. فوثبوا عليه، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب المسجد، ونزلت الآية الكريمة تبيّن ما بيّتوه من مكر، وخديعة، وكشفت نواياهم الخبيثة، وفضحتهم.

تنبيه: أقام الرسول صلى الله عليه وسلم حدّ الرّجم على الزانيين حين ترافعوا إليه، ولو لم يترافعوا إليه؛ لما تعرّض لهم بالحكم عليها. وهذا يجري في كلّ زمان، ومكان إلى يوم القيامة، فإن ترافع اليهود، والنّصارى إلى الحاكم المسلم؛ يحكم عليهم بما أنزل الله، وإلا؛ فلا يتعرّض لهم. وانظر الآية التالية:

الإعراب: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ:} انظر إعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في الآية رقم [1] من هذه السّورة. {لا:} ناهية جازمة. {يَحْزُنْكَ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وهو يقرأ بفتح الياء، وضم الزاي من الثلاثي، وبضم الياء، وكسر الزاي من الرّباعي، والكاف مفعول به.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {يُسارِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {فِي الْكُفْرِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. و {مِنَ} بيان للموصول الأول. {قالُوا:}

فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.

ص: 109

{آمَنّا:} فعل وفاعل، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

{بِأَفْواهِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلَمْ:} الواو: واو الحال.

(لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {تُؤْمِنْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم). {قُلُوبُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الواو والضمير، فهي حال متداخلة، وقيل: معطوفة على ما قبلها، والأول أقوى.

{وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا:} معطوف على قوله: {مِنَ الَّذِينَ قالُوا} وهو مثله في إعرابه.

{سَمّاعُونَ:} خبر لمبتدإ محذوف التقدير: هم سماعون. {لِلْكَذِبِ:} متعلقان ب: {سَمّاعُونَ} وقيل: اللام صلة، و (الكذب): مفعول به ل: {سَمّاعُونَ} فهو مجرور لفظا منصوب محلاّ، والجملة الاسمية:«هم سمّاعون» في محلّ نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. هذا؛ وجوز اعتبار: (من الذين هادوا) متعلقين بمحذوف خبر مقدّم، و {سَمّاعُونَ} مبتدأ مؤخر، وهو في الأصل صفة لموصوف، التقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون

إلخ.

{سَمّاعُونَ} يجوز فيه ما جاز بسابقه، فيكون من تأكيد الجملة بالجملة، وقيل: هو من تأكيد المفرد بالمفرد. {لِقَوْمٍ:} متعلقان ب: {سَمّاعُونَ،} وقيل: متعلقان ب: (الكذب)، المعنى:

ليكذبوا قوما آخرين. والأول أقوى. {آخَرِينَ} صفة: (قوم) مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنّون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{لَمْ:} حرف جازم. {يَأْتُوكَ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل:(قوم) أو في محل نصب حال منه بعد وصفه ب: {آخَرِينَ} والرابط: الضمير فقط.

{يُحَرِّفُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {الْكَلِمَ:} مفعول به.

{مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَعْدِ:} مضاف، و {مَواضِعِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جرّ صفة أخرى ل:(قوم)، أو في محلّ نصب حال منه بعد وصفه بما تقدّم، أو في محل نصب حال من الضّمير المستتر ب:{سَمّاعُونَ،} أو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، أي: هم يحرفون

إلخ، ويجوز في الجملة الاسمية هذه ما جاز في الجملة الفعلية، أو هي مستأنفة لا محلّ لها، وما قيل فيها يقال في جملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {أُوتِيتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأوّل. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محلّ له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَخُذُوهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (خذوه): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة

ص: 110

الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، ولا يخفى عليك إعراب:{وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} وهذا معطوف على ما قبله فهو مثله في محل نصب مقول القول.

{وَمِنَ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُرِدِ:} فعل مضارع فعل الشرط. {اللهُ:} فاعله. {فِتْنَتَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَلَنْ:} الفاء واقعة في جواب الشرط. (لن): حرف ناصب. {تَمْلِكَ:}

فعل مضارع منصوب ب (لن)، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {شَيْئاً} كان صفة له

إلخ.

{شَيْئاً..} . مفعول به، أو هو مفعول مطلق، والجملة الفعلية: (لن تملك

) إلخ في محلّ جزم جواب الشّرط

إلخ، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين، والجملة الاسميّة:

{وَمَنْ يُرِدِ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ. {لَمْ:} حرف جازم. {يُرِدِ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} . {اللهُ:} فاعله. {أَنْ يُطَهِّرَ:} مضارع منصوب ب: {إِنْ} والمصدر المؤول منهما في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {قُلُوبُهُمْ

:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:

{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم.

{فِي الدُّنْيا:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان مقدم، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{خِزْيٌ} كان صفة له

إلخ، وبعضهم لا يجيز مجيء الحال من المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل رفع خبر ثان ل:

{أُولئِكَ} فلست مفندا، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها.

{سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}

الشرح: {سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ:} هو مثل الآية السابقة، وكرّر للتّأكيد، والتنفير من فعلهم.

{أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ

:} هو صيغة مبالغة، والأصل: آكلون، والسّحت: المال الحرام كالرّشا،

ص: 111

والرّبا، وغير ذلك من أنواع الحرام، وهو من: سحته: إذا استأصله، والسّحت في اللغة أصله:

الهلاك، والشدّة، قال تعالى في سورة (طه) حكاية عن قول موسى لقوم فرعون:{وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ..} . إلخ، وقال الفرزدق في مدح عبد الملك:[الطويل]

وعضّ زمان يا بن مروان لم يدع

من المال إلاّ مسحتا أو مجلّف

وسمّي المال الحرام: سحتا؛ لأنّه يسحت الطّاعات، أي: يذهب بركتها، ويستأصلها، ولأنّه يسحت مروءة الإنسان، وكرامته، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«كلّ لحم نبت من السّحت فالنّار أولى به» . أخرجه الطّبراني في الصّغير عن عبد الله بن عبّاس-رضي الله عنهما. والسّحت:

الرّشوة، فعن ثوبان-رضي الله عنه-قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرّاشي، والمرتشي، والرّائش» . يعني: الذي يمشي بينهما. رواه أحمد، والطّبرانيّ.

وروي عن وهب بن منبه: أنّه قيل له: الرّشوة حرام في كل شيء؟ قال: لا، إنّما يكره من الرّشوة أن ترشي لتعطى ما ليس لك، أو تدفع حقّا قد لزمك، فأمّا أن ترشي لتدفع عن دينك، ودمك، ومالك؛ فليس بحرام. انتهى. أقول: وكذلك إن دفعت الرّشوة لتصل إلى حقّك، فعند ذلك تقتصر اللّعنة على الّذي يماطل في الحقّ؛ حتى يأخذ الرّشوة؛ مثلا كالموظف الّذي لا يؤدّي واجبه إلا بالرّشوة.

لذا فقد نزلت الآية الكريمة في حكّام اليهود، مثل: كعب بن الأشرف، وأمثاله، كانوا يرتشون، ويقضون لمن رشاهم. قال الحسن البصريّ-رحمه الله تعالى-: كان الحاكم منهم إذا أتاه أحدهم برشوة؛ جعلها في كمّه، ثمّ يريه إيّاها، ويتكلّم بحاجته، فيسمع منه، ولا ينظر إلى خصمه، فيسمع الكذب، ويأكل الرّشوة، وهي السّحت.

قال ابن مسعود-رضي الله عنه: الرّشوة في كل شيء، فمن شفع شفاعة ليردّ بها حقّا، أو يدفع بها ظلما، فأهدى بها إليه هدية، فقبلها؛ فهو سحت. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم، فقال الأخذ على الحكم كفر، قال الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ} . هذا؛ والسّحت يقرأ بضم السّين، وسكون الحاء، وبضمهما، وقرئ بفتح السّين مع سكون الحاء.

{فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} خيّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم، فإن شاء حكم، وإن شاء ترك. قال الحسن، ومجاهد، والسّدّيّ: نزلت في اليهوديين اللذين زنيا. وقال قتادة: نزلت في رجلين من قريظة، والنضير، قتل أحدهما الآخر. قال ابن زيد-رحمه الله تعالى-: كان حيي بن أخطب قد جعل للنّضيريّ، وللقرظيّ دية واحدة؛ لأنّه كان من النضير، فقالت قريظة: لا نرضى بحكم حيي، ونتحاكم إلى محمّد، فأنزل الله هذه الآية يخير فيها نبيّه

ص: 112

محمدا صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم، ولهذا قيل: لو تحاكم كتابيان إلى القاضي المسلم؛ لم يجب عليه الحكم بينهما. وهو قول الشّافعي. والأصح وجوبه إذا كان المترافعان، أو أحدهما ذميّا؛ لأنّا التزمنا الذبّ عنهم، ودفع الظلم عنهم، والآية الكريمة ليست في أهل الذمّة، وعند أبي حنيفة يجب مطلقا. وانظر الآية رقم [48 - 49].

{وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً:} فلن يقدروا على الإضرار بك؛ لأنّ الله حافظك، وعاصمك من كيدهم. وإن حكمت؛ فاحكم بينهم بالقسط: أي: بالعدل الّذي أمر الله به. إنّ الله يحب المقسطين: يحفظهم، ويرفع شأنهم، هذا؛ وأقسط رباعي معناه: العدل، واسم الفاعل منه:

مقسط بمعنى العادل، أو العدل، بخلاف قسط الثلاثي، فمعناه: الجور، والظلم، يقال: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط: إذا عدل، قال تعالى في سورة (الجنّ) رقم [15]:{وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} . وهذا هو المشهور خلافا للزجّاج في جعلهما سواء، وخذ ما يلي:

عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرّحمن-وكلتا يديه يمين-الّذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا» . رواه مسلم، والنسائي.

وعنه أيضا: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ المقسطين في الدّنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرّحمن عز وجل-بما أقسطوا في الدّنيا» . أخرجه ابن أبي حاتم، والنسائي. وخذ قول الحارث بن حلّزة في معلقته:[الخفيف]

ملك مقسط وأكمل من يم

شي ومن دون ما لديه الثّناء

هذا؛ و (بين) ظرف مكان بمعنى وسط بسكون السّين، لا يقع إلا بين متعدد لفظا، وحكما، تقول: جلست بين القوم، كما تقول: جلست وسط القوم. هذا؛ والبين: الفراق، والبعاد، وهو أيضا الوصل، فهو من الأضداد، ك:«الجون» يطلق على الأسود، والأبيض. ومن استعماله بمعنى الوصل ما قرئ به في سورة (الأنعام) رقم [94]:«(لقد تقطع بينكم)» حيث قرئ بضم النون، ومن استعماله بمعنى: الفراق، والبعاد قول كعب بن زهير-رضي الله عنه-من قصيدته الّتي مدح بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الشّاهد رقم [809] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول

الإعراب: {سَمّاعُونَ:} خبر لمبتدإ محذوف، أي: هم سمّاعون، والجملة الاسمية مستأنفة إعرابا مؤكّدة لما تقدّم معنى. {لِلْكَذِبِ:} متعلقان ب: {سَمّاعُونَ} وانظر الآية السابقة.

{أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ:} هو مثل سابقه إعرابا، ومحلاّ، وفيهما ضمير مستتر هو الفاعل. {فَإِنْ:}

الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {جاؤُكَ:} فعل ماض مبني على الضم في

ص: 113

محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَاحْكُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(احكم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها

إلخ، وجملة:{أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} معطوفة عليها، و (إن) ومدخولها كلام مفرّع عما قبله أو مستأنف لا محلّ له. {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ:}

إعراب هذا الكلام مثل سابقه، وهو معطوف عليه. {شَيْئاً:} مفعول مطلق، أو نائبه؛ لأنّه نائب عن مصدر. {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ:} إعراب هذا الكلام واضح إن شاء الله، وهو معطوف على ما قبله. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [14]. والجملة الاسمية تعليل لما قبلها.

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}

الشرح: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ..} . إلخ: هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في تحكيم اليهود إيّاه مع علمهم بما في التّوراة، وتركهم قبول ذلك الحكم مع اعتقادهم صحّته، وعدولهم إلى حكم من يجحدون نبوّته طلبا للرّخصة، وتخفيفا للحكم. لا جرم: أنّ الله تعالى أظهر جهلهم، وعنادهم؛ لأنّهم حكّموا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الزّانيين، ثمّ أعرضوا عنه، وعن حكمه. وفي الآية توبيخ، وتقريع لليهود؛ إذ المعنى: وكيف يجعلونك حكما بينهم، ويرضوان بحكمك، وعندهم التّوراة. {فِيها حُكْمُ اللهِ} يعني: الرجم الّذي تحاكموا من أجله.

{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ:} أي: بالمؤمنين، والمصدّقين بكتابهم، كما يزعمون لإعراضهم عنه، وعدم العمل به. وهذا إلزام لهم؛ لأنّ من خالف كتاب الله، وبدّله؛ فدعوى الإيمان باطلة. هذا؛ والإشارة بالبعيد للإيذان ببعد درجتهم في العتوّ، والمكابرة.

هذا؛ و «ثمّ» حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التّشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، وفي كلّ منها خلاف مذكور في مغني اللّبيب، وقد تلحقها تاء التأنيث السّاكنة، كما تلحق «ربّ» و «لا» العاملة عمل «ليس» فيقال: ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهنّ بالفتح.

هذا؛ و «ثمّ» هذه غير «ثمّ» بفتح الثّاء فإنّها اسم يشار به إلى المكان البعيد، كما في قوله تعالى في سورة (الشّعراء) رقم [64]:{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [115]:

{فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . وهذه ظرف لا يتصرّف، ولا يتقدّمه حرف التنبيه، ولا يتّصل به كاف

ص: 114

الخطاب، وقد تتّصل به التّاء المربوطة، فيقال: ثمّة، و «ثمّت» العاطفة إذا اتصلت بها تاء التأنيث اختصت بعطف الجمل بخلاف (ثمّ)، فإنّها تعطف المفرد، والجملة.

الإعراب: {وَكَيْفَ:} الواو: حرف استئناف. (كيف): اسم استفهام مبني على الفتح في محلّ نصب حال من واو الجماعة، والعامل فيه ما بعده. {يُحَكِّمُونَكَ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {وَعِنْدَهُمُ:} الواو: واو الحال. (عندهم):

ظرف مكان متعلّق بمحذوف خبر مقدّم، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {التَّوْراةُ:} مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرّابط الضمير فقط، وهي حال متكرّرة. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {حُكْمُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية في محلّ نصب حال من التّوراة، والرابط: الضمير فقط.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {يَتَوَلَّوْنَ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية السابقة لا محلّ لها مثلها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بما قبلهما، و {بَعْدِ:}

مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع اسم (ما)، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {بِالْمُؤْمِنِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (المؤمنين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلاّ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.

{إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاِخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)}

الشرح: {إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ:} سبب نزول هذه الآية: استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الزّانيين، وقد سبق بيانه، والهدى: هو البيان؛ لأنّ التّوراة بيّنت صحّة نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم. وبيّنت ما تحاكموا فيه. والنّور: هو الكاشف للشّبهات، الموضح للمشكلات. والتّوراة كذلك. وقيل: الفرق بين الهدى، والنور: أنّ الهدى محمول على بيان الأحكام، والشّرائع، والنّور محمول على بيان أحكام التّوحيد، والنبوّات، والمعاد. هذا؛ وقال تعالى في سورة (الأنبياء):{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} .

ص: 115

{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا} أراد بالنّبيّين: الّذين بعثوا بعد موسى، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وذلك: أنّ الله بعث في بني إسرائيل ألوفا من الأنبياء، والمرسلين، وليس معهم كتاب، إنّما بعثوا بإقامة التوراة، وأحكامها. ومعنى {أَسْلَمُوا:} انقادوا لأمر الله تعالى، والعمل بكتابه، وهذا على سبيل المدح لهم، وفيه تعريض باليهود؛ لأنّهم بعدوا عن الإسلام، الذي هو دين الأنبياء. وتنويه بشأن المسلمين؛ الذين هم مهتدون بهدي الأنبياء، والمرسلين. وقال ابن الأنباري: هذا ردّ على اليهود، والنصارى؛ لأنّ الأنبياء-عليهم السلام-ما كانوا موصوفين باليهوديّة، والنّصرانية، بل كانوا مسلمين لله تعالى، منقادين لأمره، ونهيه، ومعنى:{لِلَّذِينَ هادُوا:} على الذين هادوا؛ أي: يحكمون على اليهود بحكم التّوراة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرّجم، كما هو في التوراة، ولم يوافقهم على الجلد، والتّحميم.

{وَالرَّبّانِيُّونَ} جمع: رب، وفيه قولان: أحدهما: أنّه منسوب إلى الربّ، والألف، والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة، والثاني: أنّه منسوب إلى ربّان، والرّبّان هو معلم الخير، ومن يسوس النّاس، ويعرّفهم أمر دينهم، فالألف والنون دالان على زيادة في الوصف، كهي في:

عطشان، ونحوه، وتكون النسبة على هذا للمبالغة في الوصف نحو: أخمري. والأول قول سيبويه، والثاني قول المبرد. واختلفوا في معنى الربّاني؛ فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: فقهاء علماء، وعنه أيضا: فقهاء معلّمون. وقيل: الربّانيّ هو الذي يربّي النّاس بصغار العلم، وكباره، وقيل: الربّانيّ: العالم الّذي يعمل بعلمه، وقيل: الرّبانيّ: العالم بالحلال، والحرام، والأمر، والنهي. وقيل: الربّانيّ الذي جمع بين علم البصيرة، والعلم بسياسة الناس. ولما مات ابن عباس رضي الله عنهما-قال ابن الحنفية-رضي الله عنه: اليوم مات ربّانيّ هذه الأمة.

{وَالْأَحْبارُ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هم الفقهاء، واحدة: حبر-بفتح الحاء وكسرها لغتان-وإنّما سمي العالم: حبرا؛ لما عليه من أثر جمال العلم، كما أنّ الحبر يترك أثرا على الورقة عند الكتابة به. وهل هناك فرق بين الربّانيين، والأحبار، أم لا؟ فقيل: لا فرق، وهم بمعنى واحد، وهم العلماء، والفقهاء. وقيل: الربّانيّون أعلى درجة من الأحبار؛ لأنّ الله قدّمهم في الذّكر على الأحبار، وقيل: الرّبانيّون: علماء النّصارى، والأحبار: علماء اليهود.

وانظر توبيخهم في الآية رقم [63] الآتية.

{بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ:} بسبب أمر الله إيّاهم أن يحفظوا كتابه من التّضييع، والتحريف، وقيل: هو أن يحفظوه، فلا ينسوه، وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين معا، وذلك بأن يحفظوا كتاب الله في صدورهم، ويدرسونه بألسنتهم؛ لئلا ينسوه، وأن لا يضيعوا أحكامه، ولا يهملوا شرائعه، فإذا فعلوا ذلك؛ كانوا قائمين بحفظه، ورعايته.

ص: 116

{وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ

:} رقباء؛ لئلا يحرّف، ويبدّل، ويعلمون: أنّه حقّ من عند الله، وصدق، كما فعل عبد الله بن سلام، وابن صوريا؛ حيث عملا بالتّوراة، وآمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم:

{فَلا تَخْشَوُا النّاسَ..} . إلخ: انظر الآية رقم [3]. {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي..} . أي: ولا تستبدلوا بآيات الله، وأحكامه ثمنا قليلا، يعني: الرّشوة في الأحكام، والجاه عند الناس، ورضاهم.

والمعنى: كما نهيتكم عن تغيير الأحكام لأجل خوف الناس؛ لذلك أنهاكم عن التغيير، والتبديل؛ لأجل الطّمع في المال، والجاه، وأخذ الرّشوة، فإنّ كلّ متاع الدّنيا قليل، لا قيمة له بجانب نعيم الآخرة الدائم، هذا؛ وفي قوله تعالى:{فَلا تَخْشَوُا..} . إلخ التفات من الغيبة إلى الخطاب، والقياس: فلا يخشوا، ولا يشتروا. وللالتفات فوائد كثيرة: منها تطرية الكلام، وصيانة السّمع عن الضّجر، والملال؛ لما جبلت عليه النفوس من حبّ التنقلات، والسّآمة من الاستمرار على منوال واحد. هذه فوائده العامّة، ويختصّ كلّ موضع بنكت، ولطائف باختلاف محلّه، كما هو مقرّر في علم البديع، ووجهه حثّ السّامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل عليه المتكلّم، وأعطاه فضل عنايته، وخصّصه بالمواجهة.

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ:} مستهينا به، ومنكرا له. {فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ:}

لاستهانتهم به، وتمرّدهم عليه بأن حكموا بغيره، ولذلك وصفهم الله بقوله الآتي:{الظّالِمُونَ} و {الْفاسِقُونَ} فكفرهم لإنكاره، وجحوده، وظلمهم بالحكم بخلافه، وفسقهم بالخروج عنه، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا؛ فهو كافر، وإن لم يكن جاحدا؛ فهو فاسق ظالم. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: هي عامّة في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين، واليهود، والكفّار. وقيل: الكافرون للمسلمين، والظّالمون لليهود، والفاسقون للنّصارى. وهذا اختيار أبي بكر ابن العربي. قال: لأنّه ظاهر الآيات، وهو اختيار ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زائدة، وابن شبرمة، والشعبيّ أيضا. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وخذ ما يلي:

عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهنّ-وأعوذ بالله أن تدركوهنّ-: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ؛ حتّى يعلنوا بها؛ إلاّ فشا فيهم الطّاعون، والأوجاع؛ الّتي لم تكن مضت في أسلافهم؛ الّذين مضوا قبلهم، ولم ينقصوا المكيال، والميزان؛ إلاّ أخذوا بالسّنين، وشدّة المئونة، وجور السّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلاّ منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله؛ إلاّ سلّط الله عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمّتهم بكتاب الله، ويتخيّروا ممّا أنزل الله؛ إلاّ جعل الله بأسهم بينهم» رواه ابن ماجة برقم: [4019]، والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.

ص: 117

الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا) اسمها، حذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَنْزَلْنَا:} فعل، وفاعل. {التَّوْراةَ

:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ مبتدأ، أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين.

{فِيها:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم. {هُدىً:} مبتدأ مؤخّر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، والجملة الاسمية:{فِيها هُدىً} في محل نصب حال من: {التَّوْراةَ} والرّابط: الضمير فقط. {وَنُورٌ:} معطوف على ما قبله. {يَحْكُمُ:} فعل مضارع. {بِهَا:} جار ومجرور متعلّقان به. {النَّبِيُّونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضّمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محلّ نصب حال أخرى من التّوراة. وقيل: حال من الضّمير في: {فِيها} والرابط على الاعتبارين: الضمير فقط، وقيل:

مستأنفة لا محلّ لها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة. {النَّبِيُّونَ} على معنى المدح، والثناء، لا على معنى الصفة الّتي تأتي للفرق بين الموصوف، وبين من ليس صفته. انتهى. مكي. لأنّه لا يمكن أن يكون ثمّة نبيون غير مسلمين. أقول: لذا يجوز اعتباره منصوبا على المدح بفعل محذوف. {أَسْلَمُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {يَحْكُمُ،} وقيل: متعلقان بالفعل: {أَنْزَلْنَا،} وجملة: {هادُوا} صلة الموصول، لا محلّ لها.

{وَالرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ:} معطوفان على: {النَّبِيُّونَ} . {بِمَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {يَحْكُمُ،} وقيل: متعلقان ب: {وَالرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ} وقيل: هما بدل من قوله: {بِهَا} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {اُسْتُحْفِظُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو: بشيء استحفظوه. {مِنْ كُتُبٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما) و {كِتابِ:} مضاف، و {اللهِ:}

مضاف إليه. {وَكانُوا:} الواو: حرف عطف. (كانوا): فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {شُهَداءَ} بعدهما.

{شُهَداءَ:} خبر: (كانوا)، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصّلة، لا محلّ لها مثلها.

{فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ:} انظر إعراب مثل هذه الكلمات إفرادا، وجملا في الآية رقم [3] من هذه السّورة. (لا): ناهية جازمة. {تَشْتَرُوا

:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{فَلا تَخْشَوُا النّاسَ..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة

ص: 118

في الفاء. {بِآياتِي:} جار ومجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وياء المتكلم في محل جرّ بالإضافة. {ثَمَناً:} مفعول به. {قَلِيلاً:} صفة له.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَحْكُمُ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {بِمَا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {أَنْزَلَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالّذي، أو بشيء أنزله الله.

وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محلّ جر بالباء، التقدير: ومن لم يحكم بإنزال الله. وهو ضعيف معنى كما ترى. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له.

{هُمُ:} ضمير فصل لا محلّ له من الإعراب. {الْكافِرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة

إلخ، هذا ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ ثانيا. و {الْكافِرُونَ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:{فَأُولئِكَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور. والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا، وعليه فالكلام يعمّ كلّ من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود، والنصارى، والمسلمين. هذا ويجوز اعتبار (من) اسما موصولا مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية:{فَأُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبره، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، فيكون المقصود بهذه الآية اليهود خاصّة، ولا تنس: أنّه روعي لفظ (من) في رجوع الفاعل إليها، وروعي معناها في رجوع الإشارة إليها، وعلى كلّ اعتبار فالجملة اسمية، وهي مستأنفة لا محلّ لها.

{وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (45)}

الشرح: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ..} . إلخ يعني: وفرضنا على بني إسرائيل في التّوراة: أنّ نفس القاتل تقتل بنفس المقتول وفاقا، فيقتل به، وذلك: أنّ الله حكم في التوراة: أنّ على الزاني المحصن الرّجم، وأخبر تعالى: أنّ اليهود بدّلوه، وغيّروه، وأخبر أيضا أنّ في التوراة: أنّ النّفس بالنفس، وأنّ هؤلاء اليهود غيّروا هذا الحكم، وبدّلوه، ففضلوا بني النّضير على بني قريظة، فكان بنو

ص: 119

النّضير إذا قتلوا من قريظة؛ أدّوا إليهم نصف الدّية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النّضير؛ أدّوا إليهم الدّية كاملة، فغيّروا حكم الله؛ الذي أنزله في التّوراة.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أخبر الله بحكمه في التوراة: وهو: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} قال: فما لهم يخالفون، فيقولون النفسين بالنفس، ويفقئون العينين بالعين؟! ومعنى الآية: أنّ قاتل النفس يقتل بها إذا تكافأ الدّمان، وسائر الأطراف، والأعضاء يجري فيها القصاص كذلك.

{وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} يعني: فيما يمكن أن يقتصّ منه، وهذا تعميم بعد التّخصيص؛ لأنّ الله تعالى ذكر النّفس، والعين، والأنف، والأذن، فخصّ هذه الأربعة بالذّكر، ثمّ قال تعالى:

{وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} على سبيل العموم، فيمكن أن يقتصّ منه، كاليد، والرجل، والذّكر، والأنثيين، وغيرها، وأمّا ما لا يمكن القصاص فيه، كرضّ في لحم، أو كسر في عظم، أو جراحة في بطن؛ يخاف منها التّلف؛ فلا قصاص في ذلك. وفيه الأرش، والحكومة

(1)

. وانظر الآية رقم [178] من سورة (البقرة).

واعلم: أنّ هذه الآية دالة على أنّ هذا الحكم كان شرعا في التوراة، فمن قال: شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ منه بالتفصيل؛ قال: هذه الآية حجّة في شرعنا، ومن أنكره؛ قال: إنّها لست بحجّة علينا. وأصل هذه المسألة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأمّته بعد البعثة متعبّدون بشرع من تقدّم من الأنبياء، عليهم السلام، وفي ذلك خلاف مشهور، فبعض العلماء يقول: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان متعبّدا بما صحّ من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدّلة، واختار بعض العلماء المنع من ذلك. واحتجّ الأوّلون لصحّة مذهبهم بأنّ الإجماع منعقد على صحّة الاستدلال بالآية الكريمة مع أنّه من شريعة من تقدّم؛ لأنّه مذكور في التوراة، ومكتوب على بني إسرائيل، ولولا أنّا متعبّدون بشريعة من قبلنا؛ لما صحّ هذا الاستدلال.

{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} يعني: بالقصاص، فلم يقتص من الجاني. {فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ:} في هاء: {لَهُ} قولان: أحدهما: أنّ الهاء كناية عن المجروح، وولي المقتول، وذلك أنّ المجروح، أو وليّ المقتول إذا تصدّق بالقصاص؛ كان ذلك كفارة لذنوبه. وهذا قول ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن البصري-رضي الله عنهم-ويدلّ عليه ما روي عن أبي الدّرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يصاب بشيء من جسده، فيتصدّق به؛ إلاّ رفعه الله به درجة، وحطّ عنه به خطيئة» . أخرجه الترمذيّ. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو.

1) الأرش: هو دية الجراحات؛ أي: التعويض المالي. والحكومة: الحكم الذي يصدره القاضي المسلم في الجراحات.

ص: 120

أخرجه أبو داود، والنسائي. والقول الثاني: يعني: أنّ المجني عليه إذا عفى عن الجاني؛ كان ذلك كفارة لذنب الجاني. لا يؤاخذ به في الآخرة. وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، كما أنّ القصاص كفارة له، فأمّا أجر العافي؛ فعلى الله تعالى. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} يعني: لأنفسهم؛ حيث لم يحكموا بما أنزل الله، عز وجل.

هذا؛ والعين تطلق على الماء الجاري: أو النّابع من الأرض، وجمعها في القلّة: أعين، وفي الكثرة: عيون، قال تعالى في سورة (الذاريات) وغيرها:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ} وتجمع أيضا في الكثرة على: أعيان، وهذا غير مشهور، وقليل الاستعمال، كما تطلق العين على العين الباصرة، كما في الآية التي بين أيدينا، وهو أشهر، وأكثر ما تستعمل في ذلك. كما تطلق على الجاسوس، كما في قولك: بثّ الأمير عيونه في المدينة، أي: جواسيسه. كما تطلق على ذات الشخص، كما في قولك: جاء خالد عينه، وتطلق على الشّمس. وعين الشيء:

خياره. وتطلق على النّقد من ذهب، وغيره، وإليك قول الشاعر:[البسيط]

واستخدموا العين منّي وهي جارية

وقد سمحت بها أيّام وصلهم

فالمراد بالعين: نفسه، وذاته، والمراد ب:«جارية» عينه الباصرة؛ التي تجري بالدّمع، والمراد بقوله:«بها» نقد الذهب، وهذا يسمّى في فنّ البديع استخداما، وتطلق العين على أشياء كثيرة أيضا، وعلى المطر الهاطل من السّحاب، قال عنترة في معلّقته-وهو الشاهد رقم [359] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الكامل]

جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

هذا؛ وأعيان القوم: أشرافهم، وبنو الأعيان: الإخوة من الأبوين.

الإعراب: {وَكَتَبْنا:} فعل، وفاعل. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فِيها:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما أيضا، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {التَّوْراةَ..} .

وساغ ذلك؛ لأنّ الجملة الفعلية معطوفة على جملة: {أَنْزَلْنَا..} . إلخ. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {النَّفْسَ:} اسمها. {بِالنَّفْسِ:} متعلقان بمحذوف خبر: {أَنَّ} التقدير: تقتل، أو مقتولة بالنفس، و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به.

{وَالْعَيْنَ:} معطوف على: {النَّفْسَ} . {بِالْعَيْنِ} متعلقان بمحذوف خبر، التقدير: أي:

تقلع، أو مقلوعة بالعين، وقل مثله في بقية الأسماء المعطوفة، هذا؛ وقرئ:«(العين)» بالرفع، وكذلك بقية الأسماء المعطوفة عليها، وفيها ثلاثة أوجه:

الأول: كلّ واحد منها مبتدأ، والجار والمجرور بعده متعلّقان بمحذوف خبره. وهذه الجمل الاسمية معطوفة على:{أَنَّ} وما في حيزها باعتبار المعنى، أو هي مستأنفة، ومعناها: وكذلك العين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسنّ مقلوعة بالسنّ.

ص: 121

والثاني: أنّ (العين) معطوف على محلّ {النَّفْسَ،} و {بِالْعَيْنِ} معطوفان على: {بِالنَّفْسِ} فهما متعلقان بمحذوف خبر في التقدير، كما في قراءة النصب. وهناك قول آخر: إنّ المرفوع منها معطوف على الضمير المستتر في قوله: {بِالنَّفْسِ،} والمجرورات على هذا متعلّقة بمحذوف أحوال مبينة للمعنى، والمعتمد الأوّل من هذه الأقوال. {فَمَنْ:} الفاء: حرف عطف، وتفريع.

(من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَصَدَّقَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان به. {فَهُوَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَفّارَةٌ:} خبر المبتدأ. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان ب: {كَفّارَةٌ} أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط

إلخ، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ..}. إلخ: انظر الآية السابقة.

{وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)}

الشرح: {وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ..} . إلخ أي: أتبعنا على آثار النبيين الذين أسلموا، والربّانيين، والأحبار بعيسى

إلخ، وأصل (قفينا): قفّونا، قلبت الواو ياء لوقوعها رابعة. واشتقاقه من:

قفوته: إذا اتبعت قفاه، ثم اتّسع فيه، فأطلق على كلّ تابع، وإن بعد زمان التابع من زمان المتبوع، والقفا: مؤخر العنق، ويقال له: القافية أيضا. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يعقد الشّيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد

إلخ». رواه الشيخان، وغيرهما، ومنه: قافية الشعر، وهي آخر حرف من البيت، سميت بذلك لأنّها تعاد، وتتبع ما قبلها من أبيات، هذا وقال تعالى في سورة (الحديد):{ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} هذا؛ وعيسى هو بالعبرية: يسوع، مأخوذ من: العيس، وهو بياض يخالطه شقرة، قاله أبو البقاء، ومنه قيل للإبل البيض: عيس، واحدها: بعير أعيس، وناقة عيساء، قال امرؤ القيس:[الطويل]

يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه

كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا

العيط: جمع: عيطاء، وهي النّاقة الفتية التي لم تحمل. وانظر شرح {مَرْيَمَ} في الآية رقم [17].

{مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ} أي: مؤمنا بها، وحاكما بما فيها، هذا؛ وقوله:{لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} من مجاز الكلام، وذلك: أنّ ما بين يديه أمامه، فقيل لكل شيء تقدّم على الشيء: هو بين يديه لغاية ظهوره، واشتهاره. هذا؛ و {التَّوْراةِ} مشتقة من: ورى الزّند: إذا خرجت ناره،

ص: 122

وأصلها تورية على وزن: تفعلة التاء زائدة، وتحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، وقيل:

التوراة مأخوذة من التّورية، وهي التّعريض بالشّيء، والكتمان لغيره؛ لأنّ أكثر التوراة معاريض، وتلويحات من غير تصريح، وإيضاح. هذا قول المؤرج، والجمهور على القول الأول، لقوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [48]:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} .

هذا؛ وأنثت التوراة نظيرة ل: موماة، ودوداة ونحوها في كلام العرب.

{وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ} أي: أنزلنا عليه الإنجيل، وهو يذكّر، ويؤنّث، فمن أنّث أراد الصّحيفة، ومن ذكّر أراد الكتاب، وهو الأكثر، ويجمع على: أناجيل، وتجمع التوراة على توار، وهو مشتقّ من النّجل، وهو الأصل، كأنّه أصل الدّين، يرجع إليه، ويؤتمّ به، ومنه سمّي الولد، والنسل: نجلا لخروجه من والديه، كما قال الشاعر:[الطويل]

إلى معشر لم يورث اللّؤم جدّهم

أصاغرهم وكلّ فحل له نجل

ويقال: لعن الله أناجيله، يعني: والديه؛ إذ كانا أصله، ويقال:[المحدث]

بئس النّجل ما نجلا

هذا؛ وقد يسمى القرآن: إنجيلا أيضا، كما روي في قصّة موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-: أنّه قال: يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم، فاجعلهم أمّتي! فقال الله عز وجل له: تلك أمّة أحمد يا موسى! وإنما أراد بالأناجيل: القرآن. هذا والإنجيل خال من الأحكام. وخاصّة المواريث، وقد دخل الإنجيل التحريف، والتزييف، كما دخلا التوراة، وما إنجيل متّى، ومرقس

إلخ إلا من اختراعهم، وابتداعهم.

{فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} انظر الآية رقم [44]، وأصل:{هُدىً:} هدي-بضم الهاء، وفتح الدال، وتحريك الياء منونة-فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الألف والتنوين، الذي يرسم ألفا في حالة النصب بحسب الأصل، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار: هدى وإنّما أتوا بياء أخرى لتدلّ على الياء المحذوفة، بخلاف ما إذا لم يأتوا بها. وقالوا: هدا، فلا يوجد ما يدلّ عليها. وهذا الإعلال يجري في كلّ اسم مقصور مجرّد من ال، والإضافة.

{وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ:} فالهدى بيان طريق الرّشد المأمور بسلوكه دون طريق الغيّ، والموعظة: هي الكلام الذي يفيد الزّجر عمّا لا ينبغي في طريق الدّين، والأخلاق. وإنّما خص المتقين بالهدى، والموعظة؛ لأنّهم هم المنتفعون بهما دون غيرهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: (قفينا): فعل، وفاعل. {عَلى آثارِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {بِعِيسَى

:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدّرة على الألف للتعذر، والجار والمجرور في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على

ص: 123

جملة: {أَنْزَلْنَا..} . إلخ في الآية رقم [444] فهي في محل رفع مثلها. {اِبْنِ:} صفة (عيسى) أو بدل منه، و {اِبْنِ:} مضاف. و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي. {مُصَدِّقاً} حال من (عيسى).

{لِما} جار ومجرور متعلقان ب: {مُصَدِّقاً} . و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {بَيْنَ:}

ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) أو صفتها، التقدير: مصدقا للذي، أو: لشيء يوجد بين يديه، و {بَيْنَ:} مضاف، و {يَدَيْهِ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه مثنّى صورة، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وابن هشام- رحمه الله تعالى-يعتبر اللام في (لما) زائدة، ويسمّيها لام التقوية، فإذا (ما) مجرورة لفظا، منصوبة محلاّ، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (البروج):{فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} وفي سورة (المعارج): {نَزّاعَةً لِلشَّوى} وفي سورة (الأنبياء): {وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ} . وأورد ابن هشام قول حاتم الطائي، وقيل: هو لقيس بن عاصم المنقري-رضي الله عنه، وهو الشاهد رقم [398] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

{مِنَ التَّوْراةِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الظرف {بَيْنَ،} و {مِنَ} بيان لما أبهم في (ما). (آتيناه): فعل، وفاعل، ومفعول به أوّل. {الْإِنْجِيلَ:}

مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها

إلخ. {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [44]، وهي هنا في محل نصب حال من:{الْإِنْجِيلَ} . {وَمُصَدِّقاً:}

معطوف على الجملة الاسمية الواقعة حالا، فهو حال مثلها. {لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ} إعراب هذه الكلمات مثل إعراب ما قبلها. {وَهُدىً:} معطوف على (مصدقا): منصوب مثله

إلخ {وَمَوْعِظَةً} معطوف على ما قبله أيضا. {لِلْمُتَّقِينَ

:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما على التنازع، وقد حذف متعلّق أحدهما لدلالة متعلق الآخر عليه. هذا؛ وقد قرئ برفع الاسمين على أنّهما مبتدأ حذف خبرهما، التقدير: وفيه هدى، وموعظة للمتقين.

{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)}

الشرح: {وَلْيَحْكُمْ..} . إلخ: يقرأ هذا الفعل بسكون اللام، وكسرها. وقد ذكرت في الآية السابقة: أنّ الإنجيل خال من الأحكام. وإنّما كلّه مواعظ، وحكم؛ فإذا ما معنى الأمر هنا؟ فيه تأويلان: أحدهما: أنّ الإنجيل مصدق للتوراة، ولأحكامها، كما هو صريح الآية السّابقة، فيكون ضمنا آمرا بتنفيذ أحكامهما، وتشريعهما، كما قال تعالى في الآية رقم [68] الآتية:{قُلْ}

ص: 124

{يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ..} . ومن لم ينفذ ذلك يكن غير مؤمن بالإنجيل. والتّأويل الثاني: أنّ المراد بهذا الحكم الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم لأنّ ذكره في الإنجيل، ووجوب التّصديق بنبوّته موجود، فإذا آمنوا بمحمّد، وبالقرآن الّذي أنزل عليه؛ فقد حكموا بما في الإنجيل، كما قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [157]:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ..} . إلخ. هذا؛ وهناك من يقول: إنّ في الإنجيل أحكاما يجب تطبيقها، ولم نطّلع عليها. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ..} .

إلخ. انظر الآية رقم [44] ففيها الكفاية.

الإعراب: {وَلْيَحْكُمْ:} الواو: حرف عطف. اللام: لام الأمر. (يحكم): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {أَهْلُ:} فاعله، وهو مضاف، والإنجيل مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، التقدير: وقلنا: ليحكم

إلخ، والجملة الفعلية هذه معطوفة على جملة:{أَنْزَلْنَا..} . إلخ في الآية رقم [44] فهي في محلّ رفع مثلها. هذا؛ وعلى قراءة كسر اللام؛ فهي لام التعليل و (يحكم): منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، و «أن» المضمرة، والفعل:(يحكم) في تأويل مصدر في محلّ جرّ باللام، والجار والمجرور متعلقان ب:(آتيناه).

{بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: (يحكم). و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، وجملة:{أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ} صلة ما، أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور ب:(في)، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير:

بإنزال فيه، وهو ضعيف كما ترى. وجملة:{وَلْيَحْكُمْ} معطوفة على: (هدى وموعظة

) إلخ.

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ..} . إلخ: انظر إعراب هذه الكلمات جملة، وإفرادا في الآية رقم [44].

{وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}

الشرح: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ:} الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحقّ محمد صلى الله عليه وسلم و {الْكِتابَ:} القرآن. {بِالْحَقِّ:} بالأمر الحق. {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ} المراد:

جميع الكتب السماوية؛ التي أنزلها الله على الرّسل، فالقرآن يؤيّدها، ويؤكّدها. وانظر الآية رقم [46]. {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي: عاليا على جميع الكتب، ومرتفعا عليها، وشاهدا، ورقيبا على سائر

ص: 125

الكتب المتقدّمة، يشهد لها بالصحّة، والثبات، وجامعا لأحكامها، وتعاليمهما. قال حسان رضي الله عنه:[الكامل]

إنّ الكتاب مهيمن لنبيّنا

والحقّ يعرفه ذوو الألباب

هذا؛ ويقرأ بفتح الميم الثانية على صيغة المفعول، وفسّر بأنّ محمدا مؤتمن عليه، وحافظ له من التغيير، والتبديل، والحافظ له في الحقيقة هو الله تعالى بقوله:{إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} وكذلك الحفّاظ في كل عصر.

{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ} أي: أنزل إليك. هذا أمر يوجب الحكم بين اليهود، والنّصارى، فقيل: هذا نسخ للتخيير في قوله في الآية رقم [42]: {فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} . وقيل: ليس هذا وجوبا، والمعنى: فاحكم بينهم إن شئت. ولا تتبع أهواءهم

إلخ: فهذا النهي ليس على بابه، وإنّما هو على سبيل الفرض، والتقدير. فحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يميل عن الحقّ لبعض الناس! أو: يكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمّته. وانظر شرح {الْهَوى} في الآية رقم [135] من سورة النّساء فإنّه جيّد، والحمد لله!.

{لِكُلٍّ} أي: لكل الناس من مسلمين، ويهود، ونصارى. {جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً:}

شريعة، وطريقة واضحة في الدّين، ومنهاجا يمشون عليه. ويتقيّدون بأحكامه. والشريعة في كلام العرب: المشرعة؛ التي يشرعها الناس، فيشربون، ويسقون منها، وقيل: الشّريعة: الطريقة، ثم استعيرت للطريقة الإلهية المؤدّية إلى الدّين. والمنهاج: الطريق الواضح. وقال بعضهم:

الشّريعة، والمنهاج عبارتان عن معنى واحد، والتكرير للتّأكيد، والمراد بها الدّين. وقال آخرون:

بينهما فرق لطيف، وهو أنّ الشريعة هي التي أمر الله بها عباده. والمنهاج: الطّريق الواضح المؤدّي إلى الشّريعة، ولكلّ رسول، وكتاب شريعة، يحلّ الله فيها ما يشاء، ويحرّم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممّن يعصيه، والدّين الذي لا يقبل غيره هو التّوحيد، والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرّسل، عليهم السلام، كما ثبت في صحيح البخاريّ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلاّت، ديننا واحد» . أي: أبناء ضرائر.

وقال عليّ-رضي الله عنه: الإيمان منذ بعث آدم عليه السلام: شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، ولكلّ قوم شريعة، ومنهاج. قال العلماء: وردت آيات دالّة على عدم التباين في طريقة الأنبياء، والرّسل، منها قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً..} . إلخ رقم [13] من سورة (الشّورى)، ومنها قوله عز وجل:{أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ..} . إلخ رقم [90] من سورة (الأنعام)، ووردت آيات دالة على حصول التباين بينهم، منها قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً،} وطريق الجمع بين هذه الآيات: أنّ كلّ آية دلّت على عدم التباين فهي دالّة على أصول الدّين، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه،

ص: 126

ورسله، واليوم الآخر، وكلّ ذلك جاءت به الرّسل من عند الله، ولم يختلفوا فيه. وأمّا الآيات الدّالّة على حصول التباين بينهم فمحمولة على الفروع، وما يتعلّق بظواهر العبادات، فجائز أن يتعبّد الله عباده في كلّ وقت بما يشاء. فهذه طريق الجمع بين هذه الآيات، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. واحتجّ بهذه الآية من قال: إنّ شرع من قبلنا لا يلزمنا؛ لأنّ قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً} يدلّ على أنّ كلّ رسول جاء بشريعة خاصّة، فلا يلزم أمّة رسول الاقتداء بشريعة رسول آخر. انتهى. خازن.

{وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} أي: جماعة متّفقة على شريعة واحدة، ودين واحد، لا اختلاف فيه في جميع الأعصار من غير نسخ، وتبديل. {وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ:} ولكن فرّقكم، وجعلكم شيعا؛ ليختبركم فيما آتاكم من الشّرائع المختلفة، وليظهر المطيع منكم، والعاصي، والموافق، والمخالف. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ:} سارعوا إليها انتهازا للفرصة، وحيازة لفضل السّبق، والتقدّم. وفيه استعارة حيث شبه الطّائعين المسارعين إليها بالمتسابقين على ظهور الخيل؛ إذ كلّ واحد ينافس صاحبه في السّبق لبلوغ الغاية المقصودة. {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} أي: ترجعون إلى الله جميعا، وذلك بالموت الذي قهر به العباد، وحكم به على كلّ مخلوق، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ

}. {فَيُنَبِّئُكُمْ..} . إلخ: انظر الآية رقم [14] ففيها الكفاية، وخذ قول أبي العتاهية الصّوفي-رحمه الله تعالى-:[الوافر]

فلو أنّا إذا متنا تركنا

لكان الموت راحة كلّ حيّ

ولكنّا إذا متنا بعثنا

ونسأل بعد ذا عن كلّ شيء

الإعراب: {وَأَنْزَلْنا:} الواو: حرف عطف. (أنزلنا): فعل، وفاعل. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْكِتابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على مثلها في الآية رقم [44] فهي في محلّ رفع مثلها. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الكتاب، أي: ملتبسا بالحقّ. {مُصَدِّقاً:} حال ثانية من: {الْكِتابَ،} وقيل: من الضّمير المستتر بقوله: {بِالْحَقِّ} .

{لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [46]. {وَمُهَيْمِناً:}

معطوف على: {مُصَدِّقاً} . {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان به.

{فَاحْكُمْ:} الفاء: هي الفصيحة. (احكم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت.

{بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلّق بما قبله، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (احكم)، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية ضعيفة. {أَنْزَلَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: فاحكم بينهم بالذي، أو: بشيء أنزله الله، وجملة: (احكم

) إلخ لا محلّ لها؛

ص: 127

لأنّها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا وحاصلا؛ فاحكم

إلخ.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَتَّبِعْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) والفاعل مستتر تقديره: أنت، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: عادلا، أو مائلا عن الحقّ. {جاءَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، والكاف مفعول به والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها. {مِنَ الْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال (من) الفاعل المستتر، و {مِنَ} بيان لما أبهم في (ما).

{لِكُلٍّ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف، التقدير: لكلّ النّاس، وهما في محل نصب مفعول به ثان تقدّم على الفعل إن كان بمعنى: صيّر.

{جَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بصفة لما عوض عنه تنوين: (كلّ) وقيل: متعلقان بمحذوف، تقديره: أعني: منكم، ولا يجوز تعليقهما بمحذوف على أنّه صفة ل:

(كلّ) لأنّه يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بجملة: {جَعَلْنا} . وهي أجنبية ليس فيها تأكيد، وما شأنه كذلك لا يجوز الفصل به، وهو تكلّف لا داعي له، وقد وقع الفصل بين الصفة والموصوف في قوله تعالى:{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} رقم [14] من سورة (الأنعام). {شِرْعَةً:} مفعول به. {وَمِنْهاجاً

:} معطوف على ما قبله، وجملة:{لِكُلٍّ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها، جيء بها لحمل أهل الكتابين من معاصريه-عليه الصّلاة، والسّلام-على اتّباعه، والانقياد لحكمه.

{وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ اللهُ:}

ماض، وفاعله، والمفعول محذوف دلّ عليه الجواب، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {لَجَعَلَكُمْ:} اللام: واقعة في جواب (لو).

(جعلكم): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والكاف مفعول به أول. {أُمَّةً:} مفعول به ثان. {واحِدَةً:} صفة له، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محلّ لها. و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {وَلكِنْ:} الواو حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له.

{لِيَبْلُوَكُمْ:} اللام: لام التعليل. (يبلوكم): فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف، انظره في الشرح.

{فِي ما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة.

{آتاكُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذّر، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

ص: 128

ليبلوكم في الّذي، أو: في شيء آتاكموه، والكلام:{وَلكِنْ} معطوف على الواو، ومدخولها، لا محلّ له مثله.

{فَاسْتَبِقُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (استبقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتّفريق. {الْخَيْراتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان الابتلاء، والاختبار واقعا؛ فاستبقوا الخيرات. {إِلَى اللهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مَرْجِعُكُمْ:} مبتدأ مؤخر، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر الميمي لفاعله، والجملة الاسمية مستأنفة، أو تعليل للأمر لا محلّ لها على الاعتبارين. {جَمِيعاً:} حال من الكاف، والميم، وهي حال مؤكّدة.

{فَيُنَبِّئُكُمْ:} الفاء: حرف عطف. (ينبئكم): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:(الله) والكاف مفعول به أوّل. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به ثان، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة، والمصدرية. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، وجملة:{فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في محلّ نصب خبر: (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ} إلخ صلة: (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط:

الضمير المجرور محلاّ ب: (في) وعلى اعتبار: (ما) مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محلّ جرّ بالباء، التقدير: فينبئكم باختلافكم، والجملة الفعلية هذه معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَأَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ لَفاسِقُونَ (49)}

الشرح: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ..} . إلخ: فهذا تأكيد لما تقدّم من الأمر بذلك؛ والنهي عن خلافه، وهو النّسخ لقوله تعالى في آية سبقت:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} . وقال بعض العلماء: ليس في هذه الآية تكرار لما تقدّم، وإنّما أنزلتا في حكمين مختلفين، أمّا الآية الأولى؛ فنزلت في شأن رجم المحصن، حيث طلبت اليهود من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلده فقط، وأن يحمّمه، وهذه الآية نزلت في أمر قتيل بينهم.

{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّ كعب بن أسيد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس-أخزاهم الله-قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمّد؛ لعلّنا نفتنه عن دينه. فأتوه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنّا أحبار اليهود، وأشرافهم، وساداتهم.

ص: 129

وإنّا إن اتّبعناك؛ اتبعتنا اليهود، ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنتحاكم إليك، فاقض لنا عليهم؛ نؤمن بك، ونصدقك. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنّما حذّره ربه، وهو رسول معصوم مأمون؛ لقطع أطماع اليهود اللّؤماء. هذا؛ وقيل: المعنى: أن يفتنوك عن كلّ ما أنزل الله إليك، والبعض يستعمل بمعنى الكل، والمعتمد الأوّل، وإنّ المراد به: الرّجم، أو الحكم الذي كانوا أرادوه، ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكلّ.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا:} فإن أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله إليك، وأرادوا غيره. {فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ..}. إلخ؛ أي: فاعتقد أنّ الله يعاقبهم ببعض ذنوبهم. وهذا يشير: أنّ لهم ذنوبا كثيرة. وفيه تعظيم الذنوب، فإنّ بعضها مهلك، فكيف بكلّها؟! هذا؛ وقد أصابهم في الدّنيا ببعض ذنوبهم بالجلاء، والجزية، والقتل، ولعذاب الآخرة أشدّ، وأبقى. {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ لَفاسِقُونَ:}

المراد: اليهود؛ لأنّهم ردّوا حكم الله تعالى، وما أكثر الفاسقين في هذا الزّمن من الذين يدّعون الإسلام، والإيمان!.

هذا؛ و «تولى» تفعّل، وأصله: الإعراض، والإدبار عن الشّيء بالجسم، ثمّ استعمل في الإعراض عن الأوامر، والأديان، والمعتقدات اتّساعا، ومجازا، وانظر الآية رقم [56] الآتية.

هذا؛ وأصل «الفتنة» : الاختبار، ثمّ يختلف معناها، فقوله تعالى هنا:{يَفْتِنُوكَ} معناه:

يصدّوك، ويردّوك عن الحقّ. وتكون الفتنة بمعنى الشرك، كقوله تعالى في سورة (البقرة) الآية رقم [191]:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ،} ورقم [217]: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ،} ورقم [193]:

{وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وهي في (الأنفال) برقم [39]، ولها معان أخر بحسب موقعها من الجملة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَأَنِ:} الواو: حرف عطف. (أن): حرف مصدري، ونصب. {اُحْكُمْ:} فعل أمر في محل نصب ب: (أن) وفاعله مستتر تقديره: أنت، والمصدر المؤوّل منهما في محلّ نصب معطوف على:{الْكِتابَ} في الآية السابقة، التقدير: أنزلنا إليك الكتاب، والحكم. وقيل:

معطوف على {الْحَقِّ} فهو في محل جرّ، وقيل:(أن) مفسّرة، وهناك فعل محذوف، التقدير:

وأمرناك، ثمّ فسّر هذا الأمر ب:(احكم) ولا بأس به، وعليه فالجملة الفعلية معطوفة على جملة:

(أنزلنا

) إلخ. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلّق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية السّابقة. {وَاحْذَرْهُمْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه، تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {أَنِ:}

حرف مصدري، ونصب. {يَفْتِنُوكَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنِ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والمصدر المؤوّل منهما بدل اشتمال من:(هم) أي: احذرهم فتنتهم، أو هو مفعول لأجله على حذف مضاف. التقدير:

ص: 130

احذرهم مخافة فتنتهم. {عَنْ بَعْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَعْضِ:} مضاف، و (ما): مضاف إليه، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: عن بعض الذي، أو: بعض شيء أنزله الله إليك، والتقدير على المصدرية: عن بعض إنزال الله إليك، وهو ضعيف معنى، كما ترى.

{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة في محلّ جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَاعْلَمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (اعلم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَنَّما:} كافة، ومكفوفة. {يُرِيدُ اللهُ:} مضارع، وفاعله. {أَنِ:} حرف مصدري ونصب. {يُصِيبَهُمْ:} فعل مضارع منصوب ب:

{أَنِ،} والفاعل يعود إلى: {اللهُ،} والهاء مفعول به، والمصدر المؤول منهما في محل نصب مفعول به، والمصدر المؤول من:{أَنَّما..} . إلخ في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي (اعلم)، وجملة: (اعلم

) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور

إلخ، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له مفرّع عمّا قبله لا محلّ له.

{وَأَنِ:} الواو: حرف استئناف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {كَثِيراً:} اسمها. {مِنَ النّاسِ:} متعلقان ب: {كَثِيراً} أو بمحذوف صفة له، وتعليقهما ب:(فاسقون) بعدهما ضعيف.

{لَفاسِقُونَ

:} اللام: هي المزحلقة. (فاسقون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:

{وَإِنَّ كَثِيراً..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها، واعتبارها حالا من الضمير:(هم) لا بأس به، ويكون الرابط: الواو فقط، وقد أظهر في محل الإضمار، فمقتضى القياس:«وإنّ كثيرا منهم لفاسقون» .

{أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}

الشرح: {الْجاهِلِيَّةِ

:} تطلق هذه الكلمة على أحوال العرب قبل الإسلام حينما كانوا يعبدون الأوثان، والفوضى ضاربة أطنابها فيهم، وهي أيضا: متابعة الهوى، والميل إلى الباطل، والمداهنة في الحكم، وهي الآن ضاربة أطنابها في بلاد المسلمين بهذا المعنى. وإليك ما جاء في الظلال للمرحوم سيد قطب، قال: إنّ الجاهلية في ضوء هذا النصّ القرآني البليغ هي حكم البشر للبشر، وعبودية البشر للبشر، ورفض ألوهيّة الله، والخروج من عبوديته إلى عبودية غير الله، إنّه مفرق الطريق، فإمّا حكم الله، وإمّا حكم الجاهلية، ولا وسط، ولا بديل، إما أن تنفذ شريعة الله في حياة الناس، أو ينفذ حكم الجاهلية، وشريعة الهوى، ومنهج العبوديّة لغير الله.

ص: 131

والجاهلية ليست فترة من الزّمن، ولكنّها وضع من الأوضاع يوجد بالأمس، واليوم، وغدا.

والناس إمّا أنّهم يحكمون بشريعة الله، ويقبلونها، ويسلّمون بها تسليما، فهم إذا مسلمون، وإمّا أن يحكموا بشريعة من صنع البشر، فهم في جاهلية، وهم خارجون عن شريعة الله. والاستفهام للإنكار والتوبيخ، والمعنى: أيتولون عن حكمك، ويبتغون غير حكم الله، وهو حكم الجاهليّة؟! هذا؛ ويقرأ حكم بضم الحاء وسكون الكاف، وبفتحتين، كما يقرأ بفتح الميم، وضمّها.

{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ..} . إلخ: هذا إنكار، ونفي لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله تعالى، أو مساو له؛ وإن كان ظاهر السّبك غير متعرّض لنفي المساواة، وإنكارها.

{يُوقِنُونَ} أي: يعتقدون بالله، أو بحكمه. وفي الخازن: والإيقان: إتقان العلم بنفي الشّكّ، والشبهة عنه بالاستدلال. واليقين: عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال الشبهة؛ لأنّ الإنسان في أوّل الحال لا ينفك عن شبهة، وشكّ، فإذا كثرت الدلائل، وتوافقت؛ صارت سببا لحصول اليقين، والطمأنينة في القلب، وزالت الشّبهة عند ذلك. وينبغي أن تعلم أن اليقين من «يقن» الثّلاثي، وأمّا الإيقان؛ فإنّه من «أيقن» الرّباعي. هذا؛ وأصل الفعل:«يؤيقنون» فحذفت الهمزة للتخفيف، حملا على المبدوء بهمزة المضارعة مثل:«أؤيقن» الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار:«يويقنون» ثم حذفت الياء الساكنة لالتقائها ساكنة مع الواو، فصار (يوقنون).

تنبيه: سبب نزول هذه الآية الكريمة: كانت بين بني النضير، وبني قريظة-حيين من اليهود في المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها-دماء، وكان بنو النضير يفضّلون أنفسهم على بني قريظة، كما ذكرته لك فيما مضى قريبا، فلمّا هاجر الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ تحاكموا إليه، فقال بنو قريظة: بنو النضير إخواننا، ويفضّلون أنفسهم علينا، يجعلون القتيل منهم بقتيلين منا، وأرش جراحتنا على النّصف من جراحتهم، فاحكم بيننا، وبينهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«أنا أحكم: أنّ دم القرظي كدم النّضيريّ، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم، ولا عقل، ولا جراحة» . فغضب بنو النضير، وقالوا: لا نرضى بحكمك! فأنزل الله الآية الكريمة على سيد الخلق، وحبيب الحقّ.

تنبيه: روي: أنّ طاوس-رحمه الله تعالى-كان إذا سئل عن الرّجل يفضّل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية، وكان-رضي الله عنه-يقول: ليس لأحد أن يفضّل بعض ولده على بعض، فإن فعل؛ لم ينفذ، وفسخ. وبه قال الإمام أحمد، وأهل الظاهر، وأجاز ذلك مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، واستدلّوا بفعل الصدّيق-رضي الله عنه-في نحله عائشة-رضي الله عنها-دون سائر ولده. واحتجّ الأوّلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم لبشير بن النّعمان-رضي الله عنهما:

«أكلّ ولدك نحلت مثله؟» فقال: لا، قال صلى الله عليه وسلم:«فلا تشهدني إذا؛ فإنّي لا أشهد على جور» .

ص: 132

قالوا: وما كان جورا؛ فهو باطل، لا يجوز، وأمّا فعل الصديق-رضي الله عنه-فلا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلّه كان قد نحل أولاده نحلا يعادل ذلك.

والّذي يرجّح المنع، بل والتحريم ما ينشأ عن ذلك من العقوق؛ الّذي هو أكبر الكبائر، وزرع الضغينة، والحقد، والحسد بين الأولاد، وهذا واقع في حياتنا، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

«اتّقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» .

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحبّ أن تعدلوا بين أولادكم ولو في القبل» . قال النّعمان-رضي الله عنه-فرجع أبي فردّ تلك الصّدقة. فليتق الله المسلم، وليكن ضابطا لعواطفه حتّى لا يجرّ الشّقاء على ورثته من بعده. والشقي من اتّعظ به غيره، والسّعيد من اتّعظ بغيره.

الإعراب: {أَفَحُكْمَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. والفاء: حرف عطف. و (حكم):

مفعول به مقدّم على ناصبه، وهو مبتدأ على رفعه، وهو مضاف، و {الْجاهِلِيَّةِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر، أو اسم الفاعل لفاعله. {يَبْغُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ على رفع:(حكم) ويكون قد حذف الرابط، وهو المفعول به، كما حذفه أبو النّجم العجلي في قوله-وهو الشاهد رقم [365] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز]

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

فتكون الجملة اسمية. وسواء كانت الجملة اسمية، أم فعلية فهي مستأنفة، لا محلّ لها.

وقال الزمخشري، ومتابعوه: الجملة على الوجهين معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: أيتولون عن حكمك، فيبغون حكم الجاهلية؟! {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم استفهام معناه النفي مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَحْسَنُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {أَحْسَنُ} . {حُكْماً:} تمييز. {لِقَوْمٍ:} متعلقان ب:

{حُكْماً} أو بمحذوف صفة له. {يُوقِنُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية في محلّ جرّ صفة:(قوم).

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (51)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. أمّا المناسبة بين هذه الآية وما يتلوها من آيات، وبين ما تقدّم؛ فإنّ الله تعالى لمّا حكى عن أهل الكتاب: أنّهم تركوا العمل بالتّوراة، والإنجيل، وحكم عليهم بالكفر، والظلم، والفسوق؛ حذّر الله تعالى في هذه الآيات من موالاة

ص: 133

اليهود، والنصارى، ثمّ عدّد جرائم اليهود، وما اتّهموا به الذّات الإلهية المقدّسة من شنيع الأقوال، وقبيح الفعال. واختلف في سبب نزول الآيات.

فقال قوم: نزلت في عبادة بن الصّامت-رضي الله عنه، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين، وذلك: أنّهما اختصما، فقال عبادة-رضي الله عنه: إنّ لي أولياء من اليهود، كثير عددهم، شديدة شوكتهم، وإنّي أبرأ إلى الله، وإلى رسوله من ولايتهم، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: لكنّي لا أبرأ من ولايتهم، فإنّي أخاف الدوائر، ولا بدّ لي منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أبا الحباب، ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه» . فقال: إذن أقبل، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها. والمراد باليهود قبيلة بني قينقاع؛ الذين أجلاهم الرّسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، وكانوا حلفاء لعبد الله المنافق، فتشبث بهم.

وقال السدي-رحمه الله تعالى-: لمّا كانت وقعة أحد؛ اشتدّ الأمر على طائفة من الناس، وتخوّفوا أن يدال عليهم للكفار، فقال رجل من المسلمين: أنا الحق بفلان اليهودي، وآخذ منه أمانا، وقال آخر: أنا ألحق بفلان النّصراني من أهل الشام، وآخذ منه أمانا، فأنزل الله هذه الآية ينهاهم فيها عن موالاة اليهود، والنصارى. وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، لمّا بعثه صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم. وهذا ضعيف.

{بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي: يوالي، ويناصر بعضهم بعضا؛ لاتحادهم في الكفر، واجتماعهم على عداوتكم، وما نراه في العصر الحديث من مساعدة الإنكليز، والأمريكان لليهود يؤكّد هذه الحقيقة التي نزل بها القرآن منذ أربعة عشر قرنا، وهي ماثلة أمام أعين الناس أجمعين.

{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي: من يعتمد على اليهود، والنصارى، والمشركين في شئونه، ويأمن غدرهم، وشرّهم؛ فهو منهم، ويحشر معهم يوم القيامة، وهذا تعليم من الله تعالى، وتشديد عظيم في مجانبة الكفار جميعا، وكلّ من خالف دين الإسلام. وانظر الآية رقم [28] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي..}. إلخ. أي: لا يوفق الذين ظلموا أنفسهم بموالاة أعداء الله، أو ظلموا المؤمنين بموالاة أعدائهم، وانظر «الظلم» وأنواعه في الآية رقم [146] من سورة (الأنعام) والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1] من هذه السّورة. {لا:} ناهية جازمة.

{تَتَّخِذُوا:} فعل مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْيَهُودَ:} مفعول به أول. {وَالنَّصارى:} معطوف عليه منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {أَوْلِياءَ

:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية:{لا تَتَّخِذُوا..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {بَعْضُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَوْلِياءَ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {بَعْضٍ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية تعليل للنهي، لا محلّ لها.

ص: 134

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَوَلَّهُمْ:} فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف المقصورة، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى (من) والهاء مفعول به. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في (من). {فَإِنَّهُ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا. والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثّقل، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . {الْقَوْمَ:} مفعول به. {الظّالِمِينَ:} صفته منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{لا يَهْدِي..} . إلخ في محلّ رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل، أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين.

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)}

الشرح: {فَتَرَى..} . إلخ: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شكّ، ونفاق، فهو يمرض قلوبهم، أي: يضعف الإيمان فيها، و «المرض» حقيقة فيما يعرض للبدن. فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، وقد يؤدي إلى الموت، واستعير هنا لما في قلوبهم من الجهل، وفساد العقيدة. {يُسارِعُونَ فِيهِمْ} أي: يسارعون في موالاة الكفار، ومودّتهم، والمراد بالذين في قلوبهم مرض: عبد الله بن أبيّ، ومن على شاكلته من المنافقين. انظر الآية السابقة.

{يَقُولُونَ نَخْشى:} نخاف. {أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ} أي: من دوائر الزّمان بأن ينقلب الحال، وتكون الدولة، والغلبة لكفار قريش على المسلمين، و «الدائرة»: اسم للحادثة من حوادث الدّهر، سمّيت بذلك؛ لأنّها تدور على الناس من خير إلى شرّ، ومن شرّ إلى خير، ثم اختصت في الاستعمال بالمكروه من الحوادث، والجمع: دوائر، قال تعالى في سورة (التوبة) رقم [98]:

{وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} . وقال عنترة في معلّقته رقم [77]: [الكامل]

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر

للحرب دائرة على ابني ضمضم

ص: 135

{فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ:} (عسى) ليست هنا للترجّي، وإنّما هي للتحقيق. قال المفسّرون:

(عسى) من الله واجب؛ لأنّ الكريم إذا أطمع في خير؛ فعله، وهو بمنزلة الوعد؛ لتعلّق النفس به، ورجائها له. والمعنى: فعسى أن يأتي الله بالفتح لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على أعدائه، وإظهار دينه على الأديان كلّها. وقيل: أراد فتح مكة، وقيل: أراد فتح قرى اليهود، مثل: خيبر، وفدك، ونحوهما من بلادهم. {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ:} قال السدي: يعني: ضرب الجزية على اليهود، والنصارى. وقيل: المعنى: إنّ الله تعالى يقطع أصل اليهود من أرض الحجاز، ويخرجهم من ديارهم بلا كلفة، وتعب، كما ألقى الرعب في قلوبهم، فتركوا أصل ديارهم، وخرّبوها بأيديهم، ورحلوا إلى الشّام.

{فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا..} . إلخ. أي: فيكون المنافقون نادمين على إسرارهم الكفر في قلوبهم فضلا عمّا ظهر على ألسنتهم من كلمات الكفر، وذلك إذا رأوا نصر الله للمؤمنين، أو إذا عاينوا العذاب عند الموت. هذا؛ و (يصبح) ليس على بابه من التوقيت في الصّباح، وإنّما هو بمعنى:

يصير، أو يكون.

هذا؛ و (ترى) ماضيه: رأى، فالقياس: ترأى، وقد تركت العرب الهمز في مضارعه لكثرته في كلامهم، وربما احتاجت إلى همزه، فهمزته، كما في قول سراقة بن مرداس البارقي-وهو الشاهد رقم [504] من كتابنا:«فتح القريب» -: [الوافر]

أري عينيّ ما لم ترأياه

كلانا عالم بالتّرّهات

وربّما جاء ماضيه بغير همز، وبه قرأ نافع في:«(أرأيتكم)» و «(أرأيت)» : «(أرايتكم)» و «(أرايت)» بدون همز، قال الشاعر:[الخفيف]

صاح هل ريت أو سمعت براء

ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب

وإذا أمرت منه على الأصل؛ قلت: أرء، وعلى الحذف: ره بهاء السكت، وقل في إعلال (ترى): أصله: ترأي، قلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ثمّ حذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على الرّاء للتخفيف.

الإعراب: {فَتَرَى:} الفاء: حرف استئناف. (ترى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف للتعذّر، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أوّل. {فِي قُلُوبِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول والهاء في محل جر بالإضافة. {مَرَضٌ:} فاعل بمتعلق الجار والمجرور، والتقدير: ترى الذين استقرّ في قلوبهم مرض. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلّقين بمحذوف خبر مقدّم و {مَرَضٌ:} مبتدأ مؤخر؛ فعليه تكون الجملة الاسمية صلة الموصول، لا محلّ لها.

ص: 136

{يُسارِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان على اعتبار (ترى) قلبيّا، وفي محل نصب حال من الموصول على اعتبارها بصريّا، ومثله في الآية رقم [62] الآتية. {فِيهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة:{فَتَرَى..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع، وفاعله. {نَخْشى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف للتعذّر، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والمصدر المؤول من:{أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ} في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{نَخْشى..} . إلخ في محلّ نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، فهي حال متداخلة، أو هي من تعدّد المفعول الثاني على اعتبار (ترى) قلبيّا.

{فَعَسَى:} الفاء: حرف استئناف. (عسى): فعل ماض جامد دال على الرّجاء في الأصل، وانظر الشرح، مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذّر. {اللهُ:} اسم (عسى)، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَأْتِيَ} في محل نصب خبر (عسى)، وهو يؤول بعد سبكه باسم الفاعل، فيكون التقدير:

فعسى الله آتيا. {بِالْفَتْحِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {أَوْ:}

حرف عطف. {أَمْرٍ:} معطوف على ما قبله. {مِنْ عِنْدِهِ:} متعلّقان ب {أَمْرٍ،} أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَيُصْبِحُوا:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق. {عَلى ما:} متعلقان ب:

{نادِمِينَ} بعدهما، و {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {أَسَرُّوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: على الذي، أو: على شيء أسروه، وعلى اعتبار:{ما} مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جرّ ب {عَلى،} التقدير: على إسرارهم. {فِي أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف المنصوب. {نادِمِينَ} خبر:(يصبحوا) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)}

الشرح: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: حين يمنّ الله بالفتح على المؤمنين، وترجع الحسرة، والخيبة، والندامة للمنافقين. واختلف في المقول لهم:{أَهؤُلاءِ..} . إلخ على وجهين:

إما أن يقوله المؤمنون بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين، واغتباطا بما منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص، والثبات على الإيمان: هؤلاء المنافقون الذين حلفوا لكم بأغلظ

ص: 137

الأيمان: أنّهم معكم، ومعاضدوكم على الكفّار؟ وإما أن يقولوا هذا الكلام لليهود؛ لأنّ المنافقين حلفوا لهم: أنهم معهم بالمعاضدة، والنّصرة، كما حكى الله عنهم في سورة (الحشر):

{وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} . {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ..} . إلخ: هذا من تتمّة قول المؤمنين. أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلّفونها في رأي أعين النّاس، ويتزلّفون إليهم بها. وفيه معنى التعجب.

كأنّه قيل: ما أحبط أعمالهم! فما أخسرهم في الدنيا والآخرة! خسروا في الدنيا بافتضاحهم، وخسروا في الآخرة بإحباط أعمالهم، ودخولهم نار جهنّم وبئس المصير، والقرار! هذا؛ و «جهد اليمين» أغلظه، والجهد بفتح الجيم وضمها: الطاقة، والقدرة، وقرئ بهما قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [79]:{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ} والله أعلم بمراده.

الإعراب: {وَيَقُولُ:} يقرأ بالرفع بواو، وبدونها على الاستئناف، ويقرأ بالنصب عطفا على:

{أَنْ يَأْتِيَ} باعتبار المعنى، وأجيز اعتبار المصدر بدلا من لفظ الجلالة، فيصير التقدير: عسى أن يأتي الله ويقول الذين آمنوا. وفيه قول ثالث وهو أن تعطفه على (الفتح) على حدّ قول ميسون -وهو الشّاهد رقم [473] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» والشاهد رقم [138] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [الوافر]

للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ رفع فاعل، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها.

{أَهؤُلاءِ:} الهمزة: حرف استفهام. الهاء: حرف تنبيه لا محلّ له. (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبره، وجملة:{أَقْسَمُوا بِاللهِ} صلة الموصول، لا محلّ لها.

{جَهْدَ:} حال من واو الجماعة بمعنى: جاهدين، وقيل: مفعول مطلق عامله: (أقسموا) و {جَهْدَ:} مضاف، و {أَيْمانِهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{أَهؤُلاءِ:} في محل نصب مقول القول.

{إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها. {لَمَعَكُمْ:} اللام: هي المزحلقة. (معكم): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: (إنّ)، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية جواب:(أقسموا) لا محلّ لها. {حَبِطَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث.

{أَعْمالُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها.

(أصبحوا): فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {خاسِرِينَ:}

خبر: (أصبحوا) منصوب

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

ص: 138

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر مثل هذا النداء في الآية رقم [1] من هذه السّورة. {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ:} من يرجع عن دين الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر؛ فلن يضرّ الله شيئا، وإنّما يضرّ نفسه برجوعه عن الدّين الحق. ففيه دليل على نبوّة سيد الخلق، وحبيب الحقّ؛ حيث أخبر القرآن بأمور لم تكن، فكانت، فقد ارتدّ عن الإسلام من العرب في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق: بنو مدلج في اليمن؛ حيث تنبّأ فيهم الأسود العنسي، وكان يلقب بذي الحمار، وكان كاهنا، فكان يقول للحمار سر، فيسير، قف؛ فيقف، وقد أخزاه الله، فقتل قبل وفاة الرّسول صلى الله عليه وسلم بليلة، وأخبر المسلمين بقتله، وكان فيروز الدّيلمي-رضي الله عنه-بيّته، وقتله.

وبنو حنيفة: حيث تنبّأ فيهم مسيلمة الكذاب، وقد أخزاه الله، فقتل بخلافة الصدّيق-رضي الله عنه، وكان الذي باشر قتله وحشيّ قاتل الحمزة-رضي الله عنه، فكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشرّ الناس في الإسلام، وأرجو أن تكون هذه بهذه. وارتدّ بعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة؛ التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب، وفيها يقول أبو العلاء المعري:[البسيط]

امّت سجاح ووافاها مسيلمة

كذّابة من بني الدّنيا وكذّاب

وكانت شريفة، فلمّا تزوّجها؛ سلمت له، فاتّبعه قومها، وهم بنو حنيفة، وقال الشّاعر فيهما:[الوافر]

مسيلمة اليمامة كان أدهى

وأكذب حيث سار إلى سجاح

ليمدح قومه بأبي رباح

وفاز وردّ مقصوص الجناح

وفيهما يقول قيس بن عاصم-رضي الله عنه: [البسيط]

أضحت نبيّتنا أنثى نساء بها

وأصبحت أنبياء النّاس ذكرانا

فلعنة الله والأقوام كلّهم

على سجاح ومن بالإفك أغرانا

أعني مسيلمة الكذّاب لا سقيت

أصداؤه ماء المزن حيثما كانا

ثمّ لما قتل مسيلمة تابت سجاح، وحسن إسلامها.

ص: 139

وارتدّ بنو أسد؛ حيث تنبّأ فيهم طليحة بن خويلد الأسدي، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد-رضي الله عنه. فقاتله، فانهزم بعد القتال إلى الشّام، ثمّ أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه. وارتدّ سبع فرق في خلافة الصدّيق-رضي الله عنه. وقال ابن إسحاق: لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّت العرب إلا ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد جؤاثى في البحرين، وكانوا في ردّتهم على قسمين: قسم نبذ الشّريعة كلّها، وخرج عنها، كما قدّمت، وقسم نبذ وجوب الزّكاة، واعترف بوجوب غيرها، فقالوا: نصوم، ونصلّي، ولا نزكي، فقاتل الصديق جميعهم، وبعث خالد بن الوليد وغيره إليهم بالجيوش، فقاتلهم، وسباهم، وردّهم إلى الإسلام على ما هو المشهور من أخبارهم.

ومن قرأ التاريخ يعرف ما لأبي بكر-رضي الله عنه-من الفضل. قال أبو بكر بن عيّاش:

سمعت أبا حصين يقول: ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصدّيق، لقد قام مقام نبيّ من الأنبياء في قتال أهل الردّة. ولقد ارتدّ عن الإسلام في عهد عمر-رضي الله عنه-قبيلة غسّان قوم جبلة بن الأيهم، وتنصّر، وهرب-بسبب اللّطمة للفزاري-إلى بلاد الرّوم، انظر قصّته في الآية رقم [16] من سورة (البقرة) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. هذا؛ ويقرأ:«يرتد» و (يرتدد) بالفك والإدغام، وفي سورة (البقرة) رقم [217] بالفكّ فقط.

{فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ:} انظر الآية رقم [133] من سورة (النساء) ففيها الكفاية.

هذا، والمحبّة ميل النّفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، بحيث يحملها على ما يقرّبها إليه.

والعبد إذا علم: أنّ الكمال المطلق الحقيقي ليس إلا لله، عز وجل، وأنّ كلّ ما يراه كمالا من نفسه، أو من غيره؛ فهو من الله، وبالله، وإلى الله؛ لم يكن حبّه إلا لله، وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، والرّغبة فيما يقرّبه إليه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته، والحرص على مطاوعته. انتهى. بيضاوي. ومن محبّة الله للعبد رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه. وعدم محبة الله للعبد كناية عن بغضه، والسّخط، والغضب عليه، أعاذنا الله من ذلك. هذا؛ وقد حمل الزّمخشري على الصّوفية بادّعائهم الحبّ، وما ينتج عنه من أعمال دجل، وشعوذة. انظر الكشاف؛ فإنّه جيد.

قال عبد الله بن زيد-رضي الله عنهما: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله تعالى:

ظننت: أنّي أحبّه، فإذا هو أحبني، قال تعالى:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . وظننت: أني أرضى عنه فإذا هو قد رضي عنّي، قال تعالى:{رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . وظننت: أنّي أذكره، فإذا هو يذكرني، قال تعالى:{وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ،} وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} . وظننت أني أتوب إليه، فإذا هو قد تاب عليّ، قال تعالى:{ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} .

{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي: ويتذلّلون للمؤمنين. متواضعون لهم، عاطفون عليهم، راحمون لهم. من قولهم: دابة ذلول، أي: تنقاد سهلة، ولم يرد ذلّ الهوان. {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ:}

ص: 140

أشداء، أقوياء، غلظاء على أعدائهم الكافرين. قال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: هم للمؤمنين كالوالد للولد، والسّيّد للعبد، وهم في الغلظة على الكفّار كالسّبع على فريسته. قال تعالى في وصفهم في آخر سورة (الفتح):{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} انظر شرحها؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. هذا؛ وبين:{أَذِلَّةٍ} و {أَعِزَّةٍ} طباق، وهو من المحسّنات البديعيّة.

{يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ:} يبذلون أموالهم، وأرواحهم في سبيل نصرة الدّين الحنيف، ولا يخافون لومة لائم: بخلاف المنافقين يخافون الدّوائر، فدلّ بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي-رضي الله عنهم أجمعين-؛ لأنّهم جاهدوا في الله-عز وجل-في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المرتدّين بعده، ومعلوم: أنّ من كانت فيه هذه الصفات؛ فهو وليّ لله تعالى. وقيل: الآية عامّة في كلّ من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة.

فعن عبادة بن الصّامت-رضي الله عنه-قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السّمع، والطّاعة في العسر، واليسر، والمنشط، والمكره، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحقّ أينما كنّا، لا نخاف في الله لومة لائم» . متّفق عليه.

وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحقرنّ أحدكم نفسه أن يرى لله أمرا لله فيه مقال، فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت في كذا، وكذا؟ فيقول: مخافة النّاس، فيقول: إيّاي أحقّ أن تخاف» . أخرجه الإمام أحمد.

{ذلِكَ:} إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبّة، ولين الجانب للمؤمنين، والشدّة على الكافرين، وأنّهم يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم. كلّ ذلك من فضل الله تعالى، تفضّل به عليهم، ومن إحسانه إليهم. {فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ:} يعطيه، ويمنحه من يشاء من عباده. {وَاللهُ واسِعٌ:} يسع خلقه كلهم بالكفاية، والرزق، والجود، والعطاء، وهو واسع الفضل، والرّحمة. وقيل: واسع القدرة، والعلم، والرزق. وقيل: هو الغنيّ الذي وسع جميع مخلوقاته. {عَلِيمٌ} بأفعال عباده، وبمن يستحقّ الفضل، والرحمة، قال تعالى في سورة طه:

{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ و «أتى» يأتي لازما؛ إن كان بمعنى: حضر، وأقبل. ومتعدّيا إن كان بمعنى: وصل، وبلغ. فمن الأول ما في الآية الكريمة قوله تعالى:{يَأْتِي اللهُ} وقوله تعالى: {أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ،} ومن الثاني قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظّالِمُونَ} رقم [47] من سورة (الأنعام)، ومثلها برقم [40] منها، هذا؛ و «أتى» بمعنى:

أعطى، يعطي ينصب مفعولين، ومنه ما في الآية الكريمة:{يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} . و {لائِمٍ} أصله:

لاوم اسم فاعل من: لام، يلوم، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولم يعتدّ بالألف

ص: 141

الزائدة لأنّها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية منهما همزة، فصار: لائم. وقل مثله في اليائي: بائع؛ فإنّ أصله: بايع.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1] من هذه السّورة. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَرْتَدَّ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وحرك بالفتحة للخفّة، ويجوز تحريك الدّال بالكسرة؛ لأنّه الأصل في التخلّص من السكونين، ويمتنع الضم هنا لعدم ضمّ عينه. هذا؛ وعلى قراءة:(يرتدد) فالسكون ظاهر، والفاعل مستتر يعود إلى:

{مَنْ} . {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في {مَنْ}. {عَنْ دِينِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَسَوْفَ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (سوف): حرف تسويف، واستقبال. {يَأْتِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {اللهُ:} فاعله. والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا. {بِقَوْمٍ:} متعلقان بما قبلهما.

{يُحِبُّهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والهاء مفعول به. والجملة الفعلية في محل جر صفة: (قوم). {وَيُحِبُّونَهُ:} مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها، وجوز اعتبارها حالا من الضمير المنصوب، ويكون الرابط:

الواو، والضمير. {أَذِلَّةٍ:} صفة ثانية ل (قوم). {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان ب: {أَذِلَّةٍ} أو بمحذوف صفة له. {أَعِزَّةٍ:} صفة ثالثة ل (قوم) وقرئ بالنصب على الحال من: (قوم) بعد وصفه بما تقدّم.

{عَلَى الْكافِرِينَ:} متعلقان ب {أَعِزَّةٍ} أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{يُجاهِدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النّون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جرّ صفة رابعة ل (قوم) أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدّم. وقيل: حال من الضمير المستتر في: {أَعِزَّةٍ} . {فِي سَبِيلِ} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه، وجملة: (لا يخافون

) إلخ معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {لَوْمَةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {لائِمٍ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {فَضْلُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {اللهُ:}

مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {يُؤْتِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ:} والهاء مفعول به أول. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السّكون في محل نصب

ص: 142

مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

يؤتيه الذي، أو: شخصا يشاؤه، والجملة الفعلية هذه في محلّ نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال اسم الإشارة. وقيل: في محل رفع خبر ثان للمبتدإ.

وقيل: مستأنفة لا محل لها، والمعتمد الأول، وهو على حدّ قوله تعالى:{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً} . {وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ:} جملة اسمية مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها على الاعتبارين، هذا؛ وساغ مجيء الحال من لفظ الجلالة، وهو مضاف إليه؛ لأنّ المضاف جزؤه، وقال ابن مالك في ألفيته:[الرجز]

ولا تجز حالا من المضاف له

إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله

أو كان جزء ما له أضيفا

أو مثل جزئه فلا تحيفا

{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55)}

الشرح: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ..} . إلخ: أي: ناصركم، ومعينكم، ويتولّى أموركم الله، ورسوله محمّد صلى الله عليه وسلم. {وَالَّذِينَ آمَنُوا:} المراد بهم صحابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، الذين وصفوا بإقامة الصّلاة، وإيتاء الزكاة، وانظر شرح {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في الآية رقم [103] من سورة (النّساء)، وشرح (الزّكاة) في الآية رقم [12] من هذه السّورة. {راكِعُونَ:} خاشعون، متواضعون في صلاتهم، وأفرد الرّكوع بالذّكر مع كونه داخلا في الصّلاة تنويها بشأنه.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في حقّ عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه-حين سأله سائل، وهو راكع في صلاته، فطرح له خاتمه، كأنّه كان واسعا، غير محتاج في إخراجه من يده إلى عمل كثير يؤدّي إلى فساد الصّلاة. واستدلّ الشّيعة باطلا بهذه الآية على إمامته، زاعمين: أنّ المراد بالولي المتولّي للأمور، والمستحقّ للتصرّف فيها، وقد قال تعالى:{وَلِيُّكُمُ} ولم يقل:

أولياؤكم للتنبيه على أنّ الولاية لله تعالى بالأصالة، ولرسوله، وللمؤمنين بالتّبع. ويرد على الشيعة: أن حمل الجمع على الواحد خلاف الظاهر؛ وإن قيل: إنّ الآية نزلت فيه، والمراد بالجمع المفهوم من الموصول.

هذا؛ وقد ذكر ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ الآية نزلت في عبادة بن الصّامت-رضي الله عنه-حين تبرّأ من اليهود، وموالاتهم، وقال: أتولّى الله، ورسوله، والمؤمنين، كما رأيت في الآية رقم [52].

وقال جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: نزلت الآية في عبد الله بن سلام-رضي الله عنه، وذلك: أنّه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، فقال: يا رسول الله! إنّ قومنا: قريظة،

ص: 143

والنّضير قد هجرونا، وفارقونا، وأقسموا أن لا يجالسونا. فنزلت هذه الآية، فقرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال-رضي الله عنه: رضينا بالله ربّا، وبرسوله نبيّا، وبالمؤمنين أولياء.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {وَلِيُّكُمُ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، انظر الشرح. {اللهُ:} خبر المبتدأ، وهو بمعنى الفاعل ب:(ولي)، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {وَرَسُولُهُ:} معطوف على {اللهُ،} والهاء في محلّ جرّ بالإضافة. {وَالَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ رفع معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية بعده صلته، والمتعلّق محذوف.

{الَّذِينَ:} يجوز اعتباره بدلا ممّا قبله، وصفة له مع ضعفه، وخبرا لمبتدإ محذوف، التقدير:

هم الذين، ومفعولا به لفعل محذوف، التقدير: أعني الذين، وجملة:{يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها. (هم):

ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {راكِعُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرّابط: الواو، والضمير. وقيل بجواز عطفها على الجملة الفعلية قبلها.

{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)}

الشرح: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ..} . إلخ؛ أي: من فوّض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين؛ فهو من حزب الله. أو المعنى: ومن يتولّ القيام بطاعة الله، ونصرة رسوله، والمؤمنين. وانظر الآية رقم [49]. {فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ..}. إلخ: فإنّ أنصار الله {هُمُ الْغالِبُونَ} لأنّ الله ناصرهم على عدوهم، قال تعالى في آخر سورة (المجادلة):{أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} لذلك غلبوا اليهود، والنّصارى بالسّبي، والقتل، وضرب الجزية، والإجلاء من الأرض. هذا و «الحزب» في اللغة: أصحاب الرّجل الذين يكونون معه على مثل رأيه، وهم القوم الذين يجتمعون معه لأمر حزبه؛ أي: أهمّه. والحزب: الورد في الطاعة، ومنه الحديث:«فمن فاته حزبه من اللّيل» . وحزبه أمر: أصابه. والأحزاب: الطوائف التي تجتمع على محاربة الأعداء.

هذا؛ وكل حزب لا يكون سائرا على الجادة المستقيمة، فهو حزب الشيطان، يعني: أتباعه، وأنصاره، وأعوانه، وهم الخاسرون، كما قال تعالى:{أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ} أي:

الكاملون في الخسران؛ لأنّهم فوّتوا على أنفسهم النّعيم الدائم، وعرّضوها للعذاب المقيم، وكلّ حزب يسير على الجادة المستقيمة فهو حزب الله، وحزب الله هم المفلحون، أي: الناجون من غضب الله، وعقابه، الفائزون برحمة الله، ورضوانه.

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (يتولّ): فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من

ص: 144

آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى (من)، تقديره: هو. {اللهَ:}

منصوب على التعظيم. {وَرَسُولَهُ:} معطوف على الله، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَالَّذِينَ:}

اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية بعده صلته، والمتعلق محذوف، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فالله يعينهم، وينصرهم، وهم حزب الله.

وقد دلّت الجملة الاسمية الآتية على ذلك الجواب المحذوف. وابن هشام في المغني قال بمحذوف الجواب أيضا. وقيل: بل الجملة الاسمية هي الجواب، وقد وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه، وتنويها بذكر المتولّين الله، ورسوله، والمؤمنين، وتعظيما لشأنهم، وتشريفا لهم بهذا الاسم:{حِزْبَ اللهِ} وتعريضا بمن يوالي غير هؤلاء بأنّهم حزب الشيطان، وحزب الشيطان هم المغلوبون.

{فَإِنَّ:} الفاء: حرف تعليل، أو هي واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل.

{حِزْبَ:} اسمها، وهو مضاف، و {اللهَ:} مضاف إليه. {هُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {الْغالِبُونَ:} خبره مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:(إنّ). هذا، وإن اعتبرت الضّمير فصلا، لا محلّ له ف:{الْغالِبُونَ} يكون خبر (إنّ) والجملة الاسمية: (إنّ

) إلخ تعليلية لا محلّ لها؛ إن اعتبرت الجواب محذوفا، أو هي في محل جزم جواب الشرط، وهو الظاهر. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَتَوَلَّ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِياءَ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية رقم [1] من هذه السورة. {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام، ثمّ نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما، فأنزل الله هذه الآية. ومعنى:{اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} هو إظهارهم الإسلام بألسنتهم قولا، وهم مع ذلك يبطنون الكفر، ويسرّونه.

{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: اليهود. {وَالْكُفّارَ} يعني: عبدة الأصنام، وإنما فصل بينهما، وإن كان أهل الكتاب من الكفار؛ لأنّ كفر المشركين من عبادة الأصنام، أغلظ، وأفحش من كفر أهل الكتاب.

ص: 145

{أَوْلِياءَ:} أنصارا، وأعوانا، قال ابن خويز منداد، هذه الآية مثل قوله تعالى:{لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ..} . إلخ رقم [51]، وقوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [118]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ..} . إلخ، فقد تضمّنت الآيات هنا، وهناك المنع من التأييد، والانتصار بالمشركين، وأهل الكتاب، روى جابر-رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أراد الخروج إلى أحد؛ جاءه قوم من اليهود، فقالوا: نسير معك، فقال سيد الخلق، وحبيب الحقّ صلى الله عليه وسلم:«إنّا لا نستعين على أمرنا بالمشركين» . ويروى: أنّ قيصر ملك الروم عرض مساعدته لمعاوية في حربه مع عليّ رضي الله عنه، فقال معاوية: والله لو قطّعت إربا، إربا لا أستعين بكافر على مسلم.

(اتقوا الله): خافوه. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} حقّا؛ لأنّ المؤمن الحقّ يأبى موالاة أعداء الله، ومناصرتهم، ومعاونتهم. وانظر شرح الإيمان في الآية رقم [136] من سورة (النساء)، وانظر شرح (اتقوا) في الآية [32] من هذه السورة. هذا؛ و «الدّين» اسم لجميع ما يتعبّد به الله تعالى، و «الدّين»: الملة، والشريعة، ومنه قوله تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} . و {يَوْمِ الدِّينِ:} يوم الجزاء، والحساب؛ الّذي يحاسب الله الناس فيه على أعمالهم. هذا؛ ويطلق «الدّين» على العادة، والشأن، والحال، ومنه قول امرئ القيس في معلّقته:[الطويل]

كدينك من أمّ الحويرث قبلها

وجارتها أمّ الرّباب بمأسل

هذا؛ و «الدّين» بفتح الدال: القرض المؤجّل، وجمع الأوّل: أديان، وجمع الثاني: ديون، وأدين. والدينونة: القضاء، والحساب، ومنه: كما تدين تدان، والدّيانة: اسم لجميع ما يتعبد به الله تعالى.

هذا وأصل «اتخذتم» : ائتخذتم من: الأخذ، ووزنه: افتعلتم، سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين، فصار:«ايتخذتم» فاضطربت الياء في التصريف، فصارت ألفا في (ياتّخذ) وواوا في (موتخذ) فأبدلت بحرف ثابت من جنس ما بعدها، وهي التاء، ثمّ أدغمت التاء في التاء، ثم اجتلبت ألف الوصل للنّطق بها، وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير، كقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [80]:{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً} فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير، ومنه قول ذي الرّمّة:[البسيط]

أستحدث الرّكب عن أشياعهم خبرا

أم راجع القلب من أطرابه طرب؟

ومثله قوله تعالى في سورة (مريم) رقم [78]: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} . وقوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [153]: {أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ} . وقوله تعالى في سورة (محمد) رقم [75]: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} . وقوله جلّت حكمته في سورة (المنافقون) رقم [6]: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} . انظر شرح هذه الآيات في محالّها.

ص: 146

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1] من هذه السّورة. {لا:} ناهية جازمة.

{تَتَّخِذُوا:} فعل مضارع مجزوم ب {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أول. {اِتَّخَذُوا:}

ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {دِينَكُمْ:} مفعول به أوّل، والكاف في محل جر بالإضافة. {هُزُواً:} مفعول به ثان. {وَلَعِباً:} معطوف على ما قبله. {مِنَ الَّذِينَ} :

متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. و {مِنَ:} بيان لما أبهم في الموصول الأوّل.

{أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأوّل. {الْكِتابَ:}

مفعول به ثان. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، العائدة على الموصول، و {مِنَ:} بيان لما أبهم في الموصول، والجملة الفعلية:{أُوتُوا الْكِتابَ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَالْكُفّارَ} يقرأ بالنصب عطفا على الموصول الأول، وبالجر عطفا على الموصول الثاني، التقدير: ومن الكفار. {أَوْلِياءَ:} مفعول به ثان للفعل: {لا تَتَّخِذُوا:} وهذه الجملة، لا محلّ لها كما رأيت. (اتقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:}

منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{لا تَتَّخِذُوا..} . إلخ لا محلّ لها مثلها.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {مُؤْمِنِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، لدلالة ما قبله عليه؛ إذ التقدير: إن كنتم مؤمنين؛ فاتقوا الله. و {إِنْ} ومدخولها كلام مرتبط بما قبله تمام الارتباط، لا محلّ له مثله.

{وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اِتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)}

الشرح: قال الكلبي-رحمه الله تعالى-: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذّن إلى الصلاة، وقام المسلمون إليها؛ قالت اليهود-لعنهم الله-: قاموا، لا قاموا، وصلّوا، لا صلّوا، ويضحكون على طريق الاستهزاء. وقال السّدّي-رحمه الله تعالى-: نزلت هذه الآية في رجل من النّصارى كان بالمدينة، فكان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: حرق الكاذب، فدخل خادمه ذات ليلة بنار، وهو وأهله نيام، فطارت شرارة، فاحترق البيت، واحترق هو، وأهله.

ص: 147

وقيل: إنّ اليهود، والمنافقين كانوا إذا سمعوا الأذان؛ حسدوا المسلمين على ذلك، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمد! لقد أبدعت شيئا لم يسمع بمثله فيما مضى من الأمم، فإن كنت تدّعي النبوة؛ فقد خالفت الأنبياء قبلك، ولو كان فيه خير؛ لكان أولى الناس به الأنبياء، فمن أين لك صياح كصياح العير؟ فما أقبح هذا الصوت! وما أسمج هذا الأمر! فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وأنزل قوله جلّ ذكره:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ..} . إلخ الآية رقم [33] من سورة (فصلت).

تنبيه: ليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية، أمّا ذكر النداء في سورة (الجمعة) فهو خاصّ بيوم الجمعة، والأذان سنة لكلّ فرض صلاة، سنة كفاية في الجماعة، وسنّة عين للمنفرد، وأمّا فضل الأذان، والمؤذن؛ فقد جاءت فيه أيضا آثار صحاح، منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نودي للصّلاة؛ أدبر الشّيطان، وله ضراط؛ حتّى لا يسمع التّأذين

إلخ» الحديث. وفي الموطّأ عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يسمع مدى صوت المؤذّن جنّ، ولا إنس، ولا شيء إلاّ شهد له يوم القيامة» . وغير ذلك كثير.

وأمّا مشروعية الأذان؛ فكانت برؤيا عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، وغيرهما من الصّحابة في المنام، ثمّ أيد ذلك الوحي بنزول هذه الآية الكريمة، والأذان مثنى مثنى بالاتّفاق، وأمّا الإقامة؛ فهي عند أبي حنيفة مثنى مثنى أيضا، وعند غيره بالإفراد، وإجابة المؤذن، والمقيم سنّة، فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما: أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صلّوا عليّ، فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة، فإنّها منزلة من الجنّة، لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة؛ حلّت له الشّفاعة» . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.

تنبيه بل فائدة: ليس أشدّ على الكفار، والمنافقين من كلمات الأذان في كلّ زمان، ومكان، فهي أشدّ عليهم من وقع القنابل، وقذف الصّواريخ، فقد ذكر ابن إسحاق، وغيره في السّيرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا دخل مكّة عام الفتح، ومعه بلال، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤذّن على سطح الكعبة، وأبو سفيان، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتّاب: لقد كرّم الله أسيدا (والده) ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم: أنّه محقّ؛ لاتّبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت؛ لأخبرت عنّي هذه الحصى. فخرج عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:«قد علمت الّذي قلتم» ثمّ ذكر ذلك لهم. فقال الحارث، وعتّاب: نشهد: أنّك رسول الله، ما اطّلع على هذا أحد كان معنا، فنقول:

أخبرك!!.

ص: 148

هذا؛ و {هُزُواً} يقرأ بسكون الزاي، والهمز، وبضم الزاي، والهمز، وبضم الزاي بلا همز، وهو بجميع قراءاته مصدر: هزأ، يهزأ، هزءا من باب: فتح، ويأتي من باب: تعب. هذا؛ والاستهزاء بالناس حرام قطعا، وآية (الحجرات) الناهية عن السّخرية، والاستهزاء بالنّاس معروفة، وأحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم الناهية عن ذلك كثيرة، ومسطورة، وانظر الآية رقم [15] من سورة (البقرة).

{ذلِكَ} أي: لعبهم، وهزؤهم من أفعال السّفهاء، والجهلة، فكأنّهم لا عقول لهم تمنعهم من ذلك. هذا؛ والعقل: المنع، ومنه: عقال البعير الذي تشدّ به ركبته؛ لأنّه يمنعه من الحركة.

ومنه سمّي العقل: عقلا؛ لأنّه يعقل صاحبه، أي: يمنعه من فعل الرذائل، لذا فإنّ كلّ شخص لا يسير على الجادة المستقيمة لا يكون عاقلا بالمعنى الصّحيح، فقد ورد: أنّه مرّ رجل معتوه على مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الصّحابة-رضوان الله عليهم-: هذا مجنون. فقال سيّد الخلق، وحبيب الخالق:«هذا مصاب، وإنّما المجنون من أصرّ على معصية الله» . والعقل: الدّية، سميت بذلك؛ لأنّ الإبل المؤداة تعقل بباب وليّ المقتول. والعقال أيضا: صدقة عام، قال الشاعر يهجو عاملا على الصّدقات في عهد بني أميّة:[البسيط]

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

لأصبح النّاس أوبادا فلم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

هذا؛ والعقل: ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشّى به الهوادج. قال علقمة: [البسيط]

عقلا ورقما تكاد الطّير تخطفه

كأنّه من دم الأجواف مدموم

هذا؛ والعقل: جوهر لطيف في البدن ينبت شعاعه منه بمنزلة السّراج في البيت، يفصل به بين حقائق المعلومات. ثمّ اختلفوا في محله، فقالت طائفة منهم: محلّه الدّماغ؛ لأنّ الدّماغ محلّ الحسّ. وقالت طائفة أخرى: محلّه القلب؛ لأنّ القلب معدن الحياة، ومادّة الحواس، ويردّ هذين القولين: أنّ فاقد العقل لم يفقد دماغه، ولا قلبه، بل هما موجودان فيه، بل القول الصّحيح: إنّ هناك لطيفة ربّانية، لا يعلمها إلا الله تعالى، فمن حيث تفكّرها تسمى: عقلا، ومن حيث حياة الجسد بها تسمّى: روحا، ومن حيث شهوتها تسمى: نفسا، انظر الآية رقم [70] الآتية.

وقال الخازن-رحمه الله تعالى-: والعقل قوة تهيئ قبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوّة: عقل، ومنه قول عليّ بن أبي طالب:[مجزوء الوافر]

وأنّ العقل عقلان

فمطبوع ومسموع

ولا ينفع مطبوع

إذا لم يك مسموع

كما لا تنفع الشّمس

وضوء العين ممنوع

ص: 149

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {نادَيْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محلّ جرّ بإضافة:(إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {إِلَى الصَّلاةِ:} متعلّقان بما قبلهما. {اِتَّخَذُوها:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {هُزُواً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب:(إذا) لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.

{وَلَعِباً:} معطوف على ما قبله.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {بِأَنَّهُمْ:} الباء: حرف جر. (أنّهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{قَوْمٌ:} خبر: (أنّ). {لا:} نافية. {يَعْقِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ). و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلّقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب لسيّد الخلق وحبيب الحقّ صلى الله عليه وسلم ليسأل اليهود عن سبب نقمتهم على الإسلام، والمسلمين. {يا أَهْلَ الْكِتابِ:} هذا النداء يشمل اليهود، والنّصارى؛ لأنّ لكلّ كتابا. {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا:} هل تنكرون منّا، وتعيبون علينا، وتكرهون؟ يقال: نقم منه كذا: إذا أنكره. وانتقم منه: إذا كافأه على فعله. وقرئ بفتح القاف، والمضارع: ينتقم من الباب الأوّل.

وقرئ بكسر القاف، وفتحها في المضارع من الباب الرّابع. {إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللهِ:} وحده، لا شريك له، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. والاستفهام بمعنى النفي، وفي الكلام استثناء صفة مدح من صفة ذمّ منفيّة، ومنه قول النّابغة الذّبياني في مدح بني غسّان:[الطويل]

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وهذا يسمّى في فنّ البديع: تأكيد المدح بما يشبه الذمّ. ومنه قول ابن قيس الرّقيّات في مدح بني أميّة: [الخفيف]

وما نقموا من بني أميّة إلاّ

أنّهم يحلمون إن غضبوا

ومنه الآية رقم [74] من سورة (التوبة) والآية رقم [126] من سورة (الأعراف) وأيضا في سورة (البروج) رقم [8]. {وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} أي: آمنا بجميع الكتب المنزلة على

ص: 150

جميع الرسل من لدن آدم إلى محمد، عليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ} المعنى: إنّ سبب نقمتكم علينا هو الإيمان بالله، والإيمان بالكتب السّماوية جميعها، وكونكم فاسقين خارجين عن جادة الحقّ، والصواب، وقد قال جلّ ذكره:{وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ} لعلمه الأزلي: أنّ من أهل الكتاب من يؤمن بالله، ورسوله.

تنبيه: جاء جماعة من علماء اليهود، وزعمائهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عمّن يؤمن به.

فقال: {آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا} إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية رقم [84] من سورة (آل عمران)، و [137] من سورة (البقرة)، فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى-عليه السلام: لا نعلم دينا شرا من دينكم، فأنزل الله الآية الكريمة.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. (يا): أداة نداء تنوب مناب:

«أدعو» . (أهل): منادى، وهو مضاف. و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {هَلْ:} حرف استفهام معناه النفي. {تَنْقِمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {مِنّا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {آمَنّا:} فعل، وفاعل، والفعل في محل نصب ب:(أن). {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. و {أَنْ} والفعل: {آمَنّا} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به ل: {تَنْقِمُونَ} وقال العكبري: مفعول به. و {آمَنّا} مفعوله الثاني أي: تقدّم على الأول، والأول أقوى.

{وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جرّ معطوفة على لفظ الجلالة. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط. {إِلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية صلة:(ما) أو صفتها. {وَما أُنْزِلَ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وبني:{قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى.

{وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبّه بالفعل. {أَكْثَرَكُمْ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة. {فاسِقُونَ:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب معطوف على المصدر المؤول من:{أَنْ آمَنّا} . قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: وكأنّ المستثنى لازم الأمرين، وهو المخالفة؛ أي: ما تنكرون منّا إلا مخالفتكم؛ حيث دخلنا في الإيمان، وأنتم خارجون منه. أو كان الأصل: واعتقاد: أنّ أكثركم فاسقون. فحذف المضاف. أو العطف على (ما) أي: وما تنقمون منّا إلاّ الإيمان بالله، وبما أنزل، وبأنّ أكثركم فاسقون. أو العطف على علّة محذوفة، والتّقدير: هل تنقمون منّا إلا أن آمنّا لقلّة إنصافكم، وفسقكم، أو هو منصوب بإضمار فعل يدلّ عليه:{هَلْ تَنْقِمُونَ} أي: ولا تنقمون أن أكثركم

ص: 151

فاسقون. أو المصدر في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، أي: وفسقكم ثابت معلوم عندكم، ولكن حبّ الرئاسة، والمال يمنعكم من الإنصاف. انتهى بيضاوي. أقول: المعتمد الوجهان الأولان، والبواقي يظهر فيها التعسّف، والتكلّف. تأمل، وتدبّر، وربك أعلم.

{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)}

الشرح: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ:} هذا جواب لليهود لمّا قالوا: ما نعرف دينا شرّا من دينكم. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود؛ الّذين قالوا هذه المقالة: هل أخبركم بشرّ من ذلك الذي ذكرتم، ونقمتم علينا من إيماننا بالله، وبما أنزل علينا؟ والخطاب موجّه للنّبيّ صلى الله عليه وسلم. وانظر شرح (شر) في الآية [170] من سورة (النساء). {مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ:} جزاء ثابتا عند الله، والمثوبة مختصّة بالخير كالعقوبة مختصّة بالشرّ، فوضعت هنا موضعها تهكما على حدّ قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} . هذا؛ وأصلها: مثووبة على وزن مفعولة، فنقلت حركة الواو الأولى إلى الثاء؛ لأنّ الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فحذفت إحدى الواوين لالتقائهما ساكنتين. ومثله مقولة، ومجوزة، ومضوفة على معنى المصدر، كما قال أبو جندب الهذلي:[الطويل]

وكنت إذا جاري دعا لمضوفة

أشمّر حتّى ينصف السّاق مئزري

هذا؛ ودين محمد صلى الله عليه وسلم لا شرّ فيه قطعا، ولكن جاء الجواب على حسب قولهم، واعتقادهم، فإن اليهود حكموا بأنّ اعتقاد ذلك الدين شرّ، فقال لهم الله: هب أن الأمر كذلك. لكن من لعنه الله، وغضب عليه، ومسخ صورته شرّ من ذلك. {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ} يعني: من اليهود من لعنه الله، وغضب عليه، ومنهم من جعلهم قردة، وخنازير. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّ الممسوخين كلاهما أصحاب السّبت، فشبّانهم مسخوا قردة، وشيوخهم خنازير، انظر الآية رقم [65] من سورة (البقرة) وتفصيلها في سورة (الأعراف) الآية [163] وما بعدها.

وقيل: إنّ مسخ بعضهم قردة كان في أصحاب السبت من اليهود، ومسخ بعضهم خنازير كان بعد نزول المائدة في زمن عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. ولمّا نزلت الآية الكريمة عيّر المسلمون اليهود، وقالوا لهم: يا إخوان القردة، والخنازير، وافتضحوا بذلك، فنكّسوا رءوسهم، وقال الشاعر:[الرجز]

فلعنة الله على اليهود

إنّ اليهود إخوة القرود

{وَعَبَدَ الطّاغُوتَ} يعني: وجعل منهم من عبد الطاغوت، يعني من أطاع الشّيطان فيما سوّل له، والطّاغوت: هو الشّيطان، وقيل: هو العجل، وقيل: هو الكهّان، والأحبار. وجملته: أنّ

ص: 152

كل من أطاع أحدا في معصية الله فقد عبده، وهو الطّاغوت. انظر الآية رقم [51] من سورة (النساء) تجد ما يسرّك ويثلج صدرك. هذا؛ وفي {وَعَبَدَ الطّاغُوتَ} أربع وعشرون قراءة، ثنتان سبعيتان، والباقي من الشّواذ.

{أُولئِكَ} الملعونون، والمغضوب عليهم، والممسوخون. {شَرٌّ مَكاناً:} يعني: من غيرهم، ونسب الشر إلى المكان، والمراد به أهله، وذلك مبالغة في الذمّ، ومن أحسن ما قيل فيه:

أولئك الذين لعنهم الله شرّ مكانا في الآخرة من مكانكم في الدّنيا لما لحقكم من الشرّ، يعني:

من الهموم الدنيوية، والحاجة، والإعسار، والسّقم، وغير ذلك. وانظر شرح:{سَواءِ السَّبِيلِ} في الآية رقم [77] الآتية.

تنبيه: القردة، والخنازير الموجودون في زمننا ليسوا ممّا مسخ الله من بني إسرائيل، وإنّما هم موجودون قبل بني إسرائيل، فقد قال سفيان الثوري-رحمه الله تعالى-: عن ابن مسعود رضي الله عنه-قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة، والخنازير: أهي ممّا مسخ الله؟ فقال:

«إنّ الله لم يهلك قوما، أو لم يمسخ قوما، فيجعل لهم نسلا، ولا عقبا، وإنّ القردة، والخنازير كانت قبل ذلك» . رواه مسلم. وقال أبو داود: عن ابن مسعود-رضي الله عنه، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة، والخنازير: أهي من نسل اليهود؟ فقال: «إنّ الله لم يلعن قوما قطّ فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلمّا غضب الله على اليهود، فمسخهم، جعلهم مثلهم» . هذا؛ وانظر «اللّعن» في الآية رقم [52] من سورة (النّساء) فإنّه جيد، والحمد لله!.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {هَلْ:} حرف استفهام.

{أُنَبِّئُكُمْ:} فعل مضارع، والكاف مفعول به أول، والفاعل مستتر تقديره: أنا. {بِشَرٍّ:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنّهما مفعوله الثاني، وانظر الآية رقم [14]. {مِنْ ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: (شرّ)؛ لأنّه أفعل تفضيل، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له.

{مَثُوبَةً:} تمييز. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {مَثُوبَةً} أو بمحذوف صفة لها، و {عِنْدَ:}

مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ} مستأنفة، لا محلّ لها.

{مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بدل من:(شرّ) أو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو لعن من لعنه الله، أو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف دلّ عليه السّابق، أي: أعرفكم من. {لَعَنَهُ اللهُ:} ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية صلة:{مِنْ،} أو صفتها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، والعائد، أو الرابط:

الضمير المنصوب. {وَغَضِبَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وقد أفرد الضمير فيهما مراعاة للفظ:

ص: 153

{مِنْ،} وجمع فيما بعدهما مراعاة لمعناها. {وَجَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله).

{مِنْهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْقِرَدَةَ:} مفعول به. {وَالْخَنازِيرَ:} معطوف على (ما) قبله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَعَبَدَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:

{مِنْ} . {الطّاغُوتَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة؛ إذ التقدير: ومن عبد الطّاغوت، وهذا على قراءة الفعل بالبناء للمعلوم ونصب:{الطّاغُوتَ} وهو واضح. ويقرأ بالبناء للمجهول ورفع: «(الطّاغوت)» فيحتاج إلى تقدير ضمير يعود إلى: {مِنْ} فيكون التقدير:

ومن عبد الطاغوت فيهم. وذكرت كثرة القراءات في هذه الجملة، فيطول الكلام فيها وفي أوجه إعرابها، فلذا أعرضت عنها اختصارا.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محلّ رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {شَرٌّ:} خبره. {مَكاناً:} تمييز، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {وَأَضَلُّ:} معطوف على: {شَرٌّ} عطف مفرد على مفرد. أو هو خبر لمبتدإ محذوف، أي: هم أضلّ، فيكون العطف عطف جملة اسمية على مثلها. {عَنْ سَواءِ:} متعلقان ب: (أضلّ)، و {سَواءِ:} مضاف، و {السَّبِيلِ:} مضاف إليه.

{وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)}

الشرح: {وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنّا..} . إلخ: قال قتادة-رحمه الله تعالى-: نزلت في أناس من اليهود، دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه: أنّهم مؤمنون، راضون بالذي جاء به، وكانوا متمسّكين بضلالهم، وكفرهم، فكان هؤلاء يظهرون الإيمان، وهم منافقون، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بحالهم، وشأنهم.

{وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ:} يعني: إنّهم دخلوا عليك يا محمد كافرين، وخرجوا كما دخلوا كافرين لم يتعلّق بقلوبهم شيء من الإيمان، فهم كافرون في حالتي الدخول، والخروج. {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ} أي: يخفون من الكفر في قلوبهم؛ لأنّ الله عالم بالسّرائر، وما تنطوي عليه الضمائر، وإنه عالم الغيب والشهادة. هذا؛ و {أَعْلَمُ} بمعنى: عالم؛ لأنّه ليس على بابه؛ إذ ليس لأحد علم يشبه علم الله تعالى حتّى يقارن به، وتجري بينهما المفاضلة، ومثله كثير في آيات القرآن.

هذا؛ وكتم، يكتم من باب: نصر، وربما عدّي إلى مفعولين، فيقال: كتمت زيدا الحديث، وقال تعالى في سورة (النّساء) رقم [42]:{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} . وكتم الشيء: بالغ في كتمانه؛ أي: في إخفائه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

ص: 154

«استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» . قال صاحب القاموس: والكتم محركة، والكتمان بالضمّ، نبت يخلط بالحنّاء، ويخضّب به الشّعر، ويصنع به مداد الكتابة، ورحم الله البوصيري؛ إذ يقول في البيت رقم [14] وما بعده:[البسيط]

فإنّ أمّارتي بالسّوء ما اتّعظت

من جهلها بنذير الشّيب والهرم

ولا أعدّت من الفعل الجميل قرى

ضيف ألمّ برأسي غير محتشم

لو كنت أعلم أنّي ما أوقّره

كتمت سرّا بدا لي منه بالكتم

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [58]. {جاؤُكُمْ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله. والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:(إذا) إليها

إلخ. {قالُوا:}

ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {آمَنّا:} فعل، وفاعل، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا آمَنّا} جواب (إذا) لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {دَخَلُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرّابط: الواو، والضمير. {بِالْكُفْرِ:} متعلّقان بما قبلهما، وقيل: متعلّقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أي: دخلوا ملتبسين بالكفر، فتكون حالا متداخلة. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{قَدْ خَرَجُوا} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة في:{قالُوا} فهي حال متعددة. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أي: ملتبسين به، فتكون حالا متداخلة أيضا.

{وَاللهُ أَعْلَمُ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَعْلَمُ} . {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَكْتُمُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ. والواو فاعله، والجملة الفعلية في محلّ نصب خبر {كانُوا،} والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: أعلم بالّذي، أو بشيء كانوا يكتمونه.

{وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62)}

الشرح: {وَتَرى:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وترى يا محمد كثيرا من اليهود.

{يُسارِعُونَ:} المسارعة في الشيء: المبادرة إليه بسرعة، لكن لفظة «المسارعة» إنّما تستعمل في

ص: 155

الخير، ومنه قوله تعالى:{يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} في سورة (الأنبياء)، وقال تعالى في سورة (آل عمران):{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ. وضدّ المسارعة في الخير: العجلة، وتقال في الشر في الأغلب، وإنّما ذكرت لفظة المسارعة في قوله:{يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ..} . إلخ لفائدة، وهي: أنّهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات بشغف، كأنّهم محقّون فيها. هذا؛ و {الْإِثْمِ:} اسم جامع لجميع المعاصي، والمنهيات، فيدخل تحته العدوان، وأكل السحت، فلهذا ذكر الله العدوان، وأكل السّحت بعده. وقيل: الإثم: ما كتموه من التّوراة، والعدوان: ما زادوا فيها، والسّحت هو الرّشا، وما يأكلونه من غير وجهه المشروع، وقد تقدّم شرح ذلك كلّه.

{لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ:} فهذا ذمّ لجميع أعمالهم. وانظر شرح «نعم» و «بئس» في الآية رقم [58] من سورة (النساء) فإنّه جيد والحمد لله!

الإعراب: {وَتَرى:} الواو: حرف عطف. (ترى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والفاعل مستتر، تقديره: أنت. {كَثِيراً:} مفعول به. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {كَثِيراً} . {يُسارِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان، أو في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب (من) وهو الأقوى، ومثله في الآية رقم [52]. {فِي الْإِثْمِ:} متعلقان بما قبلهما {وَالْعُدْوانِ:} معطوف على ما قبله. {وَأَكْلِهِمُ:} معطوف على: {الْإِثْمِ} والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {السُّحْتَ} مفعول به للمصدر، وجملة:{وَتَرى..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين.

{لَبِئْسَ:} اللام: لام الابتداء. (بئس): فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله مستتر تقديره:

هو مميز ب: (ما). {ما:} نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على التمييز. {كانُوا:}

فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَعْمَلُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية:{كانُوا يَعْمَلُونَ} في محل نصب صفة (ما)، وتقدير الكلام: بئس الشيء شيئا كانوا يعملونه، والمخصوص بالذمّ محذوف، التقدير: المذموم عملهم، هذا؛ ويذكر في هذه الجملة وجوه أخر من الإعراب يظهر فيها التعسّف والتكلّف، ذكرتها في الآية رقم [90] من سورة (البقرة). والجملة الفعلية:{لَبِئْسَ..} . إلخ، مبتدأ، أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين، وكذا لو اعتبرتها جواب قسم محذوف لا محلّ لها.

{لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)}

الشرح: {لَوْلا:} حرف تحضيض بمعنى: «هلا» مفيدة للتوبيخ، والتأنيب، والتقريع.

ص: 156

{يَنْهاهُمُ الرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ:} قال الحسن-رحمه الله تعالى-: الربّانيون: أهل الإنجيل.

والأحبار: أهل التوراة. وقال غيره: كلهم من اليهود؛ لأنّ الكلام متّصل بذكرهم، وانظر شرحها، وتفسيرها في الآية رقم [44]. {عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} أي: الكذب. وانظر شرحه في الآية رقم [2]{وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} مثل الآية السابقة. {لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ:} هو أبلغ من قوله:

{يَعْمَلُونَ} في الآية السابقة، من حيث: أنّ الصنع عمل الإنسان بعد تدرّب، وتروّ فيه، وتحرّي إجادة، ولذلك ذمّ به خواصهم بينما في الآية السابقة ذمّ به عوامهم. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: هي أشدّ آية في القرآن؛ حيث أنزل تارك النّهي عن المنكر منزلة مرتكب المنكر في الوعيد. وهذه الآية، والآيتان قبلها في ذمّ اليهود المعاصرين للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمّا الآية رقم [60]؛ فإنّها في ذمّ السّابقين منهم.

هذا؛ وقال ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر، قال: خطب عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس! إنّما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربّانيّون، والأحبار، فلمّا تمادوا في المعاصي؛ أخذتهم العقوبات.

فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا: أنّ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا، ولا يقرّب أجلا.

وروى أبو داود عن جرير بن عبد الله-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيّروا عليه، فلا يغيّروا؛ إلاّ أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا» . وإن أردت الزيادة فانظر الآية رقم [104 و 110] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. هذا؛ وقد تضمنت الآية الكريمة توبيخ العلماء والعبّاد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى. وأنشد عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى:[المتقارب]

وهل أفسد الدّين إلاّ الملو

ك وأحبار سوء ورهبانها

الإعراب: {لَوْلا:} حرف تحضيض. {يَنْهاهُمُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء مفعول به. {الرَّبّانِيُّونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية. {وَالْأَحْبارُ:} معطوف على ما قبله. {عَنْ قَوْلِهِمُ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {الْإِثْمَ:} مفعول به للمصدر. {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق. {لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ:} إعراب هذا الكلام مثل ما قبله في الآية السّابقة بلا فارق.

ص: 157

{وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}

الشرح: {وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} أي: محبوسة، مقبوضة عن الرزق، والبذل، والعطاء، فنسبوا إلى الله البخل، والقبض، تعالى الله عن ذلك! وغلّ اليد، وبسطها مجاز عن البخل، والجود. ومنه قوله تعالى في سورة (الإسراء):{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} انظر شرحها هناك؛ فإنّه جيد، والحمد لله! وانظر مثل مقالتهم الخبيثة هذه في الآية رقم [181] من سورة (آل عمران). وقائل هذه المقالة الخبيثة هنا، وهناك: فنحاص بن عازوراء لعنه الله! وسببها ما يلي:

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّ الله عز وجل كان قد بسط على اليهود حتّى كانوا في المدينة أكثر الناس أموالا، وأخصبهم ناحية، فلمّا عصوا الله، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كفّ عنهم ما بسط عليهم من السّعة، فعند ذلك قال الخبيث هذه المقالة:{يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} يعني: محبوسة مقبوضة عن الرزق، والبذل، والعطاء، ولما قال الخبيث هذه المقالة الخبيثة، ولم ينهه بقية اليهود، ورضوا بقوله، فإنّ الله جلّت قدرته أشركهم معه جميعا فيما حكى عنهم. تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا!.

هذا؛ ولمّا كانت اليد آلة لكل الأعمال؛ لا سيما لدفع المال، وإنفاقه، وإمساكه، فقالوا:

هذه المقالة، فأطلقوا اسم السبب على المسبب، وأسندوا الجود، والبخل إلى اليد مجازا، فقيل للجواد الكريم: فياض اليد، ومبسوط اليد. وقيل للبخيل: مقبوض اليد، ومغلول اليد، وجعد الأصابع، وكزّ الأنامل، قال الشاعر:[البسيط]

كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها

وكلّ باب من الخيرات مفتوح

فاستبدلت بعده جعدا أنامله

كأنّما وجهه بالخلّ منضوح

{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا} يعني: أمسكت أيديهم عن كلّ خير، وطردوا عن رحمة الله. قال الزجّاج: ردّ الله عليهم، فقال: أنا الجواد الكريم، وهم البخلاء، وأيديهم هي المغلولة الممسوكة. وقيل: هذا دعاء عليهم، علّمنا الله كيف ندعو عليهم، فقال:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أي في نار جهنّم، فعلى هذا هو من الغلّ حقيقة؛ أي: شدّت أيديهم إلى أعناقهم، وطرحوا في النّار جزاء لهم على هذا القول. هذا؛ ويقال لهم، ولأمثالهم يوم القيامة:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ}

ص: 158

{صَلُّوهُ..} . إلخ. ومعنى: {وَلُعِنُوا بِما قالُوا:} عذّبوا بسبب ما قالوا. فمن لعنتهم: أنّهم مسخوا في الدنيا قردة، وخنازير، وضربت عليهم الذلّة، والمسكنة، والجزية، ولهم في الآخرة عذاب النّار، وانظر شرح اللّعن في الآية رقم [52] من سورة (النّساء).

{بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} يعني: أنّه تعالى جواد كريم. {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ} يعني: أنّه تعالى يرزق كما يريد، ويختار، فيوسع على من يشاء، ويقتّر على من يشاء، لا اعتراض عليه في ملكه، ولا فيما يفعله. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى:

أنفق أنفق عليك. وقال: يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحّاء اللّيل، والنّهار»، وقال:«أرأيتم ما أنفق منذ خلق السّماوات والأرض، فإنّه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان، يخفض، ويرفع» . متّفق عليه، وهذا الحديث أحد أحاديث الصفات، فيجب الإيمان به، وإمراره كما جاء من غير تشبيه، ولا تكييف، وقال تعالى في سورة (لقمان):{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً} .

{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ..} . إلخ؛ يعني: كلّما نزلت عليك يا محمد آية من القرآن؛ كفروا بها، فازدادوا شدّة في كفرهم، وطغيانا مع طغيانهم. والمراد ب:«الكثير» : علماء اليهود، وحالهم، وشأنهم، كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصّالح للأصحّاء. وإذا كان الكفر يزداد؛ فالإيمان يزيد، وينقص. انظر الآية رقم [2] من سورة (الأنفال)، والآية رقم [126] من سورة (التوبة) تجد فيها ما يسرّك، ويثلج صدرك.

{وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ..} . إلخ؛ أي: ألقينا بين اليهود العداوة، والبغضاء، فكلمتهم مختلفة، وقلوبهم شتّى، لا يزالون متباغضين متعادين إلى قيام الساعة، وهم مذاهب مختلفة متناحرة، كما قال تعالى:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى،} فإنّ بعض اليهود جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم مشبهة، وكذلك النّصارى فرق، ومذاهب، انظر الآية رقم [129] من سورة (الأنعام) فهو جيد، والحمد لله!.

{كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} أي: كلما أرادوا حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثاروا شرّا عليه، وخالفوا حكم الله؛ بعث الله عليهم من يهلكهم: أفسدوا، فبعث الله عليهم بختنصر البابلي فسباهم، وشرّدهم، ثم أفسدوا، فبعث الله عليهم طيطوس الرّومي، فانتقم منهم، ثم أفسدوا فسلّط الله عليهم الفرس، فأذلّوهم، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين فقهروهم، وضربوا عليهم الجزية، وأخرجوهم من بلاد الحجاز في عهد عمر-رضي الله عنه-ولكن في هذه الأيام حيث اختلّت كلمة المسلمين، وتمزّقت وحدتهم؛ اتّحدوا، وتعاونوا، وأقاموا لهم دولة في عقر دار الإسلام بمساعدة النّصارى، كما هو الواقع في زمننا. هذا؛ و «إيقاد النار في الحرب» استعارة؛ لأنّ الحرب لا نار لها، وإنّما شبهت بالنّار؛ لأنّها تأكل أهلها، كما تأكل النّار حطبها.

ص: 159

{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً} أي: إنّ من سجيّتهم، وطبعهم: أنّهم دائما يسعون في الأرض فسادا، فهم يجتهدون في دفع الإسلام، ويستعملون المكر، والكيد، والحيل لإطفاء نوره. {وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي: إنّ الله لا يحبّ من كانت هذه صفته، وطبيعته. قال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس فيها. وهم أبغض خلق الله إليه.

هذا؛ و «اليد» في كلام العرب تكون للجارحة، كما في قوله تعالى في سورة (ص):{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} وهذا محال على الله تعالى. وتكون للنّعمة، تقول العرب: كم يد لي عند فلان، أي: كم نعمة لي قد أسديتها له. وتكون للقوة، كما في قوله تعالى في سورة (محمد):{وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} . وتكون للملك، والقدرة، كقوله تعالى في سورة (آل عمران):{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} . وتكون بمعنى الصلة، قال الله تعالى في سورة (يس):{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً} أي: ممّا عملنا نحن، وقال في سورة (البقرة):{أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ} أي: الذي له عقدة النكاح. وتكون بمعنى التأييد، والنصرة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يد الله مع القاضي حتّى يقضي والقاسم حتّى يقسم» . وتكون لإضافة الفعل إلى المخبر عنه تشريفا له، وتكريما، قال تعالى في سورة (ص):{قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فلا يجوز أن يحمل على الجارحة؛ لأنّ الباري-عزّ، وجل-واحد، لا يجوز عليه التبعيض. ولا على القوّة، والملك، والنّعمة، والصّلة؛ لأنّ الاشتراك يقع حينئذ بين وليه آدم وعدوه إبليس. انتهى. قرطبي. وانظر ما ذكرته أيضا في الآية رقم [11] فإنّه جيد أيضا.

هذا؛ و «زاد، يزيد» ضد: «نقص، ينقص» يكون لازما، كقولك: زاد المال درهما، ويكون متعديا لمفعولين كما في الآية التي بين أيدينا، وقولك: زاد الله خالدا خيرا، بمعنى: جزاه الله خيرا، وأما قولك: زاد المال درهما، والحبّ مدّا، فدرهما، ومدّا: تمييز، ومثله قل في:

«نقص» فمن المتعدي قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً،} ومن اللازم قوله تعالى في سورة (ق): {قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} .

الإعراب: {وَقالَتِ:} الواو: حرف استئناف. (قالت): فعل ماض، والتاء للتأنيث.

{الْيَهُودُ:} فاعله. {يَدُ:} مبتدأ، وهو مضاف. و {اللهِ:} مضاف إليه. {مَغْلُولَةٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَتِ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{غُلَّتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {أَيْدِيهِمْ:} نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل، والهاء في محل جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، وهي دعائية إنشائية. {وَلُعِنُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية،

ص: 160

والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: لعنوا بالذي أو: بشيء قالوه. وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: لعنوا بسبب قولهم.

{بَلْ:} حرف إضراب. {يَداهُ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمّة؛ لأنّه مثنّى، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَبْسُوطَتانِ:} خبره مرفوع مثله، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين. وقال الجمل: عطف على تقدير يقتضيه المقام، أي: ليس الأمر كذلك، بل هو في غاية الجود. انتهى. نقلا من أبي السعود. وهذا كما ترى حلّ معنى لا إعراب. {يُنْفِقُ:} فعل مضارع وفاعله يعود إلى: {اللهِ} تقديره: هو.

{كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب مفعول مطلق للفعل بعده، أو هو في محل نصب حال من فاعل:{يَشاءُ} المستتر، ومفعول:{يَشاءُ} محذوف، كما ترى في شرحه فيما مضى، ومفعول:{يُنْفِقُ} محذوف للتعميم، وجملة:{كَيْفَ يَشاءُ} في محل نصب حال من فاعل:

{يُنْفِقُ} العائد إلى: {اللهِ} تعالى، وقال الجمل نقلا عن السّمين:«كيف» في مثل هذا التركيب شرطية، وقدّر محذوفات، لا داعي لها، وتعسّف تعسّفا ظاهرا في هذه التقديرات. وجملة:{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ} مستأنفة لا محلّ لها. وقيل: إنّها في محل رفع خبر ثان للمبتدإ: {يَداهُ،} ولا وجه له.

{وَلَيَزِيدَنَّ:} الواو: حرف استئناف. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (يزيدن): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ الّتي هي حرف لا محلّ له. {كَثِيراً:}

مفعول به أوّل. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان ب: {كَثِيراً} . {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:

{ما} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة:{ما} . {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر العائد إلى (ما)، و {مِنْ} بيان لما أبهم في:{ما} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {طُغْياناً:} مفعول به ثان. {وَكُفْراً:} معطوف على ما قبله، وجملة: (ليزيدن

) إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها جواب لقسم محذوف، والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محلّ له، وهو كلام مبيّن لشدّة شكيمتهم، وغلوّهم في المكابرة، والعناد، وعدم إفادة التبليغ نفعا، وتصديره بالقسم لتأكيد مضمونه، وتحقيق مدلوله.

(ألقينا): فعل، وفاعل. {بَيْنَهُمُ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْعَداوَةَ:} مفعول به. {وَالْبَغْضاءَ:} معطوف على ما قبله. {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ} بمعنى: مستمرين إلى يوم، و {يَوْمِ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه.

ص: 161

{كُلَّما:} (كلّ): ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. (ما): مصدرية توقيتية. {أَوْقَدُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق.

{ناراً:} مفعول به. {لِلْحَرْبِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة:{ناراً} و (ما) والفعل: {أَوْقَدُوا} في تأويل مصدر في محلّ جرّ بإضافة (كلّ) إليه، التقدير: كلّ وقت إيقاد نار، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل:(كل)، وقيل:(ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى وقت أيضا. {أَطْفَأَهَا:} فعل ماض، ومفعوله. {اللهِ:} فاعله، والجملة الفعلية جواب:{كُلَّما} لا محلّ لها، و {كُلَّما} ومدخولها، لا محلّ لها أيضا. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فَساداً:} يجوز أن يكون مفعولا مطلقا من معنى الفعل، وأن يكون حالا، بمعنى مفسدين. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف.

(الله): مبتدأ. (لا) نافية. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {الْمُفْسِدِينَ:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاِتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنّاتِ النَّعِيمِ (65)}

الشرح: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ:} اليهود، والنصارى. والمقصود هنا: اليهود لوجودهم في المدينة في حياة الرّسول صلى الله عليه وسلم. {آمَنُوا} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عند ربه، وانظر الإيمان في الآية رقم [136] من سورة (النّساء). {وَاتَّقَوْا:} أصل الفعل اتّقى، فلما اتصل به واو الجماعة صار (اتّقاوا) فحذف الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، وبقيت الفتحة على القاف لتدلّ عليها. وانظر (التقوى) في الآية رقم [35]. {لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ} أي: لغفرناها لهم، ومحوناها عنهم؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله. ففيه تنبيه عظيم على عظم معاصيهم، وكثرة ذنوبهم، وأنّ الكتابيّ، وغيره من الكفّار لا يدخل الجنة؛ حتى يؤمن بالله ربّا، وبمحمد رسولا، وشفيعا.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {أَهْلَ:} اسمها، وهو مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {آمَنُوا:}

فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{أَنَّ} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، هو شرط (لو) عند المبرّد، التقدير: ولو ثبت، أو حصل إيمانهم. وقال سيبويه: هو في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو إيمانهم ثابت، أو حاصل. وقول المبرد هو المرجّح؛ لأنّ «لو» لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر. والفعل المقدّر، وفاعله جملة فعليّة لا

ص: 162

محلّ لها من الإعراب؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {وَاتَّقَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. فهي في محل رفع مثلها. {لَكَفَّرْنا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (كفرنا): فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محلّ لها. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {سَيِّئاتِهِمْ:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جرّ بالإضافة، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ لها.

{وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ:} الواو حرف عطف. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (أدخلناهم):

فعل، وفاعل، ومفعوله الأول. {جَنّاتِ:} ظرف مكان متعلّق بالفعل قبله عند بعض النحاة، وفي مقدّمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السّعة بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك يقال في مفعول «دخل» الثلاثي، ومفعول «أنزل» و «سكن». وأيضا قوله تعالى في سورة (البقرة):{اِهْبِطُوا مِصْراً} وعلى جميع الاعتبارات فهو منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة

إلخ، و {جَنّاتِ:} مضاف. و {النَّعِيمِ:} مضاف إليه، وجملة:

(لأدخلناهم

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)}

الشرح: {وَلَوْ أَنَّهُمْ:} الضّمير يعود إلى: {أَهْلَ الْكِتابِ:} اليهود، والنصارى. {أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ:} عملوا بتعاليمهما، فنشروا أحكامهما، وبيّنوا للنّاس ما فيهما من نعت محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ ذلك من إقامة هذين الكتابين: الإيمان به، وتصديقه في كلّ ما جاء به، والإذعان لحكمه، فإنّ الكتب الإلهية جميعها آمرة بالإيمان بمن صدّقته المعجزة، ناطقة بوجوب الطّاعة له.

{وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ:} المراد به القرآن الكريم، أو كلّ الكتب السّماوية. {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي: لوسّع الله عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات السماء والأرض، أو بكثرة ثمرة الأشجار، وغلّة الزّروع، أو يرزقهم الجنان الواسعة اليانعة الثمار، فيجنونها من رءوس الأشجار، ويلتقطون ما تساقط منها على الأرض. بيّن الله بذلك: أنّ ما كف عنهم إنّما هو بشؤم كفرهم، ومعاصيهم، لا لقصور الفيض الإلهي، ولو أنّهم آمنوا، وأقاموا ما أمر الله؛ لوسّع عليهم، وجعل لهم خير الدّارين، كما قال تعالى في سورة (الأعراف):{وَلَوْ أَنَّ}

ص: 163

{أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} . وبالجملة في الكلام استعارة عن سبوغ النّعم، وتوسعة الرزق عليهم، قال تعالى في سورة (لقمان):{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً} .

{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} أي: من أهل الكتاب جماعة معتدلة مستقيمة غير غالية، ولا مقصّرة، وهم الذين آمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن سلام، والنّجاشي، وسلمان الفارسي، ومن تبعهم من أهل الكتاب. قال تعالى في سورة (الأعراف). {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ} أي: بئس ما يعملونه، فيه معنى التعجّب، والذّم، أي: ما أسوأ عملهم! وهو المعاندة، وتحريف الحقّ، والإفراط في العداوة.

هذا؛ و: {أُمَّةٌ} المراد بها هنا: جماعة، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به، كقوله تعالى في حق إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً} سورة (النّحل). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل: «يبعث أمّة وحده» لأنّه لم يشرك في دينه غيره. والأمّة: الطريقة، والملّة، والدين، كقوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} وكل جنس من الحيوان أمّة، كقوله تعالى في سورة (الأنعام):{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} ويستدلّ بهذه الآية من يقول بتناسخ الأرواح. والأمّة: الحين، والوقت. كقوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد وقت، وحين، والأمّة: الشّجّة التي تبلغ الدماغ، يقال: رجل مأموم، وأيم. والأمّة: القامة، يقال: فلان حسن الأمّة، أي: القامة، قال الشاعر:[المتقارب]

وإنّ معاوية الأكرمين

حسان الوجوه طوال الأمم

تنبيه: بينات الآية الكريمة، وما قبلها: أنّ اليهود عوقبوا في الدّنيا بالفقر، وضيق العيش، فلا يرد كون كثير من المتّقين العاملين بطاعة الله في غاية الضّيق، فالتوسّع في الرزق، والتضييق ليسا من الإكرام، والإهانة، ولكنّ الله تعالى يجعل ضيق الرزق كسعته نعمة في بعض عباده، ونقمة على آخرين، فلا يلزم من توسيع الرّزق الإكرام، ولا من تضييقه الإهانة. انتهى. جمل نقلا من كرخي.

هذا؛ وبيّن الله في غير ما آية أنّه يختبر عباده بالخير، والشر، والنعم، والنقم، قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [168]:{وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقال جلّ ذكره في سورة (الأنبياء): {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} وأحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم كثيرة في ذلك، فمن اطّلع عليها؛ يتبيّن له فضل الله على عبده المؤمن فيما يبتليه من ألوان الفتن، وضروب المحن. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 164

الإعراب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية السابقة.

{وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة مبنية على السكون في محل نصب معطوفة على {التَّوْراةَ}. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط. {إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها. {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر. و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما)، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{لَأَكَلُوا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (أكلوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محلّ لها، و (لو) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله في الآية السابقة. {مِنْ فَوْقِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صفة للمفعول المحذوف، التقدير: لأكلوا رزقا كائنا من فوقهم، والهاء في محل جر بالإضافة.

{وَمِنْ تَحْتِ:} معطوفان على ما قبلهما، و {تَحْتِ:} مضاف {أَرْجُلِهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم. {أُمَّةٌ:} مبتدأ مؤخر.

{مُقْتَصِدَةٌ:} صفة: {أُمَّةٌ} هذا هو الإعراب الظاهر، والأصح: أنّ مضمون الجار والمجرور مبتدأ، وأمّة هي الخبر؛ لأنّ «من» الجارة دالة على التّبعيض، أي: بعضهم أمّة مقتصدة، وجمع الضمير يؤيّد ذلك، ويؤيده أيضا عطف (كثير) عليه هنا، ومقابلته به، ومثله الآية رقم [110] من سورة (آل عمران) ولا يصحّ المعنى إلا على هذا الاعتبار، وخذ قول الحماسي:[الكامل]

منهم ليوث لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب

حيث قابل لفظ: «منهم» بما هو مبتدأ-أعني: لفظة: «بعضهم» -وهذا ممّا يدلّ على أنّ مضمون {مِنْهُمْ} مبتدأ. والجملة الاسمية: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} مستأنفة لا محلّ لها. {وَكَثِيرٌ:}

مبتدأ. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان ب: (كثير)، أو بمحذوف صفة له. {ساءَ:} فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فسّره التمييز، وهو {ما} فإنّها نكرة موصوفة بمعنى:

شيئا. {يَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، وواو الجماعة فاعله، والجملة الفعلية صفة ما، والرابط محذوف، التقدير: ساء الشيء شيئا يعملونه، والمخصوص بالذم محذوف أيضا، التقدير: هو عملهم. هذا؛ وأجاز أبو البقاء اعتبار الفعل (ساء) متصرفا من الإساءة، وله مفعول محذوف، كما أجاز اعتبار:{ما} موصولة، وموصوفة، ومصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وتقدير الكلام: وكثير منهم ساءهم الذي أو شيء يعملونه. وعلى اعتبار: {ما} مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: ساءهم عملهم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَكَثِيرٌ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، تأمّل، وتدبّر، وربّك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

ص: 165

{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ:} انظر الآية رقم [41]. المناسبة: لمّا حذّر الله تعالى من موالاة الكافرين في الآيات السابقة، وكانت رسالته صلى الله عليه وسلم تتضمّن الطّعن في أحوال الكفارة، والمخالفين، وعقائدهم، وهذا يستدعي مناصبتهم العداء له، ولأصحابه، وأتباعه؛ أمره الله في هذه الآيات بتبليغ الدّعوة، ووعده بالحفظ، والنّصرة، ثمّ ذكر طرفا من عقائد أهل الكتاب الفاسدة، وبخاصة النّصارى الذين يعتقدون بألوهيّة عيسى، وأنّه ثالث ثلاثة، وردّ عليهم بالدّليل القاطع، والبرهان السّاطع.

{بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ:} روي عن الحسن البصري-رضي الله عنه: أنّ الله تعالى لمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بدين الحقّ؛ ضاق ذرعا، وعرف: أنّ من الناس من يكذّبه، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في عيب اليهود، وذلك: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، فقالوا:

أسلمنا قبلك، وجعلوا يستهزءون به، ويقولون: تريد أن نتخذك حنانا، كما اتّخذت النصارى عيسى حنانا! فلمّا رأى-أي رسول الله صلى الله عليه وسلم-ذلك منهم؛ سكت، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يقول لهم:{يا أَهْلَ الْكِتابِ..} . إلخ. وقيل: نزلت في أمر الجهاد، وذلك: أنّ المنافقين كرهوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحثّ على الجهاد؛ لما علم من كراهية بعضهم له، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: بلّغ جميع ما أمرت بتبليغه غير مراقب أحدا، ولا خائف مكروها. فدلّت الآية الكريمة على ردّ قول من قال: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقيّة، وعلى بطلانه، وهم الشيعة. ودلّت أيضا على أنّه صلى الله عليه وسلم لم يسرّ إلى أحد شيئا من أمر الدّين؛ لأنّ المعنى: بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل:{وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ} فائدة، وانظر شرح:{فَإِنْ لَمْ} في الآية رقم [91] من سورة (النّساء).

قال البخاريّ-رحمه الله تعالى-عند تفسير هذه الآية: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت:

من حدّثكم: أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا ممّا أنزل الله عليه؛ فقد كذب، والله يقول:{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} . وفي الصّحيحين عنها أيضا: أنّها قالت: لو كان محمد كاتما شيئا من القرآن؛ لكتم هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ} إلخ رقم [37] من سورة (الأحزاب).

انظر شرحها هناك. فإنّه جيد، والحمد لله. هذا؛ وفي الآية تأديب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمّته، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من سئل عن علم، فكتمه؛ ألجم يوم القيامة بلجام من نار» . رواه أبو داود، والترمذي عن أبي هريرة-رضي الله عنه.

وقال ابن أبي حاتم: عن هارون بن عنترة عن أبيه؛ قال: كنت عند ابن عبّاس-رضي الله عنهما-فجاء رجل، فقال له: إنّ ناسا يأتوننا، فيخبروننا: أنّ عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

ص: 166

للناس، فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: ألم تعلم أنّ الله تعالى قال: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ..} . إلخ. والله ما ورّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء!.

وفي صحيح البخاري عن وهب بن عبد الله السوائي؛ قال: قلت لعليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي ممّا ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصّحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. ومعنى العقل: الدية.

{وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ:} يحفظك، ويرعاك من الكافرين، ويمنعك منهم، فلا يقدر أحد يريدك بالقتل، وإن حصل له بعض الأذى من المشركين كشجّ رأسه، وكسر رباعيّته صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وتعرّضهم له بالأذى. وقد يجاب عن ذلك بأنّ ما حصل كان قبل نزول الآية الكريمة، وخذ ما يلي:

وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بني محارب، وبني أنمار، فنزلوا منزلا، ولا يرون من العدوّ أحدا، فوضع المسلمون السّلاح، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة حتّى قطع الوادي، فحال السّيل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه، فجلس تحت شجرة، فبصر به غورث بن الحارث المحاربي، فقال: قتلني الله؛ إن لم أقتله، ثمّ انحدر من الجبل، ومعه السّيف، ولم يشعر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا وهو قائم على رأسه، وقد سلّ السيف من غمده، وقال: يا محمد! من يمنعك مني الآن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله عز وجل!» ثمّ قال: «اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت!» فأهوى غورث بالسّيف؛ ليضرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكبّ لوجهه من زلقة زلقها. فبدر السّيف من يده.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ السّيف، وقال:«من يمنعك منّي الآن يا غورث؟!» فقال: لا أحد! كن خير آخذ يا محمّد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّي رسول الله؟» قال: لا، ولكن أشهد أن لا أقاتلك، ولا أعين عليك عدوّا. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، فقال: لأنت خير منّي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أجل أنا أحقّ بذلك منك» . فرجع إلى قومه، وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس، وذكر لهم حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكن الوادي، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه، وأخبرهم الخبر.

{إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: لا يرشد من كذّبك، وأعرض عنك. وقال ابن جرير الطّبري: معناه: إنّ الله لا يوفق للرّشد من حاد عن سبيل الحقّ، وجار عن قصد السبيل، وجحد ما جئت به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله، وطاعته فيما فرض عليه، وأوجبه.

وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسه بعض أصحابه ليلا حتى نزلت الآية الكريمة، فأخرج رأسه من قبّة أدم، فقال:«انصرفوا أيّها النّاس! فقد عصمني الله من النّاس» . رواه الحاكم، وأخرجه الترمذيّ عن عائشة-رضي الله عنها.

ص: 167

الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب «أدعو» أو «أنادي» (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب (يا). و (ها): حرف تنبيه لا محلّ له من الإعراب، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جرّ بالإضافة؛ لأنّه حينئذ يجب نصب المنادى. {الرَّسُولُ:} بدل من لفظ: (أيها). {بَلِّغْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السّكون في محل نصب مفعول به. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{ما،} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها.

{إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر. و {مِنْ:} بيان لما أبهم في: {ما} والكاف في محل جرّ بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

(إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَفْعَلْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وهو فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره: أنت. ومفعوله محذوف للعلم به من سياق الكلام، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي.

{فَما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ما): نافية. {بَلَّغْتَ:} فعل، وفاعل. {رِسالَتَهُ:}

مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، ويقرأ:«(رسالاته)» فيكون علامة النصب الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم. والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد. {وَإِنْ} ومدخولها معطوف على جملة: {بَلِّغْ..} . إلخ، أو هو مستأنف ولا محلّ له على الاعتبارين.

{وَاللهُ:} الواو: واو الحال. (الله): مبتدأ، {يَعْصِمُكَ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:(الله يعصمك) في محل نصب حال من تاء الفاعل المتحركة، والرابط: الواو، والضمير. {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ:} انظر إعراب مثل هذا الكلام إفرادا وجملا في الآية رقم [51].

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)}

الشرح: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ:} المعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود، والنّصارى: لستم على شيء من الدين الحقّ المرتضى عند الله، ولستم على شيء ممّا تدّعون

ص: 168

أنّكم عليه ممّا جاءكم به موسى-عليه السلام، يا معشر اليهود! ولا ممّا جاءكم به عيسى-عليه السلام-يا معشر النّصارى! فإنّكم أحدثتم، وغيّرتم ما أنزل الله في كتابكم. وفي هذا التعبير من التّحقير، والتّصغير ما لا غاية وراءه.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود، منهم رافع بن حارثة، وسلاّم بن مشكم، ومالك بن الصّيف، ورافع بن حرملة، وقالوا: يا محمد! ألست تزعم: أنّك على ملّة إبراهيم، ودينه، وتؤمن بما عندنا من التّوراة، وتشهد: أنّها حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى، ولكنّكم أحدثتم، وجحدتم ما فيها ممّا أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبيّنوه للناس، فأنا بريء من إحداثكم» . قالوا: فإنّا نأخذ بما في أيدينا، فإنّنا على الحقّ والهدى، ولا نؤمن بك، ولا نتّبعك، فأنزل الله:{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} انظر الآية رقم [66]. {وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ:} المراد به: القرآن، أو: كل الكتب السماوية، فيجب على اليهود، وعلى كلّ النّاس أن يعملوا بما فيها؛ إذا لم يطرأ عليها تغيير، أو تبديل.

{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ..} . إلخ: انظر الآية رقم [64]. هذا؛ والطّغيان: مجاوزة الحدّ. يقال:

طغا، يطغى، ويطغو، طغيانا، وطغوانا: جاوز الحدّ، وكلّ مجاوز حدّه في العصيان طاغ، قال تعالى في حقّ فرعون:{إِنَّهُ طَغى} أي: أسرف في الدّعوى؛ حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى،} والمعنى في الآية: أنّ الله يزيد أهل الكتاب بسبب ما ينزل من آيات القرآن تمرّدا، وفسادا في الأرض. هذا؛ وطغى البحر: هاجت أمواجه. وطغى السيل: جاء بماء كثير. قال تعالى في سورة الحاقة: {إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} . {فَلا تَأْسَ..} . إلخ: انظر الآية رقم [26] والمعنى هنا: فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم، وكفرهم بما تبلغه إليهم، فإنّ ضرر ذلك لاحق بهم، ولا يتخطّاهم، وفي المؤمنين مندوحة لك عنهم. ولم يقل: عليهم، وإنّما وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بشدّة الكفر، ورسوخه في قلوبهم.

هذا؛ و {لَسْتُمْ} حذفت عينه لالتقاء الساكنين: الياء، والسين؛ إذ أصل الفعل: ليس-بكسر الياء-ثمّ سكّنت للتّخفيف، ولم تقلب ألفا على القياس؛ لأنّ التخفيف بالتسكين في الجامد أسهل من القلب، فلمّا اتّصل بضمير رفع متحرك؛ سكّنت العين، فالتقى ساكنان: الياء والسين، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار:(لستم).

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. (يا): أداة نداء. (أهل): منادى منصوب، وهو مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {لَسْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {عَلى شَيْءٍ:} متعلّقان بمحذوف خبر (ليس). {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {تُقِيمُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد: {حَتّى} وعلامة

ص: 169

نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {التَّوْراةَ:}

مفعول به. {وَالْإِنْجِيلَ:} معطوف على ما قبله، و «أن» المضمرة، والفعل:{تُقِيمُوا} في تأويل مصدر في محل جر ب: {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالنفي الّذي تضمّنه (ليس) والكلام كلّه في محلّ نصب مقول القول: {وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [66]: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ..} . إلخ: انظر الآية رقم [64] ففيها الكفاية.

{فَلا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط محذوف. (لا): ناهية جازمة.

{تَأْسَ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب لشرط غير جازم، والتقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا منهم؛ فلا تأس عليهم.

وهذا الكلام مستأنف، لا محلّ له. {عَلَى الْقَوْمِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْكافِرِينَ:} صفة:

{الْقَوْمِ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}

الشرح والإعراب: تفسير هذه الآية، وإعرابها مثل الآية رقم [62] من سورة (البقرة) بلا فارق، انظره هناك تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك، مع ملاحظة مجيء (الصابئين) هناك بالياء والنون، ومجيئه هنا بالواو والنون وهذا لا بدّ من إعرابه على هذا الوجه، وذكر ما قيل فيه من أوجه الإعراب، فأقول وبالله التوفيق:

(الصابئون) مبتدأ خبره محذوف، والنية فيه التأخير عما في حيز {إِنَّ،} والتقدير: إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، كقول ضابئ بن الحارث البرجمي-وهو الشاهد رقم [279] من كتابنا:«فتح رب البرية» ، والشاهد رقم [858] من كتابنا:

«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي-وقيّار-بها لغريب

وهو كاعتراض دلّ به على أنّه لما كان الصّابئون مع ظهور ضلالهم، وميلهم عن الأديان كلّها يتاب عليهم؛ إن صحّ منهم الإيمان، والعمل الصّالح؛ كان غيرهم أولى بذلك. ويجوز أن يكون (والنّصارى) معطوفا عليه، و {مَنْ آمَنَ} خبرهما، وخبر (إنّ) مقدّر، دلّ عليه ما بعده كقول قيس بن الحطيم الأوسي-وهو الشاهد رقم [105] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

ص: 170

ولا يجوز عطفه على محلّ {إِنَّ} واسمها، فإنّه مشروط بالفراغ من الخبر؛ إذ لو عطف عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ، وخبر:{إِنَّ} معا، فيجتمع عليه عاملان. ولا على الضّمير في:{هادُوا} وهو قول الكسائي، والأخفش. قال النّحاس: سمعت الزجّاج يقول، وقد ذكر له قول الأخفش، والكسائي، هذا خطأ من جهتين: إحداهما: أنّ المضمر المرفوع يقبح العطف عليه؛ حتّى يؤكّد.

والجهة الأخرى: أنّ المعطوف شريك المعطوف عليه في الحكم. فيصير المعنى: إنّ الصابئين قد دخلوا في اليهودية. وهذا محال. وقيل: (إنّ) بمعنى «نعم» ، وما بعدها في محل رفع بالابتداء، و (الصابئون) معطوف عليه، أو هو مبتدأ، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا بعد تمام الكلام، وانقضاء الاسم، والخبر. وخذ قول قيس الرقيات-وهو الشاهد رقم [51] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [523] من كتابنا:«فتح رب البريّة» : [مجزوء الكامل]

بكر العواذل في الصّبو

ح يلمنني وألومهنّه

ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت فقلت إنّه

وقيل: (الصابئون) معطوف على اسم: {إِنَّ} وهو منصوب، وجاء بالواو على لغة بلحارث الّذين يجعلون المثنّى بالألف على كلّ حال، وجمع المذكر السالم بالواو على كلّ حال. وقيل:

منصوب بالفتحة الظاهرة، وقد أجاز أبو علي الفارسي نصب جمع المذكر السالم بالفتحة، وهو بالياء والنون، وأجاز غيره وهو بالواو والنون، والقياس لا يدفعه. انتهى بيضاوي، وعكبري بتصرّف. وذكر مكيّ بن أبي طالب القيسي ما يشبهه.

هذا؛ وقال سليمان الجمل رحمه الله تعالى تبعا للجلال: خبر {إِنَّ} هذه محذوف، تقديره:

فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون دلّ عليه المذكور، وقوله:{وَالَّذِينَ هادُوا} مبتدأ فالواو لعطف الجمل، أو للاستئناف، وقوله:{وَالصّابِئُونَ وَالنَّصارى} عطف على هذا المبتدأ، وقوله:{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ..} . إلخ خبر عن هذه المبتدآت الثلاثة. وقوله: {مَنْ آمَنَ..} . إلخ: بدل من كلّ منها بدل بعض، فهو مخصّص، فكأنّه قال: الذين آمنوا من اليهود، ومن النصارى، ومن الصّابئين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، فالإخبار عن اليهود، ومن بعدهم بما ذكر بشرط الإيمان، لا مطلقا. هذا حاصل ما درج عليه الشّارح في الإعراب، وفي المقام وجوه تسعة أخرى ذكرها السّمين، وما مشى عليه الجلال أوضح وأظهر من كلّ منها. تأمّل. انتهى بحروفه.

هذا وأقول: إنّ ابن هشام-طيّب الله ثراه-ذكر: أنّ الفرّاء، والكسائيّ اعتبرا:(الصابئون) معطوفا على محل (الذين) ولذا قال: وأجيب، أي: من طرف البصريين بأمرين: أحدهما: أنّ خبر {إِنَّ} محذوف، أي: مأجورون، أو آمنون، أو فرحون. و (الصّابئون): مبتدأ، وما بعده الخبر، ويشهد له قول الشاعر-وهو الشاهد [857] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

خليليّ هل طبّ فإنّي وأنتما

-وإن لم تبوحا-بالهوى دنفان

ص: 171

والأمر الثاني: أنّ الخبر المذكور ل: {إِنَّ} وخبر (الصّابئون) محذوف، تقديره: كذلك، ويشهد له قول صابئ المذكور آنفا، انظر شرح الأبيات المذكورة في كتابينا المذكورين؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

{لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)}

الشرح: {لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ:} تقدّم شرح هذه الكلمات فيما مضى.

والمعنى: أخذنا بالعهود عليهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها من التّوحيد، والعمل بما أمرناهم به، والانتهاء عمّا نهيناهم عنه، ولكنهم نقضوا العهود، والمواثيق التي أخذها الله عليهم في التوراة، واجترحوا من الجرائم العظام ما سجّله التاريخ عليهم؛ أي: في جميع العصور والأزمان، فلا يستغرب منهم ما يصدر من الأذى والعصيان للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. {وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} أي: أرسلنا إليهم الرّسل ليرشدوهم، وليبينوا لهم أمر الدين. {كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ:} أي يخالف أهواءهم، ويضاد شهواتهم من ميثاق التكليف، والعمل بالشّرائع.

{فَرِيقاً كَذَّبُوا:} من الرّسل الذين جاءتهم. {وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} أي: فريقا آخر قتلوه، فكان ممّن كذبوا: عيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وكان فيمن قتلوا: زكريا، ويحيى، وغيرهما من الأنبياء، وقد تقدّم ذكرهم في سورة (البقرة، وآل عمران) هذا؛ والتعبير بالمضارع: {يَقْتُلُونَ} موضع «قتلوا» على حكاية الحال الماضية، استفظاعا للقتل، وتنبيها على أنّ إيذاء الأنبياء، ومعاداتهم من شأنهم ماضيا ومستقبلا.

هذا؛ و (فريق) اسم جمع، لا واحد له من لفظه، مثل: معشر، ورهط

إلخ: وهو بمعنى:

الطائفة من الناس. والفريق أكثر من الفرقة، قال تعالى في سورة (الأعراف):{فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} وقال عز وجل في سورة (الشّورى): {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} . هذا؛ وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [66] من سورة (النساء) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير:

وعزّتي، وجلالي. (قد): حرف تحقيق، يقرّب الماضي من الحال. {أَخَذْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين في اللام. {مِيثاقَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {بَنِي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي:} مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور،

ص: 172

وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، أو للتركيب المزجي. (أرسلنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رُسُلاً:} مفعول به.

{كُلَّما:} انظر إعرابها في الآية رقم [64]. {جاءَهُمْ رَسُولٌ:} ماض، ومفعوله، وفاعله، و (ما) والفعل:(جاء) في تأويل مصدر في محل جر بإضافة: (كل) إليه. التقدير: كلّ وقت مجيء رسول، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل:(كل). {بِما:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {لا:} نافية. {تَهْوى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر. {أَنْفُسُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: كلما جاءهم رسول بالّذي، أو: بشيء لا تهواه أنفسهم. {فَرِيقاً:} مفعول به مقدّم. {كَذَّبُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب:{كُلَّما} لا محلّ لها، وقيل: هذه الجملة مستأنفة، وجواب {كُلَّما} محذوف، التقدير: كلما جاءهم

إلخ ناصبوه العداء، فتكون الجملة:{فَرِيقاً كَذَّبُوا} دالة عليها، ومفسّرة لها، ويشهد لها قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [78]:{أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ،} والتي بعدها معطوفة عليها، و {كُلَّما} ومدخولها في محل نصب صفة:{رُسُلاً} والرابط محذوف؛ إذ التقدير: كلّما جاءهم رسول منهم

إلخ.

{وَحَسِبُوا أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)}

الشرح: {وَحَسِبُوا..} . إلخ؛ أي: ظنّ اليهود: أن لا يصيبهم بلاء، وعذاب بفعلهم السيّئ من قتلهم الأنبياء، وتكذيبهم لهم فيما جاءوا به من عند ربهم. فعموا عن طريق الحق والصواب، فلم يبصروه. وهذا كناية عن عمى البصيرة لا البصر، قال تعالى في سورة الحج:

{فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . {وَصَمُّوا:} عن استماع الموعظة، والنصيحة، كما فعلوا حين عبدوا العجل، ووعظهم هارون عليه السلام، فلم يقبلوا منه.

و «الصمم» : هو كناية عن منع نفوذ الحقّ إلى قلوبهم، وسبب ذلك شدّة جهلهم، وقوّة كفرهم، وإعراضهم عن قبول الحقّ، وقوله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في سورة (البقرة) مثل ذلك. {ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ} أي: حين تابوا، واعتذروا؛ قبل الله توبتهم.

{ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} يعني: في زمان عيسى، ويحيى، وزكريا، على نبينا، وحبيبنا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام؛ لأنّهم كذبوا عيسى، وقتلوا زكريا، ويحيى. وقيل: إنّ العمى

ص: 173

الأوّل كان بعد موسى، ثمّ تاب عليهم ببعثة عيسى، عليه السلام، ثمّ عموا، وصموا ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم. {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} أي: من اليهود؛ لأنّ بعضهم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام، وأصحابه. انظر قوله تعالى في سورة (الإسراء):{وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} فشرحها جيد هناك. {وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ:} فيجازيهم بما يستحقّون، ففيه وعيد، وتهديد.

هذا؛ و (حسب) من باب «تعب» في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنّهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضا على غير قياس، وقد قرئ المضارع بفتح السين، وكسرها، والمصدر: الحسبان بكسر الحاء، وحسبت المال حسبا من باب: قتل بمعنى: أحصيته عددا.

الإعراب: {وَحَسِبُوا:} الواو: حرف عطف. (حسبوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. (أن): حرف مصدري، ونصب. (لا): نافية. {تَكُونَ:} فعل مضارع تام منصوب ب: (أن). {فِتْنَةٌ:} فاعله، هذا؛ وقرئ الفعل بالرّفع على اعتبار أنّ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنّه. والجملة الفعلية في محل رفع خبرها، و (أن) على الاعتبارين تؤوّل مع مدخولها بمصدر، وهذا المصدر في محل نصب سدّ مسد مفعولي الفعل:(حسبوا)، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا، ويتغيّر معنى (حسبوا) على الاعتبارين، فعلى اعتبار:(أن) ناصبة يكون معناه: الظنّ، والشكّ. وعلى اعتبارها مخففة من الثقيلة يكون معناه: اليقين. وجملتا: (عموا، وصمّوا) معطوفتان على ما قبلهما أيضا، وانظر متعلّق الفعلين في الشّرح.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {تابَ اللهُ:} ماض، وفاعله. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: ثمّ تابوا، فتاب الله عليهم، والكلام كلّه معطوف على ما قبله، لا محلّ له أيضا. {عَمُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {كَثِيرٌ:} فيه أربعة أوجه: الأول:

كونه بدلا من واو الجماعة على اعتبارها فاعلا. والثاني: فاعلا، والواو علامة الجمع، كقولهم:

«أكلوني البراغيث» . والثالث: كونه خبرا لمبتدإ محذوف؛ أي: العمى، والصمم كثير منهم.

والرابع: كونه مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره. وضعّفه البيضاوي؛ لأنّ تقديم الخبر في مثل ذلك ممتنع. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [3]:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وهذا الاستعمال ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يتعاقبون فيكم ملائكة باللّيل، وملائكة بالنّهار» . وورد في الشعر العربي بكثرة، كقول عبيد الله بن قيس الرّقيات-وهو الشاهد رقم [684] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [197] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الطويل]

تولّى قتال المارقين بنفسه

وقد أسلماه مبعد وحميم

ص: 174

وأيضا قول الآخر-وهو الشاهد رقم [682] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [المتقارب]

يلومونني في اشتراء النّخي

ل أهلي فكلّهم ألوم

وأيضا: قول أبي فراس الحمداني، -وهو الشاهد رقم [196] -من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [مجزوء الكامل]

فتح الرّبيع محاسنا

ألقحنها غرّ السّحائب

انظر شرح هذه الشّواهد في كتابينا تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {كَثِيرٌ} أو بمحذوف صفة له. {وَاللهُ بَصِيرٌ:} مبتدأ، وخبر. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {بَصِيرٌ} . و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها على الاعتبارين الأوّلين فيها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بصير بالذي، أو: بشيء يعملونه. وتؤوّل على اعتبارها مصدرية مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: الله بصير بعملهم. والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، هذا؛ وقرئ:«(عموا، وصمّوا)» بضم العين، والصاد من باب: زكم، وأزكمه الله، وقد جاء بغير همز فيما لم يسم فاعله، وهو قليل، واللغة الفاشية: أعمى، وأصمّ.

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النّارُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)}

الشرح: مناسبة الآية وما بعدها لما تقدّم: لمّا حكى الله عن اليهود ما حكاه من نقضهم الميثاق، وقتلهم الأنبياء، وتكذيبهم الرّسل، وغير ذلك؛ شرع في الإخبار عن كفر النّصارى، وما هم عليه من فساد الاعتقاد. وما ذكر في هذه الآية من اعتبارهم عيسى إلها هو قول الملكانية، واليعقوبية منهم؛ لأنّهم يقولون: إنّ مريم ولدت إلها، وإنّ الإله جلّ علاه حلّ في ذات عيسى، واتّحد به. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا!

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ..} . إلخ؛ أي: كفر النّصارى، وخرجوا عن جادة الحقّ، والصّواب بقولهم:{إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} . {وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ..} . إلخ؛ أي:

أنا عبد مثلكم، فاعبدوا خالقي، وخالقكم، الّذي يذلّ له كلّ شيء، ويخضع له كل موجود، كيف لا يكون عبدا لله، وأوّل كلمة نطق بها؛ وهو صغير في المهد أن قال:{إِنِّي عَبْدُ اللهِ} ولم يقل: إنّي أنا الله، ولا ابن الله، بل قال:{إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} . وكذلك قال لهم في كهولته، ونبوّته، آمرا لهم بعبادة الله ربه، وربهم وحده، لا شريك له: قال تعالى هنا:

{وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .

ص: 175

{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ:} يعني: من يجعل لله شريكا من خلقه في ذاته، أو في صفاته، أو في أفعاله. {فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} أي: دخولها، وأوجب له النّار إذا مات على شركه. قال تعالى في سورة (النساء) رقم [48 و 116]:{إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} . وفي الصّحيح: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في الناس: «إنّ الجنّة لا يدخلها إلاّ نفس مسلمة» . وفي لفظ: «مؤمنة» . {وَما لِلظّالِمِينَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك، وارتكاب المعاصي. {مِنْ أَنْصارٍ:} أي: ما لهم من أنصار، وأعوان ينصرونهم، ويمنعونهم من العذاب يوم القيامة.

هذا؛ والمراد ب: (الظالمين) في هذه الآية: الكفار، كما عبّر عنهم في آيات كثيرة ب:

(المجرمين) و (الفاسقين) و (الكاذبين) وغير ذلك، وإنّنا نجد الكثير من المسلمين يتّصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد، والوعيد، كما يوجه إلى الكفار؟ الحقّ أقول: نعم يوجه إليهم ذلك، ولا سيّما من قرأ القرآن الكريم، واطّلع على أخبار الأمم السابقة، والقرون السّالفة كيف فعل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين. وإنّما سمّي الكافر ظالما لأنّه وضع العبادة في غير موضعها، وكلّ من يدّعي الإسلام، ولا يعمل بتعاليمه؛ فهو ظالم لنفسه، ويستحقّ ما يستحقّ الكافر من العذاب في الدنيا، والآخرة.

الإعراب: {لَقَدْ:} انظر الآية رقم [70]{كَفَرَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل.

{اللهَ:} اسمها. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْمَسِيحُ:}

خبره. {اِبْنُ:} صفة: {الْمَسِيحُ} أو بدل منه، وهو مضاف، و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية، والتأنيث المعنوي، والجملة الاسمية:{هُوَ الْمَسِيحُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} .

إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{لَقَدْ كَفَرَ..} . إلخ لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين باللام.

{وَقالَ الْمَسِيحُ:} فعل ماض، وفاعله. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو: أنادي.

(بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السّالم، وحذفت النون للإضافة، و (بني): مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ.

{اُعْبُدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {رَبِّي:} بدل من لفظ الجلالة منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جرّ بالإضافة من

ص: 176

إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَرَبَّكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل

إلخ، والكلام:{يا بَنِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{وَقالَ الْمَسِيحُ..} . إلخ في محلّ نصب حال من واو الجماعة، وهي على تقدير «قد» قبلها، والرابط: الواو، والضمير المحذوف؛ إذ التقدير: وقد قال المسيح لهم. وإن اعتبرتها معطوفة على جملة: {لَقَدْ..} . إلخ فلا محلّ لها مثلها.

{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُشْرِكْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} . {بِاللهِ:}

متعلقان بما قبلهما. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحاضر. {حَرَّمَ اللهُ:} ماض، وفاعله. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْجَنَّةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{فَقَدْ..} . إلخ في محلّ جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه كما ذكرته مرارا، والجملة الاسمية:{مَنْ يُشْرِكْ..} . إلخ في محل رفع خبر:

{إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للأمر؛ إن كانت من كلام عيسى، ومستأنفة لا محلّ لها؛ إن كانت من كلام الله تعالى ابتداء.

{وَمَأْواهُ:} الواو: حرف عطف. (مأواه): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة. {النّارُ:} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ،} فهي في محل جزم مثلها. {وَما:} الواو: حرف استئناف.

(ما): نافية. {لِلظّالِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مَنْ:} حرف جر صلة.

{أَنْصارٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحلّ بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وهناك من يجيز اعتبار:{أَنْصارٍ} فاعلا بالجار والمجرور قبله؛ لاعتماده على النفي، ولم يذكر تعليق الجار والمجرور، ولعلّه يعني تعليقهما ب:

(ما) النافية، وهذا غير متعارف عليه، أو هما متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وما يثبت للظالمين أنصار. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) نافية حجازية تعمل عمل «ليس» فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبرها مقدما. و {أَنْصارٍ:} اسمها مؤخر، وعلى الوجهين؛ فالجملة اسمية، وهي مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام اعتراضا تذييليّا، لا محلّ لها على الاعتبارين. هذا؛ وقد وضع الظّاهر موضع المضمر تسجيلا على أنّهم ظلموا أنفسهم بالشّرك، وعدلوا عن طريق الحقّ، والصواب. ونبّه الله به على أنّهم قالوا ذلك تعظيما لعيسى، وتقرّبا إليه، وهو معاديهم، ومخاصمهم فيه. هذا وقد روعي لفظ:{مَنْ} بالضّمير، في فاعل:

{يُشْرِكْ} ومعناها في الاسم الظّاهر. تأمّل، وتدبّر، وربّك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

ص: 177

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)}

الشرح: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ:} هذا قول المرقوسيّة، والنّسطورية من النّصارى، ولتفسير قولهم طريقان:

أحدهما: وهو قول أكثر المفسّرين: أنّهم أرادوا بهذه المقالة: أنّ الله، ومريم، وعيسى آلهة ثلاثة، وأنّ الإلهية مشتركة بينهم، وأنّ كلّ واحد منهم إله، ويبين ذلك قوله تعالى للمسيح في آخر هذه السّورة:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ،} فقوله: {ثالِثُ ثَلاثَةٍ} فيه إضمار، تقديره: إنّ الله أحد ثلاثة آلهة، أو: واحد من ثلاثة آلهة.

قال الواحدي-رحمه الله تعالى-: ولا يكفر من يقول: إنّ الله ثالث ثلاثة، ولم يرد به: أنّه ثالث ثلاث آلهة؛ لأنّه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم، ويدلّ عليه قوله تعالى في سورة (المجادلة):{ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ،} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر-رضي الله عنه: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟!» .

والطريق الثاني: أنّ المتكلّمين حكوا عن النّصارى: أنّهم يقولون: إنّه جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أب، وابن، وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد، كما أنّ الشّمس اسم يتناول القرص، والشّعاع، والحرارة، وعنوا بالأب: الذّات، وبابن: الكلمة، وبالرّوح: الحياة، وأثبتوا الذّات، والكلمة، والحياة، وقالوا: إنّ الكلمة الّتي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللّبن، وزعموا أنّ الأب إله، والابن إله، والرّوح إله، والكلّ واحد. واعلم: أنّ هذا الكلام معلوم البطلان ببديهة العقل، فإنّ الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا ترى في الدنيا مقالة أشدّ فسادا، ولا أظهر بطلانا من مقالة النّصارى. انتهى. خازن. أقول:

أفسد من عقيدة النصارى عقائد الوثنيّين. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [171] من سورة (النّساء).

{وَما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ} أي: لا يوجد في الكون إله يستحقّ العبادة من حيث هو الفاعل المختار إلا إله واحد منفرد بالوحدانيّة، والقدم، والبقاء، وهو الله تعالى لا شريك له، ولا والد، ولا ولد له، ولا صاحبة. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [163]:{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ} انظر شرحها هناك فإنّه جيد، والحمد لله!.

{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ} أي: إن لم ينته النّصارى عن هذه المقالة الباطلة، والادّعاء الكاذب. {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي: ليصيبنّهم عذاب أليم في الدّنيا، والآخرة. في الدّنيا: القتل، والأسر، والجزية، وقد حصل شيء من هذا. ولعذاب الآخرة

ص: 178

أخزى، وأنكى. هذا؛ وقال تعالى:{مِنْهُمْ} لعلمه السّابق: أنّ من النصارى من يؤمن الإيمان الكامل، ويترك هذه الأقوال الفاسدة، وقد حصل ذلك منهم.

تنبيه: قال مكّي بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى-: في التركيب: {وَإِنْ لَمْ} دخلت: (إن) على (لم) ليرتدّ الفعل إلى أصله في لفظه، وهو الاستقبال؛ لأنّ «لم» تردّ لفظ المستقبل إلى معنى المضيّ و «إن» ترد الماضي إلى معنى الاستقبال، فلمّا صارت {لَمْ} ولفظ المستقبل بعدهما بمعنى الماضي؛ ردّتها (إن) إلى الاستقبال؛ لأنّ «إن» ترد الماضي إلى معنى الاستقبال. انتهى.

الإعراب: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ:} انظر الآية السابقة. و {ثالِثُ:}

مضاف، و {ثَلاثَةٍ:} مضاف إليه. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {مِنْ:}

حرف جر صلة. {إِلهٍ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجاز الابتداء بالنكرة؛ لتقدّم النفي عليها. {إِلاّ:}

حرف حصر. {إِلهٍ:} خبر المبتدأ. {واحِدٌ:} صفة. هذا هو الإعراب الظاهر، والإعراب الحقيقي أن تعتبر الخبر محذوفا، تقديره: موجود، و {إِلهٍ:} الثاني بدل من المبتدأ، أو من الضّمير المستتر في الخبر المحذوف، وهو أقوى على حدّ:«لا إله إلا الله» ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.

{وَإِنْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: وعزتي، وجلالي! دلّ على هذا القسم الكلام الآتي، والجار والمجرور متعلّقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (إن):

حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَنْتَهُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وهو فعل الشرط، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي.

{عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محلّ جرّ ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: وإن لم ينتهوا عن الذي، أو: عن شيء يقولونه.

وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محلّ جرّ ب: (عن)، التقدير: وإن لم ينتهوا عن قولهم. {لَيَمَسَّنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (يمسّنّ): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محلّ له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعده صلته. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (من) بيان لما أبهم في الموصول. {عَذابٌ:} فاعل:

(يمسّنّ). {أَلِيمٌ:} صفة له، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، وجواب الشرط محذوف

ص: 179

لدلالة جواب القسم عليه، على القاعدة:«إذا اجتمع شرط، وقسم فالجواب للسّابق منهما» . قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والقسم، وجوابه كلام مستأنف، لا محلّ له. هذا؛ مع ملاحظة: أنّ اللام الموطئة للقسم محذوفة، وقد روعي حكمها؛ إذ التقدير: ولئن لم ينتهوا، كما صرّح به في قوله تعالى في سورة (الحشر):{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} الآية رقم [121] من سورة (الأنعام).

{أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)}

الشرح: {أَفَلا يَتُوبُونَ..} . إلخ؛ أي: أفلا يرجعون إلى الله بالانتهاء عن تلك العقائد الزائفة، والأقوال الكاذبة في حقّ عيسى، وأمّه، عليهما السلام. وهذا من كرم الله تعالى، وجوده، ولطفه، ورحمته بخلقه مع هذا الذّنب العظيم. وهذا الافتراء، والإفك يدعوهم إلى التوبة، والمغفرة، فكلّ من تاب إليه؛ تاب عليه. {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} أي: بالتوحيد، والتنزيه عن الاتحاد، والحلول بعد ما تقدّم من التهديد، والوعيد. {وَاللهُ غَفُورٌ:} لهم إن تابوا إلى الله، وأنابوا. {رَحِيمٌ:} بهم، والإسلام يجبّ ما قبله، وانظر:{أَفَلا} في الآية رقم [82] من سورة (النّساء).

هذا؛ والفعل: استغفر، ويستغفر: السّين، والتاء فيهما للطّلب، والفعل يتعدّى لاثنين، أولهما بنفسه، والثاني بحرف الجر، نحو: استغفرت الله من ذنبي، قال تعالى في سورة (التوبة) رقم [80]:{اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} فالمفعول الصّريح للأفعال الأربعة محذوف، وقد يحذف حرف الجر، فيصل الفعل إلى الثاني بنفسه، كقول الشاعر-وهو الشّاهد رقم [486] من كتابنا:«فتح رب البريّة» -: [البسيط]

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

ومثل «استغفر» : اختار، وكنى، وسمع، ودعا، وصدّق، وزوّج، وكال، ووزن، وأمر. قال عمرو بن معدي كرب الزبيدي-وهو الشاهد رقم [485] من كتابنا:«فتح رب البرية» ، والشاهد رقم [597] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

الإعراب: {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار. الفاء: حرف استئناف، وقال الجمل:

الفاء للعطف على مقدّر، يقتضيه المقام، أي: ألا ينتهون عن تلك العقائد، فلا يتوبون.

ص: 180

{يَتُوبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها مستأنفة. أو معطوفة على مقدّر. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مستأنفة لا محلّ لها، وعطفها على الجملة الفعلية السّابقة لا محلّ لها أيضا واعتبارها حالا من لفظ الجلالة جيّد، ويكون الرابط: الواو، وإعادة لفظ الجلالة.

{مَا الْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ اُنْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ (75)}

الشرح: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ:} فيه نفي الألوهية عنه، كما أنّ الرسل الذين كانوا قبله لم يكونوا آلهة، وأمّا إبراؤه الأكمه، والأبرص، وإحياء الميت على يده؛ فهو كإحياء العصا، وجعلها حيّة في يد موسى، على نبينا، وعليهم جميعا ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام، قال تعالى في سورة (الزخرف) رقم [59]:{إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ،} وخلقه من غير ذكر كخلق آدم من غير ذكر، وأنثى، قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [59]:{خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي: وما أمّه أيضا إلا كبعض النّساء المصدّقات للأنبياء، المؤمنات بهم، وهذا أعلى مقاماتها، فدلّ على أنّها ليست نبيّة، كما زعمه ابن حزم، وغيره ممّن ذهب إلى نبوّة سارة أم إسحاق، ونبوّة أم موسى، ونبوة أم عيسى استدلالا منهم بخطاب الملائكة لهنّ، والذي عليه الجمهور: أنّ الله لم يبعث نبيّا إلاّ من الرجال، قال تعالى في سورة (الأنبياء):{وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} . والإجماع منعقد على ذلك.

{كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ} أي: يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين، كما زعمت فرق النّصارى الضالّة عن طريق الهدى، والحقّ، والصّواب. وبالجملة فإنّ فساد عقيدتهم واضح لا يحتاج إلى إقامة دليل.

{اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ} الدّالة على بطلان قولهم، وفساد عقيدتهم. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكلّ عاقل يفكّر في أمرهم. {ثُمَّ انْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ:} كيف يصرفون عن استماع الحقّ، وقبوله. هذا؛ وتكرير الأمر بالنّظر للمبالغة في التعجّب، ولفظ:{ثُمَّ} لإظهار ما بين العجبين من التّفاوت؛ أي: إن بياننا للآيات أمر بديع بالغ أقصى الغايات من الوضوح، والتحقيق، وإعراضهم عنها أعجب؛ وأبدع.

ص: 181

هذا وأصل «الإفك» قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذاب: أفّاك؛ لأنّه يقلب الكلام عن وجهه الصّحيح إلى الباطل، وهو بهذا المعنى من الباب الرّابع، ومصدره: إفك، كعلم، ويغلب مجيء فعله بالبناء للمجهول، ويكون بمعنى الصّرف كقوله تعالى في كثير من الآيات:

{فَأَنّى يُؤْفَكُونَ،} وقال تعالى في سورة (الذاريات): {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} ومصدره: أفك كضرب، وقد يجيء بالبناء للمعلوم، كما في قوله تعالى في سورة (الشّعراء):{قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا} . وانظر مثله في الآية رقم [95] من سورة (الأنعام).

الإعراب: {مَا:} نافية. {الْمَسِيحُ:} مبتدأ. {اِبْنُ:} صفة له، أو بدل منه، وهو مضاف، و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية، والتأنيث المعنوي. {إِلاّ:} حرف حصر. {رَسُولٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {خَلَتْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة. {مِنْ قَبْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {الرُّسُلُ:} فاعل: {خَلَتْ،} والجملة الفعلية في محل رفع صفة: {رَسُولٌ،} والجملة الاسمية: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {كانا:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح، وألف الاثنين اسمه. {يَأْكُلانِ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله.

{الطَّعامَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كانا،} والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من المسيح وأمّه؛ فيجب تقدير «قد» قبلها.

{اُنْظُرْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {كَيْفَ:} اسم استفهام، وتعجب مبني على الفتح في محلّ نصب حال من فاعل:{نُبَيِّنُ} المستتر، و {كَيْفَ} معلقة للفعل:

{اُنْظُرْ} عن العمل لفظا. {نُبَيِّنُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره: نحن.

{لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية:{كَيْفَ نُبَيِّنُ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل: {اُنْظُرْ،} وهذه الجملة مستأنفة لا محلّ لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {اُنْظُرْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه. {أَنّى:} اسم استفهام، وتعجب مبني على السّكون في محل نصب حال من واو الجماعة. هذا؛ وإن اعتبرتها للمكان-كما هو أصل معناها-فتكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلقة بالفعل بعدها. {يُؤْفَكُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، ومتعلقه محذوف، انظر: الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به للفعل:{اُنْظُرْ،} وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

ص: 182

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ:} هذا خطاب للنّصارى الذين ألّهوا عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. والمعنى: يا محمد! قل لهؤلاء النصارى: أتعبدون من دون الله. {ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً} أي: لا يستطيع أن يضرّكم بمثل ما يضرّكم الله به من البلايا، والمصائب في الأنفس، والأموال، ولا يقدر أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به الله من صحّة الأبدان، وسعة الأرزاق، فإنّ الضار، والنافع هو الله تعالى، لا من تعبدون من دونه، ومن لا يقدر على النّفع، والضّرّ لا يكون إلها. قال في البحر:

لمّا بيّن الله بدليل النقل، والعقل انتفاء الألوهية عن عيسى عليه السلام، ودعاهم للتوبة، وطلب الغفران؛ أنكر عليهم، ووبّخهم من وجه آخر، وهو عجز عيسى عن دفع ضرر، وجلب نفع، وأنّ من كان لا يدفع عن نفسه حريّ أن لا يدفع عنكم.

هذا؛ و «العبادة» غاية التذلّل، ولا يستحقّها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذلك يحرم السّجود لغير الله تعالى. وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرّضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصّبر على المفقود. وانظر شرح:{دُونِ} في الآية رقم [116] من سورة (النّساء).

هذا؛ وإنّما قال، وكنى عن عيسى-عليه السلام-بما دوّن من التحقيق ما هو المراد من كونه بمعزل عن الألوهية رأسا ببيان انتظامه-عليه السلام-في سلك الأشياء؛ الّتي لا قدرة لها على شيء أصلا. وانظر مثلها في الآية رقم [3] من سورة (النساء) والآية الأخيرة من هذه السّورة.

هذا؛ وقد قال بعض المحققين في قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ..} . إلخ: إذا كان عيسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لا يملك ضرّا، ولا نفعا لأحد؛ فما بالك بوليّ من الأولياء؛ هل يملك لغيره نفعا، أو ضرّا؟! والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قُلْ} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَتَعْبُدُونَ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. (تعبدون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بما قبلهما، و {دُونِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لا:} نافية. {يَمْلِكُ:} فعل مضارع، وفاعله يعود إلى (ما)، والمراد به عيسى كما رأيت، وهو العائد. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

ص: 183

{ضَرًّا:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {نَفْعاً:}

معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.

{وَاللهُ:} مبتدأ. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ ثان.

{السَّمِيعُ:} خبر الثاني. {الْعَلِيمُ:} خبر ثان له، والجملة الاسمية:{هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في محل رفع خبر لفظ الجلالة. هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير بدلا من لفظ الجلالة، وفصلا لا محلّ له، فيكون:{السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} خبرين للفظ الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، وجوز اعتبارها حالا من واو الجماعة، ويكون الرابط الضمير فقط، والاستئناف أقوى.

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب لسيد الخلق، وحبيب الحقّ صلى الله عليه وسلم. {يا أَهْلَ الْكِتابِ:} الخطاب لأهل الكتابين: اليهود، والنّصارى. {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي: غلوّا باطلا، والغلو: مجاوزة الحدّ، وذلك: أنّ الحقّ بين طرفي: الإفراط، والتفريط، ومجاوزة الحدّ، والتقصير مذمومان. فغلو النّصارى رفع عيسى فوق قدره بنسبة الألوهيّة إليه. وغلو اليهود وضعه؛ حيث قالوا: إنّه ابن زنى. وكلا الفريقين متجاوز للحدّ، فهو هالك بالإفراط، أو بالتفريط، وانظر الآية رقم [171] من سورة (النساء) فإنّه جيد، والحمد لله!.

{وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} يعني: أسلافهم، وأئمّتهم الذين خرجوا عن جادة الحقّ، والصّواب قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث حرّفوا، وبدّلوا أحكام التوراة، والإنجيل.

والخطاب لليهود، والنصارى الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهوا عن اتّباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضّلالة بأهوائهم. وانظر شرح:{الْهَوى} في الآية رقم [135] من سورة (النساء) فإنّه جيد، والحمد لله!. {وَأَضَلُّوا كَثِيراً} من الناس ممّن شايعوهم، وسمعوا منهم، واتّبعوهم على ضلالتهم، وأهوائهم. {وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ:} أي: أخطئوا الطريق السّويّ بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم حيث كذّبوه، وعادوه، وبغوا عليه.

هذا؛ و «ضلّ» أكثر ما يستعمل بمعنى: كفر، وأشرك، وهو ضدّ: اهتدى، واستقام.

ومصدره: الضّلال، وهو كثير، ويأتي «ضلّ» بمعنى: غاب، كما في قوله تعالى:{وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} . ويأتي بمعنى: خفي، يخفى، قال تعالى في سورة (طه) حكاية عن قول موسى لفرعون:{قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} . وضلّ الشيء: ضاع، وهلك، ومنه قوله تعالى في سورة (الرعد) وفي سورة (غافر):{وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} .

ص: 184

وضل: أخطأ في رأيه، ولولا هذا المعنى؛ لكفر أولاد يعقوب بقولهم له في حضرته:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وضل: تحيّر، وهو أقرب ما يفسّر به قوله تعالى مخاطبا حبيبه صلى الله عليه وسلم في سورة (الضّحى):{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} .

و: أضلّ، يضلّ غيره من الرّباعي، مصدره: الإضلال، فهو متعدّ، والثلاثي لازم، وهما في هذه الآية. ومصدر الثلاثي: الضلال، وهو الخروج عن جادة الحقّ، والانحراف عن الصراط المستقيم، وينبغي أن تعلم: أنّ طريق الهدى واحدة، لا اعوجاج فيها، ولا التواء، قال تعالى في سورة (الأنعام):{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وأمّا الضّلال؛ فطرقه كثيرة، ومتشعّبة. قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} . وقال الشاعر الحكيم: [البسيط]

الطّرق شتّى وطرق الحقّ واحدة

والسّالكون طريق الحقّ أفراد

لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم

فهم على مهل يمشون قصّاد

والنّاس في غفلة عمّا يراد بهم

فجلّهم عن سبيل الحقّ رقّاد

هذا؛ و «سواء» مصدر بمعنى الاستواء، فلذا صحّ الإخبار به عن متعدّد في كثير من الآيات، وقيل: هو بمعنى: مستو، وهو لا يثنّى، ولا يجمع. قالوا: هم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى.

قالوا: سيّان، وإن شئت قلت: سواءان، وفي الجمع: أسواء، وهذا كلّه ضعيف، ونادر، وأيضا على غير القياس: هم سواس، وسواسية، أي: متساويان، ومتساوون. هذا؛ ويأتي أيضا بمعنى: الوسط، كما في قوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [55]:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} ويأتي بمعنى: العدل، كما في قوله تعالى في الآية رقم [58] من سورة (الأنفال):

{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} وسواء السبيل: ما استقام منه، كما في الآية التي نحن بصدد شرحها، وأيضا قوله تعالى في الآية رقم [108] من سورة (البقرة):{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} وسواء الجبل: ذروته، وسواء الشيء: غيره. قال الأعشى: [الطويل]

تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي

وما عدلت عن أهلها لسوائكا

الإعراب: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ:} انظر الآية رقم [68]. {لا:} ناهية جازمة. {تَغْلُوا:}

فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتّفريق. {فِي دِينِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة.

{غَيْرَ:} صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: لا تغلوا في دينكم غلوّا غير، وجوز اعتباره حالا من واو الجماعة؛ أي: غير محقّين. و {غَيْرَ:} مضاف، و {الْحَقِّ:} مضاف إليه،

ص: 185

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَتَّبِعُوا:} فعل مضارع مجزوم ب:

(لا)

إلخ. {أَهْواءَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {قَوْمٍ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والكلام كلّه في محل نصب مقول القول. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {ضَلُّوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{قَوْمٍ} . {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وبني (قبل) على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى، والجملتان:{وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ} معطوفتان على ما قبلهما فهما في محل جرّ مثلها.

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78)}

الشرح: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا..} . إلخ: لعنهم الله في الزّبور، والإنجيل على لسان هذين النبيين. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لعنوا بكلّ لسان، وكلّ كتاب، لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزّبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، وعلى عهد محمد في القرآن، وفيه جواز لعن الكافرين، وإن كانوا من أولاد الأنبياء، وأن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقهم، وانظر اللّعنة في الآية رقم [52] من سورة (النساء).

قال أكثر المفسرين: هم أصحاب السبت لمّا اعتدوا في السّبت، واصطادوا الحيتان فيه.

قال داود-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-: اللهم العنهم، واجعلهم قردة! فمسحوا قردة، وقد ذكرت قصّتهم بالتفصيل في سورة (الأعراف) الآية رقم [163] وما بعدها. {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي: لعنوا أيضا على لسان عيسى، على حبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

وهم كفار أصحاب المائدة، لمّا أكلوا، وادّخروا، ولم يؤمنوا؛ قال عيسى: اللهم العنهم، واجعلهم خنازير! فمسخوا خنازير، وستأتي قصّتهم في آخر هذه السورة. {ذلِكَ بِما عَصَوْا} أي: ذلك اللّعن الشنيع المقتضي للمسخ بسبب عصيانهم، واعتدائهم، وخروجهم عن أوامر أنبيائهم؛ الّتي هي من أوامر الله تعالى.

هذا؛ وإعلال {عَصَوْا} كما يلي: أصله قبل دخول واو الجماعة عليه: «عصي» فقل في إعلاله: تحركت الياء، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فلمّا اتصلت به واو الجماعة؛ صار:

«عصاو» فالتقى ساكنان: ألف العلة، وواو الجماعة، وحرف العلّة أولى بالحذف من الضّمير، فحذف حرف العلّة، وبقيت الفتحة على الصّاد دليلا على الألف المحذوفة. ويقال في إعلاله أيضا: ردّت الألف لأصلها عند اتصالها بواو الجماعة، فصار:(عصيوا) فقلبت الياء ألف لتحركها وانفتاح ما قبلها، فالتقى ساكنان: ألف العلة

إلخ، كما يقال أيضا: ردت الألف

ص: 186

لأصلها عند اتصاله بواو الجماعة، فصار (عصيوا) فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء وواو الجماعة، فحذفت ياء العلّة

إلخ، وما ذكرته يجري في إعلال كلّ فعل ناقص؛ اتصل به واو الجماعة، مثل: نجا، ورمى، وسعى، ودعا

إلخ.

تنبيه: جاء لفظ {لِسانِ} بالإفراد دون التثنية، والجمع، فلم يقل: على لساني داود

إلخ على التثنية لقاعدة كلية، وهي أنّ كل جزءين مفردين من صاحبيهما إذا أضيفا إلى كليهما من غير تفريق جاز فيه ثلاثة أوجه: لفظ الجمع، وهو المختار، ويليه التثنية عند بعضهم. وعند بعضهم الإفراد مقدّم على التثنية، فيقال: قطعت رءوس الكبشين، وإن شئت قلت: رأسي الكبشين، وإن شئت قلت: رأس الكبشين، ومنه قوله تعالى في سورة (التّحريم):{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} . انتهى.

جمل نقلا عن السمين. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [38] ففيها الشّفاء الكافي لقلبك. وانظر شرح (لسان) في الآية رقم [46] من سورة (النساء).

الإعراب: {لُعِنَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية بعده صلته، والمتعلق محذوف. {مِنْ بَنِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة العائدة على الموصول، و {مِنْ:} بيان لما أبهم في الموصول. و {بَنِي:} مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه، وقد تقدّم إعراب مثل هذه الكلمات. {عَلى لِسانِ:} متعلقان بالفعل: {لُعِنَ،} و {لِسانِ:} مضاف، و {داوُدَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة.

{وَعِيسَى:} معطوف على ما قبله مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر.

{اِبْنِ:} صفة (عيسى)، و {اِبْنِ:} مضاف، و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ، وجملة:

{لُعِنَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {بِما:} الباء حرف جر. (ما): مصدرية. {عَصَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و (ما) المصدرية، والفعل:{عَصَوْا} في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ؛ إذ التقدير: ذلك بسبب عصيانهم، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. (كانوا): فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَعْتَدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كانوا)، وجملة:{وَكانُوا يَعْتَدُونَ:} معطوفة على ما قبلها، تؤوّل مثلها بمصدر بسبب العطف. التقدير: ذلك بسبب عصيانهم، وبسبب اعتدائهم. وقيل: هي مستأنفة.

والأوّل أقوى.

ص: 187

{كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)}

الشرح: {كانُوا لا يَتَناهَوْنَ..} . إلخ: أي: كان اليهود، والنصارى لا ينهى بعضهم بعضا عن فعل قبيح؛ إذا أراد البعض فعله. {لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ:} في هذه الجملة المؤكّدة بالقسم دليل على أنّ ترك النهي عن المنكر من العظائم، فيا خيبة المسلمين في إعراضهم عنه! وخذ ما يلي:

عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أوّل ما دخل النقص على بني إسرائيل: أنّه كان الرّجل يلقى الرّجل، فيقول: يا هذا اتّق الله، ودع ما تصنع، فإنّه لا يحلّ لك، ثمّ يلقاه من الغد، وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله، وشريبه، وقعيده، فلمّا فعلوا ذلك؛ ضرب الله قلوب بعضهم ببعض» ، ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ} إلى قوله: {وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ} . ثمّ قال: «كلا والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحقّ أطرا» .

رواه أبو داود، والترمذيّ، واللفظ لأبي داود. لتأطرنّه: أي: لتردنّه على الحق. وأصل «الأطر» العطف، والتثني.

وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قيل: يا رسول الله! متى يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ قال:«إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» قلنا: يا رسول الله! وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالكم» . قال زيد:

تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العلم في رذالكم» : إذا كان العلم في الفسّاق. رواه ابن ماجة.

وعن حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم» . رواه أحمد، والترمذي. وانظر ما ذكرته في الآيتين رقم [104 و 110] من سورة (آل عمران) ففيهما الكفاية، وانظر شرح «نعم» و «بئس» في الآية رقم [59] من سورة (النساء).

الإعراب: {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{لا:} نافية. {يَتَناهَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كانُوا،} والجملة الفعلية مفسرة لمعاصيهم، واعتدائهم في الآية السابقة.

{عَنْ مُنكَرٍ:} متعلقان بما قبلهما. {فَعَلُوهُ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{مُنكَرٍ} . {لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ:} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [62].

ص: 188

{تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)}

الشرح: {تَرى:} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ أحد. {كَثِيراً مِنْهُمْ} أي: من اليهود. وقال مجاهد: يعني: المنافقين. {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا:} يوالون المشركين من أهل مكة، وذلك حين خرجوا إليهم ليجيّشوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: ترى كثيرا من المنافقين يتولّون اليهود، ويصافونهم بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين. {لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: بئس الشيء؛ الذي قدموه لآخرتهم؛ ليروه يوم القيامة مسجّلا في صحائف أعمالهم. وانظر مثل هذا الذمّ في الآيتين رقم [62 و 63] والذي قدموه لأنفسهم هو: سخط الله عليهم في الدّنيا، والآخرة. وخلودهم في النار يوم القيامة. وانظر شرح:{تَرى} في الآية رقم [52].

الإعراب: {تَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر وجوبا تقديره: أنت. {كَثِيراً:} مفعول به. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {كَثِيراً} أو بمحذوف صفة له. {يَتَوَلَّوْنَ

:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال على اعتبار:{تَرى} بصرية من: {كَثِيراً} بعد وصفه بالجار والمجرور، أو هي في محل نصب مفعول به ثان على اعتبار:{تَرى} علميّة.

{كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها، وجملة:{تَرى..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{لَبِئْسَ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف. (بئس) فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله مستتر، تقديره:«هو» ، مميّز ب:(ما). {ما:} نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على التمييز. {قَدَّمَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَنْفُسُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين في الفاء. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {سَخِطَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل نصب ب: {أَنْ} . {اللهُ:} فاعله. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و {أَنْ سَخِطَ} في تأويل مصدر في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف هو المخصوص بالذم. التقدير: هو سخط الله عليهم. وقيل: المصدر المؤوّل تعليل للذمّ، والمخصوص بالذمّ محذوف، التقدير: لبئس الشيء مقدما لهم ذلك؛ لأنّه أكسبهم السّخط.

{وَفِي:} الواو: حرف عطف. (في العذاب): متعلقان ب: {خالِدُونَ} بعدهما. {هُمْ:} ضمير

ص: 189

منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خالِدُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها، فهي من جملة المخصوص بالذمّ.

{وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اِتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)}

الشرح: {وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ..} . إلخ؛ قيل: المراد بهم: اليهود، فلو كانوا يؤمنون بالله، وبموسى، وبالتوراة؛ التي أنزلت إليه. وقيل: المراد: المنافقون اتّخذوا اليهود أنصارا، وأحبابا. فيكون المراد ب:{وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ} أي: القرآن؛ الذي أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم. {وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ:} خارجون عن دينهم، أو هم مستمرّون في نفاقهم. وإنّما قال تعالى:

{كَثِيراً مِنْهُمْ} لأنّه علم: أنّ منهم من سيؤمن كعبد الله بن سلام، وأصحابه، وكذلك بعض المنافقين تاب من نفاقه.

هذا؛ و (النبيّ) يقرأ بالهمز، وبدونه مأخوذ من النبأ، وهو: الخبر، وقيل: مأخوذ من النبوة، وهي الارتفاع؛ لأنّ رتبة النّبي ارتفعت عن رتب سائر الخلق، وانظر الآية رقم [164] من سورة (النساء) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يُؤْمِنُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {بِاللهِ:} متعلّقان به.

{وَالنَّبِيِّ:} معطوف على لفظ الجلالة، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كانُوا،} والجملة الفعلية هذه لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية. ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {وَما:}

اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر معطوفة على (الله والنبي).

{أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ما:} نافية.

{اِتَّخَذُوهُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأوّل. {أَوْلِياءَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محلّ لها، (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكنّ): حرف مشبّه بالفعل. {كَثِيراً:} اسم (لكنّ). {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان ب: {كَثِيراً} أو بمحذوف صفة له. {فاسِقُونَ:} خبر (لكنّ) مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على (لو) ومدخولها، لا محلّ لها أيضا.

ص: 190

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}

الشرح: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا:} وذلك لشدة شكيمتهم، وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء، ومعاداتهم. وانظر إعلال:(تجد) في الآية رقم [52](النساء). وإعلال: {النّاسِ} في الآية رقم [35] و {الْيَهُودَ} في الآية رقم [20]. {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا:} هم أهل مكة المشركون. {مَوَدَّةً:} لينا، ومحبة. {نَصارى:} انظر الآية رقم [15] وقد كان النصارى كذلك للين جانبهم، ورقة قلوبهم، وقلة حرصهم على الدنيا، وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل. {ذلِكَ:} الإشارة إلى ما ذكر من صفاتهم الحميدة. {قِسِّيسِينَ} جمع قسيس، وهو مثال مبالغة على فعّيل كصديق، وهو هنا رئيس النصارى، وعالمهم، وأصله من تقسس الشيء إذا اتبعه، وتطلبه بالليل، ويقال لرئيس النصارى: قس، وقسيس، وهما بفتح القاف، وكسرها، ولم ينقل أهل اللغة في الأول القس بضم القاف، لا مصدرا، ولا وصفا، فأما قس بن ساعدة الإيادي، فهو علم، وهو بضم القاف، فيكون مما غير عن طريق العلمية، وقس هذا كان أعلم أهل زمانه، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«يبعث أمة وحده» انتهى. جمل بتصرف كبير. (رهبان): جمع راهب، وهو من النصارى: من اعتزل الناس إلى دير يتعبد فيه، ويجمع رهبان على: رهابين. والرهبنة، والرهبانية: طريقة الرهبان، وقد بين القرآن الكريم: أنهم ابتدعوها، ولم يفرضها الله، ولا عيسى عليهم. {لا يَسْتَكْبِرُونَ:} أي عن قبول الحق إذا فهموه، أو يتواضعون، ولا يتكبرون كاليهود، وفيه دليل على أن التواضع، والإقبال على العلم، والعمل، والإعراض عن الشهوات محمودة، وإن كانت من كافر. انتهى. بيضاوي.

الإعراب: {لَتَجِدَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:

«أنت» . {أَشَدَّ:} مفعول به أول، وهو مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه. {عَداوَةً:} تمييز.

{لِلَّذِينَ:} متعلقان ب {عَداوَةً،} أو بمحذوف صفه له، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {الْيَهُودَ:} مفعول به ثان. {الَّذِينَ:} معطوف على:

{الْيَهُودَ،} فهو مبني على الفتح في محل نصب مثله، وجملة:{أَشْرَكُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [1] وجملة: {لَتَجِدَنَّ..} . إلخ جواب قسم محذوف مع المتعلق، التقدير: (أقسم بالله

) إلخ، والجملة القسمية مستأنفة، لا محل

ص: 191

لها، وجملة:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى. والجملة الاسمية:{إِنّا نَصارى} في محل مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {مِنْهُمْ:}

متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {قِسِّيسِينَ:} اسم (أنّ) مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{وَرُهْباناً:} معطوف على ما قبله، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها، والمصدر المؤول من:{وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} معطوف على المصدر السابق، فهو في محل جر مثله. وإعراب هذه الجملة واضح إن شاء الله تعالى.

{وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ (83)}

الشرح: {سَمِعُوا:} هذا الفعل من الأفعال الصوتية، إن تعلق بالأصوات؛ تعدى إلى مفعول واحد، وإن تعلق بالذوات؛ تعدى إلى اثنين، الثاني منهما جملة فعلية، مصدرة بمضارع من الأفعال الصوتية، مثل قولك: سمعت فلانا يقول كذا. وهذا اختيار الفارسي. واختار ابن مالك ومن تبعه أن تكون الجملة الفعلية في محل نصب حال؛ إن كان المتقدم معرفة، وصفة؛ إن كان نكرة، مثل قولك: سمعت رجلا يقول: كذا. {ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ:} المراد به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. (ترى): انظر الآية رقم [55]. {أَعْيُنَهُمْ:} جمع عين، انظر الآية رقم [48].

{تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ:} الفيض: انصباب عن امتلاء، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة. أو جعلت {أَعْيُنَهُمْ} من فرط البكاء كأنها {تَفِيضُ} بأنفسها، وهو بيان لرقة قلوبهم، وشدة خشيتهم، ومسارعتهم إلى قبول الحق، وعدم تأبيهم عنه. انتهى. بيضاوي. هذا؛ وفي الشهاب: فوضع الفيض موضع الامتلاء للمبالغة، وجعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها، يعني أن الفيض مجاز الامتلاء بعلاقة المبالغة، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها، يعني أن الفيض موضع الامتلاء بعلاقة السببية، فإن الثاني سبب للأول، فالمجاز في المسند، و {الدَّمْعِ} هو ذلك الماء، أو الفيض على حقيقته، والتجوز في إسناده إلى العين للمبالغة كجري النهر. انتهى. جمل بتصرف كبير. {مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} أي: إن فيض {الدَّمْعِ} المذكور، إنما كان بسبب معرفتهم الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، هذا؛ وقد قيل: إن {مِنَ} الثانية للتبعيض، أي إنهم عرفوا بعض الحق، فكيف إذا عرفوا كله، وقرءوا القرآن، وأحاطوا بالسنة. {يَقُولُونَ:}

ص: 192

انظر القول في الآية رقم [2/ 26]. {رَبَّنا:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] والآية رقم [22](الأعراف) تجد ما يسرك. {فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ} أي: من الذين شهدوا بأن ما أنزل على محمد حق، أو اجعلنا من أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة. وقالوا ذلك؛ لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.

تنبيه: الآية الكريمة، وما قبلها، وما بعدها تتحدث هذه الآيات عن النجاشي، وأصحابه حين قال لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة، والمشركون الذين ذهبوا في طلبهم ليردوهم إلى مكة، وكان قد أحضر الرهبان، والقسيسين: هل في كتابكم ذكر مريم، وعيسى، قال جعفر: نعم، فيه سورة تنسب إلى مريم، قال: اقرأها، فقرأها إلى قوله تعالى:{ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ..} . إلخ وقرأ سورة (طه) إلى قوله تعالى: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى} فبكى النجاشي، وقومه الحاضرون، وقال: إن هذا؛ والذي أنزل على عيسى من مشكاة واحدة. وفي رواية: أخذ النجاشي عودا من الأرض، وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود. فكره المشركون قوله، وتغيرت وجوههم. وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم سبعون رجلا حين قرأ عليهم سورة (يس) فبكوا، وأسلموا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى.

الإعراب: {وَإِذا:} انظر الآية رقم [61]{ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع نائب الفاعل إليها، وجملة:{سَمِعُوا..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {تَرى:} انظر إعرابه في الآية رقم [83] وجملة: {تَفِيضُ} في محل نصب حال من: {أَعْيُنَهُمْ} لأن {تَرى} هنا بصرية. {مِنَ الدَّمْعِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: مملوءة {مِنَ الدَّمْعِ} . {مِمّا:}

متعلقان بالفعل {تَفِيضُ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، وجملة:{عَرَفُوا} صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:{عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، وجملة:{تَرى..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها معطوف على خبر (أنّ) في الآية السابقة، وهو {لا يَسْتَكْبِرُونَ} فصار الكلام من مدخول (أنّ). وقيل:

يجوز أن يكون مستأنفا في اللفظ، وإن كان له تعلق بما قبله في المعنى، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة في: {عَرَفُوا،} والرابط الضمير فقط، والجملة الندائية:

{رَبَّنا} والفعلية: {آمَنّا} مع المتعلق المحذوف في محل نصب مقول القول. {فَاكْتُبْنا:}

الفاء: هي الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط محذوف، وانظر الآية رقم [4]. (اكتبنا): فعل، ومفعول به، وانظر إعراب {حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [3]. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله،

ص: 193

وهو مضاف، و {الشّاهِدِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، وجملة (اكتبنا

) إلخ لا محل لها لأنها جواب للشرط المحذوف، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا {فَاكْتُبْنا..} . إلخ، والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول، تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل وأكرم.

{وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصّالِحِينَ (84)}

الشرح أي: شيء يمنعنا من الإيمان بالله ورسوله، والذي ظهر لنا من صدقه؟! أي: فنحن جديرون بذلك. فهو استفهام إنكار، واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام دليله وموجبه، وهو الطمع في إنعام الله عليهم، بصحبة:{الصّالِحِينَ:} الأبرار. وقيل: لما رجعوا إلى قومهم؛ لاموهم على إيمانهم، فأجابوهم بذلك. {بِاللهِ:} انظر الاستعاذة. (جاء): انظر الآية رقم [16]. {الْحَقِّ} انظر الآية رقم [30]. {وَنَطْمَعُ:} الطمع: نزوع النفس إلى الشيء، والحرص على حصوله. وهو مذموم إن كان في أمور الدنيا، وصارفا عن الآخرة. {رَبُّنا:} انظر سورة الفاتحة رقم [1] أو الآية رقم [2](الأعراف). {الْقَوْمِ:} انظر الآية رقم [22].

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَنا:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {لا:} نافية. {نُؤْمِنُ:} مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر فيه، تقديره:«نحن» . {بِاللهِ} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال (ما): لما فيها من معنى الفعل، والجملة الاسمية:{وَما لَنا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، وهي مبنية على السكون في محل جر معطوفة على لفظ الجلالة. وذكر أبو البقاء أوجها لا وجه لها. وجملة:{جاءَنا} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {مِنَ الْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل العائد إلى (ما)، ومن بيان لما أبهم فيها، والمصدر المؤول من {أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا} في محل نصب بنزع الخافض، أو هو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:{وَنَطْمَعُ} في إدخال ربّنا لنا. وجملة: (نطمع

) إلخ معطوفة على جملة: {لا نُؤْمِنُ..} . إلخ فهي في محل نصب حال مثلها، وجوز اعتبارها خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: ونحن نطمع

إلخ، والجملة الاسمية على هذا في محل نصب حال من فاعل:{نُؤْمِنُ} المستتر، فهي حال متداخلة. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل: {يُدْخِلَنا،} ومع مضاف، و {الْقَوْمِ:} مضاف إليه. {الصّالِحِينَ:} صفة: {الْقَوْمِ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

ص: 194

{فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}

الشرح: {فَأَثابَهُمُ اللهُ..} . إلخ: فجزاهم. {اللهُ} بقولهم المذكور فيما تقدم. {جَنّاتٍ..} .

إلخ، وإنما منحهم الله ذلك بمجرد القول؛ لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا.

وهو المعرفة، والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص، واستكانة القلب؛ لأن القول إذا اقترن بالمعرفة؛ فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {قالُوا:} انظر القول في الآية رقم [26](البقرة). {جَنّاتٍ:} جمع جنة، وهي البستان من النخل، والشجر الكثير المتكاثف الذي يجن، أي: يستر ما يكون متداخلا فيه، وسميت دار الثواب جنة؛ لما فيها من النعيم الذي لا ينفد. وجمع الجنة على:{جَنّاتٍ} يدل على {جَنّاتٍ} كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان. {مِنْ تَحْتِهَا} أي: من تحت قصورها، وأشجارها.

{الْأَنْهارُ:} جمع نهر، وهو معروف في الدنيا، ولكن شتان ما بين (أنهار) الجنة و (أنهار) الدنيا، هذا؛ ويجمع النهر على: أنهر، ونهر، ونهور، وهاء النهر تسكن، وتفتح. {خالِدِينَ فِيها:} مقيمين أبدا، لا يموتون، ولا يخرجون. {وَذلِكَ:} إشارة إلى ال {جَزاءُ} والثواب المذكور.

{الْمُحْسِنِينَ:} الذين أحسنوا النظر، والقول، والعمل، أو الذين اعتادوا الإحسان في جميع الأمور. وانظر الآية رقم [14] وانظر (يجزون) في الآية [120] من سورة (الأنعام).

الإعراب: (أثابهم): ماض، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصوفة، والموصولة، والمصدرية، وجملة:{قالُوا} صفة (ما)، أو صلتها على الاعتبارين الأولين، والرابط أو العائد محذوف، التقدير: الذي، أو شيء، قالوه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بقولهم.

{جَنّاتٍ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم.

وجملة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} في محل نصب صفة: {جَنّاتٍ} . {خالِدِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ.. {فِيها:} متعلقان ب {خالِدِينَ،} والجملة الفعلية: (أثابهم

) إلخ مستأنفة، لا محل لها. (ذلك): مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {جَزاءُ:} خبر المبتدأ مرفوع، وهو مضاف، و {الْمُحْسِنِينَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية: (ذلك

) إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)}

الشرح: {كَفَرُوا:} انظر الآية رقم [39]. {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا:} (كذبوا بآيات) الله التي أنزلها على نبيه، فقد عطف سبحانه التكذيب بآياته على الكفر، وهو ضرب منه؛ لأن القصد بيان حال

ص: 195

المكذبين، وذكرهم في معرض المصادقين بها جمعا يبن الترغيب والترهيب. {أَصْحابُ:} انظر الآية رقم [32]{الْجَحِيمِ:} انظر الآية رقم [145](النساء)، وانظر (نا) في الآية رقم [35].

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، وجملة:{وَكَذَّبُوا بِآياتِنا} معطوفة عليها. {أُولئِكَ:}

اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَصْحابُ:}

خبر المبتدأ، و {أَصْحابُ:} مضاف، و {الْجَحِيمِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} .

إلخ في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}

الشرح: {آمَنُوا:} انظر الإيمان في الآية رقم [2/ 3]. {لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} أي: لا تمنعوا أنفسكم من مستلذات الحياة الدنيا؛ التي أحلها الله لكم. {وَلا تَعْتَدُوا:}

لا تجاوزوا الحد الذي حده الله في التحليل، والتحريم. {لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: يسخط عليهم، ويمقتهم. وانظر المحبة في الآية رقم [57]. هذا؛ وانظر الحرام في الآية رقم [5].

تنبيه: روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف القيامة لأصحابه يوما، وبالغ في إنذارهم، فرقوا، واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون، رضي الله عنهم أجمعين، واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين، وأن لا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، والودك، ولا يقربوا النساء، والطيب، ويرفضوا الدنيا، ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض، ويجبوا مذاكيرهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: إني لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقّا، فصوموا، وأفطروا، وقوموا، وناموا، فإني أقوم، وأنام، وأصوم، وأفطر، وآكل اللحم، والدسم، وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني، ونزلت الآية الكريمة تؤيد رأيه، وآية (الأعراف) رقم [31] تؤيده أيضا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا:} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [1] و [54]. {طَيِّباتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {طَيِّباتِ:} مضاف، و {ما:} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير {أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} (لا): ناهية جازمة. {تَعْتَدُوا:} مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة:{لا تُحَرِّمُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} انظر إعراب مثلها في الآيتين رقم [14] و [54]. وهي تعليل للنهي، لا محل لها.

ص: 196

{وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاِتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}

الشرح: {وَكُلُوا مِمّا..} . إلخ: أي: كلوا من رزق الله ما لذ، وطاب إذا كان من كسب حلال؛ لأن الحرام لا يكون طيبا؛ ولو كان من أفخر أنواع الطعام؛ لأن فيه سوء العاقبة في الدنيا، والآخرة. {وَاتَّقُوا:} انظر الآية رقم [38]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة، وجملة:{وَاتَّقُوا اللهَ} فيها توكيد للأمر بما تقدم، وزاد توكيدا بقوله:{الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} لأن الإيمان بالله من مقتضياته أن يوجب التقوى فيما أمر به، ونهى عنه.

الإعراب: (كلوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [1]. {مِمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من {حَلالاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا. و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني؛ إذ التقدير:(رزقكم الله إياه حلالا): فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو مفعول (كلوا). الثاني: كونه حالا من الضمير المحذوف المقدر، الثالث كونه صفة لمصدر محذوف، التقدير:(أكلا حلالا)، وجملة: (كلوا

) إلخ معطوفة على جملة: {لا تُحَرِّمُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها، وجملة:{وَاتَّقُوا اللهَ} معطوفة عليها أيضا.

{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة لفظ الجلالة. {أَنْتُمْ:} ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِهِ:} متعلقان بما بعدهما. {مُؤْمِنُونَ:}

خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{أَنْتُمْ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والعائد هو الضمير المجرور محلاّ بالباء.

{لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاِحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}

الشرح: {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {بِاللَّغْوِ} من الكلام: هو الساقط الذي لا يعتد به، ولغو اليمين: هو ما لا عقد معه، كما إذا سبق به اللسان، أو تكلم به جاهلا لمعناه، كقولك: لا والله، وإي والله، وبلى والله لمجرد التوكيد لقولك، فهذا لا إثم فيه، ولا كفارة. وهذا قول الشافعي،

ص: 197

رحمه الله تعالى. وقيل: الحلف على ما يظن: أنه كذلك، ولم يكن. وإليه ذهب أبو حنيفة، رحمه الله تعالى. {أَيْمانِكُمْ:} جمع يمين، والمراد به الحلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو باسم من أسمائه. واليمين أيضا: اليد اليمنى، وتجمع أيضا على (أيمان)، كما في قوله تعالى:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} وهو كثير في القرآن الكريم، وانظره بكسر الهمزة في الآية رقم [69]. {عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ:} تعمدتم، وقصدتم به اليمين، وتعقيد {الْأَيْمانَ:} توثيقها، قال الفرزدق:[الطويل]

ولست بمأخوذ بلغو تقوله

إذا لم تعمّد عاقدات العزائم

أي إذا لم توثق، وتعمد. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة البقرة رقم [224] بدل هذه الجملة:

{بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ومعناه: قصدت {قُلُوبُكُمْ} . {إِذا حَلَفْتُمْ} وإن كان كذبا، وبه ضياع حق، فهو اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار. وقرئ:«عقدتم» بتشديد القاف وتخفيفها، كما قرئ:«(عاقدتم)» . {فَكَفّارَتُهُ} أي: كفارة نكثه، أو فكفارة معقود {الْأَيْمانَ،} والكفارة:

الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة، أي: تسترها، أو تمحوها، وهو معنى:{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ} و {كَفّارَةُ} اليمين كما ترى في الآية الكريمة مخيرة ابتداء، ومرتبة انتهاء، وتفسير الأول أن الحانث في يمينه مخير في الكفارة بين:{إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ} {أَوْ كِسْوَتُهُمْ،} أو إعتاق عبد، أو عبدة، وقد ذكر سبحانه وتعالى: أن الإطعام يكون من الوسط، لا من الفاخر العالي، ولا من الوضيع الداني، ولكل زمان، ومكان حكمهما، فلذا فإن إعطاء مد قمح للمسكين في هذه الأيام لا يكون من وسط الإطعام، والطعام، وإذا أراد الحانث في يمينه تبرئة ذمته فما عليه إلا أن يعطي المساكين نقودا تكفي لغدائه، أو لعشائه وجبة واحدة من الوسط. وعند أبي حنيفة: وجبتين، أي: غداء، وعشاء. وعند الشافعي لا يكفي إطعام مسكين ولو في عشرة أيام خلافا لأبي حنيفة أيضا، ولو صنع في بيته طعاما من الوسط، ودعا عشرة مساكين إليه، وأشبعهم تبرأ ذمته، كما أن الكسوة تكون من الوسط، والكسوة ثوب يغطي العورة. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (قميص، وإزار، ورداء) وهي بكسر الكاف وقد تضم، وهل يعادل مد القمح في هذه الأيام شيئا من الكسوة، وأين هو من إعتاق الرقيق، بل وهل يعادل صيام يوم من الأيام، بل الثلاثة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أو إعتاق عبد مملوك، وشرط فيه الشافعي الإيمان، قياسا على كفارة القتل، فإن لم يجد المكلف أحد الأشياء الثلاثة المذكورة، أو لم يقدر على واحد منها لفقره يصوم ثلاثة أيام، يجوز عندنا تفريقها، وتتابعها، وشرط أبو حنيفة التتابع؛ لأنه قرئ في الشواذ من القراءات (ثلاثة أيام متتابعات). هذا؛ ولفظ (عشرة) هو على عكس المعدود في التذكير، والتأنيث إن كان مفردا. وعلى وفقه إن كان مركبا، تقول: عشرة رجال، وعشر نسوة، وخمسة عشر رجلا، وخمس عشرة امرأة. وشينه تسكن مع المؤنث، وهي لغة أهل الحجاز، وقد تكسر وهي لغة أهل نجد، وقرئ بهما، وبالفتح أيضا، وهي لغة ثالثة.

ص: 198

و {مَساكِينَ:} جمع مسكين، وهو عندنا أحسن حالا من الفقير، وعند الحنفية بالعكس. وانظر الآية رقم [61] (التوبة) تجد ما يسرك. {أَهْلِيكُمْ:} انظر الآية رقم [62]. {يَجِدْ:} انظر إعلاله في الآية رقم [52](النساء). (صيام): انظر الآية رقم [62]. {يَجِدْ:} انظر إعلاله في الآية رقم [2/ 48]{ذلِكَ:} إشارة إلى أنواع الكفارة المذكورة. {إِذا حَلَفْتُمْ} أي: وحنثتم. {وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ:} بأن تضنوا بها، ولا تبذلوها في كل أمر، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم، ولم يفت بها خير، انظر الآية رقم [2/ 224]. {يُبَيِّنُ:} يوضح. {آياتِهِ:} أحكامه، وتعاليم دينه. {تَشْكُرُونَ} أي: نعمة التعليم، أو جميع نعمه الواجب شكرها، وانظر الآية رقم [7].

الإعراب: {لا:} نافية. {يُؤاخِذُكُمُ:} مضارع، والكاف مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. {اللهُ:} فاعله. {بِاللَّغْوِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز تعليقهما ب:(اللغو) لأنه مصدر، كما جوز تعليقهما بمحذوف حال منه. وجملة:{لا يُؤاخِذُكُمُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {بِما:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير:(عقدتم الأيمان عليه) وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بتعقيدكم الأيمان، والجملة الفعلية:{وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فَكَفّارَتُهُ:} الفاء: هي الفصيحة. (كفارته): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، وهي عائدة على الحنث المفهوم من سياق الكلام، أو هي عائدة على العقد الدال عليه الفعل، وقيل غير ذلك. {إِطْعامُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {عَشَرَةِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {عَشَرَةِ:} مضاف، و {مَساكِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. {مِنْ أَوْسَطِ:} متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف، يقع مفعولا ثانيا للمصدر؛ إذ التقدير:{إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ} طعاما كائنا من {أَوْسَطِ} . و {أَوْسَطِ:} مضاف، و {ما:} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: تطعمونه. {أَهْلِيكُمْ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، والكاف: في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{فَكَفّارَتُهُ..} . إلخ في محل جزم جواب شرط محذوف، التقدير: إن حصل منكم حنث، أو إن سألتم عن كفارة الحنث؛ {فَكَفّارَتُهُ..} . إلخ.

{كِسْوَتُهُمْ:} معطوف على: {إِطْعامُ} والهاء: في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {تَحْرِيرُ:} معطوف عليه أيضا، وهو مضاف، و {رَقَبَةٍ:} مضاف إليه

ص: 199

من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. الفاء: حرف عطف. {فَمَنْ:} الفاء حرف عطف، أو استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَجِدْ:} مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وهو فعل الشرط، وفاعله يعود إلى (من)، ومفعوله محذوف. {فَصِيامُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (صيام): مبتدأ خبره محذوف، التقدير: فعليه (صيام)، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فكفارته (صيام)، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل: الجملتان وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها، و (صيام) مضاف، و {ثَلاثَةِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {ثَلاثَةِ:} مضاف، و {أَيّامٍ:} مضاف إليه.

{ذلِكَ:} مبتدأ. {كَفّارَةُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، و {كَفّارَةُ:}

مضاف، و {أَيْمانِكُمْ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِذا:} ظرف متعلق ب {كَفّارَةُ} مبني على السكون في محل نصب. {حَلَفْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها، وهناك جملة محذوفة معطوفة عليها، تقديرها: وحنثتم، وجملة:

{وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ} معطوفة على الجملة الاسمية لا محل لها مثلها، وهي مؤكدة لمضمون الكلام السابق. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله الفعل الذي بعده، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، التقدير: يبين الله لكم آياته تبيينا كائنا مثل ذلك التبيين. والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محل لها. {آياتِهِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة.

{لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل. والكاف اسمه، وجملة:{تَشْكُرُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبر: (لعل)، والجملة الاسمية:{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ تعليل للتبيين، لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)}

الشرح: {الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ:} انظر الآية رقم [2/ 218]{وَالْأَنْصابُ:} الأصنام التي نصبت للعبادة، وانظر الآية رقم [4]. {وَالْأَزْلامُ:} انظر الآية رقم [4]. {رِجْسٌ:} نجس، أو خبيث مستقذر، تعافه العقول السليمة، وإفراده لأنه خبر للخمر، وخبر المعطوفات محذوف، أو هو خبر لمضاف محذوف، كأنه قال: إنما تعاطي {الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} . إلخ. {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ:} لأنه مسبب عن تسويله، وتزيينه، فكأنه عمله، هذا؛ وانظر شرحه، واشتقاقه في الاستعاذة.

ص: 200

{فَاجْتَنِبُوهُ:} فابتعدوا عنه، والضمير يعود إلى: ال {رِجْسٌ،} أو لما ذكر، أو للتعاطي المقدر.

{تُفْلِحُونَ:} انظر الآية رقم [38] وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [7].

تنبيه: اعلم أن الله تعالى أكد تحريم {الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} في هذه الآية بأن صدّر الجملة بإنما، وقرنهما (بالأصنام)، و {وَالْأَزْلامُ} وسماهما:(رجسا)، وجعلهما {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ،} تنبيها على أن الاشتغال بهما شرّ بحت، أو غالب، وأمر بالاجتناب عن عينهما، وجعله سببا يرجى منه الفلاح، ثم قرر ذلك بأن بين ما فيهما من المفاسد الدينية، والدنيوية المقتضية للتحريم في الآية التالية. انتهى بيضاوي.

هذا؛ وأقول: لقد خاب الفسقة، والفجرة الذين يقولون: إن الله لم يحرم الخمر تحريما قاطعا؛ لأنه لم يذكر مادة «حرم» في تحريمها. ألا يكفيهم خزيا: أن الله قرنها بعبادة الأوثان في الآية الكريمة، وطلب الابتعاد عنهما معا، وأ لا يكفيهم خيبة أن اختار للزجر عنها صيغة تحريم الشرك، والأوثان، وتحريم شهادة الزور، وذلك في قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} . فاعتبروا يا أولي الأبصار.

تنبيه: لما نزلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا..} . إلخ وقوله تعالى: {وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ..} .

إلخ، وكانت {الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} مما يستطاب عندهم؛ بيّن الله تعالى في هذه الآية: أنهما غير داخلين في جملة الطيبات، أي: الحلالات، بل هما من جملة المحرمات. انتهى. خازن. وجمل.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية رقم [1] ففيه الكفاية. {إِنَّمَا:} كافة ومكفوفة.

{الْخَمْرُ:} مبتدأ، وما بعده معطوف عليه. {رِجْسٌ:} خبر المبتدأ، وانظر ما ذكرته في الشرح. {مِنْ عَمَلِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {رِجْسٌ،} و {عَمَلِ} مضاف، و {الشَّيْطانِ:} مضاف إليه. الفاء:

هي الفصيحة. (اجتنبوه): فعل، وفاعل، ومفعول به، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [1] والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر بإذا؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا {فَاجْتَنِبُوهُ،} والشرط المقدر، ومدخوله معطوف على ما قبله لا محل له مثله {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية السابقة، وهي مفيدة للتعليل، لا محل لها.

{إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}

الشرح: {يُرِيدُ:} انظر الآية رقم [44] و [20]{الشَّيْطانُ:} انظر الاستعاذة. في {الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ:} وإنما خصهما بإعادة الذكر، وشرح ما فيهما من الوبال تنبيها على أنهما المقصود بالبيان، وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة، والشرارة لقوله عليه

ص: 201

الصلاة والسّلام: «شارب الخمر كعابد الوثن» وخص ربنا-جل علاه-الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم، والإشعار بأن الصادّ عنها كالصاد عن الإيمان، من حيث إنها عماده، والفارق بينه وبين الكفر. وانظر:{وَيَصُدَّكُمْ} في الآية رقم [99](آل عمران) وانظر: {الصَّلاةِ} في الآية رقم [103](النساء). {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ:} معنى هذه الجملة: (انتهوا). فقد خرج الاستفهام من معناه الأصلي. إلى الأمر.

تنبيه: هذه الآية الكريمة من الآيات التي وافقت رأي عمر، رضي الله عنه. وانظر الآية رقم [2/ 98] و [2/ 125] و [2/ 218] ففيها الكفاية، وأيضا انظر الآية رقم [4/ 60] ورقم [85] من سورة (التوبة).

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {يُرِيدُ الشَّيْطانُ:} فعل وفاعل، والمصدر المؤول من:

{أَنْ يُوقِعَ} في محل نصب مفعول به. {بَيْنَكُمُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، الكاف في محل جر بالإضافة. {الْعَداوَةَ:} مفعول به. {وَالْبَغْضاءَ:} معطوف على ما قبله. {فِي الْخَمْرِ:}

متعلقان بالفعل: {يُوقِعَ،} أو هما متعلقان ب {الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ} . {وَيَصُدَّكُمْ:} معطوف على {يُوقِعَ} منصوب مثله، والفاعل يعود إلى:{الشَّيْطانُ} أيضا، والكاف مفعول به. {عَنْ ذِكْرِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وذكر مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَعَنِ الصَّلاةِ:} معطوفان على ما قبلهما. {فَهَلْ:} الفاء: هي الفصيحة. (هل): حرف استفهام. {أَنْتُمْ:} ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُنْتَهُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر. التقدير، وإذا كان ما ذكر حاصلا {فَهَلْ أَنْتُمْ..} . إلخ، والتقدير:

فانتهوا كما رأيت في الشرح، وإن اعتبرتها مستأنفة فلا شرط مقدر، والمعنى يؤيده، بل ويقويه.

{وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاِحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)}

الشرح: {وَأَطِيعُوا اللهَ:} طاعته سبحانه تكون باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وكذلك تكون طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأفادت الآية الكريمة: أن طاعة الرسول مقرونة بطاعته سبحانه، كيف لا؟ والله يقول:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ} . انظر الآية رقم [80](النساء) وما ذكرته تبعا لها، والآية رقم [9/ 12]. {وَاحْذَرُوا:} كونوا حذرين خاشعين؛ لأنهم إذا حذروا؛ دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة، وعمل كل حسنة. هذا؛ والحذر في الأصل: التحرز من الوقوع في الشر. وهو أيضا الخوف. {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ:} أعرضتم عن طاعة الله ورسوله. {فَاعْلَمُوا..} . إلخ أي: فأيقنوا أنكم لم تضروا بإعراضكم هذا إلا أنفسكم؛ لأن {الرَّسُولَ} لم يكلف إلا تبليغكم ما أنزل إليه من

ص: 202

ربه، وإعراضكم لا يضره شيئا. {اللهَ:} انظر الاستعاذة. {الرَّسُولَ:} انظر الآية رقم [84].

{الْمُبِينُ:} الواضح، وانظر إعلاله في الآية رقم [17]. وانظر (نا) في الآية رقم [14].

الإعراب: (أطيعوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [1]. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على معنى الجملة الاسمية:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} لا محل لها مثلها، وجملة:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} معطوفة عليها، وكذلك جملة:(احذروا). {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّيْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَاعْلَمُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، وإعراب:(اعلموا) مثل إعراب: (أطيعوا){عَلى رَسُولِنَا:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (نا): في محل جر بالإضافة. {الْبَلاغُ:} مبتدأ مؤخر. {الْمُبِينُ:} صفته، والجملة الاسمية:{أَنَّما..} . إلخ في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل: (اعلموا)، وجملة (اعلموا

) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب.

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اِتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}

الشرح: {آمَنُوا} أي: آمنوا بالله، ورسوله، وبوجود الملائكة، واليوم الآخر، وما فيه، والقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى. هذا؛ والإيمان الصحيح هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان. وانظر زيادة الإيمان ونقصه في الآية رقم [2] (الأنفال) تجد ما يسرك. {وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ:} على اختلاف أنواعها، ومراتبها، ودرجاتها، {جُناحٌ:} إثم ومؤاخذة. {طَعِمُوا} أي: شربوا الخمر، وأكلوا من القمار، قبل تحريمهما. {اِتَّقَوْا:} انظر الآية رقم [38]. {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ:} انظر الآية رقم [57] وأيضا رقم [14].

تنبيه: لما نزل تحريم الخمر، والميسر؛ قالت الصحابة: يا رسول الله، فكيف بإخواننا الذين ماتوا؛ وهم يشربون الخمر، ويأكلون مال الميسر؟! فنزلت الآية الكريمة، وهي تنفي الإثم عمن شرب، وأكل قبل التحريم. هذا؛ وتكرار:{اِتَّقَوْا} لا عيب فيه؛ لأن كل لفظ مع ما بعده يفيد معنى غير المعنى الأول، فمعنى الأول: اتقوا المحرم، واثبتوا على الأعمال {الصّالِحاتِ} .

ومعنى الثاني: اتقوا ما حرم عليهم بعد كالخمر، والميسر، وآمنوا بتحريمه. ومعنى الثالث:

استمروا، واثبتوا على اتقاء المعاصي، {وَأَحْسَنُوا،} وتحروا الأعمال الجميلة، واشتغلوا بها.

ص: 203

تنبيه: أطلق سبحانه لفظ: {طَعِمُوا} على شرب الخمر، وأكل القمار، وهو يؤول بتناولوا من الخمر شربا، وتناولوا من الميسر أخذ المال. كما لنا كلام في تأويل قوله تعالى في سورة (الحشر):{تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ} . هذا؛ وقد قال ابن قتيبة: يقال: لم أطعم خبزا، ولا ماء، ولا نوما، قال الشاعر:[الطويل]

فإن شئت حرمت النساء سواكمو

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

النقاخ: الماء، والبرد: النوم. {وَاللهُ:} انظر الاستعاذة.

الإعراب: {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {عَلَى الَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: {لَيْسَ} تقدم على اسمها، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، والعائد: واو الجماعة، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [1] و {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم. {جُناحٌ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر. {فِيما:} جار ومجرور متعلقان ب {جُناحٌ،} أو بمحذوف صفه له، و {مَا} تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر، وجملة:{طَعِمُوا} صلة: {مَا،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: طعموه. {إِذا:} ظرف زمان مجرد من الشرطية، مبني على السكون في محل نصب متعلق بما يفهم من الجملة السابقة؛ إذ المعنى:

لا يأثمون، ولا يؤاخذون وقت اتقائهم، هذا؛ وإن اعتبرت:{إِذا} متضمنة معنى الشرط، فيكون الفعل بعدها شرطها، وجوابها محذوفا لتقدم ما يدل عليه. {مَا:} صلة. وجملة: {اِتَّقَوْا} مع المفعول المحذوف في محل جر بإضافة: {إِذا} إليها، وانظر الإعراب في الآية رقم [68] وجملة:

{وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة عليها فهي في محل جر مثلها، وكذلك الجمل {اِتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} مع المفعول المحذوف أو المتعلق المحذوف كلها معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها.

{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [14] والجملة الاسمية مستأنفة مؤكدة لمضمون الكلام السابق، واعتبارها حالا من واو الجماعة لا يأباه المعنى، ويكون الرابط الواو فقط.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)}

الشرح: {آمَنُوا:} انظر الآية السابقة. {لَيَبْلُوَنَّكُمُ:} ليختبرنكم بما نزل بكم. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {بِشَيْءٍ:} انظر الآية رقم [19]. {تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ:} تأخذونه ب {أَيْدِيكُمْ،} وتطعنونه ب {وَرِماحُكُمْ،} فالذي يؤخذ باليد الفرخ، وبيض الطيور، والذي يطعن بالرماح كبار الصيد، مثل بقر الوحش، ونحوه. وانظر الآية رقم [12] لشرح اليد. {لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ:}

ليتميز الخائف من عقابه؛ وهو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه، وقوة إيمانه.

ص: 204

فذكر العلم، وأراد وقوع المعلوم، وظهوره. وانظر مثله في الآية رقم [3/ 167] {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ:} تجاوز حدود الله تعالى بأن صاد بعد ذلك الابتلاء، والاختبار. {عَذابٌ أَلِيمٌ:} هذا؛ وعيد؛ لأن من لا يملك نفسه في مثل ذلك، ولا يراعي حكم الله فيه، وهو شيء هين فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه، وأحرص عليه؟! وانظر الآية رقم [39] لشرح {عَذابٌ} .

تنبيه: نزلت الآية الكريمة عام الحديبية، وكان المسلمون محرمين بالعمرة التي منعوا من أدائها في عامها، فابتلاهم الله بالصيد، فكانت الوحوش، والطيور تغشى رحالهم من كثرتها، فهموا بأخذها، وصيدها، فأنزل الله الآية، وإنما قال:{بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} ليعلم: أنه ليس بفتنة من الفتن العظام، التي تزل عندها أقدام الثابتين، ويكون التكليف فيها صعبا، وشاقّا، كالابتلاء ببذل الأموال، والأرواح، وإنما هو ابتلاء سهل، كما ابتلى أصحاب السبت بصيد السمك فيه، لكن الله جلت قدرته بفضله، وكرمه، وجوده، وإحسانه عصم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يصطادوا شيئا في حالة الابتداء، ولم يعصم أصحاب السبت، فمسخوا قردة، وخنازير. انتهى خازن بتصرف وانظر الآية رقم [65](البقرة).

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]{لَيَبْلُوَنَّكُمُ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (يبلونكم): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، الكاف: مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف لا محل لها، والقسم، والجواب كلام لا محل له؛ لأنه وقع بعد النداء. {بِشَيْءٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الصَّيْدِ:} متعلقان بمحذوف صفة: (شيء). {تَنالُهُ:} مضارع، ومفعوله. {أَيْدِيكُمْ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والكاف في محل جر بالإضافة. (رماحكم): معطوف على ما قبله

إلخ، والجملة الفعلية:{تَنالُهُ..} . إلخ في محل رفع صفة ثانية ل: (شيء)، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، أو في محل نصب حال من:{الصَّيْدِ} . {لِيَعْلَمَ} اللام:

لام التعليل، و (يعلم): مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل. {اللهُ:} فاعله. {مِنَ:}

مفعوله، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، وجملة:{يَخافُهُ} صلة: {مِنَ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(يبلونكم){بِالْغَيْبِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أو من الضمير المتصل الواقع مفعولا به. الفاء: حرف استئناف. {مِنَ:}

اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِعْتَدى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{مِنَ} . {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام: للبعد، والكاف: حرف خطاب لا محل له. {فَلَهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(له): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفته، والجملة الاسمية

ص: 205

في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [47] هذا؛ وإن اعتبرت {مِنَ} اسما موصولا، فتكون الجملة الفعلية {اِعْتَدى..} . إلخ صلته، والجملة الاسمية:{فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ} خبره. ودخلت الفاء في الخبر لشبه الموصول بالشرط في العموم، والجملة على الوجهين اسمية مستأنفة لا محل لها، وهي متضمنة للوعيد، كما رأيت في الشرح.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ (95)}

الشرح: {آمَنُوا:} انظر الإيمان في الآية رقم [95]{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ:} {وَأَنْتُمْ} محرمون بحج أو عمرة. أو: {وَأَنْتُمْ} في أرض الحرم. وحرم جمع حرام، مثل: ردح في جمع رداح. وذكر القتل يشمل الذبح، وغيره، وأراد بالصيد ما يؤكل لحمه من الوحش، والطير، وغير ذلك، دون الذي لا يؤكل لحمه. وهذا عند الشافعي، وأما أبو حنيفة فمأكول اللحم، وغيره عنده سواء، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم:«خمس يقتلن في الحل، والحرم: الحدأة، والغراب، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» . وفي رواية: الحية بدل العقرب. متفق عليه، ورواه ابن عمر، وما يشبهه عن عائشة، رضي الله عنهم أجمعين. {مُتَعَمِّداً} أي: ذاكرا لإحرامه، عالما بأنه حرام، والمعتمد أن فيه الجزاء سواء قتله متعمدا، أو غير متعمد، لكن لا إثم على غير المتعمد، بل عليه الضمان فقط. {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي: شبه ما قتله، واختلفوا في هذه المماثلة، والمشابهة، فعند الشافعي، ومالك المراد: مثله في الهيئة، والخلقة. ووافقهما محمد من الحنفية، وعند أبي حنيفة المراد: المماثلة، في القيمة، يقوّم المصيد حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي؛ خيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشتري بقيمته طعاما، فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوما، وإن لم تبلغ قيمته ما ذكر؛ تخير بين الإطعام، والصوم، وعند الأولين هو مخير بين ذبح المثل وبين التصديق بقيمته طعاما، لكل مسكين مد، وبين الصيام يصوم عن كل مد يوما. وقد وضح الله هذا بما يأتي. هذا؛ والنعم يطلق على الحيوان المأكول الأهلي من بقر، وغنم، وما عز، وإبل، {يَحْكُمُ بِهِ:} بالمثل، أو بالقيمة على ما رأيت من الخلاف. {ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: صاحبا عدالة منكم، لهما فطنة، يميزان بها لشبه الأشياء به.

وقد حكم ابن عباس، وعمر، وعلي-رضي الله عنهم-في النعامة ببدنه، وابن عباس، وأبو عبيدة في بقر الوحش، وحماره ببقرة، وابن عمر، وابن عوف في الظبي بشاة، وحكم بها ابن

ص: 206

عباس، وعمر، وغيرهما في الحمام؛ لأنه يشبهها في اللعب، هذا؛ و {ذَوا} مفرده: ذو، وجمعه:

ذوون، وقد رأيت في الآية رقم [178] البقرة: أنه يجمع على: {أُولِي} وهو من غير لفظه. {هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} أي: إن ما يذبح بدلا من الصيد، هو بمنزلة الهدية للحرم، ومعنى بلوغه الكعبة: ذبحه في الحرم، والتصدق به فيه، وقال أبو حنيفة يذبح في الحرم، ويتصدق به حيث شاء.

هذا؛ وسميت {الْكَعْبَةِ} كعبة لارتفاعها، والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة، وقيل سميت لتربيعها، والأولى أن تقول: سميت لارتفاع قدرها، وسمو مكانتها. {عَدْلُ ذلِكَ:} يقرأ بفتح العين، وكسرها. قال الفراء: العدل ما عادل الشيء من غير جنسه كالصوم، والإطعام، والعدل مثله من جنسه، ومنه: عدلا الحمل، يقال: عندي غلام عدل غلامك بالكسر إذا كان من جنسه، فإن أريد أن قيمته كقيمته، ولم يكن من جنسه، قيل: هو عدل غلامك بالفتح، وانظر الآية رقم [135] (النساء). {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ:} ليتحمل ثقل جزاء فعله الذي فعله، وهو هتكه لحرمة الإحرام، والوبال المكروه، والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى:

{فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي: ثقيلا شديدا، والطعام الوبيل هو الذي يثقل على المعدة، فلا يستمرأ.

{عَفَا اللهُ عَمّا سَلَفَ:} من قتل الصيد قبل التحريم. وانظر: {عَفَا} في الآية رقم [52] البقرة تجد ما يسرك. {وَمَنْ عادَ:} إلى قتل الصيد بعد التحريم. {فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} أي: في الآخرة. وهذا الوعيد لا يمنع إيجاب الجزاء في المرة الثانية، والثالثة. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {عَزِيزٌ:} قوي لا يغلبه شيء. {ذُو انْتِقامٍ:} صاحب انتقام: والانتقام المبالغة في العقوبة، والأخذ الشديد بالثأر.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. {لا:} ناهية. {تَقْتُلُوا:} مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف النون، الواو: فاعله. {الصَّيْدَ:} مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها كالجملة الندائية قبلها، والجملة الاسمية:{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {وَمَنْ قَتَلَهُ:} انظر: {فَمَنِ اعْتَدى} في الآية السابقة. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: كائنا منكم. {مُتَعَمِّداً:} حال أخرى من الفاعل المستتر. {فَجَزاءٌ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (جزاء): مبتدأ خبره محذوف، التقدير: فعليه جزاء، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالواجب جزاء. {مِثْلُ:} صفة: (جزاء) أو بدل منه، ويقرأ بالنصب على أنه مفعول ل:(جزاء)، أو هو مفعول به لفعل محذوف، التقدير: يخرج، أو يؤدي مثل. ويقرأ بإضافة (جزاء) إلى:{مِثْلُ،} وهي في الحقيقة إلى: {ما} فتكون {مِثْلُ} مقحمة بين المتضايفين، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة. وجملة:{قَتَلَ} صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:(قتله). {مِنَ النَّعَمِ:} متعلقان ب (جزاء) على الاعتبار الأخير في إعرابه، أو هو صفة له على اعتبار {مِثْلُ} صفة له، أو بدل منه؛ لأنه مصدر، وما يتعلق به من صلته، والفصل بين الصلة والموصول بالصفة، أو البدل غير جائز؛ لأن الموصول لم يتم، فلا يوصف، ولا يبدل منه. وجوز تعليقهما بمحذوف حال من الضمير المستتر في:{قَتَلَ} . {بِهِ:} متعلقان

ص: 207

بالفعل قبلهما. {ذَوا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، و {ذَوا:} مضاف، و {عَدْلٍ:} مضاف إليه. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة: {ذَوا،} والإضافة لم تفده تعريفا، وجملة:{يَحْكُمُ..} . إلخ في موضع رفع صفة: (جزاء) على تنوينه، وفي موضع نصب حال منه على إضافته لما بعده. {هَدْياً:} حال من الضمير المجرور في: {بِهِ} وقيل: هو مفعول لفعل محذوف، أي يهديه {هَدْياً،} وقيل: تمييز، وقيل: هو بدل من {مِثْلُ} على محله، أو لفظه فيمن نصبه. والأول أولى، وأحق {بالِغَ:} صفة: {هَدْياً،} وهو مضاف، و {الْكَعْبَةِ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، فهي في نية الانفصال لا تفيد تعريفا، فلذا جازت الصفة، وفي:{بالِغَ} ضمير مستتر تقديره: هو. {كَفّارَةٌ:} معطوف على: (جزاء). {طَعامُ:} بدل منه، أو خبر لمبتدإ محذوف، أي هي {طَعامُ} وقرئ بإضافة {كَفّارَةٌ} ل {طَعامُ}. و {طَعامُ:} مضاف، و {مَساكِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. {عَدْلٍ:} معطوف على:

(جزاء)، وهو مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام:

للبعد، والكاف: حرف خطاب لا محل له. {لِيَذُوقَ} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (من)، وأن المضمرة، والفعل في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف، التقدير: فعليه الجزاء، أو الطعام، أو الصوم لإذاقته، {وَبالَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أَمْرِهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{فَجَزاءٌ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وانظر {فَمَنِ اعْتَدى..} . إلخ في الآية السابقة، والجملة الاسمية:{وَمَنْ قَتَلَهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها، والجملة الفعلية:{عَفَا اللهُ عَمّا سَلَفَ} مستأنفة لا محل لها. {وَمَنْ عادَ} هو مثل: {فَمَنِ اعْتَدى} في الآية السابقة. الفاء: واقعة في جواب الشرط، وجملة:{فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:(فهو ينتقم الله منه) والجملة الاسمية هذه في محل جزم جواب الشرط، وانظر الآية السابقة. {وَاللهُ عَزِيزٌ:} مبتدأ، وخبر. {ذُو:} خبر ثان مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو:} مضاف، و {اِنْتِقامٍ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاِتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}

الشرح: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} أي: ما صيد منه مما لا يعيش إلا في الماء على أية صورة كانت، وهو حلال لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر:«هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وقال أبو حنيفة

ص: 208

رحمه الله: لا يحل منه إلا السمك، وقيل: يحل السمك، وما يؤكل نظيره في البر. {وَطَعامُهُ} أي: ما قذفه {الْبَحْرِ،} أو جف عنه ماؤه، وقيل: الضمير للصيد، و (طعامه): أكله، والأول قول الشافعي، وهو أن ما قذفه {الْبَحْرِ} يؤكل ما لم يوجد منتنا، والمراد بالبحر جميع المياه العذبة، والمالحة، بحرا كان، أو نهرا، أو غديرا. {مَتاعاً:} تتمتعون به، وتتلذذون.

{وَلِلسَّيّارَةِ} أي: المسافرين يتزودون منه. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} أي: حرام عليكم أن تصيدوا شيئا من الطيور، والوحوش المأكولة ما دمتم محرمين بحج، أو عمرة. وأيضا يحرم على غير المحرم أن يصيد في أرض الحرم. وانظر:{حُرُماً} في الآية السابقة، والحرام في الآية رقم [5]. {وَاتَّقُوا:} انظر الآية رقم [38]. {اللهَ:} انظر الاستعاذة. {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: تجمعون، وتبعثون، فيجازيكم بأعمالكم.

تنبيه: ذكر الله تعالى تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة: أحدها في أولها، وهو قوله:{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . الثاني: في الآية السابقة. والثالث: في هذه الآية، وكل ذلك لتأكيد تحريم قتل الصيد على المحرم. انتهى. خازن.

الإعراب: {أُحِلَّ:} ماض مبني للمجهول. {لَكُمْ:} متعلقان به. {صَيْدُ:} نائب فاعله، وهو مضاف، و {الْبَحْرِ:} مضاف إليه. (طعامه): معطوف على: {صَيْدُ،} والهاء: في محل جر بالإضافة، وجملة:{أُحِلَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {مَتاعاً:} مفعول لأجله، وقيل مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: أي: متعكم بما ذكر تمتيعا. {لَكُمْ:} متعلقان ب: {مَتاعاً} .

{وَلِلسَّيّارَةِ:} معطوفان على ما قبلهما، وجملة:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وإعرابها واضح. {ما:} مصدرية ظرفية. {دُمْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {حُرُماً:} خبره، و {ما} والفعل في تأويل مصدر في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بالفعل:(حرّم). (اتقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} مفعول به. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {اللهَ} أو بدل منه. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل بعدهما. {تُحْشَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، وجملة:{وَاتَّقُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها فهي عطف إنشاء على خبر. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}

الشرح: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ:} صيرها، وانظر شرح:{الْكَعْبَةَ} في الآية رقم [98].

{الْبَيْتَ الْحَرامَ:} سمي بذلك؛ لأن الله حرمه، وعظمه، وشرفه، وحرم أن يصطاد صيده، وأن

ص: 209

يعضد شجره، وأن يختلى خلاه. وأراد ب {الْبَيْتَ الْحَرامَ} جميع الحرم، لما صح حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة، فقال:«إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمن عرفها، ولا يختلى خلاه» . {قِياماً لِلنّاسِ} أي: سببا لانتعاش الناس في أمر معاشهم، ومعادهم، يلوذ به الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويربح فيه التجار، ويتوجه إليه الحجاج، والعمار. و {قِياماً} أصله: قواما، فقد قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، وانظر الآية رقم [182] (البقرة) وانظر ما ذكرته في الآية رقم [5] (النساء). (الناس): انظر الآية رقم [35]. {وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [3]. {ذلِكَ:}

إشارة إلى المذكور. {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ..} . إلخ: فإن الله شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها، وجلب المنافع المترتبة عليها دليل قاطع على حكمة الشارع جل علاه، وكمال علمه. {شَيْءٍ:}

انظر الآية رقم [19]{عَلِيمٌ:} لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو صيغة مبالغة، وهو تعميم بعد تخصيص، وانظر شرح:{السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} في الآية رقم [1](الأنعام) فإنه جيد، هذا؛ وفي {ما} تغليب غير العاقل على العاقل.

الإعراب: {جَعَلَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {الْكَعْبَةَ:} مفعول به أول. {الْبَيْتَ:}

بدل، أو عطف بيان مما قبله. {الْحَرامَ:} صفة {الْبَيْتَ} . {قِياماً:} مفعول به ثان. {لِلنّاسِ:}

متعلقان ب {قِياماً،} أو بمحذوف صفة له. {وَالشَّهْرَ:} معطوف على: {الْكَعْبَةَ} . {الْحَرامَ:}

صفته. {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ:} معطوفان على {الْكَعْبَةَ} أيضا، فالمفعول الثاني، أو الحال على اعتبار:{جَعَلَ} بمعنى: خلق، محذوف لفهم المعنى. {ذلِكَ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير. والثاني: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي:

ذلك الحكم هو الحق لا غيره. والثالث: أنه منصوب بفعل مقدر يدل عليه السياق، أي: شرع الله ذلك. وهذا أقواها لتعلق لام العلة به. انتهى جمل نقلا من السمين. هذا؛ وقد قيل: إن {ذلِكَ} مبتدأ، وخبره:{لِتَعْلَمُوا،} أي: ذلك كائن {لِتَعْلَمُوا} . واللام: لام التعليل. (تعلموا): منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعله، والألف: للتفريق. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {يَعْلَمُ} مضارع فاعله يعود إلى:

{اللهُ} . {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة: {ما،} أو بمحذوف صفتها {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه، و {يَعْلَمُ} بمعنى: يعرف، فلذا اكتفى بمفعول واحد، وجملة:

{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر: {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي:(تعلموا) و «أن» المضمرة بعد لام التعليل، والفعل المضارع في تأويل

ص: 210

مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، أو بالفعل المحذوف الواقع خبرا له، أو بمضمون الجملة الاسمية على الوجهين الآخرين فيه، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمصدر المؤول من:{أَنَّ اللهَ..} .

إلخ معطوف على المصدر المؤول السابق فهو في محل نصب مثله، وأخيرا فالجملة الفعلية:

{جَعَلَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها أيضا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{اِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}

الشرح: في هذه الآية وعيد لمن انتهك محارم الله، وتعدى حدوده، ووعد لمن حافظ على أوامر الله ووقف على حدوده، فأحل ما أحل الله، وحرم ما حرم الله. وذكر الله في هذه الآية الوعيد، والوعد؛ ليكون المؤمن خائفا، وراجيا.

الإعراب: {اِعْلَمُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [1] والمصدر المؤول من {أَنَّ} واسمها، وخبرها في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل:{اِعْلَمُوا،} والمصدر المؤول الثاني معطوف عليه، فهو في محل نصب مثله، و {شَدِيدُ:} مضاف، و {الْعِقابِ:} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ الأصل شديد عقابه.

{ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)}

الشرح: {ما عَلَى الرَّسُولِ..} . إلخ: أي ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم إلا تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج. ففي الآية تشديد عظيم في إيجاب القيام بما أمر الله به، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ، وقامت الحجة عليكم بذلك، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط. انتهى خازن. وانظر الآية رقم [95] وانظر شرح الرسول في الآية رقم [84]. {تُبْدُونَ:} تظهرون. {تَكْتُمُونَ:} تخفون. والمعنى: لا يخفى عليه سبحانه شيء من أعمالكم، وأحوالكم ظاهرا، وباطنا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {ما:} نافية. {عَلَى الرَّسُولِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {إِلاَّ:} حرف حصر لا محل له. {الْبَلاغُ:} مبتدأ مؤخر. هذا؛ وإن اعتبرت {ما} حجازية؛ فالجار، والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و {الْبَلاغُ} اسمها مؤخر. وهذا ضعيف؛ لأن من شروط عمل «ما» عمل ليس أن لا ينتقض النفي ب:{إِلاَّ،} وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي مستأنفة لا محل لها. (الله): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى (الله). {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو

ص: 211

صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: تبدونه. وإن اعتبرت {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر، فيكون في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم إبداءكم، وكتمانكم. وهو ضعيف معنى كما ترى. وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{وَاللهُ يَعْلَمُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها {وَما تَكْتُمُونَ} مثل ما قبله في إعرابه.

{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}

الشرح: {قُلْ..} . إلخ: هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس، ويبين لهم. وانظر القول في الآية رقم [26] (البقرة). وقال البيضاوي: هذا حكم عام في نفي المساواة عند الله بين الرديء من الأشخاص، والأعمال، والأموال، وجيدها، رغب به في صالح العمل، وحلال المال.

انتهى. وقال النسفي: لما أخبر: أنه لا يستوي خبيثهم، وطيبهم، بل يميز بينهما، فيعاقب الخبيث؛ أي: الكافر، ويثيب الطيب؛ أي: المسلم. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ:} فإن العبرة بالرداءة، والجودة دون القلة، والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير. والخطاب لكل معتبر، ولذا قال:{فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ} هذا؛ والعجب بفتح العين والجيم: انفعال نفساني يعتري الإنسان عند استعظامه، أو استطرافه، أو إنكاره ما يرد عليه، ويشاهده.

وقال الراغب: العجب: حيرة تعرض للإنسان بسبب الشيء، وليس هو شيئا له في ذاته حالة حقيقية، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب، ومن لا يعرفه، وحقيقة أعجبني كذا:

ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه. انتهى جمل نقلا عن السمين. {فَاتَّقُوا:} انظر الآية رقم [38]{اللهَ:} انظر الاستعاذة. {يا أُولِي:} أصحاب. ولا واحد له من لفظه، وإنما واحده (ذي) المضاف إن كان مجرورا، و (ذا) المضاف إن كان منصوبا و (ذو) المضاف إن كان مرفوعا.

{الْأَلْبابِ:} العقول جمع: لب، وهو العقل الخالي من الهوى، سمي بذلك لأحد وجهين، إما لبنائه، من: لبّ بالمكان أقام به، وإما من اللباب، وهو الخالص من كل شيء. هذا؛ واللبيب:

العاقل الفاهم، والجمع ألباب، والأنثى لبيبة، وجمعها لبيبات، ولبائب، واللب: خالص من كل شيء. {تُفْلِحُونَ:} انظر الآية رقم [38].

تنبيه: روي: أن الآية الكريمة نزلت في حجاج اليمامة لما همّ المسلمون أن يوقعوا بهم، فنهوا عنه؛ وإن كانوا مشركين. انتهى بيضاوي. ولم يقل به أحد غيره، هذا؛ وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [7] فإنه جيد.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر تقديره:«أنت» . {لا:} نافية.

{يَسْتَوِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء. {الْخَبِيثُ:} فاعله.

ص: 212

{وَالطَّيِّبُ:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية:{لا يَسْتَوِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ} ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، التقدير: لا يستويان، {وَلَوْ:} ومدخولها في محل نصب حال من: {الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ،} وما نقله الجمل عن أبي السعود من أن (لو) ومدخولها معطوف على مثلها محذوفة مقدرة، أي: لو لم يعجبك {كَثْرَةُ الْخَبِيثِ،} {وَلَوْ أَعْجَبَكَ،} وكلتاهما في موضع الحال من فاعل: {لا يَسْتَوِي..} . إلخ، ثم قال: وجواب (لو) محذوف في الجملتين

إلخ لا أراه قويّا، وأظهر من ذلك كله أن تعتبر (لو) وصلية بمعنى (أن) ولا جواب لها، الجملة الفعلية في محل نصب حال من:{الْخَبِيثُ،} والرابط الواو، وإعادة {الْخَبِيثُ} بلفظه. الفاء: هي الفصيحة. (اتقوا الله): فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا وصحيحا {فَاتَّقُوا اللهَ} . (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (أولي): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون بالإضافة، و (أولي): مضاف، و {الْأَلْبابِ:} مضاف إليه، والجملة الندائية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، وهي بمنزلة جواب الأمر. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:} انظر إعراب هذه الجملة، ومحلها في الآية رقم [38].

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)}

الشرح: {آمَنُوا:} انظر الإيمان في الآية رقم [95]{أَشْياءَ:} انظر الآية رقم [19].

والمعنى: لا تسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء إن تظهر لكم؛ تغمكم، وإن تسألوا عنها حين نزول القرآن؛ تظهر لكم، والجملتان الشرطيتان كمقدمتين ينتجان ما يمنع السؤال، وهو أنه مما يغمهم، والعاقل لا يفعل ما يغمه. انتهى. بيضاوي. وانظر شرح:{الْقُرْآنُ} في الآية رقم [49]. {عَفَا اللهُ عَنْها} أي: {عَفَا} عنها ولم يكلف بها، وانظر {عَفَا} في الآية رقم [52](البقرة) فإنه جيد.

{غَفُورٌ:} صيغة مبالغة من غفر. {حَلِيمٌ:} لا يعجل بعقوبة المعتدي، والحلم بكسر الحاء وسكون اللام، وهو الأناة والروية في الأمور، والتؤدة، والعقل، ومقابله السفه، والطيش؛ الذي حدثتك عنه في الآية رقم [130](البقرة). والحليم من أسماء الله تعالى، ومعناه: هو الذي لا يستفزه عصيان العاصين، ولا يستثيره جحود الجاحدين. وانظر الجهل في الآية رقم [67] من سورة (البقرة).

تنبيه: اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فأذكر بعضا مما قيل فيها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما-قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟

ص: 213

ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ أخرجه البخاري. وقيل: نزلت في شأن الحج، فعن علي -كرم الله وجهه-قال: لما نزلت: {وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ قال: «لا، ولو قلت: نعم؛ لوجبت» . فنزلت. أخرجه الترمذي. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا. فقال رجل: أفي كل عام؟ فسكت؛ حتى قالها ثلاثا، ثم قال: ذروني ما تركتكم، ولو قلت: نعم؛ لوجبت، ولما استطعتم، وإنما أهلك من قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء؛ فاجتنبوه» . متفق عليه. وقيل غير ذلك.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. {لا:} ناهية. {تَسْئَلُوا:} مضارع مجزوم ب {لا،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف:

للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، كالجملة الندائية قبلها. {عَنْ أَشْياءَ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. {إِنْ} حرف شرط جازم.

{تُبْدَ:} مضارع مبني للمجهول فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف المقصورة، والفتحة قبلها دليل عليها، ونائب الفاعل يعود إلى {أَشْياءَ} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {تَسُؤْكُمْ:} جواب الشرط، والفاعل يعود إلى {أَشْياءَ} أيضا، والكاف: مفعول به، والميم: في الكل علامة جمع الذكور، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها في محل جر صفة {أَشْياءَ،} والجملة الشرطية الثانية معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى، والجملة الفعلية:{يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} في محل جر بإضافة: {حِينَ} إليها، و {حِينَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وجملة:{عَفَا اللهُ عَنْها} صفة أخرى ل: {أَشْياءَ،} أو هي في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم، فتكون (قد) مقدرة قبلها، وقيل: هي مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} مستأنفة لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)}

الشرح: {سَأَلَها:} الضمير يعود إلى المسألة التي دل عليها: (تسألوا) ولذا لم يعد بعن. أو لأشياء، فيكون قد حذف الجار، أي: فيكون التقدير: قد سأل عنها. {قَوْمٌ:} انظر الآية رقم [22].

وقال المفسرون: المراد: قوم صالح سألوا الناقة، ثم عقروها، ف {أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ} . وقوم

ص: 214

موسى قالوا: أرنا الله جهرة. فكان هذا السؤال وبالا عليهم. وقوم عيسى سألوا نزول المائدة عليهم، ثم كذبوا بها. كأنه تعالى يقول: إن أولئك سألوا، فلما أعطوا سؤالهم؛ كفروا به، فلا تسألوا أنتم شيئا، فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم؛ ساءكم ذلك. وانظر الكفر في الآية رقم [39].

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {سَأَلَها قَوْمٌ:} ماض ومفعوله وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وليسا صفة ل {قَوْمٌ؛} لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة، ولا حالا منها، ولا خبرا عنها، والكاف في محل جر بالإضافة. {ثُمَّ:} حرف عطف، وانظر الآية رقم [46] لشرحها. {أَصْبَحُوا:}

ماض ناقص، والواو: اسمه. {بِها:} متعلقان ب {كافِرِينَ} بعدهما؛ الذي هو خبر منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون: عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{أَصْبَحُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)}

الشرح: تضمنت الآية الكريمة ردّا، وإنكارا لما ابتدعه أهل الجاهلية، وهو أنهم كانوا إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر؛ بحروا أذنها، أي: شقوها، وخلوا سبيلها، فلا تركب، ولا تحلب، ولا تطرد عن ماء، ولا مرعى. وكان الرجل منهم يقول: إن شفيت من مرضي، أو رد الله غائبي، أو نحو ذلك، فناقتي {سائِبَةٍ،} ويجعلها كال {بَحِيرَةٍ} في تحريم الانتفاع بها وغير ذلك، وإذا ولدت الشاة أنثى؛ فهي لهم، وإن ولدت ذكرا؛ فهو لالهتهم، وإن ولدتهما؛ قالوا: وصلت الأنثى أخاها، ولم يذبحوه من أجل الأنثى. وكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرا؛ أكله الرجال والنساء، وإن كان أنثى؛ أرسلت في الغنم. والحام هو الفحل من الإبل يولد من صلبه عشرة أبطن، فيقولون قد حمى ظهره، فيتركونه كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة. وانظر إعلال {لَآتٍ} في الآية رقم [134] الأنعام فإعلاله مثله. وقيل في تفسير الأربعة غير ما تقدم، ومنشأ الخلاف في تفسيرها يعود إلى اختلاف مذاهب العرب، وآرائهم الفاسدة فيها. هذا؛ والاستفادة من هذه الحيوانات تكون مقصورة على خدام الأصنام، وسدنتها، وأول من ابتدع هذه الأمور في العرب عمرو بن لحي الخزاعي، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار» . رواه البخاري عن أبي هريرة. {كَفَرُوا:}

انظر الآية رقم [39]. {يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ:} في نسبة هذا التحريم إليه تعالى. {لا يَعْقِلُونَ:}

لا يفهمون، ولا يعرفون الحلال من الحرام، أو الأمر من النهي، ولكنهم يقلدون كبراءهم،

ص: 215

فأضلوهم السبيلا. وانظر العقل في الآية رقم [75] البقرة، وانظر ما كانوا يفعلون من تحليل، أو تحريم في سورة (الأنعام) الآية رقم [135] وما بعدها.

الإعراب: {ما:} نافية. {جَعَلَ:} ماض، فيجوز أن يكون بمعنى: سمى فيتعدى إلى مفعولين، أحدهما محذوف، التقدير: ما سمى الله حيوانا بحيرة، ويجوز أن يكون بمعنى شرع، ووضع، فيتعدى إلى مفعول واحد فقط. {اللهُ:} فاعله. {مِنْ:} حرف جر صلة. {بَحِيرَةٍ:}

مفعول به على نحو ما رأيت منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية:{ما جَعَلَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {سائِبَةٍ،} {وَصِيلَةٍ:} معطوفان على لفظ: {بَحِيرَةٍ،} وأيضا:

{حامٍ:} معطوف عليه، فهو مجرور لفظا، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسمها، وجملة:{كَفَرُوا:} صلة الموصول لا محل لها، والجملة الفعلية:{يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} في محل رفع خبر لكن، والجملة الاسمية:{وَلكِنَّ..} . إلخ معطوفة على الجملة الفعلية السابقة لا محل لها مثلها. (أكثرهم):

مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{لا يَعْقِلُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة، أو مستأنفة، لا محل لها.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)}

الشرح: {قِيلَ لَهُمْ:} قيل لعوامهم المعبر عنهم بالأكثر في قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} .

{ما أَنْزَلَ اللهُ} أي: القرآن الذي فيه الهدى والنور. {وَإِلَى الرَّسُولِ:} إلى حكمه، وانظر شرحه في الآية رقم [84]. {حَسْبُنا:} كافينا. وانظر شرحه في الآية رقم [63](الأنفال). {ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} . هذا؛ وقد قال جل ذكره عنهم في الآية رقم [170](البقرة): {ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا} وقال هنا: {لا يَعْلَمُونَ} وهناك: {لا يَعْقِلُونَ} للتفنن، أي ارتكاب فنون، وأساليب من التعبير.

انتهى. جمل. وهذا مما يستحسن لا ريب في ذلك. والذي وجدوا عليه آباءهم هو عبادة الأوثان، وتحريم السوائب، وغيرها، وهم قلدوا آبائهم لاعتقادهم: أنهم كانوا خيرا منهم، وأعلم، ولذا رد الله عليهم. وبيّن لهم أن آباءهم كانوا لا يعلمون شيئا من أمر الدين {وَلا يَهْتَدُونَ} إلى حق وصواب.

بعد هذا خذ إعلال، وشرح ما يلي. {قِيلَ:} أصله: قول بضم القاف، وكسر الواو، فنقلت حركة الواو إلى القاف بعد سلب حركتها، فصار (قول) بكسر القاف، وسكون الواو، ثم قلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة بعد كسرة، فصار {قِيلَ:} وانظر القول في الآية رقم [26] من سورة (البقرة).

ص: 216

{تَعالَوْا:} قال ابن هشام-طيب الله ثراه-في قطر الندى: وأما هات، وتعال، فعدهما جماعة من النحويين في أسماء الأفعال، والصواب: أنهما فعلا أمر، بدليل: أنهما دالان على الطلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، وتقول: هاتي، وتعالي، واعلم أن آخر (هات) مكسور أبدا، إلا إذا كان لجماعة المذكرين؛ فإنه يضم، وأن آخر (تعال) مفتوح في جميع أحواله من غير استثناء، (تقول): تعال يا زيد، وتعالي يا هند، وتعاليا يا هندان، أو يا زيدان، وتعالوا يا زيدون، وتعالين يا هندات، كل ذلك بالفتح، قال الله تعالى:{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ..} . إلخ، وقال تعالى:{فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} ومن ثم لحّنوا أبا فراس الحمداني بقوله: [الطويل]

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

وأقول: إن الفعلين (هات، وتعال) ملازمان للأمرية، فلا يأتي منهما مضارع، ولا ماض، وهما بمعنى (أحضروا، أو احضروا) فالأول متعد، والثاني لازم، وأما: تعالى، يتعالى؛ فهما بمعنى: تعاظم، أو بمعنى: تنزه، يتنزه، وقل في إعلال:{تَعالَوْا} أصله: تعالووا، ثم تعاليوا، فحذفت الضمة التي على الياء للثقل، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وبقيت الواو؛ لأنها ضمير، وبقيت الفتحة على اللام لتدل على الألف المحذوفة.

{أَوَلَوْ:} الهمزة للإنكار، وهي في نية التأخير عن الواو؛ لأنها حرف عطف، وكذا تقدم على الفاء، وثم تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ..} . إلخ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} وأخواتها تتأخر عن حرف العطف، كما هو قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ،} {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} . هذا مذهب سيبويه، والجمهور، وخالف جماعة، أولهم الزمخشري، فزعموا: أن الهمزة في الآيات المتقدمة في محلها الأصلي، وأن العطف على جملة مقدرة بينها، وبين العاطف، فيقولون: التقدير في: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا،} {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً،} {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ:} أمكثوا فلم يسيروا في الأرض، أنهملكم فنضرب عنكم، أتؤمنون في حياته، فإن {ماتَ أَوْ قُتِلَ..} . إلخ. ويضعف قولهم ما فيه من التكلف، وأنه غير مطرد في جميع المواضع. انتهى. مغني اللبيب بتصرف.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [61]{قِيلَ:} ماض مبني للمجهول. (لهم): متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعله. (تعالوا): أمر مبني على حذف النون، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [1] والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلى ما:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: أنزله الله. {وَإِلَى الرَّسُولِ:} معطوفان على ما قبلهما، وانظر تقدير المضاف في الشرح، وجملة:{تَعالَوْا..} . إلخ في

ص: 217

محل نصب مقول القول، وبعضهم يعتبرها في محل رفع نائب فاعل:(قيل)، وهذا على رأي من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول: يحذف الفاعل، ويقام المفعول مقامه وهذا لا غبار عليه، وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: قيل القول، فالأقوال ثلاثة في مثل هذا التركيب، وجملة:{قِيلَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {قالُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [1]{حَسْبُنا:} مبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الفعلية {وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} صلة ما، أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بعلى، ونا: فاعل في الأول، وفي محل جر بالإضافة في الثاني، والجملة الاسمية:{حَسْبُنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، {وَإِذا} ومدخولها معطوف على ما قبله، أو هو كلام مستأنف لا محل له {أَوَلَوْ} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ. والواو: فيها قولان، أحدهما -وذهب إليه الزمخشري في كشافه، وتبعه البيضاوي، والنسفي-: أنها واو الحال، والثاني-وذهب إليه أبو البقاء، وابن عطية-: أنها للعطف على كلام سابق، والقولان يعتبرانها للحال، وأرى: أنها حرف استئناف؛ لأن الجملة بعدها متضمنة التوبيخ، والإنكار، وأن الوقف على:{آباءَنا} جيد، والمعنى تام لا يحتاج إلى تقييده بحال، وأن الاستفهام إنشاء، ولا يصح وقوعه حالا كما هو معروف، وأن تقدير معطوف عليه محذوف تكلف لا داعي له، (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} ماض ناقص. {آباؤُهُمْ:} اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً} في محل نصب خبرها، والمتعلق محذوف؛ إذ التقدير: شيئا كائنا من أمر الدين، والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، فهي في محل نصب مثلها، وانظر المتعلق في الشرح، وجملة:{كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، التقدير:(لو كان آباؤهم..) يقولون ذلك، أو نحوه، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، كما هو رأيي في الواو، وهو في محل نصب حال على رأي رأيته فيما تقدم.

وما أجدرك أن تنظر الآية رقم [170](البقرة) فهي مثلها في كل شيء مع اختلاف بعض الألفاظ، وهو لا يؤثر في المعنى والإعراب. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الإيمان في الآية رقم [95]{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ:} احفظوها، والزموا إصلاحها، وانظر الآية رقم [2/ 9]. {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي: لا يضركم كفر من

ص: 218

كفر، وعصيان من عصى إذا كنتم مهتدين. ومن الاهتداء أن ينكر المسلم المنكر حسب طاقته، وإمكانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . أخرجه مسلم، وغيره عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.

هذا؛ وقد قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: هل يدل ظاهر الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ قلت: لا يدل على ذلك، والذي عليه أكثر الناس: أن المطيع لربه عز وجل، لا يكون مؤاخذا بذنوب أصحاب المعاصي، فأما وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فثابت بدليل الكتاب والسنة. عن قيس بن حازم، عن أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية {يا أَيُّهَا} .. {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ولا تضعونها موضعها، ولا تدرون ما هي؟ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الناس إذا رأوا ظالما، فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» . أخرجه الترمذي. وعن أبي أمية الشيباني، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني، قلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله» . رواه ابن ماجة، والترمذي، وأبو داود، وزاد، قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا، أو منهم، قال:«بل أجر خمسين منكم» . وانظر الآية رقم [82] و [3/ 104]{إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً:} الرجوع إليه تعالى نوعان: خاص، وعام، فالأول يكون بموت الإنسان، وانتقاله من هذه الدنيا، والثاني يكون بالحشر، والنشر، والحساب، والجزاء. {فَيُنَبِّئُكُمْ:} انظر الآية رقم [15] وفي هذه الجملة وعد، ووعيد للفريقين، وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره.

تنبيه: قال سعيد بن جبير، ومجاهد-رحمهما الله تعالى-: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب اليهود، والنصارى، والمعنى لا يضركم من ضل من أهل الكتاب، فخذوا منهم الجزية، واتركوهم. وقيل: إن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكافرين على كفرهم، فقيل لهم:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ،} واجتهدوا في صلاحها، لا يضركم ضلال الضالين، ولا جهل الجاهلين؛ إذا كنتم أنتم مهتدين. انتهى خازن.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]{عَلَيْكُمْ:} اسم فعل أمر منقول عن الجار والمجرور، بمعنى احفظوا، أو الزموا أنفسكم، وفاعله ضمير مستتر فيه. {أَنْفُسَكُمْ} مفعول به لاسم الفعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية ابتدائية، لا محل لها كالجملة الندائية قبلها. {لا:} نافية. {يَضُرُّكُمْ:} مضارع مرفوع، أو هو مجزوم بجواب الطلب، أو هو

ص: 219

مجزوم ب: {لا} على اعتبارها ناهية، وضمت الراء اتباعا لضمة الضاد قبلها، وقرئ بفتح الراء المشددة على أنه مجزوم، وحرك بالفتحة للتخفيف، وهو الوجه الثاني من أوجه جزم المضعف، وقرئ:«(لا يضيركم)» من: ضاره، يضيره بالرفع، كما قرئ بسكون الراء، وكسرها مع ضم الضاد من: ضاره يضوره، والكاف في محل نصب مفعول به. {مَنْ:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل رفع فاعل، وجملة:{ضَلَّ} صلة {مَنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل عليها. {إِذَا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل يضر، وجملة:{اِهْتَدَيْتُمْ:} في محل جر بإضافة {إِذَا} إليها، وجملة:{لا يَضُرُّكُمْ..} .

إلخ مستأنفة، أو هي واقعة جوابا للطلب لا محل لها على الوجهين. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَرْجِعُكُمْ:} مبتدأ مؤخر، والكاف في محل جر بالإضافة. {جَمِيعاً:}

حال من الكاف، والجملة الاسمية قبلها لا محل لها مثلها. {فَيُنَبِّئُكُمْ:} الفاء: حرف عطف.

(ينبئكم): مضارع مرفوع، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {فَيُنَبِّئُكُمْ:} الفاء: حرف عطف. (ينبئكم): مضارع مرفوع والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها لا محل لها مثلها. {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، وما تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:

{تَعْمَلُونَ:} في محل نصب خبره، وجملة:{كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ:} صلة ما، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:(كنتم تعملونه) وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: فينبئكم بعملكم في الدنيا.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)}

الشرح: {آمَنُوا:} انظر الإيمان في الآية رقم [95]{شَهادَةُ بَيْنِكُمْ:} المراد بهذه الشهادة الإشهاد في الوصية، والإضافة إلى الظرف على الاتساع. {إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ:} إذا شارفه.

وظهرت علاماته، وانظر شرح (أحد) في الآية رقم [96] (البقرة). فإنه جيد. والموت: انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته. وموت القلب: قسوته، فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنصائح. {ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ:} صاحبا عدل من أقاربكم، أو من المسلمين، وانظر:

ص: 220

{ذَوا} في الآية رقم [98] والعدل: هو الذي لم يرتكب كبيرة، ولم يصر على صغيرة، وهناك فرق بين عدل الرواية، وعدل الشهادة، ومجال ذلك الفقه الإسلامي. {آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ:} من ملتكم، أي دينكم، أو من غير عشيرتكم، وقبيلتكم. ومن قال بالأول قال بنسخ الحكم لأن شهادة الكافر لا تقبل على المسلم، والحق: أنها ثابتة في وصية مسلم حضره الموت في أرض غربة، ولم يجد مسلمين يشهدان على وصيته، فليشهد كافرين، أو ذميين، أو من أي دين كانا.

وهو قول ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وابن سيرين، وبه قال أحمد بن حنبل؛ لأن هذا موضع ضرورة. {ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ:} سافرتم فيها. {تَحْبِسُونَهُما:}

تقفونهما للحلف. {مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ:} صلاة العصر؛ لأنه وقت اجتماع الناس، والتقاء ملائكة الليل بملائكة النهار. وقيل: أي صلاة كانت. {فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ:} فيحلف الشاهدان بالله إن حصل شك في شهادتهما من قبل الورثة، أو من قبل الموصى لهم. {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً:}

فهذا هو المحلوف عليه، ومعناه: لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا، ولا نحلف بالله كاذبين لأجل عرض نأخذه، أو حق نجحده، {وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى:} ولو كان المشهود له ذا قرابة منا. {وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ} أي: الشهادة التي أمرنا الله بها. وإنما أضاف سبحانه الشهادة إليه؛ لأنه أمر بإقامتها، ونهى عن كتمانها. هذا؛ وقد قرئ بتنوين شهادة، وقطع الهمزة بعدها على الاستفهام بالمد على حذف حرف القسم، وتعويض حرف الاستفهام منه، كما قرئ بغير المد كقولهم: الله لأفعلن، وانظر (الريب) في الآية رقم [2/ 2]. {لَمِنَ الْآثِمِينَ} أي: الخاطئين إن كتمنا الشهادة، وانظر الاثم في الآية رقم [3].

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]. {شَهادَةُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {بَيْنِكُمْ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {شَهادَةُ} لأنه مصدر، والجملة الفعلية:{حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ:} في محل جر بإضافة: {إِذا} إليها. {اِثْنانِ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وهذا الخبر على تقدير مضاف محذوف، التقدير: شهادة اثنين. {حِينَ:} بدل من {إِذا،} وقيل بجواز اعتباره متعلقا بالموت، أو بالفعل حضر، ولا وجه لهما. {ذَوا:} صفة {اِثْنانِ} مرفوع مثله، و {ذَوا:} مضاف، و {عَدْلٍ:} مضاف إليه. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل: {اِثْنانِ،} أو بمحذوف حال منه بعد وصفه بما تقدم. هذا؛ وقد قال الزمخشري: يجوز أن يكون: {شَهادَةُ} مبتدأ والخبر محذوفا، التقدير: فيما فرض عليكم شهادة، وعليه يكون {اِثْنانِ} فاعلا بشهادة، أي يشهد اثنان. قال الجمل: وهذا ما جرى عليه ابن هشام، وهو الأولى لأن الصريح ليس كغيره. {أَوْ:} حرف عطف، {آخَرانِ:}

معطوف على: {اِثْنانِ} مرفوع مثله

إلخ. {مِنْ غَيْرِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة: {آخَرانِ،} ولم يصفهما بالعدل كما في الأولين؛ لأن غير المسلم لا يكون عدلا مهما تحلى به من أخلاق

ص: 221

كريمة، وشيم حميدة. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {أَنْتُمْ:} فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور بعده، كان متصلا، فلما حذف الفعل؛ انفصل. {ضَرَبْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مفسرة، لا محل لها كالجملة المحذوفة المفسرة بها، وهذا عند البصريين، وأما الكوفيون فيعتبرون:

{أَنْتُمْ} مبتدأ، والجملة الفعلية خبره. والمعتمد قول البصريين في هذه الجملة، وشبهها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. (أصابتكم): ماض وتاء التأنيث، والكاف مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. {مُصِيبَةُ:} فاعل، وهو مضاف، و {الْمَوْتُ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية.

{فَأَصابَتْكُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: (إن أنتم

فاستشهدوا آخرين). أو فالشاهدان {آخَرانِ} . {تَحْبِسُونَهُما:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والميم، والألف دالان على التثنية، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل {آخَرانِ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، والجملة الشرطية:{إِنْ أَنْتُمْ..} . إلخ معترضة بين الصفة، والموصوف. قال البيضاوي: وفائدة الاعتراض الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم، فإن تعذر-كما في السفر-فمن غيركم. أو استئناف، أي الجملة الفعلية مستأنفة، كأنه قيل: كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين؟ فقال: {تَحْبِسُونَهُما} . وهذا هو الأولى بالاعتبار؛ لأن الفصل بين الصفة، والموصوف بأجنبي لا يجوز إلا في ضرورات الشعر. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَعْدِ:} مضاف، و {الصَّلاةِ:} مضاف إليه، وجملة:{فَيُقْسِمانِ بِاللهِ:} معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وجواب {إِنْ} الشرطية محذوف، التقدير: إن ارتبتم بخيانة منهما، أو بأخذ شيء من التركة فاحبسوهما، وحلفوهما، والشرط، وجوابه المقدر معترض بين القسم وجوابه، وهو الجملة الفعلية:{لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} ومثل هذا كثير واقع في الكلام العربي، وهو يعتمد على قاعدة مشهورة؛ وهو أنه إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما. {وَلَوْ:} الواو: واو الاعتراض. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{كانَ:} ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر مفهوم من المقام؛ إذ التقدير: لو كان المشهود له.

{ذا:} خبر {كانَ} منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذا:} مضاف، و {قُرْبى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية:{كانَ ذا قُرْبى} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، ومثل ذلك قل في الجملة الواقعة شرطا ل:{إِنْ} فيما تقدم، وجواب (لو) محذوف، التقدير: لو كان المشهود له ذا قربى لا نشتري به ثمنا، وجملة:{وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ} معطوفة على جملة:

{لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} لا محل لها مثلها، و (لو) ومدخولها كلام معترض بين المتعاطفين لا محل له.

{إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {إِذا:} حرف جواب وجزاء مهمل لا عمل له.

{لَمِنَ الْآثِمِينَ:} اللام هي المزحلقة. (من الاثمين): متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ تعليل للنفي، لا محل لها.

ص: 222

{فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اِسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اِعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ (107)}

الشرح: {فَإِنْ عُثِرَ:} فإن اطلع، يقال: عثر الرجل يعثر عثورا إذا هجم على شيء لم يطلع عليه غيره، وأعثرته على كذا: أطلعته عليه، ومنه قوله تعالى:{وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ..} . إلخ. انتهى.

جمل. {اِسْتَحَقّا إِثْماً:} فعلا ما أوجب إثما كتحريف، وتزييف بالشهادة بعد حلفهما. وانظر (الإثم) في الآية رقم [3]. {فَآخَرانِ:} فشاهدان آخران. {يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي: من الذين استحق عليهم الإثم، ومعناه من الذين جني عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته، ومقام أصله: مقوم، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف، ثم تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا. {الْأَوْلَيانِ:} الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما ليقوما بالشهادة، ويظهرا بها كذب الكاذبين؛ أي: الشاهدين الأولين. {فَيُقْسِمانِ بِاللهِ..} . إلخ: أي: فيحلفان بالله ليميننا أحق بالقبول من يمين هذين الوصيين الخائنين. {وَمَا اعْتَدَيْنا:} وما تجاوزنا الحق في يميننا. {لَمِنَ الظّالِمِينَ} أي: الواضعين الباطل موضع الحق، أو الظالمين أنفسهم إذا تجاوزنا الحق، واعتدينا على غيرنا، وانظر الآية رقم [146](الأنعام).

قال البيضاوي: ومعنى الآيتين: أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه، أو دينه على وصيته، أو يوصي إليهما احتياطا، فإن لم يجدهما بأن كان في سفر؛ فآخرين من غيرهم. ثم إن وقع نزاع، أو ارتياب في صدقهما؛ أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة، أو مظنة؛ حلف آخران من أولياء الميت. والحكم منسوخ؛ إن كان الاثنان شاهدين، فإنه لا يحلف الشاهد، ولا يعارض يمينه بيمين الوارث، وثابت؛ إن كانا وصيين، وردا اليمين إلى الورثة، إما لظهور خيانة الوصيين، فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته. أو لتغيير الدعوى.

روي: أن تميما الداري، وعدي بن زيد خرجا إلى الشام للتجارة، وكانا نصرانيين حينئذ، ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما، فلما قدموا الشام مرض بديل، فدون ما معه في صحيفة، وطرحها في متاعه، ولم يخبرهما بها، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله، ومات، ففتشاه، وأخذا منه إناء من فضة، فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب، فغيباه، فوجد أهله الصحيفة، فطالبوهما بالإناء، فجحدا، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية {يا أَيُّهَا الَّذِينَ..} . إلخ، فحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر، وخلي سبيلهما، ثم وجد الإناء في

ص: 223

أيديهما، فأتاهما بنو سهم في ذلك، فقالا: قد اشتريناه منه، ولكن لم يكن لنا عليه بينة، فكرهنا أن نقر به، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{فَإِنْ عُثِرَ..} . إلخ، فقام عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي رفاعة السهميان، وحلفا. انتهى بحروفه من البيضاوي.

الإعراب: {فَإِنْ عُثِرَ:} الفاء: حرف استئناف. (إن) حرف شرط جازم. {عُثِرَ:} ماض مبني للمجهول مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {عَلى:} حرف جر. {أَنَّهُمَا:} حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {اِسْتَحَقّا:}

ماض، والألف فاعله، والجملة الفعلية خبر (أنّ). {إِثْماً:} مفعول به، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل: {عُثِرَ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{فَآخَرانِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (آخران): مبتدأ، وفي الخبر احتمالات: أحدهما:

أنه الجار والمجرور {مِنَ الَّذِينَ} والثاني: أنه جملة: {يَقُومانِ} والثالث: أنه الأوليان، وأحسن من هذا كله اعتباره فاعلا لفعل محذوف، التقدير: فليشهد آخران. وقال أبو البقاء: خبر مبتدأ محذوف، أي فالشاهدان آخران. {يَقُومانِ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والألف فاعله، {مَقامَهُما:} مفعول مطلق على اعتباره مصدرا ميميّا، وظرف مكان على اعتباره اسم مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:(آخران)، أو في محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ، {مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع صفة (آخران) على اعتباره مبتدأ، خبره الجملة الفعلية بعده، أو اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف، أو فاعلا لفعل محذوف كما رأيت، أو هما متعلقان بمحذوف حال منه بعد وصفه بما تقدم، وجملة:

{فَآخَرانِ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، سواء أكانت فعلية أم اسمية. {اِسْتَحَقَّ:} ماض، ويقرأ بالبناء للفاعل وللمفعول، فعلى الأول فالفاعل:{الْأَوْلَيانِ،} والمفعول محذوف، تقديره الوصية، وعلى الثاني فنائب الفاعل يعود إلى الإثم، وقيل: إلى {الْأَوْلَيانِ،} وقدره الجلال:

الوصية، والمعتمد الأول. {عَلَيْهِمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَوْلَيانِ:} فاعل، أو نائب فاعل على وجهين رأيتهما، أو هو صفة (آخران). أو عطف بيان عليه، أو هو خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هما {الْأَوْلَيانِ،} أو هو مبتدأ، خبره (آخران)، وهو أضعف كل الوجوه كما قيل في اعتباره بدلا من الألف في:{يَقُومانِ} . هذا؛ ويقرأ «(الأولين)» على اعتباره جمع أول، وفي إعرابه وجهان: أحدهما أنه بدل من {الَّذِينَ،} أو صفة له، والثاني أنه بدل من الضمير في {عَلَيْهِمُ} كما يقرأ «(الأولان)» بتشديد الواو، وإعرابه كإعراب:{الْأَوْلَيانِ} . و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وجملة:{فَيُقْسِمانِ بِاللهِ} معطوفة على جملة: {يَقُومانِ..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة فيها. واللام: واقعة في جواب القسم. (شهادتنا): مبتدأ، ونا: في محل جر بالإضافة.

{أَحَقُّ:} خبر المبتدأ، {مِنْ شَهادَتِهِما:} متعلقان ب {أَحَقُّ،} والهاء في محل جر بالإضافة،

ص: 224

و (ما) حرفان دالان على التثنية، والجملة الاسمية:{لَشَهادَتُنا..} . إلخ جواب القسم لا محل لها.

(ما): نافية. {اِعْتَدَيْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [3] والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها مثلها. {إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ} انظر إعراب مثلها في الآية السابقة، وهي تعليل للنفي لا محل لها.

{ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاِتَّقُوا اللهَ وَاِسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)}

الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى الحكم المذكور في رد اليمين على الورثة إذا لم يصدقوا الشاهدين، أو الوصيين. {أَدْنى:} أقرب، وأحق، وانظر شرحه في الآية رقم [2/ 61] تجد ما يسرك. {عَلى وَجْهِها:} على نحو ما تحملوها من غير تحريف، وخيانة فيها، وإنما جمع الضمير في:{يَأْتُوا} لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين اللذين هما صاحبا الواقعة، وغيرهما من بقية الناس إلى يوم القيامة. {أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ:} ترد اليمين على الورثة، فيحلفون على خيانتهم، وكذبهم، فيفتضحون، ويغرمون ما خانوا فيه. وانظر الأيمان في الآية رقم [93] {وَاتَّقُوا:} انظر الآية رقم [35]. {وَاسْمَعُوا:} ما توصون به وتؤمرونه سماع قبول، وانظر الآية رقم [83] {وَاللهُ:} انظر الاستعاذة. أو الآية رقم [1] الأنفال. {لا يَهْدِي:} لا يوفق إلى طريق الخير، أو إلى طريق الجنة. {الْقَوْمَ:} انظر الآية رقم [21]. {الْفاسِقِينَ:} الخارجين عن طاعته، المخالفين أوامره، وانظر الآية رقم [28].

تنبيه: قال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: هذه الآيات الثلاث من أشكل آي القرآن، حكما، وإعرابا، وتفسيرا، ولم يزل العلماء يستشكلونها، ويكفون عنها، حتى قال مكي بن أبي طالب رحمه الله في كتابه المسمى بالكشف: هذه الآيات في قراءتها، وإعرابها، وتفسيرها، ومعانيها، وأحكامها من أصعب آي القرآن، وأشكله. قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة، أو أكثر، قال: وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد. وقال السخاوي: لم أر أحدا من العلماء تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها. قلت: وأنا أستعين الله تعالى في توجيه إعرابها، واشتقاق مفرداتها، وتصريف كلماتها. وقراءاتها، ومعرفة تأليفها، وأما بقية علومها؛ فنسأل الله العون في تهذيبه إلى آخر ما في عبارة السمين، فارجع إليه إن شئت انتهى. بحروفه.

هذا؛ وأنا أقول: إنني بذلت جهدي-مستعينا بالله-في شرح، وإعراب ما رأيته في هذه الوريقات مستمدّا أكثره من المراجع الموجودة لدي، وما أراه ضعيفا ضعفته، وما رأيته قويّا رجحته، وما لم يذكر فيه شيء ذكرته، والله أسأل، وبنبيه أتوسل أن يوفقني وإياك أيها القارئ الكريم إلى ما يحبه ربنا، ويرضاه.

ص: 225

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَدْنى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَأْتُوا} في محل جر بحرف جر محذوف، تقديره: من أو إلى الإتيان. {بِالشَّهادَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{عَلى وَجْهِها:} متعلقان بمحذوف حال من الشهادة، و (ها): في محل جر بالإضافة. {أَوْ:}

حرف عطف. {يَخافُوا:} معطوف على يأتوا منصوب مثله، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {تُرَدَّ:} مضارع مبني للمجهول منصوب ب: {أَنْ} . {أَيْمانٌ:} نائب فاعله، والمصدر المؤول من:{أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ} في محل نصب مفعول به. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف صفة: {أَيْمانٌ} . و {بَعْدَ:} مضاف، و {أَيْمانِهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. (اتقوا): أمر مبني على حذف النون، والواو وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهو عطف إنشاء على خبر، والأولى اعتبارها مستأنفة، وجملة (اسمعوا) معطوفة عليها. {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [51] وهي اسمية مستأنفة، لا محل لها.

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (109)}

الشرح: {يَوْمَ:} انظر شرحه في الآية رقم [48](البقرة) و [128](الأنعام){اللهُ:} انظر الاستعاذة، أو رقم [8/ 1] {الرُّسُلَ:} انظر الآية رقم [83]{فَيَقُولُ:} انظر الآية رقم [26] البقرة واليوم الذي يجمع فيه الرسل هو يوم القيامة الذي يحشر فيه الناس أجمعون للحساب والجزاء.

{ماذا أُجِبْتُمْ:} أي إجابة أجابكم قومكم؟ وهذا سؤال توبيخ لأقوامهم. {قالُوا:} عبر بالماضي لتحقق وقوعه في المستقبل. {لا عِلْمَ لَنا:} ينفون العلم عن أنفسهم، ويكلون ذلك إلى الله تعالى:{عَلاّمُ الْغُيُوبِ:} تعلم ما غاب عنا من باطن الأمور، ونحن نعلم ما نشاهد، ولا نعلم ما في البواطن. هذا؛ و {الْغُيُوبِ} جمع: غيب، وهو ما غاب عنا، ولا نشاهده، ولا نسمعه، وفيه التشكي من أقوامهم، ورد العلم إليه تعالى بما كابدوا منهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو مفعول به لهذا المحذوف، وقيل: هو بدل من مفعول (اتقوا) بدل اشتمال، أو هو مفعول (اسمعوا) على حذف مضاف، أي: اسمعوا خبر يوم جمعهم، والجملة:{يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ} في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {ماذا:} اسم استفهام مركب مبني على السكون في محل نصب مفعول مطلق قدم على فعله، وقيل: في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بماذا، ولا أؤيد هذين الوجهين،

ص: 226

وأرى ما يلي: يحوز اعتبار {ماذا} اسم استفهام مبتدأ، خبره الجملة الفعلية بعده، كما يجوز اعتبار (ما) مبتدأ، و (ذا) اسما موصولا خبره، والجملة الفعلية صلتها، والرابط، أو العائد محذوف، التقدير: أجبتم به. والجملة سواء أكانت اسمية أم فعلية في محل نصب مقول القول، وجملة: (يقول

) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها، {أُجِبْتُمْ:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وانظر إعراب {حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [3] {قالُوا

:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [1]. {لا:}

نافية للجنس. {عِلْمَ:} اسم: {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {لَنا:} متعلقان بمحذوف خبر: {لا،} وهذا على لغة الحجازيين الذين يجيزون ذكر خبر لا، فأما على لغة بني تميم الذين يوجبون حذفه، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة {عِلْمَ،} كما يجوز تعليقهما ب: {عِلْمَ} لأنه مصدر، وعليهما فخبر:{لا} محذوف، تقديره: موجود، أو حاصل، وجملة:{لا عِلْمَ لَنا} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف: اسمها. {أَنْتَ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون توكيدا لاسم (إنّ) على المحل، والثاني: أن يكون ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وعلى هذين الوجهين ف:{عِلْمَ} خبر (إنّ)، والثالث: أن يكون مبتدأ، و {عِلْمَ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ تعليل للنفي لا محل لها، وهي من مقول {الرُّسُلَ،} و {عِلْمَ:} مضاف، و {الْغُيُوبِ:} مضاف إليه من إضافة مبالغة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله ضمير مستتر فيه.

{إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}

الشرح: {قالَ:} انظر الآية رقم [2/ 26] ورقم [7/ 4]{اللهُ:} انظر الاستعاذة والآية رقم [8/ 1]{يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ:} انظر الآية رقم [46] و [3/ 45]{أَيَّدْتُكَ:} قويتك. {بِرُوحِ الْقُدُسِ:}

هو جبريل عليه السلام فكان يسير معه حيث سار، يعينه على الحوادث التي تقع، ويلهمه المعارف والعلوم، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [87] (البقرة). {تُكَلِّمُ:} انظر: «الكلام» في

ص: 227

الآية رقم [2/ 75] فإنه جيد. {النّاسَ:} انظر الآية رقم [32]. {فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً:} انظر الآية رقم [3/ 46] ففيها الكفاية. {الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ:} انظر الآية رقم [3/ 48] وأيضا الآية رقم [49]. {تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي:} لا أتكلم على هذه الكلمات بأكثر مما ذكرته في الآية رقم [3/ 49]{كَفَفْتُ:} رددت، ومنعت عنك. {بَنِي إِسْرائِيلَ:} المراد: اليهود الذين أرادوا قتله، وانظر الآية رقم [33]. {جِئْتَهُمْ:} انظر (جاء) في الآية رقم [15](البيّنات):

المعجزات، والبراهين القاطعة. {كَفَرُوا:} انظر الآية رقم [36]. {سِحْرٌ:} أي الذي جئت به سحر، وقرئ:«(ساحر)» فيكون المراد عيسى نفسه. {مُبِينٌ:} ظاهر، واضح، وانظر إعلاله في الآية رقم [15] وانظر السحر في الآية رقم [102] من سورة (البقرة).

تنبيه: قال السمين: قال تعالى هنا: {بِإِذْنِي} أربع مرات عقيب أربع جمل، وفي (آل عمران):{بِإِذْنِ اللهِ} مرتين؛ لأن هناك موضع إخبار، فناسب الإيجاز، وهنا مقام تذكير بالنعمة، والامتنان، فناسب الإسهاب. انتهى.

تنبيه: الآية الكريمة، والتي قبلها، وما بعدها إلى آخر السورة تنص على محاورة بين الله، ورسله يوم القيامة، وهو مستقبل لا ريب فيه، ومضمونه توبيخ الأقوام التي خالفت أوامر الله تعالى، وأوامر رسلهم الذين أرسلوا إليهم وخاصة النصارى كما هو واضح للعيان، والتعبير بالأفعال الماضية بدل الأفعال المستقبلة إنما هو لتحقق وقوع ما يذكر، وهذا التعبير مستعمل في القرآن الكريم بكثرة مثل قوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وأمر الله المراد به الحشر والنشر

إلخ، وهذا الاستعمال إنما هو فن من فنون البلاغة. ألا فلينتبه العالمون.

تنبيه: تذكير الله عيسى بإنعامه عليه وعلى أمه في ذلك اليوم العظيم لا يقصد منه تكليف شكره، والقيام بواجبه؛ إذ ليس هناك تكليف، وإنما المراد توبيخ الكفارة المختلفين في شأنه وشأن أمه إفراطا وتفريطا. انتهى جمل نقلا من أبي السعود، وهو بتصرف كبير مني.

الإعراب: {إِذْ:} بدل من: {يَوْمَ يَجْمَعُ} في الآية السابقة، أو هو منصوب بفعل محذوف، التقدير: اذكر إذ، وهو مبني على السكون في محل نصب، وهي بمعنى إذا التي هي للمستقبل، وجملة:{قالَ اللهُ} في محل جر بإضافة: {إِذْ} إليها. (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو.

{عِيسَى:} منادى مفرد علم، و {اِبْنَ} صفة له، وقد نصب؛ لأنه مضاف، وهذه قاعدة كلية مفيدة، وذلك: أن المنادى المفرد المعرفة الظاهر الضمة إذا وصف بابن، أو ابنة، ووقع الابن، والابنة بين علمين، أو اسمين متفقين في اللفظ، ولم يفصل بين الابن وبين موصوفه بشيء تثبت له أحكام، منها: أنه يجوز إتباع المنادى المضموم لحركة نون ابن، فيفتح، نحو يا زيد بن عمرو، ويا هند ابنة بكر بفتح الدال من: زيد، وهند، وضمها، فلو كانت الضمة مقدرة مثل ما نحن فيه،

ص: 228

فإن الضمة مقدرة على ألف {عِيسَى،} فهل يقدر بناؤه على الفتح إتباعا، كما في الضمة الظاهرة؟ خلاف: الجمهور على عدم جوازه؛ إذ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للاتباع، وهذا المعنى مفقود في الضمة المقدرة، وأجاز الفراء ذلك، إجراء للمقدر مجرى الظاهر، وتبعه أبو البقاء، فإنه قال: يجوز أن تكون على الألف من {عِيسَى} فتحة لأنه قد وصف بابن، وهو بين علمين، وأن تكون فيها ضمة، وهو مثل قولك: يا زيد بن عمرو بفتح الدال، وضمها، وهذا الذي قاله غير بعيد. انتهى. بحروفه جمل. طيب الله ثراه. و {اِبْنَ:} مضاف، و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي.

{نِعْمَتِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {عَلَيْكَ} متعلقان ب:{نِعْمَتِي} على اعتباره مصدرا أو بمحذوف حال منه على اعتباره اسما. {وَعَلى والِدَتِكَ:} معطوفان على ما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {نِعْمَتِي،} أو بمحذوف حال منه، وأجاز السمين اعتباره بدلا من:

{نِعْمَتِي} بدل اشتمال؛ لأنه في المعنى تفسير للنعمة. {أَيَّدْتُكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به.

{بِرُوحِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (روح) مضاف، و {الْقُدُسِ:} مضاف إليه، من إضافة الموصوف للصفة، إذا الأصل: الروح المقدسة، والجملة الندائية:{يا عِيسَى..} . إلخ، والجملة الفعلية:{اُذْكُرْ..} . إلخ، كل ذلك في محل نصب مقول القول. {تُكَلِّمُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية:{تُكَلِّمُ النّاسَ} في محل نصب حال من كاف الخطاب.

{فِي الْمَهْدِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر. {وَكَهْلاً:} معطوف على ذلك المحذوف فهو حال أيضا، وهو بمعنى مكتهلا، وهو حال متداخلة. {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} إعرابه ظاهر إن شاء الله، وهو كلام معطوف على:{إِذْ أَيَّدْتُكَ..} .

إلخ، ومثله:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ..} . إلخ. ولا تنس أن الكاف اسم بمعنى مثل، فهي مبنية على الفتح في محل نصب مفعول به، ووقوع الكاف اسما وارد في الشعر العربي بكثرة، ولولا الإطالة لذكرت ذلك، ووقوعها فاعلا، وحالا، ومجرورة، وما عليك إلا أن تنظر الشاهد رقم [326] وما يذكر تبعا له في كتابنا:«فتح القريب المجيب» إعراب شواهد مغني اللبيب، والكاف مضاف، و (هيئة) مضاف إليه، و (هيئة) مضاف، و {الطَّيْرِ:} مضاف إليه. {بِإِذْنِي:} متعلقان بالفعل:

{تَخْلُقُ،} أو بمحذوف حال من: {الطَّيْرِ،} وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، وجملة:{فَتَنْفُخُ فِيها} معطوفة على جملة: {تَخْلُقُ..} . إلخ {طَيْراً:} خبر:

(تكون

) إلخ، وقرئ «(طائرا)». {بِإِذْنِي:} متعلقان بالفعل (تكون)، أو بمحذوف صفة:

{طَيْراً،} وجملة: (تكون

) إلخ معطوفة على ما قبلها، وكذلك جملة:{وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ}

ص: 229

{وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} معطوفة أيضا، ومثلها ما بعدها، والإعراب واضح بعونه تعالى. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {كَفَفْتُ،} وجملة:

{جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. (قال): ماض. {الَّذِينَ:} فاعله، وجملة:

{كَفَرُوا} صلته. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة وجملة: (قال

) إلخ معطوفة على ما قبلها. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى ما. الهاء: حرف تنبيه. ذا: اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {سِحْرٌ:} خبر المبتدأ.

{مُبِينٌ:} صفة، والجملة الاسمية:{إِنْ هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَاِشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)}

الشرح: {أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ:} أمرتهم على ألسنة رسلي. وفي الخازن: يعني:

ألهمتهم، وقذفت في قلوبهم، فهو وحي إلهام، كما أوحى إلى أم موسى، وإلى النحل.

والحواريون هم أصحاب عيسى، وخواصه. قال نبينا المعظم صلى الله عليه وسلم:«لكل نبي حواريون، وحواري الزبير بن العوام» . {آمِنُوا بِي:} انظر الإيمان في الآية رقم [96]. {وَبِرَسُولِي:} المراد به عيسى، عليه الصلاة والسلام، وانظر الآية رقم [84]. {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [2/ 26] و [7/ 4] وقد قدم ذكر الإيمان على الإسلام؛ لأن الإيمان من أعمال القلوب، والإسلام هو الانقياد، والخضوع في الظاهر، والمعنى: أنهم آمنوا بقلوبهم، وانقادوا بظواهرهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِذْ:} معطوف على: {إِذْ أَيَّدْتُكَ} {أَوْحَيْتُ:} فعل وفاعل، وانظر إعراب:

{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [2] والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها، {إِلَى الْحَوارِيِّينَ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْ:} مفسرة؛ لأنها مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه، وجوز اعتبارها مصدرية. {آمِنُوا بِي:} فعل أمر، الواو فاعله. {بِي:} متعلقان به، والجملة مفسرة ل:{أَوْحَيْتُ} لا محل لها عند الجمهور، وعند الشلوبين بحسب ما تفسره، وأراه حقّا. هذا؛ وعلى اعتبار:{أَنْ} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:{أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ} الأمر بالإيمان. والمعتمد الأول في هذا؛ وأشباهه.

(برسولي): معطوفان على ما قبلهما. {قالُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {آمَنّا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَاشْهَدْ..} . معطوفة على ما قبلها، فهي في نصب مقول القول مثلها، وهي من عطف الإنشاء على الخبر. {بِأَنَّنا:} الباء: حرف جر. (أننا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): في محل نصب اسمها. {مُسْلِمُونَ:} خبر (أنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع

ص: 230

مذكر سالم، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اِتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)}

الشرح: {الْحَوارِيُّونَ:} انظر الآية السابقة. {يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ:} انظر الآية رقم [46] و [3/ 45]{يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ:} بمعنى هل يفعل ربك، أو هل يعطيك ربك إن سألته، فاستطاع، وأطاع بمعنى، كاستجاب، وأجاب؛ لأن قولهم هذا لم يكن بعد عن تحقيق، واستحكام معرفة، وقرأ الكسائي:«(هل تستطيع ربك)» والمعنى هل تستطيع سؤال ربك، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. {رَبُّكَ:} انظر سورة الفاتحة والآية [5/ 2]{مائِدَةً:} هي في الأصل الخوان الذي يوضع عليه الطعام، فإن لم يكن عليه طعام؛ فليس بمائدة، بل هو خوان. وقال الجمل: هذه المسألة لها نظائر في اللغة، لا يقال للخوان مائدة إلا وعليه الطعام، وإلا فهو خوان. ولا يقال: كأس إلا وفيها خمر، وإلا فهي قدح، ولا يقال: ذنوب، وسجل إلا وفيه ماء، وإلا فهو دلو، ولا يقال: جراب إلا وهو مدبوغ، وإلا فهو إهاب، ولا يقال: قلم إلا وهو مبرى وإلا فهو أنبوب. مأخوذ من: ماد الماء، يميد: إذا تحرك، أو من ماده: إذا أعطاه، كأنها تميد من تقدم إليها. ونظيره قولهم: شجرة مطعمة. {السَّماءِ:} انظر الآية رقم [2/ 19] و [6/ 99]{قالَ:} انظر القول في الآية رقم [2/ 26] و [7/ 4]. {اِتَّقُوا:} انظر الآية رقم [35]. {اللهَ:}

انظر الاستعاذة. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} بكمال قدرة الله، وصحة نبوتي؛ لأن الإيمان يوجب التقوى، وقيل: المعنى: اتقوا الله في اقتراح هذا السؤال بعد ظهور المعجزات.

الإعراب: {إِذْ:} منصوب بفعل محذوف، تقديره: اذكر، وقيل: هو متعلق ب: {قالُوا،} وقيل: متعلق ب: {مُسْلِمُونَ،} وجملة: {قالَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها، وانظر إعراب {يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} في الآية رقم [110] وهي في محل نصب مقول القول. {هَلْ:}

حرف استفهام. {يَسْتَطِيعُ:} مضارع. {رَبُّكَ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، وعلى قراءة الكسائي هو مفعول به، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والمصدر المؤول من:{أَنْ يُنَزِّلَ} في محل نصب مفعول به، وعلى قراءة الكسائي هو في محل نصب مفعول به للمضاف المحذوف الذي رأيت تقديره في الشرح. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {مائِدَةً} . {قالَ:}

ماض، فاعله يعود إلى:{عِيسَى،} والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وجملة:{اِتَّقُوا اللهَ} في محل نصب مقول القول، وانظر إعراب:{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في الآية رقم [57]. والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول.

ص: 231

{قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ (113)}

الشرح: {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [2/ 26] و [7/ 4]{نُرِيدُ:} انظر الآية رقم [29].

وقولهم: {نُرِيدُ أَنْ..} . إلخ: تمهيد عذر، وبيان لما دعاهم إلى السؤال، وهو أن يتمتعوا بالأكل منها. {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا:} بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته، وهو على حد قول إبراهيم-عليه الصلاة والسلام:{وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} نعلم أن قد صدقتنا: في ادعاء النبوة، وأن الله يجيب دعوتنا. {وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ:} أي نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة، ويقينا، ويؤمن بسببها كفارهم، أو المعنى:

نكون من المشاهدين لها دون السامعين بخبرها سماعا، ولا ريب أن المشاهدة غير السماع.

الإعراب: {قالُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [1]{نُرِيدُ:} مضارع، وفاعله مستتر، تقديره نحن، والمصدر المؤول من:{أَنْ نَأْكُلَ مِنْها} في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{نُرِيدُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (تطمئن): معطوف على {نَأْكُلَ} منصوب مثله.

{قُلُوبُنا:} فاعله، ونا: في محل جر بالإضافة. (نعلم): معطوف على {نَأْكُلَ} وفاعله مستتر تقديره: «نحن» . {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير شأن محذوف، التقدير: أنك، وهو ضعيف؛ لأن ضمير الشأن المحذوف يكون ضمير غيبة لا ضمير خطاب، وقيل:{أَنْ} حرف مصدري وقد لا تمنع من ذلك. {صَدَقْتَنا:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ} المخففة، أو الفعل في محل نصب ب:{أَنْ} المصدرية، وعلى الوجهين ف:{أَنْ} ومدخولها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي: (نعلم).

{وَنَكُونَ:} معطوف أيضا على {نَأْكُلَ،} وهو ناقص، واسمه مستتر تقديره: نحن. {عَلَيْها:}

متعلقان بما بعدهما. {مِنَ الشّاهِدِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (نكون).

{قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَاُرْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ (114)}

الشرح: {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ:} انظر الآية رقم [46] و [3/ 45] وأيضا [3/ 55]{اللهُمَّ:} أصله:

يا الله فحذفت ياء النداء، وعوض عنها الميم المشددة في الآخر، ولا يجمع بين العوض والمعوض عنه إلا في ضرورة الشعر، وهذا الحذف، والتعويض من خصائص الاسم الكريم،

ص: 232

كدخول (يا) عليه مع لام التعريف، وقطع همزته، وتاء القسم. {رَبَّنا:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1]{عِيداً} أي: يكون يوم نزولها عيدا نعظمه، ونصلي فيه نحن، ومن يجيء بعدنا، فنزلت يوم الأحد، فاتخذه النصارى عيدا. انتهى خازن. والعيد مشتق من العود؛ لأنه يعود كل سنة، قاله ثعلب عن ابن الأعرابي. وقال ابن الأنباري: النحويون يقولون يوم العيد؛ لأنه يعود بالفرح، والسرور، وعيد العرب، لأنه يعود بالفرح، والحزن، وكل ما عاد إليك في وقت فهو عيد. {لِأَوَّلِنا:} انظر الآية رقم [2/ 41] فإنه جيد، وقرئ:«(لأولانا وأخرانا)» بمعنى الأمة، أو الطائفة. {وَآيَةً مِنْكَ:} علامة دالة على كمال قدرتك، وصحة نبوتي. {وَارْزُقْنا:} فهذا الفعل ينصب مفعولين الثاني محذوف، التقدير: المائدة، والشكر عليها. {خَيْرُ الرّازِقِينَ} أي: خير من يرزق؛ لأنه خالق الرزق، ومعطيه بلا عوض وبلا منة، وهو مبذول للمؤمن، والكافر، والعاصي، والمطيع، وانظر شرح:{خَيْرُ} في الآية رقم [54] من سورة (البقرة).

تنبيه: طلب عيسى-عليه الصلاة والسلام-من ربه نزول المائدة حين رأى: أن لهم غرضا صحيحا في ذلك، أو أنهم لا يقلعون عنه، فأراد إلزامهم الحجة بكمالها. انتهى بيضاوي. قيل:

إنه اغتسل، ولبس المسح، وصلى ركعتين، وطأطأ رأسه، وبكى، ثم دعا

الإعراب: {قالَ:} ماض. {عِيسَى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {اِبْنُ:} صفة عيسى، أو بدل منه، وهو مضاف، و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي.

{اللهُمَّ:} منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب بياء المحذوفة، والمعوض عنها الميم المشددة في الآخر. {رَبَّنا:} منادى مضاف محذوف منه حرف النداء، ونا: في محل جر بالإضافة. {أَنْزِلْ:} فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {عَلَيْنا:} متعلقان به.

{مائِدَةً:} مفعول به. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان ب: {مائِدَةً،} أو بمحذوف صفة له، وجوز تعليقهما بالفعل قبلهما. {تَكُونُ:} مضارع ناقص، واسمه مستتر تقديره:«هي» ، وقرئ:«(تكن)» بالجزم لوقوعه في جواب الطلب. {لَنا:} يجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف خبر {تَكُونُ،} ويكون {عِيداً} حالا من الضمير في الظرف، أو حالا من الضمير المستتر في:{تَكُونُ} على قول من ينصب عنها الحال، ويجوز أن يكون:{عِيداً} الخبر، وفي:{لَنا} على هذا؛ وجهان: أحدهما: أن تكون حالا من الضمير في تكون، والثاني أن تكون حالا من {عِيداً؛} لأنه صفة له قدمت عليه:{لِأَوَّلِنا} فإذا جعلت: {لَنا} خبرا، أو حالا من فاعل {تَكُونُ} فهو صفة ل:{عِيداً،} وإن جعلت: {لَنا} صفة ل: {عِيداً} كان: {لِأَوَّلِنا} بدلا من الضمير المجرور بإعادة الجار، أي: هما بدل من {لَنا} . انتهى عكبري. (آخرنا): معطوف على ما قبله، ونا: في محل جر بالإضافة. (آية): معطوف على {عِيداً} . {مِنْكَ:} متعلقان بمحذوف

ص: 233

صفة: (آية). (ارزقنا): فعل دعاء، وفاعله مستتر فيه، ونا: مفعوله الأول، وانظر تقدير الثاني في الشرح. وهذا؛ والجمل كلها في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَأَنْتَ:} الواو: واو الحال. (أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الرّازِقِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والجملة الاسمية:{وَأَنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير.

{قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)}

الشرح: {قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ} أي: إجابة لطلبكم. وقرئ بتشديد الزاي، وتخفيفها، وانظر القول في الآية رقم [2/ 26]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {عَذاباً:} انظر الآية رقم [37]{أَحَداً:} انظر الآية رقم [2/ 96] فإنه جيد. {مِنَ الْعالَمِينَ} أي: من عالم زمانهم، أو العالمين مطلقا، فإنهم مسخوا قردة وخنازير، ولم يعذب بمثل ذلك غيرهم، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. انتهى خازن. وانظر شرح:{الْعالَمِينَ} في سورة (الفاتحة).

تنبيه: روي: أن المائدة نزلت سفرة حمراء بين غمامتين، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى، عليه السلام، وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها مثلة، وعقوبة، ثم قام فتوضأ، وصلى، وبكى، ثم كشف الغطاء، وقال:

بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس، ولا شوك، تسيل دسما، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، فقال شمعون رئيس الحواريين: يا روح الله، أمن طعام الدنيا، أم من طعام الآخرة هذا، قال: ليس منهما، ولكن اخترعه الله بقدرته، كلوا ما سألتم، واشكروا يمدكم الله، ويزدكم من فضله.

فقالوا: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال: يا سمكة احيي بإذن الله، فاضطربت، ثم قال لها: عودي كما كنت، فعادت مشوية.

وروي: أنهم قالوا: يا روح الله كن أول من يأكل منها، فقال: معاذ الله أن آكل منها، إنما يأكل منها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا لها أهل الفاقة، والمرض، والبرص، والجذام، والمقعدين، فقال: كلوا من رزق الله، لكم الشفاء، ولغيركم البلاء، فأكلوا منها، وهم ألف وثلاثمائة رجل وامرأة، من فقير، ومريض، وزمن، ومبتلى، وصدروا عنها؛ وهم شباع، وإذا

ص: 234

السمكة بحالها حين أنزلت، ثم طارت المائدة صعودا، وهم ينظرون إليها حتى توارت، ولم يأكل منها مريض، أو زمن، أو مبتلى إلا عوفي، ولا فقير إلا استغنى، وندم من لم يأكل منها. وقيل:

مكثت أربعين صباحا تنزل ضحى، وكانت تنزل غبّا: يوما تنزل، ويوما لا تنزل، فأوحى الله إلى عيسى-عليه السلام: اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء، حتى شكوا وشككوا الناس فيها، فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثين رجلا، باتوا ليلتهم مع نسائهم على فرشهم، ثم أصبحوا خنازير يسعون في الطرق، يأكلون العذرة من الكناسات، والحشوش، فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السلام، وبكوا، ولما أبصرت الخنازير عيسى-عليه السلام بكت، وجعلت تطيف به، وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم، فيشيرون برءوسهم، ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا. انتهى بيضاوي، وخازن بتصرف.

عن عمار بن ياسر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت المائدة من السماء خبزا، ولحما، وأمروا ألا يخونوا، ولا يدخروا لغد، فخانوا، وادّخروا لغد، فمسخوا قردة، وخنازير» . أخرجه الترمذي. انتهى خازن.

الإعراب: {قالَ اللهُ:} فعل وفاعل. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها.

{مُنَزِّلُها:} خبر (إنّ)، وها: في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» . {عَلَيْكُمْ:} متعلقان باسم الفاعل، وجملة:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع على ما سبق. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَكْفُرْ:} فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {بَعْدُ:} ظرف زمان مبني على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {يَكْفُرْ،} و (من) بيان لما أبهم في (من). {فَإِنِّي:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أُعَذِّبُهُ:} مضارع، ومفعوله، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» .

{عَذاباً:} مفعول مطلق. {لا:} نافية. {أُعَذِّبُهُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والهاء في محل نصب مفعول مطلق؛ لأنها عائدة على المصدر. وقال أبو البقاء: وفيه على هذا أي: اعتبار الهاء عائدة على المصدر وجهان: أحدهما: أن يكون حذف حرف الجر، أي:

لا أعذب به أحدا، والثاني أن يكون مفعولا به على السعة، وانظر الشاهد رقم [923] من كتابنا:

«فتح القريب المجيب» فله شبه بالآية الكريمة. {أَحَداً:} مفعول به. {مِنَ الْعالَمِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة {أَحَداً،} وجملة: {لا أُعَذِّبُهُ..} . إلخ في محل نصب صفة {عَذاباً،} وجملة:

{أُعَذِّبُهُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، وجملة (إني

) إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو من مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [47] والجملة الاسمية:{فَمَنْ..} .

إلخ لا محل لها لأنها مفرعة عما قبلها.

ص: 235

{وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [2/ 26]{اللهُ:} انظر الاستعاذة {يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ:} انظر الآية رقم [3/ 42] و [3/ 45]. {قُلْتَ:} انظر إعلاله في الآية رقم [8]. {لِلنّاسِ:}

انظر الآية رقم [32]{دُونِ:} انظر الآية رقم [2/ 23] ورقم [7/ 2]. {سُبْحانَكَ:} ما أحراك أن تنظر في الآية رقم [2/ 32] ففيها الكفاية و [100] الأنعام {ما يَكُونُ لِي:} ما ينبغي وما يحق لي.

{بِحَقٍّ:} انظر الآية رقم [30]. {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ:} تعلم ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أجهر به، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك، وفي قوله:{نَفْسِكَ} مشاكلة، وانظرها في الآية رقم [30] الأنفال ورقم [9/ 68] وانظر شرح النفس في الآية رقم [2/ 9] و [7/ 9]{إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} انظر الآية رقم [109].

تنبيه: ما في الآية الكريمة من المحاورة إنما يكون يوم القيامة، ومضمونه توبيخ النصارى على اتخاذ عيسى وأمه إلهين، وتبكيت لهم بإقراره عليه الصلاة والسلام على رءوس الأشهاد بالعبودية، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل، وتبرئته مما نسب إليه، والتعبير بالماضي لما مر من الدلالة على تحقق الوقوع، كما في الآية رقم [113].

بعد هذا تأمل معي: أن الآيات رقم [114] إلى [119] قد تضمنت شيئا قد وقع في حياة عيسى عليه السلام، وقبل رفعه إلى السماء، لذا فإني أرى: أن مضمونها معترض معنى بين مضمون الآية رقم [113] وبين مضمون الآية رقم [119] وما بعدها، لذا فإن قول بعض المفسرين إن ما في الآية الكريمة معطوف على قوله تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ} لا وجه له، وإنما هو معطوف على الآية رقم [113] وما بينهما اعتراض معنى، وإعرابا.

تنبيه: انظر ما ذكرته في الآية رقم [4/ 171] وما ذكرته في الآية رقم [18] و [73] و [75] لتعرف تفسير النصارى لتأليه عيسى، وأمه، عليهما الصلاة والسّلام.

تنبيه: قال أبو روق: إذا سمع عيسى-عليه السلام-هذا الخطاب، وهو قوله:{أَأَنْتَ قُلْتَ..} . إلخ ارتعدت مفاصله، وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم، وقال مجيبا: سبحانك

إلخ. انتهى خازن. والله أعلم.

الإعراب: {وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ:} معطوف على مثله في الآية رقم [112] وهو مثله في إعرابه. {أَأَنْتَ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ لقوم عيسى كما رأيت (أنت): ضمير منفصل

ص: 236

مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {قُلْتَ:} فعل وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [3] والجملة الفعلية مع المقول الآتي في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية هذه في محل نصب مقول القول. {لِلنّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {اِتَّخِذُونِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول، {وَأُمِّي:} معطوف على ياء المتكلم منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {إِلهَيْنِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف صفة {إِلهَيْنِ} . وقيل: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، ولا وجه له، ولو قيل: متعلقان بالفعل نفسه لكان مقبولا، والجملة الفعلية:{اِتَّخِذُونِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، و {دُونِ:} مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (عيسى).

{سُبْحانَكَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، وانظر الآية رقم [2/ 32] و [100] (الأنعام) والجملة الفعلية المكونة من ذلك في محل نصب مقول القول. {ما:} نافية. {يَكُونُ:} مضارع ناقص.

{لِي:} متعلقان بمحذوف في محل نصب خبره تقدم على اسمه، والمصدر المؤول من {أَنْ أَقُولَ} في محل رفع اسمه المؤخر. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لَيْسَ:} ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى {ما}. {لِي:} متعقلان بمحذوف خبر {لَيْسَ} . {بِحَقٍّ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق {لِي} وجوز أبو البقاء اعتبار: {بِحَقٍّ} متعلقين بمحذوف خبر ليس، و {لِي} متعلقين بمحذوف حال من (حق)، كان صفة له فلما قدم عليه صار حالا، وقيل غير ذلك، ولا اعتبار له، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع اسم {لَيْسَ} إليها، وجملة:{ما يَكُونُ لِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ سُبْحانَكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {قُلْتُهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والهاء عبارة عن كلام كثير، والجملة الفعلية في محل نصب خبر كان، وجملة:{كُنْتُ قُلْتُهُ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجملة:{فَقَدْ عَلِمْتَهُ} في محل جزم عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها لأنها لم تحل محل المفرد، و {أَنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول. {تَعْلَمُ:} مضارع، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنت» .

{ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي نَفْسِي:} متعلقان بمحذوف صلة {ما،} أو بمحذوف صفتها. {وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله، وينبغي أن تعرف: أن علم، وتعلم، وأعلم بمعنى العرفان والمعرفة، فلذا اكتفى بمفعول واحد لهن، وانظر العلم، والمعرفة في الآية رقم [60](الأنفال). والكلام كله

ص: 237

من تتمة مقول عيسى، عليه السلام. {إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [109] وهو في المعنى تعليل، وفي الإعراب من مقول عيسى عليه السلام.

{ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}

الشرح: {ما قُلْتُ لَهُمْ..} . إلخ: هذا نفي لما فعله النصارى من تأليه عيسى عليه السلام، فهو يتبرأ منهم، ومما فعلوه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وإثبات لما أمرهم به من عبادة الله وحده لا شريك له. وانظر إعلال:{قُلْتُ} في الآية رقم [8] وشرح {رَبِّي} في الآية رقم [1] من سورة (الفاتحة). {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: رقيبا أمنعهم أن يقولوا ذلك أو يعتقدوه، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر، وإيمان، {فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي:} قبضتني بالرفع إلى السماء.

والتوفي: أخذ الشيء وافيا، أي كاملا، والموت نوع منه، قال تعالى:{اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} . وانظر ما ذكرته في الآية [3/ 55] فإنه جيد. {الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ:}

المراقب لأحوالهم وشئونهم، فتمنع من أردت عصمته من الكفر بالإرشاد إلى الدلائل، والتنبيه عليها بإرسال الرسل، وإنزال الآيات. {شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [19]. {شَهِيدٌ:} مطلع وعالم بقولي لهم، وقولهم بعدي، وما فعلوا من تغيير وتحريف وتزييف. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {ما:} نافية. {قُلْتُ:} فعل وفاعل. {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلاّ:}

حرف حصر لا محل له. {ما:} اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به وهي كناية عن كلام كثير. {أَمَرْتَنِي:} فعل وفاعل ومفعول به، والنون للوقاية.

{بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء. {أَنِ:} مفسرة. {اُعْبُدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {رَبِّي:} صفة الله أو بدل منه منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {وَرَبَّكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَنِ اعْبُدُوا..} . إلخ مفسرة لا محل لها عند الجمهور، وقال الشلوبين بحسب ما تفسره، هذا؛ وقد قال أبو البقاء: يجوز أن تكون: {أَنِ} مصدرية، والأمر صلة لها. وفي الموضع ثلاثة أوجه: الجر على البدل من الهاء في: {بِهِ} والرفع على إضمار هو، والنصب على إضمار أعني، أو بدلا من موضع به، ولا يجوز أن تكون بمعنى أي المفسرة؛ لأن القول قد صرح به و «أن» لا تكون مع التصريح بالقول. وقال البيضاوي قريبا من هذا الكلام، والجواب أن التفسير ليس ل {قُلْتُ} وإنما هو ل {أَمَرْتَنِي} وهو فيه معنى القول دون حروفه. {وَكُنْتُ:} ماض ناقص، والتاء اسمه.

ص: 238

{عَلَيْهِمْ:} متعلقان ب: {شَهِيداً} الذي هو خبر، وجملة:{وَكُنْتُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {ما قُلْتُ..} . إلخ لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع. {ما:} مصدرية والزمان معها محذوف، كما ستعرفه. {دُمْتُ:} ماض ناقص، والتاء اسمه. {فِيهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر دام، وما ودام في تأويل مصدر في محل جر بإضافة ظرف إليه محذوف، وهذا الظرف متعلق ب:{شَهِيداً،} وتقدير الكلام: (كنت شهيدا عليهم مدة دوامي فيهم). {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما) حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى حين عند الفارسي، وابن السراح وابن جني، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {تَوَفَّيْتَنِي:} فعل وفاعل ومفعول به، والنون للوقاية، والجملة لا محل لها على القول بحرفية (لما)، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على القول بظرفيتها. {كُنْتُ:} ماض ناقص، والتاء اسمها. {أَنْتَ:} ضمير فصل لا محل له، أو هو توكيد لاسم (كان)، {الرَّقِيبَ:} خبر كان، ويقرأ بالرفع، فيكون:{أَنْتَ} مبتدأ، والرقيب خبره، وعليه فالجملة اسمية، وهي في محل نصب خبر (كان). {عَلَيْهِمْ:}

متعلقان بالرقيب، وجملة:{كُنْتُ..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [19] والجملة الاسمية مستأنفة، وهي في المعنى معطوفة على خبر (كان)، وعند التأمل يظهر لك: أن الكلام كله من مقول عيسى عليه السلام، الذي يقوله يوم القيامة لله، عز وجل، وهو يعلن براءته مما ألصق فيه النصارى. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}

الشرح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ:} أي: إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك، ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه. {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ..}. إلخ: فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وثواب، فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم، فإن عذبت؛ فعدل، وإن غفرت؛ ففضل. انتهى بيضاوي.

وأحسن منه بل وأولى بالاعتبار ما نقله النسفي عن الزجاج-رحم الله الجميع برحمته الواسعة، ولا ينسانا من رحمته-قال الزجاج: علم عيسى-عليه السلام-أن منهم من آمن، ومنهم من أقام على الكفر، فقال في جملتهم: إن تعذبهم، أي إن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك الذين علمتهم جاحدين لآياتك، مكذبين لأنبيائك، وأنت العادل في ذلك، فإنهم قد كفروا بعد وجوب الحجة عليهم، وإن تغفر لهم، أي لمن أقلع منهم عن الكفر وآمن، فذلك تفضل منك، وأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك، عزيز قوي، قادر على الثواب،

ص: 239

حكيم لا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. انتهى بحروفه. وهذا الكلام في غاية الجودة؛ لأن الله لا يغفر الكفر قطعا، والنصوص كثيرة في ذلك.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تُعَذِّبْهُمْ:} فعل الشرط مجزوم، والفاعل تقديره:

«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، التقدير:(فلا اعتراض عليك)، والجملة الاسمية:{فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ،} تعليل لهذا النفي الذي رأيته، وإن ومدخولها من مقول عيسى، عليه السلام. {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ:} إعرابه مثل إعراب سابقه، وينبغي أن تعلم: أن المفعول محذوف، التقدير: ذنوبهم، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فذلك تفضل منك، وتكرم عليهم، والجملة الاسمية:{فَإِنَّكَ أَنْتَ..} . إلخ تعليل لهذا المحذوف. وانظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [116]. واعتبار الجواب محذوفا والجملتين الاسميتين تعليلا للمحذوف، هو الذي يؤيده المعنى وإن أوهم الظاهر خلاف ذلك.

{قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)}

الشرح: {قالَ:} انظر القول في الآية رقم [2/ 26] ورقم [7/ 4]{اللهُ:} انظر الاستعاذة.

{يَوْمُ:} انظر الآية رقم [2/ 48] ورقم [6/ 128] فإنه جيد. {الصّادِقِينَ:} الذي صدقوا ما عاهدوا الله عليه في الدنيا، والذين صدقوا في أقوالهم وأعمالهم. وهذا الكلام إنما يكون يوم القيامة كما قدمت سابقا، والتعبير ب:{قالَ} ذكرته في الآية رقم [113]. {جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ:} انظر الآية رقم [85]. {أَبَداً:} هو الزمان الطويل الذي ليس له حد، فإذا قلت:

لا أكلمك أبدا، فالأبد من وقت التكلم إلى آخر العمر، وهو هنا مفيد للتأبيد المفهوم من الخلود. {رضي الله عنهم:} بالسعي المشكور. {وَرَضُوا عَنْهُ:} بالجزاء الموفور. {ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ:} وصفه جل جلاله بالعظم؛ لأنه باق بخلاف الفوز في الدنيا فإنه غير باق، بل هو فان.

تنبيه: تكرر رضا الله عن عباده ورضا عباده، عنه في القرآن الكريم، ويجدر بي أن أقول:

إن رضا الله عن العبد موقوف على رضا العبد عن الله تعالى، فحوى هذا: أن العبد إذا رضي بكل شيء يصيبه في دنياه، من صحة أو مرض، أو غنى، أو فقر؛ فيكون راضيا عن الله تعالى، فالله يثيبه رضاه، أي رحمته، وعفوه، وجوده، وإحسانه، فعليه من أحب أن يعرف منزلته عند الله تعالى، فلينظر إلى منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد من نفسه، والدواء الشافي هو الرضا بقضاء الله وقدره في كل ما يصيب المؤمن في دنياه، وخذ جرعة من هذا الدواء على لسان سيد الأنبياء: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو

ص: 240

فوقكم، فهو أجدر ألاّ تزدروا نعمة الله عليكم». رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

وانظر ما ذكرته عن أبي زيد في الآية رقم [119](التوبة) تجد ما يسرك.

الإعراب: {قالَ اللهُ:} فعل وفاعل. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَوْمُ:} خبر المبتدأ مرفوع. {يَنْفَعُ:} مضارع.

{الصّادِقِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {صِدْقُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{يَوْمُ} إليها، هذا؛ وقد قرئ «(يوم)» بالفتح، قال البيضاوي: على أنه ظرف ل: {قالَ،} وخبر {هذا} محذوف، أو ظرف مستقر وقع خبرا، والمعنى: هذا الذي من كلام عيسى واقع يوم ينفع. وقيل: إنه خبر، ولكن بني على الفتح لإضافته إلى الفعل. وليس بصحيح؛ لأن المضاف إليه معرب، وقال بقول البيضاوي العكبري، وزاد جواز اعتبار:{هذا} مفعولا ل {قالَ،} وما قاله البيضاوي، والعكبري، واعتمداه إنما هو قول البصريين، وما ضعفاه إنما هو قول الكوفيين، وقد رجح ابن هشام في هذه المسألة قول الكوفيين، انظر الشاهد [916] وما قبله وما بعده من كتابنا:«فتح القريب المجيب» إعراب شواهد مغني اللبيب. ففيه الكفاية لكل ذي قلب لبيب، والجملة الاسمية:{هذا يَوْمُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية {قالَ اللهُ..}. إلخ مستأنفة لا محل لها. {لَهُمْ:}

متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {جَنّاتٌ:} مبتدأ مؤخر، وجملة:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} في محل رفع صفة {جَنّاتٌ،} {خالِدِينَ:} حال من الضمير المجرور محلاّ باللام منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. وفاعله ضمير مستتر فيه. {فِيها:} متعلقان ب: {خالِدِينَ} . {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بخالدين أيضا، والجملة الاسمية:{لَهُمْ جَنّاتٌ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وكذلك جملة:{رضي الله عنهم} مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَرَضُوا عَنْهُ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الْفَوْزُ:} خبره {الْعَظِيمُ:} صفة، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}

الشرح: {لِلّهِ:} انظر الاستعاذة. {السَّماواتِ:} جمع: سماء. انظر الآية رقم [6/ 1].

{شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [19]. فقد عظم الله نفسه في هذه الآية الكريمة، ونبه بها على كذب النصارى، وفساد دعواهم في المسيح وأمه، وبأنه تعالى مالك لكل ما في السموات والأرض، ومن جملته عيسى وأمه، وقد أدخلهما في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا، وهذا مفاد من التعبير ب:{ما} التي هي لغير العقلاء، دون (من) التي هي للعقلاء، فغلب سبحانه غير العقلاء على العقلاء لهذه الغاية، وانظر الآية رقم [79] وأيضا الآية رقم [3] من سورة (النساء).

ص: 241

الإعراب: {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على: {مُلْكُ} . {فِيهِنَّ:}

متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {وَهُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {عَلى كُلِّ:} متعلقان بقدير بعدهما، و {كُلِّ:}

مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

انتهى تفسير وإعراب سورة المائدة بمنه تعالى وكرمه، فأسأله تعالى أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى وأن يجعلنا من الفائزين بجنانه. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فائدة: حيث وقعت (ما) قبل (ليس) أو (لم) أو (لا) أو بعد (إلا) فهي موصولة، نحو {ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} (ما لم تعلم){ما لا تَعْلَمُونَ} {إِلاّ ما عَلَّمْتَنا} . وحيث وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدرية، وحيث وقعت بعد الباء، فإنها تحتملهما، نحو {بِما كانُوا يَظْلِمُونَ} وحيث وقعت بين فعلين، سبقهما علم، أو دراية، أو نظر احتملت الموصولة، والاستفهامية، نحو {ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} {وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وحيث وقعت في القرآن قبل إلا فهي نافية إلا في ثلاثة عشر موضعا:{ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ} {ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ} {وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ} {وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي} {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} إلا موضعين هما في قوله تعالى: {خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ} فهي فيهما مصدرية. {فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً} {يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ} {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ} {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ} حيث كان قاله في الإتقان انتهى. كرخي نقله الجمل.

أقول: اعتبار هذا ضابطا يجب اتباعه غير مسلم؛ لأن بعض الآيات التي ذكرها، واعتبر فيها {ما} موصولة فقط تحتمل الموصولة، والموصوفة، ولأن بعضها تحتمل فيه {ما} الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، والحق: أن مدار ذلك على المعنى، وهذا ما اتبعته فيما تقدم من الإعراب، ولا أتخلى عنه فيما يأتي. والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.

ص: 242