المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأعراف نزلت بمكة. روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٣

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الأعراف نزلت بمكة. روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله

‌سورة الأعراف

نزلت بمكة. روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وجابر بن زيد وقتادة. وروي عن ابن عباس أيضا: أنها مكية، إلا خمس آيات، أولها:

{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ} وبه قال قتادة، وقال مقاتل: ثماني آيات في سورة (الأعراف) مدنية، أولها:{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ.} . إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} . وهي مائتان وست آيات، وثلاثة آلاف، وثلاثمائة، وخمس وعشرون كلمة، وأربعة عشر ألف حرف، وعشرة أحرف.

انتهى خازن وانظر شرح الاستعاذة، والبسملة، وإعرابهما في أول سورة (الفاتحة).

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}

الشرح: {المص:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: أنا الله أفصل. وعنه: أنا الله أعلم، وأفصل، وعنه أيضا: أن {المص} قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله تعالى.

وقال قتادة: {المص} اسم من أسماء القرآن. وقال الحسن: هو اسم للسورة. وقال السدي: هو بعض اسمه تعالى: المصور. وقال أبو العالية: الألف: مفتاح اسم الله، واللام: مفتاح اسمه اللطيف، والميم: مفتاح اسمه مجيد، والصاد: مفتاح اسمه صادق، وصبور. وقيل: هي حروف مقطعة استأثر الله تعالى بعلمها، وهي سره في كتابه العزيز. وقيل: هي حروف اسمه الأعظم.

وقيل: هي حروف تحتوي معاني دل الله بها خلقه على مراده. وقد تقدم بسط الكلام على معاني الحروف المقطعة أوائل السور في أول سورة (البقرة) انتهى خازن بحروفه.

{كِتابٌ:} هو في اللغة: الضم، والجمع، وسميت الجماعة من الجيش: كتيبة لاجتماعهم، كما سمي الكاتب كاتبا؛ لأنه يضم الكلام بعضه إلى بعض، ويجمعه، ويرتبه. وفي الاصطلاح اسم لجملة مختصة من العلم، مشتملة على أبواب، وفصول، ومسائل غالبا، والمراد به هنا القرآن الكريم؛ الذي أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. {أُنْزِلَ إِلَيْكَ:} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ:} شك فيه، وسمي الشك حرجا؛ لأن الشاك ضيق الصدر حرجه، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أو المراد: ضيق الصدر من تبليغه مخافة أن تكذّب فيه، أو

ص: 448

تقصّر في القيام بحقه. وتوجيه النهي إليه للمبالغة. وانظر الآية رقم [6/ 125]. {لِتُنْذِرَ بِهِ} .

لتخوف به المشركين. والإنذار: التخويف من وقوع العقاب. {وَذِكْرى:} عظة، وتذكير للمؤمنين بك، فهو مصدر بمعنى التذكير، أو التذكر. هذا؛ والإيمان الصحيح هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان. ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، قال:«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشرّه من الله تعالى» . وانظر الآية رقم [2] من سورة (الأنفال) تجد ما يسرك.

الإعراب: {المص:} لقد تكلمت في أول سورة (البقرة) بالتفصيل عن إعراب هذه الحروف المقطعة، وأقول هنا: يجوز اعتبار هذا اللفظ مبتدأ، و {كِتابٌ:} خبره، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، أي: المدعو به {المص} كما يجوز اعتباره مفعولا به لفعل محذوف، التقدير: اقرأ {المص} . {كِتابٌ:} خبر: {المص} على اعتباره مبتدأ، وخبر لمبتدإ محذوف، أي: هو كتاب على الوجهين الآخرين في: {المص} . {أُنْزِلَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {كِتابٌ}. {إِلَيْكَ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل رفع صفة {كِتابٌ}. {فَلا} الفاء:

حرف عطف على قول من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام في مغنيه يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، فكأنه قيل: إذا أنزل إليك؛ فلا

إلخ. (لا): ناهية. {يَكُنْ:} مضارع ناقص مجزوم ب: (لا) الناهية. {فِي صَدْرِكَ:}

متعلقان بمحذوف خبر: {يَكُنْ} تقدم على اسمه، والكاف في محل جر بالإضافة. {حَرَجٌ:}

اسمها مؤخر. {مِنْهُ:} متعلقان بمحذوف صفة حرج، والجملة:{فَلا يَكُنْ..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء. {لِتُنْذِرَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أُنْزِلَ} وجوز تعليقهما بالفعل الناقص. (ذكرى): يجوز اعتباره مفعولا مطلقا لفعل محذوف، التقدير: ولتذكر ذكرى، ويحتمل أن يكون مجرورا بالعطف على محل {لِتُنْذِرَ} ويحتمل الرفع من وجهين: العطف على {كِتابٌ،} أو هو خبر لمبتدإ محذوف. {لِلْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان ب (ذكرى) لأنه مصدر.

{اِتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)}

الشرح: {اِتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: قل يا محمد لقومك: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، وهو يشمل القرآن الكريم، والسنّة النبوية، فإنها مما أنزل؛ لقوله تعالى:{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} أي: لا تتخذوا الذين يدعونكم إلى الكفر، والشرك أولياء، فتتبعوهم. والمعنى: ولا تتولوا من دونه شياطين الإنس، والجن،

ص: 449

فيأمروكم بعبادة الأصنام، واتباع البدع، والأهواء الفاسدة. والضمير يعود ل:{ما أُنْزِلَ،} {قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} أي: تذكرا قليلا، أو زمانا قليلا تذكرون؛ حيث تتركون دين الله، وتتبعون غيره.

{رَبِّكُمْ:} المراد به خالقكم، ورازقكم. هذا؛ والرب يطلق، ويراد به المالك، والسيد، ومنه قوله تعالى:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ} وقوله جل شأنه: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} كلتا الآيتين محكية عن قول يوسف، عليه السلام، كما يقال: رب الدار، ورب الأسرة، أي: مالكها، كما يراد به المربي، والمصالح، ويقال: ربّ فلان الضيعة يربها: إذا أصلحها، والله سبحانه وتعالى مالك العالمين، ومربيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا فشيئا، يجعل النطفة علقة، ثم يجعل العلقة مضغة، ثم يجعل المضغة عظما، ثم يكسو العظم لحما، يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه خلقا آخر، وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه، وينشيه؛ حتى يجعله رجلا. ولا يطلق الرب على غيره تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك. والرب: المعبود بحق، وهو المراد منها تعالى عند الإطلاق، ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى حكاية عن قول يوسف-عليه الصلاة والسلام-لصاحبي السجن:{أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السابقة، قال الشاعر:[الطويل]

هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم

وللآكلين التّمر مخمس مخمسا

وهو اسم فاعل، أصله: رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدغام أحد المثلين في الآخر.

(دون): من الدنو، وهو القرب، ومنه تدوين الكتب؛ لأنه إدناء، أي: تقريب البعض من البعض، ثم استعير للرتب، فيقال: زيد دون عمرو، أي: في الشرف، والسيادة. ثم اتسع فيه، فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد. هذا؛ ويأتي «دون» بمعنى قدام، قال الشاعر:[الطويل]

تريك القذى من دونها وهي دونه

إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق

هذا، ومثله:«أدنى» وألفه منقلبة عن واو؛ لأنه من: دنا يدنو: إذا قرب، وله معنيان:

أحدهما: أن يكون المعنى ما تقرب قيمته بخساسته، ويسهل تحصيله. والثاني أن يكون بمعنى القريب منكم لكونه في الدنيا، والذي هو خير ما كان من امتثال أمر الله؛ لأن نفعه متأخر إلى الآخرة، خذ قوله تعالى لليهود اللؤماء:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} . وقيل:

الألف مبدلة من همزة؛ لأنه مأخوذ من: دنؤ، يدنؤ، فهو دنيء، والمصدر: الدناءة، وهو من الشيء الخسيس، فأبدل الهمزة ألفا. وقيل: أصله: أدون، من الشيء الدون، فأخرت الواو، فانقلبت ألفا، فوزنه الآن: أفلع. انتهى. عكبري. {أَوْلِياءَ:} جمع: ولي، وهو الذي يتولى شئون غيره. هذا؛ والولي أيضا هو الذي يتحبب إلى الله بعبادته، وطاعته. هذا؛ ويأتي الولي بمعنى المعين، والمساعد، والنصير. والفرق بين الولي وبين ما ذكر: أن الولي قد يضعف عن النصرة، والمعاونة، والنصير قد يكون أجنبيّا عن المنصور، والمعان، والمساعد، فبينهما عموم وخصوص من وجه. هذا؛ ويقرأ «تذكرون» بالتاء، والياء.

ص: 450

الإعراب: {اِتَّبِعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف هي الألف الفارقة بين واو العلة، وواو الضمير. وانظر إعراب:

{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] الآتية. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {أُنْزِلَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{ما،} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها. {إِلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، و {مِنْ} بيان لما أبهم في:{ما} وجملة: {اِتَّبِعُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (لا): ناهية جازمة. {تَتَّبِعُوا:}

مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:

{أَوْلِياءَ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة

إلخ، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَوْلِياءَ:} مفعول به، وجملة:{وَلا تَتَّبِعُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} لقد ذكر ابن هشام في مغني اللبيب في هذه الجملة، وأمثالها إعرابا، فأنا أنقله لك باختصار فقال-رحمه الله تعالى-:{ما:} محتملة لثلاثة أوجه:

أحدها: الزيادة، فتكون لمجرد تقوية الكلام، فتكون حرفا باتفاق، و {قَلِيلاً} في معنى النفي، وإما لإفادة التقليل مثلها في (أكلت أكلا ما) وعلى هذا فيكون تقليلا بعد تقليل.

الوجه الثاني: النفي، و {قَلِيلاً} نعت لمصدر محذوف، أو لظرف محذوف، أي: تذكرا قليلا، أو زمنا قليلا.

الثالث: أن تكون مصدرية، وهي وصلتها فاعل ب:{قَلِيلاً،} و {قَلِيلاً} حال معمول لمحذوف دل عليه المعنى، أي:«تذكروا، فأخروا قليلا تذكرهم» . أجازه ابن الحاجب، ورجح معناه على غيره. انتهى بتصرف كبير، ولم يذكر إعراب:{قَلِيلاً} على الوجه الأول. وذكر سليمان الجمل الوجه الأول، واعتبر:{قَلِيلاً} نعتا لمصدر محذوف، مثل اعتباره في الوجه الثاني. وذكر أبو البقاء الثاني، وقال: التقدير: فما يتذكرون قليلا، ولا كثيرا، وجملة:{قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} تعليلية لا محل لها من الإعراب. وهذا الإعراب مأخوذ من إعراب ابن هشام لقوله تعالى: {فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ} وهي الآية رقم [88] من سورة (البقرة).

{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)}

الشرح: {قَرْيَةٍ:} انظر الآية رقم [123](الأنعام). {أَهْلَكْناها:} أهلكنا أهلها، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. {فَجاءَها:} فجاء أهلها. وهذا الفعل يستعمل لازما إن كان بمعنى: حضر، وأقبل، ومتعديا إن كان بمعنى: وصل، وبلغ. فمن الأول قوله تعالى:{إِذا جاءَ}

ص: 451

{نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} . ومن الثاني الآية الكريمة. ومثلها كثير. {بَأْسُنا:} عذابنا، أو هو أشد العذاب. {بَياتاً} أي: في الليل كقوم لوط. {أَوْ هُمْ قائِلُونَ:} كقوم شعيب أتاهم العذاب وقت القيلولة، وهي استراحة وسط النهار. هذا؛ وتخصيص هاتين الحالتين بالعذاب؛ لأن نزول المكروه عند الغفلة أفظع، وحكايته للسامعين أزجر، وأروع عن الاغترار بأسباب الأمن، والراحة انتهى جمل نقلا من كرخي. وقال البيضاوي: وفي التعبيرين مبالغة في غفلتهم، وأمنهم من العذاب، ولذلك خص الوقتين، ولأنهما وقت دعة واستراحة، فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع.

وقال الخازن: لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإنذار، والإبلاغ، وأمر أمته باتباع ما أنزله إليهم؛ حذرهم نقمته، وبأسه إن لم يتبعوا ما أمروا به، فذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة، والإعراض عن أمره من الوعيد. انتهى.

الإعراب: {وَكَمْ:} الواو: حرف استئناف. (كم): خبرية بمعنى: «كثير» مبنية على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، يفسره ما بعده، ويقدر مؤخرا، التقدير: وكم من قرية أهلكنا أهلكناها؛ لأنها لها صدر الكلام، أو هي في محل رفع مبتدأ. {مِنْ:} حرف جر صلة.

{قَرْيَةٍ:} تمييز (كم) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {أَهْلَكْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به. وانظر الآية التالية.

والجملة الفعلية مفسرة لا محل لها على الوجه الأول في (كم)، وفي محل رفع خبرها على الوجه الثاني فيها. {فَجاءَها:} الفاء: حرف عطف. (جاءها): ماض، و (ها): مفعول به.

{بَأْسُنا:} فاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، ولا يصح معنى العطف إلا بتقدير: أردنا إهلاك أهلها فجاءها

إلخ. {بَياتاً:} هو مصدر في موضع الحال، والمعنى: مبيتين. وقيل: هو مفعول لأجله. وقيل: هو ظرف زمان، والأول أقوى لعطف الجملة الاسمية عليه. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {قائِلُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر

إلخ. والجملة الاسمية معطوفة على بياتا، فهي في محل نصب حال مثلها.

{فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاّ أَنْ قالُوا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ (5)}

الشرح: {دَعْواهُمْ:} دعاؤهم، واستغاثتهم. أو: قولهم بمعنى: اعترافهم بجنايتهم.

{جاءَهُمْ:} انظر الآية السابقة. {بَأْسُنا:} عذابنا، والمراد به نزوله بهم في الدنيا. وانظر الآية رقم [143] (الأنعام). {قالُوا:} القول يطلق على خمسة معان: أحدها: اللفظ الدال على معنى.

الثاني: حديث النفس، ومنه قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ} . الثالث: الحركة، والإمالة، يقال: قالت النخلة، أي: مالت. الرابع: ما يشهد به الحال، كما في قوله تعالى:

ص: 452

{قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} . الخامس: الاعتقاد، كما تقول: هذا قول المعتزلة، وهذه مقالة الأشاعرة.

أي: ما يعتقدونه. وانظر الكلام في الآية رقم [144]. {كُنّا:} انظر إعلال مثله في الآية رقم [11]. {ظالِمِينَ:} انظر الآية رقم [146] الأنعام، وقولهم:{إِنّا كُنّا ظالِمِينَ} اعتراف منهم حين وقوع العذاب بكونهم ظالمين، وذلك حين لا ينفع الاعتراف، ومفاد هذا التحسر على شيء مضى، والطمع في الخلاص، وانظر (نا) في الآية رقم [7] الآتية.

الإعراب: {فَما:} الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} ماض ناقص. {دَعْواهُمْ:}

اسم كان مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {دَعْواهُمْ} . {جاءَهُمْ:} ماض، والهاء مفعول به. {بَأْسُنا:} فاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:}

حرف مصدري، ونصب. {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق، هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول: فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة الواو، ويقال اختصارا: فعل، وفاعل، وأن المصدرية، والفعل {قالُوا} في تأويل مصدر في محل نصب خبر {كانَ} . هذا؛ ويجوز أن يكون اسمها مؤخرا، و {دَعْواهُمْ} خبرها مقدما. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها، وحذفت النون للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): ضمير متصل في محل رفع اسمه. {ظالِمِينَ:} خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم

إلخ، وجملة:{كُنّا ظالِمِينَ} في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:

{فَما كانَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)}

الشرح: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي: نسأل الأمم الذين أرسلت إليهم الرسل: ماذا أجبتم، وعملتم فيما جاءتكم به الرسل؟ {وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} أي: ولنسألن الرسل الذين أرسلناهم إلى الأمم: هل بلغتم رسالاتنا، أم قصرتم؟ وفائدة هذا السؤال مع اعترافهم في الآية الأولى على أنفسهم بذلك التقريع، والتوبيخ للكفار، وفائدة سؤال الرسل مع كونهم قد بلغوا ما كلفوا به تكون عند إنكار الكفار تبليغ الرسالة من الرسل، فيكون ذلك مزيدا من التقريع، والتوبيخ لهم. انتهى خازن بتصرف كبير.

ص: 453

وقال البيضاوي: والمنفي في قوله تعالى: {وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} سؤال الاستعلام، أو الأول في موقف الحساب، وهذا عند نزول العقاب. هذا؛ وانظر (نا) في الآية التالية، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَلَنَسْئَلَنَّ:} الفاء: حرف استئناف. اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله. (نسألن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» . {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {أُرْسِلَ:} ماض مبني للمجهول. {إِلَيْهِمْ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب الفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد الضمير المجرور محلاّ ب:(إلى) والجملة الفعلية: (لنسألن

) إلخ جواب القسم المحذوف المقدر، والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محل له. بعد هذا ينبغي أن تعلم أن الفعلين:

(نسأل، نرسل) ينصبان مفعولين، وقد حذف المفعول الثاني لكل منهما، انظر تقديره في الشرح؛ تجده جملة فعلية. {وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ:} إعراب هذه كسابقتها، وهي معطوفة عليها.

{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنّا غائِبِينَ (7)}

الشرح: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ:} فلنخبرن الرسل، ومن أرسلوا إليهم بعلم، ويقين بما عملوا في الدنيا. {وَما كُنّا غائِبِينَ} يعني: عنهم، وعن أفعالهم، وعن الرسل فيما بلغوا، وعن الأمم فيما أجابوا. وفائدة سؤال الأمم والرسل-مع علمه سبحانه وتعالى بجميع المعلومات-التقريع، والتوبيخ للكفار؛ لأنهم إذا أقروا على أنفسهم؛ كان أبلغ في المقصود، فأما سؤال الاسترشاد، والاستثبات؛ فهو منفي عن الله تعالى؛ لأنه عالم بجميع الأشياء قبل كونها، وفي حال كونها، وبعد كونها، فهو العالم بالكليات، والجزئيات، وعلمه بظاهر الأشياء كعلمه بباطنها. انتهى خازن بحروفه.

تنبيه: قال ابن تيمية-رحمه الله تعالى-في كتابه: (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح):

وقوله تعالى: (كتبنا، جعلنا، إنا، نحن نقص، نسأل) لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء، وأمثال، وعلى الواحد المطاع العظيم، الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكن له شركاء، ولا نظراء، والله تعالى خلق كل ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك، أو مثل، والملائكة وسائر العالمين جنوده، فإذا كان الواحد من الملوك يقول: إنا ونحن، وكتبنا وفعلنا

إلخ، ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك، فمالك الملك رب العالمين، ورب كل شيء، ومليكه هو أحق بأن يقول: إنا، ونحن

إلخ مع أنه ليس له شريك، ولا مثل، بل له جنود السموات، والأرض انتهى.

أقول: و (نا): تسمى نون العظمة، وليست دالة على الجماعة، فالله تعالى لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكثيرا ما يتكلم بها العبد، فيقول: أخذنا، وأعطينا

إلخ وليس معه أحد، وهذا واقع، ومستعمل.

ص: 454

الإعراب: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ:} انظر الآية السابقة، ففيها الكفاية. {بِعِلْمٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر. (ما): نافية. {كُنّا غائِبِينَ:} انظر إعراب: {كُنّا ظالِمِينَ} في الآية رقم [5]. والجملة الفعلية تحتمل العطف على ما قبلها، وتحتمل الحالية من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)}

الشرح: {يَوْمَئِذٍ} أي: يوم سؤال الرسل، والأمم، وهو يوم القيامة. {الْحَقُّ:} العدل.

وانظر الآية رقم [33] الآتية. هذا؛ وتنوين (إذ) عوض عن جملة محذوفة، تضاف (إذ) إليها في الأصل، فإن الأصل:«يوم إذ يسألون» . فحذفت الجملة الفعلية، وعوض عنها التنوين، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين، كما كسرت الهاء في (صه ومه) عند تنوينهما، ومثل ذلك قل في «حينئذ» ونحوه. هذا؛ والمراد ب:(الوزن) القضاء، أو وزن الأعمال، وهو مقابلتها بالجزاء. والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان، له لسان، وكفتان، ينظر إليه الخلائق، إظهارا للمعدلة، وقطعا للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم، وتشهد بها جوارحهم انتهى بيضاوي. وانظر:«تنبيه» في الآية رقم [130](الأنعام) فإنه جيد. والحكمة من وزن الأعمال مع علم الله بمقاديرها تتجلى فيما يلي: منها: إظهار العدل الإلهي، وأن الله لا يظلم مثقال ذرة. ومنها:

امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وإقامة الحجة عليهم في العقبى. ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة، ومنها: إظهار علامة السعادة والشقاوة. انتهى خازن. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ} أي: رجحت حسناته على سيئاته، وموازين جمع ميزان، وأصله موازن، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، ومثله: ميعاد وميثاق وميراث وميقات. {الْمُفْلِحُونَ:} الفائزون، الناجون من عذاب النار؛ لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه، والفوز بكل محبوب، وأصله: المؤفلحون، انظر الآية رقم [121](الأنعام) ففيها الكفاية، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: (الوزن): مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، وانظر ما ذكرته في الشرح. {الْحَقُّ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه نعت للوزن، أي الوزن الحق كائن في ذلك اليوم. والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه جواب سؤال مقدر، من قائل يقول: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحق لا الباطل. والثالث: أنه بدل من الضمير المستكن في الظرف. وهو غريب، ذكره مكي. هذا؛ وجوز اعتباره خبرا للمبتدإ، وفي:{يَوْمَئِذٍ} على هذا؛ وجهان:

أحدهما: أنه منصوب على الظرف، ناصبه (الوزن) أي: يقع الوزن ذلك اليوم. والثاني أنه مفعول به على السعة. وهذا الثاني ضعيف جدّا لا حاجة إليه. انتهى جمل نقلا عن السمين. {فَمَنْ:}

ص: 455

الفاء: حرف عطف، وتفريع. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{ثَقُلَتْ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والتاء للتأنيث حرف لا محل له.

{مَوازِينُهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُمُ:} ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ ثان. {الْمُفْلِحُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:(أولئك) هذا؛ وإن اعتبرت {هُمُ} ضمير فصل لا محل له؛ فيكون: {الْمُفْلِحُونَ} خبر (أولئك) وعلى الوجهين فالجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب.

وقيل: هو الجملتان. وهو المرجح لدى المعاصرين. بعد هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية:{فَأُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبره، وزيدت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. وعلى كل فالجملة الاسمية مفرعة، ومعطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع.

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)}

الشرح: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ} أي: رجحت سيئاته على حسناته. هذا؛ وقد ذكر الله في الآية السابقة السعداء الذين غلبت حسناتهم على سيئاتهم، وذكر في هذه الآية الأشقياء الذين غلبت سيئاتهم على حسناتهم، وبقي صنف ثالث، وهم: من تساوت حسناتهم، وسيئاتهم، وهم أصحاب الأعراف الذين ذكرهم الله في الآية رقم [46] من هذه السورة. {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي:

ضيعوها، وحرموها من جزيل ثواب الله تعالى، وكرامته. {بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ} أي: سبب ذلك الخسران: أنهم كانوا بحجج الله، وأدلة توحيده يجحدون، ولا يقرون بها.

روي عن أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-أنه حين حضره الموت قال في وصيته لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. انتهى خازن.

هذا؛ و (الآيات) جمع: آية، وهي تطلق على معان كثيرة، منها: الدلالة، ومنه قوله تعالى:

{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وتطلق على المعجزة، مثل انشقاق القمر، ونحوه، وتطلق على

ص: 456

الموعظة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} كما تطلق على جملتين، أو أكثر من كلام الله تعالى. {يَظْلِمُونَ:} يجحدون آيات الله، وينكرونها. وانظر الظلم بمعناه الأصلي في الآية رقم [146] من سورة (الأنعام).

{أَنْفُسَهُمْ:} جمع: نفس، وهو جمع قلة، وجمع الكثرة: نفوس، والنفس تؤنث باعتبار الروح، وتذكر باعتبار الشخص، أي: فإنها تطلق على الذات أيضا، سواء أكان ذكرا، أم أنثى.

فعلى الأول قيل: إنها جسم لطيف مشتبك بالجسم اشتباك الماء بالعود الرطب، فتكون سارية في جميع البدن. وقال الجنيد-رحمه الله تعالى-الروح: شيء استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يجوز البحث عنه بأكثر من أنه موجود، قال تعالى في سورة (الإسراء):

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} .

وقال بعضهم: إن هناك لطيفة ربانية، لا يعلمها إلا الله تعالى، فمن حيث تفكرها تسمى عقلا، ومن حيث حياة الجسد بها تسمى روحا، ومن حيث شهوتها تسمى نفسا، فالثلاثة متحدة بالذات مختلفة بالاعتبار.

هذا؛ وقد ذكر القرآن الكريم: أن النفس خمس مراتب: الأمارة بالسوء، واللوامة، والمطمئنة، والراضية، والمرضية، فالنفس الأمارة هي التي تأمر صاحبها بالسوء، ولا تأمر بالخير، إلا نادرا، وهي مقهورة، ومحكومة للشهوات. وإن سكنت لأداء الواجبات الإلهية، وأذعنت لاتباع الحق، لكن بقي فيها ميل للشهوات؛ سميت لوامة. وإن زال هذا الميل، وقويت على معارضة الشهوات، وزاد ميلها إلى عالم القدس، وتلقت الإلهامات؛ سميت ملهمة. فإن سكن اضطرابها، ولم يبق للنفس الشهوانية حكم أصلا؛ سميت مطمئنة. فإن ترقت من هذا، وأسقطت المقامات من عينها، وفنيت عن جميع مراداتها سميت راضية. فإن زاد هذا الحال عليها؛ صارت مرضية عند الحق، وعند الخلق، فإن أمرت بالرجوع إلى العباد لإرشادهم وتكميلهم سميت كاملة. فالنفس سبع طبقات، ولها سبع درجات، كما ذكرت وقدمت، وانظر (نا) في الآية رقم [7].

الإعراب: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ..} . إلخ: انظر إعراب هذا الكلام في الآية السابقة.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ. {خَسِرُوا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5]. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة {بِما} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِآياتِنا:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {يَظْلِمُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{خَسِرُوا،} والجملة الفعلية هذه صلة الموصول لا محل لها وتقدير الكلام: «خسروا أنفسهم بسبب ظلمهم وجحودهم لآيات الله تعالى» تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

ص: 457

{وَلَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)}

الشرح: {مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ:} قال الجلال: الخطاب لبني آدم. وقال الخازن: للناس، وقال الجمل: لأهل مكة، والكل محتمل هنا، ولكن الأخير أليق بالمقام. والتمكين: التمليك.

قال البيضاوي: أي: مكناكم من سكناها، وزرعها، والتصرف فيها. {وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ:}

أسبابا تعيشون فيها، وقرئ شاذّا:«(معائش)» كصحائف، وهو ليس مثله؛ لأن المد في:«صحيفة» زائد، وفي:«معيشة» أصلي؛ لأن أصلها: معيشة، كمكرمة، أو: معيشه، كمنزلة، أو: معيشة، كمتربة، فالياء أصلية على كل حال. هذا؛ والمعيش، والمعيشة: مكسب الإنسان الذي يعيش به. وفي القاموس: العيش الحياة، والعيش أيضا: الطعام، وما يعاش به. انتهى جمل بتصرف كبير. هذا؛ وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} فهو تأكيد لقلة الشكر، الذي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله. هذا؛ و «شكر» يتعدى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرته، وشكرت له، كما تقول: نصحته، ونصحت له.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب هذا القسم. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {مَكَّنّاكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {فِي الْأَرْضِ} متعلقان بالفعل قبلهما. (جعلنا): فعل ماض مبني على السكون لاتصاله ب: (نا)، التي هي ضمير متصل في محل رفع فاعل. هذا الإعراب هو المتعارف عليه في مثل هذا، والإعراب الأصلي أن تقول: مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالسكون العارض كراهة توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة. وقل مثله في إعراب: جعلت، وجعلن. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فِيها:} متعلقان ب {مَعايِشَ،} أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . وهذا أولى من التعليق بالفعل. {مَعايِشَ:} مفعول به ثان، والمفعول الأول:{لَكُمْ} والجملة الفعلية: {وَجَعَلْنا..} . إلخ معطوفة على الجملة قبلها لا محل لها مثلها. {قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ:} انظر الآية رقم [3] لإعراب هذه الجملة، ومحلها، ففيها الكفاية.

{وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ (11)}

الشرح: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ} أي: خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه.

نزّل خلقه، وتصويره منزلة خلق الكل، وتصويره. انتهى بيضاوي. وقال أبو السعود: وإنما نسب

ص: 458

الخلق، والتصوير إلى المخاطبين مع أن المراد خلق آدم، وتصويره، إعطاء لمقام الامتنان حقه، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم بالرمز إلى أن لهم حظّا من خلقه، وتصويره؛ لأنهما، من الأمور السارية إلى ذريته جميعا. وقال القاري: نزل خلقه، وتصويره منزلة خلق الكل، وتصويرهم؛ لأنه أبو البشر. انتهى جمل. وقال بعضهم: المخاطب بنو آدم، والمراد بهم أبوهم، وهذا من باب الخطاب لشخص، والمراد به غيره، كقوله تعالى:{وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ..} . إلخ وإنما المنجي، والذي كان يسام سوء العذاب أسلافهم، وهذا مستفيض في لسانهم. انتهى جمل.

وانظر (نا) في الآية رقم [7].

{ثُمَّ:} حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهملة، وفي كل منها خلاف مذكور في مغني اللبيب، وقد تلحقها تاء التأنيث الساكنة، كما تلحق (رب) و (لا) العاملة عمل «ليس» فيقال: ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهن بالفتح.

هذا؛ و «ثم» هذه غير «ثمّ» بفتح الثاء، فإنها اسم يشار به إلى المكان البعيد، نحو قوله تعالى:

{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وهي ظرف لا يتصرف، ولا يتقدمه حرف التنبيه، ولا يتصل به الكاف، وقد يتصل به التاء المربوطة، فيقال: ثمّة. {قُلْنا:} أصله: قولنا، فقل في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان: الألف، واللام، فحذفت الألف، فصار (قلنا) بفتح القاف، ثم أبدلت الفتحة ضمة لتدل على الواو المحذوفة، فصار:{قُلْنا} . وهناك إعلال آخر، وهو أن تقول، أصل الفعل: قول، فلما اتصل به ضمير رفع متحرك، نقل إلى باب: فعل، فصار:(قولت) ثم نقلت حركة الواو إلى القاف قبلها، فصار:(قولت) فالتقى ساكنان: العين المعتلة، ولام الفعل، فحذفت العين، وهي الواو لالتقائهما ساكنين، فصار:(قلت) وهكذا قل في إعلال كل فعل أجوف واوي مسند إلى ضمير رفع متحرك، مثل:«كان» و «قام» وغيرهما.

{لِلْمَلائِكَةِ:} الملائكة: أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا ينامون، ولا يموتون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لا يوصفون بذكورة، ولا بأنوثة، لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ويقومون بأعمال مختلفة، كلّ فيما وكل إليه من أعمال، ورؤساؤهم عشرة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل وعزرائيل، ورقيب، وعتيد، ومنكر ونكير، ورضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار.

{لِآدَمَ:} اسم علم أعجمي، مشتق من الأدمة، بمعنى: الأسوة، أو من أديم الأرض، أي: من وجهها، وترابها، أو من الأدمة بمعنى: الألفة، وأصله: أأدم بهمزتين، قلبت الثانية مدّا مجانسا لحركة الأولى، كما قلبت في:«إيمان» فإن أصله: إئمان، وكما قلبت في «أومن» فإن أصله: أأمن.

{إِبْلِيسَ:} اسم مأخوذ من: أبلس، يبلس إبلاسا، بمعنى: سكت غمّا، وأيس من رحمة الله وخاب، وخسر. وهو من الملائكة. كذا قال علي، وابن عباس، وابن مسعود، رضي الله عنهم

ص: 459

أجمعين، ولأن الأصل في الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه، وقوله تعالى:{كانَ مِنَ الْجِنِّ} أي: صار من الجن، كقوله تعالى:{فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} أي: صار من المغرقين. وقيل:

الاستثناء منقطع؛ لأنه لم يكن من الملائكة، بل كان من الجن بالنص. وهو قول الحسن، وقتادة، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأنه أبى، وعصى، واستكبر، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ولا يستكبرون عن عبادته، ولأنه قال تعالى:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي} ولا نسل للملائكة. وعن الجاحظ: إن الجن، والملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم؛ فهو ملك، ومن خبث منهم؛ فهو شيطان، ومن كان بين بين؛ فهو جني.

هذا؛ والسجود في الأصل: تذلل مع تطامن، وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة. والمأمور به إما المعنى الشرعي، فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة سجودهم، تعظيما لشأنه، أو سببا لوجوبه، كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة، والصلاة لله، فمعنى:«اسجدوا له» أي: إليه، وأما المعنى اللغوي، وهو التواضع لآدم تحية، وتعظيما له، كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى:{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} فلم يكن فيه وضع الجبهة على الأرض، إنما كان بالانحناء، فلما جاء الإسلام؛ أبطل ذلك بالسلام.

الإعراب: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ:} انظر إعراب مثله في الآية السابقة. {ثُمَّ:} حرف عطف.

{صَوَّرْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {لِلْمَلائِكَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {اُسْجُدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. هذا الإعراب هو المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول: مبني على السكون المقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة الواو. ويقال: منع من ظهوره إرادة التخلص من التقاء الساكنين، وحرك بالضمة لمناسبة واو الجماعة. وقل مثله في قولك:(احفظا واسجدا) والمانع من ظهور السكون الفتح الذي جيء به لمناسبة ألف الاثنين، وأيضا قولك (احفظي، واسجدي) والمانع من ظهور السكون الكسر الذي جيء به لمناسبة ياء المؤنثة المخاطبة. {لِآدَمَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة:{اُسْجُدُوا لِآدَمَ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فَسَجَدُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5]. {إِلاّ:}

أداة استثناء. {إِبْلِيسَ:} مستثنى، وهل هو متصل، أو منقطع فيه خلاف، كما رأيت في الشرح.

{لَمْ:} حرف نفي وقلب وجزم. {يَكُنْ:} مضارع ناقص مجزوم ب: {لَمْ،} واسمه ضمير مستتر تقديره: «هو» . {مِنَ السّاجِدِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر {يَكُنْ،} والجملة الفعلية: {لَمْ يَكُنْ..} .

ص: 460

إلخ مستأنفة لا محل لها؛ لأنها جواب سؤال مقدر. انتهى. جمل، وقال أبو البقاء: هي في محل نصب حال من: {إِبْلِيسَ} وعليه: فالرابط الواو، ورجوع الضمير عليه.

{قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)}

الشرح: {قالَ:} القائل هو الله تعالى. {ما مَنَعَكَ..} . إلخ: أي: أي شيء منعك من السجود في الوقت الذي أمرتك به. {قالَ} أي: إبليس. وانظر «القول» في الآية رقم [5]. {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ:} وهي جوهر نوراني. {وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} أي: وهو جسم كثيف ظلماني، وقد أخطأ الخبيث، بل الطين أفضل لرزانته، ووقاره، ومنه الحلم، والحياء، والصبر، وذلك داع إلى التوبة، والاستغفار. وفي النار الطيش، والحدة، والترفع، وذلك داع إلى الاستكبار.

والتراب عدة الممالك، والنار عدة المهالك، والنار مظنّة الخيانة والإفناء، والتراب مئنة الأمانة، والإنماء، والطين يطفئ النار، ويتلفها، والنار لا تتلفه، وهذه فضائل غفل عنها إبليس، حتى زل بفاسد من المقاييس. انتهى نسفي.

تنبيه: قال الله تعالى هنا: {ما مَنَعَكَ} وفي سورة (الحجر): {قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ} وفي سورة (ص): {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} واختلاف العبارات عند الحكاية يدل على أن اللعين قد أدرج في معصية واحدة ثلاث معاص: مخالفة الأمر، ومفارقة الجماعة، والاستكبار مع تحقير آدم، وقد وبخ على كلّ منها، لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة (البقرة)، و (الإسراء)، و (الكهف)، و (طه). انتهى نقلا من أبي السعود.

{خَيْرٌ:} أفعل تفضيل، أصله: أخير، نقلت حركة الياء للخاء؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثم حذفت الهمزة استغناء عنها بحركة الخاء. ومثله قل في: حبّ وشرّ اسمي تفضيل؛ إذ أصلهما: أحبب، وأشرر، فنقلت حركة الباء الأولى، والراء الأولى إلى ما قبلهما، ثم أدغم الحرفان المتماثلان في بعضهما، ثم حذفت الهمزة من أولهما استغناء عنها بحركة الخاء، والشين. وقد يستعمل خير وشر على الأصل، كقراءة بعضهم قوله تعالى:

{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّابُ الْأَشِرُ} بفتح الشين، ونحو قول رؤبة بن العجاج:[الرجز]

يا قاسم الخيرات وابن الأخير

ما ساسنا مثلك من مؤمّر

وخير، وشر، وحب يستعملن بصيغة واحدة للمذكر، والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والجمع؛ لأنها بمعنى أفعل، كما رأيت. {نارٍ:} أصله نور، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وهي من المؤنث المجازي، وقد تذكر، وتصغيرها: نويرة، والجمع: أنور،

ص: 461

ونيران، ونيرة، ويكنى بها عن جهنم التي سيعذب الله بها الكافرين، والفاسقين، والفعل: نار، ينور، ويستعمل لازما، ومتعديا إذا بدئ بهمزة التعدية، كما في قولك: أنارت الشمس الكون.

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مَنَعَكَ:} ماض، والكاف مفعول به، والفاعل مستتر تقديره هو يعود إلى:

{ما،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ما مَنَعَكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَلاّ} . (أن): حرف مصدري، ونصب، و (لا) صلة لتأكيد معنى النفي، بدليل حذفها في سورة (ص). {تَسْجُدَ:}

مضارع منصوب ب (أن)، والمتعلق محذوف، التقدير: لآدم، و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: من السجود، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني، أو المصدر مفعول ثان صريح. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {أَمَرْتُكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره:(به) لأن الغالب فيه أن يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف الجر، وانظر إعراب:(جعلنا) في الآية رقم [10] فهو مثله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى:{إِبْلِيسَ} . {أَنَا:} ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره. {مِنْهُ:} متعلقان به؛ لأنه أفعل تفضيل، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{خَلَقْتَنِي:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والنون للوقاية. {مِنْ نارٍ:} متعلقان به، أو هما متعلقان بمحذوف حال من ياء المتكلم، أي كائنا من نار، والجملة الفعلية:{خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ} تعليل للخيرية، أو تفسير لها، وجملة:{وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} معطوفة عليها، وإعرابها كإعرابها.

{قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ (13)}

الشرح: {فَاهْبِطْ مِنْها} أي: من الجنة، أو من السماء. هذا؛ والهبوط: الإنزال، والانحدار من فوق إلى أسفل على سبيل القهر، والهوان، والاستخفاف. {فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها:}

فلا يصح، ولا يجوز أن تسكن في السماء، أو في الجنة، وأنت متكبر، مخالف لأمر الله؛ لأنها مكان الخاشع، والمطيع. وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة، وأن الله طرده من الجنة، وأهبطه، منها لتكبره لا لمجرد عصيانه، علما بأن الأرض يسكنها المتكبرون، والمتجبرون من كفار، وفساق، وغيرهم. {فَاخْرُجْ:} تأكيد للأمر بالهبوط. {إِنَّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ:} الذليلين الحقيرين، لتكبرك. قال النبي المعظم صلى الله عليه وسلم:«من تواضع رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله» .

تنبيه: قال الله تعالى هنا: {فَاهْبِطْ} بالإفراد، وقال في سورة (البقرة) رقم [38]:{اِهْبِطُوا} بالجمع، وقال في سورة (طه) رقم [123]:{اِهْبِطا} بالتثنية، والمراد بالأول: إبليس وحده،

ص: 462

كما هو ظاهر، والمراد بالثاني: آدم، وحواء، وإبليس. وقيل: والحية، والصحيح: أن المراد:

آدم، وحواء، وذريتهما. والمراد بالثالث: آدم، وحواء، أو: آدم، وإبليس. وانظر شرح كل آية في محلها، وينبغي أن تعلم أن سبب طرد إبليس من الجنة، بل من رحمة الله إنما هو حسده لآدم، وتكبره عليه، نعوذ بالله منهما. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {فَاهْبِطْ:} الفاء: زائدة، أو هي الفصيحة، (اهبط): أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {مِنْها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول على زيادة الفاء، ولا محل لها على اعتبار الفاء الفصيحة؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منك؛ فاهبط، وإذا ومدخولها في محل نصب مقول القول. وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها {فَما} الفاء: حرف تعليل. (ما): نافية. {يَكُونُ:} مضارع ناقص. {لَكَ:}

متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر {يَكُونُ} مقدما، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها} في محل رفع اسمها مؤخرا. {فَاخْرُجْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والمتعلق محذوف، التقدير: منها، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، ومؤكدة لها. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {مِنَ الصّاغِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبرها، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ تعليل للهبوط، والخروج، لا محل لها.

{قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}

الشرح: {قالَ أَنْظِرْنِي} أي: قال إبليس: أمهلني، فلا تمتني، أو لا تعجل عقوبتي، {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ:} المراد به يوم القيامة، وهو اليوم الذي يخرج فيه الناس من قبورهم للحساب، والجزاء بعد النفخة الثانية.

{قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} أي: قال الله تعالى لإبليس لمّا سأل الإمهال: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} أي: الممهلين المؤخرين، وقد قيد الله هذا الإمهال في سورة (الحجر) بقوله:{إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} وهو النفخة الأولى التي يموت بسببها من في السموات، والأرض إلا من شاء الله، فقد كره اللعين أن يذوق مرارة الموت، وطلب البقاء، والخلود إلى النفخة الثانية، وحينئذ لا موت؛ لأن الموت قد تم عند النفخة الأولى، فلم يعط سؤاله، وإنما أجيب طلبه، وهو الإمهال مع أنه إنما طلبه ليفسد أحوال العباد، لما في ذلك من ابتلاء العباد، ولما في مخالفته من عظيم الثواب. انتهى جمل بتصرف.

أقول: وإنما أمهله ليكون سببا في وفاء وعد الله لجهنم: {وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} إذ لولاه لكان الناس جميعا مهتدين. هذا؛ وقد ذكر الله في سورة (الكهف): أن له ذرية، وذلك ليكون لكل إنسان من بني آدم قرين، وشيطان. انظر ما ذكرته في شرح الاستعاذة، وفي شرح الآية رقم [112](الأنعام) وانظر «القول» في الآية رقم [5].

ص: 463

الإعراب: {أَنْظِرْنِي:} فعل دعاء، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب مفعول به، {إِلى يَوْمِ:} متعلقان به. {يُبْعَثُونَ:} مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمِ} إليها، والجملة الفعلية:{أَنْظِرْنِي} في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [13]، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ إِنَّكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}

الشرح: {فَبِما أَغْوَيْتَنِي:} قال الخازن: يعني: فبأي شيء أضللتني. وقال الزمخشري:

فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم، ثم قال: والمعنى فبسبب وقوعي في الغي لأجتهدن في غوايتهم؛ حتى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم. وقال سليمان الجمل: غرضه بهذا أخذ ثأره منهم؛ لأنه لما طرد، ومقت بسببهم على ما تقدم أحب أن ينتقم منهم أخذا بالثأر. {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي: لبني آدم ترصدا بهم، كما يقعد القطاع على الطرقات. {صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ:} دين الإسلام، أو الطريق الموصل إلى مرضاتك.

عن سبرة بن أبي الفاكه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة، قعد له في طريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دين آبائك، وآباء آبائك؟! فعصاه، وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر، وتذر أرضك، وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطّول؟! فعصاه، فهاجر. وقعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد، فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟! فعصاه، فجاهد. قال: فمن فعل ذلك؛ كان حقّا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق؛ كان حقّا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقّا على الله أن يدخله الجنة» . أخرجه النسائي. انتهى خازن.

أقول: وقس على ذلك جميع أبواب الخير، فإن الشيطان يصد الناس عنها. وانظر الآية رقم [267] من سورة (البقرة). بعد هذا انظر «القول» في الآية رقم [5]. {الْمُسْتَقِيمَ:} انظر إعلاله في الآية رقم [16] من سورة (المائدة).

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {إِبْلِيسَ} . {فَبِما:}

الفاء: صلة، أو هي الفصيحة على مثال ما رأيت في الآية رقم [13] الباء: حرف جر. (ما):

مصدرية. {أَغْوَيْتَنِي:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والنون للوقاية، وانظر إعراب:(جعلنا) في الآية رقم [10] و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، أو أحلف؛ لأن الباء على قسم مقدر،

ص: 464

ومتعلقة بفعله المقدر. انتهى جمل. وقال البيضاوي، والنسفي: والباء تتعلق بفعل القسم المحذوف، تقديره: فبسبب إغوائك أقسم، أو تكون للقسم، أي: فأقسم بإغوائك. وقال أبو البقاء: الباء تتعلق ب {لَأَقْعُدَنَّ،} ولا وجه له؛ لأن اللام تمنعه، وعلى قول الخازن ف:(ما) استفهامية مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل بعدهما، والوقف يكون عليه، وما بعده كلام مستأنف، وعليه فالجملة فعلية، وهي في محل نصب مقول القول. انتهى بتصرف كبير. {لَأَقْعُدَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (أقعدن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:

«أنا» . {لَهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {صِراطَكَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو منصوب على نزع الخافض، التقدير: على صراطك، كقولهم (ضرب زيد الظهر والبطن) والكاف في محل جر بالإضافة. {الْمُسْتَقِيمَ:} صفة، وجملة:{لَأَقْعُدَنَّ..} . إلخ جواب القسم المحذوف المدلول عليه بالباء، وهي جواب قسم محذوف على قول الخازن، وعلى الاعتبارين فالقسم، وجوابه في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)}

الشرح: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ..} . إلخ: قال البيضاوي: أي: من جميع الجهات الأربع مثل قصده إياهم بالتسويل، والإضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع، ولذلك لم يقل:

من فوقهم، ومن تحت أرجلهم. وقيل: لم يقل: من فوقهم؛ لأن الرحمة تنزل من فوق، ولم يقل:

من تحتهم لأن الإتيان منه يوحش الناس. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ:}

من قبل الآخرة. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ:} من قبل الدنيا. {وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ:} من جهة حسناتهم، وسيئاتهم، ويحتمل أن يقال:{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ:} من حيث يعلمون، ويقدرون على التحرز عنه، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ:} من حيث لا يعلمون، ولا يقدرون. {وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ:} من حيث يتيسر لهم أن يعملوا، ويتحرزوا، ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم، واحتياطهم. وإنما عدي الفعل إلى الأولين، بحرف الابتداء؛ لأنه منهما متوجه إليهم، وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة، فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم. ونظيره قولهم: جلست عن يمينه. انتهى بحروفه.

{وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ:} مطيعين مؤمنين وموحدين، وإنما قال اللعين هذا ظنا منه لقوله تعالى:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} وذلك لما رأى منهم: أن مبدأ الشر متعدد، ومبدأ الخير واحد. وقيل: سمعه من الملائكة. وقيل: رآه في اللوح المحفوظ. انتهى بيضاوي، وغيره. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [119] (النساء) تجد ما يسرك. هذا؛ و (أيمان) جمع: يمين، والمراد: اليد

ص: 465

اليمنى، كما في قوله تعالى:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} . هذا؛ واليمين أيضا: الحلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو باسم من أسمائه، كما في الآية رقم [89] (المائدة) وانظره بكسر الهمزة في الآية رقم [2]. {شَمائِلِهِمْ:} جمع: شمال، وهي عكس، ومقابل اليد اليمنى. هذا؛ والشمال يقابل الجنوب، والشمال ريح الشمال الآتية من جهته، وجمعه: شمالات. {تَجِدُ:} أصله: توجد، فحذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها، وهما الياء والكسرة في المضارع الغائب (يجد) وتحذف من مضارع المتكلم، والمخاطب قياسا عليه، والمصدر: وجدا، وماضيه: وجد.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {لَآتِيَنَّهُمْ:} إعرابه مثل إعراب: {لَأَقْعُدَنَّ} في الآية السابقة، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {مِنْ بَيْنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَيْنِ:} مضاف، و {أَيْدِيهِمْ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ:} الكل معطوف على ما قبله. (لا): نافية. {تَجِدُ} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {أَكْثَرَهُمْ:} مفعول به أول، والهاء

إلخ. {شاكِرِينَ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم

إلخ. هذا؛ وقيل: هو حال على اعتبار الفعل متعديا لمفعول واحد فقط. والمعتمد الأول، والجملة الفعلية:{وَلا تَجِدُ..} . إلخ تحتمل العطف على ما قبلها، والاستئناف، ولا محل لها على الوجهين.

{قالَ اُخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {مِنْها:} من الجنة. {مَذْؤُماً:} مذموما، من: ذأمه، يذأمه ذأما: إذا عابه، ومقته، وحقره، فهو مذءوم. {مَدْحُوراً:} مطرودا من رحمة الله. ودحره: طرده، وأبعده، والفعلان: ذأم، ودحر من باب: قطع. هذا؛ وقرئ:

«(مذموما)» من: ذامه، يذيمه ذيما، وهو بمعنى الأول. {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ:} تكرر هذا الوعد لجهنم بملئها، ولا تملأ إلا بسبب الشيطان، وزخرفته. {مِنْكُمْ} أي: منك، ومنهم. أي: الذين اتبعوك. فغلب المخاطب. قال الخازن: أقسم الله أن من تبع إبليس من بني آدم، وأطاعه منهم أن يملأ جهنم منه، وممن كفر من بني آدم. انتهى. والمراد: إبليس، وذريته، وأتباعه.

الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {اُخْرُجْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:

«أنت» . {مِنْها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مَذْؤُماً مَدْحُوراً:} حالان من الفاعل المستتر. وقيل:

الثاني حال من نائب فاعل الأول، فهي حال متداخلة، وجملة:{اُخْرُجْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {لَمَنْ} اللام: لام الابتداء. (من):

اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَبِعَكَ:} ماض، والكاف في محل نصب

ص: 466

مفعول به، والفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى (من)، وهو العائد. {مِنْهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {لَأَمْلَأَنَّ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله. (أملأن): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل ضمير مستتر، تقديره:«أنا» . {جَهَنَّمَ:} مفعول به. {مِنْكُمْ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {أَجْمَعِينَ:} تأكيد لمعنى (كم) فهو مجرور، وعلامة جره الياء

إلخ، والجملة الفعلية:{لَأَمْلَأَنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب قسم محذوف، والقسم المحذوف، وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ، الذي هو (من). هذا؛ وجه للإعراب. هذا وجوز اعتبار اللام موطئة لقسم محذوف، واعتبار (من) اسم شرط جازما، والفعل بعدها شرطها، وهي مبتدأ، والجملة الفعلية:{لَأَمْلَأَنَّ..} . إلخ جواب القسم المحذوف، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة المشهورة:«إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» . وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [8]. وهذا الوجه ضعيف؛ لأن اللام الموطئة لا تدخل إلا على (إن) الشرطية، كما ذكره ابن هشام في وجه ضعيف. هذا؛ وقد قرئ بكسر اللام، فتكون حرف جر، و (من) اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: «هذا الوعيد الشديد للذي تبعك

» إلخ، ويكون إعراب:{لَأَمْلَأَنَّ..} . إلخ كما في الوجه الأول، والكلام على جميع وجوه الإعراب في محل نصب مقول القول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَيا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ (19)}

الشرح: (آدم): انظر الآية رقم [11]. {اُسْكُنْ:} من السكنى، وهي الهدوء، والاستقرار، والثبوت. {وَزَوْجُكَ:} الزوج يطلق على الرجل، وعلى المرأة، والقرينة تبين الذكر من الأنثى، ويقال لها أيضا: زوجة. وزوج آدم اسمها: حواء، سميت بذلك؛ لأنها خلقت من حي، كما رأيت في الآية رقم [4/ 1]. وقيل لها: امرأة؛ لأنها من المرء أخذت، روي: أن الملائكة قالت لآدم: أتحبها؟ قال: نعم، قالوا لحواء: أتحبينه؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه لها. قالوا: فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها؛ لصدقت حواء. انتهى من القرطبي.

{فَكُلا:} هذا الأمر للإباحة، كما هو ظاهر. {شِئْتُما:} انظر الآية رقم [5/ 19]. {الظّالِمِينَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي، والمنكرات. وانظر الآية رقم [6/ 146]. هذا؛ والمراد بالشجرة: شجرة الحنطة. وقيل: هي شجرة العنب؛ لأنها أصل كل فتنة. وقيل غير ذلك.

ولقد نهى الله عن قرب الشجرة؛ لأنه أبلغ في النهي عن الأكل منها، كما في الآية رقم [152](الأنعام) ولأنه من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. بعد هذا فقد زاد الله في آية

ص: 467

(البقرة) رقم [35] قوله {رَغَداً} ورغد العيش من باب: ظرف، وطرب، فهو راغد، وهو في رغد من العيش، أي: في رزق واسع، وأرغد القوم: أخصبوا. كما ذكر سبحانه في سورة (البقرة){وَكُلا} بالواو، وقال هنا {فَكُلا} بالفاء.

قال الإمام فخر الدين الرازي مبينا الفرق بينهما: إن الواو تفيد الجمع المطلق، والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب، فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا منافاة بين النوع، والجنس، ففي سورة (البقرة) ذكر الجنس، وهنا ذكر النوع. انتهى خازن، ولا تنس: أن هذا الكلام قد خوطب به آدم بعد طرد إبليس من الجنة، وهو ما أفادته الآية السابقة.

الإعراب: {وَيا آدَمُ:} الواو: حرف استئناف. (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (آدم):

منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: (يا)، والجملة الندائية، وما بعدها من جمل في محل نصب مقول القول، التقدير: وقلنا: يا آدم

إلخ، وقد ذكر هذا القول في آية (البقرة) رقم [35]. {اُسْكُنْ:} فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر تقديره:«أنت» . {أَنْتَ:} ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد للضمير المستتر في: {اُسْكُنْ} . {وَزَوْجُكَ:} معطوف على الضمير المستتر، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْجَنَّةَ:} مفعول به، وهو منصوب على الظرفية المكانية عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون على رأسهم الأخفش، ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب انتصاب المفعول به على السعة بإجراء اللازم مجرى المتعدي، وقل مثل ذلك في:(دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشام). {فَكُلا:} الفاء: حرف عطف. (كلا): فعل أمر مبني على حذف النون، والألف فاعله، وانظر إعراب:(اسجدوا) في الآية رقم [11]. {مِنْ حَيْثُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {حَيْثُ} مبني على الضم في محل جر. {شِئْتُما:} فعل، وفاعل، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها. {وَلا:} الواو:

حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَقْرَبا:} مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسرة في محل نصب مفعول به، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الشَّجَرَةَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، ولا تجوز الوصفية هنا؛ لأنه اسم جامد. {فَتَكُونا:} الفاء: هي السببية. (تكونا): مضارع ناقص منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين اسمه. {مِنَ الظّالِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبره، و «أن» المضمرة والفعل:(تكونا) في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير:«لا يكن منكما قرب من الشجرة، فظلم لنفسيكما» . هذا؛ وجوز أن تكون الفاء عاطفة، وأنّ الفعل:(تكونا) مجزوم بسبب العطف على النهي، ولكن الأول أقوى معنى، وأتم سبكا،

ص: 468

ولا تنس: أن كل الجمل المتعاطفة في محل نصب مقول القول للفعل المقدر، والقول، ومقوله كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20)}

الشرح: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ} أي: وسوس لآدم وحواء. والوسوسة في الأصل: الصوت الخفي. والوسوسة: حديث النفس، وهي أيضا: حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان.

والوسواس: اسم للشيطان، قال تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ} . واختلف أين كانت هذه الوسوسة، وفي أنه تمثل لهما، فقاولهما بذلك، أو ألقاه إليهما عن طريق الوسوسة، وأنه كيف توصل إليهما بعد ما قيل له:{فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ؟}

فقيل: إنه منع من الدخول على وجه التكرمة، كما كان يدخل مع الملائكة، ولم يمنع أن يدخل للوسوسة ابتلاء لآدم، وحواء. وقيل: قام عند الباب، فناداهما. وقيل: تمثل بصورة دابة، فدخل، ولم تعرفه الخزنة. وقيل: دخل في فم الحية؛ حتى دخلت به. وقيل: أرسل بعض أتباعه، فوسوس لهما. والعلم عند الله سبحانه، وتعالى. انتهى بيضاوي.

هذا؛ ونقل الخازن عن الإمام الرازي عن الحسن: أنه قال: كان يوسوس في الأرض إلى السماء إلى الجنة بالقوة القوية التي جعلها الله تعالى له. وقال أبو مسلم الأصبهاني: بل كان آدم، وإبليس في الجنة؛ لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض، والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية، فدخلت به إلى الجنة، فقصة مشهورة ركيكة. انتهى. هذا؛ وانظر شرح {الشَّيْطانُ} في الاستعاذة، وفي الآية رقم [112] (الأنعام). {لِيُبْدِيَ لَهُما:} ليظهر، ويكشف لهما. {ما وُورِيَ:} ما غطي، وستر. {سَوْآتِهِما:} تثنية: سوأة، والمراد بها: العورة، أي: الفرج، وكانا لا يريانهما من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر، وإنما فعل ذلك ليسوءهما بانكشاف عورتيهما. ولذلك عبر سبحانه عنهما بالسوأة، وفيه دليل على أن انكشاف العورة في الخلوة، وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع. انتهى بيضاوي بتصرف. هذا؛ وإنما بدت سوآتهما لهما، لا لغيرهما على المعتمد.

هذا؛ واختلف في اللباس الذي نزع عنهما، قال الخازن: فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان لباسهما الظفر، فلما أصابا الخطيئة؛ نزع عنهما، وبقيت الأظفار، تذكرة، وزينة، ومنافع. وقال وهب بن منبه-رحمه الله تعالى-كان لباس آدم وحواء نورا، وقال مجاهد: كان لباسهما التقى، وفي رواية عنه: التقوى. وقيل: إن لباسهما من ثياب الجنة. وهذا القول أقرب؛ لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه، ولأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس. انتهى.

ص: 469

أقول: وفي محفوظي: أن الظفر المذكور آنفا هو اللباس، وكان من لباس الجنة، وكان من أجمل ما يكون، فلما فعل آدم وحواء الخطيئة؛ تناثر عنهما هذا اللباس، وبقيت منه بقية على رءوس أصابع اليدين، والرجلين، وقد غيرت هيئة هذا اللباس إلى الأظفار الموجودة على رءوس أصابعنا.

ويذكر أن آدم عليه الصلاة والسلام كان إذا نظر إلى أظفاره بكى؛ تذكرا منه لما كان فيه من النعيم في الجنة، وصار ذلك طبيعة عند كل إنسان إذا غلبه الضحك فلينظر إلى أظفاره، فيذهب ضحكه فجأة.

وقال: {ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ} أي: ما منعكما من أكل هذه الشجرة المذكورة في الآية السابقة. {إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ} . {أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ:} الذين لا يموتون، أو يخالدون في الجنة، واستدل به على فضل الملائكة على الأنبياء، عليهم الصلاة والسّلام. وجوابه: أنه كان من المعلوم: أن الحقائق لا تنقلب، وإنما كانت رغبتهما، في أن يحصل لهما أيضا، ما للملائكة من الكمالات الفطرية، والاستغناء عن الأطعمة، والأشربة، وذلك لا يدل على فضلهم مطلقا. انتهى بيضاوي. هذا؛ وانظر ما ذكرته في الآية رقم [117] (النساء) فإنه جيد. هذا؛ وقد قرئ:«(ملكين)» بكسر اللام، وهي قراءة يحيى بن كثير، والضحاك.

الإعراب: {فَوَسْوَسَ:} (وسوس): ماض. {لَهُمَا} : جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{الشَّيْطانُ:} فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لِيُبْدِيَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام العاقبة، أو هي لام التعليل، وفاعله يعود إلى {الشَّيْطانُ}. {لَهُمَا:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} اسم موصول، أو هي نكرة موصوفة، مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {وُورِيَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى:

{ما،} والجملة صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع نائب الفاعل إليها.

{عَنْهُما:} متعلقان بالفعل قبلهما، والميم، والألف في الجميع حرفان دالان على التثنية. {مِنْ سَوْآتِهِما:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، و {مِنْ} بيان لما أبهم في:{ما} والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والفعل (يبدي) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (وسوس)، والجملة الفعلية:{فَوَسْوَسَ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. (قال): ماض، وفاعله يعود إلى:{الشَّيْطانُ} . {ما:} نافية.

{نَهاكُما:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به. {رَبُّكُما:}

فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة. {عَنْ هذِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{الشَّجَرَةِ:} بدل أو عطف بيان من اسم الإشارة. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَكُونا:} مضارع ناقص منصوب ب: {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين اسمه. {مَلَكَيْنِ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، و {أَنْ} والفعل {تَكُونا} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول لأجله، وأصل الكلام: مخافة، أو كراهية كونكما ملكين.

ص: 470

وهذا عند البصريين، وهو عند الكوفيين على حذف حرف الجر، وتقدير الكلام عندهم:

«لئلا تكونا

» إلخ وبعد السبك بمصدر، يكون التقدير:«لعدم كونكما» وعليه فالجار والمجرور متعلقان بالفعل: (نهى). {أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ:} هو مثل سابقه إعرابا، وتأويلا، وتقديرا. وجملة:{ما نَهاكُما..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على جملة: (وسوس

) إلخ، وهي مفسرة لها في المعنى، لا محل لها مثلها.

{وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ (21)}

الشرح: {وَقاسَمَهُما:} حلف لهما بالله على ذلك. وأخرجه على زنة المفاعلة للمبالغة.

وقيل: أقسما له بالقبول. وقيل: أقسما عليه بالله إنه لمن الناصحين، فأقسم لهما، فجعل ذلك مقاسمة. انتهى بيضاوي. وقال القرطبي: وجاء «فاعلت» من واحد. وهو يردّ على من قال: إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين. وقال قتادة: حلف لهما بالله؛ حتى خدعهما-وقد يخدع المؤمن بالله-فقال: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني؛ أرشدكما. وقال بعض العلماء: من خادعنا بالله خدعنا له. {النّاصِحِينَ:} انظر (شكر) في الآية رقم [10] وانظر: {وَأَقْسَمُوا} في الآية رقم [109](الأنعام) فإنه جيد.

الإعراب: {وَقاسَمَهُما:} الواو: حرف عطف. (قاسمهما): ماض، والفاعل يعود إلى الشيطان، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية.

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَكُما:} جار ومجرور متعلقان ب: {النّاصِحِينَ} بعدهما، وهذا على أن ال للتعريف، وليست موصولة بمعنى «الذي». وقيل: هي بمعنى الذي، وعليه فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف يبينه {النّاصِحِينَ} التقدير: إني لناصح لكما، وهذا يسمى التبيين، ومثله الآية رقم [130](البقرة) وهو كثير في القرآن والشعر العربي، والميم والألف للتثنية. اللام: هي المزحلقة. {لَمِنَ النّاصِحِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {إِنِّي..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والجملة القسمية معطوفة على جملة:{وَقالَ ما نَهاكُما..} . إلخ فهي داخلة في التفسير، ومن جملته.

{فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ فَلَمّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)}

الشرح: {فَدَلاّهُما:} أوقعهما في الهلاك، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. وقيل:

جرأهما على المعصية. وقال البيضاوي: فنزلهما إلى الأكل من الشجرة. نبه به على أنه أهبطهما

ص: 471

بذلك من درجة عالية، إلى رتبة سافلة، فإن التدلية، والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل.

{بِغُرُورٍ:} بما غرهما به من القسم، فإنهما ظنا: أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، وإبليس أول من حلف بالله كاذبا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«المؤمن غرّ كريم، والفاجر خبّ لئيم» . {فَلَمّا ذاقَا الشَّجَرَةَ:} أكلا منها، وانظر شرح {الشَّجَرَةَ} في الآية رقم [19]. {بَدَتْ:} ظهرت، وانكشفت، وقل في إعلاله: أصله: «بدا» ، فلما اتصل به تاء التأنيث، صار: بدات، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار {بَدَتْ}. {سَوْآتُهُما:} انظر الآية رقم [20] لشرحه، وفيه قراءات كثيرة، ولكن لا يتغير الإعراب، فلذا لم أتعرض لها، والمعنى: فلما وجدا طعمها آخذين في الأكل منها؛ أخذتهما العقوبة، وشؤم المعصية، فتهافت عنهما لباسهما، وظهرت لهما عوراتهما. انتهى بيضاوي. يقال: إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها، فلما أكلت؛ لم يصبها شيء؛ لأن المنهي عنه ما وجد كاملا (وهو للاثنين) وخفي هذا المعنى على آدم، فطمع ونسي هذا الحكم، وهو معنى قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} . وقيل: نسي قوله: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى} . {وَطَفِقا:} أخذا، وشرعا، فهذا الفعل من أفعال الشروع. {يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} أي: يرقعان، ويلزقان ورقة فوق ورقة على القبل، والدبر.

هذا؛ وخصف النعل خصفا: خرزها ورقعها، و (الورق) قيل: ورق التين. وقيل: ورق الموز.

{وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما..} . إلخ: قال البيضاوي: عتاب على مخالفة النهي، وتوبيخ على الاغترار بقول العدو. وفيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم. انتهى. قال محمد بن قيس: ناداه ربه: يا آدم! لم أكلت منها؛ وقد نهيتك؟ قال: أطعمتني حواء. قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت:

أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس. قال الله: أما أنت يا حواء؛ فلأدمينك كل شهر كما أدميت الشجرة. وأما أنت يا حية؛ فأقطع رجليك، فتمشين على وجهك، وليشدخن رأسك كلّ من لقيك. وأما أنت يا إبليس؛ فملعون. بعد هذا انظر شرح:{الشَّيْطانَ} في الاستعاذة.

{عَدُوٌّ:} هو ضد الصديق، وهو على وزن «فعول» بمعنى «فاعل» مثل: صبور، وشكور، وما كان على هذا الوزن يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، إلا لفظا واحدا جاء نادرا. (قالوا): هذه عدوة الله. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا،} وقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} والجمع: أعداء؛ وأعاد، وعدات، وعدى. وقيل: أعاد جمع: أعداء، فيكون جمع الجمع. وفي القاموس: والعدا بالضم، والكسر: اسم الجمع.

{مُبِينٌ:} هو اسم فاعل من: «أبان» الرباعي، أصله:«مبين» ، بسكون الباء، وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة.

ولا تنس: أن اسم الفاعل من: بان الثلاثي: «بائن» . {رَبِّكُمْ:} انظر الآية رقم [2].

ص: 472

تنبيه: يسأل: آدم معصوم، فكيف يخالف النهي؟ وأجيب بوجوه، منها: أنه اعتقد: أن النهي للتنزيه، لا للتحريم. ومنها: أنه نسي النهي. ومنها: أنه اعتقد نسخه بسبب مقاسمة إبليس له: أنه من الناصحين، فاعتقد أنه لا يحلف أحد بالله كاذبا. انتهى جمل. أقول: وقد اختلف هل كان ذلك قبل النبوة، أو بعدها؟ والظاهر: أنه أعطي النبوة في الأرض.

يروى: أن روح موسى التقت مع روح آدم عليهما السلام، فقال موسى: يا آدم أكلت من الشجرة حتى سببت لذريتك العناء والشقاء! فقال آدم: يا موسى أنت رسول الله وكليمه، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بآلاف السنين؟ فحجّ آدم موسى. أي: غلبه بالحجة.

الإعراب: {فَدَلاّهُما:} الفاء: حرف عطف. (دلاهما): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانَ} والهاء مفعول به، والميم والألف في الجميع حرفان دالان على التثنية. {بِغُرُورٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من المفعول به، أي: مغترين، والجملة الفعلية:{فَدَلاّهُما..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، وهي من تتمة التفسير للوسوسة. {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:«حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {ذاقَا:} ماض، والألف فاعله. {الشَّجَرَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها على القول بحرفية (لمّا) وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على القول بظرفيتها، وعلى اعتبارها متعلقة بالجواب. {بَدَتْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث. {لَهُما:} متعلقان به. {سَوْآتُهُما:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{بَدَتْ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، (طفقا): ماض ناقص، والألف اسمه. {يَخْصِفانِ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والألف فاعله. {عَلَيْهِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {مِنْ وَرَقِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {وَرَقِ:} مضاف، و {الْجَنَّةِ:} مضاف إليه، وجملة:{يَخْصِفانِ..} . إلخ في محل نصب خبر (طفقا)، وجملة:

{وَطَفِقا..} . إلخ معطوفة على جواب (لمّا) لا محل لها مثله. (ناداهما): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، و (ها): ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {رَبُّهُما:} فاعل، و (ها): في محل جر بالإضافة. {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{أَنْهَكُما:} مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنا» والكاف مفعول به. {عَنْ:} حرف جر. {تِلْكُمَا:} التاء: اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر ب {عَنْ،} والجار والمجرور

ص: 473

متعلقان بالفعل قبلهما، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {الشَّجَرَةَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، وجملة:{أَلَمْ أَنْهَكُما..} . إلخ تفسير للنداء، لا محل لها من الإعراب، أو معمول لقول محذوف، أي: وقال؛ أو قائلا: {أَلَمْ أَنْهَكُما..} . إلخ. انتهى جمل نقلا من أبي السعود، وجملة:{وَناداهُما..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَأَقُلْ:} مضارع معطوف على ما قبله مجزوم مثله، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» .

{لَكُما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الشَّيْطانَ:} اسمها.

{لَكُما:} متعلقان ب {عَدُوٌّ} بعدهما. {عَدُوٌّ:} خبر {إِنَّ} . {مُبِينٌ:} صفته، والجملة الاسمية:

{إِنَّ الشَّيْطانَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)}

الشرح: {قالا} أي: آدم وحواء. وانظر «القول» في الآية رقم [5]. {رَبَّنا} أي: يا ربنا، وانظر الآية رقم [3]. {ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} أي: بارتكاب المعصية، وإخراجها من الجنة بسبب المخالفة لأمر الله تعالى، وانظر (الظلم) في الآية رقم [146] (الأنعام). {أَنْفُسَنا:} انظر الآية رقم [8]. {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا:} ذنبنا، وتعف عنا. {وَتَرْحَمْنا:} وتتفضل علينا برحمتك، ورضاك.

{لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} أي: من الهالكين. قال قتادة: قال آدم: يا رب أرأيت إن تبت إليك، واستغفرتك، قال: إذا أدخلك الجنة، وأما إبليس؛ فلم يسأله التوبة، وسأله أن ينظره، فأعطى كل واحد منهما ما سأل. هذا؛ وقد ذكرت لك في الآية رقم [37] (البقرة) أن الكلمات التي تلقاها آدم-أي: ألهمه ربه أن يقولها-هي ما في هذه الآية.

تنبيه: قال الخازن: وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء-عليهم الصلاة والسّلام- بهذه الآية. وأجيب عنها بأن درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام في الرفعة والعلو والمعرفة بالله عز وجل، مما حملهم على الخوف منه، والإشفاق من المؤاخذة بما لم يؤاخذ به غيرهم، وأنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت عنهم على سبيل التأويل، أو السهو، فهم بسبب ذلك خائفون وجلون، وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم، وسيئات بالنسبة إلى كمال طاعتهم، لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم، ومعاص كمعاصي غيرهم، فكان ما صدر منهم مع طهارتهم ونزاهتهم، وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي، والذكر القدسي، وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح، والخشية لله عز وجل ذنوبا؛ وهي حسنات بالنسبة إلى غيرهم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

انتهى. بحروفه. وانظر الآية رقم [106](النساء) والآية رقم [43](التوبة).

الإعراب: {قالا:} ماض، وألف الاثنين فاعله. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {ظَلَمْنا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب:

ص: 474

{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {أَنْفُسَنا:} مفعول به، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم، واللام الموطئة للقسم محذوفة. التقدير: ولئن، دل على ذلك الجملة المؤكدة بنون التوكيد الثقيلة. {لَمْ:} حرف جازم، {تَغْفِرْ:} مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وهو فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والمفعول محذوف، تقديره:«ذنبنا» . {لَنا:} متعلقان ب {تَغْفِرْ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {وَتَرْحَمْنا:} مضارع معطوف على ما قبله، مجزوم مثله، والفاعل تقديره:«أنت» ، و (نا): ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {لَنَكُونَنَّ:} مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، واللام واقعة في جواب القسم المقدر، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره:«نحن» . {مِنَ الْخاسِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر (نكونن) والجملة الفعلية هذه لا محل لها؛ لأنها جواب للقسم المقدر، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم المقدر عليه، على القاعدة:(إذا اجتمع شرط، وقسم؛ فالجواب للسابق منهما). بعد هذا: كل الجمل الموجودة في هذه الآية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

فائدة: قال مكي بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى-: ونداء الرب قد كثر حذف يا النداء منه في القرآن، وعلة ذلك: أن في حذف «يا» من نداء الرب تعالى، فيه معنى التعظيم له، والتنزيه، وذلك: أن النداء فيه ضرب من معنى الأمر؛ لأنك، إذا قلت: يا زيد، فمعناه: تعال يا زيد، أدعوك يا زيد، فحذفت «يا» من نداء الرب؛ ليزول معنى الأمر، وينقص؛ لأن «يا» تؤكده، وتظهر معناه، فكان في حذف «يا» التعظيم والإجلال والتنزيه للرب تعالى، فكثر حذفها في القرآن والكلام في نداء الرب. لذلك المعنى. انتهى.

فائدة: وقال أيضا في التركيب: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا:} دخلت (إن) على {لَمْ} ليرتد الفعل إلى أصله في لفظه، وهو الاستقبال؛ لأن {لَمْ} تردّ لفظ المستقبل إلى معنى المضي، و (إن) تردّ الماضي إلى معنى الاستقبال، فلما صارت {لَمْ} ولفظ المستقبل بعدها بمعنى الماضي؛ ردتها (إن) إلى الاستقبال؛ لأن (إن) ترد الماضي إلى معنى الاستقبال. انتهى.

{قالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)}

الشرح: {قالَ} أي: الله. وانظر «القول» في الآية رقم [5]. {اِهْبِطُوا:} انزلوا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [13]. {مُسْتَقَرٌّ:} استقرار، أو موضع استقرار، وقال السدي:{مُسْتَقَرٌّ} يعني: القبور. ويضعفه ما بعده. {وَمَتاعٌ:} انتفاع، وتلذذ، وتمتع. واستمتع بكذا: انتفع به،

ص: 475

والمتعة: الانتفاع، والتلذذ بالشيء، وأمتعه الله، ومتعه بكذا بمعنى واحد. وانظر الآية رقم [70](يونس){إِلى حِينٍ} إلى يوم القيامة، أو إلى الموت. وهو أولى.

تنبيه: ذكر القرطبي، وغيره: أن آدم أهبط به سرنديب من الهند بجبل، يقال له: بوذ، وأهبطت حواء بجدة من الحجاز، وأهبط إبليس بالأبلة-بضم الهمزة، والموحدة، وتشديد اللام- جبل قرب البصرة. وقيل: بجدة، وأهبطت الحية بسجستان. وقيل: بأصبهان. هذا؛ وسجستان، أكثر بلاد الله حيات، ولولا العربدّ ما يأكلها، ويفني كثيرا منها؛ لأخليت سجستان من أجل الحيات، ذكره أبو الحسن المسعودي. هذا؛ والعربد: الذكر الكبير من الأفاعي. وهو بكسر العين وتشديد الدال، وبكسر الباء وفتحها.

تنبيه: لقد اختلف في الجنة التي أسكن الله بها آدم، وحواء، ثم أخرجهما منها، فالجمهور على أنها جنة المأوى أخذا بظواهر الآيات، والأحاديث، كقوله تعالى:{وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الناس، فيا قوم المؤمنون حين تزدلف الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنّة إلاّ خطيئة أبيكم» . قال ابن كثير في البداية والنهاية: وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنة المأوى. وليست تخلو من النظر.

وقال فريق من العلماء: إن الجنة التي سكنها آدم، وحواء كانت من جنات الدنيا؛ لأنه كلّف فيها ألا يأكل من الشجرة، ولأنه نام فيها، وأخرج منها، ودخل عليه إبليس فيها، ووسوس إليه، ولغا آدم، وعصى ربه فيها، وهذا ينافي أنها جنة المأوى. وقد حكي هذا القول عن أبيّ بن كعب، وعبد الله بن عباس، ووهب بن منبه، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين. انتهى من قصص الأنبياء للنجار بتصرف كبير.

أقول: والذي نرتضيه: أنها جنة المأوى، وهي مخلوقة من قبل أن يخلق الله آدم، خلافا لمن زعم: أن الجنة غير موجودة الآن، وأن الله يخلقها يوم القيامة. دليل وجودها قوله تعالى:

{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى} كما أن النار موجودة الآن بدليل قوله تعالى: {النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} .

وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [133] من (آل عمران) فإنه جيد.

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله) تقديره:«هو» ، وينبغي أن تعلم: أن الكلام أتى للمتكلم (قلنا) في الآية رقم [36](البقرة){اِهْبِطُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، ومتعلق الفعل محذوف، تقديره: منها، وجملة:{قالَ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. {بَعْضُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {لِبَعْضٍ:}

ص: 476

متعلقان ب {عَدُوٌّ} بعدهما. {عَدُوٌّ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. (لكم): متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان ب:{مُسْتَقَرٌّ،} وقد جوز تعليقهما بمحذوف حال من الضمير المستتر في: (لكم). {مُسْتَقَرٌّ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. وقيل: مستأنفة، والأول أقوى.

{وَمَتاعٌ:} معطوف على مستقر عطف مفرد على مفرد. {إِلى حِينٍ:} متعلقان ب (متاع)، أو بمحذوف صفة له، التقدير:«متاع ممتد إلى حين» .

{قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {تَحْيَوْنَ:} تعيشون، والخطاب لآدم وذريته ولإبليس ولذريته، وأصل الفعل:«تحييون» تحركت الياء الثانية وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصار:(تحياون) ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. {وَفِيها تَمُوتُونَ} أي: وتقبرون.

{وَمِنْها تُخْرَجُونَ} أي: يخرجكم ربكم من الأرض للحساب، والجزاء. وهذا الفعل يقرأ بالبناء للفاعل، وبالبناء للمفعول. ومعنى هذه الآية قريب من معنى قوله تعالى:{مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى} .

الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (الله). {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {تَحْيَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وما بعدها معطوف عليها، والإعراب واضح، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة؛ لا محل لها من الإعراب.

{يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}

الشرح: {آدَمَ:} انظر الآية رقم [11]. {أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً} أي: خلقناه لكم بتدبيرات سماوية، وأسباب نازلة، ينزل المطر من السماء، فينبت بسببه القطن، ونحوه. وقيل في توجيهه: جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء، وإلى الإنزال، كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} . {يُوارِي سَوْآتِكُمْ:} يستر عوراتكم التي أراد الشيطان كشفها منكم، ويغنيكم عن سترها بورق الشجر، ونحوه. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [31] من سورة (المائدة). {وَرِيشاً:} الريش للطائر معروف. فهو لباسه، وزينته، كالثياب للإنسان، فاستعير لفظه للإنسان؛ لأنه لباسه، وزينته. هذا؛ ونقل عن ابن عباس-رضي الله عنهما-تفسيره بالمال، قال الخازن: وهو قول مجاهد، والضحاك والسدي؛ لأن المال ما يتزين به.

ص: 477

ويقال: تريش الرجل: إذا تمول. هذا؛ وقد قيل: إن المراد به الأثاث الذي يفرش في البيوت، ويتزين به. ولا بأس به. وخذ قول جرير في مدح هشام بن عبد الملك:[الوافر]

فريشي منكم، وهواي معكم

وإن كانت زيارتكم لماما

أي: فلباسي الفاخر، أو مالي الكثير. {وَلِباسُ التَّقْوى:} قال الخازن: اختلف العلماء في معناه، فمنهم من حمله على نفس الملبوس، وحقيقته، ومنهم من حمله على المجاز. أما من حمله على نفس الملبوس؛ فاختلفوا أيضا في معناه، فقال ابن الأنباري: هو اللباس الأول، وإنما أعاده إخبارا: أن ستر العورة من التقوى. وقال زيد بن علي: هو آلات الحروب كالدرع، والمغفر.

وقيل: هو الصوف، والخشن من الثياب؛ التي يلبسها أهل الزهد، والورع. وقيل: هو ستر العورة في الصلاة. وأيضا اختلف في معناه من حمله على المجاز، فقال قتادة، والسدي: هو الإيمان؛ لأن صاحبه يتقي به من النار، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو العمل الصالح، وقال الحسن: هو الحياء، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: هو السمت الحسن. وقال عروة بن الزبير: هو خشية الله. وقال الكلبي: هو العفاف. فعلى هذه الأقوال: إن لباس التقوى خير لصاحبه، إذا أخذ به مما خلق الله من لباس التجمل، وزينة الدنيا، وأنشدوا في المعنى:[الطويل]

إذا أنت لم تلبس ثيابا من التّقى

عريت وإن وارى القميص قميص

انتهى. بتصرف كبير. بعد هذا: فالتقوى: هي حفظ النفس من العذاب الأخروي، بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من: الوقاية، وهي الحفظ، والتحرز من المهالك في الدنيا، والآخرة. وانظر ما وصف الله به المتقين في أول سورة (البقرة). {خَيْرٌ:} انظر الآية رقم [12]. {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ:} يعني خلق اللباس الذي تسترون به عوراتكم، وتتقون به أذى الحر والبرد، وغير ذلك مما ذكر، كل ذلك دليل على قدرة الله، وداع إلى معرفته وعبادته.

{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ:} لعلهم يذكرون نعمة الله عليهم، فيشكرونها. والترجي في هذه الآية، وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لشيء من عباده. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا!.

الإعراب: {يا بَنِي:} (يا): حرف نداء ينوب مناب: «أدعو» . (بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (بني) مضاف، و {آدَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {لِباساً:} مفعول به. {يُوارِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{لِباساً} . {سَوْآتِكُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن

ص: 478

الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {وَرِيشاً:} معطوف على: {لِباساً،} وجملة: {يُوارِي..} . إلخ في محل نصب صفة:

{لِباساً،} وجملة: {قَدْ أَنْزَلْنا..} . إلخ في محل نصب حال من المنادى على حد قول القائل: [البسيط]

يا أيّها الرّبع مبكيّا بساحته

{وَلِباسُ:} يقرأ بالنصب عطفا على لباسا، ويقرأ بالرفع على أنه مبتدأ. و (لباس) مضاف، و {التَّقْوى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {خَيْرٌ:} خبره، والجملة الاسمية:{ذلِكَ خَيْرٌ} في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ ويجوز أن يكون {ذلِكَ} نعتا ل (لباس) أي: المذكور، والمشار إليه، وأن يكون بدلا، أو عطف بيان، و {خَيْرٌ} الخبر. وقيل:{وَلِباسُ التَّقْوى} خبر مبتدأ محذوف، تقديره:«وساتر عوراتكم لباس التقوى» . أو على العكس، أي:«ولباس التقوى ساتر عوراتكم» . انتهى عكبري. {ذلِكَ:}

مبتدأ

إلخ. {مِنْ آياتِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {آياتِ:} مضاف، و {اللهِ:}

مضاف إليه، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {يَذَّكَّرُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل) والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مفيدة للتعليل تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)}

الشرح: {آدَمَ:} انظر الآية رقم [11]. {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ} أي: لا يصرفنكم الشيطان عن الدين، وعن أوامر الله تعالى. {كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} أي: كما تسبب في إخراج أبويكم آدم، وحواء من الجنة بسبب وسوسته لهما. قال الخازن: والمعنى: أن من قدر على إخراج أبويكم من الجنة بوسوسته، وشدة عداوته؛ فبأن يقدر على فتنتكم بطريق الأولى.

فحذر الله بني آدم، وأمرهم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان، وغروره، وتزيينه القبائح، وتحسينه الأفعال الرديئة في قلوب بني آدم.

هذا؛ وفي: {أَبَوَيْكُمْ} تغليب الأب على الأم. وانظر الآية رقم [151](الأنعام). {يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما:} أضاف سبحانه نزع اللباس إلى الشيطان؛ لأنه كان بسبب وسوسته، وانظر (اللباس) في الآية رقم [20] و {يَنْزِعُ} حكاية أمر قد وقع؛ لأن نزع اللباس عنهما كان قبل

ص: 479

الإخراج. {سَوْآتِهِما:} انظر الآية رقم [20]. {وَقَبِيلُهُ:} جنوده، وأعوانه، وذريته. هذا؛ و (القبيل) جمع: قبيلة، وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضا، وقال الليث: كل جيل من إنس، وجن قبيل. {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ،} فهذا نص صريح على أن الشياطين يروننا، ولا نراهم. قال العلماء: إن الله خلق في عيون الجن إدراكا، يرون بذلك الإدراك الإنس، ولم يخلق في عيون الإنس هذا الإدراك، فلم يروا الجن. انتهى.

ولهذا كانت محاربة الشيطان، والتحرز من كيده أشد من محاربة عدو الحرب والمبارزة في الميدان، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم» . وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى، كما قال تعالى {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ}. وقال مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربعة: نرى، ولا نرى، ونخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا فتى. {أَوْلِياءَ:} يتولون أمورهم، ويتلاعبون بهم كما يشاءون، وانظر الآية رقم [3]. هذا؛ وأما المؤمنون؛ فهم في أمان من كيدهم، وحرز من شرهم. بعد هذا انظر شرح (الشيطان) في الاستعاذة. هذا؛ وقد قال البيضاوي: والآية مقصود القصة، وفذلكة الحكاية.

فائدة: قال ذو النون-رحمه الله تعالى-: إن كان هو يراك من حيث لا تراه؛ فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه، وهو الله الكريم الستار، الرحيم الغفار. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

فائدة: «حيث» مبنية، وإنما بنيت؛ لأنها لا تدل على موضع بعينه، ولأن ما بعدها من تمامها كالصلة من الموصول، وبنيت على حركة؛ لأن قبل آخرها ساكنا، وكان الضم أولى بها بحركتها؛ لأنها غاية، فأعطيت غاية الحركات، وهي الضمة؛ لأن الضمة أقوى الحركات.

وقيل: بنيت على الضم؛ لأن أصلها: «حوث» فدلت الضمة على الواو، وبجوز فتحها. وفي حيث ست لغات: بالياء مع الضم والفتح والكسر، والواو مع الضم، والفتح، والكسر، وهي:

حيث، وحيث، وحيث، وحوث، وحوث، وحوث.

الإعراب: {يا بَنِي آدَمَ:} انظر الآية السابقة. {لا:} ناهية جازمة. {يَفْتِنَنَّكُمُ:} مضارع على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، وهو في محل جزم بلام الناهية، والكاف مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. هذا؛ والنهي في اللفظ ل:{الشَّيْطانُ} ورأيت في الشرح المراد منه. {الشَّيْطانُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، ولا تصالح الحالية هنا؛ لأنها إنشائية:{كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما):

مصدرية. {أَخْرَجَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الشَّيْطانُ}. {أَبَوَيْكُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والكاف ضمير في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْجَنَّةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير:

«لا يفتننكم الشيطان فتنة كائنة، أو مثل فتنة أبويكم» . وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في

ص: 480

مثل هذا أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم. وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. انتهى. جمل نقلا عن السمين. {يَنْزِعُ:} مضارع، والفاعل ضمير مستتر يعود إلى {الشَّيْطانُ}. {عَنْهُما:} متعلقان به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {لِباسَهُما:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لِيُرِيَهُما:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانُ} أيضا، والهاء: مفعول به. {سَوْآتِهِما:} مفعول به منصوب كما في الآية السابقة، والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{يَنْزِعُ} والجملة الفعلية:

{يَنْزِعُ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل أخرج المستتر، أو من أبويكم، والرابط على الاعتبارين هو الضمير فقط. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {يَراكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانُ} والكاف مفعول به، والفعل بصري فلذا اكتفى بمفعول واحد، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية: (إنّ

) إلخ مفيدة للتعليل لا محل لها. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع توكيد للضمير المستتر في الفعل. {وَقَبِيلُهُ:} معطوف على الضمير المستتر في الفعل، وسوغ ذلك توكيده بالضمير المنفصل، والهاء في محل جر بالإضافة.

هذا؛ وقرئ بالنصب، وخرج على وجهين: أحدهما عطفه على اسم (إنّ)، وثانيهما على أنه مفعول معه. {مِنْ حَيْثُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أو هما متعلقان بالفعل قبلهما، و {حَيْثُ} مبني على الضم في محل جر. والجملة الفعلية:{لا تَرَوْنَهُمْ} في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): في محل نصب اسمها، وقد حذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {جَعَلْنَا:} فعل، وفاعل، وانظر الآية رقم [9].

{الشَّياطِينَ:} مفعول به أول. {أَوْلِياءَ:} مفعول به ثان. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة:

{أَوْلِياءَ} وجملة: {لا يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها، وجملة:

{جَعَلْنَا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية تعليل آخر للنهي، فهي مؤكدة لسابقتها، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الوجهين.

{وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)}

الشرح: {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً} أي: فعل العرب فعلة متناهية في القبح، والشناعة، كعبادة الصنم، وكشف العورة في الطواف. ويدخل فيها جميع المعاصي، والكبائر. {قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها:} اعتذروا عن كفرهم، وسوء أعمالهم، واحتجوا بأمرين: تقليد الآباء،

ص: 481

والكذب على الله تعالى، فأعرض الله عن الأول لظهور فساده، ورد الثاني بقوله:{إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ} وبين سبحانه في الآية رقم [170](البقرة) أن آباءهم كانوا لا يعقلون، ولا يهتدون إلى طريق السداد، والرشاد. والمعنى: إن هذه الأفعال التي كانوا يفعلونها هي نفسها قبيحة، تأباها العقول السليمة، فكيف يأمر الله بها {أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ..} . إلخ، أي: أتفترون على الله الكذب، وتنسبون إليه أمورا، لا مستند لكم في ذلك؟! أي: من غير علم تقولون ذلك على الله. وانظر «القول» في الآية رقم [5]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة، وانظر الآية رقم [68] من سورة (يونس).

الإعراب: {وَإِذا:} (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {فَعَلُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {فاحِشَةً:} مفعول به.

{قالُوا:} فعل، وفاعل، وانظر الآية رقم [5]. {وَجَدْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {عَلَيْها:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني. {آباءَنا:} مفعول به أول، و (نا): في محل جر بالإضافة. وجملة: {وَجَدْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها يحتمل العطف على جملة الصلة:{لا يُؤْمِنُونَ} ويحتمل الاستئناف، فلا محل له على الوجهين. (الله): مبتدأ. {أَمَرَنا:}

ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، و (نا): مفعول به. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما المفعول الثاني، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {قُلْ:} أمر، والفاعل تقديره:

«أنت» . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَأْمُرُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) والمفعول محذوف، تقديره:«أحدا» ونحوه. {بِالْفَحْشاءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما وهما المفعول الثاني، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية:

{إِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَتَقُولُونَ:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار، وتوبيخ. (تقولون): فعل، وفاعل. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مقول القول، وصح ذلك؛ لأنها كناية عن كلام كثير. {لا:} نافية. {تَعْلَمُونَ:}

فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف: إذ التقدير: ما لا تعلمونه، والجملة الفعلية:{أَتَقُولُونَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول أيضا.

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَاُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)}

الشرح: {قُلْ:} أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم كسابقه، ولاحقه. {أَمَرَ:} هذا الفعل يتعدى

ص: 482

لمفعولين، الثاني منهما مجرور بحرف جر في الغالب، وجاء منصوبا في الشعر، وهو كثير.

{بِالْقِسْطِ:} العدل، وهو الوسط في كل أمر، المتجافي عن طرفي: الإفراط، والتفريط.

وقال الخازن: فالأمر بالقسط في هذه الآية يشتمل على معرفة الله بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأنه واحد لا شريك له. {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ:} توجهوا إلى عبادة الله مستقيمين غير عادلين إلى غيرها في كل وقت سجود، أو مكانه، وهو الصلاة، أو في أي مسجد حضرتكم الصلاة، ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم. {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: اعبدوا الله مخلصين له الطاعة والعبادة والدعاء، لا تشركوا معه أحدا من خلقه. {قُلْ:} انظر «القول» في الآية رقم [5].

{رَبِّي:} انظر الآية رقم [3]. {الدِّينَ:} انظر الآية رقم [161](الأنعام). هذا؛ وقد خص الله الوجوه بالذكر؛ لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة، وفيها أكثر الحواس النافعة، ولأنها مظهر آثار الخشوع، والخضوع، ولأنها مواضع السجود، ولا تنس: أن الوجه ما تتم به المواجهة، وسمي وجها لذلك.

هذا؛ و {مَسْجِدٍ} اسم مكان، وهو بكسر الجيم، والقياس فتحها؛ لأن اسم المكان، والزمان يكونان على وزن: مفعل بفتح العين؛ إن كانا مأخوذين من ماض ثلاثي يجيء مضارعه بفتح العين، أو ضمها، كمذهب ومنظر، وبكسرها إن كانت عين المضارع مكسورة كمجلس ومنزل، وكما خرج مسجد عن القياس، خرج كثير مثل: المشرق، والمغرب، والمنبت، والمسقط، والمرفق والمنخر والمجزر، والمظنة. مع أن مضارعها مضموم العين. وانظر الآية رقم [115] من سورة (البقرة).

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَمَرَ:} ماض. {رَبِّي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والمفعول محذوف، تقديره:«عباده» .

{بِالْقِسْطِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما المفعول الثاني، وجملة:{أَمَرَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (أقيموا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11].

{وُجُوهَكُمْ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {عِنْدَ:} مضاف، و {كُلِّ:} مضاف إليه، و {كُلِّ:} مضاف، و {مَسْجِدٍ:} مضاف إليه. هذا؛ وفي عطف الجملة: {وَأَقِيمُوا..} . إلخ على ما قبلها أقوال، وتأويلات، وتوجيهات كثيرة، منها: أن التقدير: وقال: أقيموا

إلخ، فحذف «قال» لدلالة الكلام عليه. ومنها: أن العطف على معنى بالقسط؛ إذ المعنى: أقسطوا، وأقيموا

إلخ.

ومنها: أن العطف على محذوف، التقدير: فاقبلوا، وأقيموا

إلخ، وعلى هذا فالفاء هي الفصيحة، وهذا كله للتخلص من عطف الإنشاء على الخبر، (ادعوه): فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:(أقيموا) على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {مُخْلِصِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون

ص: 483

عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان ب {مُخْلِصِينَ} . {الدِّينَ:}

مفعوله، ولذا فيه ضمير مستتر هو فاعله.

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَاُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}

الشرح: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} أي: كما أنشأكم ابتداء من العدم يعيدكم يوم القيامة بعد الفناء، فيجازيكم على أعمالكم. فأخلصوا له العبادة. وإنما شبه الإعادة بالابتداء تقريرا لإمكانها، والقدرة عليها. وقيل: كما بدأكم من التراب تعودون إليه. وقيل: كما بدأكم حفاة، عراة، غرلا تعودون. وقيل: كما بدأكم مؤمنا، وكافرا يعيدكم. انتهى. بيضاوي بتصرف.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن الله عز وجل بدأ خلق بني آدم مؤمنا، وكافرا، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} ثم يعيدهم يوم القيامة، كما بدأ خلقهم مؤمنا، وكافرا. وحجة هذا القول قوله في سياق الآية:{فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} فإنه كالتفسير له، ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه» . أخرجه مسلم، زاد البغوي في روايته:

«المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره» . انتهى خازن.

{فَرِيقاً هَدى:} هداهم الله للإيمان به، ومعرفته، ووفقهم لطاعته، وعبادته. {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} يعني: وخذل فريقا؛ حتى وجبت عليهم الضلالة للسابقة التي سبقت لهم في الأزل بأنهم أشقياء.

وفيه دليل على أن الهدى، والضلالة من الله عز وجل. ولما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق الخلق في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور؛ اهتدى، ومن أخطأه، ضلّ» . أخرجه الترمذي.

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [88](النساء) فإنه جيد. هذا؛ و (الفريق) الطائفة من الناس، والفريق أكثر من الفرقة، وهو اسم جمع، لا واحد له من لفظه، كرهط، وقوم. {الشَّياطِينَ:}

انظر الاستعاذة، والآية رقم [112] (الأنعام). {أَوْلِياءَ:} يتولون أمورهم، ويتلاعبون بهم. وانظر الآية رقم [2]. {دُونِ:} انظر الآية رقم [2]. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {وَيَحْسَبُونَ:} ماضيه حسب، فهو من باب تعب في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضا على غير قياس، وقد قرئ المضارع بفتح السين وكسرها، والمصدر: الحسبان (بكسر الحاء) وحسبت المال حسبا من باب: قتل، بمعنى: أحصيته عددا. {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} المعنى: أنهم مع ضلالتهم يظنون، ويحسبون: أنهم على هداية، وحق. وفيه دليل على أن الكافر الذي يظن: أنه في دينه على الحق، والجاحد، والمعاند في الكفر سواء.

ص: 484

الإعراب: {كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {بَدَأَكُمْ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، و (ما) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، عامله ما بعده، التقدير:«تعودون عودا مثل بدئكم» . وقيل: تقديره: «تخرجون خروجا مثل بدئكم» . انتهى. مكي. والأول أليق بلفظ الآية الكريمة. انتهى. جمل. {تَعُودُونَ:} فعل، وفاعل. والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، أو هي تعليل لقوله:{وَأَقِيمُوا..} . إلخ، فتكون على حد قوله:{وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ} الآية رقم [198](البقرة). {فَرِيقاً:} مفعول به مقدم. {هَدى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {اللهِ} . {فَرِيقاً:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير:

وأضل، أو خذل فريقا، والجملة الفعلية السابقة في محل نصب حال من فاعل {بَدَأَكُمْ،} التقدير:

«هاديا فريقا» . والثانية معطوفة عليها، والتقدير:«وخاذلا فريقا» . هذا؛ وجوز اعتبار {فَرِيقاً} حالا من واو الجماعة، التقدير:«تعودون فريقين: سعداء وأشقياء» . يقوي هذا قراءة أبيّ: «(تعودون فريقين فريقا هدى

)» إلخ. انتهى قرطبي. أقول: وهذا يعني: أن فريقا بدل من: «فريقين» وتكون جملة:

{هَدى} صفة: {فَرِيقاً} وجملة: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} صفة: {فَرِيقاً} الثاني على كل حال.

{إِنَّهُمُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {اِتَّخَذُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5]. {الشَّياطِينَ:} مفعوله الأول {أَوْلِياءَ:} مفعوله الثاني. {مِنْ دُونِ:} متعلقان ب {أَوْلِياءَ،} أو بمحذوف صفة له، و {دُونِ:}

مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، وجملة:{اِتَّخَذُوا..} . إلخ في محل رفع خبر إن، والجملة الاسمية:

{إِنَّهُمُ..} . إلخ تعليل لخذلان من حقّ عليهم الضلالة. هذا؛ وقرئ بفتح الهمزة، وعليه ف:(إنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لأنهم

إلخ، والجار والمجرور بعد السبك متعلقان بالفعل:{حَقَّ} . (يحسبون): فعل، وفاعل. {إِنَّهُمُ:} أن واسمها. {مُهْتَدُونَ:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي:(يحسبون)، والجملة الفعلية هذه معطوفة على جملة:{اِتَّخَذُوا..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.

{يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاِشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}

الشرح: {آدَمَ:} انظر الآية رقم [11]. {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ:} البسوا ثيابكم، وتجملوا فيها إذا أردتم الصلاة في أي مسجد كان. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا:} الأمر للإباحة إلا ما سد الرمق، وأقام البدن؛ فإنه واجب. {وَلا تُسْرِفُوا:} بتحريم الحلال، أو بالتعدي إلى الحرام، أو بإفراط الطعام، والشره فيه. {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ:} لا يرتضي فعلهم.

ص: 485

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في أمرين: الأول كانت المرأة في الجاهلية تطوف بالكعبة عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافا؟ أي: شيئا تجعله على فرجها، وهي تقول:[الرجز]

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه

فأمر الله بني آدم عامة بلبس الثياب، والتجمل بها في كل مسجد دخلوه. وتقدم: أن ستر العورة واجب في غير الصلاة أيضا. والأمر الثاني: كان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما، يعظمون بذلك حجهم، فهمّ المسلمون بذلك، فأمرهم الله بالأكل الذي يقيم أودهم، ويحفظ صحتهم.

تنبيه: الإسراف: مجاوزة الحد، وهو مذموم في كل شيء، والمراد هنا: النهي عنه في الأكل، والشرب. والإسراف فيهما يكون بأحد أمرين.

الأول: المغالاة في ثمنهما. والثاني: المغالاة في تعاطيهما. فالأول أن يكلف العبد نفسه ما لا طاقة له به ماليّا؛ حيث لا يأكل إلا الطعام الفاخر؛ ووضعه المالي لا يتحمل هذا. ويدخل في ذلك المغالاة في اللباس الفاخر.

والأمر الثاني: يراد به التضلع في الطعام، والشراب. وهذا فوق: أنه إسراف في المال مضر بالصحة، والبدن، وقد أرشدنا الرسول المعظم صلى الله عليه وسلم، إلى الاعتدال في الأكل، والشراب، وفي ذلك ما يغني عن كلام الأطباء، بل ولا يحوج إلى الوقوف عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام:«ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة؛ فثلاث لطعامه، وثلاث لشرابه، وثلاث لنفسه» . أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معديكرب.

قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة؛ لعجب من هذه الحكمة. ويذكر: أنه كان للرشيد طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان! فقال له علي: قد جمع الطب كله في نصف آية من كتابنا، فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} فقال النصراني:

ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب، فقال علي: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة، قال: ما هي؟ قال: «المعدة بيت الأدواء، والحمية رأس كلّ دواء، وأعط كلّ جسد ما عوّدته» .

فقال النصراني: ما ترك كتابكم، ولا نبيكم لجالينوس طبّا! وقال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف، ومخيلة.

{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} يعني: إن الله لا يحب من أسرف في المأكول، والمشروب، والملبوس. وفي هذه الآية وعيد شديد لمن أسرف في هذه الأشياء؛ لأن محبة الله تعالى عبارة

ص: 486

عن رضاه عن العبد، وإيصال الثواب إليه، وإذا لم يحبه؛ علم أنه تعالى ليس راضيا عنه. انتهى خازن. وانظر الآية رقم [141] من سورة (الأنعام).

الإعراب: {يا بَنِي آدَمَ:} انظر الآية رقم [26]. {خُذُوا:} فعل أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]. {زِينَتَكُمْ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {عِنْدَ:} مضاف، و {كُلِّ:} مضاف إليه، و {كُلِّ:} مضاف، و {مَسْجِدٍ:} مضاف إليه، وجملة:{خُذُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، كالجملة الندائية قبلها، والجملتان {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} معطوفتان عليها، لا محل لهما مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا):

ناهية جازمة. {تُسْرِفُوا:} مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لا:}

نافية. {يُحِبُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهِ}. {الْمُسْرِفِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{لا يُحِبُّ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها.

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كسابقه، ولا حقه. والمعنى: قل لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة، والذين يحرمون على أنفسهم في أيام الحج اللحم والدسم.

انتهى. خازن. {زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ} أي: من النبات، كالقطن، والكتان. ومن الحيوان، كالحرير، والصوف، ومن المعادن كالدروع انتهى. بيضاوي وغيره. {وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ:}

المستلذات من المآكل، والمشارب. وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس، وأنواع التجملات الإباحة؛ لأن الاستفهام في {مَنْ} للإنكار. {هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا:} ويشركهم فيها المشركون، والملحدون، والفاسقون فهي لهم أصالة، ولغيرهم تبعا، لقوله تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ} . {خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: الطيبات من الرزق من اختصاص المؤمنين في الآخرة، ولا حظّ لغيرهم فيها، بل على العكس يعذبون في نار جهنم العذاب الأليم، ويعاقبون العقاب الشديد. {كَذلِكَ نُفَصِّلُ..}. إلخ: أي: نبين الحلال، ونوضحه، ونبين الحرام، ونوضحه بيانا شافيا كافيا لقوم علموا: أني أنا الله وحدي، لا شريك لي، فأحلوا حلالي، وحرموا

ص: 487

حرامي. هذا؛ وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {قُلْ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {اللهِ:}

انظر الاستعاذة. {لِعِبادِهِ:} جمع: عبد، وهو يطلق على الإنسان حرّا كان، أو رقيقا، ويجمع على: عبيد أيضا، وعلى غيره. (الإيمان): انظر الآية رقم [1]. {الْحَياةِ الدُّنْيا:} انظر الآية رقم [29](الأنعام){يَوْمَ الْقِيامَةِ:} انظر الآية رقم [12] منها. {الْآياتِ} انظر الآية رقم [9].

{لِقَوْمٍ:} اسم جمع، لا واحد له من لفظه: مثل: نفر، ومعشر، وهو يطلق على الرجال دون النساء، بدليل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} . وقال زهير بن أبي سلمى المزني: [الوافر]

وما أدري-وسوف إخال أدري-

أقوم آل حصن أم نساء؟

وربما دخل فيه النساء على سبيل التبع للرجال، كما في إرسال الرسل لأقوامهم؛ إذ إن كل لفظ:(يا قوم) في القرآن الكريم، إنما يراد به الرجال، والنساء جميعا.

تنبيه: الآية صريحة في إباحة الطيبات من الطعام، والشراب، والفاخر من الثياب، وقد أكل السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم الطيبات، وتمتعوا بالفاخر من الثياب، وإذا كان بعض الناس يقتّرون على أنفسهم وأولادهم في المأكول والمشروب مع القدرة، ويلبسون الخشن والرث من المتاع باسم الزهد والورع والتقوى، فإنه ليس من الإسلام في قليل ولا كثير، بل إنه إنكار وجحود لنعم الله تعالى، والله يحب أن يرى أثر نعمه على عباده، كما أنه جميل يحب من عباده أن يتجملوا، ولا سيما في بعض الحالات، وكثير من المناسبات كالجمع والأعياد، وزيارة الإخوان والأصدقاء. والتظاهر بالزهد عن طريق الخشونة في العيش، ولبس الثياب الخشنة مع سوء العمل لا يجدي فتيلا، كما أن تناول المستلذات من الطعام والشراب، ولبس الثياب الناعمة مع حسن العمل، وامتثال أوامر الله لا يضر قليلا ولا كثيرا، ورحم الله الشافعي إذ يقول:[الكامل]

حسّن ثيابك ما استطعت فإنّها

زين الرّجال بها تعزّ وتكرم

ودع التّخشّن في الثّياب تواضعا

فالله يعلم ما تسرّ وتكتم

فجديد ثوبك لا يضرّك بعد ما

تخشى الإله وتتّقي ما يحرم

ورثيث ثوبك لا يزيدك رفعة

عند الإله وأنت عبد مجرم

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {حَرَّمَ:} ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى: {مَنْ} .

{زِينَةَ:} مفعول به، و (هو) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {زِينَةَ اللهِ} . {أَخْرَجَ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} .

ص: 488

{لِعِبادِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: التي أخرجها الله لعباده. {وَالطَّيِّباتِ:}

معطوف على: {زِينَةَ اللهِ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنها جمع مؤنث سالم. {مِنَ الرِّزْقِ:} جار ومجرور متعلقان ب: (الطيبات) أو بمحذوف حال منه على اعتبار «ال» فيه للتعريف، أو بمحذوف صفة له، على اعتبار «ال» فيه للجنس، وجملة:

{حَرَّمَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{مَنْ حَرَّمَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {هِيَ:} ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ. {آمَنُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5] والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{فِي الْحَياةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الدُّنْيا:} صفة: {الْحَياةِ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {خالِصَةً:} بالنصب حال من الضمير المستتر في متعلق:

{لِلَّذِينَ} إذ التقدير: هي مستقرة وثابتة للذين آمنوا

خالصة لهم يوم القيامة. هذا؛ وقد قرأ بالرفع نافع وحده، ويخرج على وجهين: أولهما على أنه خبر ثان للمبتدإ، وثانيهما على أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي خالصة لهم. والظرف: {يَوْمَ} متعلق ب: {خالِصَةً} على الوجهين، و {يَوْمَ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. خذ هذا الإعراب، وتوكل على الكريم الوهاب، ثم بعد ذلك أنقل لك ما قاله أبو البقاء بحروفه؛ لتكون على بصيرة من أمرك.

قال رحمه الله تعالى: {هِيَ} مبتدأ وفي الخبر ستة أوجه: أحدها: (خالصة) على قراءة من رفع، فعلى هذا تكون اللام متعلقة ب (خالصة) أي: هي خالصة لمن آمن في الدنيا، و {يَوْمَ الْقِيامَةِ} ظرف ل {خالِصَةً،} ولم يمتنع تعلق الظرفين بها؛ لأن اللام للتبيين، والثاني ظرف محض، و {فِي} متعلقة ب {آمَنُوا}. والثاني: أن يكون الخبر {لِلَّذِينَ} و (خالصة) خبر ثان، و {فِي} متعلقة ب {آمَنُوا}. والثالث: أن يكون الخبر {لِلَّذِينَ} . و {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} معمول الظرف الذي هو اللام، أي يستقر للذين آمنوا في الحياة الدنيا. و (خالصة): خبر ثان. والرابع:

أن يكون الخبر {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا،} و {لِلَّذِينَ} متعلق ب {خالِصَةً،} والخامس أن تكون اللام حالا من الظرف الذي بعدها على قول الأخفش، والسادس أن تكون {خالِصَةً} نصبا على الحال على قراءة من نصب، والعامل فيها:{لِلَّذِينَ،} أو {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا؛} إذا جعلته خبرا، وحالا، والتقدير:«هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، في حال خلوصها لهم يوم القيامة» . أي: إن الزينة يشاركون فيها في الدنيا، وتخلص لهم في الآخرة. انتهى.

وقال مكي: وقد قال الأخفش: إن قوله: {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} متعلق بقوله: {أَخْرَجَ لِعِبادِهِ} ف: {أَخْرَجَ} هو العامل في الظرف. وقيل: قوله: {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} متعلق ب {حَرَّمَ} فهو العامل

ص: 489

فيه. والمعنى على قول الأخفش: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده في الحياة الدنيا. وعلى قول غيره. قل: من حرم في الحياة الدنيا زينة الله؛ التي أخرج لعباده. انتهى. {كَذلِكَ} الكاف: حرف تشبيه، وجر. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل الذي بعده، وتقدير الكلام:«نفصل الآيات تفصيلا كائنا مثل ذلك التفصيل» . {نُفَصِّلُ:} مضارع مرفوع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{يَعْلَمُونَ} في محل جر صفة (قوم) والمفعول محذوف، التقدير: لقوم يعلمون ذلك، وهو من المعرفة لا العلم. وانظر الآية رقم [60] من سورة (الأنفال). والجملة الفعلية:{كَذلِكَ نُفَصِّلُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)}

الشرح: {قُلْ:} هو مثل سابقه. {حَرَّمَ:} انظر الآية رقم [145](الأنعام){رَبِّيَ:} انظر الآية رقم [3]. {الْفَواحِشَ:} كبائر الذنوب، أو الزنى خاصة. {ما ظَهَرَ مِنْها:} ما يطلع عليه الناس منها. {وَما بَطَنَ:} الذي لم يطلع عليه أحد إلا الله تعالى. {وَالْإِثْمَ:} المعاصي، والمنكرات على جميع أنواعها، واختلاف درجاتها، فيكون من عطف العام على الخاص.

وقيل: الإثم صغائر الذنوب، فيكون من عطف الخاص على العام. هذا؛ وقد قيل: الإثم: اسم من أسماء الخمرة، وهو قول الحسن، وعطاء. قال الجوهري: وقد تسمى الخمر إثما، واستدل عليه بقول بعض الجاهليين:[الوافر]

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

وقال ابن سيده صاحب المحكم: وعندي: أن تسمية الخمر بالإثم صحيح؛ لأن شربها إثم.

وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم، قال: لأن العرب ما سمته إثما قط في جاهلية، ولا في إسلام، ولكن قد يكون الخمر داخلا تحت الإثم، لقوله تعالى:{قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ} . انتهى خازن. {وَالْبَغْيَ:} انظر الآية رقم [146] الأنعام {الْحَقِّ:} خلاف الباطل.

قال الراغب: أصل (الحق) المطابقة، والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه على الاستقامة، و (الحق) يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى:

هو الحق، وللموجود بحسب مقتضى الحكمة، ولذلك يقال: فعل الله تعالى كله حق، نحو الموت، والرزق، والحساب

إلخ، وللاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في

ص: 490

نفسه، نحو اعتقاد زيد في الجنة حق، وللفعل والقول الواقعين بحسب ما يجب، وقدر ما يجب في الوقت الذي يجب، نحو قولك حق، وفعلك حق. ويقال: أحققت ذا، أي: أثبته حقّا، أو حكمت بكونه حقّا. انتهى بغدادي.

{وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ:} الشرك: أن تجعل لله ندّا في العبادة، أو تصف إنسانا بصفة من صفات الله تعالى، أو تجعل لإنسان تأثيرا في فعل من أفعال الله تعالى. وهذا هو الشرك الظاهر، وهناك أنواع كثيرة من الشرك، منها: الرياء، وهو خفي لا يدركه إلا من منحه الله علما من عنده، وتوفيقا من هدايته. فعن محمود بن لبيد-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» . قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله! قال:

«الرّياء، يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟!» . رواه أحمد، والبيهقي. وعن شداد بن أوس-رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام يرائي؛ فقد أشرك، ومن صلّى يرائي؛ فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي؛ فقد أشرك» . رواه البيهقي. {سُلْطاناً:} حجة، وبرهانا. {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} أي: وأن تفتروا على الله الكذب، وتنسبوا إليه أمورا من غير علم عندكم بمعرفتها، بل هي تقوّل، وافتراء. وانظر شرح (سلطان) في الآية [96] من سورة (هود).

تنبيه: قال الخازن: المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من الثياب، ويطوفون بالبيت عراة، ويحرمون أكل الطيبات مما أحل الله لهم: إن الله لم يحرم ما تحرمونه أنتم، بل أحله الله لعباده، وطيبه لهم، وإنما حرم الفواحش، من الأفعال، والأقوال، ظاهرها، وباطنها. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها، وما بطن، ولا أحد أحبّ إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه» . متفق عليه. انتهى.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {حَرَّمَ:}

ماض. {رَبِّيَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، {الْفَواحِشَ:} مفعول به. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب بدلا من:{الْفَواحِشَ،} والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {مِنْها:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في {ما}. وعلى الاعتبار الثالث تؤول {ما} مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب بدلا من:

{الْفَواحِشَ،} التقدير: «حرم ربي الفواحش ظاهرها، وباطنها» . والجملة الفعلية: {إِنَّما حَرَّمَ..} .

إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَالْإِثْمَ}

ص: 491

{وَالْبَغْيَ:} معطوفان على {الْفَواحِشَ} . {بِغَيْرِ:} متعلقان ب: (البغي) لأنه مصدر. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه، و (غير) مضاف، و {الْحَقِّ:} مضاف إليه. (أن): حرف مصدري ونصب. {تُشْرِكُوا:} مضارع منصوب ب (أن)، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و (أن) والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب معطوف على:{الْفَواحِشَ} أي: وحرم الإشراك، أو الشرك. {بِاللهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة. فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لَمْ:} حرف نفي وقلب وجزم. {يُنَزِّلْ:} مضارع مجزوم ب: {لَمْ} . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان به. {سُلْطاناً:} مفعول به، والجملة الفعلية:{لَمْ يُنَزِّلْ..} . إلخ صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور بالباء في:{بِهِ} . {وَأَنْ تَقُولُوا:} هو مثل: {وَأَنْ تُشْرِكُوا} وهو معطوف عليه بعد سبكه بمصدر. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما لا تَعْلَمُونَ:}

انظر إعراب هذا في الآية رقم [28] وقد حذف المفعول، كما في الآية السابقة.

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}

الشرح: {أُمَّةٍ:} جماعة، وتكون واحدا؛ إذا كان يقتدى به. قال تعالى:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ} . وقد يطلق لفظ الأمة على غير هذا المعنى، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} أي: على طريق، وملة، ودين، وكل جنس من الحيوان أمة. انظر الآية رقم [6/ 38]. والأمّة: الحين، والوقت، قال تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد وقت، وحين. وقال جل ذكره:{وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} أي: إلى مدة.

{أَجَلٌ:} الأجل: الوقت المؤقت لانقضاء وقت المهلة، والمراد به هنا: أجل الموت. وقيل:

أجل العذاب، والانتقام. وانظر الآية رقم [6/ 2] فإنك تجد ما يسرك. {جاءَ أَجَلُهُمْ} يعني: إذا حل وقت عذابهم، وهلاكهم. وانظر:{جاءَ} في الآية رقم [3]. {لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} يعني: فلا يؤخرون، ولا يمهلون قدر ساعة، ولا أقل من ساعة. فالسين بالفعلين زائدة، كما تبين لك من الشرح. وإنما ذكرت الساعة؛ لأنها أقل أسماء الأوقات في العرف.

وهذا حين سألوا نزول العذاب، فأخبرهم الله تعالى: أن لهم وقتا، فإذا جاء ذلك الوقت، وهو وقت إهلاكهم؛ فلا يؤخرون عنه، ولا يقدمون. هذا؛ ويمكن أن يراد به أجل الموت لكل إنسان. هذا؛ وكثيرا ما يطلق اسم الساعة على القيامة، وإطلاقها على القيامة؛ لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وقيل: سميت القيامة ساعة لسرعة الحساب فيها؛ لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة، أو أقل من ذلك. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [187] الآتية.

ص: 492

الإعراب: (لكل): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (كل) مضاف، و {أُمَّةٍ:}

مضاف إليه. {أَجَلٌ:} مبتدأ مؤخر. {فَإِذا:} الفاء: حرف تفريع. (إذا): انظر الآية رقم [28].

{جاءَ:} فعل ماض. {أَجَلُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المرجوح المشهور. {لا:} نافية. {يَسْتَأْخِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها.

{ساعَةً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ:} إعرابه مثل سابقه، ومتعلقه محذوف لدلالة الأول عليه، والجملة الفعلية معطوفة على سابقتها لا محل لها مثلها، و (إذا) ومدخولها كلام مفرع عن الجملة الاسمية لا محل له مثلها؛ لأنها مستأنفة.

{يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اِتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)}

الشرح: {آدَمَ:} انظر الآية رقم [11]. {يَأْتِيَنَّكُمْ:} «أتى» يستعمل لازما؛ إن كان بمعنى:

حضر، وأقبل، ومتعديا إن كان بمعنى: وصل، وبلغ، فمن الأول قوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} ومن الثاني ما في الآية الكريمة، ومثلها كثير. {رُسُلٌ:} جمع: رسول، وهو ذكر، حر من بني آدم، سليم عن منفر طبعا، أوحي إليه بشرع يعمل به، ويؤمر بتبليغه، وإن لم يؤمر بالتبليغ فهو نبي. وانظر عدد الأنبياء، والمرسلين، وما ذكرته بشأنهم في الآية رقم [164](النساء) و [86](الأنعام). هذا؛ و {رُسُلٌ} بضم الراء، والسين، ويجوز تسكين سينه، قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل: عسر، ويسر، وأسد، ورحم، وحلم

إلخ. {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي:} يقرءون عليكم كتابي، وأدلة أحكامي، وشرائعي التي شرعت لعبادي. وانظر الآية رقم [9]. {اِتَّقى} أي: الله، فامتثل أوامره، واجتنب نواهيه. وانظر الآية رقم [25]. {وَأَصْلَحَ} أي: عمله. {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي: في الآخرة عند الفزع الأكبر، والهول الأعظم. {يَحْزَنُونَ} أي: على ما فاتهم في الدنيا، أو بما يسوءهم في الآخرة.

تنبيه: قال الخازن: وإنما قال: {رُسُلٌ} بلفظ الجمع، وإن كان المراد به واحدا، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم الأنبياء، وهو مرسل إلى كافة الخلق، فذكره بلفظ الجميع على سبيل التعظيم، فعلى هذا يكون الخطاب في قوله:{يا بَنِي آدَمَ..} . إلخ لأهل مكة، ومن يلحق بهم.

وقيل: أراد جميع الرسل، وعلى هذا فالخطاب عام في كل بني آدم، وإنما قال:{مِنْكُمْ،} يعني من جنسكم، ومثلكم من بني آدم؛ لأن الرسول إذا كان من جنسهم؛ كان أقطع لعذرهم، وأثبت للحجة عليهم؛ لأنهم يعرفونه، ويعرفون أحواله، فإذا أتاهم بما لا يليق بقدرته، أو بقدرة أمثاله؛

ص: 493

علم: أن ذلك الذي أتى به معجزة له، وحجة على من خالفه. هذا؛ وفي قوله:{اِتَّقى} مراعاة لفظ (من)، وفي قوله:{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ..} . إلخ مراعاة معناها.

الإعراب: {يا بَنِي آدَمَ:} انظر الآية رقم [127]. {إِمّا:} هذه (إن) الشرطية ضمت إليها (ما) زائدة لتؤكد معنى الشرط؛ لأن معنى إن في الأصل الشك، فزال هذا المعنى بسبب (ما) ولذا أكد الفعل بنون التوكيد. {يَأْتِيَنَّكُمْ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، وهو في محل جزم فعل الشرط، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {رُسُلٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {رُسُلٌ} . {يَقُصُّونَ:} فعل، وفاعل. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {آياتِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، وياء المتكلم ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَقُصُّونَ..} . إلخ في محل رفع صفة ثانية ل: {رُسُلٌ} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {فَمَنِ} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِتَّقى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). (أصالح): ماض معطوف على ما قبله، وهو في محل جزم مثله، والفاعل يعود إلى (من). {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية مهملة، ولا يجوز إعمالها إعمال:«ليس» ؛ لأنها تكررت. {خَوْفٌ:}

مبتدأ. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ ويجوز تعليقهما ب {خَوْفٌ} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، وعليهما فخبر المبتدأ محذوف، تقديره: حاصل أو موجود، والجملة الاسمية:{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في محل جزم جواب الشرط. وانظر خبر المبتدأ الذي هو (من) في الآية رقم [8] هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهي مبتدأ والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية:{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في محل رفع خبر، وزيدت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وعلى كلّ فالجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (إن) عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والجملة الشرطية {إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ..}. إلخ لا محل لها؛ لأنها كلام مبتدأ كالجملة الندائية قبلها. (لا): نافية، أو زائدة لتأكيد النفي. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ وجملة: {يَحْزَنُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، على الوجهين المعتبرين فيها.

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاِسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أي: جحدوا الآيات، وأنكروها، وكذبوا رسلنا.

{وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها} أي: استكبروا عن الإيمان بها. {أَصْحابُ:} جمع: صاحب، ويكون بمعنى:

ص: 494

المالك كما هنا، ويكون بمعنى: الصديق، ويجمع أيضا على: صحب، وصحاب، وصحابة، وصحبة وصحبان، ثم يجمع أصحاب على: أصاحيب أيضا، ثم يخفف، فيقال: أصاحب.

{النّارِ:} انظر الآية رقم [12]. هذا؛ وقد جعل المكذبون، والمستكبرون أصحاب النار، بمعنى مالكيها، لملازمتهم لها، وعدم انفكاكهم عنها، وقل مثله في: أصحاب الجنة. {خالِدُونَ:}

مقيمون لا يخرجون، ماكثون أبدا، لا يموتون، ولا يفنون. وانظر (نا) في الآية رقم [7] وشرح (الآيات) في الآية رقم [9].

الإعراب: (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَذَّبُوا} و (استكبروا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5] والجملة الأولى صلة الموصول لا محل لها، والثانية معطوفة عليها. {بِآياتِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {عَنْها:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{أَصْحابُ:} خبره، وهو مضاف، و {النّارِ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ (الذين) والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، فهي في محل جزم مثلها؛ لأنها قسيمة لها، أي مقابلة لها في المعنى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [42] الآتية.. ودخلت الفاء في الخبر الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد، والمسامحة في الوعيد، وهذا يؤكد اعتبار (من) اسما موصولا.

{هُمْ:} مبتدأ. {فِيها:} متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ:} خبره مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{أَصْحابُ النّارِ،} أو من {النّارِ} نفسها، والعامل في الحال اسم الإشارة، والرابط على الاعتبارين الضمير، وفيها معنى التأكيد للكلام السابق، وجوز اعتبارها خبرا ثانيا ل {أُولئِكَ} . والأول أقوى.

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)}

الشرح: {فَمَنْ أَظْلَمُ..} . إلخ: أي: لا أحد أظلم

إلخ، وذلك لجمعهم بين أمرين لا يجتمعان عند عاقل: افتراؤهم على الله بما هو باطل غير ثابت، وتكذيبهم ما هو ثابت بالحجة.

أو المعنى: لا أحد أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين، فكيف بمن جمع بينهما؟! والأمر الأول:

هو ما زعمه مشركو العرب من كون الملائكة بنات الله تعالى. والأمر الثاني: هو تكذيبهم بالقرآن الكريم، وبالمعجزات؛ التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم. وانظر شرح (آية) في رقم [9]. وقد راعى لفظ

ص: 495

(من) في الجملتين الفعليتين، وراعى معناها في الجمل الآتية كلها. {يَنالُهُمْ:} يصيبهم. {نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ:} في هذا النصيب قولان: أحدهما: أن المراد به هو العذاب المعين لهم في الكتاب، والثاني أن المراد به ما كتب لهم من الأرزاق والآجال والسعادة والشقاوة

إلخ، والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ. وانظر الآية رقم [2]. {حَتّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ:} المراد بالرسل: الملائكة؛ الذين يقبضون أرواح هؤلاء المفترين، والمكذبين. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [6/ 61] تجد ما يسرك. وانظر (جاء) في الآية رقم [4] وانظر شرح:{رُسُلُنا} في الآية رقم [35]. {قالُوا} أي: قال الملائكة لهؤلاء المكذبين. وانظر «القول» في الآية رقم [5]. {أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ:} هذا سؤال توبيخ، وتقريع، وتبكيت، لا سؤال استعلام.

والمعنى: أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله؟ ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم. وانظر الإعلال مثل {كُنْتُمْ} في الآية رقم [11] وانظر: {دُونِ} في الآية رقم [3]. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {ضَلُّوا عَنّا:} غابوا عنا عند حاجتنا إليهم. وانظر الآية رقم [60]. {وَشَهِدُوا:}

اعترفوا وأقروا بكفرهم بلفظ الشهادة التي هي لتحقيق الخبر. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [/130 6]. {أَنْفُسِهِمْ:} انظر الآية رقم [9]. وانظر شرح (الكفر) في الآية رقم [5/ 36] وانظر (نا) في الآية رقم [7].

الإعراب: {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم استفهام مفيد للنفي، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {مِمَّنِ:}

جار ومجرور متعلقان ب {أَظْلَمُ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية:{اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} صلة (من)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها، وجملة:{كَذَّبَ بِآياتِهِ} معطوفة عليها، على الوجهين المعتبرين فيها.

{أُولئِكَ:} مبتدأ. {يَنالُهُمْ:} مضارع، والهاء ضمير في محل نصب مفعول به. {نَصِيبُهُمْ:}

فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْكِتابِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {نَصِيبُهُمْ،} والجملة الفعلية: {يَنالُهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} انظر الآية رقم [28]. {جاءَتْهُمْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {رُسُلُنا:} فاعله، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {يَتَوَفَّوْنَهُمْ:}

مضارع مرفوع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل:(جاء) أو من مفعوله؛ لأن فيها ضميرين، الواو تعود إلى الفاعل، والهاء تعود إلى المفعول، واعتبارها من الفاعل أقوى، وجملة:{جاءَتْهُمْ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر الآية رقم [4]. {أَيْنَ:} اسم استفهام معناه التوبيخ، مبني على الفتح في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف في محل رفع

ص: 496

خبر مقدم. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر.

{كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَدْعُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبره. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {دُونِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: «كنتم تدعونه

إلخ». والجملة الاسمية: {أَيْنَ ما..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب إذا لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف بعد {حَتّى} لا محل له، بعد هذا ينبغي أن تعلم: أن أبا الحسن الأخفش يعتبر {إِذا} في مثل هذه الآية مجرورة ب {حَتّى،} وهو رأي لا يوافقه عليه أحد من النحويين. هذا؛ وجملة: {ضَلُّوا عَنّا} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا ضَلُّوا عَنّا} مستأنفة لا محل لها؛ لأنها بمنزلة سؤال جواب مقدر. {عَلى أَنْفُسِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها، والميم في الجميع حرف دال على جماعة الذكور. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {كافِرِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ) و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب بنزع الخافض، أو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:«شهدوا على أنفسهم بكونهم كافرين» . وينبغي أن تعلم: أن حذف الجار يطرد مع أن وأنّ، وجملة:{وَشَهِدُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {قالُوا..} . إلخ، لا محل لها مثلها.

{قالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتّى إِذَا اِدّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38)}

الشرح: {قالَ ادْخُلُوا..} . إلخ: أي يقول الله يوم القيامة، أو أحد من الملائكة للكافرين:

{اُدْخُلُوا..} . إلخ. هذا؛ وانظر «القول» في الآية [5] والتعبير بالماضي عن المستقبل إنما هو لتحقق وقوع هذا الكلام يوم القيامة. وانظر الآية رقم [5/ 116] تجد ما يسرك. {اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ} أي: مع أمم، والمراد بهم الجماعات، والأحزاب، وأهل الملل. وانظر شرح:{أُمَّةٌ} في الآية رقم [33] وانظر شرح: {أُمَمٍ} في الآية رقم [6/ 38]. {خَلَتْ:} مضت. وانظر إعلال: {بَدَتْ} في الآية رقم [21] فهو مثله. {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ:} انظر شرح: {الْجِنِّ} في الآية رقم [6/ 76] وشرح: {الْإِنْسِ} في الآية رقم [6/ 112]. {النّارِ:} انظر الآية رقم [12]. {دَخَلَتْ أُمَّةٌ} أي:

النار، أو في النار. {لَعَنَتْ أُخْتَها} أي: في الدين، والتي قبلها في الدخول، أو في التلبس بذلك

ص: 497

الدين، فيلعن المشركون المتأخرون السابقين منهم، واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس.

{اِدّارَكُوا فِيها} أي: تداركوا، وتلاحقوا في النار. هذا؛ وأصل:{اِدّارَكُوا:} تداركوا، فأدغمت التاء في الدال، بعد قبلها دالا، وتسكينها، ثم اجتلبت همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن. ولهذه الكلمة نظائر، مثل: ادكر، واطلع

إلخ، {أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ:} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني قال آخر كل أمة لأولها. وقال السدي: قالت أخراهم الذين كانوا في آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين، وقال مقاتل: يعني: قال آخرهم دخولا النار، وهم الأتباع لأولاهم دخولا، وهم القادة؛ لأن القادة يداخلون النار أولا. انتهى. خازن.

و {أُخْراهُمْ} و (أولاهم) يحتمل أن يكون: «فعلى» أنثى «أفعل» الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا كما قال الزمخشري: أخراهم منزلة، وهم الأتباع، والسفلة، لأولاهم منزلة، وهم القادة، والسادة، والرؤساء، ويحتمل أن تكون:(أخرى) بمعنى: آخرة، تأنيث:«آخر» مقابل «أول» لا تأنيث «آخر» الذي للمفاضلة، كقوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} والفرق بين أخرى بمعنى آخرة، وبين أخرى تأنيث آخر بزنة أفعل للتفضيل: أن التي للتفضيل لا تدل على الانتهاء، كما لا يدل عليه مذكرها، ولذلك يعطف أمثالها عليها في نوع واحد، تقول: مررت بامرأة وأخرى وأخرى، كما تقول: برجل وآخر وآخر، وهذه تدل على الانتهاء، كما يدل عليه مذكرها، ولذلك لا يعطف أمثالها عليها، ولأن الأولى تفيد إفادة غير، وهذه لا تفيد إفادة غير، والظاهر في هذه الآية الكريمة أنهما ليستا للتفضيل، بل لما ذكرت لك. انتهى جمل نقلا عن السمين.

{رَبَّنا:} انظر الآية رقم [2] لشرحه، والآية رقم [22] لحذف (يا) منه. {أَضَلُّونا:} سنوا لنا الضلال، فاقتدينا بهم. وانظر الآية رقم [60]. {فَآتِهِمْ عَذاباً} أي: أعطهم عذابا. هذا؛ وعذاب اسم مصدر، لا مصدر؛ لأن المصدر: تعذيب؛ لأنه من: عذب، يعذب بتشديد الذال فيهما.

وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، مثل: عطاء، ونبات لأعطى، وأنبت. {ضِعْفاً مِنَ النّارِ} أي: ضاعف لهم عذاب النار؛ لأنهم ضلوا، وأضلوا. وما أحراك أن تنظر الآية رقم [66] من سورة (الأحزاب) وما بعدها. {قالَ} أي: الله: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} أي: لكل من القادة، والأتباع مضاعف العذاب، أما القادة؛ فبكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع، فبكفرهم، وتقليدهم.

هذا؛ و {ضِعْفٌ} بكسر الضاد، وسكون العين: مثل الشيء، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه:

أمثاله، هذا هو الأصل في الضعف، ثم استعمل في المثل، وما زاد، وليس للزيادة حد، فيقال:

هذا ضعف هذا، أي مثله؛ أو مثلاه، أو ثلاثة أمثاله، وهكذا؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ} لم يرد به مثلا، ولا مثلين، وأولى

ص: 498

الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله، كقوله تعالى:{مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} فأقل الضعف محصور، وهو المثل، وأكثره غير محصور. هذا؛ ويقال: أضعفت الشيء، وضعّفته، وضاعفته، فمعناه: ضممت إليه مثله فصاعدا. وقال بعضهم: ضاعفت أبلغ من: ضعّفت، ولذا قرأ أكثرهم قوله تعالى:{يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} . {وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ:}

يقرأ بالتاء على الخطاب، ويقرأ بالياء على الغيبة، فيكون في الكلام التفات، والمعنى: لا يعلم كل فريق ما أعد الله تعالى من العذاب للفريق الآخر. وانظر العلم، والمعرفة في الآية رقم [60] من سورة (الأنفال). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قالَ:} ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» . {اُدْخُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]. {فِي أُمَمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَتْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث، والفاعل يعود إلى {أُمَمٍ،} والجملة الفعلية في محل جر صفة: {أُمَمٍ} . {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بالفعل: {خَلَتْ،} أو هما متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل {أُمَمٍ،} والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْجِنِّ:} متعلقان بمحذوف صفة ثالثة ل {أُمَمٍ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: {أُمَمٍ} بعد وصفه بما تقدم. {وَالْإِنْسِ:} معطوف على ما قبله. {فِي النّارِ:} متعلقان بالفعل: {اُدْخُلُوا} . {كُلَّما:} كل:

ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، و (ما): مصدرية توقيتية. {دَخَلَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {أُمَّةٌ:} فاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: دخلت أمة النار، و (ما) والفعل:{دَخَلَتْ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كل) إليه، التقدير: كل وقت دخولها النار. وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل:(كل). وانظر مبحث: «كلّما» في كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وقيل: (ما): نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى وقت أيضا. {لَعَنَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث والفاعل يعود إلى:{أُمَّةٌ} . {أُخْتَها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَعَنَتْ أُخْتَها} جواب: {كُلَّما} لا محل لها، و {كُلَّما} متعلقة بجوابها، وهي ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هي في محل نصب حال من:{النّارِ،} والرابط المحذوف الذي قدرته. تأمل.

{حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذَا:} انظر الآية رقم [28]. {اِدّارَكُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر الآية رقم [5]. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {جَمِيعاً:} حال من واو الجماعة، وجملة:{اِدّارَكُوا..} . إلخ في محل جر بإضافة: {إِذَا} إليها على القول

ص: 499

المشهور المرجوح. {قالَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {أُخْراهُمْ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {لِأُولاهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء فيه وفي سابقه ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{رَبَّنا:} منادى حذف منه حرف النداء، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. وانظر الآية رقم [23]. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {أَضَلُّونا:} فعل، وفاعل، ومفعول به. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5] والجملة الفعلية في محل رفع المبتدأ، والجملة الاسمية والجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ جواب: {إِذَا} لا محل لها، و {إِذَا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له بعد {حَتّى} الابتدائية. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [37] عن الأخفش.

{فَآتِهِمْ} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها، وأمثالها الفصيحة. (آتهم): فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء ضمير في محل نصب مفعول به أول. {عَذاباً:} مفعول به ثان. {ضِعْفاً:} صفته. {مِنَ النّارِ:} متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل {عَذاباً،} أو بمحذوف حال منه بعد وصفه بما تقدم، وجملة:

{فَآتِهِمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا؛ فآتهم، وهذا الكلام داخل في مقول {قالَتْ}. تأمل. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {اللهِ،} تقديره هو. {لِكُلٍّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ضِعْفٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {تَعْلَمُونَ:}

فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول؛ لأنها معطوفة على ما قبلها. تأمل، وتدبر وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}

الشرح: {وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ:} انظر الآية السابقة لشرح المفردات. وهو مشافهة ومخاطبة للأخرى. {فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} والمعنى: قد ثبت: أنه لا فضل لكم علينا، وإنا وإياكم متساوون في الضلال، واستحقاق العقاب. وهذه المحاورة بين القادة، والأتباع، والرؤساء، والسفلة مما يقع يوم القيامة، أو بعد دخولهم النار، ذكرها الله في سور كثيرة. انظر الآية رقم [21] من سورة (إبراهيم)، والآية رقم [47 و 48] من سورة (غافر)، والآية [23] من سورة (ق) وما بعدها. {فَذُوقُوا الْعَذابَ..}. إلخ.: هذا الكلام يحتمل أن يكون من قول القادة للأتباع،

ص: 500

والأمة الأولى للأخرى التي بعدها. ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى، يعني: يقول الله للجميع: {فَذُوقُوا الْعَذابَ} . انتهى خازن وانظر شرح {الْعَذابَ} في الآية السابقة. وانظر إعلال مثل: {كُنْتُمْ} في الآية رقم [11] وانظر الاستعارة في الآية [14] من سورة (الأنفال).

الإعراب: {وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية السابقة. {فَما:} الفاء:

زائدة لتحسين اللفظ. (ما): نافية. {كانَ:} ماض ناقص. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها. {عَلَيْنا:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستقر في الجار والمجرور:

{لَكُمْ} . وبعضهم يعلقهما بمحذوف حال من {فَضْلٍ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، ولا أؤيده، {مِنْ:} حرف صلة. {فَضْلٍ:} اسم {كانَ} مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية:{فَما كانَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَتْ..} . إلخ معطوفة، ومرتبة على جواب الله {لِأُخْراهُمْ،} فلا محل لها إذا مثله. {فَذُوقُوا:} الفاء: هي الفصيحة كما في الآية السابقة. (ذوقوا):

فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْعَذابَ:} مفعول به {بِما} الباء: حرف جر. ما: تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية (فعلى الأولين) مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(ذوقوا). {كُنْتُمْ:} ماض ناقص، مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَكْسِبُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ،} والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء كنتم تكسبونه. هذا؛ وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بسبب كسبكم. والجار والمجرور متعلقان بالفعل: (ذوقوا)، والجملة:{فَذُوقُوا..} .

إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، والتقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا؛ فذوقوا

إلخ. هذا؛ وإن اعتبرت الفاء زائدة؛ فلا شرط مقدر. وعلى الاعتبارين فالكلام في محل نصب مقول القول لقول محذوف. انظر الاحتمالين المذكورين في الشرح. والقول المحذوف، ومقوله كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاِسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها:} انظر الآية رقم [36]. {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ} أي: لأدعيتهم، وأعمالهم؛ لأن الله يقول:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ} أو لأرواحهم إذا ماتوا، كما تفتح لأدعية المؤمنين، وأعمالهم، ولأرواحهم. هذا؛ والفعل:

ص: 501

{تُفَتَّحُ} يقرأ بالتخفيف، والتشديد، وبالتاء، والياء، وبالبناء للمجهول، والبناء للمعلوم. هذا؛ وانظر شرح:{السَّماءِ} وإعلاله في الآية رقم [6/ 99]. {الْجَنَّةَ:} هي في الأصل: البستان من النخل، والشجر الكثير المتكاثف، الذي يجن، أي: يستر ما يكون متداخلا فيه. وسميت دار الثواب جنة كما هنا؛ لما فيها من النعيم الذي لا ينفد. وجمع الجنة على جنات يدل على جنان كثيرة. مرتبة بحسب أعمال العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان.

{يَلِجَ:} يدخل. وانظر إعلال: {تَجِدُ} في الآية رقم [16] فهو مثله. {الْجَمَلُ:} قال البيضاوي: وقرئ: «(الجمّل)» كالقمّل، و «(الجمل)» كالنّفر، و «(الجمل)» كالقفل، و {الْجَمَلُ} كالنّصب، و «(الجمل)» كالحبل. وهي الحبل الغليظ من القنب. وقيل: حبل السفينة، ولا يقال للبعير: جمل إلا إذا بزل. وقيل: لا يقال له ذلك إلا إذا بلغ أربع سنين، وهو السن الذي يقال له فيه:«حق» ، وقبله يقال له:«حوار» ثم «فصيل» ثم «ابن مخاض» ثم «ابن لبون» وفي الخامسة:

«جذع» وفي السادسة: «ثني» وفي السابعة: «رباع» وفي الثامنة: «سديس» وفي التاسعة: «بازل» وفي العاشرة: «مخلف» وليس بعد البزول، والإخلاف سن، بل يقال: بازل عام، أو عامين، ومخلف عام، أو عامين حتى يهرم، فيقال له:«عود» . انتهى جمل. هذا؛ والجمل حيوان معروف يكون بسنام، أو بسنامين، وجمعه: جمال وأجمال، وجمل، وجمالة (بتثليث الجيم) وجمع الجمع: جمالات بتثليث الجيم، وجمائل. ولم يذكر لفظه في غير هذه السورة.

{سَمِّ الْخِياطِ:} السم مثلث السين لغة، لكن السبعة على الفتح، وقرئ شاذّا بالكسر والضم. انتهى جمل. وفي المصباح: السم: ما قتل بالفتح في الأكثر، وجمعه: سموم، مثل:

فلس وفلوس، وسمام أيضا، مثل: سهم، وسهام، والضم لغة لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم، والسم: ثقب الإبرة، وفيه اللغات الثلاث، وجمعه: سمام. انتهى. {الْخِياطِ،} ومثله:

المخيط: الآلة التي يخاط بها على وزن: فعال ومفعل، كإزار، ومئزر، ولحاف، وملحف، وقناع، ومقنع. انتهى. جمل نقلا عن السمين. والمراد ب:{سَمِّ الْخِياطِ} ثقب الإبرة.

قال الخازن: وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات؛ لأنه أكبر من سائرها عند العرب، فجسم الجمل من أعظم الأجسام، وثقب الإبرة من أضيق المنافذ، فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالا، فكذلك دخول الكفار الجنة محال، وهذا كقولك:

لا آتيك حتى يشيب الغراب، ويبيضّ القارّ، ومنه قول الشاعر:[الوافر]

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللّبن الحليب

انتهى خازن بتصرف. وإن كنت من أهل المعاني؛ فهاك قول الشاعر: [الطويل]

ولو أنّ ما بي من جوى وصبابة

على جمل لم يدخل النار كافر

ص: 502

{الْمُجْرِمِينَ:} الكافرين؛ لأنه تقدم من صفتهم: أنهم كذبوا بآيات الله، واستكبروا عنها.

وهذه صفة الكفار، ولا تنس: أن كثيرا من المسلمين مجرمون، ولكن الجرائم تختلف من شخص إلى شخص. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

الإعراب: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [36]. {لا:} نافية. {تُفَتَّحُ:} مضارع مبني للمجهول. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان به.

{أَبْوابُ:} نائب فاعله، ويقرأ بالنصب على أنه مفعول به، فيكون الفاعل مستترا، تقديره:«هي» يعود إلى الملائكة، وقيل: إلى الآيات، وعلى قراءة الياء يعود إلى (الله) و {أَبْوابُ:} مضاف، و {السَّماءِ:} مضاف إليه، وجملة:{لا تُفَتَّحُ لَهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} وجملة:

{إِنَّ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها، وهي اسمية. {لا:} نافية. {يَدْخُلُونَ:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، {الْجَنَّةَ:} مفعول به. وانظر الآية رقم [19]. {حَتّى:} حرف غاية وجر. {يَلِجَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد: {حَتّى} . {الْجَمَلُ:} فاعله. {فِي سَمِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب حال من: {الْجَمَلُ،} أي داخلا في سم، و {سَمِّ:} مضاف، و {الْخِياطِ:} مضاف إليه، و «أن» المضمرة والفعل:{يَلِجَ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{وَلا يَدْخُلُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {لا تُفَتَّحُ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها. (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: نجزي المجرمين جزاء كائنا مثل جزاء المكذبين المستكبرين. {نَجْزِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْمُجْرِمِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{وَكَذلِكَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا.

هذا؛ والاستئناف ممكن؛ إذ الجملة بمنزلة التذييل لما قبلها، المقصود منها الوعيد كما رأيت.

{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ (41)}

الشرح: {لَهُمْ:} للمكذبين، والمستكبرين. {جَهَنَّمَ:} هي النار التي يعذب فيها من ذكر.

وانظر دركات النار في الآية رقم [4/ 145]. {غَواشٍ:} أغطية من النار جمع: غاشية، وهو الغطاء كاللحاف، ونحوه، والمهاد: الفراش. ومعنى الآية: أن النار محيطة بهم من تحتهم، ومن فوقهم. هذا؛ ولا تنس: أنه قد يراد بالغاشية: القيامة، كما في قوله تعالى:{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ} . هذا؛ وإعلال: {غَواشٍ} مثل إعلال: {لَآتٍ} في الآية رقم [6/ 134] والفارق بينهما: أن تنوين {غَواشٍ} تنوين عوض عن الياء المحذوفة. {وَكَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ} يعني:

ص: 503

وكذلك نكافئ، ونجازي المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها. هذا؛ وانظر (نا) في الآية رقم [7] وانظر (الظلم) في الآية رقم [6/ 146]. وانظر (جزى) في الآية رقم [120] منها أيضا.

تنبيه: قال البيضاوي: عبر عنهم (أي عن المشركين) بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى، إشعارا بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة، وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة، والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الإجرام (أي: الجرائم).

الإعراب: {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ جَهَنَّمَ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستقر في الخبر المحذوف. {مِهادٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة في الآية السابقة، والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها. {وَمِنْ فَوْقِهِمْ:}

متعلقان بمحذوف خبر مقدم. والهاء في محل جر بالإضافة. {غَواشٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {وَكَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ:} فإعراب هذه الجملة ومحلها مثل {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} في الآية السابقة بلا فارق.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42)}

الشرح: {آمَنُوا:} انظر (الإيمان) في الآية رقم [2]. {الصّالِحاتِ:} الأعمال الصالحات على اختلاف أنواعها، وتفاوت درجاتها، ومراتبها. {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها} أي: طاقتها، وقدرتها في ذلك، وذكره عقيب الإيمان والعمل الصالح؛ ليبين: أن المطلوب من الأعمال ما سهل فعله، وما فيه عسر، ومشقة فلسنا مكلفين بفعله، وغير مؤاخذين بتركه. ويدخل في هذا الباب جميع الرخص في الإسلام، كقصر الصلاة للمسافر، والفطر في رمضان للمريض والمسافر، وغير ذلك مما هو مشهور، ومعروف في الفقه الإسلامي. هذا؛ وقرئ:«(لا تكلف نفس إلا وسعها)» . وانظر شرح: {نَفْساً} في الآية رقم [9]. {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ:} انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [36] ما عدا {الْجَنَّةِ،} انظر شرحها في الآية رقم [40] هذا؛ والتكليف: ما فيه كلفة، وقد يكون فيه جهد، ومشقة. وانظر الآية رقم [2/ 286] و [6/ 152]. وانظر (نا) في الآية رقم [6].

تنبيه: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ هو معطوف على ما في الآيتين السابقتين، ومقابل له؛ إذ اقتضت حكمة الله تعالى، ورحمته أن لا يذكر التكذيب من الكافرين؛ إلا ويذكر التصديق من المؤمنين؛ ولا يذكر الكفر؛ إلا ويذكر الإيمان، ولا يذكر النار؛ إلا ويذكر

ص: 504

الجنة، ولا يذكر الغضب، والسخط إلا ويذكر الرضا، والرحمة؛ ليكون المؤمن خائفا راجيا، وراهبا راغبا

إلخ.

الإعراب: (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آمَنُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5] فهو مثله، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {لا:} نافية. {نُكَلِّفُ:} مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره:

«نحن» ، {نَفْساً:} مفعول به أول. {إِلاّ:} حرف حصر. {وُسْعَها:} مفعول به ثان، و (ها):

ضمير متصل في محل جر بالإضافة. هذا؛ وعلى القراءة الثانية ف: (تكلّف) مضارع مبني للمجهول، و (نفس) نائب فاعله، وهو المفعول الأول، وعلى القراءتين فالجملة الفعلية معترضة بين المبتدأ، والخبر، لا محل لها. وجوز أبو البقاء اعتبارها خبرا أول، وهو ضعيف. {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ..}. إلخ انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [36] والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} .

إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ في الآية [40].

{وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}

الشرح: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أي: وأخرجنا ما في صدور المؤمنين من حسد، وحقد، وعداوة كانت بينهم في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم دون بعض. ومعنى نزع الغل: تصفية الطباع، وإسقاط الوساوس، ودفعها من أن ترد على القلب، حتى يكون القلب خاليا من كل غش. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

روي عن علي-كرم الله وجهه-: أنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} . وروي عنه أيضا: أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير منهم. هذا؛ و (الغل) بالمعنى المذكور بكسر الغين، وهو بضمها القيد من الحديد، وحرارة العطش أيضا. هذا؛ و «الغلول» من المغنم خاصة، لا من الخيانة، ولا من الحقد. انظر الآية رقم [3/ 161]. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ} أي: من تحت قصورهم، ومساكنهم؛ التي يسكنونها. {الْأَنْهارُ:} جمع: نهر، وهو معروف في الدنيا، ولكن شتان ما بين أنهار الجنة،

ص: 505

وأنهار الدنيا! هذا؛ ويجمع النهر على: أنهر ونهر ونهور، وهاء «النهر» تسكن وتفتح. فبعد أن بين الله: أنه نزع ما في قلوبهم من حقد؛ أخبر بما أنعم به عليهم من اللذات، والمسرات.

{وَقالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {الْحَمْدُ لِلّهِ:} انظر الآية الأولى من سورة (الفاتحة).

والمعنى: إن المؤمنين إذا دخلوا الجنة؛ حمدوا الله الذي وفقهم للإيمان، وأرشدهم للعمل؛ الذي هذا ثوابه، وما كان لهم هذا لولا توفيق الله، وهدايته. وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه الله، ومن لم يهده الله؛ فليس بمهتد:{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} . {لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ} أي: ثبت لنا أن ما وعد به الرسل من الثواب للمطيعين، والعقاب للعاصين أنه حق واقع. {جاءَتْ:} انظر الآية رقم [3]. {رُسُلُ:} انظر الآية رقم [35].

{رَبِّنا:} انظر الآية رقم [3]. {بِالْحَقِّ:} انظر الآية رقم [33]. {وَنُودُوا} أي: نادى مناد، واختلف في هذا المنادي، فقيل: هو الله. وقيل: الملائكة. {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها..} . إلخ:

أي: هذه الجنة التي استحققتم الدخول فيها بسبب عملكم الصالح في الدنيا.

فعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة؛ نادى مناد: إنّ لكم أن تحيوا، فلا تموتوا أبدا، وإنّ لكم أن تصحّوا، فلا تسقموا أبدا، وإنّ لكم أن تشبّوا، فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا، فلا تبأسوا أبدا» . فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ..} . إلخ.

وروى أبو هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلاّ وله منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأمّا الكافر؛ فإنه يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة» . فذلك قوله تعالى: {أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وقيل: {أُورِثْتُمُوها} عن الأعمال الصالحة؛ التي عملتموها؛ لأن الجنة جعلت لهم جزاء، وثوابا على الأعمال. ولا يعارض هذا القول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لن يدخل الجنة أحد بعمله، وإنّما يدخلها برحمة الله» .

فإنّ دخول الجنة برحمة الله، وانقسام المنازل، والدرجات بالأعمال.

الإعراب: (نزعنا): فعل، وفاعل. وانظر الآية رقم [10]. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي صُدُورِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ غِلٍّ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، و {مِنْ} بيان لما أبهم في:{ما} والجملة الفعلية:

{تَجْرِي..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة. {تَجْرِي:} مضارع مرفوع

إلخ. {مِنْ تَحْتِهِمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَنْهارُ:} فاعله، والجملة الفعلية:

{وَنَزَعْنا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر الآية رقم [5]. {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {الَّذِي:}

ص: 506

اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة، أو بدل من:{اللهُ} . {هَدانا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . و (نا): مفعول به.

{لِهذا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه لا محل له، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. (ما): نافية. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا):

ضمير متصل في محل رفع اسمها. {لِنَهْتَدِيَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«نحن» ، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان)، التقدير: وما كنا مريدين للاهتداء، والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من (نا) الدالة على الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {لَوْلا:} حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط، والمصدر المؤول من:{أَنْ هَدانَا اللهُ} في محل رفع مبتدأ، التقدير: لولا هداية الله، وخبر هذا المبتدأ محذوف، التقدير: موجودة، والجملة الاسمية هذه قائمة مقام شرط {لَوْلا،} وجوابها محذوف، دل عليه ما قبله. {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{جاءَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {رُسُلُ:} فاعل، وهو مضاف، و {رَبِّنا:} مضاف إليه، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من: {رُسُلُ رَبِّنا،} والجملة الفعلية: {لَقَدْ..} . إلخ جواب القسم المحذوف، (نودوا): ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، {أَنْ:} حرف تفسير. {تِلْكُمُ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم علامة جمع الذكور. {الْجَنَّةُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {أُورِثْتُمُوها:} ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والميم علامة جمع الذكور. وحركت بالضم للإشباع، فتولدت واو الإشباع. و (ها): ضمير متصل في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وقيل:{الْجَنَّةُ} خبر المبتدأ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الجنة، والعامل في الحال اسم الإشارة. والأول أقوى.

وعلى اعتبار الحال يجب تقدير: «قد» قبل الجملة الفعلية، والجملة الاسمية:{أَنْ تِلْكُمُ..} . إلخ مفسرة لقوله: (نودوا) لا محل لها. وانظر الآية التالية. والجملة الفعلية: {وَنُودُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {وَقالُوا..} . إلخ المعطوفة بدورها على جملة (نزعنا

) إلخ لا محل لها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع، والجملة الاسمية:{الْحَمْدُ لِلّهِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وأيضا القسم المقدر، وجوابه كله في محل نصب مقول القول. {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} انظر إعراب:{بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} في الآية رقم [39] فالإعراب واحد بلا فارق بينهما.

ص: 507

{وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمِينَ (44)}

الشرح: {وَنادى أَصْحابُ..} . إلخ: أي: نادى أهل الجنة أهل النار. وهذا النداء، إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. {أَنْ قَدْ وَجَدْنا..}. إلخ: يعني: ما وعدنا ربنا في الدنيا على ألسنة رسله من الثواب على الإيمان به، وبرسله، وطاعته. {حَقًّا} أي: ثابتا موجودا. {فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} أي: ما وعدكم به ربكم من العقاب على ألسنة الرسل، وذلك بسبب الكفر. {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {نَعَمْ:} حرف جواب كأجل، وجير، وإي، وبلى. ونقيضها: لا. و «نعم» تكون لتصديق المخبر، أو إعلام المستخبر، أو وعد الطالب. {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ:} قيل: المؤذن إسرافيل. وقيل: غيره من الملائكة. هذا؛ والأذان:

الإعلام، والمعنى: نادى مناد أسمع الفريقين: {أَنْ لَعْنَةُ اللهِ} نازلة {عَلَى الظّالِمِينَ} أنفسهم بالكفر. بعد هذا انظر شرح: {أَصْحابُ} في الآية رقم [36] و {الْجَنَّةِ:} في الآية رقم [40].

{النّارِ:} انظر الآية رقم [12]. {رَبُّنا:} انظر الآية رقم [3]. {حَقًّا:} انظر الآية رقم [33].

{قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {الظّالِمِينَ:} انظر الآية رقم [146] من سور (المائدة).

{وَعَدَنا:} فلا بد من شرح الوعد، والتوسع به هنا، فأقول-وبالله التوفيق-: إذا قلت:

وعدت فلانا من غير أن تتعرض لذكر الموعود به؛ كان ذلك خيرا، وإذا قلت: أوعدت فلانا من غير ذكر الموعد به؛ كان ذلك شرّا، وهو ما في بيت طرفة بن العبد:[الطويل]

وإنّي وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وهذا هو قول الجوهري، وقول كثير من أئمة اللغة، وأما عند ذكر الموعود به، أو الموعد به، فيجوز أن يستعمل «وعد» في الخير، وفي الشر، فمن الأول قوله تعالى:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} . ومن الثاني قوله جل شأنه: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وأنشدوا: [الطويل]

إذا وعدت شرّا أتى قبل وقته

وإن وعدت خيرا أراث وعتّما

كما يستعمل (أوعد) فيهما أيضا، كقولك:«أوعدت الرجل خيرا، وأوعدته شرّا» . هذا؛ والمركز في الطبائع: أن من مكارم الأخلاق، وجميل العادات: أنك إذا وعدت غيرك أن تنزل به شرّا؛ كان الخلف محمدة، وإذا وعدته خيرا؛ كان الخلف منقصة، وهذا ما أراده طرفة في بيته المتقدم. هذا؛ والثابت عند الأشاعرة: أنه يجوز إخلاف الوعيد في حقه تعالى كرما، وعند الماتريدية لا يجوز. وأما الوعد؛ فلا يجوز الخلف في حقه تعالى اتفاقا. دليل الأشاعرة قول

ص: 508

النبي صلى الله عليه وسلم: «من وعده الله على عمل ثوابا؛ فهو منجز له، ومن أوعده على عمل عقابا؛ فهو بالخيار، إن شاء؛ عذّبه، وإن شاء؛ عفا عنه» .

{لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمِينَ:} المراد بالظالمين الكفار؛ الذين استحقوا العذاب المقيم في جهنم.

هذا؛ وقد كرر الله لعن الكفار في الآية الكريمة رقم [2/ 161] انظرها. وهو دليل قاطع على أن من مات على كفره فقد استحق اللعن من الله، والملائكة، والناس أجمعين. وأما الأحياء من الكفار؛ فقد قال العلماء: لا يجوز لعن كافر معين؛ لأن حاله عند الوفاة لا يعلم، فلعله يموت على الإسلام، وقد شرط الله في الآية [2/ 161] إطلاق اللعنة على من مات على الكفر، ويجوز لعن الكفار، أي جملة بدون تعيين، كما في قولك: لعن الله الكافرين، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:

«لعن الله اليهود، حرّمت عليهم الشّحوم، فجمّلوها، فباعوها» . وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار، بدليل جواز قتاله، وأما العصاة من المسلمين، فلا يجوز لعن أحد منهم على التعيين قطعا، وأما على الإطلاق، فيجوز كما في قولك: لعن الله الفاسقين، والفاسقات، والفاسدين، والفاسدات

إلخ، لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق، يسرق البيضة والحبل، فتقطع يده» . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة، والمستوشمة، وآكل الرّبا، ولعن من غيّر منار الأرض، ومن انتسب إلى غير أبيه، ومن عمل عمل قوم لوط، ومن أتى امرأة في دبرها، وغير ذلك، وكل هذا في الصحيح. هذا؛ ومعنى اللعن: الطرد، والإبعاد من رحمة الله تعالى.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَنادى:} الواو: استئنافية. (نادى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المقصورة للتعذر. {أَصْحابُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْجَنَّةِ:} مضاف إليه. {أَصْحابُ:} مفعول به، وهو مضاف، و {النّارِ:} مضاف إليه. {أَنْ} مفسرة، أو مخففة من الثقيلة. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {وَجَدْنا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {وَعَدَنا:} ماض، ومفعوله. {رَبُّنا:} فاعله، و (نا) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف التقدير: الذي أو شيئا وعدنا ربنا إياه. وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: وجدنا وعد ربنا. {حَقًّا:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية:{قَدْ وَجَدْنا..} . إلخ مفسرة للفعل نادى لا محل لها، وعلى اعتبار {أَنْ} مخففة من الثقيلة فاسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبرها، وهي تؤول مع اسمها المحذوف وخبرها بمصدر في محل نصب بنزع الخافض، أو هو مجرور بحرف جر محذوف، التقدير: نادى أصحاب

إلخ بوجداننا ما وعدنا

إلخ، واعتبار {أَنْ} مخففة يقال بقوله تعالى {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ..} . إلخ في الآية السابقة، والجملة الفعلية:{وَنادى..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَهَلْ:} الفاء: حرف

ص: 509

استئناف. (هل): حرف استفهام. {وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} فإعراب هذه الجملة مثل إعراب سابقتها، وهي مستأنفة لا محل لها مثلها. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر الآية رقم [5]. {نَعَمْ:} حرف جواب مبني على السكون في محل نصب مقول القول، وذلك على سبيل الحكاية، وجملة:{قالُوا نَعَمْ} مستأنفة لا محل لها. {فَأَذَّنَ:} الفاء: حرف استئناف. (أذن):

ماض. {مُؤَذِّنٌ:} فاعله. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل، أو ب:{مُؤَذِّنٌ} والهاء في محل جر بالإضافة. {أَنْ:} مفسرة، أو مخففة من الثقيلة. {لَعْنَةُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ:}

مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَى الظّالِمِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مفسرة لا محل لها، وعلى اعتبار:{أَنْ} مخففة فاسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة الاسمية في محل رفع خبرها، و {أَنْ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر

إلخ، انظر ما قبله، وجملة:{فَأَذَّنَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. هذا؛ وقرئ: «(إنّ)» بكسر الهمزة، وتشديد النون، ونصب:(لعنة) وعليه: فالجملة الاسمية مقولة لقول محذوف.

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)}

الشرح: {يَصُدُّونَ:} يمنعون، ويصرفون. وهو بضم الصاد. هذا؛ ويأتي بمعنى: يعرضوان، ويميلون، كما في قوله تعالى في وصف المنافقين:{رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} ويأتي بضم الصاد، وكسرها، كما يأتي بمعنى: يضجون فرحا، وهو بكسر الصاد، كما في قوله تعالى {وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}. ومصدر الأولين: صدّ، وصدود، ومصدر الأخير صديد. {سَبِيلِ اللهِ:} دينه، وشريعته. هذا؛ و (السبيل) الطريق يذكر، ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} . ومن التأنيث قوله تعالى {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ} والجمع على التأنيث سبول، وعلى التذكير: سبل، كما في الآية رقم [5/ 16]. {وَيَبْغُونَها عِوَجاً:} يطلبون لها اعوجاجا، وميلا عن القصد، والاستقامة، وذلك بمنعهم الناس عن الدخول في الإسلام. وأنث الضمير على اعتبار (السبيل) مؤنثة.

هذا؛ و (العوج) بكسر العين، وفتحها، وقد فرق العرب بينهما، فخصوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان، تقول: في دينه عوج (بالكسر) وفي الجدار عوج (بالفتح). {بِالْآخِرَةِ:} المراد بها: الحياة التي يحياها الإنسان مرة ثانية بعد الموت، وبعد البعث، والحساب، والجزاء، وتكون في الجنة لمن آمن وعمل صالحا، أو في النار لمن كفر، أو عمل سيئا. {كافِرُونَ:} انظر الآية رقم [66] الآتية. هذا؛ فالآية الكريمة تبين مدى كفر القرشيين، وتماديهم في الضلال، فإنهم لا يكتفون بكفرهم، وضلالهم، بل يحاولون منع الناس عن الدخول في دين الله. وانظر ذم علماء اليهود؛ لسلوكهم هذا الطريق في الآية رقم [99] من سورة (آل عمران).

ص: 510

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة: {الظّالِمِينَ،} أو بدل منه، أو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين. أو في محل رفع مبتدأ خبره محذوف، تقديره: خاسرون، أو خائبون، ونحوهما. أو في محل نصب بفعل محذوف.

و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

(يبغونها): فعل، وفاعل ومفعول به أول، وقد كان الضمير مجرورا بحرف الجر، فلما حذف الجار اتصل بالفعل وانتصب به، على حد قوله تعالى:{وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} . {عِوَجاً:} مفعول به ثان على التوسع. هذا؛ وقد قيل: إن الضمير مفعول به صراحة، و {عِوَجاً} حال من الضمير، بمعنى معوجة، ولا بأس به. والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. (هم):

ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِالْآخِرَةِ:} متعلقان بما بعدهما.

{كافِرُونَ:} خبر مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهو أولى من الاستئناف. تأمل، وتدبر وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)}

الشرح: {وَبَيْنَهُما حِجابٌ:} بين الجنة، والنار. وقيل: بين أهليهما حجاب، أي: ساتر، أو حاجز يحجز بينهما، وهو المذكور في قوله تعالى:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} . والأعراف أعالي السور المذكور، وهو جمع: عرف، وهو كل مرتفع، ومنه قيل: عرف الديك، لارتفاعه على ما سواه من الجسد، وهو بضم العين، والعرف: المعروف، قال تعالى لنبيه:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} . هذا؛ والعرف (بفتح العين): الريح طيبة كانت، أو منتنة. {رِجالٌ:} جمع: رجل، وهو مأخوذ من الرجولة، وهي البطولة، والشهامة، وغيرهما. وقد اختلف في هؤلاء الرجال اختلافا كبيرا، وأرجّح: أنهم رجال استوت حسناتهم، وسيئاتهم، وهم من أهل التوحيد، فيوقفون على هذا السور، يتفضل الله عليهم بدخول الجنة.

ومساق الآيات الآتية يؤكد هذا. {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ:} أولئك الرجال يعرفون كلاّ من أهل الجنة، وأهل النار بالعلامات التي تكون على وجوههم، فعلامات أهل الجنة بياض الوجوه، وبهجة النعيم عليهم. وعلامات أهل النار سواد الوجوه، وزرقة العيون. {وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ} أي: ينادي أولئك الرجال أهل الجنة، ويقولون لهم:{سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي: حصل لكم السلامة من الآفات، وحصل لكم الأمن من غضب الله، وسخطه، وحصل لكم الأمن من دخول النار. {لَمْ يَدْخُلُوها} أي: أولئك الرجال لم يدخلوا الجنة، وهم لا يزالون على الأعراف، ولكنهم طامعون في دخولها، لم يقطعوا أملهم من كرم الله، وجوده. هذا؛ وإعلال:(نادوا) شبيه بإعلال: {تَحْيَوْنَ} في الآية رقم [24]:

ص: 511

{أَصْحابَ:} انظر الآية رقم [36]. {الْجَنَّةِ:} انظر الآية رقم [40]. هذا؛ والطمع: نزوع النفس إلى الشيء، والحرص على حصوله. وطمع، يطمع من باب: سلم، يسلم، والتعبير بالماضي بقوله:

{وَنادَوْا} عن المستقبل؛ لتحقق وقوعه. وانظر الآية رقم [110](المائدة) فإنه جيد.

الإعراب: {وَبَيْنَهُما:} الواو: حرف استئناف. (بينهما): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم، والألف حرفان دالان على التثنية. {حِجابٌ:}

مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَعَلَى الْأَعْرافِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {رِجالٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{يَعْرِفُونَ:} فعل، وفاعل. {كُلاًّ:} مفعول به. {بِسِيماهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَعْرِفُونَ..} . إلخ في محل رفع صفة:

{رِجالٌ} . (نادوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَصْحابَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْجَنَّةِ:}

مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{وَنادَوْا..} . إلخ:

معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع صفة مثلها، وساغ ذلك؛ لأن الفعل بمعنى المستقبل كما رأيت. {أَنْ:} مفسرة، أو مخففة من الثقيلة. {سَلامٌ:} مبتدأ، وساغ الابتداء به، وهو نكرة؛ لأنه بمعنى الدعاء. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مفسرة ل (نادوا) لا محل لها، أو هي في محل رفع خبر أن المخففة

إلخ، على نحو ما رأيت في الآية [44].

{لَمْ:} حرف جازم. {يَدْخُلُوها:} مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، و (ها): مفعوله. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [19] والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة. وقيل: من {أَصْحابَ الْجَنَّةِ،} والأول أقوى. (هم): ضمير منفصل مبتدأ، وجملة:{يَطْمَعُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. وقيل: الجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (47)}

الشرح: {وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ:} صرفت أبصار الرجال المحبوسين على الأعراف. {تِلْقاءَ أَصْحابِ النّارِ} أي: جهتهم، وحيالهم، فنظروا إليهم، وإلى سواد وجوههم، وما هم فيه من العذاب. {قالُوا رَبَّنا..}. إلخ أي: قالوا مستغيثين ومستجيرين {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالشرك. هذا؛ و {تِلْقاءَ} يستعمل ظرف مكان كما هنا، ويستعمل مصدرا كالتبيان، ولم يجيء من المصادر على التفعال بالكسر غير: التلقاء والتبيان والزلزال والوسواس، وإذا فتحت الأول صارت أسماء. هذا؛ و {تِلْقاءَ} يقرأ بالمد، والقصر قراءتان سبعيتان. هذا؛ ولم أعثر على فعل ل {تِلْقاءَ}

ص: 512

على الاعتبارين: المصدرية والاسمية. هذا؛ وهمزته بالمد منقلبة عن ياء (تلقاي) لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين. {أَصْحابِ:} انظر الآية رقم [36].

{النّارِ:} انظر الآية رقم [12]. {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {رَبَّنا:} انظر الآية رقم [2]. {الْقَوْمِ:} انظر الآية رقم [31]. {الظّالِمِينَ:} انظر الآية رقم [146] من سورة (الأنعام).

تنبيه: قال الخازن في تفسير الآية رقم [44]: فإن قلت: إذا كانت الجنة في السماء، والنار في الأرض؛ فكيف يمكن أن يبلغ هذا النداء؟ أو كيف يصح أن يقع؟ قلت: إن الله تعالى قادر على أن يقوي الأصوات، والأسماع، فيصير البعيد كالقريب. انتهى.

قال سليمان الجمل: ويحتمل: أنه تعالى يقرب إحدى الدارين من الأخرى، إما بإنزال العليا، وإما برفع السفلى، فإن قلت: كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وبالعكس مع أن بينهما حجابا؛ وهو سور الجنة؟ أجيب باحتمال: أن سور الجنة لا يمنع الرؤية لما وراءه لكونه شفافا كالزجاج، وباحتمال: أن فيه طاقات تحصل الرؤية منها. انتهى.

أقول: إن ما قاله الخازن بعيد كل البعد، وما قاله الجمل أقرب إلى الصواب، فإن نص الآية السابقة:{وَبَيْنَهُما حِجابٌ..} . إلخ يفيد: أنهما متجاورتان، والآيات رقم [50] إلى [60] من سورة الصافات تؤكد هذا كل التأكيد، فإن قوله تعالى:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} أي: نظر المؤمن إلى صديقه الكافر الذي كان ينفي البعث بعد الموت، والحساب

إلخ فرآه في وسط جهنم، فوبخه، وأنبه على ما كان يقوله له في الدنيا، ويبقى وجودهما في الآخرة في أي مكان متجاورتين من مكنونات علم الله تعالى، على أننا نعتقد بوجودهما في الدنيا في مكان لا نعرفه، والدليل على ذلك قوله تعالى في حق فرعون، وأشياعه. {النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} وقال الرسول المعظم:«إذا جاء رمضان؛ فتّحت أبواب الجنة، وغلّقت أبواب النار، وصفّدت الشياطين» . رواه الشيخان عن أبي هريرة، رضي الله عنه. خذ هذا التحقيق، فإنه دقيق، وادع الله لي بالتوفيق.

الإعراب: {وَإِذا:} (إذا): انظر الآية رقم [28]. {صُرِفَتْ:} ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {أَبْصارُهُمْ:} نائب فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {تِلْقاءَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {أَصْحابِ:} مضاف إليه، و {أَصْحابِ:} مضاف، و {النّارِ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{صُرِفَتْ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق.

وانظر الآية رقم [5]. {رَبَّنا:} منادى حذف منه حرف النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة.

وانظر الآية رقم [23]. {لا:} دعائية جازمة. {تَجْعَلْنا:} مضارع مجزوم ب {لا،} والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {مَعَ:}

ص: 513

مضاف، و {الْقَوْمِ:} مضاف إليه. {الظّالِمِينَ:} صفة: {الْقَوْمِ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملتان:{رَبَّنا لا تَجْعَلْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)}

الشرح: {وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً:} من أصحاب النار، كانوا عظماء في الدنيا، فينادونهم على السور بأسمائهم، ويقولون لهم وهم في النار: يا وليد بن المغيرة، يا أبا جهل بن هشام، يا فلان، يا فلان. انتهى خازن. {بِسِيماهُمْ:} وهي سواد الوجوه، وزرقة العيون. {قالُوا ما أَغْنى..} .

إلخ. يقولون لهم لم ينفعكم جمع المال، أو كثرتكم شيئا يذكر. {وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أي: لم ينفعكم استكباركم عن الإيمان، وعن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. هذا؛ وقد قرئ:

«(تستكثرون)» بالثاء بدل الباء من الكثرة. هذا؛ والتعبير بالماضيين بدل المضارعين لتحقق وقوع ذلك يوم القيامة. وانظر الآية رقم [5/ 116]. {أَصْحابُ:} انظر الآية رقم [36]. {الْأَعْرافِ:} انظر الآية رقم [46]. {رِجالاً:} انظر الآية [46]. {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {كُنْتُمْ:}

انظر إعلال: {قُلْنا} في الآية رقم [11] فهو مثله.

الإعراب: (نادى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {أَصْحابُ:} فاعل، وهو مضاف، و {الْأَعْرافِ:} مضاف إليه. {رِجالاً:} مفعول به. {يَعْرِفُونَهُمْ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{رِجالاً} . {بِسِيماهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير في محل جر بالإضافة. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق.

وانظر الآية رقم [5]. {ما:} نافية. {أَغْنى:} ماض مبني على فتح

إلخ. {عَنْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {جَمْعُكُمْ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{ما أَغْنى..} .

إلخ في محل نصب مقول القول. هذا؛ وجوز اعتبارا {ما} استفهامية، فهي مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{أَغْنى..} . إلخ في محل رفع خبرها، وعليه فالجملة اسمية، وهي في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ تفسير (نادى

) إلخ لا محل للتفسير، ولا للمفسر. {ما:} مصدرية. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:

{تَسْتَكْبِرُونَ} في محل نصب خبر (كان)، و {ما} المصدرية وما بعدها في تأويل مصدر في محل رفع معطوف على:{جَمْعُكُمْ} . وانظر الشرح. هذا؛ واعتبار: {ما} هنا موصولة، أو موصوفة ضعيف بجانب اعتبارها مصدرية. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 514

{أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}

الشرح: {أَهؤُلاءِ الَّذِينَ..} . إلخ: الإشارة إلى ضعفاء المسلمين، وذلك؛ لأن أهل النار يرون أهل الجنة، وأصحاب الأعراف ينظرون إلى الفريقين، فيشير أصحاب الأعراف لضعفاء المؤمنين الذين كانوا يعذبون في الدنيا من قبل المشركين، كصهيب، وبلال، وسلمان، وخباب، وأشباههم، ويقولون للمشركين:{أَهؤُلاءِ..} . إلخ. {اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ:} هذا من مقول أصحاب الأعراف لأهل الجنة المستضعفين في الدنيا، فيكون التفاتا من خطاب قوم إلى خطاب آخرين.

وقيل: الأمر لأصحاب الأعراف أنفسهم، والقائل هو الله، أو الملائكة، وذلك بعد أن حبسوا، وأبصروا الفريقين، وعرفوهم، وقالوا لهم ما قالوا. وقيل: لما عيروا أصحاب النار، وأنّبوهم؛ أقسم أصحاب النار: أن أصحاب الأعراف لا يداخلون الجنة، فقال الله، أو بعض الملائكة:

{أَهؤُلاءِ الَّذِينَ..} . إلخ. وهو ضعيف، تأمل. وقرئ في الشاذ:«(دخلوا الجنة» ) بصيغة الماضي.

{لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ..} . إلخ. انظر الآية رقم [35].

الإعراب: {أَهؤُلاءِ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. (هؤلاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه، لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ. {أَقْسَمْتُمْ:} فعل، وفاعل. {لا:} نافية. {يَنالُهُمُ:}

مضارع مرفوع، والهاء مفعوله. {اللهُ:} فاعله. {بِرَحْمَةٍ:} متعلقان به، والجملة الفعلية جواب {أَقْسَمْتُمْ} لا محل لها، والقسم والجواب صلة الموصول، والعائد الضمير المنصوب، والجملة الاسمية:{أَهؤُلاءِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول ل: {قالُوا} في الآية السابقة، وهذا على اعتباره من مقول أصحاب الأعراف، أو لقول محذوف على أن القائل هو الله، أو الملائكة لأصحاب الأعراف. وقد رأيت ضعفه. {اُدْخُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]. {الْجَنَّةَ:} مفعول به.

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [19]. وعلى القراءة الشاذة فهو ماض مثل: {قالُوا} في الآية رقم [5]. {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ:} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [35] والجملتان في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير فيهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول للمذكور في الآية السابقة، أو لقول محذوف، كما رأيت.

هذا؛ وعلى اعتبار الجملة ماضوية؛ فهي في محل رفع خبر ثان للمبتدإ.

ص: 515

{وَنادى أَصْحابُ النّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50)}

الشرح: {وَنادى أَصْحابُ النّارِ..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النار في الفرج، فقالوا: يا ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة، فائذن لنا حتى نراهم، ونكلمهم، فيأذن لهم، فينظرون إلى قراباتهم في الجنة، وما هم فيه من النعيم، فيعرفونهم، وينظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار، فلم يعرفوهم لسواد وجوههم، فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، فينادي الرجل أباه، وأخاه، فيقول:

قد احترقت، أفض علي من الماء! فيقال لهم: أجيبوهم، فيقولون:{إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ} . وهذا الجواب يفيد الحرمان.

قال بعضهم: لما كانت شهواتهم في الدنيا في لذة الأكل، والشرب؛ عذبهم الله في الآخرة بشدة الجوع، والعطش، فسألوا ما كانوا يعتادونه في الدنيا، فأجيبوا بالتحريم، والمنع، والحرمان. {أَصْحابُ}: انظر الآية رقم [36]. {النّارِ} : انظر الآية رقم [12]. {الْجَنَّةِ} انظر الآية رقم [40]. {أَفِيضُوا} : صبوا، والإفاضة: الصب، وهو هنا من الرباعي. وانظره من الثلاثي في الآية رقم [83] من سورة (المائدة). {الْماءِ}: انظر إعلاله في الآية رقم [6/ 99]. {اللهُ} :

انظر الاستعاذة. {قالُوا} : انظر «القول» في الآية رقم [5]. {حَرَّمَهُما} : انظر: {مُحَرَّماً} في الآية رقم [6/ 145]. {الْكافِرِينَ} : انظر الكفر في الآية رقم [66] الآتية.

الإعراب: {وَنادى أَصْحابُ النّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ} : انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [43].

{أَنْ} : مفسرة، أو مخففة من الثقيلة. {أَفِيضُوا}: أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]. {عَلَيْنا} : متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الْماءِ} : متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وجملة:

{أَفِيضُوا..} . إلخ مفسرة للفعل: (نادى

) إلخ، أو هي في محل رفع خبر {أَنْ} المخففة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه، و {أَنْ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف. وينبغي أن تعلم أنه قد مر معك مثل هذه في خمسة مواضع، وهي:{أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ،} {أَنْ قَدْ وَجَدْنا،} {أَنْ لَعْنَةُ اللهِ..} . إلخ، {أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وفي هذه المواضع كلها يجوز اعتبار {أَنْ} مفسرة، ومخففة من الثقيلة، ولكنني أقول: إن صح في الآيات السابقة الاعتباران، فإنه يبدو لي اعتبار المخففة في هذه الآية ضعيفا؛ لأن الجملة الواقعة خبرا لها طلبية إنشائية، وهذا لا يجيزه كثير من المحققين. والجملة الفعلية: (نادى

) إلخ معطوفة على مثلها في الآية رقم [47] لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف والثانية بالإتباع. {أَوْ}: حرف عطف. {مِمّا} : جار ومجرور معطوفان على قوله: {مِنَ الْماءِ} . وهذا

ص: 516

لا يصح إلا بتضمين: {أَفِيضُوا} معنى: ألقوا إذا كان المراد من ذلك الطعام؛ لأن الطعام لا يفاض، وإنما الإفاضة للماء. هذا؛ وقد قيل: إن المراد: مما رزقكم الله من سائر الأشربة المباحة غير الماء، فيبقى الفعل:{أَفِيضُوا} على بابه من غير تضمين حينئذ. هذا؛ و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء رزقكم الله إياه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، التقدير: من رزق الله إياكم ما تشتهون. {قالُوا} : فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر الآية رقم [5]. {أَنْ}: حرف مشبه بالفعل. {اللهُ} : اسمها.

{حَرَّمَهُما} : ماض، وفاعله يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية مع المتعلق في محل رفع خبر {أَنْ}. {عَلَى الْكافِرِينَ}:

متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدر.

{الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)}

الشرح: {اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} : كتحريم البحيرة، والسائبة

إلخ، والتصفيق حول الكعبة، والصفير أيضا، وغير ذلك مما لا أصل له. هذا؛ وانظر شرح (الدين) في الآية رقم [/161 6] واللعب: ترك ما ينفع بما لا ينفع. واللهو: الميل عن الجد إلى الهزل. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} أي: شغلتهم بالطمع في طول العمر، وحسن العيش، والحياة، ونيل الشهوات. وانظر الآية رقم [6/ 29] لشرح الحياة الدنيا. {نَسُوا}: انظر إعلاله في الآية رقم [6/ 44]. {فَالْيَوْمَ} :

انظر الآية رقم [6/ 128]. هذا؛ ومعنى {نَنْساهُمْ} أي: من رحمتنا، أو هو بمعنى: نعاقبهم على سوء أعمالهم، ونجازيهم على فساد عقيدتهم. وذكره بما ترى للمشابهة بما كانوا يفعلون؛ لأن الله منزه عن النسيان، وهذا يسمى في فن البلاغة مشاكلة، وهو كثير في القرآن الكريم، كقوله جل ذكره:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} . {كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا} أي: نسوا يوم القيامة، والعمل له، والاستعداد للقائه بالإيمان والعمل الصالح والتوبة والإنابة. {بِآياتِنا}: انظر شرحها في الآية رقم [9]. {يَجْحَدُونَ} : جحد الشيء: أنكره، وجحد الإسلام كفر به. وهو من باب: فتح. هذا؛ والمراد ب: (اليوم) و {يَوْمِهِمْ هذا} يوم القيامة؛ الذي يبعثون فيه للحساب والجزاء.

الإعراب: {الَّذِينَ} : يجوز فيه ما جاز بنظيره في الآية رقم [45]. {اِتَّخَذُوا} : فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5]. {دِينَهُمْ} : مفعول به أول،

ص: 517

و (الهاء) في محل جر بالإضافة. {لَهْواً} : مفعول به ثان. {وَلَعِباً} : معطوف عليه، والجملة الفعلية:{اِتَّخَذُوا..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والعائد الضمير المجرور محلاّ بالإضافة. {وَغَرَّتْهُمُ}: الواو: حرف عطف. (غرتهم): ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الْحَياةُ}: فاعل. {الدُّنْيا} : صفة: {الْحَياةُ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {فَالْيَوْمَ}:

الفاء: زائدة، أو حرف استئناف. (اليوم): ظرف زمان متعلق بالفعل بعده. {نَنْساهُمْ} : مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به. {كَما} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {نَسُوا} : فعل، وفاعل، {لِقاءَ}: مفعول به، و {لِقاءَ}: مضاف، و {يَوْمِهِمْ}: مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {هذا}: اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة: {يَوْمِهِمْ،} والهاء حرف تنبيه لا محل له، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: ننساهم اليوم نسيانا كائنا مثل نسيانهم لقاء يومهم هذا، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم. وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. انتهى جمل نقلا عن السمين. والجملة الفعلية:{نَنْساهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل رفع خبر:{الَّذِينَ} على اعتباره مبتدأ في وجه من أوجه إعرابه، فتكون الفاء زائدة في الخبر لشبه الموصول بالشرط في العموم. (ما): مصدرية. {كانُوا} : ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِآياتِنا}: متعلقان بالفعل بعدهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {يَجْحَدُونَ} : فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان) و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر عطفا على المصدر المؤول السابق؛ إذ التقدير: كنسيانهم، وكونهم جاحدين. هذا؛ وانظر (نا) في الآية رقم [7] تأمل، وتدبر وربك أعلم.

{وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}

الشرح: {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ} أي: الكفار من أهل مكة، وغيرهم. {بِكِتابٍ}: المراد به: القرآن الكريم. وانظر الآية رقم [2]. {فَصَّلْناهُ} : بينا معانيه من العقائد، والأحكام، والمواعظ، والحلال، والحرام، والقصص، والوعد، والوعيد، والمحكم، والمتشابه، كما قال بعضهم.

ذاكرا ما اشتمل عليه القرآن الكريم: [الطويل]

حلال حرام محكم متشابه

بشير نذير قصّة عظة مثل

ص: 518

هذا؛ وقرئ «(فضلناه)» بالضاد من الفضل. {عَلى عِلْمٍ} أي: عالمين بوجه تفصيله؛ حتى جاء حكيما، وفيه دليل على أن الله عالم بعلم، أو مشتملا على علم. انتهى بيضاوي. {هُدىً}:

انظر إعلاله في الآية رقم [6/ 91]. {وَرَحْمَةً} : ذا رحمة. {لِقَوْمٍ} : انظر الآية رقم [32].

{يُؤْمِنُونَ} : انظر الإيمان في الآية رقم [2] وانظر (نا) في الآية رقم [7] وانظر لطيفة في الآية [203] الآتية، فإنها جيدة.

الإعراب: {وَلَقَدْ} : الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{جِئْناهُمْ} : فعل، وفاعل ومفعول به. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {بِكِتابٍ} :

متعلقان بالفعل قبلهما. {فَصَّلْناهُ} : فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر صفة (كتاب). {عَلى عِلْمٍ}: متعلقان بمحذوف حال من (نا). {هُدىً} : حال من الضمير المنصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها، وهو بمعنى: هاديا، أو: ذا هدى، وجوز اعتباره مفعولا لأجله.

(رحمة): معطوف على ما قبله. هذا؛ وقد قرئ بالرفع على أنه، وسابقه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو هدى، وهو رحمة، وتكون الجملة الاسمية على هذا في محل نصب حال من الضمير المنصوب، وأجاز الكسائي، والفراء فيهما الخفض، يجعلانهما بدلا من:{عِلْمٍ،} وهذا لم يثبت قراءة، وإن جاز عربية، وجملة:{وَلَقَدْ جِئْناهُمْ..} . إلخ جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {لِقَوْمٍ}: متعلقان بأحد الاسمين على التنازع، أو بمحذوف صفة لأحدهما، وحذفت صفة الثاني، لدلالة الأول عليها، أو بالعكس، وجملة:{يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف صفة: (قوم).

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)}

الشرح: {هَلْ يَنْظُرُونَ} : هل ينتظر كفار قريش، ومن على شاكلتهم الذين كذبوا بآيات الله.

{إِلاّ تَأْوِيلَهُ} : الضمير يعود إلى (كتاب) المذكور في الآية السابقة، وتأويله: تحقيق وقوع ما وعدوا به من العذاب، والخزي في الدنيا، والانتقام في نار جهنم في الآخرة، وهو ما وعدوا به في القرآن، وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم. وتأويل الشيء: ما يؤول إليه، وهو بمعنى: تفسيره، وتوضيحه. {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}: يوم يتحقق الذي وعدوا به، ويرونه بأعينهم، ويلمسونه بأيديهم.

وهذا يكون في يوم القيامة. بالإضافة، لما لحقهم من الذل، والهوان في الدنيا. {يَقُولُ الَّذِينَ}

ص: 519

نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ أي: تركوا العمل بما في القرآن، وجعلوه نسيا منسيّا. {قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ} أي: ثبت لنا أن ما جاءت به الرسل، وما وعدوا به من الثواب للمطيعين، والعقاب للعاصين:

أنه حق واقع. فهذا إقرار منهم، واعتراف بكفرهم، ولكن لا ينفعهم، ذلك الإقرار، والاعتراف، وإنما أقروا بهذه الأشياء؛ لأنهم شاهدوا نتائجها معاينة.

{فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ} : بعد معاينة العذاب، ووقوعه فيهم، فهم يتمنون أحد الأمرين: الأول: وجود شفيع يشفع لهم عند ربهم؛ لينقذهم مما ألم بهم. والأمر الثاني: الرجوع، إلى الدنيا؛ ليؤمنوا، ويتوبوا من كفرهم، ويعملوا الأعمال الصالحات؛ التي ترضي الله تعالى. وكلا الأمرين محال. {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: أهلكوا أنفسهم بسبب كفرهم في الدنيا، وما طلبوه من أحد الأمرين لا يحصل لهم، بل لو فرض وقدر رجوعهم إلى الدنيا؛ لعادوا لما كانوا عليه من الكفر، والعصيان لسابق علم الله تعالى فيهم: أنهم أصحاب النار. {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي: غاب عنهم، وذهب ما كانوا يزعمونه في الدنيا من أن الأصنام التي يعبدونها تشفع لهم.

بعد هذا انظر (أتى) في الآية رقم [35] و «القول» في الآية رقم [5] وإعلال: {نَسُوا} في الآية رقم [6/ 44]. {جاءَتْ} : انظر الآية رقم [4]. {رُسُلُ} : انظر الآية رقم [35]. {رَبِّنا} : انظر الآية رقم [2]. {بِالْحَقِّ} : انظر الآية رقم [33]. {شُفَعاءَ} : جمع شفيع. هذا؛ والشفاعة التوسل، وابتغاء الخير، والذي يكون منه التوسل يسمى: الشفيع، والشفاعة تكون حسنة، وتكون سيئة، فالأولى هي التي روعي فيها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله، ولا في حق من حقوق الناس. والسيئة ما كانت بخلاف ذلك. وقيل: الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم؛ لأنها في معنى الشفاعة إلى الله، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا لأخيه بظهر الغيب؛ استجيب له، وقال له الملك:

ولك مثل ذلك». فذلك النصيب الذي ذكره الله في الآية رقم [4/ 85]. {أَنْفُسَهُمْ} : انظر الآية رقم [9]. {وَضَلَّ} : انظر الآية رقم [6/ 24] وانظر (غير) في سورة (الفاتحة).

الإعراب: {هَلْ} : حرف استفهام معناه النفي. {يَنْظُرُونَ} : فعل، وفاعل. {إِلاّ}: حرف حصر. {تَأْوِيلَهُ} : مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{هَلْ يَنْظُرُونَ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. {يَوْمَ} : ظرف زمان متعلق بالفعل: {يَقُولُ،} وجملة: {يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {يَقُولُ الَّذِينَ} : فعل، وفاعل. {نَسُوهُ}: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {مِنْ قَبْلُ}: متعلقان بالفعل: {نَسُوهُ،} وقد بني قبل على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {قَدْ}: حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَتْ} : ماض، والتاء للتأنيث. {رُسُلُ}: فاعله، وهو مضاف، و {رَبِّنا}: مضاف

ص: 520

إليه، و (نا) في محل جر بالإضافة. {بِالْحَقِّ}: متعلقان بمحذوف حال من: {رُسُلُ رَبِّنا} وجملة:

{قَدْ جاءَتْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَهَلْ} : الفاء: حرف استئناف. {هَلْ} : حرف استفهام معناه التمني هنا. {لَنا،} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ} : حرف جر صلة. {شُفَعاءَ} : مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجر اللفظي لم يظهر؛ لأنه ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. {فَيَشْفَعُوا}: مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على اسم صريح، وهو {شُفَعاءَ،} والمعنى:

نتمنى شفعاء، فشفاعة منهم لنا. {أَوْ}: حرف عطف. {نُرَدُّ} : مضارع مبني للمجهول مرفوع، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قبلها داخلة معها في حكم الاستفهام، كأنه قيل: فهل لنا من شفعاء، أو هل نرد، ورافعه وقوعه موقعا يصالح للاسم، أو الجملة معطوفة على تقدير: هل يشفع لنا شافع أو هل نرد. انتهى. نسفي. هذا؛ وقرئ الفعل:

«(نردّ)» بالنصب عطفا على المنصوب قبله. {فَنَعْمَلَ} : مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية في جواب الاستفهام، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على ما تقدم تقديره. هذا؛ ويقرأ الفعل بالرفع على تقدير: فنحن نعمل، وعليه فالجملة الفعلية خبر لهذا المقدر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{نُرَدُّ} بحالة رفعه، وهي مستأنفة لا محل لها بحالة نصب:(نردّ). {غَيْرَ} : مفعول به، و {غَيْرَ}:

مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {كُنّا}: ماض ناقص، مبني على السكون، و (نا): اسمها، وجملة:{نَعْمَلُ} في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي كنا نعمله. {قَدْ} : حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَسِرُوا} : فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5]. {أَنْفُسَهُمْ} : مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في محل نصب مقول القول لقول محذوف، أي: قال الله تعالى: {قَدْ خَسِرُوا..} . إلخ وهذه الجملة المقدرة مستأنفة لا محل لها. (ضل): ماض. {عَنْهُمْ} : متعلقان بالفعل قبلهما.

{ما} : تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل:(ضل). {كانُوا} : ماض ناقص، والواو اسمه، وجملة:{يَفْتَرُونَ} في محل نصب خبر كان، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

الذي أو شيء كانوا يفترونه. وعلى اعتبار: {ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: ضل عنهم افتراؤهم.

ص: 521

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)}

الشرح: {رَبَّكُمُ:} انظر الآية رقم [3]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ:} انظر الآية رقم [6/ 1]. {فِي سِتَّةِ أَيّامٍ} أي: في ستة أوقات، أو في مقدار ستة أيام، فإن اليوم المتعارف عليه: من زمان طلوع الشمس إلى غروبها، ولم يكن حينئذ. وفي خلق الأشياء مدرّجا مع القدرة على خلقها دفعة دليل للاختيار، واعتبار للنظار، وحث على التأني في الأمور وانظر شرح اليوم في الآية رقم [6/ 128]. هذا؛ وقد ذكر في كثير من الآيات:{وَما بَيْنَهُما} . هذا؛ وما ذكر من أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة عصرا، وخلق يوم الأحد كذا، وخلق يوم الإثنين كذا، كل ذلك لم يثبت. {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ:} استولى، ولا يجوز تفسيره باستقر، وثبت، فيكون الله من صفات الحوادث، وهذا التأويل ينبغي أن يقال في كل ما يوهم وصفا لا يليق به تعالى.

{الْعَرْشِ:} قال الراغب في كتابه: (مفردات القرآن): وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر، إلا بالاسم على الحقيقة، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك؛ لكان حاملا له. تعالى الله عن ذلك. انتهى خازن.

هذا؛ وقد قال سليمان الجمل: وأما المراد به هنا: فهو الجسم النوراني المرتفع على كل الأجسام، المحيط بكلها. وانظر ما ذكرته في آية الكرسي رقم [2/ 255]. والمنقول عن جعفر الصادق والحسن، وأبي حنيفة، ومالك-رضي الله عنهم: إن الاستواء معلوم، والتكييف فيه مجهول، والإيمان به واجب، والجحود له كفر، والسؤال عنه بدعة. انتهى نسفي. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ:} يغطي به. ولم يذكر عكسه للعلم به. أو لأن اللفظ يحتملهما، ولذلك قرئ بنصب «الليل» ورفع «(النّهار)» ، وقال النسفي: يلحق الليل بالنهار، والنهار بالليل، وقرئ بتشديد الشين.

وانظر شرح (الليل) و (النهار) في الآية رقم [6/ 96]. {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً:} يعقبه سريعا كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء.

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ:} مذللات بقضائه، وتصريفه. وتقرأ هذه الأسماء بالنصب، والرفع. {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} أي: هو الذي خلق الأشياء، وله الأمر، فإنه الموجد، والمتصرف، وفي الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله، عز وجل، وفيه ردّ على من يقول: إن للشمس، والقمر، والكواكب تأثيرات في هذا العالم. {تَبارَكَ:} تنزه الله عن كل ما لا يليق به.

وقال الخازن: تمجد، وتعظم، وارتفع. وهذا الفعل لم يأت منه مضارع، ولا أمر. {الْعالَمِينَ:}

ص: 522

جمع: عالم (بفتح اللام) وهو يقال لكل ما سوى الله، ويدل له قول موسى-على نبينا وعليه أفضل صلاة وسلام-لما قال له فرعون:{وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} قال: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} . والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام، وهي منتشرة في هذا الكون المترامي الأطراف في البر، والبحر؛ إذ كل جنس من المخلوقات يقال له: عالم، قال تعالى:{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} .

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكُمُ:} اسم: {إِنَّ،} والكاف في محل جر بالإضافة. {اللهُ:} خبرها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة، أو بدل من:{اللهُ} . {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد.

{السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم بالإلحاق. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله، والجملة:{خَلَقَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. {فِي سِتَّةِ:} متعلقان بالفعل: {خَلَقَ،} و {سِتَّةِ:} مضاف، و {أَيّامٍ:} مضاف إليه.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {اِسْتَوى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} . {عَلَى الْعَرْشِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكُمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {يُغْشِي:}

مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} . {اللَّيْلَ:} مفعول به أول. {النَّهارَ:}

مفعول به ثان، والأول في المعنى فاعلا، والثاني مفعولا. والعكس صحيح، كما في قولك (أعطيت زيدا عمرا) والجملة الفعلية:{يُغْشِي..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل: {خَلَقَ} المستتر، والرابط: الضمير فقط. هذا؛ وعلى قراءة «(يغشى)» بفتح الياء، ورفع (الليل) على أنه فاعله، ونصب {النَّهارَ} على أنه مفعوله، فالجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {يَطْلُبُهُ:}

مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللَّيْلَ،} والهاء ضمير في محل نصب مفعول به. {حَثِيثاً:} صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: يطلبه طلبا حثيثا. أو هو حال بمعنى: حاثّا، وجملة:

{يَطْلُبُهُ..} . إلخ في محل نصب حال من: {اللَّيْلَ،} وعند التأمل يظهر لك: أن الأحوال الكثيرة متداخل بعضها في بعض. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ:} هذه الأسماء معطوفة على {السَّماواتِ؛} إذ التقدير: «خلق الشمس

» إلخ. {مُسَخَّراتٍ:} حال من: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {بِأَمْرِهِ:} متعلقان ب {مُسَخَّراتٍ،} والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وعلى قراءة الأسماء: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ..} .

إلخ بالرفع، ف (الشمس) مبتدأ و (القمر والنجوم) معطوفان عليه، والخبر:{مُسَخَّراتٍ،} وتكون الجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {أَلا:} حرف تنبيه، واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْخَلْقُ:} مبتدأ مؤخر. {وَالْأَمْرُ:} معطوف عليه عطف مفرد على مفرد، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

ص: 523

{تَبارَكَ:} ماض. {اللهُ:} فاعله. {رَبُّ:} صفة، أو بدل منه، و {رَبُّ:} مضاف، و {الْعالَمِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. ولا تنس: أن الإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية:{تَبارَكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها؛ إذ هي بمنزلة التذييل للكلام السابق المراد منها تمجيد الله، وتقديسه. جل جلاله، وتعالى شأنه.

{اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}

الشرح: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ:} قيل: معناه: اعبدوه. والأصح: أنه بمعنى السؤال، والدعاء، والطلب، وهو نوع من العبادة، بل هو مخ العبادة، كما ورد عن الرسول المعظم صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الداعي لا يقدم على الدعاء. إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب، وهو عاجز عن تحصيله، وعرف: أن ربه تبارك، وتعالى يسمع الدعاء، ويعلم حاجته، وهو قادر على إيصالها إلى الداعي، فعند ذلك يعرف نفسه بالعجز، والنقص، ويعرف ربه بالقدرة، والكمال.

{رَبَّكُمْ:} انظر الآية رقم [2]. {تَضَرُّعاً:} تذللا، واستكانة، خشوعا، وخضوعا. {وَخُفْيَةً} أي: سرّا في أنفسكم، وهو أفضل من الجهر في الدعاء؛ لأنه دليل الإخلاص، اسمع قوله تعالى في مدح زكريا-عليه السلام:{إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا} .

فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أيّها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمّا، ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا، وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» . قال أبو موسى-رضي الله عنه: وأنا خلفه أقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم» في نفسي.

فقال: «يا عبد الله بن قيس، ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنّة، قلت: بلى يا رسول الله! قال:

لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم». متفق عليه. هذا؛ وقد قرئ: «(خفية)» بضم الخاء، وكسرها. والمعنى يتغير كما هو واضح؛ إذ معنى الأول: السر، والخفاء، ومعنى الثاني: الخوف، والوجل. {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ:} المجاوزين ما أمروا به في الدعاء، وغيره. نبه به على أن الداعي لا ينبغي له أن يطلب ما لا يليق به، كرتبة الأنبياء، والصعود إلى السماء. وقيل: هو الصياح في الدعاء، والإسهاب فيه. وما أحراك أن تنظر الآية رقم [186] من سورة (البقرة).

فعن النبي صلى الله عليه وسلم: «سيكون قوم يعتدون في الدّعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهمّ إنّي أسألك الجنّة، وما قرّب إليها من قول، وعمل، وأعوذ بك من النّار، وما قرّب إليها من قول وعمل» .

انتهى بيضاوي. وانظر الآية رقم [180]. هذا؛ وعدم محبة الله للمعتدين كناية عن البغض، والسخط، والغضب، ومحبته للعبد: رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه. وانظر الآية رقم [29]. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 524

الإعراب: {اُدْعُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]. {رَبَّكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.

{تَضَرُّعاً:} حال من واو الجماعة بمعنى: متضرعين. وقيل: هو مفعول لأجله. {وَخُفْيَةً:} معطوف على ما قبله على الوجهين المعتبرين فيه، وجملة:{اُدْعُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} إعراب هذه الجملة، ومحلها مثل:{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} في الآية رقم [31].

{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَاُدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}

الشرح: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} أي: بالكفر، والمعاصي، والدعاء إلى غير طاعة الله تعالى، وإضرار الناس، كما فعل الأخنس. انظر الآية رقم [2/ 205]. {بَعْدَ إِصْلاحِها} أي:

ببعث الأنبياء، وشرع الأحكام، وتبيين الحلال، والحرام. {وَادْعُوهُ:} اسألوه، واطلبوا حوائجكم، قلّت، أو كثرت، عظمت، أم صغرت من الله وحده، فهو يجيب دعوة الداعين.

{خَوْفاً:} أصل الخوف: انزعاج في الباطن، يحصل من توقع أمر مكروه يقع في المستقبل.

وأما التخوف؛ فإنه يأتي بمعنى: التنقص، كما في قوله تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} . يروى: أن الفاروق-رضي الله عنه-قال على المنبر: ما تقولون في قوله تعالى:

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ؟} فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، وقال: هذه لغتنا، التخوف: التنقص.

قال: فهل تعرف العرب هذا في أشعارهم؟، قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:[البسيط]

تخوّف الرّحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النّبعة السفن

فقال عمر-رضي الله عنه: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا! قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم. هذا؛ ويأتي الخوف بمعنى:

العلم، وبه قيل في قوله تعالى:{فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً..} . إلخ. الآية رقم [2/ 182]. وفي قوله تعالى: {إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ} الآية رقم [2/ 229]. {وَطَمَعاً:} الطمع: توقع محبوب يحصل في المستقبل. وانظر الآية رقم [46]. {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ:} أصل الرحمة: رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وتستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة، وإذا وصف بها الباري-عز وجل-فليس يراد بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة، فرحمة الله-جل علاه-عبارة عن الإفضال، والإنعام على عباده، وإيصال الخير إليهم. وقيل: هي إرادة إيصال الخير والنعمة إلى عباده، فعلى القول الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال، وعلى القول الثاني تكون من صفات الذات. انتهى خازن.

ص: 525

وكون الرحمة قريبة من المحسنين؛ لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا، وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك؛ كان الموت أقرب إليه من الحياة، وليس بينه وبين رحمة الله-التي هي الثواب في الآخرة-إلا الموت، وهو قريب من الإنسان. انتهى خازن.

وانظر الآية رقم [156]. والمحسنون: هم الذين أحسنوا المعاملة مع الله، ومع عباده.

هذا؛ و {قَرِيبٌ} مذكر، و {رَحْمَتَ} مؤنث، وهو خبر عنها، وقد ذكر المفسرون أقوالا كثيرة في هذا التذكير، لا طائل تحتها، كما ذكر أبو البقاء، ومكي تأويلات، لا تكاد تكون مقبولة. واذكر أن الخبر ذكّر؛ لأن {رَحْمَتَ} اكتسب التذكير من المضاف إليه. وقد أشار الجلال إلى ذلك. واكتساب التذكير من المضاف إليه، واكتساب التأنيث من المضاف إليه أيضا باب من أبواب النحو. انظر الشاهد [901] وما بعده من كتابنا:«فتح القريب المجيب» تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تُفْسِدُوا:} مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الوجهين. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ:} مضاف، و {إِصْلاحِها:} مضاف إليه، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. (ادعوه): فعل أمر وفاعله، ومفعوله. وانظر مثله في الآية السابقة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {خَوْفاً:} حال من واو الجماعة، بمعنى: خائفين. وقيل: مفعول لأجله. {وَطَمَعاً:}

معطوف على ما قبله. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَحْمَتَ:} اسمها، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {قَرِيبٌ:} خبر: {إِنَّ} . {مِنَ الْمُحْسِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بقريب، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ مفيدة للتعليل، لا محل لها.

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}

الشرح: {يُرْسِلُ الرِّياحَ:} يبعثها. ويقرأ: «(الريح)» بالإفراد. هذا؛ وذكر سبحانه في الآية رقم [2/ 164]: أن من الآيات الدالة على قدرته تصريف الرياح، وتصريفها تقليبها شمالا وجنوبا، وقبولا ودبورا، فالشمال: هي التي تهب من جانب القطب الشمالي، والجنوب تقابلها، والقبول (بفتح القاف) وهي ريح الصّبا (بفتح الصاد) وهي التي تهب من مطلع الشمس، والدبور (بفتح الدال) تقابلها، وهي التي تأتي من جهة مغرب الشمس.

ص: 526

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . هذا؛ والريح: الهواء المسخر بين السماء، والأرض، وأصله: الروح، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، والجمع: أرواح، ورياح، وأصل رياح: رواح، فعل به كما فعل بأصل الريح، والأكثر في الريح التأنيث، وقد تذكر على معنى الهواء قال تعالى:{جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ،} ولا تنس: أن الريح تفسر بالدولة والقوة، قال تعالى:{وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: دولتكم، وقوتكم، شبهت في نفوذ أمرها، وتمشيه بالريح وهبوبها. ويقال: هبت رياح بني فلان: إذا دالت الدولة لهم، ونفذ أمرهم.

{بُشْراً:} جمع: بشير، وهو بضم الباء، وسكون الشين، ويقرأ بضمتين. انظر ما ذكرته في {رُسُلٌ} في الآية رقم [35]. هذا؛ ويقرأ:«(نشرا)» بضم النون، وضم الشين، وسكونها على أنه جمع: نشور بمعنى: ناشر، كطهور بمعنى: طاهر، ويجوز أن يكون جمع: نشور بمعنى:

منشور، ويقرأ:«(نشرا)» بفتح النون وسكون الشين، على أنه مصدر نشر بعد الطي، والقراءات كلها سبعية، كما يقرأ:«(بشرى)» على وزن: حبلى، أي: ذات بشارة، وكما يقرأ:«(بشرا)» بفتح الباء، وسكون الشين، وهو مصدر: بشرته إذا بشرته.

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: (إن الرياح ثمان: أربع منها عذاب، وهي:

القاصف، والعاصف، والصرصر، والعقيم. وأربع منها رحمة، وهي: الناشرات، والمبشرات، والمرسلات والذاريات). {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ:} يعني أمام المطر الذي هو رحمته، وإنما سماه رحمة؛ لأنه سبب لحياة الأرض. هذا؛ و {بَيْنَ يَدَيْ} بمعنى: أمام، وقدام، مستعمل في القرآن الكريم بكثرة، وخذ ما يأتي فعن أبي: هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«الريح من روح الله تعالى، تأتي بالرّحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها؛ فلا تسبّوها، واسألوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرّها» . رواه الشافعي بطوله، وأخرجه أبو داود في المسند عنه.

{أَقَلَّتْ:} حملت، ورفعت. {سَحاباً ثِقالاً} أي: بالماء لثقله، والسحاب: الغيم، جمع: سحابة مشتق من السحب؛ لأنه يجر بعضه بعضا. {سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ:} جلت قدرة الله، فالريح تسوق الغيوم بأمره إلى حيث شاء. انظر آية (النور) رقم [43] ففيها تفصيل لذلك.

هذا؛ وقد حصل في الكلام التفات من الغيبة إلى جمع المتكلم، انظر الآية رقم [6/ 6] وانظر (نا) في الآية رقم [7] ومعنى {لِبَلَدٍ مَيِّتٍ:} لسقيه وإحيائه بالمطر. وقد ذكر سبحانه في كثير من الآيات: أن المطر يحيي الأرض الميتة؛ أي التي لا نبات فيها بالنبات. هذا؛ وقال الليث: البلد كل موضع من الأرض، عامر، أو غير عامر، خال، أو مسكون، والطائفة منها بلدة، والجمع:

بلاد، زاد غيره: والمفازة تسمى بلدة؛ لكونها مسكن الوحش، والجن. قال الأعشى:[البسيط]

وبلدة مثل ظهر التّرس موحشة

للجنّ بالليل في حافاتها زجل

وقال جران العود: [الرجز]

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلاّ العيس

ص: 527

وانظر شرح: {مَيِّتٍ} في الآية رقم [6/ 95] وهو يقرأ هنا بالتشديد، والتخفيف. {بِهِ:}

الأول يحتمل فيه عود الضمير على: {لِبَلَدٍ،} أو على: {سَحاباً} . ويحتمل في {بِهِ} الثاني ما ذكر، ويزيد عليه عود الضمير على:{الْماءَ} . قال السمين: ولا ينبغي أن يعدل عنه. وانظر شرح: {الْماءَ} في الآية رقم [6/ 99]. {كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى:} والمعنى: أن إخراجنا التمر الرطب من الخشب اليابس هو مثل إخراجنا الناس من قبورهم يوم القيامة للحساب، والجزاء.

قال الخازن: واختلفوا في وجه التشبيه، فقيل: إن الله تعالى، كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر، كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضا. قال أبو هريرة، وابن عباس رضي الله عنهما: «إنّ النّاس إذا ماتوا في النفخة الأولى؛ أمطر الله تعالى عليهم ماء من تحت العرش، يدعى ماء الحيوان أربعين يوما، فينبتون، كما ينبت الزّرع من الماء

إلخ». انتهى بتصرف. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ:} تتعظون، وتنتصحون، وقد حذف منه إحدى التاءين؛ لأن أصله:

تتذكرون، وهذا الحذف كثير شائع في القرآن الكريم، وفي الكلام العربي. وانظر الترجي في الآية رقم [25]. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف عطف. (هو): ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره. {يُرْسِلُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {الرِّياحَ:} مفعول به. {بُشْراً:} حال من {الرِّياحَ} .

وقيل: مفعول مطلق، وهذا على قراءته بالنون؛ لأن أرسل، وأنشر متقاربان في المعنى. {بَيْنَ:}

ظرف مكان متعلق ب {بُشْراً،} أو بمحذوف صفة له، و {بَيْنَ:} مضاف، و {يَدَيْ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنه مثنى لفظا، وحذفت النون للإضافة، و {يَدَيْ:} مضاف، و {رَحْمَتِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يُرْسِلُ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة.

{حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} انظر الآية رقم [28]. {أَقَلَّتْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل مستتر يعود إلى:{الرِّياحَ} . {سَحاباً:} مفعول به. {ثِقالاً:} صفة: {سَحاباً،} وجملة:

{أَقَلَّتْ..} . إلخ في محل جر بالإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح. {سُقْناهُ:}

فعل، وفاعل، ومفعول به. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10] والجملة الفعلية جواب:

{إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. وانظر رأي الأخفش في الآية رقم [37]. {لِبَلَدٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مَيِّتٍ:} صفة (بلد)، وجملة:{فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ} معطوف على جواب: {إِذا} لا محل لها مثله، وكذلك جملة:{فَأَخْرَجْنا بِهِ} معطوفة على جواب: {إِذا} والجار والمجرور: {بِهِ} في الجملتين متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة. {كُلِّ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال

ص: 528

المحل بحركة حرف الجر الزائد، و {كُلِّ:} مضاف، و {الثَّمَراتِ:} مضاف إليه. هذا؛ وقد قال الجمل: {مِنْ} تبعيضية، أو ابتدائية. ولا معنى لهما هنا، كما هو ظاهر. وقال الخازن يعني:

وأخرجنا بذلك البلد بعد موته، وجد به من أصناف الثمار، والزروع. وهذا لا يفيد في الإعراب، والمرجح ما أعربته لك. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، وتقدير الكلام: نخرج الموتى من قبورهم إخراجا كائنا مثل إخراج الثمرات من الخشب اليابس. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {نُخْرِجُ:}

مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْمَوْتى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية:{كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} إعراب هذه الجملة، ومحلها هو مثل:{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} في الآية رقم [25].

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}

الشرح: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ:} الأرض الكريمة التربة السهلة السمحة. {يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ:} بأمره، وتيسيره حسنا جيدا مثمرا؛ لأنه مقابل لما بعده. هذا؛ وانظر:{وَالْبَلَدُ} في الآية السابقة، وإعلال:{الطَّيِّبُ} مثل إعلال: {الْمَيِّتِ} في الآية رقم [95](الأنعام). هذا؛ ويقرأ:

«يخرج» بالبناء للمعلوم، والبناء للمجهول، فالأول من الثلاثي، والثاني من الرباعي، ورفع:

{نَباتُهُ} على القراءتين، كما يقرأ بالبناء للمعلوم من الرباعي، ونصب:{نَباتُهُ} وانظر شرح:

{رَبِّهِ} في الآية رقم [3]. {وَالَّذِي خَبُثَ} أي: خبث ترابه، وأرضه، فهي سبخة لا تنبت. {إِلاّ نَكِداً} أي: عسيرا، وبمشقة، وكلفة. والمراد: إلا نباتا قليلا نادرا غير نافع، كشوك، ونحوه مما لا نفع فيه وهو يقرأ بكسر الكاف، وفتحها، وسكونها. {كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ:} نكررها، ونرددها تارة من جهة المقدمات العقلية، وتارة من جهة الترغيب، والترهيب، وتارة بالتنبيه، والتذكير بأحوال المتقدمين. {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} أي: الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية، والتوفيق، وحيث جنبهم طريق الكفر، والضلال. وإنما خص الشاكرين بالذكر؛ لأنهم هم الذين انتفعوا بسماع القرآن، فعملوا بتعاليمه. وانظر شرح:{الْآياتِ} في الآية رقم [9] وانظر شرح:

{لِقَوْمٍ} في الآية رقم [32] وانظر: {تَشْكُرُونَ} في الآية رقم [10] وانظر (نا) في الآية رقم [7].

تنبيه: قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن، والكافر، فشبه المؤمن بالأرض الحرة الطيبة، وشبه نزول القرآن على قلب المؤمن. بنزول المطر على الأرض الطيبة، فإذا نزل المطر عليها؛ أخرجت أنواع الأزهار، والثمار، كذلك المؤمن إذا سمع القرآن؛ آمن به، وانتفع به، وظهرت منه الطاعات، والعبادات، وأنواع الأخلاق الحميدة. وشبه الكافر بالأرض الرديئة

ص: 529

الغليظة السبخة، التي لا ينتفع بها؛ وإن أصابها المطر، فكذلك الكافر إذا سمع القرآن؛ لا ينتفع به، ولا يصدقه، ولا يزيده إلا عتوّا، وكفرا، وإن عمل الكافر الحسنة في الدنيا؛ كانت بمشقة، وكلفة، ولا ينتفع بها في الآخرة.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن، يقول: هو طيب، وعمله طيب، كما أن البلد الطيب ثمره طيب، ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة؛ التي خرجت منها البركة، فالكافر خبيث، وعمله خبيث.

ويدل على هذا التأويل ما روي عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مثل ما بعثني الله به من الهدى، والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيّبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها النّاس، فشربوا منها، وسقوا، وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى، إنّما هي قيعان، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، عز وجل، ونفعه ما بعثني الله تعالى به، فعلم، وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله تعالى؛ الّذي أرسلت» . أخرجاه في الصحيح. انتهى. خازن.

ولا يخفى: أن في الآية الكريمة استعارة تصريحية. هذا؛ وأقول: يمكن أن يراد بالنبات:

الصلحاء، والعلماء، والمجاهدون الذين ينشئون في البلد الطيب، ومكة والمدينة أطيب البلاد، فقد خرج منهما الأبطال، والعلماء، والصلحاء، وهذا يلاحظ في بعض القرى، فهناك قرية طيبة يخرج منها ما ذكرت، وهناك قرية، أو بلدة لا يتخرج منها إلا الأشقياء، ويبقى الجهل ضاربا أطنابه فيها كل حياته، فلا ينشأ جيل إلا وهو أخبث مما قبله منهمك في لذات الدنيا، وجمع حطامها الفاني من حلال، أو من حرام لا يبالي. ولا تنس بلاد الكفر، وقراهم.

الإعراب: {وَالْبَلَدُ:} (البلد): مبتدأ. {الطَّيِّبُ:} صفته. {يَخْرُجُ نَباتُهُ:} فعل، وفاعله، أو فعل، ونائبه، أو فعل، ومفعوله، والفاعل مستتر تقديره:«هو» وذلك على حسب القراءات التي رأيتها، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{بِإِذْنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {نَباتُهُ} و (إذن) مضاف، و {رَبِّهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. (الذي): مبتدأ، وجملة:{خَبُثَ} صلته، والعائد رجوع الفاعل إليه. {لا:} نافية. {يَخْرُجُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى نباته. {إِلاّ:}

حرف حصر. {نَكِداً:} حال من الفاعل المستتر، أو هو صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير:

إلا خروجا نكدا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، وتقدير الكلام:

ص: 530

نصرف الآيات تصريفا كائنا مثل تبييننا الأحكام فيما تقدم. {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية:{كَذلِكَ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها، وهي فذلكة الآية. {لِقَوْمٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل:

{نُصَرِّفُ} وجملة: {يَشْكُرُونَ} مع المفعول المحذوف في محل جر صفة (قوم).

{لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)}

الشرح: {أَرْسَلْنا:} بعثنا. {نُوحاً:} اسمه: السكن. وقيل: عبد الغفار. وسمي {نُوحاً} لكثرة نوحه على نفسه، وهو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، وكان نوح نجارا.

واختلفوا في سبب نوحه، فقيل: لدعوته على قومه بالهلاك. وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان.

وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: إخسأ يا قبيح، فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني، أم عبت الكلب؟! وهو أول رسول بعث بشريعة، وأول نذير على الشرك، وأنزل الله عليه عشر صحائف، وكان أول من عذبته أمته لردهم دعوته، وأهلك الله أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام، وكان أطول الأنبياء عمرا، عمّر ألفا وخمسين سنة. وقيل: أكثر، لم تنقص قوته، ولم يشب، ولم تسقط له سن، وصبر على أذى قومه طول عمره، وكان أبواه مؤمنين بدليل دعوته لهما بالمغفرة في الآية الأخيرة من سورة (نوح). {قَوْمِهِ:} انظر الآية رقم [32]. {فَقالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {اُعْبُدُوا اللهَ:} وحدوه. هذا؛ والعبادة غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذلك يحرم السجود لغير الله تعالى. وانظر سجود الملائكة لآدم في الآية رقم [1]. وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. {اللهَ:} انظر الاستعاذة. {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: إن لم تقبلوا ما أمركم به من عبادة الله، واتباع أمره، وطاعته. واليوم الذي خافه عليهم، هو إما يوم الطوفان، وإهلاكهم فيه، أو هو يوم القيامة. وانظر (نا) في الآية رقم [7] وانظر (الخوف) في الآية رقم [56] وانظر شرح (غير) في سورة (الفاتحة) وفي الآية رقم [2] من سورة (التوبة).

تنبيه: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: اعلم أن الله-تبارك وتعالى-لما ذكر في الآيات المتقدمة دلائل آثار قدرته، وغرائب خلقه، وصنعته الدالة على توحيده، وربوبيته، وأقام الدلالة القاطعة على صحة البعث بعد الموت؛ أتبع ذلك بقصص الأنبياء، عليهم الصلاة والسّلام، وما جرى لهم مع أممهم، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن إعراض قومه فقط عن قبول الحق، بل قد أعرض عنه سائر الأمم الخالية، والقرون الماضية، ومن كذب محمدا صلى الله عليه وسلم من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبله من الأمم المكذبة. انتهى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [25] من سورة (هود).

ص: 531

الإعراب: {لَقَدْ} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله. وهذا الجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب:

{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. وقد: حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {نُوحاً:} مفعول به. {إِلى قَوْمِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{نُوحاً،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{لَقَدْ أَرْسَلْنا..} . إلخ جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. (قال): ماض، وفاعله يعود إلى (نوح){يا قَوْمِ} منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة ضمير في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة، ومنهم من يثبتها، ويحركها بالفتحة، ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، ومنهم من يقول: يا قوم بضم الميم، ففيه خمس لغات، ويزاد سادسة، وهي حذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها. والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {اُعْبُدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول:{ما:} نافية {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {إِلهٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {غَيْرُهُ:} يقرأ بالرفع صفة {إِلهٍ} على المحل، أو بدل منه، وبالجر صفته على اللفظ، وبالنصب على الاستثناء، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. وقيل: مستأنفة، ولا وجه له، وجملة:

{فَقالَ يا قَوْمِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَخافُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {عَذابَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {يَوْمٍ:} مضاف إليه. {عَظِيمٍ:} صفة:

{يَوْمٍ،} وصفه بالعظم، والمراد عظم ما فيه، وإن اعتبرته صفة:{عَذابَ} فيكون الجر على الجوار. انظر الآية رقم [5/ 6] والجملة الفعلية: {أَخافُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {إِنِّي..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها. هذا؛ ويقدر المفسرون: إن لم تؤمنوا، أو إن عبدتم غيره، ونحو ذلك، وهذا يعني: أن الجملة الاسمية تقع جوابا لهذا الشرط المقدر، وهو تكلف، وعلى كلّ فالكلام كله في محل نصب مقول القول.

{قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {الْمَلَأُ:} الأشراف، والسادة، ولا يقال لغيرهم؛ لأنهم يملئون العيون بكبريائهم، وزينتهم، وما يحاطون به من هيبة، وعظمة. وهو اسم

ص: 532

جمع لا واحد له من لفظه مثل: رهط، ونحوه. {قَوْمِهِ:} انظر الآية رقم [32]. {فِي ضَلالٍ:}

في خروج عن جادة الحق والصواب. وهو مصدر: ضل، يضل، وأكثر استعماله بمعنى: كفر، يكفر، وضل: غاب كما في الآية رقم [37] وأضل غيره: أخرجه عن الهدى، والاستقامة، كما في الآية رقم [37] وضل الشيء: ضاع، وهلك، وضل: أخطأ، ولولا هذا المعنى لكفر أولاد يعقوب بقولهم لأبيهم:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ،} وضل: تحير، وتردد، وهو أقرب ما يفسر به قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} . {مُبِينٍ:} انظر الآية رقم [22].

الإعراب: {قالَ الْمَلَأُ:} فعل، وفاعل. {مِنْ قَوْمِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من:

{الْمَلَأُ،} والهاء ضمير في محل جر بالإضافة. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لِنُرِيَكَ:} اللام: هي المزحلقة. (نراك): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُبِينٍ:} صفة: {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية:

{إِنّا لَنَراكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61)}

الشرح: {قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ:} شرح المفردات مثله في الآية السابقة، وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-بالغ في النفي، كما بالغوا في الإثبات. {وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ..} .

إلخ: قال البيضاوي: استدراك باعتبار ما يلزمه، وهو كونه على هدى، كأنه قال: ولكني على هدى في الغاية؛ لأني رسول من الله. انتهى. {رَسُولٌ:} انظر الآية رقم [35]. {رَبِّ:} انظر الآية رقم [3]. {الْعالَمِينَ:} انظر الآية رقم [54].

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (نوح). {يا قَوْمِ:} انظر الآية رقم [58].

{لَيْسَ:} ماض ناقص. {بِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {لَيْسَ} تقدم على اسمها. {ضَلالَةٌ:} اسمها المؤخر، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَلكِنِّي:}

الواو حرف عطف. (لكني): حرف مشبه بالفعل، وحذفت نون الوقاية، وياء المتكلم اسمها.

{رَسُولٌ:} خبرها. {مِنْ رَبِّ:} جار ومجرور متعلقان ب {رَسُولٌ،} أو بمحذوف صفته، و {رَبِّ:} مضاف، و {الْعالَمِينَ:} مضاف إليه

إلخ، والجملة الاسمية:{وَلكِنِّي رَسُولٌ..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 533

{أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)}

الشرح: {أُبَلِّغُكُمْ:} يقرأ بتشديد اللام، وتخفيفها. {رِسالاتِ:} جمعها لاختلاف أوقاتها، أو لتنوع معانيها، كالعقائد، والمواعظ، والأحكام. أو لأن المراد بها ما أوحي إليه، وإلى الأنبياء قبله، كصحف شيث، وإدريس، وغير ذلك. {وَأَنْصَحُ لَكُمْ:} انظر: {تَشْكُرُونَ} في الآية رقم [10]. {وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ:} قال البيضاوي: فيه تقرير لما أوعدهم به، فإن معناه أعلم من قدرته، وشدة بطشه. أو من جهته بالوحي أشياء لا علم لكم بها. هذا؛ والعلم المراد به هنا: المعرفة لا اليقين. وانظر الآية رقم [60] من سورة (الأنفال).

قال الخازن: والنصح: إرادة الخير لغيره، كما يريده لنفسه. وقيل: النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير. وقيل: حقيقة النصح: تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه وانظر النصيحة في الآية رقم [79]. والمعنى: أنه قال: أبلغكم جميع تكاليف الله، وشرائعه، وأرشدكم إلى الوجه الأصلح، والأصوب لكم، وأدعوكم إلى ما دعاني إليه، وأحب لكم ما أحب لنفسي.

قال بعضهم: والفرق بين إبلاغ الرسالة، وبين النصيحة هو: أن تبليغ الرسالة أن يعرفهم جميع أوامر الله تعالى، ونواهيه، وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله عليهم، وأما النصيحة فهو أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر، والنواهي والعبادات، ويحذرهم عقابه؛ إن عصوه. انتهى.

الإعراب: {أُبَلِّغُكُمْ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به أول، والميم علامة جمع الذكور. {رِسالاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {رِسالاتِ:} مضاف، و {رَبِّي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{أُبَلِّغُكُمْ..} . إلخ في محل رفع صفة ثانية ل {رَسُولٌ،} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، والاستئناف ممكن بالإعراض عن الكلام السابق، وجملة:{وَأَنْصَحُ لَكُمْ} معطوفة عليها على جميع الاعتبارات فيها. (أعلم):

مضارع، والفاعل تقديره أنا. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب (أعلم). {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا لا تعلمونه، وقد حذف متعلق الفعل لدلالة متعلق الأول عليه، وجملة:{وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها أيضا.

ص: 534

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)}

الشرح: {أَوَعَجِبْتُمْ:} العجب بفتح العين، والجيم: انفعال نفساني يعتري الإنسان عند استعظامه، أو استطرافه، أو إنكاره ما يرد عليه، ويشاهده.

وقال الراغب: العجب: حيرة تعرض للإنسان بسبب الشيء، وليس هو شيئا له في ذاته حالة حقيقية، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب، ومن لا يعرفه، وحقيقة أعجبني كذا:

ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه. انتهى جمل نقلا عن السمين في غير هذا الموضع. هذا؛ والعجب بضم العين، وسكون الجيم: الكبر، وحقيقته: أن يرى نفسه فوق غيره علما، أو أدبا، أو عبادة، وزهدا، وغير ذلك، وقد عده الرسول صلى الله عليه وسلم من الثلاث المهلكات:«شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه» . {جاءَكُمْ:} انظر الآية رقم [4]. {ذِكْرٌ:} رسالة، أو موعظة، أو المراد به: الصحف التي أنزلت على نوح، فإنه كثيرا ما يطلق على القرآن الكريم. {رَبِّكُمْ:}

انظر الآية رقم [3]. {عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ:} على لسان رجل كائن منكم، تعرفونه، وتعرفون نسبه، فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر، ويقولون:{وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ} . وانظر شرح: {رَجُلٍ} في الآية رقم [46]. {لِيُنْذِرَكُمْ:} ليخوفكم عذاب الله، ونقمته إن لم تؤمنوا، والإنذار التخويف من وقوع العقاب. {وَلِتَتَّقُوا:} انظر {التَّقْوى} في الآية رقم [26]. {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: بسبب التقوى.

قال البيضاوي: وفائدة الترجي: التنبيه على أن التقوى غير موجب، والترحم من الله تفضل، وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه، ولا يأمن من عذاب الله تعالى. انتهى. وقال سليمان الجمل: وهذا الترتيب في غاية الحسن؛ لأن المقصود من الإرسال الإنذار، ومن الإنذار التقوى، ومن التقوى الفوز بالرحمة. انتهى. وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [26].

الإعراب: {أَوَعَجِبْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الواو: حرف عطف. (عجبتم):

فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10] والجملة الفعلية هذه مع المتعلق معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: أكذبتم، وعجبتم. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.

{جاءَكُمْ:} ماض في محل نصب ب {أَنْ،} والكاف في محل نصب مفعول به. {ذِكْرٌ:} فاعل.

{مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب {ذِكْرٌ،} أو بمحذوف صفة له، والكاف في محل جر بالإضافة، و {أَنْ} المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:

عجبتم من مجيء ذكر لكم من ربكم. {عَلى رَجُلٍ:} متعلقان بالفعل: {جاءَكُمْ،} وجوز أن يكونا

ص: 535

متعلقين بمحذوف حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور قبلهما. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة: {رَجُلٍ} . وانظر الشرح. {لِيُنْذِرَكُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:{ذِكْرٌ،} والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{جاءَكُمْ} . {وَلِتَتَّقُوا:}

إعرابه مثل إعراب سابقه، والمصدر المؤول والمجرور باللام معطوفان على ما قبلهما؛ إذ التقدير: للإنذار، وللتقوى. (لعلكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه، والميم حرف دال على جماعة الذكور. {تُرْحَمُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ) والجملة الاسمية:{وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} معطوفة على ما قبلها، فهي مفيدة للتعليل أيضا.

{فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)}

الشرح: {فَكَذَّبُوهُ:} كذبوا نوحا، ورفضوا دعوته؛ التي استمرت ألفا إلا خمسين عاما.

{فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: أنجيناه ومن معه من كيد أعدائهم، ومكرهم. وقيل: أي: من الغرق، والطوفان. والمراد بمن معه: المؤمنون، وكانوا أربعين رجلا، وأربعين امرأة. وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {الْفُلْكِ:} السفينة التي استقلها نوح-عليه الصلاة والسلام-بمن معه. هذا؛ والفلك: واحد، وجمع، تذكّر، وتؤنث. قال تعالى:{فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فأفرد، وذكّر. وقال تعالى:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ} فأنث، ويحتمل الإفراد والجمع، وقال:{حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فجمع. وكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب؛ فتذكر، وإلى السفينة فتؤنث. انتهى. جمل.

روي: أن نوحا صنع السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وسمكها ثلاثين، وجعل لها ثلاثة بطون، فجعل في أسفلها الدواب والوحش، وفي وسطها الإنس، وفي أعلاها الطير، وركبها في عاشر رجب ونزل منها في عاشر المحرم. انتهى. فصام ذلك اليوم، وصار سنة لمن بعده إلى يومنا هذا. {عَمِينَ} أي: عمي القلوب عن طريق الإيمان والحق، و {عَمِينَ} صفة مشبهة لكن تصرف فيه بحذف لامه كقاض إذا جمع، فأصله: عميين، حذفت الأولى تخفيفا. وفي السمين. يقال: عم: إذا كان أعمى البصيرة، غير عارف بأموره. وأعمى، أي: في البصر، وهذا قول الليث. وقيل: عم، وأعمى بمعنى، كخضر، وأخضر. انتهى جمل.

الإعراب: {فَكَذَّبُوهُ:} (كذبوه): فعل، وفاعل، ومفعول به. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5]. والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَأَنْجَيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. وانظر

ص: 536

إعراب: {وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {وَالَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول. {فِي الْفُلْكِ:} متعلقان بما تعلق به الظرف. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق الظرف، كما يحتمل تعليقهما بالفعل:(أنجينا) والجملة الفعلية: {فَأَنْجَيْناهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها، وكذلك جملة:{وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ} معطوفة، وجملة:{كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قَوْماً:} خبر (كان). {عَمِينَ:} صفة: {قَوْماً} منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم

إلخ، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، وجملة:{إِنَّهُمْ..} . إلخ تعليل للغرق، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الوجهين.

{وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65)}

الشرح: {وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ} أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم. هذا؛ و {عادٍ} اسم للحي، ولذلك صرف، ومنهم من جعله اسما للقبيلة، ولذلك منعه، و {عادٍ} في الأصل اسم الأب الكبير، وهو عاد بن عوص بن إرم، بن سام، بن نوح، عليه الصلاة والسلام، فسميت به القبيلة، أو الحي، وكذلك ما أشبهه من نحو «ثمود» ، إن جعلته اسما لمذكر صرفته، وإن جعلته اسما لمؤنث منعته.

وأما (هود) فقد اشتهر في ألسنة النحاة: أنه عربي، وفيه نظر؛ لأن الظاهر من كلام سيبويه لما عده مع نوح، ولوط: أنه أعجمي. وهود بن عبد الله، بن رباح، بن الخلود، بن عاد، بن عوص، بن إرم، بن سام، بن نوح. وقال ابن إسحاق: هو هود بن شالخ، بن أرفخشل، بن سام بن نوح. وأخوته لعاد-أي: القبيلة-أخوة نسب، لا أخوة دين. هذا؛ وقد صرح سبحانه هنا، وفيما سيأتي في: صالح، وشعيب بتعيين المرسل إليهم دون ما سبق في نوح، وما سيأتي في لوط، وذلك؛ لأن المرسل إليهم إذا كان لهم اسم، قد اشتهروا به؛ ذكروا به، وإلا فلا. وقد امتازت عاد وثمود ومدين بأسماء مشهورة. هذا؛ وكان بين هود، وبين نوح ثمانمائة سنة، وعاش أربعمائة وأربعا وستين سنة. انتهى جمل نقلا من هنا، وهناك.

{قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [58].

{أَفَلا} الهمزة للإنكار، وهي في نية التأخير عن الفاء؛ لأنها حرف عطف، وكذا تقدم على الواو وثم، تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ..} . إلخ.

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ. {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} وأخواتها تتأخر عن حروف العطف، كما هو قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ} . و {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} هذا مذهب سيبويه، والجمهور، وخالف جماعة أولهم الزمخشري،

ص: 537

فزعموا: أن الهمزة في الآيات المتقدمة في محلها الأصلي، وأن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، فيقولون: التقدير في: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} و {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} و {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ:} أمكثوا فلم يسيروا في الأرض؟ أنهملكم فنضرب لكم المثل؟ أتؤمنون في حياته، فإن مات أو قتل

إلخ؟ ويضعف قولهم، ما فيه من التكلف، أنه غير مطرد في جميع المواضع. انتهى مغني اللبيب بتصرف. {تَتَّقُونَ:} انظر التقوى في الآية رقم [26].

الإعراب: {وَإِلى عادٍ:} متعلقان بفعل محذوف، أي: وأرسلنا

إلخ. {أَخاهُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {هُوداً:} بدل من: {أَخاهُمْ،} أو عطف بيان عليه، والجملة الفعلية:

المقدرة: «وأرسلنا

» إلخ معطوفة على مثلها في الآية رقم [59] لا محل لها مثلها. {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [59] وجملة:

{قالَ..} . إلخ هنا مستأنفة، لا محل لها، بخلافها هناك، فإنها معطوفة بالفاء كما رأيت، وعلل ذلك الخازن بقوله: إن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير متوان، وأما هود؛ فلم يكن كذلك، بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء، فجاء قوله بغير فاء. انتهى بتصرف. {أَفَلا} الهمزة: حرف استفهام وتقريع وتوبيخ. (فلا): الفاء: حرف عطف. (لا): نافية. {تَتَّقُونَ:}

مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف للعلم به، والجملة الفعلية:{أَفَلا تَتَّقُونَ} مستأنفة مع الجملة المقدرة المعطوفة عليها على القول الثاني، ومعطوفة على ما قبلها على القول الأول في «الفاء» ، تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66)}

الشرح: {قالَ الْمَلَأُ:} انظر الآية رقم [60]. {كَفَرُوا:} الكفر: ستر الحق بالجحود، والإنكار. وكفر فلان النعمة يكفرها كفرا وكفورا وكفرانا: إذا جحدها وأنكرها. وكفر الشيء:

غطاه وكفره. وسمّي الكافر كافرا؛ لأنه يغطي نعم الله بجحدها، وعبادته غيره. وسمي الزارع كافرا؛ لأنه يلقي البذر في الأرض، ويغطيه، ويستره بالتراب. قال تعالى في تشبيه حال الدنيا:

{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} . وسمي الليل كافرا؛ لأنه يستر كل شيء بظلمته. قال لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه-في معلقته: [الكامل]

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

{قَوْمِهِ:} انظر الآية رقم [32]. {فِي سَفاهَةٍ:} في خفة، وسخافة عقل، وفي حمق، وجهالة، وضلالة عن الحق والصواب. هذا؛ وسفه نفسه سفها، وسفاهة استمهنها، وأذلها،

ص: 538

واستخف بها. قال المبرد، وثعلب: سفه بالكسر متعد، وبالضم لازم، ويشهد له ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:«الكبر أن تسفه الحق، وتغمص الناس» . والأول من باب طرب، والثاني من باب ظرف. هذا؛ وجاء في المختار:(وقولهم: سفه نفسه، وغبن رأيه، وبطر عيشه، وألم بطنه، ووفق أمره، ورشد أمره، كان الأصل: سفهت نفس زيد، ورشد أمره، فلما حول الفعل إلى الرجل، انتصب ما بعده بوقوع الفعل عليه؛ لأنه صار في معنى سفّه نفسه بالتشديد، هذا قول البصريين والكسائي، ويجوز عندهم تقديم هذا المنصوب، كما يجوز: غلامه ضرب زيد).

وقال الفراء: لما حول الفعل من النفس إلى صاحبها خرج ما بعده مفسرا ليدل على أن السفه فيه، وكان حكمه أن يكون سفه زيد نفسا؛ لأن المفسر لا يكون إلا نكرة، ولكنه ترك على إضافته، ونصب كنصب النكرة تشبيها بها. ولا يجوز عنده تقديمه؛ لأن المفسر لا يتقدم، ومثله قولهم: ضقت به ذرعا، وطبت به نفسا. والمعنى: ضاق ذرعي به، وطابت نفسي به. انتهى.

بحروفه. {وَإِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ} أي: في ادعائك النبوة.

قال الخازن: والفرق بين إجابة قوم نوح: {إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وبين إجابة قوم هود:

{إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ:} أن نوحا كما خوف قومه في الطوفان، وأخذ في صنع السفينة، قال به قومه:{إِنّا لَنَراكَ..} . إلخ حيث تتعب في صنع سفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء، وأما هود عليه السلام فإنه لما زيف عبادة الأصنام، ونسب من عبدها إلى السفه وقلة العقل؛ قابلوه بمثله. انتهى بتصرف. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قالَ الْمَلَأُ:} فعل، وفاعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل صفة {الْمَلَأُ} أو بدل منه، وجملة:{كَفَرُوا:} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. {مِنْ قَوْمِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {الْمَلَأُ،} والهاء في محل جر بالإضافة:

{إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ} انظر إعراب مثلها ومحلها في الآية رقم [60] وإعراب: {وَإِنّا لَنَظُنُّكَ} مثلها معطوفة عليها فهي في محل نصب مقول القول. {مِنَ الْكاذِبِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، وجملة:{قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدر.

{قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67)}

الشرح: شرح هذه الآية، وإعرابها مثل الآية رقم [61] واذكر ما كتبه الجمل عليها نقلا من أبي السعود، حيث قال: استدراك على ما قبله باعتبار ما يلزمه من كونه في الغاية القصوى من الرشد، فإن الرسالة من جهة رب العالمين موجبة لذلك، فكأنه قيل: ليس بي شيء مما تنسبونه إلي، ولكني في غاية الرشد، والصدق، ولم يصرح بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك.

و {مِنْ} لابتداء الغاية.

ص: 539

{أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)}

الشرح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي:} انظر الآية رقم [62] ففيها الكفاية. {وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ:} قال الجمل نقلا من الخازن بتصرف: أتى هود بالجملة الاسمية، ونوح بالجملة الفعلية، حيث قال:

{وَأَنْصَحُ لَكُمْ} وذلك؛ لأن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة، وكان نوح عليه الصلاة والسلام يكرر دعوته لهم ليلا، ونهارا، من غير تراخ، فناسب التعبير بالفعل، وأما هود عليه الصلاة والسلام، فلم يكن كذلك، بل كان يدعوهم وقتا دون وقت، فلهذا عبر بالاسمية. انتهى.

{أَمِينٌ} أي: على أداء الرسالة، وتبليغ النصح. والأمين: الثقة على ما ائتمن عليه. والمدح للنفس بأعظم الصفات غير لائق بالعقلاء، وإنما فعل هود ذلك، وقال هذا القول؛ لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك، ومقصوده الرد عليهم في قولهم:{وَإِنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ} فوصف نفسه بالأمانة، وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله. ففيه تقرير للرسالة، والنبوة، وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها. انتهى. خازن بحروفه.

هذا؛ وانظر (النصح) في الآية رقم [62] وانظر (النصيحة) في الآية رقم [79] الآتية.

أقول: قد مدح يوسف نفسه بقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ومدح نوح، وصالح، ولوط، وشعيب أنفسهم بذلك في سورة (الشعراء) والغرض من ذلك ما ذكرته آنفا. على نبينا، وعليهم ألف ألف ألف صلاة وتسليم.

الإعراب: {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي:} انظر الإعراب، ومحل الجملة في الآية رقم [62].

(أنا): ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {ناصِحٌ} بعدهما. {ناصِحٌ:} خبر المبتدأ. {أَمِينٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وهذا أولى من العطف على الجملة الفعلية، بخلافه في الآية رقم [62] فالعطف أولى لاتفاق الجملتين في الفعلية.

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)}

الشرح: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ:} انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [63]. {خُلَفاءَ:} انظر الآية رقم [6/ 165]. {مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ:} حيث ملككم ديارهم، ومساكنهم، وجعلكم خلفاءهم؛ لأنهم كانوا من نسل الذين بقوا مع نوح، وإن شداد بن

ص: 540

عاد الذي كان معاصرا لهود عليه السلام قد ملك المعمورة من رمل عالج إلى بحر عمان، وكان مركزهم بالأحقاف من بلاد حضر موت. هذا؛ وانظر شرح:{قَوْمِ} في الآية رقم [32] و {نُوحٍ} في الآية رقم [59].

{وَزادَكُمْ:} هذا الفعل ضد: «نقص» ، يكون لازما، كقولك: زاد المال، ويكون متعديا لمفعولين، كما في الآية الكريمة، وقولك:«زاد الله خالدا خيرا» بمعنى: جزاه الله خيرا. وأما قولك: زاد المال درهما، والبر مدّا، فدرهما، ومدّا تمييز، ومثله قل في: نقص، ومن المتعدي لمفعولين قوله تعالى {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً}. {بَصْطَةً} أي: طولا، وقوة.

قال الكلبي والسدي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستين ذراعا. وقال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة، وكانت عينه بعد موته تفرخ فيها الضباع. هذا؛ و {بَصْطَةً} يقرأ بالسين، والصاد، {آلاءَ اللهِ:} نعمه، و {آلاءَ} جمع مفرده: إلي بكسر الهمزة، وسكون اللام، أو: ألي، بضم الهمزة، وسكون اللام، أو: إلى بكسر الهمزة وفتح اللام، أو: ألى بفتحهما. وانظر مفرد: {آناءَ} في الآية رقم [3/ 113] فهو قريب منه.

{لَعَلَّكُمْ:} انظر الآية رقم [7] وانظر الترجي في الآية رقم [26] فإنه جيد. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. وانظر شرح: {خَلائِفَ} في الآية رقم [16] من سورة (الأنعام).

الإعراب: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} انظر إعراب هذا الكلام ومحله من الإعراب في الآية رقم [63]. (اذكروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان بمعنى «وقت» مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {جَعَلَكُمْ:} ماض، وفاعله يعود إلى {اللهِ} والكاف مفعول به أول.

{خُلَفاءَ:} مفعول به ثان. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {خُلَفاءَ،} و {بَعْدِ:} مضاف، و {قَوْمِ:} مضاف إليه، و {قَوْمِ:} مضاف، و {نُوحٍ:} مضاف إليه، وجملة:{جَعَلَكُمْ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. والجملة الفعلية: {فَاذْكُرُوا..} . إلخ معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: لا تعجبوا وتدبروا واذكروا. وهذا الكلام كله مستأنف لا محل له. الواو:

واو الحال. (زادكم): ماض، والفاعل يعود إلى:{رَبِّكُمْ،} والكاف مفعول به أول. {فِي الْخَلْقِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:

{فَاذْكُرُوا،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {بَصْطَةً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية: (زادكم

) إلخ في محل نصب حال من واو الجملة، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها.

{فَاذْكُرُوا:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38]. (اذكروا): فعل، وفاعل. {آلاءَ:}

مفعول به، و {آلاءَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها

ص: 541

جواب شرط غير جازم مقدر ب «إذا» ، وفي الكلام حذف؛ إذ التقدير: فاذكروا آلاء الله، واعملوا عملا يليق بذلك، وهو أن تؤمنوا به، وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام؛ لكي تفوزوا بالفلاح في الآخرة. وانظر إعراب مثل:{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} في الآية رقم [62].

{قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (70)}

الشرح: {قالُوا:} قال قوم هود له. وانظر «القول» في الآية رقم [5]. {أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ:} المراد بالمجيء هاهنا أحد أمرين: إما المجيء من مكان اعتزل فيه عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل نبينا صلى الله عليه وسلم بغار حراء قبل المبعث. وإما من السماء على التهكّم والاستهزاء، أو القصد على المجاز، كقولهم:«ذهب يسبني» وانظر (جاء) في الآية رقم [4] والعبادة في الآية رقم [59]. {وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا:} فهذا استبعاد منهم اختصاص الله بالعبادة، وكيف يتركون ما ألفوا عليه آباءهم من الشرك انهماكا منهم في التقليد لما ألفوه. {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا:}

من العذاب المدلول عليه بقوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} انظر (أتى) في الآية رقم [35]. {تَعِدُنا:} انظر إعلال: {تَجِدُ} في الآية رقم [17]. وانظر الوعد في الآية رقم [43]. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ:}

فيما تتوعدنا وتتهددنا. وانظر إعلال: {قُلْنا} في الآية رقم [10].

بعد هذا أقول: إن (نذر) مضارع يأتي منه أمر، ولم يأت منه ماض، فهو ناقص التصرف، ومثله: يدع، دع، ويعم، عم. وإلى الآن لم أتكلم على هذه الأفعال الثلاثة، والأولان بمعنى الترك، والثالث بمعنى التحية، والسّلام، وهنا أتكلم عن ذلك بعونه تعالى، فأقول: قد قيل: قد سمع سماعا نادرا الماضي من الأولين. فقالوا: ودع، ووذر، بوزن: وضع إلا أن ذلك شاذ في الاستعمال؛ لأن العرب كلهم إلا قليلا منهم أميت هذا الماضي من لغاتهم، وليس المعنى: أنهم لم يتكلموا به البتة، بل تكلموا به دهرا طويلا، ثم أماتوه بإهمالهم استعماله، فلما جمع العلماء، ما وصل إليهم من لغات العرب؛ وجدوه مماتا إلا ما سمع منه سماعا نادرا.

قال قطة العدوي: قال بعض المتقدمين: زعم النحاة: أن العرب أماتت ماضي (يدع) ومصدره، واسم مفعوله، واسم فاعله، مع أنه قد قرأ عروة بن الزبير، وابنه هشام قوله تعالى {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى} بتخفيف الدال بمعنى: ما تركك، وكذا قرأ مقاتل، وابن أبي عبلة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «شرّ النّاس من ودعه الناس اتقاء شرّه». وقال أيضا عليه الصلاة والسلام:«دعوا الحبشة ما ودعوكم» . وقال الشاعر: [المنسرح]

وكأنّ ما قدّموا لأنفسهم

أعظم نفعا من الّذي ودعوا

ص: 542

وقال آخر: [الطويل]

وثمّ ودعنا آل عمرو وعامر

فرائس أطراف المثقفة السّمر

وقال غيره: [الرمل]

ليت شعري عن خليلي ما الذي

غاله في الحبّ حتى ودعه

فها هو الماضي قد ورد عن أفصح العرب قراءة وحديثا، وكذا في شعر العرب، وورد المصدر أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات. -وفي رواية الجماعات- أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثمّ ليكوننّ من الغافلين» . أخرجه مسلم وغيره. وورد اسم الفاعل، واسم المفعول من:«ودع» في قول خفاف بن ندبة: [الطويل]

إذا ما استحمّت أرضه من سمائه

جرى وهو مودع ووادع مصدّق

فكيف يقال: إن العرب أماتته، فالصواب القول بقلة الاستعمال، لا بالإماتة. انتهى. بتصرف كبير وقال السيوطي في همع الهوامع: الغالب الاستغناء عن مادة (ودع) بمادة (ترك) ولذا قال: فعلى هذا يعدّ (ودع) في الجوامد، وما قيل في ودع ومضارعه يدع، وأمره دع، يقال في وذر. ومضارع يذر وأمره ذر، كما يقال في وعم ومضارعه يعم، وأمره عم. تأمل، وتدبر وربك أعلم وأجل، وأكرم.

الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعل. وانظر الآية رقم [5]. {أَجِئْتَنا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري، (جئتنا): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {لِنَعْبُدَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» . {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {وَحْدَهُ:}

حال من: {اللهَ،} وصح ذلك؛ لأنه بمعنى: منفردا، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: أجئتنا لعبادة الله وحده؟! وجملة: {قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَنَذَرَ:} مضارع معطوف على: (نعبد) منصوب مثله، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» . {ما:}

موصولة، أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {كانَ:} ماض ناقص.

{يَعْبُدُ:} مضارع. {آباؤُنا:} يتنازعه الفعلان السابقان، فكان يطلبه اسما له، ويعبد يطلبه فاعلا له، والثاني أولى عند البصريين لقربه، والأول أولى عند الكوفيين لتقدمه، فلا بد من الإضمار في أحد الفعلين على القولين، وجملة:{يَعْبُدُ..} . إلخ في محل نصب خبر: {كانَ،} وجملة:

{كانَ..} . إلخ صلة ما، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:«كان يعبده آباؤنا» هذا؛ وإن اعتبرت {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير:

ونذر عبادة آبائنا. {فَأْتِنا:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38](ائتنا): فعل أمر مبني على

ص: 543

حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:

«أنت» ، و (نا): مفعول به، {بِما:} متعلقان بما قبلهما وما تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي أو بشيء تعدنا إياه، أو به، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: فأنا بوعدك لنا بالهلاك، والجملة الفعلية:{فَأْتِنا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ما تتوعدنا به صحيحا فأتنا به. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتَ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {مِنَ الصّادِقِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر كان، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ إذ التقدير: إن كنت من الصادقين فأتنا بما تعدنا، والجملة الشرطية مع التي قبلها كل أولئك في محل نصب مقول القول.

{قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)}

الشرح: {قالَ} أي: هود-عليه السلام-لقومه. {قَدْ وَقَعَ:} نزل، أو حق، ووجب.

{رَبِّكُمْ:} انظر الآية رقم [3]. {رِجْسٌ:} عذاب. من: الارتجاس، وهو الاضطراب.

{وَغَضَبٌ:} سخط وانتقام، أو إرادة الانتقام. {أَتُجادِلُونَنِي:} أتخاصمونني؟! فهو إنكار لما حصل منهم. {فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها..} . إلخ: أي: في أشياء سميتموها آلهة، وليس فيها معنى الإلهية؛ لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للمخلوقات. و {أَسْماءٍ} جمع: اسم، انظر البسملة لترى أصله، واشتقاقه. {ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} أي: عبدتم الأصنام، ووضعتم لها أسماء بدون سند، ولا برهان تعتمدون عليه، وما كان بهذه المثابة فهو باطل. ذكر: أنهم كان لهم ثلاثة أصنام: سموا أحدها: صمودا، والثاني صمدا، والثالث: هبل. وقيل: صمودا، وصداء، والهباء. {فَانْتَظِرُوا:} غضب الله، وعقابه. {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} أي: إنّي أنتظر هلاككم، ونزول العذاب بكم، فهو تهديد، ووعيد لقومه؛ الذين حق عليهم غضب الله تعالى.

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (هود). {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {وَقَعَ:} ماض. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكُمْ:}

متعلقان بمحذوف حال من {رِجْسٌ} كان صفة له، انظر مثله في الآية رقم [69]. وجوز تعليقهما

ص: 544

بالفعل قبلهما، والكاف ضمير في محل جر بالإضافة. {رِجْسٌ:} فاعل {وَقَعَ} . {وَغَضَبٌ:}

معطوف عليه، وجملة:{قَدْ وَقَعَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَتُجادِلُونَنِي:} الهمزة: حرف استفهام. (تجادلونني): مضارع، وفاعله ومفعوله، ونون الوقاية مقحمة بينهما. {فِي أَسْماءٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {سَمَّيْتُمُوها:}

ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم، فتولدت واو الإشباع، و (ها): ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {أَنْتُمْ:} ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع توكيد لتاء الفاعل. {وَآباؤُكُمْ:} معطوف على تاء الفاعل، والميم في الجميع حرف دال على جماعة الذكور، وجملة:{سَمَّيْتُمُوها..} . إلخ في محل جر صفة:

{أَسْماءٍ،} وجملة: {أَتُجادِلُونَنِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {ما:} نافية. {نَزَّلَ اللهُ:} فعل، وفاعل. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة.

{سُلْطانٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية:{ما نَزَّلَ..} . إلخ في محل جر صفة ثانية ل {أَسْماءٍ،} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، والرابط: الضمير فقط.

{فَانْتَظِرُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (انتظروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله.

وانظر إعراب: {اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] والمفعول محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر ب:«إذا» ، أو هي في محل جزم شرط مقدر ب:«إن» ، والتقدير على الأول، وإذا كان ما ذكر حاصلا منكم؛ فانتظروا. وعلى الثاني: إن كنتم مصرين على شرككم فانتظروا. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها، {مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بما بعده، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) وعلامة الجر الياء

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} .

إلخ تعليل للأمر لا محل لها، والجملة الشرطية المقدرة مع التعليل في محل نصب مقول القول.

{فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}

الشرح: {فَأَنْجَيْناهُ} أي: فأنجينا هودا من العذاب الذي أصاب قومه. {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي:

من المؤمنين به. {بِرَحْمَةٍ مِنّا:} انظر {رَحْمَتَ اللهِ} في الآية رقم [56]. {وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ..} . إلخ:

استأصلناهم، فلم نبق منهم كافرا؛ لأن الدابر هو الآخر، وإذا قطع الآخر، فقد قطع ما قبله، فحصل الاستئصال، والمراد ب:(آياتنا) المعجزات التي أعطيها هود، عليه الصلاة والسلام. وانظر الآية رقم [8] وانظرنا في الآية رقم [9]. {وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ:} نفى الله الإيمان عمن أهلكهم من قوم هود، ففيه تنبيه على أن الفرق بين من نجا وبين من هلك إنما هو الإيمان. وانظر الآية رقم [2].

ص: 545

تنبيه: روي: أن قوم هود كانوا يعبدون الأصنام، ومنازلهم بالأحقاف بين عمان وحضر موت من أرض اليمن، فبعث الله إليهم هودا، فكذبوه، وازدادوا عتوّا، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين؛ حتى لحقهم الجهد، وكان الناس حينئذ مسلمهم، ومشركهم إذا نزل بهم بلاء؛ توجهوا إلى البيت الحرام، وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه قيل بن عنز، ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة، أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه؛ وهو بظاهر مكة؛ أنزلهم، وأكرمهم، وكانوا أخواله، وأصهاره، فلبثوا عنده شهرا، يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان (قينتان له) فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له؛ أهمه ذلك، واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم، فقال شعرا، وأمر الجرادتين أن تغنيا به، ومطلعه ما يلي:[الوافر]

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعلّ الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إنّ عادا

قد امسوا لا يبينون الكلاما

فأزعجهم ذلك، فقال مرثد، والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله؛ سقيتم! فقالوا لمعاوية: احبسه عنا لا يقدمنّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا، ثم دخلوا مكة، فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك، ولقومك. فقال: اخترت السوداء، فإنها، أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من وادي المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم، فأهلكتهم، واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه، ومن معه من الريح، إلا ما تلين عليه الجلود، وتلذ به الأنفس، انظر ما ذكره الله في سورة (الذاريات) وسورة (الحاقة)، وغيرهما. انتهى. بيضاوي بتصرف.

الإعراب: {فَأَنْجَيْناهُ:} فعل، وفاعل ومفعول به. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10] والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وقال سليمان الجمل: الفاء الفصيحة، وقدر قبلها:«فوقع، ما وقع فأنجيناه» . ولا أرى له وجها صحيحا. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، التقدير: آمنوا معه. والهاء في محل جر بالإضافة. {بِرَحْمَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنّا:} متعلقان ب (رحمة)، أو بمحذوف صفة له. (قطعنا): فعل، وفاعل. {دابِرَ:}

مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} مضاف إليه، وجملة:{كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها، والجملة المنفية:{وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، وجملة:{وَقَطَعْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 546

{وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)}

الشرح: {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً..} . إلى {غَيْرُهُ:} انظر شرح هذا الكلام، في الآية رقم [65] وهو معطوف عليه، فيقدر المحذوف مثله. هذا؛ و {ثَمُودَ} قبيلة أخرى من العرب، كعاد سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن غابر بن سام بن نوح، وهو أخو جديس بن غابر، وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد: الماء القليل. والأول هو المعتمد. وانظر صرفه، وعدمه في الآية رقم [65] وقرئ بصرفه شاذّا. {صالِحاً:} هو ابن عبيد، بن آسف، بن ماسح، بن عبيد، بن حاذر، بن ثمود، وليس من أنبياء بني إسرائيل كهود، وكان بينهما مائة سنة، وعاش صالح مائتين وثمانين سنة كما في التحبير. انتهى جمل. وأخوته لقومه أخوة نسب لا أخوة دين كهود. {جاءَتْكُمْ:} انظر الآية رقم [4]. {بَيِّنَةٌ:} معجزة واضحة ظاهرة الدلالة على نبوتي، وبرهان جلي على صدقي بأني رسول الله إليكم. ثم فسر هذه المعجزة بقوله سبحانه:{هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً} وكون هذه الناقة معجزة لأنها خرجت من صخرة، وهم ينظرون إليها، وليست من ذكر وأنثى معهودين، وخلقت في ساعة واحدة، وكانت تشرب ماء العين التي هي ماؤهم ورواؤهم في يوم، وهم يشربونه في يوم، وفي يوم شربها كانوا يحلبونها، فيغنيهم لبنها عن الماء ذلك اليوم. وإضافة الناقة إلى {اللهَ} إضافة تشريف، وتعظيم، كما يقال: بيت الله، وعبد الله. {فَذَرُوها:} اتركوها. وانظر الآية رقم [70].

{أَرْضِ اللهِ:} ملكه. {وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ:} نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى، مبالغة في النهي، كما في قوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها} هذا؛ والسوء الشر والفساد، والجمع: أسواء، وهو بضم السين من ساءه، وهو بفتحها المصدر، تقول: رجل سوء بالإضافة، ورجل السّوء، ولا تقول: الرجل السوء، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} وتأنيثه السوأى: كما في قوله تعالى: {ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى} . وانظر الآية رقم [9/ 98].

{عَذابٌ:} انظر الآية رقم [37]. {أَلِيمٌ:} مؤلم بكسر اللام، اسم فاعل بمعنى موجع.

وقال سليمان الجمل: بفتح اللام على طريق الإسناد المجازي، حيث أسند الألم للعذاب، وهو في الحقيقة إنما يسند إلى الشخص المعذب، فهو على حد (جدّ جدّه). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} . انظر الآية رقم [65] و [59] ففيهما الكفاية. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

ص: 547

{جاءَتْكُمْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والكاف مفعول به، والميم في الجميع حرف دال على جماعة الذكور. {بَيِّنَةٌ:} فاعل. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب: {بَيِّنَةٌ،} أو بمحذوف صفة لها، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{قَدْ جاءَتْكُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط. هذا؛ والاستئناف ممكن بالإعراض عما قبلها.

{هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له.

{ناقَةُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {اللهَ:} مضاف إليه. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {آيَةً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة: «نعت النكرة

إلخ». {آيَةً:} حال من: {ناقَةُ اللهِ،} والعامل في الحال اسم الإشارة، فهي حال متداخلة. هذا؛ وقيل، بدل من:{هذِهِ} وهذا يعني أنه قرئ بالرفع. هذا؛ وجوز اعتبار:

{لَكُمْ} متعلقين بمحذوف خبر ثان للمبتدإ، والجملة الاسمية:{هذِهِ ناقَةُ} مفسرة لقوله {بَيِّنَةٌ} أو هي بدل منها، إبدال جملة من مفرد. وقيل: هي مستأنفة، لا محل لها. {فَذَرُوها:}

الفاء هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38](ذروها): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا وثابتا؛ فذروها، و «إذا» المقدرة، ومدخولها كلام مستأنف، أو هو معطوف على ما قبله. {تَأْكُلْ:} مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف مقدر ب:«إن» ، والفاعل مستتر تقديره:«هي» ، {فِي أَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {أَرْضِ:}

مضاف، و {اللهَ:} مضاف إليه، وجملة:{تَأْكُلْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب الطلب، أو جواب شرط جازم، ولم تقترن بالفاء، أو ب:«إذا» الفجائية، التقدير: إن تذروها؛ تأكل

إلخ. (لا): ناهية جازمة {تَمَسُّوها:} مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (ها): مفعوله. {بِسُوءٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {فَيَأْخُذَكُمْ:} الفاء:

للسببية. (يأخذكم): مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء، والكاف مفعول به. {عَذابٌ:}

فاعله. {أَلِيمٌ:} صفته، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم مس للناقة بسوء، فأخذ لكم.

{وَاُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)}

الشرح: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ:} انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [69] وهذا يدل على امتداد ملك قوم عاد كما رأيت هناك. {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ:}

ص: 548

أسكنكم، ومكنكم فيها، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [87] من سورة (يونس). {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً:} تبنون في سهولها، أو من سهولها بما تعملون منها، كاللبن، والاجر المتخذ من الطين السهل اللين. هذا؛ وسميت القصور قصورا لقصور الفقراء عن تحصيلها، وحبسهم عن نيلها. انتهى. جمل. {وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً} أي: وتشقون بيوتا في الجبال، والمراد:

الكهوف، والغيران التي كانوا ينحتونها في الجبال، قيل: كانوا يسكنون السهول في الصيف، والجبال في الشتاء، وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين. هذا؛ وقرئ:«وتنحتون» بفتح التاء الثانية وكسرها، كما قرئ:«(تنحاتون)» . {آلاءَ:} انظر الآية رقم [69]. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {وَلا تَعْثَوْا:} ولا تفسدوا، والعثوّ: أشد الفساد. وانظر الآية رقم [56].

روي: أن عادا لما أهلكت؛ عمرت ثمود بلادها، أي: قسما منها؛ لأن قبيلة ثمود لم تصل إلى الأحقاف التي كانت مركزا لعاد، وخلفوها في عمارة الأرض التي ذكرتها في الآية السابقة، وعمروا أعمارا طوالا، فنحتوا البيوت من الجبال خشية الانهدام قبل الممات، وكانوا في سعة من العيش، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم صالحا، وكانوا قوما عربا، وصالح من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى الله، فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، فأنذرهم، فسألوه أن يخرج من صخرة يعينها ناقة عشراء، فصلى، ودعا ربه، فتمخضت تمخض النتوج بولدها، فخرجت منها ناقة كما شاءوا، فآمن به جندع، ورهط من قومه. انتهى. نسفي بتصرف، وزيادة.

الإعراب: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [68] وجملة: {وَاذْكُرُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة. (بوأكم): ماض، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{جَعَلَكُمْ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. {تَتَّخِذُونَ:} فعل، وفاعل. {مِنْ سُهُولِها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول به ثان تقدم على الأول، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{قُصُوراً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:

«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {قُصُوراً:} مفعول به، وجملة:{تَتَّخِذُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من الكاف المفعول به، والرابط الضمير فقط. (تنحتون): فعل، وفاعل.

{الْجِبالَ:} منصوب بنزع الخافض، أي من الجبال، و {بُيُوتاً:} مفعول به. وقيل: إن الفعل يتضمن معنى ما قبله، وعليه فالجبال مفعوله الأول، وبيوتا مفعوله الثاني. وقيل:{الْجِبالَ} مفعول به، و {بُيُوتاً} حال مقدرة، فإنه بمعنى المشتق، أي: مسكونة، والجملة الفعلية:

{وَتَنْحِتُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {فَاذْكُرُوا:} الفاء:

هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38]. (اذكروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله،

ص: 549

والألف للتفريق. {آلاءَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، وجملة:

(اذكروا

) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط مقدر ب: «إذا» ، التقدير: «وإذا كان ذلك واقعا وحاصلا؛ فاذكروا

» إلخ، وإذا ومدخولها على هذا التقدير معطوف على ما قبله، فهو داخل في الحالية. (لا): ناهية. {تَعْثَوْا:} مضارع مجزوم ب (لا) الناهية

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب {مُفْسِدِينَ} بعدهما.

{مُفْسِدِينَ:} حال مؤكدة لمعنى الفعل منصوب، وعلامة نصبه الياء، نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{وَلا تَعْثَوْا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {الْمَلَأُ:} انظر الآية رقم [60].

{اِسْتَكْبَرُوا} أي: تكبروا عن الإيمان به. {قَوْمِهِ:} انظر الآية رقم [32]. {اُسْتُضْعِفُوا} أي: استضعفهم الأقوياء، واستذلوهم. {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ:} للمؤمنين بصالح، ومصدقيه بما جاء به من عند ربه. وانظر (الإيمان) في الآية رقم [2]. {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً..}. إلخ: أي:

أتعتقدون برسالة صالح. {قالُوا:} ذلك استهزاء. وانظر شرح: {رَبِّكُمْ} في الآية رقم [3].

{قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلَ..} . إلخ: أي: نحن مصدقون، ومعترفون برسالته، وبما جاء من عند ربه.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ:} انظر إعراب هذه الكلمات ومحلها في الآية رقم [66]. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {قالَ} . {اُسْتُضْعِفُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{لِمَنْ:} جار ومجرور بدل من قوله: {لِلَّذِينَ} بدل كل من كل، إن كان كل المستضعفين مؤمنين، وبدل بعض من كل إن كان بعضهم مؤمنين، وبعضهم كافرين. {آمَنَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (من) وهو العائد. {مِنْهُمْ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، ومن بيان لما أبهم في (من) والجملة الفعلية:{آمَنَ مِنْهُمْ} صلة الموصول لا محل لها.

{أَتَعْلَمُونَ:} الهمزة: حرف استفهام. (تعلمون): فعل مضارع، والواو فاعله. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {صالِحاً:} اسمها. {مُرْسَلٌ:} خبرها. {مِنْ رَبِّهِ،} متعلقان ب {مُرْسَلٌ} لأنه اسم مفعول، والهاء في محل جر بالإضافة، و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل قبله، والجملة الفعلية:{أَتَعْلَمُونَ أَنَّ..} . إلخ في محل نصب

ص: 550

مقول القول. {قالُوا:} فعل، وفاعل. وانظر الآية رقم [5]. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب {مُؤْمِنُونَ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، وجملة:{أُرْسِلَ بِهِ} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط هو الضمير المجرور محلاّ بالباء، التقدير: بالذي، أو بشيء أرسل به، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بإرساله، والجار والمجرور متعلقان بما بعدهما. {مُؤْمِنُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدر. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قالَ الَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76)}

الشرح: {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أي: عن أمر الله، والإيمان به، وبرسوله (صالح).

{إِنّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} أي: جاحدون منكرون. فوضعوا {آمَنْتُمْ بِهِ} موضع {أُرْسِلَ بِهِ} ردّا لما جعله المؤمنون معلوما مسلما. وانظر الإيمان في الآية رقم [2] والكفر في الآية رقم [66] والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قالَ الَّذِينَ:} فعل، وفاعل. {اِسْتَكْبَرُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {بِالَّذِي:} متعلقان ب {كافِرُونَ} بعدهما. {آمَنْتُمْ:} فعل، وفاعل، والميم علامة جمع الذكور. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{آمَنْتُمْ بِهِ} صلة الموصول لا محل لها، والعائد الضمير المجرور محلاّ بالباء. {كافِرُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَعَقَرُوا النّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ اِئْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)}

الشرح: {فَعَقَرُوا النّاقَةَ:} نحروها، وقتلوها. أسند سبحانه العقر إلى جميعهم، وإن كان العاقر «قدار بن سالف» ؛ لأنه كان برضاهم، وكان «قدار» أحمر، أزرق العينين، قصيرا. كما كان فرعون كذلك.

ص: 551

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا علي أشقى الأولين عاقر ناقة صالح، وأشقى الآخرين قاتلك» . هذا؛ والعقر في الأصل: قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقرا؛ لأن ناحر البعير يعقره، ثم ينحره، وباب (عقر) ضرب، {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ:} تكبروا عن أمر ربهم، وهو ما أمروا به على لسان صالح من قوله:{فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ} . هذا؛ والعتو: الغلو في الباطل، والتكبر عن الحق. هذا؛ وانظر إعلال مثل:(عتوا) في الآية رقم [25]. {رَبِّهِمْ:} انظر الآية رقم [3].

{وَقالُوا:} انظر الآية رقم [5]. {اِئْتِنا:} انظر (أتى) في الآية رقم [34]. {تَعِدُنا:} انظر إعلال: {تَجِدُ} في الآية رقم [17] فهو مثله. {كُنْتَ:} انظر إعلال: {قُلْنا} في الآية رقم [10] فهو مثله. وقولهم: {يا صالِحُ ائْتِنا..} . إلخ تهكم؛ لأنهم كانوا مكذبين في كل ما هددهم وتوعدهم به من العذاب. وانظر مثل إعلال: {اِئْتِنا} في الآية رقم [50] من سورة (التوبة).

الإعراب: {فَعَقَرُوا:} الفاء: حرف استئناف. (عقروا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق.

{النّاقَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. (عتوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعل. {عَنْ أَمْرِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و {أَمْرِ:} مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَعَتَوْا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (صالح): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب: (يا){اِئْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [69] وكله مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78)}

الشرح: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ:} قال الفراء، والزجاج: الرجفة: الزلزلة الشديدة العظيمة.

وقال مجاهد والسدي: هي الصيحة. فيحتمل: أنهم أخذتهم الزلزلة من تحتهم، والصيحة من فوقهم؛ حتى هلكوا. انتهى خازن. {فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: أصبحوا في أرضهم، وبلدهم ميتين على وجوههم خامدين. هذا؛ والجثوم للناس، والطير بمنزلة البروك للبعير.

هذا؛ و «الدار» مؤنثة، وقد تذكر، وهي منزل الإنسان، ومسكنه، أصلها: دور بفتحتين قلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها. وجمعها: ديار، ودور، وادؤر، وأدور، وأدورة وأدوار، ودورات، وديارات، ودوران، وديران. وأصل ديار: دوار، قلبت الواو ياء؛ لأنها وقعت عينا في جمع على وزن «فعال» لمفرد اعتلت عينه بالقلب. هذا؛ والدار أيضا: البلد، والقبيلة. ودار القرار: الآخرة، والداران: الدنيا والآخرة. ودار الحرب: بلاد العدو.

هذا؛ وقد قال أبو حاتم: إنّ الديار العساكر، والخيام، لا البنيان، والعمران، وإن الدار البنيان، والعمران، وعليه قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في عساكرهم،

ص: 552

وخيامهم ميتين، وقال جل شأنه:{فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في مدينتهم المعمورة، ولو أراد غير ما قيل لجمع الدار، فعلم من كلامه: أن الديار مخصوصة بالخيام. انتهى.

قال صاحب خزانة الأدب: وهذه غفلة عن قول الشاعر-وهو مجنون ليلى-: (أقبّل ذا الجدار) وهو حائط البيت، وذلك في قوله:[الوافر]

أمرّ على الديار ديار ليلى

أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الدّيارا

وهذان البيتان هما الشاهد رقم (903) من كتابنا: «فتح القريب المجيب» .

تنبيه: بالإضافة لما ذكرته عن النسفي في الآية رقم [73] أذكر أيضا: أن الناقة ولدت ولدا مثلها، ومكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر، وترد الماء غبّا، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ماء فيها، ثم تتفحج، فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون، ويدخرون، وكانت تصيف بظهر الوادي، فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه، فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشقّ ذلك عليهم، وزينت عقرها لهم عنيزة أم غنم، وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها. فرقى ولدها جبلا اسمه: قارة، فرغا ثلاثا، فقال لهم صالح: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه؛ إذ انفرجت الصخرة بعد رغائه، فدخلها، فقال لهم صالح-عليه الصلاة والسلام: تصبح وجوهكم غدا مصفرة، وبعد غد محمرة، واليوم الثالث مسودة، ثم يصبحكم العذاب. فلما رأوا العلامات؛ طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله، إلى أرض فلسطين، ولما كانت ضحوة اليوم الرابع، تحنطوا، وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء، فتقطعت قلوبهم فهلكوا. انتهى بيضاوي بحروفه.

وفي الخازن-عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر، قال:

«لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنّع رأسه، وأسرع السير حتّى جاوز الوادي» . متفق عليه.

وعنه أيضا: أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود، فاستقوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوه، ويعلفوا الإبل بالعجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. رواه الشيخان.

وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف، خرج بهم صالح-عليه الصلاة والسلام بعد هلاك قومه من فلسطين، إلى حضر موت، فلما دخلوها؛ مات صالح، فسمي: حضر موت، ثم بنوا فيها أربعة آلاف مدينة، وسموها: حاضوراء. وقال قوم من أهل العلم توفي صالح بمكة، وهو ابن عثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه عشرين سنة. انتهى خازن بتصرف.

ص: 553

الإعراب: {فَأَخَذَتْهُمُ:} الفاء: حرف عطف. (أخذتهم): ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. {الرَّجْفَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها. (أصبحوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. وانظر إعراب:

{قالُوا} في الآية رقم [5]. {فِي دارِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{جاثِمِينَ:} خبر (أصبح) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وقيل:(أصبحوا) تامّا، و {جاثِمِينَ} حالا. والأول أقوى، وجملة: (أصبحوا

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحِينَ (79)}

الشرح: {فَتَوَلّى عَنْهُمْ:} فأعرض عنهم صالح، عليه الصلاة والسلام. هذا؛ والإعراض، والتولي، والإدبار عن الشيء يكون بالجسم، ويستعمل في الإعراض عن الأمور والاعتقادات اتساعا ومجازا. هذا؛ وقال البيضاوي: ظاهره: أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين، ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم، كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر، وقال:«إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّا» . أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم.

{وَقالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {يا قَوْمِ:} انظر شرحه في الآية رقم [32]. {رَبِّي:}

انظر الآية رقم [2]. والمراد ب: {رِسالَةَ رَبِّي:} تعاليمه وتكاليفه، وأوامره ونواهيه التي جاء بها كل رسول من عند ربه. هذا؛ وقد قال نوح وهود {أُبَلِّغُكُمْ} وقال صالح {أَبْلَغْتُكُمْ} والأول أبلغ من الثاني، ولعل مرجع ذلك ومرده إلى طول مدة نوح وهود عليهما الصلاة والسّلام، وإلى قصر حياة صالح ومدته كما رأيت حياة الجميع فيما تقدم. {وَنَصَحْتُ لَكُمْ:} انظر: {تَشْكُرُونَ} في الآية رقم [10]. {وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحِينَ:} الامرين بالهدى لاستحلاء الهوى، والنصيحة: منيحة تدرأ الفضيحة، ولكنها وخيمة تورث السخيمة. انتهى. نسفي. وانظر (النصح) في الآية رقم [61].

الإعراب: {فَتَوَلّى:} الفاء: حرف عطف. (تولى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (صالح). {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {يا قَوْمِ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [59].

{لَقَدْ:} اللام واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله. {أَبْلَغْتُكُمْ:} فعل، وفاعل ومفعول به أول. {رِسالَةَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {رَبِّي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ..} . إلخ جواب القسم، المقدر، والقسم

ص: 554

وجوابه، والجملة الندائية كل ذلك في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا، والجملة الفعلية:{وَنَصَحْتُ لَكُمْ} معطوفة على جواب القسم، ومحلها في محل نصب مقول القول. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {لا:} نافية {تُحِبُّونَ:}

فعل، وفاعل. {النّاصِحِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ، والجملة الفعلية:{وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحِينَ} معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80)}

الشرح: {وَلُوطاً:} هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام آمن به، وهاجر معه من بلاد العراق، قال تعالى {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي..} . إلخ فأقام إبراهيم-عليه السلام-في فلسطين، وأقام لوط-عليه السلام-في الأردن، فأرسله الله إلى أهل «سدوم» يدعوهم إلى الله، وينهاهم عن فعلهم القبيح. هذا؛ وقال الجمل: سذوم بالذال المعجمة، وهي بلد بحمص. نقلا من أبي السعود، وأين حمص من الأردن؟! قال: انظر «القول» في الآية رقم [5]. {لِقَوْمِهِ:} انظر الآية رقم [31]. {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ:} سؤال توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح والشناعة، {ما سَبَقَكُمْ بِها:} لم يفعل هذه الفاحشة أحد قبلكم. {الْعالَمِينَ:} انظر الآية رقم [54].

{أَحَدٍ:} أصله: وحد؛ لأنه من الوحدة، فأبدلت الواو همزة، وهذا قليل في المفتوحة، إنما يحسن في المضمومة والمكسورة مثل قولهم: وجوه وأجوه، ووسادة وإسادة، وهو مرادف للواحد في موضعين: أحدهما: وصف الباري جل علاه، فيقال: هو الواحد، وهو الأحد.

والثاني: أسماء العدد، فيقال: أحد وعشرون، وواحد وعشرون. وفي غير هذين الموضعين يفرق بينهما في الاستعمال، فلا يستعمل (أحد) إلا في النفي، وهو كثير في الكلام، أو في الإثبات مضافا، كما في قوله تعالى {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} بخلاف الواحد، وقولهم:

«ما في الدار أحد» هو اسم لمن يعقل، ويستوي فيه المفرد، والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، قال تعالى {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ} وقال جل ذكره:{فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} .

الإعراب: {وَلُوطاً:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير، واذكر لوطا، ونحوه. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب بدلا من: (لوطا). {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى:(لوطا). {لِقَوْمِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {أَتَأْتُونَ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ. (تأتون): فعل، وفاعل. {الْفاحِشَةَ:}

مفعول به. وجملة: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {ما:} نافية. {سَبَقَكُمْ:} ماض، والكاف مفعول به. {بِها:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أَحَدٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة

ص: 555

مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {مِنَ الْعالَمِينَ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أَحَدٍ،} والجملة الفعلية: {ما سَبَقَكُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من {الْفاحِشَةَ} نفسها، والرابط: الضمير على الاعتبارين.

هذا؛ وقد قيل: إنها مستأنفة، لا محل لها، وجملة:«اذكر لوطا» أو «وأرسلنا لوطا» المقدرة معطوفة على ما قبلها، ومتضمنة عطف قصة لوط على قصة نوح وهود وصالح على نبينا وعليهم جميعا ألف ألف ألف تحية وسلام وصلاة.

{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)}

الشرح: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ..} . إلخ: هذا من قول لوط-عليه السلام-لقومه مخاطبا لهم.

وانظر (أتى) في الآية رقم [35]. {الرِّجالَ:} جمع: رجل، وهو مأخوذ من الرجولة، وهي البطولة، والشجاعة، والقوة، وغير ذلك. {مِنْ دُونِ:} انظر الآية رقم [3]. {شَهْوَةً:} قال البيضاوي: وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمة الصرفة، وتنبيه على أنه ينبغي للعاقل أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد، وبقاء النوع، لا قضاء الوطر.

قال عمرو بن دينار-رحمه الله تعالى-ما زنى ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط.

هذا؛ وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم من عمل عمل قوم لوط، كما لعن من أتى امرأته في دبرها أيضا.

{النِّساءِ:} أصله: النساي، تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة والياء المنقلبة ألفا، فأبدلت الثانية همزة. هذا؛ ونساء: اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ لأن مفرده: امرأة، وتجمع المرأة أيضا على: نسوة بضم النون وكسرها، ونسوان بكسر النون، ونسون ونسنين، وهذه الجموع كلها مأخوذة من النسيان الذي رأيته في الآية رقم [5/ 14] فهي مطبوعة عليه، إما إهمالا وإما كذبا.

هذا؛ والمرأة مشتقة من المرء، وهو الرجل؛ لأنها خلقت منه. {قَوْمٌ:} انظر الآية رقم [32].

{مُسْرِفُونَ:} مجاوزون الحلال إلى الحرام وانظر الآية رقم [6/ 141] وإنما ذمهم الله بهذا العمل الخبيث؛ لأن الله خلق الإنسان وركب فيه الشهوة لبقاء النسل وعمران الدنيا، وجعل النساء محلاّ للشهوة، وموضع النسل، فإذا تركهن الرجل وعدل عنهن إلى غيرهم من الرجال، فكأنما قد جاوز الحد واعتدى؛ لأنه وضع الشيء في غير موضعه الذي خلق له؛ لأن أدبار الذكور ليست محلاّ للولادة، التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان.

وكانت قصة قوم لوط على ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار والسير: أنه كانت قرى قوم لوط مخصبة ذات زروع، وثمار، لم يكن في الأرض مثلها، فقصدهم الناس، فآذوهم، وضيقوا عليهم، فعرض لهم إبليس في صورة شيخ، وقال لهم: إذا فعلتم بهم كذا وكذا

ص: 556

نجوتم منهم. فأبوا، فلما ألح عليهم الناس؛ قصدوهم، فأصابوا غلمانا حسانا صباحا، فأخبثوا، واستحكم ذلك فيهم. قال الحسن: كانوا لا ينكحون إلا الغرباء. وقيل: استحكم ذلك فيهم؛ حتى نكح بعضهم بعضا، وقال الكلبي: إن أول من عمل عمل قوم لوط إبليس، وذلك:

أن بلادهم أخصبت، فقصدها أهل البلدان، فتمثل لهم إبليس في صورة شاب أمرد، فدعا إلى نفسه، فكان أول من نكح في دبره، فأمر الله السماء أن تحصبهم، والأرض أن تخسف بهم.

انتهى. خازن بتصرف، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها.

هذا؛ وقد قرئ: «(أإنكم)» بهمزة الاستفهام {لَتَأْتُونَ} اللام: هي المزحلقة. تأتون: فعل، وفاعل.

{الرِّجالَ:} مفعول به. {شَهْوَةً:} مفعول لأجله، أو هو حال بمعنى مشتهين، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) وعلى تقدير الهمزة يكون في الكلام توبيخ آخر، وهذا أشنع مما سبق لتأكيده ب:

(إنّ) واللام، واسمية الجملة. هذا؛ والكلام في محل نصب مقول القول. {مِنْ دُونِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من (الواو) أو من {الرِّجالَ} . {بَلْ:} حرف إضراب انتقالي من الإنكار إلى الإخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها، وهي اعتياد الإسراف في كل شيء، أو عن الإنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم، أو عن محذوف مثل: لا عذر لكم فيه، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف. {أَنْتُمْ:} مبتدأ. {قَوْمٌ:} خبره. {مُسْرِفُونَ:} صفة قوم مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية من مقول لوط، عليه الصلاة والسلام.

{وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)}

الشرح: {وَما:} قال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: أتى هنا بقوله: {وَما} وفي النمل والعنكبوت بقوله: {فَما} والفاء هي الأصل في هذا الباب؛ لأن المراد: أنهم لم يتأخر جوابهم عن نصيحته، وأما الواو فالتعقيب أحد محاملها، فتعين هنا أنها للتعقيب لأمر خارجي، وهو القرينة في السورتين المذكورتين، لا أنها اقتضت ذلك بوضعها. انتهى نقلا عن السمين.

{قَوْمِهِ} أي: المستكبرين منهم عن الإيمان، انظر الآية رقم [32]. {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {أَخْرِجُوهُمْ} أي: أخرجوا لوطا، ومن آمن معه. {قَرْيَتِكُمْ:} وهي سذوم بالذال بوزن رسول من قرى حمص الشام. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [80] وانظر شرح القرية في الآية رقم [88]. {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي: من الفواحش، ومن أدبار الرجال، وهذا استهزاء منهم بلوط، وأتباعه. (الناس): اسم جمع لا واحد له من لفظه، كالقوم، والرهط،

ص: 557

واحده: إنسان من غير لفظه، وهو يطلق على الإنس، والجن، ولكن غلب استعماله في الإنس، قال تعالى {الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وأصله:

الأناس، حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، لا يكاد يقال: الأناس، وقد نطق القرآن الكريم بهذا الأصل، ولكن بدون لام التعريف، كما في هذه الآية، وقوله سبحانه:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} وقيل: إن أصله: النّوس، ولم يحذف منه شيء، وإنما قلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} ماض ناقص.

{جَوابَ:} خبر {كانَ} تقدم على اسمها، و {جَوابَ:} مضاف، و {قَوْمِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.

{قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر الآية رقم [5] والفعل في محل نصب ب:{أَنْ} و {أَنْ} والفعل في تأويل مصدر في محل رفع اسم {كانَ} مؤخر. هذا؛ وقد قرئ برفع «جواب» على أنه اسمها، والمصدر المؤول خبرها، والأول أفصح؛ لأن فيه جعل الأعراف اسما. {أَخْرِجُوهُمْ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {مِنْ قَرْيَتِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل والهاء في محل نصب اسمها. {أُناسٌ:} خبرها، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:

{أُناسٌ،} والجملة الاسمية: {إِنَّهُمْ..} . إلخ تعليل للأمر، وهي في محل نصب مقول القول.

{فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83)}

الشرح: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ} أي: أنجى الله لوطا ومن آمن معه من أهله. وانظر (نا) في الآية رقم [7] وأهل اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل معشر ورهط. و (الأهل): العشيرة وذو القربى، ويطلق على الزوجة وعلى الأتباع أيضا، والجمع أهلون، وأهال، وآهال، وأهلات، بسكون الهاء وفتحها، وبالأولين قرئ قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ} . {إِلاَّ امْرَأَتَهُ:} فإنها كانت تسر الكفر، واسمها واهلة. {كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} أي:

من الذين بقوا في العذاب، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث، مثل قوله تعالى في حق مريم:

{وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} هذا؛ و {الْغابِرِينَ} اسم فاعل من: غبر الشيء بقي، وغبر أيضا مضى، فهو من الأضداد، وبابه دخل. انتهى. مختار. هذا؛ ولذا يمكن أن يقال: في غابر الأزمان وحاضرها.

كما يقال: في غابر الأزمان وماضيها، وقال أبو ذؤيب الهذلي في رثاء أولاده:[الكامل]

فغبرت بعد همو بعيش ناصب

وإخال أنّي لاحق مستتبع

ص: 558

الإعراب: {فَأَنْجَيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به؛ والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{وَأَهْلَهُ:} معطوف على الضمير المنصوب، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاَّ:} أداة استثناء. {اِمْرَأَتَهُ:} مستثنى ب: {إِلاَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {كانَتْ:} ماض ناقص، والتاء للتأنيث، واسمها يعود إلى:{اِمْرَأَتَهُ} . {مِنَ الْغابِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: {كانَتْ،} والجملة الفعلية: {كانَتْ..} . إلخ قال الجمل: مستأنفة، وقعت جوابا عن سؤال نشأ من استثنائها، كأنه قيل: فماذا كان حالها، فقيل:{كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} . انتهى بتصرف، وأرى جوازا اعتبارها حالا من:{اِمْرَأَتَهُ،} وهي على تقدير «قد» قبلها، والرابط: الضمير فقط. تأمل، وتدبر وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}

الشرح: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً} أي: وأنزلنا عليهم من السماء مطرا عجيبا، وهو مبيّن في قوله تعالى:{وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} وهذه الحجارة قد عجنت بالكبريت والنار. هذا؛ ويقال: مطرت السماء، وأمطرت. وقال أبو عبيدة: يقال في العذاب: أمطرت، وفي الرحمة مطرت. وانظرنا في الآية رقم [7]. {فَانْظُرْ كَيْفَ..}. إلخ: أي: انظر يا محمد كيف كان عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالله ورسوله، وعملوا الفواحش كيف أهلكتهم؟!

قال مجاهد: نزل جبريل، عليه الصلاة والسلام، فأدخل جناحيه تحت مدائن قوم لوط، فاقتلعها، ورفعها إلى السماء، ثم قلبها، فجعل أعلاها أسفلها، ثم أتبعوا بالحجارة. هذا؛ وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن المراد به غيره من أمته، ليعتبروا بما جرى على أولئك، فينزجروا بذلك الاعتبار عن الأفعال القبيحة، والفواحش الخبيثة. انتهى. خازن بتصرف. {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} .

هذا؛ ولم يؤنث الفعل: {كانَ} لأن {عاقِبَةُ} مؤنث مجازي، وما كان منه يستوي فيه التذكير والتأنيث، أو لأن:{عاقِبَةُ} اكتسب التذكير من المضاف إليه.

الإعراب: (أمطرنا): فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10].

{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مَطَراً:} مفعول به، وجملة:{وَأَمْطَرْنا..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فَانْظُرْ:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38]. (انظر): أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر: {كانَ} تقدم عليها، وعلى اسمها. {كانَ:} ماض ناقص.

{عاقِبَةُ:} اسم {كانَ} مرفوع، وهو مضاف، و {الْمُجْرِمِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة

ص: 559

جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{كَيْفَ كانَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل: (انظر) المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، والجملة الفعلية:{فَانْظُرْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما وقع حاصلا؛ فانظر معتبرا بما حصل.

{وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)}

الشرح: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً} أي: وأرسلنا إلى مدين

إلخ، و {مَدْيَنَ} اسم رجل، وهو مدين بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا يكون المعنى: وأرسلنا إلى ولد مدين، ومدين اسم للقبيلة، كما يقال: بنو تميم، وبنو عدي. وقيل: مدين اسم للماء الذي كانوا عليه. وقيل: هو اسم للمدينة. وعلى هذين القولين يكون المعنى: وأرسلنا إلى أهل مدين.

والصحيح هو الأول، لقوله:{أَخاهُمْ شُعَيْباً} يعني: في النسب لا في الدين، وشعيب هو ابن ميكيل، بن يشجر، بن مدين، بن إبراهيم عليه السلام، وأم ميكيل هي بنت لوط عليه السلام، وكان يقال لشعيب-عليه السلام: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وكانوا أهل كفر، وبخس في المكيال، والميزان. انتهى خازن بتصرف. وقد صرح سبحانه هنا بتعيين المرسل إليهم

إلخ انظر الآية رقم [65]. {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} . انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [59]. {جاءَتْكُمْ:} انظر الآية رقم [4]. {بَيِّنَةٌ:} معجزة واضحة ظاهرة الدلالة على نبوتي، وبرهان جلي على صدقي بأني رسول الله إليكم.

قال الخازن: لأنه لا بد لكل نبي من معجزة تدل على صدق ما جاء به من عند الله؛ غير أن تلك المعجزة التي كانت لشعيب لم تذكر في القرآن، وليست كل معجزات الأنبياء مذكورة في القرآن. وقيل: أراد بالبينة: مجيء شعيب بالرسالة إليهم. وقيل: أراد بالبينة: الموعظة فيما يلي، وهي قوله:{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ} انتهى. والمعنى: أتموا الكيل، والميزان، وأعطوا الناس حقوقهم، وكانوا يضيفون إلى كفرهم بخس المكيال، والميزان، فيطففون الكيل، ويرجحون الميزان إذا أخذوا، وينقصونهما إذا أعطوا، كما قال تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} . وانظر: {وَالْمِيزانَ} في الآية رقم [8]. {النّاسَ:} انظر الآية رقم [81].

ص: 560

{أَشْياءَهُمْ:} جمع: شيء، وهو في الأصل عبارة عن كل موجود، إما حسّا، كالأجسام، وإما حكما، كالأقوال، نحو: قلت شيئا. وانظر الآية رقم [6/ 19]. هذا؛ وجمع الشيء: أشياء غير منصرف، واختلف في علته اختلافا كبيرا، والأقرب ما حكي عن الخليل-رحمه الله تعالى- وهو رأي سيبويه، والمازني، وجمهور البصريين: إن وزنه شيئاء وزان: حمراء، فاستثقل وجود همزتين في تقدير الاجتماع، فنقلت الأولى إلى أول الكلمة، فبقيت وزان: لفعاء، كما قلبوا:

أدؤرا، فقالوا: آدر وشبهه، ويقال لهذا: قلب مكاني. وجمع الأشياء: أشايا.

هذا؛ وقال البيضاوي: إنما قال: {أَشْياءَهُمْ} للتعميم تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل، والحقير، والقليل، والكثير. وقيل: كانوا مكاسين، لا يدعون شيئا إلا مكسوه. {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} أي: بالكفر والظلم. {بَعْدَ إِصْلاحِها:} بعد ما أصالح أمرها، وأهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع، وأصلحوا فيها. {ذلِكُمْ:} الإشارة إلى ما أمرهم به ونهاهم عنه من الأعمال. {خَيْرٌ:} انظر الآية رقم [12] ومعنى الخيرية: زيادة النعم من مال وولد. وما يتبع ذلك من حسن الذكر على مدى الدهر. {كُنْتُمْ:} انظر إعلال: {قُلْنا} في الآية رقم [11] فهو مثله. {مُؤْمِنِينَ:} انظر (الإيمان) في الآية رقم [2] والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِلى مَدْيَنَ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف معطوف على مثله في الآية رقم [58] فهو عطف قصة على قصة. وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {أَخاهُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {شُعَيْباً:} بدل من: {أَخاهُمْ،} أو عطف بيان عليه. {قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [59] وانظر ما ذكرته في الآية رقم [64] لتركه الفاء هنا. {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [73]. {فَأَوْفُوا:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38]. (أوفوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {الْكَيْلَ:}

مفعول به. {وَالْمِيزانَ:} معطوف على ما قبله. (لا): ناهية جازمة. {تَبْخَسُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {النّاسَ:} مفعول به أول. {أَشْياءَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{وَلا تَبْخَسُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [56] وهي هنا معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل

ص: 561

رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم حرف دال على جماعة الذكور. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ. {لَكُمْ:} متعلقان ب {خَيْرٌ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {مُؤْمِنِينَ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الشرطية، وما قبلها مجموع ذلك كله في محل نصب مقول القول.

{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَاُنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)}

الشرح: {بِكُلِّ صِراطٍ:} بكل طريق من طرق الدين. قال البيضاوي: وصراط الحق وإن كان واحدا؛ لكنه يتشعب إلى معارف، وحدود، وأحكام، وكان قوم شعيب إذا رأوا واحدا يسعى في شيء منها؛ منعوه، وتوعدوه، وهددوه إن هو آمن بشعيب. وقيل: كانوا يجلسون على المراصد، فيقولون لمن يريد شعيبا: إنه كذاب، فلا يفتننك عن دينك، ويوعدون من آمن به.

وقيل: كانوا يقطعون الطرق. انتهى. بتصرف. هذا؛ وانظر الوعد، والوعيد في الآية رقم [44].

{وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً} انظر الآية رقم [45] ففيها الكفاية، والضمير في {بِهِ} يعود إلى:{اللهِ} . وقيل: يعود إلى: {بِكُلِّ صِراطٍ،} والأول أولى.

{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ:} قال الزجاج: يحتمل ذلك ثلاثة أوجه: كثر عددكم، وكثركم بالغنى بعد الفقر، وكثركم بالقوة بعد الضعف. ووجه ذلك: أنهم إذا كانوا فقراء ضعفاء؛ فهم بمنزلة القليل، والمعنى: أنه كثركم بعد القلة، وأعزكم بعد الذلة، فاشكروا نعمة الله عليكم، وآمنوا به. انتهى خازن. {وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي: من الأمم قبلكم كقوم نوح وهود وصالح ولوط. وانظروا نظر اعتبار، وتبصر، وأقرب الأمم إليكم قوم لوط زمانا ومكانا، فانظروا كيف أرسل الله عليهم حجارة من السماء لما عصوه وكذبوا رسله، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَقْعُدُوا:} مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَلا تَبْخَسُوا..} . إلخ فهي مثلها في محل نصب مقول القول.

ص: 562

{بِكُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (كل) مضاف، و {صِراطٍ:} مضاف إليه.

{تُوعِدُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط، وجملة:{وَتَصُدُّونَ..} . إلخ معطوفة عليها، فهي في محل نصب حال مثلها. {مَنْ:} اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{آمَنَ بِهِ} صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها، التقدير: تصدون عن سبيل الله الذي، أو شخصا آمن به، وجملة:{وَتَبْغُونَها عِوَجاً} معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب حال أيضا، وتقدير الكلام: لا تقعدوا موعدين وصادين عن سبيل الله، وباغين عوجا.

وانظر الآية رقم [45] لتتمة الإعراب. (اذكروا): فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله، وعليه فالمفعول محذوف، التقدير: اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت. وقيل:

إذ مفعول به غير ظرف، التقدير: واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم {كُنْتُمْ قَلِيلاً} كان واسمها وخبرها، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة {وَاذْكُرُوا..}. إلخ معطوفة على جملة:{وَلا تَقْعُدُوا..} . إلخ، فهي في محل نصب مقول القول أيضا، وجملة:{فَكَثَّرَكُمْ:} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [84] وهي معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة مقول شعيب على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام.

{وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)}

الشرح: {طائِفَةٌ:} الطائفة: الجماعة من الناس، لا واحد لها من لفظها، مثل فريق، ورهط ومعشر، وجمعها: طوائف وانظر الآية رقم [68](التوبة). ومعنى الجملة الشرطية: وإن اختلفتم في رسالتي، فصرتم فرقتين: فرقة آمنت برسالتي، وفرقة كذبت بها، وجحدتها.

{فَاصْبِرُوا:} فانتظروا، وتربصوا فيه وعيد، وتهديد. {حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا} أي: الفريقين بأن ينصر المحقين على المبطلين، ويظهرهم عليهم. وهذا؛ وعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم.

أو هو حث للمؤمنين على الصبر، واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم، وينتقم لهم منهم. أو خطاب للفريقين؛ ليصبر المؤمنون على أذى المشركين، والكافرون على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم؛ حتى يحكم الله بين الفريقين، فيميز الخبيث من الطيب. انتهى نسفي بتصرف.

ص: 563

{اللهُ:} علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به لتخلف شروط الإجابة، التي أعظمها أكل الحلال. {وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} أي: إنه حاكم عادل، منزه عن الجور والميل والحيف في حكمه، وإنما قال:{خَيْرُ الْحاكِمِينَ} لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكما على سبيل المجاز، والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة. هذا؛ وانظر شرح:{خَيْرُ} في الآية رقم [12] وانظر شرح (بين) في الآية رقم [94] من سورة (الأنعام).

الإعراب: {وَإِنْ:} (إن): حرف شرط جازم. {كانَ:} ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {طائِفَةٌ:} اسمها، ولم يؤنث الفعل؛ لأن التأنيث مجازي.

{مِنْكُمْ:} متعلقان ب {طائِفَةٌ،} أو بمحذوف صفة لها. {آمَنُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [4]. {بِالَّذِي:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{أُرْسِلْتُ:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله. وانظر إعراب:

{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والأول هو نائب الفاعل، وجملة:{أُرْسِلْتُ بِهِ} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{آمَنُوا..} . إلخ في محل نصب خبر: {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي. {وَطائِفَةٌ:} معطوف على سابقه، ومتعلقه محذوف لدلالة، ما قبله عليه. {لَمْ:} حرف نفي وقلب وجزم. {يُؤْمِنُوا:} مضارع مجزوم ب {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:

{طائِفَةٌ} . {فَاصْبِرُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (اصبروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {حَتّى:} حرف غاية وجر. {يَحْكُمَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى} . {اللهُ:} فاعله. {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و (نا): ضمير منفصل في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة بعد {حَتّى} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل: (اصبروا). {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو):

ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ:} خبر المبتدأ، و {خَيْرُ:}

مضاف، و {الْحاكِمِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{وَهُوَ خَيْرُ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير.

ص: 564

{قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ (88)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {الْمَلَأُ:} انظر الآية رقم [60].

{قَوْمِهِ:} انظر الآية رقم [32]. {يا شُعَيْبُ:} انظر الآية رقم [85]. {قَرْيَتِنا:} المراد بها مدينة مدين، وبينها وبين مصر ثمانية مراحل، وسميت باسم الذي بناها، وهو مدين بن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. هذا؛ والقرية في الأصل: اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على الضيعة الصغيرة، وعلى المدينة الكبيرة، كيف لا؟ وقد جعل الله مكة المكرمة، كما رأيت في الآية رقم [6/ 92] أم القرى. هذا؛ وفي القاموس المحيط: القرية بكسر القاف وفتحها، والنسبة إليها: قروي وقريي. {مِلَّتِنا:} ديننا، وطريقتنا، وهي بكسر الميم، وهي بفتح الميم: الرماد الحار. {أَوَلَوْ:} انظر الآية رقم [65]. {أَوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ} أي: ألم نكن كارهين لملتكم وطريقتكم، فكيف نعود فيها مع كراهتنا وبغضنا لها؟! أو: كيف تعيدوننا إليها في حال كراهتنا لها؟!

المعنى للآية: قال الأشراف في الدنيا الذين تكبروا عن الإيمان لشعيب-عليه الصلاة والسلام: أنت ومن معك من المؤمنين بك بين أمرين: إما الخروج من بلدتنا، والجلاء عنها، وإما الرجوع إلى طريقتنا وملتنا، فأجابهم بقوله: ألم نكن كارهين لملتكم

إلخ، وشعيب لم يكن في ملتهم قط؛ لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر في جميع أدوار حياتهم، لكن غلبوا الجماعة على الواحد، فخوطب هو وقومه بخطابهم، وعلى ذلك أجري الجواب قوله:{أَوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ} . هذا؛ وبعضهم يقول: إن المعنى: لتصيرن في ملتنا. وعليه لا تغليب، ولا إشكال، ومنه قول الشاعر:[الطويل]

فإن تكن الأيّام أحسنّ مدة

إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب

أراد: فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد: أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان.

الإعراب: {قالَ الْمَلَأُ:} فعل، وفاعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة: {الْمَلَأُ} . {اِسْتَكْبَرُوا:} فعل، وفاعل والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5] والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {مِنْ قَوْمِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (من) بيان لما أبهم في {الَّذِينَ} والهاء ضمير في محل جر بالإضافة.

{لَنُخْرِجَنَّكَ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل مستتر تقديره:

«نحن» ، والكاف مفعول به، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: و (الله) ونحوه.

ص: 565

والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المحذوف، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول. {يا شُعَيْبُ:} منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب بيا النداء، والجملة الندائية معترضة بين الفعل ومتعلقه، وهي من مقول الملأ. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب معطوف على الكاف الواقعة مفعولا به، وجملة:{آمَنُوا} صلته.

{مَعَكَ:} ظرف مكان متعلق ب {آمَنُوا،} والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَرْيَتِنا:} متعلقان بالفعل: {لَنُخْرِجَنَّكَ،} و (نا) في محل جر بالإضافة. {أَوْ:} حرف عطف. {لَتَعُودُنَّ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة ضمير في محل رفع فاعل. وشرح هذا كما يلي:«أصل الفعل: تعودون، فلما اتصل به نون التوكيد الثقيلة صار: تعودوننّ، فحذفت نون الرفع لتوالي ثلاث نونات، فصار تعودونّ، فحذفت واو الجماعة لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة على الدال لتدل على الواو المحذوفة، فصار: {لَتَعُودُنَّ} واللام واقعة في جواب قسم محذوف، والقسم المحذوف وجوابه معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مقول القول أيضا. {فِي مِلَّتِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهذا على اعتبار الفعل بمعنى: لترجعن، وأما على اعتباره بمعنى: لتصيرن؛ فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبره، و (نا): في محل جر بالإضافة، وجملة: {قالَ الْمَلَأُ..}. إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (شعيب). {أَوَلَوْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري داخلة على فعل محذوف، التقدير: أنعود فيها؟ الواو: حرف عطف و (لو) حرف شرط بمعنى: «إن» . {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {كارِهِينَ:} خبره منصوب.. إلخ، وجواب (لو) محذوف، دل عليه ما قدرته قبله، و (لو) وجوابها في محل نصب مقول القول.

هذا؛ ونقل الجمل عن أبي مسعود: أن الجملة في محل نصب حال من ضمير الفعل المقدر، والتقدير: أنعود إلى ملتكم في حال كراهتنا لها، وهذا يعني: أن (لو) وصلية شرطية، بمعنى «إن» أو غيرها، والجملة الفعلية:{قالَ أَوَلَوْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قَدِ اِفْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)}

الشرح: {قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً:} قد اختلقنا، وابتدعنا باطلا على الله. وانظر الآية رقم [89]. {عُدْنا:} رجعنا، أو صرنا. وانظر الآية السابقة، وما ذكرته فيها. {مِلَّتِكُمْ:} انظر الآية السابقة. {بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللهُ مِنْها:} بعد أن أنقذنا، وخلصنا الله من طريقتكم المعوجة. وانظر

ص: 566

رفع الإشكال عن شعيب في الآية السابقة. {وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها} أي: لا ينبغي، ولا يحق لنا أن نرجع في ملتكم، أو نصير فيها وهو كما في الآية السابقة. {إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا} أي:

إلا بمشيئة الله وإرادته، ونرجو أن لا يعيدنا إلى ملتكم المعوجة.

هذا، وماضي:{يَشاءَ:} شاء، ولم يرد له، ولا ل «أراد يريد» أمر فيما أعلم، فهما ناقصا التصرف، وأصل شاء: شيء على وزن فعل بكسر العين، بدليل قولك شئت شيئا، وقد قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقد كثر حذف مفعوله، ومفعول:«أراد» حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل قوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا} وقال الشاعر الخريجي: [الطويل]

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع

وقيد بعضهم حذف مفعول هذين الفعلين بعد «لو» ، وليس كذلك. {اللهِ:} انظر الآية رقم [87]. {رَبُّنا:} انظر الآية رقم [3]. {وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي: إن الله بكل شيء عليم، فلا يصيب عبدا شيء من ضر، أو نفع إلا بعلمه، وتقديره، ومشيئته، وأحاط علمه بكل شيء مما كان ومما يكون إلى يوم القيامة. وانظر شرح:{شَيْءٍ} في الآية رقم [85]. {عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا:}

اعتمدنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويبعدنا عن الفسوق، والعصيان، ويكفينا شر الأشرار. {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ:} ربنا احكم بيننا وبينهم، والفتاح: القاضي، والفتاحة: الحكومة.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما معنى قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا..} . إلخ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول: تعال أفاتحك، يعني: أقاضيك. وهذا قول قتادة، والسدي، وابن جريج، وجمهور المفسرين: أن الفاتح هو القاضي، والحاكم، سمي بذلك؛ لأن يفتح إغلاق الإشكال بين الخصوم، ويفصلها.

وقال الزجاج: وجائز أن يكون معناه: ربنا أظهر أمرنا؛ حتى ينفتح بيننا وبين قومنا، وينكشف، والمراد منه: أن نزّل عليهم عذابا يدل على كونهم مبطلين، وعلى كون شعيب والمؤمنين معه محقين، وعلى هذا الوجه فالفتح يراد به الكشف، والتمييز. انتهى خازن.

وهذا الكلام إنما قاله شعيب-على نبينا وعليه أفضل صلاة، وأتم تسليم-حينما أيس من إيمان قومه. وما ذكره الله في هذه الآية من قول شعيب، إنما هو استسلام لمشيئة الله تعالى، ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة، وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل-عليه الصلاة والسلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} وكان سيد الرسل صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» . بعد هذا انظر شرح: {بِالْحَقِّ} في الآية رقم [33] وشرح:

{خَيْرُ} في الآية رقم [12] وانظر: (بين) في الآية رقم [94] من سورة (الأنعام).

ص: 567

الإعراب: {قَدِ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اِفْتَرَيْنا:} فعل فاعل. وانظر إعراب: {وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كَذِباً:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، وهي من مقول شعيب، وفيها معنى التعجب. قاله الزمخشري، كأنه قيل: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر. هذا؛ وجه، والوجه الثاني: أن الجملة جواب قسم محذوف، حذفت منه اللام، والتقدير: والله لقد افترينا

إلخ. ذكره الزمخشري أيضا، وجعله ابن عطية احتمالا. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {عُدْنا:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، و (نا): فاعله. {فِي مِلَّتِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما على تمامه، ومتعلقان بمحذوف خبره على نقصانه. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {عُدْنا،} و {بَعْدَ:} مضاف، و {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {نَجّانَا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، و (نا): مفعول به. {اللهِ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، والجملة الفعلية:{عُدْنا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير:{إِنْ عُدْنا..} . إلخ؛ فقد افترينا

الخ، وهذا على اعتبار الجملة السابقة مستأنفة، وأما على اعتبارها جوابا لقسم محذوف؛ فيكون جواب الشرط قد حذف لدلالة جواب القسم عليه، على القاعدة:

«إذا اجتمع شرط وقسم؛ فالجواب للسابق منهما» . {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {يَكُونُ:} مضارع ناقص. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر مقدم، والمصدر المؤول من:{أَنْ نَعُودَ} في محل رفع اسم {يَكُونُ} مؤخر. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما على تمامه، وبمحذوف خبر على نقصانه، والجملة الفعلية:{وَما يَكُونُ..} . إلخ في محل نصب حال من (نا) والرابط: الواو، والضمير. هذا؛ والاستئناف ممكن، وهو داخل في مقول شعيب. {إِلاّ:} أداة استثناء، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَشاءَ اللهُ} في محل نصب على الاستثناء، وفيه وجهان: أحدهما: أنه متصل من الأوقات العامة، التقدير: وما يكون لنا أن نعود فيها في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك، أو هو مستثنى من الأحوال العامة، والتقدير: ما يكون لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله تعالى. والوجه الثاني: أن الاستثناء منقطع. هذا؛ وبعضهم يعتبر المصدر منصوبا بنزع الخافض، والتقدير: إلا بمشيئة الله. ولا تنس أن مفعول {يَشاءَ} محذوف، التقدير: إلا أن يشاء الله إهلاكنا. ونحوه. {رَبُّنا:} بدل من لفظ الجلالة بدل كل من كل، أو هو عطف بيان عليه. {وَسِعَ:} ماض. {رَبُّنا:} فاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة.

{كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {عِلْماً:} تمييز، وجوز اعتباره

ص: 568

مفعولا مطلقا، عامله:{وَسِعَ؛} لأن معناه: علم، وجملة:{وَسِعَ..} . إلخ كالتعليل للاستثناء؛ إذ المعنى: فلا يبعد أن يكون في علمه أن يهلكنا بسبب الأسباب لأنه قد أحاط بكل شيء علما.

{عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل بعدهما، والتقديم يفيد الاختصاص. {تَوَكَّلْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، وهي داخلة في المقول. {رَبُّنا:} منادى حذف أداة النداء منه. وانظر الآية رقم [23] تجد ما يسرك، و (نا): في محل جر بالإضافة. {اِفْتَحْ:} فعل دعاء وفاعله مستتر تقديره: «أنت» . {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة.

(بين): معطوف على ما قبله، و (بين) مضاف، و {قَوْمِنا:} مضاف إليه، و (نا): في محل جر بالإضافة. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل: {اِفْتَحْ} . {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} انظر إعراب مثل هذه الآية في الآية رقم [87] وهي في محل نصب حال من فاعل: {اِفْتَحْ} المستتر، والرابط:

الواو، والضمير، والآية كلها في محل نصب مقول القول.

{وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90)}

الشرح: {وَقالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5] انظر الآية رقم [60]. {كَفَرُوا:} انظر الآية رقم [66]. {قَوْمِهِ:} انظر الآية رقم [32]. {شُعَيْباً:} انظر الآية رقم [85] والمعنى: إن الكفارة العظماء في الدنيا يحذرون الناس من اتباع شعيب، وإنهم إن اتبعوه، واستبدلوا الكفر بالإيمان خسروا، لاستبدال الضلالة بالهدى، أو لفوات ما يحصل لهم من فوائد مالية بالبخس، أو التطفيف. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [88] والجملة الفعلية: (قال

) إلخ مستأنفة، لا محل لها {لَئِنِ} اللام: موطئة لقسم محذوف، تقديره: والله. (إن): حرف شرط جازم. {اِتَّبَعْتُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {شُعَيْباً:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. إذن حرف جواب، وجزاء. {لَخاسِرُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (خاسرون): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ إِذاً..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم؛ فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والقسم، وجوابه، والشرط، ومدخوله، كل أولئك في محل نصب مقول القول.

ص: 569

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91)}

الشرح: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ:} الزلزلة الشديدة، وفي سورة (الحجر):{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} ولعلها كانت من مبادئها. {فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ:} انظر الآية رقم [78].

قال ابن عباس، وغيره: فتح الله عليهم بابا من جهنم، فأرسل عليهم حرّا شديدا من جهنم، فأخذ بأنفاسهم، فلم ينفعهم ظل، ولا ماء، فدخلوا في الأسراب؛ ليبردوا فيها، فوجدوها أشد حرّا من الظاهر، فخرجوا هربا إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة، فأظلتهم، وهي الظلة المذكورة في سورة (الشعراء) فوجدوا لها بردا ونسيما، فنادى بعضهم بعضا، حتى إذا اجتمعوا تحت السحابة: رجالهم، ونساؤهم، وصبيانهم؛ ألهبها الله عليهم نارا، ورجفت بهم الأرض من تحتهم، فاحترقوا كاحتراق الجراد المقلي، وصاروا رمادا. انتهى.

خازن، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: انظر إعراب الآية بكاملها برقم [78].

{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92)}

الشرح: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً:} أعرضوا عن الإيمان به، وجادلوه بالباطل. وانظر شرح (شعيب) في الآية رقم [85]. {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} . كأنهم لم يقيموا في ديارهم، ولم ينزلوها في يوم من الأيام، يقال: غنيت بالمكان. أي: أقمت به، والمغاني: المنازل التي بها أهلها، واحدها: مغنى، قال الشاعر:[الكامل]

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد

وقال المتنبي في وصف شعب بوان: [الوافر]

مغاني الشّعب طيبا في المغاني

بمنزلة الربيع من الزمان

هذا؛ وانظر إعلال مثل: {يَغْنَوْا} في الآية رقم [25]. {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ} أي: خسروا أنفسهم بهلاكهم دنيا، وأخرى، لا الذين صدقوا شعيبا، واتبعوه، كما زعموا، فإنهم هم الرابحون في الدارين. وللتنبيه على هذا؛ والمبالغة فيه كرر الموصول، واستأنف بالجملتين، وأتى بهما اسميتين. انتهى. بيضاوي.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَذَّبُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5] والجملة الفعلية صلة

ص: 570

الموصول لا محل لها. {شُعَيْباً:} مفعول به. {كَأَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير:«كأنهم» . {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم.

{يَغْنَوْا:} مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِيهَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{كَأَنْ،} والجملة الاسمية: {كَأَنْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {كَذَّبُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {هُمُ:} ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع توكيد لواو الجماعة، وحرك بالضم لالتقاء الساكنين، أو هو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، ولو قرئ ما بعده بالرفع؛ لكان مبتدأ، وما بعده خبره؛ إذ يجوز في مثل ذلك ثلاثة أوجه، ولكني لم أعثر على قراءة بالرفع فيبقى الوجهان اللذان ذكرتهما. {الْخاسِرِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء إلى آخره، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ بدل مما قبلها، أو هي توكيد لها، والغرض من ذلك المبالغة كما ذكرته سابقا. خذ هذا الإعراب، وتوكل على الوهاب.

هذا؛ وقال أبو البقاء {الَّذِينَ كَذَّبُوا} لك فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو مبتدأ، وفي الخبر وجهان: أحدهما: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وما بعده جملة أخرى، أو بدل من الضمير في:

{يَغْنَوْا،} أو نصب بإضمار: «أعني» . والثاني: أن الخبر: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً..} . إلخ و {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا} على هذا حال من الضمير في: {كَذَّبُوا،} والوجه الثاني: أن يكون صفة لقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} والثالث: أن يكون بدلا منه، وعلى الوجهين يكون:{كَأَنْ لَمْ..} . إلخ حالا، وهو تكلف، وتعسف، كما ترى. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)}

الشرح: {فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ..} . إلخ انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [79] بلا فارق بينهما. {فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ} أي: فكيف أحزن

إلخ.

قال النسفي: اشتد حزنه على قومه، ثم أنكر على نفسه، فقال: كيف يشتد حزني على قوم، ليسوا بأهل للحزن عليهم، لكفرهم، واستحقاقهم ما نزل بهم؟! أو أراد: لقد أعذرت لكم في الإبلاغ، والتحذير مما نزل بكم، فلم تصدقوني، فكيف أحزن عليكم؟! انتهى. بتصرف.

{آسى:} أحزن، والماضي: أسى، والمصدر أسا من باب: تعب، فهو أسيّ مثل: حزين،

ص: 571

وآسى أصله مثل: آمنوا، وآدم، انظر الآية رقم [11]. {قَوْمِ:} انظر الآية رقم [32].

{كافِرِينَ:} انظر (الكفر) في الآية رقم [65].

الإعراب: {فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [79]. {فَكَيْفَ:} الفاء: هي الفصيحة. (كيف): اسم استفهام وتعجب مبني على الفتح في محل نصب حال، عامله ما بعده. {آسى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنا» . {عَلى قَوْمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {كافِرِينَ:} صفة قوم مجرور

إلخ، وجملة:{فَكَيْفَ آسى..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. وانظر الآية رقم [38].

{وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)}

الشرح: {قَرْيَةٍ:} انظر الآية رقم [88]. {نَبِيٍّ:} انظر الآية رقم [35]. {أَهْلَها:} انظر الآية رقم [83]. {بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ:} انظر الآية رقم [6/ 42]. {يَضَّرَّعُونَ:} يخضعون، ويتوبون؛ إذ التضرع: التخشع، والتذلل، والانقياد، وترك التمرد والعصيان.

قال الجمل: لم يدغم في «الأنعام» ، أي في الآية رقم [43] لمناسبة الماضي المذكور هناك بقوله:{تَضَرَّعُوا} في أن كلاّ منهما جاء على الفك، وهنا لم يذكر الماضي، بل أتى بالمضارع مدغما على الأصل. وانظر الترجي في هذه الآية، وأمثالها في الآية رقم [26].

قال الجمل: في الآية إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم إثر بيان أحوال الأمم المذكورة تفصيلا أي فيما تقدم من هذه السورة، والمقصود من ذلك: تحذير، وتخويف كفار قريش، وغيرهم من الكفار المعاندين لينزجروا عما عليه من الكفر، والتكذيب. انتهى. نقلا من أبي السعود، والخازن.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {فِي قَرْيَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف صلة. {نَبِيٍّ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَخَذْنا:} فعل، وفاعل. {أَهْلَها:}

مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة. {بِالْبَأْساءِ:} متعلقان بالفعل: (أخذ). {وَالضَّرّاءِ:}

معطوف على ما قبله. {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [26].

وجملة: {أَخَذْنا..} . إلخ في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، وهي على تقدير «قد»

ص: 572

قبلها، وتقدير الكلام: وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيّا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا قد أخذنا

إلخ، وجملة:{وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرّاءُ وَالسَّرّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)}

الشرح: {السَّيِّئَةِ:} البلاء، كقحط، ومرض وشدائد، وقال أهل اللغة: السيئة: كل ما يسوء الإنسان، وأصلها «سيوئة» قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. {الْحَسَنَةَ:} الخير والنعمة كخصب وعافية، وراحة بال، وقال أهل اللغة: هي كل ما يستحسنه الطبع والعقل.

هذا؛ وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {حَتّى عَفَوْا:} حتى كثروا عددا، وعددا، وهو يتعدى ولا يتعدى. ويقال: عفا النبات، وعفا الشحم، والوبر: إذا كثر. وقال الحطيئة: [الطويل]

بمستأسد الغربان عاف نباته

بأسؤق عافيات الشّحم كوم

ومنه: إعفاء اللحية؛ أي: تركها حتى تطول، وتنمو. وعفا المنزل، يعفو عفاء: إذا انمحت آثاره، وذهبت معالمه، قال الشاعر:[البسيط]

وبالصّريمة منهم منزل خلق

عاف تغيّر إلاّ النّؤي والوتد

وعفو المال: ما يفضل عن الحاجة، قال تعالى {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أي:

الفاضل عن حاجتهم، وعفا، يعفو بمعنى: صفح، يصفح، وهو كثير في القرآن، والعافي:

طالب المعروف والإحسان. قال عروة بن الورد: [الطويل]

وإني امرؤ عافي إنائي شركة

وأنت امرؤ عافي إنائك واحد

وجمع العافي: عفاة. قال الأعشى: [المتقارب]

تطوف العفاة بأبوابه

كطوف النّصارى ببيت الوثن

قالوا: انظر «القول» في الآية رقم [5]. {مَسَّ:} أصاب، ونزل. {الضَّرّاءُ:} انظر الآية رقم [6/ 42]. {وَالسَّرّاءُ:} كل ما يسر من نعمة، وصحة، وغير ذلك. {بَغْتَةً:} فجأة. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ:} الشعور: إدراك الشيء من وجه يدق، ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته، ودقة معرفته. والمعنى: وما يشعرون أن وبال كفرهم راجع على أنفسهم. وانظر شرح: {ثُمَّ} في الآية رقم [103] وانظر مثل إعلال: {عَفَوْا} في الآية [25].

ومعنى الآية: يقول الله تعالى: أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء، والشدة السلامة من الآفات، والعاهات، والسعة في الأرزاق، والأموال اختبارا، وامتحانا بالأمرين؛ حتى كثروا

ص: 573

عددا، وعددا، ولكنهم كفروا النعمة، وقالوا: قد أصاب آباءنا ما أصابنا من الخير، والشر.

وهذا كفران لنعمة الله، ونسيان لذكره، واعتقاد منهم بأن من عادة الدهر أن يعاقب في الناس بين السراء والضراء. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [168] الآتية.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {بَدَّلْنا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {مَكانَ:} مفعول به أول، وهو مضاف، و {السَّيِّئَةِ:} مضاف إليه.

{الْحَسَنَةَ:} مفعول به ثان. هذا؛ وجوز اعتبار {مَكانَ} ظرفا، والتقدير: في مكان السيئة.

{حَتّى:} حرف غاية وجر، بعدها «أن» مقدرة. {عَفَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة بعد:

{حَتّى،} والفعل: {عَفَوْا} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل: {بَدَّلْنا،} وجملة: {بَدَّلْنا..} . إلخ معطوفة على جملة: {أَخَذْنا..} . إلخ داخلة في حكمها. (قالوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق. و {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {مَسَّ:} ماض. {آباءَنَا:} مفعول به، و (نا): ضمير في محل جر بالإضافة.

{الضَّرّاءُ:} فاعل. {وَالسَّرّاءُ:} معطوف عليه، وجملة:{قَدْ مَسَّ..} . إلخ في محل نصب مفعول به، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ الفعل وحده معطوف على: {عَفَوْا،} فهو داخل في حكمه.

{فَأَخَذْناهُمْ:} فعل، وفاعل ومفعول به، والفعل وحده معطوف على عفا، فهو داخل في حكمه. {بَغْتَةً:} حال من نا، أو من الهاء بمعنى مباغتين، وهو مفعول لفعل محذوف، التقدير:

تبغتهم بغتة، فتكون هذه الجملة في محل نصب حال، وجوز اعتبار {بَغْتَةً} مصدرا ل (أخذ) على غير لفظه، كقولهم: أتيته ركضا. (هم): ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يَشْعُرُونَ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)}

الشرح: {أَهْلَ:} انظر الآية رقم [83]. {الْقُرى:} جمع قرية، والمدلول عليها بقوله:

{وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} . وقيل: المراد: مكة وما حولها. وانظر الآية رقم [88].

{آمَنُوا:} انظر «الإيمان» رقم [2]. {وَاتَّقَوْا} أي: الكفر والمعاصي ومن جملتها قولهم في الآية السابقة: {مَسَّ آباءَنَا الضَّرّاءُ وَالسَّرّاءُ} وانظر «التقوى» في الآية رقم [26]. {لَفَتَحْنا:}

بالتخفيف، والتشديد قراءتان سبعيتان {السَّماءِ وَالْأَرْضِ:} انظر الآية رقم [6/ 1]. هذا؛ والسماء

ص: 574

يذكر، ويؤنث. والسماء: كل ما علاك، فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء، والسماء:

المطر، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. قال معاوية بن مالك: [الوافر]

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

أراد بالسماء المطر، ثم أعاد الضمير عليه في:«رعيناه» بمعنى النبات، وهذا يسمى في فن البديع بالاستخدام. وأصل سماء: سماو، فيقال في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة. {كَذَّبُوا} أي: الرسل. {فَأَخَذْناهُمْ:} وهذا الأخذ عبارة عما في قوله: {فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً} فهو الأخذ حال السعة، والرخاء، لا حال الشدة، والبلاء، وذلك أعظم حسرة، وأشد ندامة.

قال الخازن: بركات السماء المطر، وبركات الأرض النبات، والثمار، وجميع ما فيها من الخيرات، والأنعام، والأرزاق، والأمن، والسلامة من الآفات، وكل ذلك من فضل الله، وإحسانه على عباده. وأصل البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، وسمي المطر بركة السماء؛ لثبوت البركة فيه، وكذا ثبوت البركة في نبات الأرض؛ لأنه نشأ عن بركات السماء، وهو المطر. انتهى.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {أَهْلَ:} اسمها، وهو مضاف، و {الْقُرى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، وهو شرط لو عند المبرد، التقدير: ولو ثبت إيمانهم، وعند سيبويه في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو إيمانهم ثابت أو حاصل، وقول المبرد هو المرجح؛ لأن (لو) لا يليها إلا فعل ظاهر أو مقدر، والفعل المقدر وفاعله جملة فعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي. {آمَنُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5]. والجملة الفعلية في محل رفع خبر:

{أَنَّ} . (اتقوا): إعرابه مثل إعراب: {عَفَوْا} في الآية السابقة. {لَفَتَحْنا:} فعل، وفاعل، واللام واقعة في جواب لو. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {بَرَكاتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {مِنَ السَّماءِ:}

متعلقان بمحذوف صفة {بَرَكاتٍ} . {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{لَفَتَحْنا..} . إلخ جواب (لو) لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {كَذَّبُوا:} مثل {آمَنُوا،} والجملة الفعلية معطوفة على (لو) ومدخولها لا محل لها أيضا. {فَأَخَذْناهُمْ:} انظر مثله في الآية السابقة {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} انظر إعراب مثل هذه الآية رقم [39] مع التقدير ففيه الكفاية، وجملة:

{فَأَخَذْناهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

ص: 575

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97)}

الشرح: {أَهْلُ الْقُرى:} انظر الآية السابقة. {يَأْتِيَهُمْ:} انظر الآية رقم [35]. {بَأْسُنا:}

عذابنا وانظر الآية رقم [6/ 42]. {بَياتاً:} ليلا، وهو في الأصل مصدر «بات» ، وأما مصدر «بيّت» فهو «تبييت» ، فالأول مثل سلام، والثاني مثل: تسليم. {نائِمُونَ:} النوم هو قسمان: نوم العين ونوم القلب، فنوم العين فترة طبيعية، تعتري الحيوان، وتتعطل حواسه بها، وأما نوم القلب فهو تعطيل القوى المدركة، الثاني لم يقع منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن قلبه لا ينام، كما في حديث الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنّ عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي» . ورحم الله البوصيري؛ إذ يقول: [البسيط]

لا تنكر الوحي من رؤياه، إنّ له

قلبا إذا نامت العينان لم ينم

هذا؛ وما يتقدم النوم يقال: له «سنة» بكسر السين، وهو المسمى بالنعاس. هذا؛ والمنام مصدر بمعنى النوم، أو اسم مكان بمعنى موضعه، أو اسم زمان بمعنى زمانه؛ لأن «مفعلا» يصالح لهذا كله.

الإعراب: {أَفَأَمِنَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: حرف عطف. (أمن أهل): فعل ماض، وفاعله، و {أَهْلُ:} مضاف، و {الْقُرى:} مضاف إليه مجرور

إلخ، والمصدر المؤول من «أن» المصدرية، والمضارع المنصوب بها في محل نصب مفعول به، والهاء في محل نصب مفعول به. {بَأْسُنا:} فاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة. {بَياتاً:} حال من: {بَأْسُنا} بمعنى: مستخفيا باغتا لهم ليلا، وجوز اعتباره ظرفا، ومفعولا مطلقا عامله محذوف. {وَهُمْ نائِمُونَ:} مبتدأ وخبر والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط:

الواو، والضمير، والجملة الفعلية:{أَفَأَمِنَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {فَأَخَذْناهُمْ..} . إلخ وما بينهما اعتراض، قال الزمخشري: المعنى: فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا، وأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهذا رجوع عن مذهبه الذي ذكرته في الآية رقم [64] إلى مذهب الجماعة. انتهى جمل بتصرف كبير.

{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}

الشرح: {أَوَأَمِنَ:} (أو) يقرأ بفتح الواو، وسكونها على أنها لأحد الشيئين. وانظر شرح باقي الكلام في الآية السابقة وانظر اللعب في الآية رقم [6/ 32]. هذا؛ و (الضحى): اشتداد الشمس، وامتداد النهار، يقال:{ضُحًى} وضحاء بالفتح والمد لقوة ارتفاعها. قبل الزوال.

والضحى مؤنث. هذا؛ والإعراب مثل الآية السابقة بلا فارق، والآية المعطوفة على ما قبلها، والعاطف الواو، أو (أو).

ص: 576

{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)}

الشرح: {مَكْرَ اللهِ:} عقابه، وجزاءه، وقد استعير هنا لاستدراج العبد، وأخذه من حيث لا يحتسب. {اللهِ:} انظر الآية رقم [87]. {الْقَوْمُ:} انظر الآية رقم [32].

{الْخاسِرُونَ:} الذين خسروا أنفسهم بالكفر، وترك النظر والاعتبار. وانظر «الخسران» في الآية رقم [5] من سورة (المائدة). فإنه جيد.

قال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: تكرير النكير لزيادة التوبيخ، والمراد ب {مَكْرَ اللهِ} إتيان بأسه في الوقتين المذكورين، ولذلك عطف الأول، والثالث بالفاء، فإن الإنكار فيهما متوجه إلى ترتب الأمن على الأخذ المذكور. وأما الثاني؛ فمن تتمة الأول، فلذلك عطف بالواو انتهى. نقلا من أبي السعود. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [96].

الإعراب: {أَفَأَمِنُوا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: حرف عطف. (أمنوا):

فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة معطوفة على ما قبلها. {مَكْرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر الميمي لفاعله. {فَلا:} الفاء: حرف عطف. (لا): نافية. {يَأْمَنُ:} مضارع. {مَكْرَ اللهِ:} مثل الأول. {إِلاَّ:} حرف حصر.

{الْقَوْمُ:} فاعل {يَأْمَنُ} . {الْخاسِرُونَ:} صفة {الْقَوْمُ} مرفوع مثله

إلخ، وجملة:{فَلا يَأْمَنُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، بالفاء فأفادت: أن العذاب يعقب أمن مكر الله. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَهْدِ:} أو لم يتبين. ويقرأ بالياء، وهي قراءة الجمهور، وقرأه مجاهد بالنون. {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها:} المراد بهم: أهل مكة، وما حولها، الذين ورثوا الأرض من بعد موت أصحابها. وانظر (أهل) في الآية رقم [83]. {نَشاءُ:} انظر (شاء) في الآية رقم [89]. {أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ:} أهلكناهم بسبب ذنوبهم، كما أهلكنا من قبلهم من القرون الخالية. وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ:} نختم؛ إذ الطبع: الختم، وهو التأثير في الطين ونحوه، فاستعير هنا لعدم فهم القلوب ما يلقى إليها. والطبع أيضا: السجية التي جبل عليها الإنسان. {لا يَسْمَعُونَ:} هذا الفعل من الأفعال الصوتية، إن تعلق بالأصوات؛ تعدى إلى مفعول واحد، وإن تعلق بالذوات؛ تعدى إلى اثنين، الثاني منهما جملة فعلية مصدرة بمضارع من الأفعال الصوتية، مثل قولك: سمعت فلانا يقول كذا. وهذا اختيار

ص: 577

الفارسي. واختار ابن مالك ومن تبعه أن تكون الجملة الفعلية في محل نصب حال؛ إن كان المتقدم معرفة، وصفة؛ إن كان نكرة، مثل قولك: سمعت رجلا يقول: كذا. والمعنى: فهم لا يسمعون سماع تدبر واعتبار، وانتفاع، وإن كان لهم آذان.

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام. الواو: حرف استئناف. وانظر الآية رقم [65] لإعراب (أفلا). (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَهْدِ:} مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الياء، وفي فاعله ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه المصدر المؤول من {أَنْ لَوْ..} . إلخ. الثاني: أن الفاعل هو ضمير (الله) تعالى، أي: أو لم يبين الله. ويؤيده قراءة من قرأ: «(نهد)» الثالث: أنه ضمير عائد على ما يفهم من سياق الكلام، أي: أو لم يهد ما جرى للأمم السابقة؟! وعلى هذين الوجهين ف {أَنْ} وما في حيزها في تأويل مصدر كما تقدم في محل المفعول، وهذا المصدر مفعول به أيضا على قراءة النون. انتهى باختصار من الجمل نقلا عن السمين. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{يَرِثُونَ الْأَرْضَ} صلة الموصول. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان ب {يَرِثُونَ،} و {بَعْدِ:} مضاف، و {أَهْلِها:} مضاف إليه، و (ها): في محل جر بالإضافة. {أَنْ:} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {نَشاءُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والمفعول محذوف، دل عليه جواب:{لَوْ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {أَصَبْناهُمْ:} فعل، وفاعل ومفعول به.

{بِذُنُوبِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَصَبْناهُمْ..} . إلخ جواب {لَوْ} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر. انظر الكلام فيه فيما تقدم. {وَنَطْبَعُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والذين لا يجيزون عطف المضارع على الماضي يقدرون قبلها مبتدأ، التقدير: ونحن نطبع

إلخ، وهو على الاستئناف ويؤيده عطف الجملة الاسمية:{فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} عليها. تأمل، وتدبر وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101)}

الشرح: {تِلْكَ الْقُرى} أي: التي مر ذكرها، وهي قرى قوم نوح، وصالح، وهود، ولوط، وشعيب. وانظر القرية في الآية رقم [88]. {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها:} نخبرك عنها، وعن أخبار أهلها، وما كان من أمرهم، وأمر رسلهم؛ الذين أرسلوا إليهم. ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتحذير لكفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصابهم.

ص: 578

هذا؛ والنبأ: الخبر وزنا، ومعنى، ويقال: النبأ أخص من الخبر؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على كل ما له شأن، وخطر من الأنباء. وقال الراغب: النبأ: خبر ذو فائدة، يحصل به علم، أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل: نبأ، حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحقه أن يتعرى عن الكذب كالمتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا؛ والفعل منه من الأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل، وقد يجيء الفعل منه غير مضمن معنى «أعلم» ، فلذلك يتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف الجر، كما في هذه الآية. {جاءَتْهُمْ:} انظر الآية رقم [4]. {رُسُلُهُمْ:} انظر الآية رقم [35]. {بِالْبَيِّناتِ:} بالمعجزات الواضحات، والحجج الدامغات.

{فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} والمعنى: لم يؤمنوا، ولم يتركوا التكذيب من قبل مجيء المعجزات ومن بعد مجيئها أيضا، فقد استمروا على كفرهم، إلى أن أهلكهم الله تعالى.

قال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب قول أبي بن كعب، والربيع بن أنس: إن من سبق في علم الله: أنه لا يؤمن به؛ فلا يؤمن أبدا، وقد كان سبق في علم الله لمن هلك من الأمم الذين قص خبرهم في هذه السورة: أنهم لا يؤمنون أبدا، فأخبر عنهم: أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم مكذبون به في سابق علمه قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم. {يَطْبَعُ:} انظر الآية السابقة.

{اللهُ:} انظر الآية رقم [87]. {الْكافِرِينَ:} انظر الآية رقم [66]. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

الإعراب: {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الْقُرى:} فيه أوجه: الأول: كونه خبرا، والجملة بعده في محل نصب حال منه، والرابط الضمير المجرور محلاّ بالإضافة. الثاني: كونه بدلا من اسم الإشارة، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ. الثالث: كونه خبرا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان. والمعتمد الأول، ويؤيده مجيء الحال مفردا منصوبا في قوله تعالى:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا} وغير ذلك. {نَقُصُّ:} مضارع مرفوع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {عَلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ أَنْبائِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وقد رأيت ما قيل في محل الجملة. {وَلَقَدْ} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب هذا القسم. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَتْهُمْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. {رُسُلُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِالْبَيِّناتِ:}

متعلقان بالفعل: (جاء). وقيل: متعلقان بمحذوف حال من {رُسُلُهُمْ} بمعنى مبينين لهم، والجملة الفعلية: (لقد

) إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له.

{فَما:} الفاء: عاطفة. (ما): نافية. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{لِيُؤْمِنُوا:} مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام الجحود، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من

ص: 579

الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان) والتقدير: وما كانوا مريدين للإيمان. {بِما:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء كذبوا به، والجملة الفعلية:{فَما كانُوا..} . إلخ معطوفة على جواب القسم، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الوجهين {كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه، وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: يطبع الله على قلوب الكافرين من أهل مكة طبعا كائنا مثل طبعه على قلوب الأمم السابقة. وهذا الكلام كله مستأنف لا محل له.

وأرجو أن يكون الإعراب مفهوما؛ لأنه لا خفاء فيه.

{وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)}

الشرح: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ:} وما وجدنا لأكثر الناس، أو لأكثر الأمم المتقدمة من وفاء بالعهد، فإنهم نقضوا ما عهد الله إليهم في الإيمان، والتقوى بإنزال الكتب، وإرسال الرسل، وبإجراء المعجزات، وإقامة الحجج الدامغات. أو نقضوا ما عهدوا إليه حين كانوا في ضر، ومخافة، مثل ما ذكر من قولهم:{لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ} .

هذا؛ وقد قيل: إن عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود: الأول: العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا بربوبيته، وهو ما ذكره في الآية رقم [172] من هذه السورة.

والعهد الثاني خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة، ويقيموا الدين، وذلك في الآية رقم [7] من سورة (الأحزاب) والعهد الثالث: خص به العلماء من كل أمة، وذلك في الآية رقم [187] من سورة (آل عمران). {وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ:} وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين خارجين عن طاعتنا، وأمرنا. وهذا تأويل كوفي كما ستقف عليه في الإعراب. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {وَجَدْنا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {لِأَكْثَرِهِمْ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول: تعليقهما بالفعل قبلهما، وهو الظاهر، كقولك: ما وجدت له مالا، أي ما صادفت له مالا، ولا لقيته. الثاني:

تعليقهما بمحذوف حال من {عَهْدٍ؛} لأنه في الأصل صفة نكرة، فلما قدم عليها نصب على الحال. وعلى هذين الوجهين ف (وجد) متعد لواحد، وهو {عَهْدٍ}. الثالث: تعلقهما في محل نصب مفعولا ثانيا ل: (وجد) إذ هي بمعنى: علم، والمفعول الأول هو {مِنْ عَهْدٍ} وقد يترجح هذا بأن (وجد) الثانية علمية، فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام، ومناسبة له. ومن

ص: 580

يرجح الأول يقول: إن الأولى لمعنى، والثانية لمعنى آخر. انتهى جمل نقلا عن السمين بتصرف. {عَهْدٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وهو {مِنْ}. (إن): مخففة من الثقيلة مهملة.

{وَجَدْنا:} مثل سابقه. {أَكْثَرَهُمْ:} مفعول به أول، والهاء في محل جر بالإضافة.

{لَفاسِقِينَ} اللام: هي الفارقة بين المخففة، والنافية. (فاسقين): مفعول به ثان منصوب، وهذا الإعراب إنما هو إعراب البصريين، وقد توافرت الشروط لإهمالها، وهو إيلاؤها فعلا ناسخا، ووجود اللام في خبرها. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز]

وخفّفت إنّ فقلّ العمل

وتلزم اللام إذا ما تهمل

هذا؛ وأما الكوفيون؛ فيعتبرون: (إن) نافية بمعنى (ما) واللام بمعنى (إلا) والآية الكريمة مستأنفة معترضة بين المتعاطفين، وهو أولى من العطف على ما قبلها لاختلاف الفعلين بالماضي، والمضارع.

{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)}

الشرح: {ثُمَّ:} حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، وفي كل منها خلاف مذكور في مغني اللبيب. وقد تلحقها تاء التأنيث الساكنة، كما تلحق «ربّ» و «لا» العاملة عمل «ليس» ، فيقال: ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهن بالفتح. هذا؛ وثم هذه غير (ثمّ) بفتح الثاء، فإنها اسم يشار به إلى المكان البعيد، نحو قوله تعالى:{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} . وهي ظرف لا يتصرف، ولا يتقدمه حرف التنبيه، ولا يتصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة، فيقال: ثمّة.

{بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ:} من بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم في هذه السورة، أو من بعد الأمم الذين أهلكهم الله بمخالفة تلك الرسل. {مُوسى:} هو في الأصل: موشى بالشين مركبا من اسمين: الماء، والشجر، فالماء يقال له في العبرانية:(مو) والشجر يقال له: (شا) فعربته العرب، وقالت:«موسى» بالسين، وسبب تسميته بذلك: أن امرأة فرعون التقطته من نهر النيل بين الماء والشجر لما ألقته أمه فيه، كما هو مذكور في سورة (طه)، و (القصص). {فِرْعَوْنَ:}

قال الجمل: قال المسعودي: ولا يعرف لفرعون تفسير في العربية، وظاهر كلام الجوهري: أنه مشتق من معنى العتو، فإنه قال: والفراعنة: العتاة، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة، أي: دهاء، ومكر. وفرعون لقب لمن ملك العمالقة في مصر كقيصر لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وكان فرعون موسى-عليه السلام-مصعب بن الريان،

ص: 581

-وقيل: ابنه الوليد-من بقايا «عاد» . وانظر الآية التالية. وفرعون يوسف-عليه السلام-ريان بن الوليد، وبينهما أكثر من أربعمائة سنة. {فَظَلَمُوا بِها:} كفروا بتلك الآيات بدل الإيمان، فوضع (ظلموا) زيادة في التشنيع عليهم؛ إذ من حق العاقل أن يؤمن، ويقبل الموعظة والنصيحة عند ما يتبين له طريق الهدى. وانظر (الظلم) في الآية رقم [146] من سورة (الأنعام). (الملأ): انظر الآية رقم [60] وإنما خص الملأ بالذكر؛ لأنهم إذا آمنوا؛ آمن الأتباع. {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ:} انظر هذه الجملة في الآية رقم [83] ففيها الكفاية لذوي الدراية. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

الإعراب: {بَعَثْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مُوسى:} مفعول به منصوب

إلخ. {بِآياتِنا:} متعلقان بمحذوف حال من: {مُوسى،} التقدير: مبعوثا أو مرسلا، و (نا): في محل جر بالإضافة. {إِلى فِرْعَوْنَ:} متعلقان بالفعل (بعثنا)، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {وَمَلائِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. (ظلموا):

فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {بِها:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها بالفاء العاطفة، و {ثُمَّ} عطفت قصة موسى مع فرعون على ما قبلها من قصص في هذه السورة. {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [84] تجده وافيا كافيا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأعز، وأكرم.

{وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104)}

الشرح: {وَقالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {مُوسى:} انظر الآية السابقة.

{يا فِرْعَوْنُ:} انظر الآية السابقة، وأضيف هنا ما ذكره الخازن، وغيره: كان ملك فرعون أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة، ولم ير مكروها قط، ولو حصل له في تلك المدة جوع يوم، أو حمى ليلة، أو وجع؛ لما ادعي الربوبية. {رَسُولٌ:} انظر الآية رقم [35]. {رَبِّ:} انظر الآية رقم [3]. {الْعالَمِينَ:} انظر الآية رقم [54].

الإعراب: {وَقالَ مُوسى:} فعل، وفاعل. (يا): حرف نداء ينوب مناب: «أدعو» . (فرعون):

منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا). {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم في محل نصب اسمها. {رَسُولٌ:} خبرها. {مِنْ رَبِّ:} متعلقان ب (رسول)، أو بمحذوف صفته، و {رَبِّ:} مضاف، و {الْعالَمِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والكلام كله في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{وَقالَ مُوسى..} . إلخ كلام مستأنف لتفصيل ما أجمل قبله من كيفية

ص: 582

إظهار الآيات، وكيفية عاقبة المفسدين، ولم يكن هذا القول، وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر ما هاهنا، بل بعد ما جرى بينهما من المحاورات المحكية بقوله تعالى {قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى} وقوله:{وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} الآيات، فطوى ذكره هنا للإيجاز. انتهى أبو السعود.

{حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105)}

الشرح: {حَقِيقٌ:} واجب. وقيل: جدير. والمعنى لا يؤيده. {عَلى أَنْ:} قرأ الجمهور بتخفيف اللام، وقرأ نافع بتشديد الياء. {أَقُولَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {اللهِ:} انظر الآية رقم [87]. {الْحَقَّ:} انظر الآية رقم [33]. {جِئْتُكُمْ:} انظر رقم [4]. {بِبَيِّنَةٍ:}

معجزة. {رَبِّكُمْ:} انظر الآية رقم [3]. {بَنِي إِسْرائِيلَ:} {بَنِي:} أصله: بنين، حذفت النون للإضافة، وهو جمع ابن مأخوذ من البناء؛ لأن الابن مبنى أبيه، ولذلك ينسب المصنوع إلى الصانع. {إِسْرائِيلَ:} هو نبي الله يعقوب، عليه الصلاة والسلام، ومعناه في اللغة العبرية:

صفوة الله، أو عبد الله، ف «إسرا» هو العبد، أو الصفوة، و «إيل» هو الله، وأولاد يعقوب كانوا اثني عشر رجلا، فأولاد كل واحد منهم صاروا قبيلة، ويطلق على هذه القبائل: الأسباط، كما هو مذكور في غير ما آية وانظر الآية رقم [160]. {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ:} فاتركهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة؛ التي هي وطن آبائهم، وكان قد استعبدهم، واستخدمهم في الأعمال الشاقة، وسامهم سوء العذاب، وانتقالهم من بلاد الشام إلى أرض مصر كان في عهد يوسف، عليه السلام، كما هو معروف في سورة (يوسف).

الإعراب: {حَقِيقٌ:} خبر لمبتدإ محذوف، تقديره: أنا حقيق. {عَلى أَنْ:} {عَلى:} حرف جر. {أَنْ:} حرف ناصب. {لا:} نافية. {أَقُولَ:} مضارع منصوب ب {أَنْ،} والفاعل مستتر تقديره: «أنا» . {عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الْحَقَّ:} مفعول به؛ لأنه يتضمن معنى الجملة، وجوز أن يكون منصوبا على المصدر، أي: القول الحق. انتهى جمل. و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب: {عَلى،} والجار والمجرور متعلقان ب {حَقِيقٌ} . هذا؛ وجه من: الإعراب، والوجه الثاني:{حَقِيقٌ:} مبتدأ، والجار والمجرور اللذان ذكرتهما في محل رفع خبره وعلى قراءة «(عليّ)» بتشديد الياء فالجار والمجرور متعلقان ب {حَقِيقٌ،} والمصدر المؤول من: {أَنْ لا أَقُولَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والتقدير:

واجب علي قول الحق. وقد أغرب أبو البقاء حيث اعتبر: {حَقِيقٌ} صفة ل: {رَسُولٌ} أو خبرا بعد خبر. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جِئْتُكُمْ:} فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول كالجملة الاسمية قبلهما. {بِبَيِّنَةٍ:} متعلقان

ص: 583

بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب: (بينة) أو محذوف صفة له، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَأَرْسِلْ:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38](أرسل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مَعِيَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، وياء المتكلم ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {بَنِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي:} مضاف، و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، أو للتركيب الذي رأيته، وجملة:{فَأَرْسِلْ..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء.

والكلام كله من مقول موسى عليه السلام.

{قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (106)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {كُنْتَ:} انظر إعلال: {قُلْنا} في الآية رقم [11]. {جِئْتَ:} انظر الآية رقم [4]. {بِآيَةٍ:} معجزة تدل على صدقك. وانظر الآية رقم [9]. {فَأْتِ:} انظر الآية رقم [35] والمعنى: إن فرعون قال لموسى بعد تبليغ الرسالة: إن كنت جئت من عند من أرسلك ببينة تدل على صدقك؛ فائتني بها، وأحضرها؛ لتصح دعواك، ويثبت صدقك فيما قلت. انتهى خازن.

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى فرعون. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتَ:}

ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {جِئْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان). {بِآيَةٍ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:

{كُنْتَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَأْتِ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ائت): أمر بمني على حذف حرف العلة، وهو الياء، والكسرة قبلهما دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {بِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:

{فَأْتِ بِها} في محل جزم عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وإعراب: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} واضح إن شاء الله تعالى. وحذف جواب الشرط لدلالة جواب الأول عليه، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)}

الشرح: {فَأَلْقى عَصاهُ:} فطرح موسى عصاه على الأرض. {فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ:}

(الثعبان): ذكر الحيات العظيم الضخم. وفي آية أخرى: {كَأَنَّها جَانٌّ} والجان: الحية الصغيرة.

ص: 584

ووجه الجمع: أنها كانت في العظم كالثعبان العظيم، وفي خفة الحركة، كالحية الصغيرة، وهي الجان. {مُبِينٌ:} ظاهر واضح لمن يراه. وانظر إعلاله في الآية رقم [22].

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما ألقى موسى عصاه؛ صارت حية عظيمة، صفراء، شقراء، فاتحة فمها، بين لحييها ثمانون ذراعا، وارتفعت من الأرض بقدر ميل، وقامت على ذنبها، واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، وتوجهت نحو فرعون لتأخذه، فوثب هاربا، وأحدث، أي: تغوط في ثيابه بحضرة قومه في ذلك اليوم مرات عديدة، واستمر معه هذا المرض، وهو الإسهال حتى غرق، وقد انهزم الناس خوفا مزدحمين، وقتل بعضهم بعضا، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، ودخل فرعون قصره، وصاح: يا موسى! أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها، وأنا أؤمن بك، وأرسل معك بني إسرائيل! فأمسكها بيده، فعادت عصا كما كانت. انتهى. خازن، وغيره.

هذا؛ والعصا كانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع على طول موسى، ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا، حملها آدم معه من الجنة، فتوارثها الأنبياء؛ حتى وصلت إلى شعيب عليه السلام، فأعطاها لموسى حين لجأ إليه، وزوّجه إحدى ابنتيه، وأسند إليه رعاية الغنم.

هذا؛ والعصا تطلق على أمور، يقال: ألقى عصاه، أي: أقام، وترك الأسفار، وهو مثل عربي. ويقال: انشقت العصا. أي: وقع الخلاف بين القوم، قال الشاعر:[الطويل]

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهند

وهذا هو الشاهد [967] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، انظر إعرابه هناك، فإنه جيد، ويقال في الخوارج: قد شقوا عصا المسلمين، أي: اجتماعهم، وائتلافهم، والعصيان: ضد الطاعة، وتجمع العصا على «عصي» بضم العين، وكسرها، وتشديد الياء، قال تعالى:{فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} . ومقتضى القياس أن يقال في جمعها: عصوّ؛ لأن ألفها منقلبة عن واو، ولذا يقال في تثنيتها: عصوان، فأبدل من الواو الثانية ياء؛ لأنها طرف، ليس بينها وبين الضمة إلا حرف ساكن، فصار (عصوي) فاجتمعت الواو، والياء، والأول ساكن، فقلبت الواو الأولى ياء، ثم أدغمت الياء في الياء، ثم قلبت ضمة الصاد كسرة لتصح الياء، ثم تبعت حركة العين حركة الصاد. وانظر الآية رقم [18] من سورة (طه).

الإعراب: {فَأَلْقى:} (ألقى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى موسى. {عَصاهُ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَإِذا:} الفاء: حرف عطف دال على التعقيب، كما ترى. (إذا): للمفاجأة هنا، وهي تختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج لجواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال

ص: 585

لا الاستقبال، نحو: خرجت فإذا الأسد بالباب. وهي حرف عند الأخفش، وابن مالك، يرجحه:

خرجت فإذا إنّ زيدا بالباب. لأن «إن» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وظرف مكان عند المبرد، وابن عصفور. وظرف زمان عند الزجاج، والزمخشري. وزعم الأخير: أن عاملها مشتق من لفظ المفاجأة. ولا يعرف هذا لغير الزمخشري. وإنما ناصبها عندهم الخبر المذكور في نحو: «خرجت فإذا زيد جالس» أو المقدر في نحو: فإذا الأسد. أي: حاضر، وإذا قدرت: أنها الخبر، فعاملها:

مستقر، أو استقر، ولم يقع الخبر معها في التنزيل إلا مصرحا به. انتهى ملخصا من مغني اللبيب.

وعلى اعتبارها ظرف مكان، أو زمان لا أجد لها متعلقا هنا إلا بالتقدير: فانقلبت في ذلك الوقت، أو في ذلك المكان

إلخ، وتعليقها ب:{مُبِينٌ،} كما ذكرت في المثال المتقدم لا يعطي المعنى الذي أعطاه هذا التقدير، تأمل، وتدبر. {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

{ثُعْبانٌ:} خبره. {مُبِينٌ:} صفته، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة إذا إليها على التقدير الذي قدرته، وعليه فالجملة الفعلية معطوفة على سابقتها، لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف والثانية بالإتباع، وعلى تعليقها ب:{مُبِينٌ} فتبقى الجملة اسمية معطوفة على الفعلية قبلها.

{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (108)}

الشرح: {وَنَزَعَ يَدَهُ} أي: أخرجها من جيبه، أو من تحت إبطه. والمراد بها: اليمنى.

هذا؛ واليد تستعمل في الأصل لليد الجارحة، وتطلق، ويراد بها القوة، والقدرة، كما في قوله تعالى:{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} كما تطلق على النعمة، والمعروف، يقال: لفلان عندي يد، أي:

نعمة ومعروف، وإحسان. وتطلق على الحيلة، والتدبير، فيقال: لا يد لي في هذا الأمر. أي:

لا حيلة لي فيه، ولا تدبير. {بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ:} ولا تكون بيضاء للناظر إلا إذا كان بياضها عجيبا خارجا عن العادة، يجتمع الناس للنظر إليه، كما تجتمع النظار للعجائب.

روي: أن موسى-عليه السلام-كان أسمر شديد السمرة، فأدخل يده في جيبه، أو تحت إبطه، ثم نزعها؛ فإذا هي بيضاء نورانية، غلب شعاعها شعاع الشمس. وقال سبحانه في سورة (طه):{تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} فهو احتراز عن أن يكون البياض عن مرض، كبرص، ونحوه.

وبياضها طارئ، لا جبلّي.

الإعراب: هو كما في الآية السابقة بلا فارق. {لِلنّاظِرِينَ:} متعلقان ب {بَيْضاءُ} لأنه صفة مشبهة.

{قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {الْمَلَأُ:} انظر الآية رقم [60]. {قَوْمِ:}

انظر الآية رقم [32]. {فِرْعَوْنَ:} انظر الآية رقم [103]. {لَساحِرٌ:} هو الذي يستعمل السحر، وهو

ص: 586

كل ما لطف، ودق، يقال: سحره: إذا أبدى له أمرا يدق عليه، ويخفى. وقال الغزالي في الإحياء ما نصه: السحر نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر، وبأمور حسابية في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الحواس هيكل على صورة الشخص المسحور، ويترصد له في وقت مخصوص من المطالع، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر، والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الاستغاثة بالشياطين، ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [102](البقرة) عن نسبة السحر إلى سليمان، عليه السلام، والحكم في تعلمه، ومعنى (ساحر عليم) متفوق في علم السحر.

تنبيه: أسند القول هنا إلى {الْمَلَأُ،} وفي سورة (الشعراء) إلى فرعون نفسه: {قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ} وأجاب الزمخشري عن ذلك بثلاثة أوجه: أحدها أن يكون هذا الكلام صادرا منه، ومنهم، فحكي هنا عنهم، وفي الشعراء عنه. والثاني: أنه قاله ابتداء، وتلقنه عنه خاصته، فقالوه لأعقابهم. والثالث: أنهم قالوه عنه للناس. على طريق التبليغ، كما يفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي، فيبلغه للخاصة، ثم يبلغونه للعامة. وهذا الوجه قريب من الثاني في المعنى.

الإعراب: {قالَ الْمَلَأُ:} فعل، وفاعل. {مِنْ قَوْمِ:} متعلقان بمحذوف حال من:

{الْمَلَأُ،} و {قَوْمِ:} مضاف، و {فِرْعَوْنَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذا:}

اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ،} والهاء حرف تنبيه لا محل له.

{لَساحِرٌ:} خبر {إِنَّ} واللام المزحلقة. {عَلِيمٌ:} صفة ساحر، وجملة:{إِنَّ هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110)}

الشرح: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ:} هذا من بقية الكلام الذي قبله، وفي (الشعراء) زيادة:{بِسِحْرِهِ} بيان لسبب الإخراج، وينبغي ملاحظته هنا. وهذه الجملة من كلام الملأ، وقد خاطبوا فرعون وحده بذلك تعظيما له كما يخاطب الملوك بصفة الجمع، أو يكونون قالوه له، ولامرأته، أو يكون من كلام فرعون على إضمار قول؛ أي: فقال لهم فرعون. والأول أصح، وأقوى. {فَماذا تَأْمُرُونَ:} بمعنى: ماذا تشيرون، من: المشاورة، والائتمار: التشاور في أمر من الأمور، وهو أولى من اعتباره من الأمر المعروف. هذا؛ ويقرأ الفعل بفتح النون، وكسرها.

وانظر باقي الكلام في الإعراب؛ ففيه مزيد إيضاح.

الإعراب: {يُرِيدُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (موسى)، والمصدر المؤول من الناصب، والمضارع في محل نصب مفعول به، التقدير: يريد إخراجكم. {مِنْ أَرْضِكُمْ:} متعلقان بالفعل

ص: 587

قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، أما الأولى فهي في محل نصب مفعول به، والميم علامة جمع الذكور، والمتعلق محذوف، تقديره: بسحره، كما مرت الإشارة إليه، وجملة:

{يُرِيدُ..} . إلخ في محل رفع خبر ثان ل {أَنْ،} فهي من جملة مقول الملأ. {فَماذا:} الفاء:

هي الفصيحة (ماذا): (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (ذا): موصول مبني على السكون في محل رفع خبر، والجملة الفعلية بعده صلته، والعائد محذوف. هذا؛ ويجوز اعتبار (ماذا) اسم استفهام مركبا، وفي محله وجهان: الأول اعتباره مفعولا مقدما للفعل بعده، والثاني اعتباره مبتدأ، والجملة الفعلية خبره. {تَأْمُرُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والمفعول به والمتعلق محذوف؛ إذ التقدير: تأمروننا به، وأما على قراءة كسر النون، فهي نون الوقاية، وتكون قد حذفت نون الرفع، والمفعول به، والتقدير: تأمرونني به، والجملة الفعلية على الاعتبارين صلة (ذا) أو هي في محل رفع خبر، أو هي فعلية لا محل لها، وجملة:{فَماذا تَأْمُرُونَ} سواء أكانت اسمية، أم فعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا؛ فماذا تأمرون؟ وهذا الكلام من مقول الملأ. هذا؛ وقد قيل: إنه من مقول محذوف لفرعون، التقدير:

قال فرعون للملإ: فماذا

إلخ، ويؤيده قراءة النون بالكسر، وعليه فالجملة الفعلية هذه مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدر.

{قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111)}

الشرح: {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {أَرْجِهْ:} فيه ست قراءات، ثلاثة بإثبات الهمزة (أرجئه) بكسر الهاء من غير إشباع، وضمها كذلك، وبإشباع حتى يتولد منها واو.

وثلاثة بحذف الهمزة: {أَرْجِهْ} بسكون الهاء، وكسرها من غير إشباع، وبه حتى يتولد منها ياء.

{وَأَرْسِلْ:} وفي (الشعراء): {وَابْعَثْ} {الْمَدائِنِ} قيل: هي مدائن صعيد مصر، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد، ومدائن: جمع مدينة على وزن فعيلة، فالياء زائدة في المفرد، فلذلك تقلب همزة في الجمع مثل: صحيفة، وصحائف، وغير ذلك، والمدينة من: مدن يمدن بالمكان: إذا أقام به، فالفعل من باب: نصر. {حاشِرِينَ:} جامعين.

الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {أَرْجِهْ:} فعل أمر مبني على السكون على الهمزة المحذوفة كما رأيت؛ والهاء مفعول به، وتسكينها قراءة، كما رأيت، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. أخاه: معطوف على الضمير المنصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَأَرْسِلْ:} أمر، وفاعله أنت، والجملة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب

ص: 588

مقول القول مثلها. {فِي الْمَدائِنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {حاشِرِينَ:} مفعول به، وهو في الأصل صفة لموصوف محذوف؛ إذ الأصل: رجالا حاشرين، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)}

الشرح: {يَأْتُوكَ} أي: الرجال المرسلون إلى المدائن. {ساحِرٍ:} وفي قراءة: «(سحّار)» ، وهو في (الشعراء) متفق على قراءته، وهو صيغة مبالغة اسم الفاعل. {عَلِيمٍ:} متفوق في علم السحر. وانظر (أتى) في الآية رقم [35].

الإعراب: {يَأْتُوكَ:} مضارع مجزوم بجواب الأمر: (أرسل) وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب. {بِكُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (كل) مضاف، و {ساحِرٍ:} مضاف إليه، وهو صفة لموصوف محذوف. {عَلِيمٍ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف، والذي في الآية رقم [109] مثله.

{وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113)}

الشرح: {وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ:} فأرسل في طلبهم الشرطة، والجنود، كما قال تعالى في سورة (الشعراء) {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وكانوا اثنين وسبعين. وقيل: كانوا آلافا.

وانظر: {وَجاءَ} في الآية رقم [4] والسحرة في الآية رقم [109] و {فِرْعَوْنَ} في الآية رقم [103]. {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {إِنَّ لَنا..} . فيقرأ: «(أإن)» بهمزتين، بمد الهمزة الأولى، وقصرها، قراءات كثيرة فيها، ونكر (أجرا) للتعظيم، قال الزمخشري كقوله:

«إن له لإبلا، وإن له لغنما» . {الْغالِبِينَ} أي: لموسى ولسحره.

الإعراب: {وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة معطوفة على مقدر رأيته في الشرح. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب مثله في الآية رقم [4].

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، وهمزة الاستفهام قبلها في قراءة من قرأ بها. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} مقدم. {لَأَجْراً:} اسمها مؤخر، واللام لام الابتداء، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. قال الإمام فخر الدين الرازي-رحمه الله تعالى-: ولقائل أن يقول: كان حق الكلام: (فقالوا) بالفاء. وجوابه: هو على تقدير سائل سأل: ما قالوا إذ جاءوا، فأجيب بقوله:

ص: 589

{قالُوا..} . إلخ. انتهى خازن. {إِنَّ:} حرف شرط جازم. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، و (نا) اسمها. {نَحْنُ:} تأكيد ل (نا)، أو هو ضمير فصل لا محل له. {الْغالِبِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والشرط، ومدخوله في محل نصب مقول القول.

{قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)}

الشرح: {قالَ} أي: فرعون. {نَعَمْ} أي: إن لكم أجرا. ف (نعم) حرف جواب سد مسد هذه الجملة. وانظر الآية رقم [44]. {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ..} . إلخ: أي: ولكم المنزلة الرفيعة عندي مع الأجر، فتكونون أول من يدخل، وآخر من يخرج من عندي.

قال الكلبي: والآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبدا ذليلا مهينا عاجزا، وإلا؛ لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة. وتدل أيضا على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان، وإلا؛ لما احتاجوا إلى طلب الأجر، والمال من فرعون؛ لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان؛ لقلبوا التراب ذهبا، ولنقلوا ملك فرعون لأنفسهم، ولجعلوا أنفسهم ملوك العالم، ورؤساءهم، والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق، وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل، والأكاذيب. انتهى جمل.

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفعل يعود إلى {فِرْعَوْنَ}. {نَعَمْ:} هذا الحرف يا قوم مقام جملة، كما رأيت مبني على السكون في محل نصب مقول القول. {وَإِنَّكُمْ:} الواو: حرف عطف.

(إنكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {لَمِنَ:} اللام: هي المزحلقة. (من المقربين): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على {نَعَمْ} السادة مسد الجملة، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)}

الشرح: {قالُوا} أي: السحرة. وانظر «القول» في الآية رقم [5]. {يا مُوسى:} انظر الآية رقم [103]. {إِمّا أَنْ تُلْقِيَ} أي: حبالك، وعصاك، ومثله:{نَحْنُ الْمُلْقِينَ} أي: حبالنا، وعصينا، وفي قولهم لموسى-عليه السلام-هذا القول مراعاة لحسن الأدب، ولذلك منّ الله عليهم بالإيمان. وانظر:{وَإِمّا} في الآية رقم [106] من سورة (التوبة).

قال البيضاوي: خيروا موسى مراعاة للأدب، وإظهارا للجلادة، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله، فنبهوا عليها بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، وتأكيد

ص: 590

ضمير هم المتصل بالمنفصل، فلذلك قال:{أَلْقُوا} إكراما، وتسامحا، أو ازدراء بهم، ووثوقا بعلو شأنه. انتهى.

الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {يا مُوسى:} منادى مفرد علم مبني على ضم مقدر على الألف المقصورة في محل نصب بأداة النداء، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {إِمّا:} أداة شرط، وتفصيل، وهي هنا مفيدة للتخيير، والمصدر المؤول من {أَنْ تُلْقِيَ} قال الجمل: فيه ثلاثة أوجه: أحدها النصب بفعل مقدر، أي: افعل إما إلقاءك، وإما إلقاءنا. كذا قدره الشيخ، وفيه نظر؛ لأنه لا يفعل إلقاءهم، فينبغي أن يقدر فعل لائق بذلك، وهو:«اختر» . الثاني الرفع على أنه خبر ابتداء مضمر، تقديره: أمرك إما القاؤك، وإما إلقاؤنا. الثالث أن يكون مبتدأ خبره محذوف، تقديره: إما لقاؤك مبدوء به، وإما إلقاؤنا مبدوء به. انتهى. أقول: والمعتمد القول الأخير. {أَنْ:} حرف ناصب مصدري. و {نَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب {أَنْ} واسمه مستتر تقدير: «نحن» : {نَحْنُ:} انظر مثله في الآية رقم [112].

{الْمُلْقِينَ:} خبر {نَكُونَ} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وقد حذف مفعوله كما رأيت في الشرح، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَاِسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}

الشرح: {قالَ أَلْقُوا:} انظر الآية السابقة. {فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ:} صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه، والتخييل. وهذا هو السحر، وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر، وبين معجزة الأنبياء-عليهم الصلاة والسّلام-التي هي فعل الله، وذلك لأن السحر قلب الأعين، وصرفها عن إدراك ذلك الشيء، والمعجزة: قلب نفس الشيء عن حقيقته، كقلب عصا موسى-عليه الصلاة والسلام-حية تسعى. {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ:} خوفوا الناس، وأفزعوهم بما فعلوا من السحر. {وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ:} وذلك: أنهم ألقوا حبالا غلاظا، وخشبا طوالا، فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي، يركب بعضها بعضا، وأوجس في نفسه خيفة موسى، وهذه الخيفة لم تحصل له لأجل السحر؛ لأنه كان على ثقة، ويقين: أنهم لن يغلبوه، وإنما كان خوفه أن يتفرق الناس خوفا مما رأوا قبل ظهور معجزته، وحجته. انتهى خازن بتصرف كبير. {النّاسِ:} انظر الآية رقم [82]. {وَجاؤُ:} انظر الآية رقم [4]. {أَعْيُنَ:} جميع: عين، وتجمع على: عيون، وأعيان أيضا، وأعيان غير مشهور، وقليل الاستعمال. هذا؛ و {أَعْيُنَ} جمع قلة، وغيره جمع كثرة، والمراد بها هنا: العين الباصرة. هذا؛ وتطلق على الجاسوس، كما في قولهم: بث الأمير

ص: 591

عيونه في المدينة، أي: جواسيسه، كما تطلق على ذات الشخص، كما في قولك: جاء محمود عينه، وعين الشيء: خياره، وتطلق على النقد من ذهب، وغيره، وإليك قول الشاعر:[البسيط]

واستخدموا العين منّي وهي جارية

وقد سمحت بها أيّام وصلهمو

فالمراد بالعين ذاته، والمراد بجارية عينه التي تجري بالدمع، والمراد بقوله:«بها» نقد الذهب وهذا يسمى استخداما في فن البديع. كما تطلق على الماء الجاري النابع من الأرض، وتطلق على المطر الهاطل من السحاب، قال عنترة:[الكامل]

جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

هذا؛ وأعيان القوم: أشرافهم، وبنو الأعيان: الإخوة من الأبوين.

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {أَلْقُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] والمفعول محذوف يدل عليه المقام، والجملة الفعلية، في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَلَمّا:} الفاء: حرف تفريع، وعطف. (لمّا): حرف وجود لوجود. وانظر الآية رقم [21]. {أَلْقُوا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف يدل عليه المقام، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، وجملة:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ} جواب (لمّا) لا محل لها، و {فَلَمّا} ومدخولها كلام معطوف على جملة:{قالَ..} . إلخ لا محل له مثلها. (استرهبوهم): فعل، وفاعل ومفعول به والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لمّا) لا محل لها مثله، وجملة:{وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} معطوفة أيضا على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117)}

الشرح: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى} أي: قلنا له على لسان جبريل، عليه السلام. وانظر (نا) في الآية رقم [7]. هذا؛ والوحي الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، والوحي: الكتاب المنزل على الرسول المرسل إلى قومه. {مُوسى:} انظر الآية رقم [103]. {أَلْقِ عَصاكَ:} اطرح عصاك على الأرض. وانظر الآية رقم [107]. {تَلْقَفُ:}

تأخذ وتبتلع بسرعة بعد قلبها حية عظيمة. هذا؛ وقرئ «(تلقّف)» بتشديد القاف، والأصل تتلقف بتاءين، فحذفت إحداهما، وقرئ:«(اتّلقّف)» بتشديد التاء أيضا، وقراءة حفص بتخفيف القاف كما رأيت أولا من: لقف، كعلم يعلم، وركب، يركب، يقال: لقفت الشيء، ألقفه لقفا، وتلقّفته أتلقّفه تلقّفا إذا أخذته بسرعة فأكلته، أو ابتلعته. {ما يَأْفِكُونَ:} ما يقلبون بتمويههم.

ص: 592

هذا؛ وأصل الإفك: قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذاب: أفاك لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل. وانظر الآية رقم [95] من سورة (الأنعام).

تنبيه: قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية، فيقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحر، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا، فإذا هي تبتلع كل شيء أتوا به من السحر، فكانت تبتلع حبالهم، وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتلعت الكل، وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع، ففزعوا، ووقع الزحام بينهم، فمات من ذلك الزحام خمسة وعشرون ألفا، ثم أخذها موسى، فعادت في يده عصا، كما كانت أول مرة، فلما رأى السحرة ذلك؛ عرفوا: أنه من أمر السماء، وليس بسحر، وعرفوا: أن ذلك ليس من قدرة البشر، فعند ذلك خروا سجدا، وقالوا:{قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ} . انتهى خازن.

تنبيه: إلقاء العصا، وانقلابها حية وقع مرتين بحضرة فرعون، الأولى كانت سببا في جمع السحرة، والثانية بحضرتهم، فالأولى ذكرت في الآية رقم [106] والثانية هي المذكورة هنا، ووقع انقلابها مرة ثالثة، ولم يكن هناك أحد غير موسى، وقد ذكرت في سورة (طه)، وكانت في طريق عودته من مدين إلى مصر. تأمل.

تنبيه: لقد جرت سنة الله أن يؤيد الرسول بمعجزة من جنس ما برع به قومه، فقوم موسى برعوا بالسحر، فأيده بانقلاب العصا حية، وقوم عيسى برعوا بالطب، فأيده الله بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين بالفصاحة والبلاغة، فأيده الله بالقرآن الكريم.

الإعراب: {وَأَوْحَيْنا:} (أوحينا): فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10].

{إِلى مُوسى:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْ:} حرف تفسير. وقيل: مصدرية. {أَلْقِ:} أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر، تقديره:

«أنت» . {عَصاكَ:} مفعول به منصوب

إلخ، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَلْقِ عَصاكَ} مفسرة لا محل لها، وعلى اعتبار {أَنْ} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به. وأراه ضعيفا. وجملة:{وَأَوْحَيْنا..} . إلخ معطوفة على جواب لما لا محل لها {فَإِذا:} الفاء: حرف عطف، ولا بد من تقدير جملة قبلها؛ ليترتب ما بعد الفاء عليها، كما رأيت في الآيتين رقم [107 و 108] التقدير: فألقاها، فإذا هي، ومن جوز أن تكون الفاء زائدة في نحو:

«خرجت؛ فإذا الأسد حاضر» جوز زيادتها هنا، وعلى هذا تكون هذه الجملة قد أوحيت إلى موسى، كالتي قبلها، وأما على اعتبار الفاء عاطفة فالجملة غير موحى بها إليه. انتهى جمل نقلا عن السمين. {فَإِذا هِيَ} انظر الآية رقم [107]. {تَلْقَفُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (حية).

{ما:} تحتمل الموصوفة والموصولة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صفتها، أو صلتها والرابط أو العائد محذوف، التقدير: تلقف شيئا، أو

ص: 593

الذي كانوا يأفكونه. واعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: تلقف إفكهم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو:{هِيَ} .

{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118)}

الشرح: {فَوَقَعَ الْحَقُّ:} ظهر، وثبت الحق؛ الذي جاء به موسى. وانظر الآية رقم [33].

{وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ:} من السحر، وذلك: أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحرا؛ لبقيت حبالنا، وعصينا! وانظر ما ذكرته في الآية السابقة.

الإعراب: {فَوَقَعَ الْحَقُّ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها بالفاء العاطفة لا محل لها أيضا. {وَبَطَلَ:} ماض. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين فاعل، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

بطل الذي أو شيء كانوا يعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: بطل عملهم. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{وَبَطَلَ ما..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَاِنْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)}

الشرح: {فَغُلِبُوا} أي: فرعون، وجنوده، والسحرة. {وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ:} رجعوا ذليلين، مقهورين، مبهوتين بما وقع لهم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَغُلِبُوا:} ماض مبني للمجهول، الواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {هُنالِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بالفعل قبله، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {وَانْقَلَبُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{صاغِرِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120)}

الشرح: إن السحرة لما عاينوا من عظيم قدرة الله تعالى ما ليس في قدرتهم مقابلته، وعلموا: أنه ليس بسحر خروا لله ساجدين، وذلك: أن الله عز وجل ألهمهم معرفته والإيمان به.

ص: 594

الإعراب: {وَأُلْقِيَ:} ماض مبني للمجهول. {السَّحَرَةُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها. {ساجِدِينَ:} حال منصوب

إلخ.

{قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)}

الشرح: {آمَنْتُمْ بِهِ:} بموسى، أو بالله، ويؤيد الأول قوله في سورة (طه):{آمَنْتُمْ لَهُ} وانظر شرح همزة آدم في الآية رقم [11] فما هنا مثلها. هذا؛ وقرأ غير حفص «(أآمنتم)» بهمزة الاستفهام الإنكاري. {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أن أسمح لكم بذلك، والهمزة مثل همزة (آدم). {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ..}. إلخ: إن صنيعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الصحراء لغرض في نفوسكم، وهو أن تخرجوا القبط من مصر، وتسكنوا بني إسرائيل، وذلك: أن فرعون رأى موسى يحدّث كبير السحرة، فقال له: تؤمن بي إن غلبتك؟! فقال: لاتين بسحر لا يغلبه سحر، ولئن غلبتني؛ لأؤمنن بك! فظن فرعون: أنهما قد تواطئا

ص: 595

عليه، وعلى القبط. وانظر شرح المدينة في الآية رقم [111] وانظر شرح:{أَهْلَها} في الآية رقم [82]. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ:} فيه تهديد ووعيد، فسره بما يلي.

الإعراب: {قالَ فِرْعَوْنُ:} فعل، وفاعل. {آمَنْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {آذَنَ:} مضارع منصوب ب {أَنْ،} والفاعل مستتر تقديره: «أنا» . {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {قَبْلَ} إليه، التقدير: قبل إذني لكم. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {هذا} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم {أَنْ،} والهاء حرف تنبيه لا محل له. {لَمَكْرٌ:} خبر: {أَنْ،} واللام هي المزحلقة. {مَكَرْتُمُوهُ:} فعل، وفاعل، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع صفة مكر. {فِي الْمَدِينَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لِتُخْرِجُوا:} مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{مَكَرْتُمُوهُ} . {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{أَهْلَها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{إِنَّ هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ فِرْعَوْنُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَسَوْفَ:} الفاء:

حرف استئناف. (سوف): حرف استقبال، {تَعْلَمُونَ:} فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف للتعميم، التقدير: فسوف تعلمون ما أفعل بكم! والجملة الفعلية هذه مستأنفة، وهي من مقول فرعون كما ترى، تأمل، وتدبر وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)}

الشرح: {لَأُقَطِّعَنَّ:} قرأ حفص بضم وتشديد الطاء من الرباعي. وقرأ غيره بفتح الهمزة وتخفيف الطاء من الثلاثي وكذا: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} {مِنْ خِلافٍ:} يريد: أنه يقطع من كل شق طرفا، فيقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى، أو بالعكس. قيل: إن فرعون أول من سن هذا القطع، وهذا الصلب للمؤمنين، وذلك لشدة كفره، وعناده، ثم شرعه الله لقطاع الطريق، وللباغين تعظيما لجرمهم، وتنكيلا بهم، ولذلك سماه الله محاربة الله، ورسوله، ولكن على التعاقب لفرط رحمته، انظر ما ذكرته في الآية رقم [36] من سورة (المائدة)، وجيء هنا ب {ثُمَّ،} وفي سورة (طه) و (الشعراء) بالواو؛ لأن الواو صالحة للمهلة، فلا تنافي بين الآيات. انتهى. جمل نقلا عن السمين. بعد هذا انظر شرح (اليد) في الآية رقم [108] وشرح:{ثُمَّ} في الآية رقم [103].

ص: 596

الإعراب: {لَأُقَطِّعَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، والنون حرف لا محل له، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنا» والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، وكأنه قال: بعزتي وعظمتي؛ لأقطعن، وهذا الكلام في محل نصب مقول القول. {أَيْدِيَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَأَرْجُلَكُمْ:}

معطوف على ما قبله. {مِنْ خِلافٍ:} متعلقان بمحذوف حال من (الأيدي والأرجل) التقدير:

مختلفة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ:} إعرابه مثل إعراب: {لَأُقَطِّعَنَّ} والجملة معطوفة عليها، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور. {أَجْمَعِينَ:} تأكيد لمدلول الكاف، والميم، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{قالُوا إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125)}

الشرح: {قالُوا} أي: السحرة الذين آمنوا مجيبين إلى فرعون. {إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ:}

راجعون إلى ربنا بالموت لا محالة، فلا نبالي بوعيدك، وتهديدك، فهو الذي يفصل بيننا، وبينك بالحق، وهو خير الحاكمين، فكأنهم استلذوا العذاب رغبة في الأجر، والثواب حين خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان. هذا؛ وانظر «القول» في الآية رقم [5] وشرح:{رَبِّنا} في الآية رقم [3].

الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا):

اسمها، وقد حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {إِلى رَبِّنا:} متعلقان باسم الفاعل بعدهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مُنْقَلِبُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ وفاعله ضمير مستتر تقديره: «نحن» ، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)}

الشرح: {وَما تَنْقِمُ مِنّا..} . إلخ: وما تكره منا. وقال عطاء: معناه: ما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه إلا الإيمان بربنا، والتصديق بآياته لما ظهرت لنا، ووضحت. ثم توجهوا إلى الله بهذا الدعاء:{رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً} أي: أفض، واصبب علينا صبرا كاملا تامّا. {وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} أي: أمتنا على دين الإسلام، وهو دين خليلك إبراهيم، عليه الصلاة والسلام.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما-كانوا في أول النهار سحرة، وآخر النهار شهداء. قال الكلبي: إن فرعون قطع أيديهم، وأرجلهم، وصلبهم. وقال غيره: لم يقدر عليهم لقوله تعالى:

ص: 597

{فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ} {بِآياتِ:} انظر الآية رقم [9]. {رَبِّنا:}

انظر الآية رقم [3]. {جاءَتْنا:} انظر الآية رقم [4] وانظر ما ذكرته في: {تَنْقِمُونَ} في الآية رقم [5/ 62] تجد ما يسرك. وانظر رقم [9/ 75].

تنبيه: قال السحرة: {وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} فهذا يدل على أن دين الإسلام هو دين التوحيد من لدن آدم إلى يوم القيامة، وما قاله نوح، وإبراهيم، وما وصى به يعقوب أولاده، وما قاله سليمان، وبلقيس، وغيرهم أكبر دليل على ذلك، ومن قرأ القرآن بتدبر وإمعان يجد ذلك في محاله. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [3/ 67] تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَما:} (ما): نافية. {تَنْقِمُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» .

{مِنّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {آمَنّا:} فعل، وفاعل. {بِآياتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (آيات) مضاف، و {رَبِّنا:} مضاف إليه، و (نا): في محل جر بالإضافة. {لَمّا:} ظرف زمان بمعنى حين مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: {آمَنّا،} {جاءَتْنا:} ماض، والتاء للتأنيث، و (نا): مفعول به، والفاعل مستتر تقديره:«هي» يعود إلى: {بِآياتِ رَبِّنا،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {لَمّا} إليها. وقيل: هي حرف وجود لوجود، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه وجوابها محذوف، التقدير: لما جاءتنا آمنا، والاعتبار الأول أقوى، و {أَنْ} المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وقيل في محل نصب مفعول لأجله، والأول أقوى، وجملة:{وَما تَنْقِمُ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية السابقة، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {رَبِّنا:} منادى حذفت منه أداة النداء، و (نا):

في محل جر بالإضافة. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [23]. {أَفْرِغْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {عَلَيْنا:} متعلقان به. {صَبْراً:} مفعول به. (توفنا): فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به.

{مُسْلِمِينَ:} حال من (نا) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والكلام كله في محل نصب مقول القول، أي مقول السحرة، تأمل، وتدبر، وربك أعلم وأجل، وأكرم.

{وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)}

الشرح: {وَقالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {الْمَلَأُ:} انظر الآية رقم [60].

{فِرْعَوْنَ:} انظر الآية رقم [102]. (تذر): انظر الآية رقم [70]. {مُوسى:} انظر الآية

ص: 598

رقم [103]. {وَقَوْمَهُ:} انظر الآية رقم [32]. {وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ:} نتركهن بدون قتل، أما الصبيان؛ فإنا نقتلهم، وهذه الطريقة الشنعاء ارتكبها في حق بني إسرائيل قبل ولادة موسى عليه الصلاة والسلام كما هو معروف، ومشهور. هذا؛ و (نساء) أصله: نساي، قلبت الياء ألفا؛ لتطرفها، وانفتاح ما قبلها، ولم يعتد بالألف الساكنة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان، فقلبت الألف الثانية همزة. و (أبناء) أصله: أبناو، فإعلاله مثل إعلال:(نساء). هذا؛ و (نساء) اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ لأن مفرده: امرأة، وتجمع المرأة أيضا على: نسوة (بسكون النون، وضمها) ونسوان، ونسون، ونسنين. وهذه الجموع كلها مأخوذة من النسيان مما يدل على أن المرأة مطبوعة عليه إما كذبا، أو إهمالا. وانظر النسيان في الآية رقم [5/ 14].

{قاهِرُونَ:} غالبون، وهم تحت سيطرتنا وقهرنا.

المعنى قال جماعة من عظماء قوم فرعون: أتترك موسى، وقومه بني إسرائيل يعيثون في الأرض فسادا بتغيير دينك، ونبذ معبوداتك؟!. فأجابهم بأنه سيقتل الذكور، ويترك الإناث، وهو صاحب القوة، والغلبة عليهم.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانت لفرعون بقرة كان يعبدها، وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها، ولذلك أخرج لهم السامري عجلا، وقال السدي: كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما، وكان يأمرهم بعبادتها، وقال لهم:(أنا ربكم ورب هذه الأصنام)، وذلك قوله {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} انتهى. خازن، وقيل غير ذلك.

الإعراب: {وَقالَ الْمَلَأُ:} فعل، وفاعل. {مِنْ قَوْمِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الْمَلَأُ،} و {قَوْمِ:} مضاف، و {فِرْعَوْنَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {أَتَذَرُ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (تذر):

مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {مُوسى:} مفعول به منصوب

إلخ. {وَقَوْمَهُ:}

معطوف على موسى، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِيُفْسِدُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ،} متعلقان بما قبلهما، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(تذر) وجملة: {أَتَذَرُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ الْمَلَأُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {قالُوا} لا محل لها مثلها. {وَيَذَرَكَ:} مضارع منصوب بسبب العطف على {لِيُفْسِدُوا} أو هو منصوب ب: «أن» مضمرة بعد واو المعية في جواب الاستفهام، وقرئ بالرفع على الاستئناف، أو بالعطف على:{أَتَذَرُ} وقيل الجملة في محل نصب حال، وهو يحتاج إلى تقدير مبتدأ، أي: وهو يذرك، كما قرئ بالسكون، كأنه قيل:

يفسدوا ويذرك، كقوله تعالى {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} والفاعل يعود إلى {مُوسى} والكاف مفعول به.

{وَآلِهَتَكَ:} معطوف على الكاف، والكاف في محل جر بالإضافة. {قالَ:} ماض، والفاعل

ص: 599

يعود إلى: {فِرْعَوْنَ} . {سَنُقَتِّلُ:} السين: حرف استقبال. (نقتل): مضارع، وهو يقرأ بالتشديد، والتخفيف، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {أَبْناءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{سَنُقَتِّلُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (نستحيي): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {نِساءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول. {وَإِنّا:} الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها. {فَوْقَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بما بعده، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور. {قاهِرُونَ:}

خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعة الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه، تقديره:«نحن» ، والجملة الاسمية:{وَإِنّا..} . إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر، في:(نقتّل) والرابط: الواو، والضمير.

{قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاِصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {مُوسى:} انظر الآية رقم [103].

{لِقَوْمِهِ:} انظر الآية رقم [32]. {بِاللهِ:} انظر الآية رقم [87]. {وَاصْبِرُوا:} الصبر حبس النفس من الجزع عند المصيبة، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو مر المذاق لا يكاد يطاق، إلا أنه حلو العواقب، يفوز صاحبه بأسنى المطالب، كما قال القائل:[البسيط]

الصبر مثل اسمه مرّ مذاقته

لكن عواقبه أحلى من العسل

وبالجملة: فنفع الصبر معلوم مشهور، والحض عليه في الكتاب، والسنة مقرر مسطور، ولا تنس: أن من أسماء الله تعالى الصبور. وفسّر بالذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه.

فائدة-قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} وقال: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} وقال {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} قالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكاية معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذية معه. {الْأَرْضَ:} أرض مصر، ويشمل جميع الأرض.

{يُورِثُها:} يقرأ بالتخفيف، والتشديد. {يَشاءُ:} انظر الآية رقم [89]. {وَالْعاقِبَةُ:} الخاتمة المحمودة، والنهاية الحسنة. {لِلْمُتَّقِينَ:} انظر (التقوى) في الآية رقم [26]. هذا؛ وإن موسى عليه السلام-قال لقومه هذا الكلام حين سمعوا قول فرعون، وتهديده، وتضجروا منه. فهو تسكين لهم، وتطييب لخاطرهم، ووعد لهم بالنصر على عدوهم، وأنهم سيرثون ديارهم،

ص: 600

وأموالهم إن هم صبروا، واستعانوا بالله على كيد عدوهم ومكره. وانظر الآية رقم [87] من سورة يونس عليه السلام.

الإعراب: {قالَ مُوسى:} فعل، وفاعل. {لِقَوْمِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{اِسْتَعِينُوا:} أمر مبني على حذف النون والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:

{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة {وَاصْبِرُوا} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْأَرْضَ:} اسمها. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} {يُورِثُها:} مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، و (ها): مفعول به أول. {مَنْ:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يشاؤه. {مِنْ عِبادِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف المنصوب، و {مَنْ} بيان لما أبهم في {مَنْ} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يُورِثُها..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور. {لِلّهِ} أي: إن الأرض مستقرة لله حال كونها مورثة من الله لمن يشاء من عباده، ويجوز أن يكون {يُورِثُها} خبرا ثانيا، وأن يكون خبرا وحده، و {لِلّهِ} هو الحال، ويجوز أن تكون الجملة الفعلية مستأنفة، والجملة الاسمية:{إِنَّ الْأَرْضَ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها. {وَالْعاقِبَةُ:} مبتدأ. {لِلْمُتَّقِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{إِنَّ الْأَرْضَ..} . إلخ هذا؛ وقد قرئ بنصب «(العاقبة)» عطفا على: {الْأَرْضَ} عطف مفرد على مفرد، وجملة:{قالَ مُوسى..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}

الشرح: {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {تَأْتِيَنا:} انظر الآية رقم [5]. {جِئْتَنا:}

انظر الآية رقم [4]. {رَبُّكُمْ:} انظر الآية رقم [3]. {عَدُوَّكُمْ:} انظر الآية رقم [22]. {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ:} يجعلكم خلفاء في أرض مصر بعد إهلاك عدوكم، ويملككم إياها. {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ:} فيرى ما تعملون من كفر، وشكران، وطاعة، وعصيان، فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم، وسترى خبث أعمالهم، وما عملوا من فساد، وإفساد بعد هلاك الفراعنة. والمعنى: يرى وقوع ذلك منكم؛ لأنه سبحانه يعلم ما يقع منهم، ولكن لا يعاقبهم إلا بعد صدور ذلك منهم.

المعنى: إن بني إسرائيل لما سمعوا ما قاله فرعون من التهديد، والوعيد؛ قالوا:{أُوذِينا..} .

إلخ، وذلك: أنهم كانوا مستضعفين في يد فرعون، وقومه، فكان يقتل صبيانهم، ويترك إناثهم

ص: 601

أحياء، ويستعملهم في الأعمال الشاقة إلى نصف النهار، فلما جاء موسى بالرسالة وجرى؛ ما جرى شدد فرعون في استعمالهم، وأعاد القتل في صبيانهم، قالوا:{أُوذِينا..} . إلخ. وظاهر هذا الكلام يوهم: أنهم كرهوا مجيء موسى بالرسالة، وهو كفر، والجواب: أن موسى كان قد وعدهم بالنصر، وزوال ما هم فيه من الشدة، فظنوا: أن ذلك يكون على الفور، فلذا استبطئوا ما وعدهم به موسى، عليه السلام. انتهى. خازن بتصرف كبير.

الإعراب: {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، {أُوذِينا:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون، و (نا): نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {مِنْ قَبْلِ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَأْتِيَنا} في محل جر بإضافة {قَبْلِ} إليه، التقدير: من قبل إتيانك لنا. {وَمِنْ بَعْدِ:} معطوفان على: {مِنْ قَبْلِ} . {ما:}

مصدرية. {جِئْتَنا:} فعل، وفاعل ومفعول به، و {ما} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه، التقدير: ومن بعد مجيئك إيانا. وجملة: {قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {مُوسى}. {عَسى:} فعل ماض جامد دال على الرجاء.

{رَبُّكُمْ:} اسم {عَسى،} والكاف في محل جر بالإضافة، والمصدر المؤول من {أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} في محل رفع خبر:{عَسى،} ويجب تأويله باسم الفاعل؛ لأن المصدر لا يخبر به عن الجثة، فيصير التقدير: عسى ربكم مهلكا عدوكم، وجملة:{عَسى..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة كالتي قبلهما؛ لأن كل واحدة منهما بمنزلة جواب لسؤال مقدر. {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ:} مضارع معطوف على: {يُهْلِكَ} منصوب مثله، والفاعل يعود إلى:{رَبُّكُمْ،} والكاف مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. في الأرض:

متعلقان بما قبلهما. {فَيَنْظُرَ:} مضارع معطوف على ما قبله، منصوب مثله، والفاعل يعود إلى {رَبُّكُمْ} أيضا، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال عامله ما بعده. {تَعْمَلُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة:{كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في محل نصب مفعول به. هذا؛ وإن اعتبرت: {فَيَنْظُرَ} منصوبا ب: «أن» مضمرة بعد الفاء السببية في جواب الترجي؛ فلست مفندا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ..} . إلخ: أي: انتقمنا منهم بالقحط، والجدب، وقلة الأمطار، والمياه، تقول العرب: مسّتهم السنة بمعنى: أخذهم الجدب في السنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء على قريش:«اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» . و {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ} أي:

وإتلاف الغلات، والثمار بالآفات.

ص: 602

قال قتادة: أما السنون؛ فلأهل البوادي، وأما نقص الثمرات؛ فلأهل الأمصار. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ:} يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر، والمعاصي، وذلك لأن الشدة ترقق القلوب، وترغب فيما عند الله من الخير. وانظر هذا الترجي في الآية رقم [25]. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

{آلَ:} أصله: أهل، فأبدلت الهاء همزة ساكنة، فصار (أأل) ثم أبدلت الهمزة الثانية الساكنة مدّا مجانسا لحركة الهمزة الأولى على القاعدة، مثل (آدم) في الآية رقم [11] وقلب الهاء همزة سائغ مستعمل لغة، كما في: أراق، فإن أصله: هراق. وهو كثير في الشعر العربي. وهذا مذهب سيبويه. وقال الكسائي أصله: أول. كجمل من: آل، يؤول، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وقد صغروه على (أهيل) وهو يشهد للأول، وعلى (أويل) وهو يشهد للثاني. ولا يستعمل {آلَ} إلا فيمن له خطر، وشأن بخلاف (أهل).

يقال: آل النبي، وآل الملك، ولا يقال: آل الحجام، ولكن: أهله، ولا ينتقض بآل فرعون، فإن له شرفا باعتبار الدنيا، واختلف في جواز إضافته إلى المضمر، فمنعه الكسائي، والنحاس، وزعم أبو بكر الزبيدي: أنه من لحن العوام، والصحيح جوازه، كما في قول عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم:[مجزوء الكامل]

لا همّ إنّ المرء يم

نع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصّلي

ب، وعابديه اليوم آلك

{فِرْعَوْنَ:} انظر الآية رقم [103]. {بِالسِّنِينَ:} جمع سنة، وأصلها: سنو، أو سنه، بدليل قولهم في جمعه بالألف والتاء: سنوات وسنهات. وقولهم في اشتقاق الفعل منه: سانهت، وسانيت، وأصل سانيت سانوت، فقلبوا الواو ياء حين تجاوزت متطرفة ثلاثة أحرف.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (لقد): اللام: واقعة في جواب هذا القسم.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَخَذْنا:} فعل، وفاعل. {آلَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {فِرْعَوْنَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وجملة: (لقد

) إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {بِالسِّنِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{وَنَقْصٍ:} معطوف على (السنين). {مِنَ الثَّمَراتِ:} متعلقات ب (نقص) لأنه مصدر {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [26] وما يشبهها في الآية رقم [63].

ص: 603

{فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)}

الشرح: {جاءَتْهُمُ:} انظر الآية رقم [4]. {الْحَسَنَةُ:} انظر الآية رقم [95]. {قالُوا:}

انظر «القول» في الآية رقم [5]. {لَنا هذِهِ} أي: نحن مستحقوها، وهي لأجلنا على العادة التي جرت في سعة الأرزاق، وصحة الأبدان فلذا لم يشكروه سبحانه على نعمه. {سَيِّئَةٌ:} انظر الآية رقم [95] وانظر إعلال: {تُصِبْهُمْ} في الآية رقم [6/ 124]. {يَطَّيَّرُوا بِمُوسى..} . إلخ:

يتشاءموا بهم، ويقولوا: ما أصابتنا إلا بشؤمهم، وما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم، وهذا إغراق منهم بالغباوة وقسوة القلب، فإن الشدائد ترقق القلوب، وتذلل العرائك، سيما بعد مشاهدة المعجزات، وهي لم تؤثر فيهم، بل زادوا عتوّا، وانهماكا في الغي. وإنما عرّف {الْحَسَنَةُ} وذكرها مع أداة التحقيق (إذا) لكثرة وقوعها، وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات، ونكر (السيئة) وأتى بها مع حرف الشك:(إن) لندورها، وعدم القصد لها إلا بالتبع. انتهى بيضاوي بتصرف.

وأصل {يَطَّيَّرُوا:} يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها في المخرج، وقرئ شاذّا:

(تطيروا). {إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} أي: سبب خيرهم وشرهم عنده، وهو حكمه، ومشيئته. أو سبب شؤمهم عند الله، وهو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنها التي ساقت لهم ما يسوءهم.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: {طائِرُهُمْ} ما قضي لهم، وقدر عليهم من عند الله.

وقرئ: «(طيرهم)» وانظر الآية رقم [6/ 38]. {اللهِ:} انظر الآية رقم [87]. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ:} أن ما يصيبهم من الله، أو من شؤم أعمالهم.

الإعراب: {فَإِذا:} (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {جاءَتْهُمُ:} ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الْحَسَنَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ مؤخر، والهاء حرف تنبيه لا محل له، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف مفرع عما قبله لا محل له. (إن):

حرف شرط جازم. {تُصِبْهُمْ:} مضارع فعل الشرط، والهاء مفعول به. {سَيِّئَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يَطَّيَّرُوا:}

مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن

ص: 604

بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إنّ) ومدخولها كلام معطوف على (إذا) ومدخولها لا محل له مثله. {بِمُوسى:} متعلقان بما قبلهما. {وَمَنْ:} اسم موصول بمعنى الذين مبني على السكون في محل جر معطوف على (موسى). {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَلا:} حرف تنبيه، واستفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {طائِرُهُمْ:} مبتدأ. والهاء في محل جر بالإضافة. {عِنْدَ:}

ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{أَلا إِنَّما..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ:}

اسم (لكنّ) والهاء في محل جر بالإضافة، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور.

{لا:} نافية. {يَعْلَمُونَ:} فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ) والجملة الاسمية:{وَلكِنَّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)}

الشرح: {وَقالُوا:} انظر الآية رقم [5]. {مَهْما:} أصلها (ما) الشرطية، ضمت إليها (ما) الزائدة للتأكيد، ثم قلبت ألفها هاء، استثقالا للتركيب. وقيل: هي مركبة من (مه) الذي يصوت به الكافّ، و (ما) الجزائية، وقد رد ابن هشام هذا في المغني، فقال: وهي بسيطة لا مركبة من:

(مه) و (ما) الشرطية، ولا من (ما) الشرطية و (ما) الزائدة، ثم أبدلت الهاء من الألف الأولى دفعا للتكرار، خلافا لزاعمي ذلك. هذا؛ والضميران في {بِهِ} و {بِها} يعودان إلى {مَهْما} فالأول مراعاة للفظها، والثاني مراعاة لمعناها. {تَأْتِنا:} انظر الآية رقم [35]. {آيَةٍ:} معجزة. وانظر الآية رقم [9]. هذا؛ وإنما سمو (ها): {آيَةٍ} على زعم موسى، لا لاعتقادهم، ولذلك قالوا:

{لِتَسْحَرَنا بِها} أي: لتسحر بها أعيننا، وتصرفنا عما نحن عليه من دين. {فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي: بمصادقين. وانظر الإيمان في الآية رقم [2].

الإعراب: {وَقالُوا:} (قالوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {مَهْما:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وقال أبو البقاء: في محل نصب بما بعده. ولا وجه له.

وقيل: منصوب بفعل يفسره ما بعده، والمعتمد الأول. {تَأْتِنا:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ آيَةٍ:}

متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور في: {بِهِ} و {مِنْ} بيان لما أبهم في: {مَهْما} .

{لِتَسْحَرَنا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ،

ص: 605

و (نا): مفعول به. {بِها:} متعلقان بما قبلهما، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان ب {آيَةٍ،} أو بمحذوف صفة لها. {فَما:} الفاء:

واقعة في جواب الشرط. (ما): نافية حجازية تعمل عمل ليس. {نَحْنُ:} اسم (ما). {لَكَ:}

متعلقان بما بعدهما. {بِمُؤْمِنِينَ:} الباء: حرف جر زائد. (مؤمنين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلاّ، وجملة:{فَما نَحْنُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو:{مَهْما} مختلف فيه، فقيل: جملة فعل الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان.

وهو المرجح لدى المعاصرين.

{فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)}

الشرح: {فَأَرْسَلْنا:} انظر (نا) في الآية رقم [7]. {الطُّوفانَ:} ما طاف بهم، وغشي أماكنهم، وحروثهم من مطر، أو سيل وقيل: هو الجدري. وقيل: الموتان. وقيل: الطاعون، ومدلول اللفظ بخلاف ذلك. {وَالْجَرادَ:} معروف، واحدته جرادة، تقع للذكر، والأنثى، ولا يفرق بينهما، إلا أن تقول: رأيت جرادة ذكرا، أو أنثى. {وَالْقُمَّلَ:} هي أفراخ الجراد قبل نبات أجنحتها، أو البراغيث، أو كبار القردان وقيل: غير ذلك وهو يقرأ بالتشديد والتخفيف مع فتح القاف وسكون الميم. وقيل: هو القمل المعروف في الثياب وغيرها، {وَالضَّفادِعَ:} جمع ضفدع بكسر الضاد والدال: دابة مائية معروفة، والواحدة ضفدعة، وناس يقولون بفتح الدال، وأنكره الخليل. {وَالدَّمَ:} قلبت مياههم دما. وقيل: هو الرعاف. {آياتٍ مُفَصَّلاتٍ:} معجزات مبينات ظاهرات، لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله، أو مفرقات بين كل آيتين شهر. {فَاسْتَكْبَرُوا:}

عن الإيمان بموسى. {قَوْماً:} انظر الآية رقم [32]. {مُجْرِمِينَ:} كافرين معاندين.

تنبيه: روي: أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، ودخل الماء بيوتهم؛ حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم، فلم يدخل فيها قطرة، وركد الماء فوق أراضيهم، فمنعهم من الحرث، والتصرف فيها، ودام ذلك أسبوعا، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ما نحن فيه، ونحن نؤمن بك.

فدعا، فكشف عنهم، ونبت لهم من الزرع، والكلأ ما لم يعهد مثله. فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا، فلم يؤمنوا، فبعث الله عليهم الجراد، فأكلت زروعهم، وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب، والسقوف، والثياب، ففزعوا إلى موسى ثانيا، فدعا، وخرج إلى الصحراء، وأشار بعصاه نحو المشرق، والمغرب، فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها. فلم يؤمنوا، فسلط الله عليهم القمل، فأكل ما أبقاه الجراد، وكان يقع في أطعمتهم، ويدخل بين أثوابهم،

ص: 606

وجلودهم، فيمصها، ولم يؤذ أحدا من بني إسرائيل، ففزعوا إلى موسى، فدعا، فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، فأرسل الله عليهم الضفادع، بحيث لا يكشف ثوب، ولا طعام إلا وجدت فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم، وتثب إلى قدورهم، وهي تغلي، وتدخل أفواههم عند التكلم، ولم يقرب بني إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى، وتضرعوا إليه، فدعا الله، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياههم دماء؛ حتى كان القبطي يجتمع مع الإسرائيلي على إناء واحد، فيكون ما يليه دما، وما يلي الإسرائيلي ماء، ويمص الماء من فم الإسرائيلي، فيصير دما في فيه. انتهى بيضاوي بتصرف.

تنبيه: قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وغيرهما: لما آمنت السحرة، ورجع فرعون مغلوبا أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، والفساد، فتابع الله عليهم الآيات، فأخذهم الله أولا بالسنين، ونقص الثمرات، وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد، والعصا، فلم يؤمنوا، فدعا عليهم موسى، وقال: يا رب! إن عبدك فرعون علا في الأرض، وبغى، وعتا، وإن قومه قد نقضوا العهد، فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية، وعبرة، فبعث الله تعالى عليهم الطوفان، والجراد

إلخ.

أقول: وهذه الآيات التسع ذكرها الله إجمالا في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} .

الإعراب: {فَأَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الطُّوفانَ:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه. {آياتٍ:} حال.

{مُفَصَّلاتٍ:} صفة: {آياتٍ} منصوب مثله، وعلامة نصبهما الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {فَاسْتَكْبَرُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على سابقتها لا محل لها مثلها. (كانوا): ماض ناقص، مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قَوْماً:} خبر (كان). {مُجْرِمِينَ:} صفة منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{وَكانُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{وَلَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134)}

الشرح: {وَقَعَ عَلَيْهِمُ:} نزل بهم، وأصابهم. {الرِّجْزُ:} العذاب الذي ذكره في الآية المتقدمة من الطوفان، وما بعده. وقال سعيد بن جبير-رضي الله عنه-الرجز: الطاعون، وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدمت، فنزل بهم الطاعون حتى مات منهم في يوم واحد سبعون ألفا، فأمسوا وهم لا يتدافنون، {قالُوا:} انظر الآية رقم [5] لشرحه وإعرابه.

{يا مُوسَى:} انظر الآية رقم [103]. {اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} أي: بعهده عندك، وهو

ص: 607

النبوة. أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك، كما أجابك في آياتك. وانظر (العهد) في الآية رقم [102]. {رَبَّكَ:} انظر الآية رقم [3]. {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} أي: نقسم بعهد الله عندك لئن كشفت عنا العذاب؛ لنصدقن بما أرسلت به. وهذا الوعد قطعوه على أنفسهم عند نزول كل نوع من أنواع العذاب المتقدمة، ولكنهم كانوا ينكثون عهدهم عند رفع العذاب.

{بَنِي إِسْرائِيلَ:} انظر الآية رقم [105].

الإعراب: {وَلَمّا:} (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى «حين» عند ابن السراج الفارسي، وابن جني، وجماعة تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {وَقَعَ:} ماض. {عَلَيْهِمُ:} متعلقان بما قبلهما. {الرِّجْزُ:} فاعل، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها على القول بحرفية (لما) وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على القول بظرفيتها، وعلى اعتبارها متعلقة بالجواب. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (لمّا) لا محل لها. {وَلَمّا} ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله.

(يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (موسى): منادى مفرد علم مبني على ضم مقدر على الألف المقصورة في محل نصب ب (يا)، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {اُدْعُ:} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:

«أنت» . {لَنا:} متعلقان بما قبلهما. {رَبَّكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.

{بِما} الباء: حرف جر. ما: تحتمل الموصوفة، والموصولة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء عهده إليك، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، أي بعهده عندك، والجار، والمجرور على جميع الاعتبارات متعلقان بالفعل:{اُدْعُ} أو بمحذوف حال من الفاعل المستتر بمعنى: ادع الله متوسلا إليه. وقيل:

متعلقان بفعل محذوف، كما قيل:(الباء) حرف قسم وجر. ولا وجه له. وجملة: {اُدْعُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {لَئِنْ:} حرف شرط جازم، واللام موطئة لقسم محذوف.

{كَشَفْتَ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {عَنَّا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الرِّجْزُ:} مفعول به، وجملة:{كَشَفْتَ..} . إلخ ابتدائية لا محل لها، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَنُؤْمِنَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. انظر الآية رقم [90] {وَلَنُرْسِلَنَّ:} معطوف على ما قبله،

ص: 608

وإعرابه مثله. {مَعَكَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {بَنِي إِسْرائِيلَ:} انظر الآية رقم [105].

{فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)}

الشرح: {فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ:} رفعنا عنهم العذاب المذكور في الآية السابقة بسبب دعوة موسى، عليه السلام. وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ:} إلى زمن هم بالغوه، فمنتهون إليه، ثم يعذبون فيه، أو يهلكون، وهو وقت الغرق، أو الموت المحدد في وقته:{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} . {إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ:} يخلفون الوعد، وينقضون العهد بعدم إيمانهم؛ الذي وعدوا به مرارا. وأصل النكث من: نكث الصوف، ونحوه؛ ليغزله ثانيا، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه، وإبرامه.

الإعراب: {فَلَمّا:} انظر الآية السابقة. {كَشَفْنا:} فعل، وفاعل. {عَنْهُمُ:} متعلقان بما قبلهما. {الرِّجْزَ:} مفعول به. وانظر محل الجملة الفعلية في الآية السابقة. {إِلى أَجَلٍ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {هُمْ:} ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{بالِغُوهُ:} خبر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل جر صفة:{أَجَلٍ} . {إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [107] و {إِذا} واقعة في جواب (لمّا) و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على مثله في الآية السابقة، لا محل له مثله.

{فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)}

الشرح: {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ} أي: كافأناهم عقوبة لهم على سوء صنيعهم. وأصل الانتقام في اللغة: سلب النعمة بالعذاب. وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ} أي: في البحر الملح الذي لا يدرك قعره. وقيل: اليم: هو لجة البحر، ومعظم مائه. {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أي: كان هلاكهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا، وصدق نبينا. {وَكانُوا عَنْها:}

عن تلك الآيات. {غافِلِينَ:} فلم يتعظوا، ولم يتفكروا فيها. وانظر الآية رقم [90] من سورة (يونس) عليه السلام.

تنبيه: فإن قيل: إن الله تعالى علم من حال آل فرعون: أنهم لا يؤمنون بتلك الآيات، فما الفائدة من تواليها عليهم، وإظهار الكثير منها؟ فالجواب على مذهب أهل السنة: أن الله تعالى

ص: 609

يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل. وأما على قول المعتزلة في رعاية المصلحة: فلعله تعالى علم من قوم فرعون: أن بعضهم كان يؤمن بتوالي تلك المعجزات، وظهورها، فلهذا السبب والاها عليهم. والله أعلم بمراده. انتهى خازن.

الإعراب: {فَانْتَقَمْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْهُمْ:}

متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وجملة:{فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ} مفسرة للانتقام، والفاء تفسيريه، ولا يصح اعتبارها عاطفة. {بِأَنَّهُمْ:} الباء: حرف جر وسبب. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كَذَّبُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {بِآياتِنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا) في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَذَّبُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلها، التقدير: بسبب تكذيبهم. (كانوا): ماض ناقص، والواو اسمها، والألف للتفريق. {عَنْها:}

متعلقان بما بعدهما. {غافِلِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:

{وَكانُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {كَذَّبُوا..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها، وجوز اعتبارها مستأنفة، والأول أقوى، وأولى. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)}

الشرح: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ..} . إلخ: بالاستعباد، وذبح الأبناء، والتسخير في الأعمال الشاقة، وهم بنو إسرائيل. {مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا:} المراد بها: أرض مصر، والشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة، والعمالقة. والمراد بمشارقها، ومغاربها: جميع نواحيها. وقيل: أراد جميع جهات الأرض. وهو اختيار الزجاج، قال: لأن داود، وسليمان-صلوات الله وسلامه عليهما-كانا من بني إسرائيل، وقد ملكا الأرض. انتهى خازن بتصرف.

{الَّتِي بارَكْنا فِيها} أي: بكثرة الثمار، والزروع، والخصب والسعة. هذا قول المفسرين، وأرى: أن البركة حلت فيها من وجود الأنبياء، وتناسلهم، ودفنهم فيها. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا} المراد بها قوله تعالى:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ وقرئ: «(كلمات ربك)» لتعدد المواعيد. هذا؛ و «كلمت» بفتح الكاف، وكسر اللام، ويقرأ بكسر الكاف وإسكان اللام، وفيها لغة أخرى: فتح الكلام، وإسكان اللام. هذا؛ وقد تطلق الكلمة على الكلام الكثير، مثل قولك: قال فلان كلمة، أي: ألقى

ص: 610

خطبة، وقال الشاعر كلمته، أي: قصيدته، وكثيرا ما تطلق على الجملة المفيدة، كقوله تعالى:

{كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} وقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً} ومعلوم أن النصارى لم يقولوا كلمة واحدة فقط في تأليه عيسى عليه الصلاة والسلام. وانظر الكلام في الآية رقم [144] والآية رقم [6/ 115]. {رَبِّكَ:} انظر الآية رقم [3]. {الْحُسْنى:} تأنيث: الأحسن، كالسوأى تأنيث: الأسوأ. {بَنِي إِسْرائِيلَ:} انظر الآية رقم [105]. {صَبَرُوا:} انظر الآية رقم [128].

{وَدَمَّرْنا:} أهلكنا وخربنا. {يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ:} في أرض مصر من القصور، والعمارات. وانظر:{فِرْعَوْنُ:} في الآية رقم [103]. {وَقَوْمُهُ:} انظر الآية رقم [31].

{كانُوا يَعْرِشُونَ:} يسقفون من البنيان، أو يبنون بيوتا من البيوت، والقصور، أو ما كانوا يعرشون من الثمار، والأعناب. هذا؛ وعرش؛ يعرش من باب: ضرب، ونصر قراءتان.

تنبيه: هذا آخر قصة فرعون، والقبط، وتكذيبهم بآيات الله، ثم أتبعه قصة بني إسرائيل، وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وغير ذلك؛ ليتسلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه من اليهود، والمنافقين في المدينة المنورة، وعما رآه في مكة من إيذاء قريش. انتهى نسفي. هذا؛ وانظر:{يَصْنَعُونَ} في الآية رقم [63] من سورة (المائدة).

الإعراب: {وَأَوْرَثْنَا:} (أورثنا): فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10].

{الْقَوْمَ:} مفعول به أول. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة {الْقَوْمَ} . {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يُسْتَضْعَفُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجمل الفعلية في محل نصب خبر (كان) وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {مَشارِقَ:} مفعول به ثان ل (أورثنا).

وقيل: المفعول الثاني هو {الَّتِي} كما قيل: المفعول الثاني محذوف، تقديره:«الأرض» أو «الملك» ، وعليهما يكون {مَشارِقَ} ظرف مكان متعلق بما قبله، أو هو منصوب بنزع الخافض. والمعتمد الأول، و {مَشارِقَ} مضاف، و {الْأَرْضِ:} مضاف إليه. (مغاربها):

معطوف على ما قبله، و (ها): في محل جر بالإضافة. {الَّتِي:} صفة مشارق، وما عطف عليه.

وقيل: صفة: {الْأَرْضِ،} وهو ضعيف. {بارَكْنا:} فعل، وفاعل. و {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. (تمت): ماض، والتاء للتأنيث. {كَلِمَتُ:} فاعل، و {كَلِمَتُ:} مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْحُسْنى:} صفة: {كَلِمَتُ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المقصورة، وجملة:{وَتَمَّتْ..} . إلخ معطوفة على جملة: (أورثنا

) إلخ لا محل لها مثلها؛ لأنها معطوفة بدورها على ما قبلها. {عَلى بَنِي:} متعلقان بالفعل: (تمت)، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي:} مضاف،

ص: 611

و {إِسْرائِيلَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة {بِما} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {صَبَرُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، و (ما) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (تمت)، التقدير: بصبرهم، (دمرنا): فعل، وفاعل، {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {كانَ:} فعل ماض ناقص.

{يَصْنَعُ:} مضارع. {فِرْعَوْنُ:} تنازعه كل من كان والفعل: {يَصْنَعُ،} ولا بد من الإضمار في أحدهما مع إعمال الآخر فيه، والأولى اعتباره اسما ل:{كانَ} مؤخرا، وجملة:

{يَصْنَعُ} في محل نصب خبرها مقدما، وجملة:{كانَ..} . إلخ صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: دمرنا الذي، أو شيئا كان يصنعه فرعون. هذا؛ وقد أجاز السمين في هذه الجملة أربعة أوجه: أحدها: ما ذكرته، الثاني أن اسم كان ضمير عائد على:{ما} الموصولة و {يَصْنَعُ} مسند ل {فِرْعَوْنُ،} والجملة خبر عن {كانَ،} والعائد محذوف، التقدير: ودمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون، الثالث: أن تكون: {كانَ} زائدة، و {ما} مصدرية، والتقدير: ودمرنا ما يصنع فرعون. أي صنعه. قال الجمل: وينبغي أن يجيء هذا الوجه أيضا؛ وإن كانت {ما} موصولة اسمية على أن العائد محذوف، تقديره: ودمرنا الذي يصنعه فرعون، الرابع: أن {ما} مصدرية أيضا، و {كانَ} ليست زائدة، بل ناقصة، واسمها ضمير الأمر، والشأن، والجملة من قوله:{يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} خبر (كان) فهي مفسرة للضمير. انتهى جمل. وانظر الآية رقم [118] التوبة {وَقَوْمُهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَدَمَّرْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{ما:} معطوفة على سابقتها على الوجهين المعتبرين فيها، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: كانوا يعرشونه.

{وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)}

الشرح: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ:} عبرنا، وقطعنا بهم البحر. وجاوز بمعنى: جاز.

هذا؛ ويقال: جاز الوادي، وجاوزه: إذا قطعه، وتركه وراء ظهره. روي: أن عبورهم البحر كان في يوم عاشوراء، فصامه موسى، عليه السلام، وأمر بصيامه شكرا على مهلك فرعون، ونجاتهم من شره. {بِبَنِي إِسْرائِيلَ:} انظر الآية رقم [105]. {فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ..} . إلخ: مروا على قوم يعبدون الأصنام، قيل: كانت تلك الأصنام تماثيل من البقر، وذلك أول شأن العجل، والقوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم. وقيل: كانوا من لخم.

ص: 612

و {يَعْكُفُونَ:} يعبدون. قرئ بضم الكاف وكسرها من بابي: ضرب، ونصر. وانظر:{قَوْمٍ} في الآية رقم [32] و (أتوا) في الآية رقم [34]. وقل في إعلاله: أصله: (أتيوا) استثقلت الضمة التي على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة على التاء، ويقال في إعلاله أيضا تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار (أتاوا) فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة على التاء لتدل على ذلك المحذوف.

{قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {يا مُوسَى:} انظر الآية رقم [103]. {اِجْعَلْ لَنا إِلهاً:} تمثالا نعبده ونعظمه. {كَما لَهُمْ آلِهَةٌ:} أصنام وتماثيل يعبدونها ويعظمونها.

قال البغوي-رحمه الله: لم يكن ذلك شكّا من بني إسرائيل بوحدانية الله تعالى، وإنما معناه: اجعل لنا شيئا نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى، وظنوا: أن ذلك لا يضر الديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم. {تَجْهَلُونَ:} انظر الجهل، والجاهل في الآية رقم [6/ 35]. هذا؛ وقد وصفهم الله بالجهل المطلق، وأكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكبرى.

عن أبي واقد الليثي-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مرّ بشجرة للمشركين كانوا يعلّقون عليها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال:«سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} والذي نفسي بيده؛ لتركبنّ سنن من قبلكم» . أخرجه الترمذي. انتهى خازن.

تنبيه: قال يهودي لعلي-رضي الله عنه: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه، فقال:

قلتم اجعل لنا إلها، ولم تجف أقدامكم. أي: من البحر. انتهى نسفي. وانظر الآية رقم [32] من سورة (الأنفال).

الإعراب: {وَجاوَزْنا:} (جاوزنا): فعل، وفاعل. {بِبَنِي إِسْرائِيلَ} انظر الآية السابقة لإعرابهما، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما. {الْبَحْرَ:} مفعول به، وجملة:{وَجاوَزْنا..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {فَأَتَوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {عَلى قَوْمٍ:} متعلقان بما قبلهما. {يَعْكُفُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{قَوْمٍ} . {عَلى أَصْنامٍ:} متعلقان بما قبلهما. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أَصْنامٍ} {قالُوا يا مُوسَى} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [134] وهي مستأنفة، لا محل لها. {اِجْعَلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَنا:}

متعلقان بما قبلهما، على أنهما مفعوله الأول. {إِلهاً:} مفعوله الثاني. هذا؛ ويجوز أن يكون {لَنا} متعلقين بمحذوف حال من: {إِلهاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وجملة:

{اِجْعَلْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول {كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} . قال أبو البقاء في (ما) ثلاثة

ص: 613

أوجه: أحدها: هي المصدرية، والجملة الاسمية:{لَهُمْ آلِهَةٌ} صلة لها، وحسن ذلك: أنّ الظرف مقدر بالفعل، والثاني: أن (ما) بمعنى «الذي» و {لَهُمْ} متعلقان بمحذوف صلة (ما)، التقدير: كالذي ثبت لهم. و {آلِهَةٌ} بدل من الضمير المستكن في: {لَهُمْ} والتقدير: اجعل لنا إلها كائنا كالذي استقر لهم هو آلهة، والثالث: أن تكون (ما) كافة للكاف؛ إذ من حكم الكاف أن تدخل على المفرد، فلما أريد دخولها على الجملة كفت ب:(ما) انتهى بتصرف.

أقول: فعلى الوجه الأول تؤول (ما) مع الجملة الاسمية بمصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور يتعلقان بمحذوف صفة {إِلهاً} وأيضا على الثاني يتعلق:«كالذي» بمحذوف صفة:

{إِلهاً} . وعلى الوجه الثالث تكون الجملة الاسمية: {كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} في محل نصب صفة:

{إِلهاً} . {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى (موسى). {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {قَوْمٍ:} خبرها، وجملة:{تَجْهَلُونَ} في محل رفع صفة: {قَوْمٍ،} والجملة الاسمية:

{إِنَّكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139)}

الشرح: {هؤُلاءِ:} الإشارة لمن عكفوا على الأصنام. {مُتَبَّرٌ:} هالك، ومكسّر ومدمّر والتتبير: الإهلاك. {ما هُمْ فِيهِ} أي: الذي هم فيه من عبادة الأصنام لا قيمة فيه، وهو هالك لا بقاء له. {وَبَطَلَ..}. إلخ: البطلان: عبارة عن عدم الشيء، إما بعدم ذاته، أو بعدم فائدته ونفعه، والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم بنفع، ولا يدفع عنهم ضرّا؛ لأنه عمل لغير الله تعالى، فكان باطلا، لا نفع فيه. انتهى خازن. هذا؛ وجمع باطل: أباطيل على غير قياس، كأنهم جمعوا: إبطيلا. وبطل من باب: دخل، والبطل بفتحتين: الشجاع، والبطل بالضم، والسكون: الباطل والكذب، والبطالة التعطل، والتفرغ من العمل.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسم: {إِنَّ،} والهاء حرف تنبيه لا محل له. {مُتَبَّرٌ:} خبر مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {هُمْ:} مبتدأ. {فِيهِ} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها. هذا؛ ويجوز اعتبار:{مُتَبَّرٌ} خبر:

{إِنَّ،} و {ما:} فاعل، أو نائب فاعل له؛ لأنه قوي بوقوعه خبرا. {وَبَطَلَ:} معطوف على:

{مُتَبَّرٌ} . {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، أو مبتدأ مؤخر على نحو ما رأيت، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيء كانوا يعملونه. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، أو مبتدأ مؤخر، التقدير: وباطل عملهم. {كانُوا:}

ص: 614

ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَعْمَلُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، والجملة الاسمية:{إِنَّ هؤُلاءِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)}

الشرح: {قالَ أَغَيْرَ اللهِ..} . إلخ: أي: قال موسى-عليه السلام-لمن طلبوا إلها غير الله موبخا لهم، ومؤنبا: أطلب، وأبتدع لكم معبودا غير الله؟! {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ:} وهو فضلكم على عالمي زمانكم بكثير من النعم. ففيه تنبيه على سوء معاملتهم، حيث قابلوا النعم بالكفران، وقصدوا أن يشركوا بالله أخس شيء من مخلوقاته. {اللهِ:} انظر الآية رقم [87].

{الْعالَمِينَ:} انظر الآية رقم [54] وانظر شرح (غير) في الآية رقم [3] من سورة (التوبة).

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {أَغَيْرَ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي إنكاري. (غير): مفعول به مقدم، و (غير) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {أَبْغِيكُمْ:}

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به، وهو في الأصل مجرور بحرف جر، التقدير: أبغي لكم. فلما حذفت اللام؛ اتصل الضمير بالفعل، وانتصب به، والفاعل مستتر، تقديره:«أنا» . {إِلهاً:} تمييز. وقيل: حال. هذا؛ وجوز اعتبار (غير) منصوبا على الحال من: {إِلهاً،} وهذا هو المفعول به، و (غير) كان صفة:{إِلهاً،} فلما قدم عليه؛ صار حالا على القاعدة: «نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» وجملة: {أَغَيْرَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (هو): ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ {فَضَّلَكُمْ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {عَلَى الْعالَمِينَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الاسمية:{وَهُوَ..} . إلخ في محل نصب حال من الله، أو من ضمير المخاطبين، والرابط على الاعتبارين: الواو، والضمير، وجوز اعتبارها مستأنفة، والأول أقوى.

{وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}

الشرح: {وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ:} وقرئ: «(أنجاكم

)» إلخ وهذا الكلام مسوق من جهة موسى لبني إسرائيل الذين طلبوا منه إلها، وإسناد الإنجاء إليه على القراءة الأولى مجاز، وعلى الثانية ظاهر لا تجوز فيه، وما أحراك أن تنظر شرح هذه الآية كاملا في الآية رقم [49] (البقرة) مع إبدال:{يُذَبِّحُونَ} ب: {يُقَتِّلُونَ} ويقرأ الفعلان بالتشديد، والتخفيف. {وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ}

ص: 615

{رَبِّكُمْ عَظِيمٌ:} وفي الإنجاء، أو العذاب اختبار، وامتحان؛ إذ البلاء يطلق على النعمة، وعلى المحنة، فالله يختبر شكر عباده بالنعمة، وصبرهم بالمحنة، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال {وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ} . وانظر الآية رقم [168] الآتية. وانظر شرح:

{آلِ فِرْعَوْنَ} في الآية رقم [130] و {نِساءَكُمْ} في الآية رقم [127]. {بَلاءٌ:} إعلاله مثل إعلال: {السَّماءِ} في الآية رقم [97]. {رَبِّكُمْ:} انظر الآية رقم [3].

الإعراب: انظر الإعراب بكامله في الآية رقم [49] من سورة (البقرة).

{وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)}

الشرح: {وَواعَدْنا:} وقرئ: «(وعدنا)» : انظر (الوعد) في الآية رقم [44]. وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {مُوسى:} انظر الآية رقم [103]. {ثَلاثِينَ لَيْلَةً:} هي شهر ذي القعدة، وعبر عن الأيام بالليالي؛ لأنها غرر الشهور. {وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ:} وهي العشر الأول من ذي الحجة.

{فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً:} بلغ الميقات، أي: الموعد أربعين يوما، وقد ذكر سبحانه هذا العدد جملة في الآية رقم [51](البقرة) وفصله هنا.

قال المفسرون: إن موسى-عليه السلام-وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فيه بيان ما يأتون، وما يذرون، فلما هلك فرعون؛ سأل ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما، فصامها، فلما تمت ذهب إلى جبل الطور ليسأله ما طلب، وفي طريقه أنكر رائحة فمه التي حدثت من الصيام فاستاك بعود خرنوب، فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك، فأفسدته بالسواك، فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة، وقال له «أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك» ، فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام.

هذا؛ وإعلال: {مِيقاتُ} مثل إعلال: (ميزان) في الآية رقم [9]. {رَبِّهِ:} انظر الآية رقم [3].

{لَيْلَةً:} انظر الآية رقم [6/ 96]{وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ:} عند ذهابه إلى جبل الطور للمناجاة. {اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي:} كن خليفتي فيهم مرهم بالمعروف وانههم عن المنكر. وانظر (قوم) في الآية رقم [32]. {وَأَصْلِحْ} أي: ما يجب من إصلاح أمورهم، أو كن مصالحا. {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ:} ولا تتبع من سلك سبيل الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه. {سَبِيلَ:} يذكر ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ومن التأنيث قوله تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ} والجمع على التأنيث: سبول، وعلى التذكير: سبل. وانظر: {رُسُلٌ} في الآية رقم [35] فهو مثله.

ص: 616

الإعراب: {وَواعَدْنا:} الواو: حرف استئناف. (واعدنا): فعل، وفاعل. وانظر إعراب:

{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {مُوسى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف. {ثَلاثِينَ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {لَيْلَةً:} تمييز، وجملة {وَواعَدْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (أتممناها): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {بِعَشْرٍ:} متعلقان بما قبلهما. (تم): ماض.

{مِيقاتُ:} فاعل، وهو مضاف، و {رَبِّهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة {أَرْبَعِينَ:} حال، أي: تم بالغا هذا العدد. وقيل: هو مفعول به. وقيل: هو منصوب على الظرف

إلخ. {لَيْلَةً:} تمييز. {وَقالَ مُوسى:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها. {لِأَخِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {هارُونَ:} بدل أو عطف بيان من: (أخيه) مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {اُخْلُفْنِي:} أمر، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والفاعل مستتر تقديره:

«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {فِي قَوْمِي:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {وَأَصْلِحْ:} أمر، وفاعله مستتر فيه، والجملة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. (لا): ناهية جازمة. {تَتَّبِعْ:} مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {سَبِيلَ:} مفعول به، وهو مضاف، والمفسدين مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الفعلية:{وَلا تَتَّبِعْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ اُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)}

الشرح: {جاءَ:} انظر الآية رقم [4]. {مُوسى:} انظر الآية رقم [103]. {لِمِيقاتِنا:}

موعدنا، أي للوقت الذي وعدناه بالكلام فيه، وكان يوم الخميس، ويوم عرفة. {رَبُّهُ:} انظر الآية رقم [3]. {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {تَرانِي:} مضارع ماضيه: رأى،

ص: 617

فالقياس: ترأي، وقد تركت العرب الهمز في مضارعه لكثرته في كلامهم، وربما احتاجت إلى همزه، فهمزته، كما في قول سراقة بن مرداس البارقي:[الوافر]

أري عينيّ ما لم ترأياه

كلانا عالم بالتّرّهات

وربما جاء ماضيه بغير همز، وبه قرأ نافع في:{أَرَأَيْتَكُمْ،} و {أَرَأَيْتَ} إلخ «(أرأيتكم)» ، و «(أرأيت)» بدون همز، وقال الشاعر:[الخفيف]

صاح هل ريت أو سمعت براع

ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب؟

وإذا أمرت منه على الأصل قلت: ارء، وعلى الحذف: ره بهاء السكت، وقل في إعلال (ترى): أصله: ترأي، قلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وحذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على الراء للتخفيف. {اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ:} ثبت مكانه. {تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ:} ظهرت له عظمة الله، وتصدى له اقتداره، وأمره. وقيل: أعطى له حياة، ورؤية حتى رآه. {جَعَلَهُ دَكًّا:} مدكوكا مفتتا، وقرئ:«(دكاء)» أي: أرضا مستوية، وقرئ:«(دكا)» بضم الدال. {وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً:} سقط على الأرض مغشيّا عليه لهول ما رأى. {أَفاقَ:} الإفاقة: رجوع الفهم، والعقل إلى الإنسان بعد جنون أو سكر أو إغماء، ومنه: إفاقة المريض من مرضه. {سُبْحانَكَ:}

انظر الآية رقم [6/ 100]. {تُبْتُ إِلَيْكَ:} من الجرأة، والإقدام على السؤال بغير إذن.

{أَوَّلُ:} فيه مسائل: الأولى: الصحيح: أن أصله: أوأل بوزن أفعل، قلبت الهمزة الثانية واوا، ثم أدغمت بدليل قولهم في الجمع: أوائل. وقيل: أصله: ووّل بوزن فوعل، قلبت الواو الأولى همزة، وإنما لم يجمع على: أواول، لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.

هذا؛ ويجمع (أول) على: أواول كما يجمع جمع مذكر سالما: أولون، وأولين. وهو المستعمل، والشائع.

الثانية: الصحيح: أن «أول» لا يستلزم ثانيا، وإنما معناه ابتداء الشيء، ثم قد يكون له ثان، وقد لا يكون، تقول: هذا أول مال اكتسبته، وقد تكتسب بعده شيئا، وقد لا تكتسب. وقيل: إنه يستلزم ثانيا، كما أن الآخر يقتضي أولا، فلو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا؛ فأنت طالق، فولدت ذكرا، ولم تلد غيره؛ وقع الطلاق على الأول ولم يقع على الثاني.

الثالثة: ل «أول» استعمالان: أحدهما أن يكون صفة، أي: أفعل تفضيل بمعنى أسبق، فيعطى حكم أفعل التفضيل من منع الصرف، وعدم تأنيثه بالتاء، ودخول (من) عليه، نحو هذا أول من هذين، ولقيته عام أول. الثاني أن يكون اسما، فيكون مصروفا، نحو: لقيته عاما أولا، ومنه: ماله أول، ولا آخر. قال أبو حيان: في محفوظي: أن هذا يؤنث بالتاء، ويصرف أيضا، فيقال: آخرة وأوّلة بالتنوين. انتهى. همع الهوامع.

ص: 618

تنبيه: في الآية الكريمة التفات من التكلم في قوله: {لِمِيقاتِنا} إلى الغيبة في قوله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وانظر الالتفات في الآية رقم [6/ 6] وانظر (نا) في الآية رقم [7].

تنبيه: قال أهل التفسير، والأخبار: لما جاء موسى لميقات ربه؛ تطهر، وطهر ثيابه، وصام، ثم أتى طور سيناء، فأنزل الله تعالى ظلة غشيت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية وطرد عنه الشيطان، وهوام الأرض، ونحى عنه الملكين، وكشط له السماء، فرأى الملائكة قياما في الهواء، ورأى العرش بارزا، وأدناه ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح، وكلمه، وكان جبريل معه، فلم يسمع ذلك الكلام، فاستحلى موسى كلام ربه، فاشتاق إلى رؤيته، فقال:

{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} . وإنما سألها مع علمه بأنها لا تجوز في الدنيا؛ لما هاج به من الشوق، وفاض عليه من أنواع الجلال، واستغرق في بحر المحبة، فعند ذلك سأل الرؤية. انتهى. جمل.

قال البيضاوي: وهو-أي سؤال موسى ربه الرؤية-دليل على أن رؤيته جائزة في الجملة؛ لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصا ما يقتضي الجهل بالله، ولذلك رده بقوله:{لَنْ تَرانِي} دون لن أرى، أو لن تنظر إلي، تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على استعداد في الرائي، ولم يوجد فيه بعد، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} خطأ؛ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة؛ لوجب أن يجهلهم، ويزيح شبههم، كما فعل بهم حين {قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً} فقال لهم:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وكما قال لأخيه: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ؛ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته، إياه على ألا يراه أحد أبدا، وألا يراه غيره أصلا، فضلا عن أن يدل على استحالتها، ودعوى الضرورة فيه مكابرة، أو جهالة بحقيقة الرؤية. انتهى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [6/ 103]. ومعنى {أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بأنك لا ترى في الدنيا. وقيل: معناه: وأنا أول المؤمنين من بني إسرائيل. والأول أولى.

الإعراب: {وَلَمّا:} (لما): انظر الآية رقم [134] وجملة: {جاءَ مُوسى} انظر مثيلتها في الآية المذكورة، وما قيل فيها. {لِمِيقاتِنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة.

{وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ:} فعل ومفعول به وفاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {مُوسى} .

{رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب

إلخ. وانظر إعراب: {يا قَوْمِ} في الآية رقم [60]. {أَرِنِي:} فعل دعاء، مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والنون للوقاية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، وياء المتكلم مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: أرني نفسك. {أَنْظُرْ:} مضارع مجزوم بجواب الطلب، وهو في الأصل مجزوم بشرط محذوف، وفاعله مستتر فيه تقديره «أنا». {إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما، والجمل:{رَبِّ أَرِنِي}

ص: 619

{أَنْظُرْ إِلَيْكَ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و {فَلَمّا} ومدخولها كلام معطوف على جملة: (واعدنا

) إلخ لا محل لها مثلها. {قالَ:}

ماض، وفاعله يعود إلى (الله). {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {تُرِيَنِّي:} مضارع منصوب ب {لَنْ،} وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، واكتفى الفعل به؛ لأنه بصري، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَلكِنِ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك لا محل له.

{أَنْظُرْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِلَى الْجَبَلِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:

{وَلكِنِ انْظُرْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {فَإِنِ:}

الفاء: حرف تفريع. (إن): حرف شرط جازم. {اِسْتَقَرَّ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{الْجَبَلِ} . {مَكانَهُ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَسَوْفَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (سوف): حرف تسويف، واستقبال.

{تُرِيَنِّي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل تقديره:

«أنت» ، والنون للوقاية، والياء مفعول به، وهو بصري مثل سابقه، وجملة:{فَسَوْفَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط. والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. و (إن) ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ لَنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} انظر الآية رقم [134] لإعراب مثل ذلك. {جَعَلَهُ دَكًّا} فعل ماض ومفعولاه، والفاعل يعود إلى {رَبُّهُ،} والجملة الفعلية جواب (لمّا)، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. (خر): ماض. {مُوسى:} فاعل مرفوع

إلخ، {صَعِقاً:}

حال من موسى، وجملة:{وَخَرَّ..} . إلخ معطوفة على جواب لما لا محل لها مثله {فَلَمّا أَفاقَ قالَ..} . إلخ انظر إعراب مثل ذلك في الآية رقم [134] وهو كلام مستأنف لا محل له.

{سُبْحانَكَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الفعلية الحاصلة منه، ومن فعله المحذوف في محل نصب مقول القول. وهذا عند الخليل، وسيبويه. وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف، والأول أقوى.

{تُبْتُ:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. (أنا): ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَوَّلُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير. وقيل: مستأنفة، والأول أقوى.

ص: 620

{قالَ يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ (144)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {يا مُوسى:} انظر الآية رقم [103].

{اِصْطَفَيْتُكَ:} اخترتك، والاصطفاء: الاستخلاص، من الصفوة، والاجتباء. {عَلَى النّاسِ} أي: الموجودين في زمانك، وهارون وإن كان رسولا مثله، كان مأمورا باتباعه، ولم يكن كليما، ولا صاحب شرع. {بِرِسالاتِي:} بوحيي، وجمعت الرسالة لتنوع أحكامها، وتعاليمها.

وقرئ: «(برسالتي)» بالإفراد. بتكليمي إياك، فيكون مصدرا. ويحتمل أن يراد به التوراة، وما أوحاه الله إليه من قولهم، القرآن كلام الله. وقدم الرسالة على الكلام؛ لأنها أسبق، أو ليترقى إلى الأشراف. هذا؛ و (الكلام) يدل على أحد ثلاثة أمور:

أولها: الحدث الذي يدل عليه لفظ التكليم، فتقول: أعجبني كلامك زيدا، تريد تكليمك إياه.

وثانيها: ما يدور في النفس من خواطر، وهواجس، وكل ما يعبر عنه باللفظ لإفادة السامع ما قام بنفس المخاطب، فيسمى هذا الذي تخيلته في نفسك: كلاما في اللغة العربية، تأمل في قول الأخطل التغلبي:[البسيط]

لا يعجبنّك من خطيب خطبة

حتّى يكون مع الكلام أصيلا

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وثالثها: كل ما تحصل به الفائدة، سواء أكان ما حصلت به لفظا، أو خطّا، أو إشارة، أو دلالة حال، انظر إلى قول العرب:(القلم أحد اللسانين). وانظر إلى تسمية المسلمين ما بين دفتي المصحف: (كلام الله) ثم انظر إلى قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} وإلى قوله جلت حكمته: {قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً} ثم انظر إلى قول الشاعر الذي نفى الكلام اللفظي عن محبوبته، وأثبت لعينيها القول، وذلك في قوله:[الطويل]

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

إشارة محزون ولم تتكلّم

فأيقنت أنّ الطرف قد قال: مرحبا

وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم

ثم انظر إلى قول نصيب بن رباح: [الطويل]

فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

ص: 621

وانظر شرح (القول) في الآية رقم [5]. و {كَلِمَتُ} في الآية [137]. {فَخُذْ ما آتَيْتُكَ:} ما أعطيتك من الرسالة. {وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ:} على إنعامي عليك، وفي القصة: أن موسى عليه الصلاة والسلام، كان بعد ما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور، ولم يزل على وجهه برقع حتى مات، وقالت له زوجته: أنا لم أرك منذ كلمك ربك، فكشف لها عن وجهه، فأخذها مثل شعاع، فوضعت يدها على وجهها، وخرت ساجدة، وقالت: ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال: ذلك لك إن لم تتزوجي بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها انتهى. خازن. وانظر الآية رقم [10] لشرح {تَشْكُرُونَ} .

الإعراب: {قالَ يا مُوسى:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [134]. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {اِصْطَفَيْتُكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. وانظر إعراب:

{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {عَلَى النّاسِ:} متعلقان بما قبلهما. {بِرِسالاتِي:} متعلقان بمحذوف حال من الكاف، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {وَبِكَلامِي:} جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما، وجملة:{اِصْطَفَيْتُكَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها {فَخُذْ} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38]. (خذ): فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {ما:}

تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {آتَيْتُكَ:}

فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: خذ الذي أو شيئا آتيتك إياه، وجملة:{فَخُذْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم: التقدير: وإذا كان ذلك واقعا؛ فخذ

إلخ، ومجموع الكلام في محل نصب مقول القول. (كن): أمر ناقص، واسمه مستتر تقديره:«أنت» ، {مِنَ الشّاكِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: (كن)، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها باعتبار، وهي في محل نصب مقول القول باعتبار آخر. تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)}

الشرح: {وَكَتَبْنا لَهُ:} لموسى، ولقومه. وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {فِي الْأَلْواحِ:}

ألواح التوراة، وقد اختلف في عددها، وفي مادتها، فقيل: كانت سبعة. وقيل: عشرة. وقيل:

كانت اثنين، طول اللوح اثنا عشر ذراعا، وكانت من زمرد، أو زبرجد، أو ياقوت أحمر، أو من صخرة صماء لينها الله لموسى يطويها كيف يشاء. {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ:} مما يحتاجون إليه من أمر

ص: 622

الدين، والدنيا. وانظر شرح:{شَيْءٍ} في الآية رقم [85]. {مَوْعِظَةً:} هي كلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين. {وَتَفْصِيلاً:} تبيينا للأحكام وانظر الآية رقم [52].

{فَخُذْها بِقُوَّةٍ:} خذ الألواح، أو ما فيها من التعاليم والتشريع بجد واجتهاد. هذا؛ وأصل (خذ) أؤخذ، لكن لم يستعمل على الأصل، وحذفت الهمزتان تخفيفا لاجتماع الضمات، وهذا الحذف واقع في الأمر المأخوذ من (أمر وأكل) فيقال: مر وكل، وقد قالوا: اؤمر واؤخذ، فاستعمل على الأصل، ومنه {وَأْمُرْ} في هذه الآية وفي الآية رقم [132] من سورة (طه)، والآية رقم [17] من سورة (لقمان).

{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها:} المراد بأحسن ما فيها، وذلك كالعفو والقود، والصبر على الإيذاء والانتصار من المؤذي، والمأمور به، والمباح، فأمروا أن يأخذوا بما هو أكثر ثوابا، وإن كان فيه مشقة على النفس. هذا؛ وقد قيل: إن (أحسن) بمعنى: (حسن). وانظر (قوم) في الآية رقم [32]. {سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} أي: دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها، أو دار عاد وثمود وأضرابهم؛ لتعتبروا فلا تفسقوا. هذا؛ وقد قرئ «(سأوريكم)» بمعنى: سأبين لكم من أوريت الزند، وقرئ «(سأورثكم)» ويؤيده نص الآية رقم [137] هذا؛ وانظر شرح:{دارِهِمْ} في الآية رقم [78]. {الْفاسِقِينَ:} الكافرين المعاندين. هذا؛ وأصل الفسق: الخروج عن القصد، والفاسق في الشرع: الخارج عن أوامر الله تعالى بارتكاب المعاصي، وله ثلاث درجات.

الأولى: التغابي، وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إياها، والثانية: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها، والثالثة: الجحود، وهو أن يرتكب الكبيرة مستصوبا إياها، فإذا شارف هذا المقام، وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر، وما دام في درجة التغابي، أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن؛ لاتصافه بالتصديق، الذي هو مسمى الإيمان. انتهى. بيضاوي.

تنبيه: يفهم من قوله تعالى: {وَكَتَبْنا لَهُ} أن الله تعالى خط التوراة في الألواح بيده، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده» . وروي أنه لم يحفظ التوراة عن ظهر قلب إلا أربعة نفر: موسى ويوشع بن نون، وعزير، وعيسى على نبينا وعليهم الصلاة والسّلام، وذلك لعظم حجمها، وكثرة الأحكام فيها، انظر ما ذكرته في الآية رقم [258] من سورة (البقرة)، والآية رقم [31] من سورة (التوبة). هذا؛ وفي قوله {سَأُرِيكُمْ} التفات إلى الخطاب بعد الغيبة، انظر الآية رقم [6] من سورة (الأنعام).

الإعراب: (كتبنا): فعل، وفاعل. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فِي الْأَلْواحِ:}

متعلقان بما قبلهما. {مِنْ كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما في محل نصب مفعول به، وإن اعتبرت {مِنْ} صلة يظهر لك ذلك جليّا، و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه.

ص: 623

{مَوْعِظَةً:} بدل من محل {مِنْ كُلِّ} . {وَتَفْصِيلاً:} معطوف على ما قبله. {لِكُلِّ:} متعلقان ب (تفصيلا) لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه.

{فَخُذْها:} الفاء: حرف عطف وتعقيب. (خذها): أمر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و (ها):

مفعول به، والجملة الفعلية مقولة لقول محذوف، التقدير: فقلنا له: خذها. {بِقُوَّةٍ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية هذه معطوفة على جملة (كتبنا

) إلخ لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف والثانية بالإتباع، وجملة:{وَأْمُرْ قَوْمَكَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {يَأْخُذُوا:} مضارع مجزوم بجواب الأمر، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، وعلامة الجزم حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها باعتبارها جوابا للطلب، وهي داخلة في مقول القول. {بِأَحْسَنِها:}

متعلقان بما قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {سَأُرِيكُمْ:} السين: حرف تنفيس واستقبال.

(أريكم): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:

«أنا» ، والكاف مفعول به أول. {دارَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْفاسِقِينَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ، والمفعول الثالث محذوف التقدير: خاوية ونحوه، وجملة:{سَأُرِيكُمْ دارَ..} . إلخ لا محل لها باعتبارها مستأنفة، وهي داخلة في مقول القول المقدر.

{سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146)}

الشرح: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ:} المراد ب: {آياتِيَ} ما كتب في ألواح التوراة، أو ما يعمها وغيرها، وهو الأرجح، فمعنى الصرف الطبع على قلوبهم بحيث لا يفهمونها. وقيل: المراد بها: المنصوبة في الأنفس والآفاق، {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ..}. إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-يريد الذين يتجبرون على عبادي، ويحاربون أوليائي سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها حتى لا يؤمنوا بي، عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم الحق. انتهى خازن. وانظر شرح:

{آياتِيَ} في الآية رقم [9] وشرح: {الْحَقِّ} في الآية رقم [33]. {يَرَوْا:} انظر الآية رقم [138] و [143] لإعلال مثله.

{لا يُؤْمِنُوا بِها:} لا يصدقوا، ولا يعترفوا بها. وانظر الإيمان في الآية رقم [2]. {سَبِيلَ:} انظر الآية رقم [141]. {الرُّشْدِ:} يقرأ بضم الراء وسكون الشين، وبفتحهما، كما يقرأ «(الرشاد)» والكل بمعنى طريق الحق والهدى والسداد والصواب، وعكسه الغي، ومعنى {لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} لا يسلكون طريق الرشاد إلى الهداية، بل يسلكون طريق الضلال والفساد. {ذلِكَ}

ص: 624

{بِأَنَّهُمْ..} . إلخ: أي ذلك الصرف. وقيل: ذلك الذي اختاروه لأنفسهم من ترك الرشد واتباع الغي بسبب تكذيبهم بآيات الله، وعدم تدبرهم لها والاتعاظ بها، والمعتمد الأول، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {سَأَصْرِفُ:} مضارع والفاعل مستتر تقديره: «أنا» ، والسين حرف تنفيس واستقبال.

{عَنْ آياتِيَ:} متعلقان بما قبلهما، والإعراب مثل {بِرِسالاتِي} {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ} صلة الموصول لا محل لها، {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أي حال كونهم ملتبسين بالدين غير الحق، و (غير): مضاف، و {الْحَقِّ:} مضاف إليه. (إن): حرف شرط جازم. {يَرَوْا:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {آيَةٍ:} مضاف إليه. {لا:} نافية. {يُؤْمِنُوا:} مضارع جواب الشرط مجزوم

إلخ، والواو فاعله. {بِها:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{لا يُؤْمِنُوا بِها} لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على جملة الصلة لا محل له مثلها، وإعراب ما بعدها مثلها، والكلام معطوف كله على جملة الصلة. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور:{بِأَنَّهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبره، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وجوز اعتبار:

{ذلِكَ} في محل نصب، ثم اختلف في ذلك.

فقال الزمخشري: التقدير: صرفهم الله ذلك الصرف. مفعولا مطلقا، أي: مصدرا، وقال ابن عطية، التقدير: فعلنا ذلك. فجعله مفعولا به، وعلى الوجهين فالباء في {بِأَنَّهُمْ..} . إلخ متعلقة بذلك المحذوف. انتهى جمل نقلا عن السمين، وقد تصرفت فيه. {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا..} . إلخ انظر إعراب هذا الكلام بكامله في الآية رقم [136].

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا:} أنكروها، ولم يصدقوا بها. وانظر المراد من (الآيات) في الآية السابقة. {الْآخِرَةِ:} انظر الآية رقم [45]. المعنى كذبوا بوجود الآخرة، وما فيها، وأصل (لقاء):(لقاي) فإعلاله مثل إعلال (سماء) في الآية رقم [96]. وانظر إعلال: {تِلْقاءَ} في الآية رقم [47]. {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ:} ذهب ثواب أعمالهم لعدم وجود الشرط، وهو الإيمان،

ص: 625

كما أفادته آيات كثيرة في القرآن الكريم. {هَلْ:} استفهام بمعنى النفي، أي: ما يجزون إلا ما يستحقون من الثواب، أو العقاب، وهو المراد هنا. هذا؛ وانظر شرح:{يُجْزَوْنَ} في الآية رقم [120] من سورة (الأنعام).

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها. (لقاء): معطوف على آياتنا مجرور مثله، و (لقاء): مضاف، و {الْآخِرَةِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير، ولقائهم الآخرة. {حَبِطَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {أَعْمالُهُمْ:}

فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، و «قد» مقدرة قبلها. {هَلْ:} حرف استفهام بمعنى (ما).

{يُجْزَوْنَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، وهي المفعول الأول.

{إِلاّ:} حرف حصر. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، وهي على الأولين مفعول به ثان، وعلى الثالث تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به ثان. وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [139] قال الواحدي: ولا بد من تقدير محذوف، أي: إلا بما كانوا، أو جزاء ما كانوا، قال الجمل قلت: لأن نفس ما كانوا يعملونه لا يجزون بمقابله، وهو واضح. انتهى. نقلا عن السمين.

{وَاِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اِتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148)}

الشرح: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ} أي: من بعد ذهابه إلى المناجاة. وانظر: {قَوْمُ} في الآية رقم [32] وشرح: {مُوسى} في الآية رقم [103]. {حُلِيِّهِمْ} أي: التي استعاروها من قوم فرعون حين هموا بالخروج من مصر بأمر من موسى عليه السلام فبقى عندهم بعد هلاك فرعون وقومه على سبيل الغنيمة، فلذلك نسبه الله إلى بني إسرائيل، فلما أبطأ موسى عليهم بسبب زيادة الأيام العشرة التي مر ذكرها، جمع السامري ذلك الحلي، وكان رجلا مطاعا فيهم، وكان صائغا، فصاغ لهم {عِجْلاً جَسَداً} من ذلك الحلي، وألقى في جوفه من تراب أثر فرس جبريل، فتحول عجلا جسدا. هذا؛ وقد نسب الفعل إلى الجميع مع كون المتخذ واحدا؛ لأنه كان برضاهم، فكأنهم أجمعوا عليه، وسيأتي تفصيل ذلك في سورة طه إن شاء الله تعالى. هذا؛ وأصل:{حُلِيِّهِمْ} (حلويهم) اجتمعت الواو والياء، وسبقت الواو بالسكون، فقلبت ياء، وأدغمت في الياء، وكسرت اللام لأجل الياء. هذا؛ وقرئ بكسر الحاء، كما قرئ بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء. {لَهُ خُوارٌ:} هذا صوت البقر خاصة، وقد يستعار للبعير،

ص: 626

والخوار: الضعف، قيل: إنه خار مرة واحدة، وقيل إنه كان يخور كثيرا، وكلما خار سجدوا له، وإذا سكت رفعوا رءوسهم، قيل: كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك. وقيل: كان يخور ويمشي، وسيأتي بسط ذلك في سورة (طه) إن شاء الله تعالى. هذا؛ وقرئ «(جوار)» وهو الصوت الشديد.

{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ..} . إلخ، هذا توبيخ للذين عبدوا العجل، والصحيح أن بعضهم عبدوه، وقد خرج الكلام على الأغلب، والمعنى: ألم ينظروا، أو ألم يعلموا حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام، ولا على إرشاد، ومن كان كذلك كان جمادا، أو حيوانا ناقصا عاجزا لا يصالح للعبادة.

وانظر (الكلام) في الآية رقم [143] و {سَبِيلاً} في الآية رقم [142]. {اِتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ} أي: لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى، واشتغلوا بعبادة العجل الذي لا يضر ولا ينفع، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن المنكر. هذا؛ وانظر الظلم في الآية رقم [6/ 146] وانظر إعلال:{يَرَوْا} في الآية رقم [143].

الإعراب: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ:} فعل، وفاعل، و {قَوْمُ:} مضاف، و {مُوسى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وإن اعتبرت {مِنْ} صلة، فيكون {بَعْدِهِ} ظرفا متعلقا بالفعل قبله، والمعنى لا يأباه، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ حُلِيِّهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما أيضا، وإن اعتبرتهما متعلقين بمحذوف حال من {عِجْلاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، فلست مفندا؛ والهاء في محل جر بالإضافة. {عِجْلاً:} مفعول به. {جَسَداً:} بدل مما قبله، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إلها. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {خُوارٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صفة {جَسَداً} وقيل: صفة: {عِجْلاً،} والأول أقوى عندي؛ لأن الثاني يقتضي أن يكون {جَسَداً} صفة: {عِجْلاً،} واعتباره بدلا أرجح. {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. (لم): حرف جازم. {يَرَوْا:} مضارع مجزوم ب: (لم

) إلخ، والواو فاعله. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وجملة:{لا يُكَلِّمُهُمْ} في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول، أو مفعولي الفعل قبله، وجملة:{وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع خبر مثلها، وجملة (اتخذ

) إلخ قال الجمل: عطف قصة على قصة. ولا أرى وجها لذلك.

فالأولى اعتبارها مستأنفة، وكذلك جملة {أَلَمْ يَرَوْا..} . إلخ مستأنفة، أو معترضة بين المؤكّد والمؤكّد، وهي جملة:{اِتَّخَذُوهُ} مع المفعول الثاني المحذوف، وهو (إلها) (كانوا): ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {ظالِمِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ، وجملة (كانوا

) إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، و «قد» قبلها مقدرة؛ لتقرب الماضي من الحال. تأمل، وتدبر وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 627

{وَلَمّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)}

الشرح: {وَلَمّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ:} كناية عن اشتداد ندمهم، فإن النادم المتحسر يعض يده غمّا فتصير يده مسقوطا فيها، وقرئ:«(سقط)» بالبناء للفاعل، بمعنى وقع العض فيها. وقيل:

معناه: سقط الندم في أنفسهم. وهذا التركيب لم تعرفه العرب، إلا بعد نزول القرآن، وخصت اليد بالذكر؛ لأن مباشرة معظم الذنوب بها، فالملامة ترجع عليها؛ لأنها الجارحة العظمى، فيسند إليها ما لم تباشره، كقوله تعالى {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ} وانظر:{يَدَهُ} في الآية رقم [108]. {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} أي: وأيقنوا: أنهم على الضلالة في عبادتهم العجل. {قالُوا:} انظر الآية رقم [5] لشرحه، وإعرابه. {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا} أي: بالتوبة علينا، والعفو عنا. {الْخاسِرِينَ} أي: غير الرابحين، وأي خسران أعظم من خسارة الجنة، والحرمان من نعيمها الذي لا ينقطع؟!

هذا؛ وقد قيل في تفسير (الخسران): أنه جعل لكل واحد من بني آدم منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله منازل الكفار التي في الجنة للمؤمنين، وجعل منازل المؤمنين التي في النار للكفار، فذلك هو الخسران: هذا؛ وقد قرئ الفعلان: «يرحمنا» و «(يغفر)» بتاء المضارعة. وقرئ: «ربنا» على النداء. وانظر الآية رقم [3]. هذا؛ وإعلال (رأوا) مثل إعلال (أتوا) في الآية [138].

الإعراب: {وَلَمّا:} (لما): انظر الآية رقم [134]. {سُقِطَ:} ماض مبني للمجهول. {فِي أَيْدِيهِمْ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وعلى قراءة الفعل بالبناء للفاعل، يكون الفاعل مستترا تقديره: سقط الندم. قاله الزجاج، وقال الزمخشري: سقط العض، وقال ابن عطية:

سقط الخسران، والخيبة، وقرأ ابن أبي عبلة:«(أسقط)» رباعيّا مبنيّا للمفعول، والجملة الفعلية:

{سُقِطَ..} . إلخ انظر محل مثلها في الآية رقم [133]. (رأوا): ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وجملة:{قَدْ ضَلُّوا} في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول، أو مفعولي الفعل (رأوا)، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {قالُوا:} فعل، وفاعل. {لَئِنْ:}

حرف شرط جازم: واللام موطئة لقسم محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. {لَمْ:} حرف جازم. {يَرْحَمْنا:} مضارع مجزوم ب {لَمْ،} و (نا): مفعول به. {رَبُّنا:} فاعل، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل

ص: 628

لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي. {وَيَغْفِرْ:} مضارع معطوف على ما قبله، وفاعله يعود إلى ربنا. {لَنا:} متعلقان بما قبلهما. {لَنَكُونَنَّ:} مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، واسمه ضمير مستتر وجوبا تقديره:«نحن» . {مِنَ الْخاسِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبره، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المحذوف، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، انظر الآية رقم [99]. هذا؛ وعلى قراءة الفعلين بالتاء يكون الفاعل مستترا تقديره:«أنت» ، ويكون {رَبُّنا} منادى حذف منه حرف النداء، والكلام على القراءتين، وعلى الإعرابين في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب لما لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله في الآية السابقة لا محل له مثله. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَمّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ اِبْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اِسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (150)}

الشرح: {وَلَمّا رَجَعَ مُوسى..} . إلخ: رجع من طور سيناء. {غَضْبانَ:} لما فعلوه من عبادة غير الله، وكان الله سبحانه قد أخبره بذلك قبل رجوعه، كما سيأتي في سورة (طه)، وتعرفه إن شاء الله تعالى. هذا؛ و (رجع) يستعمل لازما كما في الآية، ومتعديا، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ..} . إلخ. {مُوسى:} انظر الآية رقم [102]. {قَوْمِهِ:} انظر الآية رقم [32]. {أَسِفاً:} قال أبو الدرداء: الأسف: أشد الغضب، وقال ابن عباس، والسدي:

الأسف: الحزن، والأسيف: الحزين. قال الواحدي: والقولان متقاربان؛ لأن الغضب من الحزن، والحزن من الغضب، فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت، وإذا جاءك ما تكره ممن هو فوقك حزنت. انتهى. خازن بتصرف. {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} أي: بئس الفعل فعلتموه بعد ذهابي إلى مناجاة ربي! وهذا الخطاب يحتمل أن يكون لعبدة العجل من السامري، وأتباعه، أو لهارون، والمؤمنين الذين لم يعبدوا العجل، ويكون المراد: حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى. هذا؛ وانظر شرح (بئس) في الآية رقم [41] الأنفال {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي: أسبقتم بعبادة العجل ما أعطاني ربكم من التوراة التي فيها الهدى، والنور، وظننتم موتي لتأخري عليكم، فغيرتم، وبدلتم.

{وَأَلْقَى الْأَلْواحَ} أي: على الأرض طرحها من شدة الغضب حمية للدين، فتكسرت، وكانت سبعة ألواح، فرفع منها ستة أسباع بسبب الكسر، وبقي سبع واحد، فرفع منها ما كان من أخبار

ص: 629

الغيب، وبقي ما فيها من المواعظ والأحكام والحلال والحرام. وينبغي أن تعلم أن موسى عليه السلام لم يلق الألواح على الأرض، ولم يغضب الغضب الشديد حين أخبره ربه مع تصديقه بذلك كما فعل، وغضب حين عاين ذلك، وشاهده. وهذا كما قيل: ليس الخبر كالمعاينة.

{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ:} بشعر هارون. {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ:} توهما بأنه قصر في وعظهم، مع أنه بذل جهده في ذلك، كما تفيده سورة (طه) ولكنهم كانوا قوما مجرمين، فخاف منهم، لما هددوه وكان أكبر من موسى بثلاث سنين، وكان لطيفا لينا، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى. {قالَ ابْنَ أُمَّ:} ذكر الأم مع كونهما لأب، وأم؛ ليرققه، ويستعطفه عليه، وقرئ:«(يا بن أم)» كما قرئ «(أمي)» وانظر أوجه الإعراب: {إِنَّ الْقَوْمَ} أي: الذين عبدوا العجل. {اِسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي:} إزاحة لتوهم التقصير في حقه، والمعنى: بذلت وسعي في وعظهم، ونصحهم، حتى قهروني، وقاربوا قتلي. وانظر شرح:{يَكادُ} في الآية رقم [20](البقرة) تجد ما يسرك، وأيضا رقم [118] (التوبة). {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ:} والمعنى: لا تفعل بي ما يسر أعدائي، وأصل الشماتة: الفرح بمصيبة من تعاديه، ويعاديك، يقال: شمت فلان بفلان: إذا سر بمكروه نزل به، وهي من خلق اللئام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال:«لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك» . وكان يتعوذ منها ويقول: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء» . والفعل: (شمت، يشمت) من باب سلم، يسلم، وهو في الآية من الرباعي المتعدي بالهمزة، وقرئ بفتح التاء، والميم من الثلاثي، ورفع (الأعداء). وانظر شرح:

{عَدُوٌّ} في الآية رقم [22]. {وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} أي: لا تجعلني في عداد الذين عبدوا العجل. وانظر: (الظلم) في الآية رقم [146] من سورة (الأنعام).

الإعراب: (لمّا): انظر الآية رقم [134]. {رَجَعَ:} ماض. {مُوسى:} فاعل مرفوع

إلخ.

{إِلى قَوْمِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {غَضْبانَ أَسِفاً:} حالان من:

{مُوسى} ومن لا يجيز تعدد الحال يعتبر: {أَسِفاً} حالا من الضمير المستتر في: {غَضْبانَ} لأنه صفة مشبهة، فتكون حالا متداخلة. وقيل: بدل منه، ولا وجه له، وجملة:{رَجَعَ..} . إلخ لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. (قال): ماض، وفاعله يعود إلى موسى. (بئس): فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله مستتر. (ما): نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على التمييز، المفسر لفاعل (بئس) المستتر، التقدير:

بئس الشيء شيئا. هذا؛ وجوز اعتبار (ما) اسما موصولا مبنيّا على السكون في محل رفع فاعل بئس. {خَلَفْتُمُونِي:} ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم، فتولدت واو الإشباع، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية صفة (ما) أو صلتها، والرابط، أو العائد محذوف، والمخصوص بالذم محذوف، وتقدير الكلام: بئس

ص: 630

الخلافة خلافة خلفتمونيها خلافتكم هذه؛ حيث أشركتم. {مِنْ بَعْدِي:} متعلقان بما قبلهما.

وانظر إعراب: {بِرِسالاتِي} وجملة: {بِئْسَما..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على (ما) قبله لا محل له مثله. {أَعَجِلْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. (عجلتم): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {أَمْرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {رَبِّكُمْ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. (ألقى): ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{مُوسى} . {الْأَلْواحَ:} مفعول به، وجملة:{وَأَلْقَى الْأَلْواحَ} معطوفة على جواب (لمّا) لا محل لها مثله. (أخذ): ماض، وفاعله يعود إلى:{مُوسى} . {بِرَأْسِ:} متعلقان به، ورأس مضاف، و {أَخِيهِ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره، الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَأَخَذَ..} . إلخ معطوفة على جواب:

(لمّا)، وجملة:{يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} في محل نصب حال من فاعل (أخذ)، أو من (رأس أخيه)، وعلى الاعتبارين فالرابط الضمير فقط. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى:{أَخِيهِ،} {اِبْنَ:} منادى حذف منه أداة النداء، و {اِبْنَ:} مضاف، و {أُمَّ:} مضاف إليه، فعلى قراءته بالكسر يكون مجرورا، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وعلى قراءته بالفتح تكون الياء قد قلبت ألفا، ثم حذفت للتخفيف، والفتحة على الميم دليل عليها، والفتحة حركة إعراب كالكسرة قبل الميم عند الكوفيين، وهي عند البصريين فتحة بناء لتركبهما تركيب خمسة عشر، وكذا الكسرة عندهم كسرة بناء، وعلى قولهم: فليس (ابن) مضافا ل (أم)، بل هو مركب معها، وأرجح قول الكوفيين في مثل هذا التركيب. والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْقَوْمَ:} اسمها، وجملة:{اِسْتَضْعَفُونِي} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، وهي بمنزلة جواب لسؤال مقدر. (كادوا): ماض ناقص من أفعال المقاربة مبني على الضم. والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَقْتُلُونَنِي:} مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر كاد، وجملة:

{وَكادُوا..} . إلخ في محل رفع معطوفة على خبر: {إِنَّ} . {فَلا} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38](لا): ناهية. {تُشْمِتْ:} مضارع مجزوم ب (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» .

{بِيَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْأَعْداءَ:} مفعول به، وعلى القراءة بفتح التاء والميم ف:{الْأَعْداءَ} فاعله، وجملة:{فَلا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكرته صحيحا وواقعا؛ فلا

إلخ، وهذا الكلام في محل نصب مقول القول. (لا): ناهية. {تَجْعَلْنِي:} مضارع مجزوم ب (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون

ص: 631

للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة مقول القول. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، وهو مضاف، و {الْقَوْمَ:} مضاف إليه.

{الظّالِمِينَ:} صفة {الْقَوْمَ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{قالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ (151)}

الشرح: {قالَ:} انظر الآية رقم [5]. {رَبِّ:} انظر الآية رقم [3]. {اِغْفِرْ لِي:} ما صنعت بأخي، وما فعلت من إلقاء الألواح وذلك لما تبين له عذر أخيه، وسكن غضبه.

{وَلِأَخِي} أي: واغفر لأخي تقصيره في عدم منعهم من عبادة العجل، فقد ضمه إلى نفسه في الاستغفار ترضية له، ودفعا للشماتة عنه. {فِي رَحْمَتِكَ} أي: الواسعة. وانظر الآية رقم [155].

{وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ:} ففيه ترغيب في الدعاء؛ لأن أرحم الراحمين تؤمل منه الرحمة، وفيه تقوية لطمع الداعي في نجاح طلبته.

الإعراب: {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء، ويجوز فيه ما جاز في {يا قَوْمِ} في الآية رقم [60] من أوجه، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {اِغْفِرْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. (لأخي): جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما، وإعرابهما مثل إعراب:

{بِرِسالاتِي} في الآية رقم [144]. (أدخلنا): فعل دعاء مبني على السكون، والفاعل (أنت) و (نا) مفعول به {فِي رَحْمَتِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، والجمل كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَأَنْتَ:} الواو: واو الحال. (أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَرْحَمُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الرّاحِمِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة

إلخ، والجملة الاسمية: (أنت

) إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير، والاستئناف ممكن، والأول أقوى، تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِنَّ الَّذِينَ اِتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ:} إلها من دون الله. {سَيَنالُهُمْ:} سيصيبهم، وينزل عليهم، وهذا النيل قد وقع قبل نزول هذه الآية، ووجه الاستقبال فيه: أن هذا الكلام خبر، عما أخبر الله به موسى حين أخبره بافتتان قومه، واتخاذهم العجل، فيكون هذا الكلام من مقول الله

ص: 632

تعالى. وقيل: هذا الكلام من تمام كلام موسى عليه السلام، أخبر الله-عز وجل-به عنه، ثم قال تعالى:{وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} وكان هذا القول من موسى قبل أن يتوب الله عليهم بقتلهم أنفسهم، فإنهم لما تابوا، وعفا الله عنهم بعد أن جرى القتل العظيم فيهم أخبرهم أن من مات منهم قتيلا فهو شهيد، ومن بقي حيّا؛ فهو مغفور له. انتهى. قرطبي. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [54] (البقرة). {رَبِّهِمْ:} انظر الآية رقم [3].

{وَذِلَّةٌ:} فعذبوا بالأمر بقتل أنفسهم، وضربت عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم القيامة.

وانظر الآية رقم [61](البقرة) تجد ما يسرك. {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا:} انظر الآية رقم [6/ 29].

{الْمُفْتَرِينَ} أي: على الله، ولا فرية أعظم من فريتهم، وهي قولهم:{هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ} ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم، ولا بعدهم.

هذا؛ وقال أبو قلابة: الذلة والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة! وقال سفيان بن عيينة: هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة. وقال الإمام مالك-رضي الله عنهم أجمعين-: ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلك، ثم قرأ هذه الآية، وقال: والمبتدع مفتر في دين الله. وانظر:

{نَجْزِي} في الآية رقم [120] من سورة (الأنعام).

تنبيه: روي أن موسى-عليه السلام-أمر بذبح العجل، فجرى منه دم، ثم حرقه، ثم ذراه في البحر، كما جاء في سورة (طه):{لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} .

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، وجملة:{اِتَّخَذُوا الْعِجْلَ} صلة الموصول لا محل لها، والعائد واو الجماعة.

{سَيَنالُهُمْ:} مضارع، والسين حرف استقبال، والهاء مفعول به. {غَضَبٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول إن كانت من كلام موسى، ومستأنفة إن كانت من مقول الباري، جل علاه. {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان ب: {غَضَبٌ} لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له. (ذلة): معطوفة على: {غَضَبٌ} . {فِي الْحَياةِ:} متعلقان ب (ذلة)، أو بمحذوف صفة له. {الدُّنْيا:} صفة: {الْحَياةِ} مجرورة، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر (كذلك) الكاف: حرف تشبيه، وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير:

نجزي المفترين جزاء كائنا مثل ذلك الجزاء. {نَجْزِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْمُفْتَرِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة؛ إن كان ما قبلها من كلام موسى، وكذا إن كان من مقول الباري، جل علاه.

ص: 633

{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)}

الشرح: {السَّيِّئاتِ:} من الكفر، والمعاصي. وانظر:{السَّيِّئَةِ} في الآية رقم [95].

{ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها:} رجعوا إلى الله بالتوبة من بعد السيئات، و {وَآمَنُوا:} واشتغلوا بالإيمان، وعملوا بمقتضاه. {إِنَّ رَبَّكَ:} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل إنسان تائب. {مِنْ بَعْدِها:} من بعد التوبة. {لَغَفُورٌ:} صيغة مبالغة. {رَحِيمٌ:} صيغة مبالغة أيضا. وانظر الآية [155].

{ثُمَّ:} انظر الآية رقم [103]. {وَآمَنُوا:} انظر الإيمان في الآية رقم [2]. {رَبَّكَ:} انظر الآية رقم [3].

تنبيه: أفادت الآية الكريمة: أن السيئات صغيرها، وكبيرها مشتركة في التوبة، وإن الله تعالى يغفرها جميعا بفضله، ورحمته، وهذا من أعظم البشائر للمذنبين التائبين. هذا؛ وانظر الآية رقم [17] النساء تجد ما يسرك.

الإعراب: (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {عَمِلُوا:} ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5].

{السَّيِّئاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{عَمِلُوا..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{تابُوا مِنْ بَعْدِها} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها، وكذا جملة:(آمنوا) مع المتعلق المحذوف معطوفة أيضا. {إِنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْدِها:} متعلقان بما بعدهما على الاشتغال. {لَغَفُورٌ:} خبر: {إِنَّ،} واللام هي المزحلقة. {رَحِيمٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والرابط محذوف، التقدير: لغفور لهم، رحيم بهم. هذا؛ وإن اعتبرت الخبر محذوفا، تقديره: توبتهم مقبولة، فتكون الجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}

الشرح: {سَكَتَ:} سكن، وقرئ به، كما قرئ:«(أسكت)» ونصب: «(الغضب)» .

{مُوسَى:} انظر الآية رقم [102]. {الْغَضَبُ:} تغير مزاج الإنسان، واحمرار عينه، وانتفاخ أوداجه، وهو مذموم إلا إذا كان لله، وهذا شأن الأنبياء، فكانوا لا يغضبون إلا إذا انتهكت حرمات الله.

ص: 634

قال البيضاوي: سكت غضب موسى بسبب اعتذار هارون، أو بتوبتهم. وفي هذا الكلام مبالغة، وبلاغة من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل، كالامر به، والمغري عليه حتى عبر عن سكونه بالسكوت. وقال عكرمة: هو من المقلوب، والأصل سكت موسى عن الغضب. ولا وجه له. {أَخَذَ الْأَلْواحَ:} ألواح التوراة التي ألقاها على الأرض. {وَفِي نُسْخَتِها:}

النسخ: عبارة عن النقل والتحويل، فإذا نسخت كتابا من كتاب حرفا بحرف، فقد نقلت ما في الأصل إلى الفرع. هذا؛ والنسخ إزالة الصورة عن الشيء، وإثباتها في غيره. وانظر الآية رقم [106] (البقرة) فقيل: لما تكسرت الألواح صام موسى أربعين يوما، فردت عليه، وأعيدت تلك الألواح في لوحين ولم يفقد منها شيئا. ذكره ابن عباس-رضي الله عنهما.

وقال عطاء: فيما بقي منها، وذلك: أنه لم يبق منها إلا سبعها، وذهب ستة أسباعها، ولكن لم يذهب من الحدود، والأحكام شيء، وهذا ما ذكرته في الآية رقم [150]. {هُدىً} أي: من الضلالة. وانظر إعلاله في الآية رقم [6/ 91]. {وَرَحْمَةٌ} أي: من العذاب. وانظر الآية رقم [156]. {لِرَبِّهِمْ:} انظر الآية رقم [3]. {يَرْهَبُونَ:} يخافون؛ إذ الرهبة الخوف. وانظر لطيفة في الآية رقم [203] الآتية.

الإعراب: {وَلَمّا:} (لمّا): انظر الآية رقم [134]. {سَكَتَ:} ماض. {عَنْ مُوسَى:} متعلقان بما قبلهما. {الْغَضَبُ:} فاعله، وعلى قراءة:«(أسكت)» فالفاعل محذوف، تقديره:(الله)، أو أخوه، أو الذين تابوا. انتهى. بيضاوي، فيكون الغضب بالنصب مفعولا به، وجملة:{سَكَتَ..} .

إلخ لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، وجملة:{أَخَذَ الْأَلْواحَ} جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{وَفِي نُسْخَتِها:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (ها): في محل جر بالإضافة. {هُدىً:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المقصورة، المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الألواح، والرابط: الواو، والضمير. {وَرَحْمَةٌ:} معطوف على سابقه. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان ب (رحمة) لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لِرَبِّهِمْ:} اللام فيها أقوال: الأول قول الكوفيين: هي صلة، وربهم مفعول مقدم مجرور لفظا منصوب محلا. وقيل: هي لام التعليل، أي من أجل ربهم، وعلى هذا فمفعول الفعل محذوف، التقدير: يرهبون عقابه، وقال المبرد: اللام متعلقة بمصدر مقدر، أي: رهبتهم لربهم، ورد بأن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله، ولا يجوز عند البصريين إلا في الشعر. وقيل: متعلقة بفعل محذوف، تقديره: والذين هم يخشعون لربهم، والمعتمد الأول. وقيل: لما تقدم المعمول، وهو المفعول ضعف الفعل عن العمل، فصار بمنزلة ما لا يتعدى. انتهى. قرطبي، وعكبري

ص: 635

بتصرف. {يَرْهَبُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{هُمْ لِرَبِّهِمْ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{وَاِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَاِرْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)}

الشرح: {مُوسى:} انظر الآية رقم [102]. {قَوْمَهُ:} انظر الآية رقم [32]. {رَجُلاً:} انظر الآية رقم [46]. {لِمِيقاتِنا} أي: للوقت الذي وعدناه بإتيانهم فيه؛ ليعتذروا من عبادة أصحابهم العجل. وانظر إعلال (ميزان) في الآية رقم [8] فهو مثله.

روي: أن الله تعالى أمر موسى أن يأتيه بسبعين رجلا من بني إسرائيل، فاختار من كل سبط ستة، فزاد اثنان، فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا، فقال: لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع، فأمرهم موسى أن يصوموا، ويتطهروا، ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام، فدخل موسى بهم الغمام، وخروا سجدا، فسمعوا الله يكلم موسى يأمره، وينهاه، ثم انكشف الغمام، فأقبلوا إليه، وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الرجفة، أي الصاعقة، أو رجفة الجبل، فوقعوا ميتين. وانظر الآية رقم [55](البقرة) فقام موسى يبكي، ويدعو الله، ويقول:{رَبِّ لَوْ شِئْتَ..} . إلخ، وهذا الميقات غير الميقات المذكور في الآية رقم [143].

{لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ:} تمنى هلاكهم، وهلاك نفسه. قبل أن يرى ما رأى، أو المعنى: تقدر على إهلاكنا في كل وقت، ولكنك رحيم بنا، فنرجوا دوام لطفك وإحسانك.

وانظر «القول» في الآية رقم [5]. {رَبِّ:} انظر الآية رقم [3]. {شِئْتَ:} انظر الآية رقم [89].

{أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا:} حيث اجترءوا على طلب الرؤية، وقيل: المراد ب: {بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ} أي: الذين عبدوا العجل، والسبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنهم، فغشيتهم هيبة قلقوا منها، ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم، وأشرفوا على الهلاك، فخاف عليهم موسى فبكى، ودعا فكشفها الله عنهم، والمعتمد الأول.

{السُّفَهاءُ:} انظر سفاهة في الآية رقم [66]. {إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ} أي: ما هذا إلا اختبارك وامتحانك، وابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك؛ حتى طمعوا في الرؤية، أو أوجدت في العجل خوارا، فزاغوا به. انتهى بيضاوي.

قال القرطبي: وأضاف الفتنة إلى الله عز وجل، ولم يضفها إلى نفسه، كما قال إبراهيم:

{وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأضاف المرض إلى نفسه، والشفاء إلى الله تعالى، وقال يوشع:

ص: 636

{وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ} وإنما استفاد ذلك موسى-عليه السلام-من قوله تعالى له: {فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} . {تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ:} تضل بالفتنة من تشاء إضلاله. {وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ:}

تثبت على الإيمان من تشاء له الهدى، والسعادة. {أَنْتَ وَلِيُّنا:} متولي أمورنا. وانظر رقم [3].

{فَاغْفِرْ لَنا:} ذنوبنا. {خَيْرُ الْغافِرِينَ:} تغفر السيئات، وتبدلها حسنات جودا، وكرما. وانظر شرح:{خَيْرُ} في الآية رقم [12]. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

الإعراب: {وَاخْتارَ مُوسى:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لمّا) في الآية السابقة لا محل لها مثله. {قَوْمَهُ:} منصوب بنزغ الخافض، التقدير: من قومه، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والنصب بنزع الخافض كثير مستعمل في الكلام العربي، قال الفرزدق:[الطويل]

ومنّا الّذي اختير الرّجال سماحة

وجودا إذا هبّ الرّياح الزعازع

{سَبْعِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في المفرد. هذا؛ وبعضهم يعتبر {قَوْمَهُ} مفعولا به، و {سَبْعِينَ} بدلا منه. وليس بشيء يعتد به. {رَجُلاً:} تمييز. {لِمِيقاتِنا:} متعلقان بالفعل: (اختار) و (نا): في محل جر بالإضافة. {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [133].

{أَخَذَتْهُمُ:} ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والهاء مفعول به. {الرَّجْفَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{مُوسى} . {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء.

وانظر إعراب: {يا قَوْمِ} في الآية رقم [59] فهو مثله. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [23] فإنه جيد.

والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شِئْتَ:}

فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {أَهْلَكْتَهُمْ:} فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب {لَوْ}. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بما قبلهما، و {قَبْلُ} مبني على الضم في محل جر، لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. (إياي): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب، وهو الهاء، وجملة:{أَهْلَكْتَهُمْ..} . إلخ جواب {لَوْ} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {أَتُهْلِكُنا:} الهمزة حرف استفهام. (تهلكنا):

مضارع، والفاعل تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

الباء: حرف جر. (ما): تحتمل الموصوفة والموصولة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية بعدها صلتها

ص: 637

أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي أو بشيء فعله السفهاء، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: أتهلكنا بفعل السفهاء. {مِنّا:}

متعلقان بمحذوف حال من: {السُّفَهاءُ} . {إِنْ:} حرف نفي بمعنى (ما). {هِيَ:} مبتدأ.

{إِلاّ:} حرف حصر. {فِتْنَتُكَ:} خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {تُضِلُّ:} مضارع، والفاعل (أنت). {بِها:} متعلقان بما قبلهما.

{مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي أو شخصا تشاؤه وجملة: {تُضِلُّ..} . إلخ في محل نصب حال من تاء الفاعل، أو من الكاف، والرابط الضمير فقط والعامل حرف النفي، أو هي مستأنفة، وهو أقوى؛ لأن حرف النفي ضعيف العمل في الحال، وجملة:{وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ} معطوفة عليها، {أَنْتَ وَلِيُّنا:} مبتدأ وخبر، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {فَاغْفِرْ:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38] وجملة: {فَاغْفِرْ لَنا} لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. وجملة: {وَارْحَمْنا:} معطوفة عليها، والكلام كله في محل نصب مقول القول. {أَنْتَ:} مبتدأ. {خَيْرُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْغافِرِينَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية:{أَنْتَ..} . إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير.

{وَاُكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)}

الشرح: {وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً:} قال موسى-عليه السلام-واقسم لنا في هذه الدنيا حسنة، أي: عافية وحياة طيبة وتوفيقا للطاعات. وانظر الآية رقم [95] وانظر: {حَياتُنَا الدُّنْيا} في الآية رقم [6/ 29]. {وَفِي الْآخِرَةِ} أي: حسنة، فقد حذفت لدلالة الأولى عليها، والمراد بها هنا الجنة ومغفرة الذنوب. وانظر شرح:{الْآخِرَةِ} في الآية رقم [45]. {هُدْنا إِلَيْكَ:} تبنا إليك من ذنوبنا من: هاد، يهود: إذا رجع، وقرئ بكسر الهاء من: هاده، يهيده: إذا أماله، بمعنى أملنا أنفسنا إليك، وبالمعنى الأول سميت اليهود، وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم، فلما نسخت شريعتهم صار اسم ذم، وهو لازم لهم.

{قالَ} أي: الله. {عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ} يعني: من خلقي، وليس لأحد عليّ اعتراض؛ لأن الكل ملكي، وعبيدي. وقد اختلف في هذا العذاب، فقيل: هو ما أصابهم من الرجفة. وقيل: هو ما أمروا به من قتل بعضهم بعضا. وقيل: المراد به عذاب جهنم في الآخرة.

ص: 638

{قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {عَذابِي:} انظر الآية رقم [38]. {أُصِيبُ:} انظر إعلاله في الآية رقم [6/ 24]. {أَشاءُ:} انظر الآية رقم [89] هذا؛ وقرئ بالسين من «(الإساءة)» .

{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} أي: عمت، وشملت كل موجود في الدنيا، ما من مسلم، ولا كافر، ولا مطيع، ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمة الله، ورحمته في الدنيا، وهي في الآخرة خاصة بالمؤمنين.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتّى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» . رواه البخاري. هذا؛ وانظر الآية رقم [56]. {شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [85].

قال جماعة من المفسرين: لما نزلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} تطاول إبليس إليها، وقال: أنا من ذلك الشيء، فنزعها الله منه، فقال:{فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ..} . إلخ فأيس إبليس منها، وقالت اليهود: نحن نتقي، ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا، فنزعها الله منهم، وأثبتها لهذه الأمة، فقال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ..} . إلخ الآية التالية.

{يَتَّقُونَ:} انظر الآية رقم [26]. {الزَّكاةَ:} انظر الآية رقم [6] التوبة (آيتنا): انظر الآية رقم [9]. {يُؤْمِنُونَ:} انظر الإيمان في الآية رقم [2]. وانظر (نا) في الآية رقم [7] وفيها التفات من تكلم المفرد إلى تكلم الجمع. انظر الالتفات في الآية رقم [6](الأنعام) تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَاكْتُبْ:} (اكتب): فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَنا:} متعلقان به. {فِي:} حرف جر. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر ب (في) والهاء حرف تنبيه لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:

(حسنة) كان صفة له، انظر القاعدة في الآية رقم [140]. {وَفِي الْآخِرَةِ:} معطوفان على ما قبلهما، وجملة:{وَاكْتُبْ..} . إلخ معطوفة على جملة: {فَاغْفِرْ..} . إلخ فهي من مقول موسى.

{إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {هُدْنا:} فعل، وفاعل، أو فعل ونائب فاعله، وذلك جائز على القراءتين، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الاسمية تعليل للدعاء، وهي في محل نصب مقول القول. {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {عَذابِي:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، وياء المتكلم في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله. {أُصِيبُ:} مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:

«أنا» . {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما. {مَنْ:} موصولة، أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

ص: 639

أشاؤه. وجملة: {أُصِيبُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية: {عَذابِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها بمنزلة جواب لسؤال مقدر. (رحمتي): مبتدأ مرفوع

إلخ، وجملة:{وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَرَحْمَتِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. (سأكتبها): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، و (ها): مفعول به، والسين حرف استقبال، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَسِعَتْ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.

{لِلَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{يَتَّقُونَ} مع المفعول المحذوف صلة الموصول لا محل لها مثلها، وجملة:{وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {لِلَّذِينَ:}

اسم موصول مبني على الفتح في محل جر معطوف على سابقه. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِآياتِنا:} متعلقان بما بعدهما. و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{هُمْ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها.

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاِتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}

الشرح: {الرَّسُولَ النَّبِيَّ:} انظر الآية رقم [35]. ولا شك: أن المراد بالموصوف بهذه الصفات سيد الرسل، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. هذا؛ و (النبي) أصله النبيء، وهو مأخوذ من النبأ؛ فهو بمعنى: المخبر عن ربه. والمراد باتباع محمد صلى الله عليه وسلم في حق اليهود: أن يعتقدوا نبوته قبل أن يوجد، ويولد، وأن يؤمنوا به بعد أن ولد. وكذا القول في حق النصارى، والأول في حق الأولين منهم، والثاني في حق الذين عاصروه، وأدركوا رسالته.

{الْأُمِّيَّ:} هو الذي لا يقرأ، ولا يكتب نسبة إلى الأم، كأنه باق على حالته التي ولد عليها. وهذا الوصف من خصوصياته صلى الله عليه وسلم؛ إذ كثير من الأنبياء كان يقرأ ويكتب، وصفه به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته، وهو وصف ذم إلا في حقه صلى الله عليه وسلم فهو وصف تعظيم وتمجيد، ولذا قال تعالى ممتنّا عليه:{وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} .

{التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ:} انظر الآية رقم [49](المائدة). {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ:} بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام. {وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ:} عن عبادة الأصنام، وقطع

ص: 640

الأرحام

إلخ. هذا؛ والمعروف: ما استحسنه الشرع، والعقل. والمنكر: ما استقبحه الشرع، والعقل، والفطرة السليمة.

{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ:} هي لحوم الإبل وشحم الغنم والمعز والبقر، انظر الآية رقم [146] الأنعام والآية رقم [159] (النساء). {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ:} لحم الخنزير والربا

إلخ، وكل ما يستخبثه الطبع، وتستقذره النفس. وانظر (محرّم) في الآية رقم [6/ 145]. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ:} ثقلهم. وقيل: هو العهد، وقد جمعت هذه الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال، فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد، وثقل تلك الأعمال، كغسل البول، وتحليل الغنائم، ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها، فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه، وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء، فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها. انتهى قرطبي. وانظر الآية رقم [285] (البقرة) تجد ما يسرك. هذا؛ وقد قرئ:«(أصارهم)» . {وَالْأَغْلالَ:} قال القرطبي: فالأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال.

قال الخازن: وذلك مثل قتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة في البدن والثوب بالمقراض، وتعيين القصاص في القتل، وتحريم أخذ الدية، وترك العمل في السبت، وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس، وتتبع العروق في اللحم، وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل، شبهت بالأغلال مجازا؛ لأن التحريم يمنع من الفعل، كما أن الغل يمنع من الفعل. انتهى. {آمَنُوا بِهِ} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم. {وَعَزَّرُوهُ:} قووه، ونصروه. أو عظموه. أو منعوه من العدو حتى لا يقوى عليه أحد، وأصل العزر المنع، ومنه التعزيز لأنه يمنع من معاودة القبيح، كالحد، فهو المنع. وقرئ الفعل بالتشديد والتخفيف.

{النُّورَ:} القرآن سمي نورا؛ لأن القلب يستنير به، فيخرج من ظلمات الشك، والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم. {الْمُفْلِحُونَ:} الفائزون بكل خير، والناجون من كل شر. وانظر الآية رقم [38] من سورة (المائدة).

تنبيه: عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-فقلت:

أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وحرزا للأميين، أنت عبدي، ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا.

وزاد كعب الأحبار: أمته الحامدون، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل نجد، يأتزرون على أنصافهم، ويغضون أطرافهم، صفّهم في الصلاة، وصفّهم في القتال سواء،

ص: 641

مناديهم ينادي في جو السماء، لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل، مولده مكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام. هذا؛ ووصفه-عليه الصلاة والسلام-في الإنجيل قريب من هذا، وآية سورة الصف تنص على أن عيسى عليه السلام بشر به. وانظر وصفه في التوراة، والإنجيل في الآية الأخيرة من سورة (الفتح).

الإعراب: {الَّذِينَ:} بدل من مثله في الآية السابقة مبني على الفتح في محل جر. وقيل:

صفة له. ولا وجه له، أو هو مبني على الفتح في محل نصب بفعل محذوف، تقديره: أعني، أو هو في محل رفع من وجهين: خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، أو هو مبتدأ خبره جملة:

{يَأْمُرُهُمْ..} . إلخ. وجملة: {يَتَّبِعُونَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي:} هذه صفات لموصوف محذوف، التقدير: محمدا الرسول

إلخ، أو اعتبر {الرَّسُولَ} مفعولا به، وما بعده بدل منه، وجملة:{يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً} صلة الموصول لا محل لها. {عِنْدَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل، أو ب:{مَكْتُوباً،} والهاء في محل جر بالإضافة، {فِي التَّوْراةِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، فهي حال متكررة، أو من الضمير المستتر في {مَكْتُوباً} فتكون حالا متداخلة. {وَالْإِنْجِيلِ:} معطوف على سابقه. {يَأْمُرُهُمْ:}

مضارع، والفاعل يعود إلى الرسول، والهاء مفعول به. {بِالْمَعْرُوفِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{الَّذِينَ} على وجه رأيته، أو هي في محل نصب حال من الضمير المنصوب السابق، فهي حال مكررة، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {وَيَنْهاهُمْ:}

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر مثل سابقه. {عَنِ الْمُنْكَرِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلهما على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وكذا الجمل:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ،} {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ} {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} كلها معطوفة عليها. {وَالْأَغْلالَ:} معطوف على ما قبله، عطف مغاير، أو مرادف على حسب ما رأيت في الشرح. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة (الأغلال). {كانَتْ:} ماض ناقص، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، واسمها ضمير مستتر تقديره:«هي» . {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان) وجملة: {كانَتْ عَلَيْهِمْ} صلة الموصول لا محل لها، والعائد رجوع اسم {كانَتْ} عليه. {فَالَّذِينَ:} الفاء: حرف استئناف. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آمَنُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5]. {بِهِ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والجمل:

{وَعَزَّرُوهُ} {وَنَصَرُوهُ} {وَاتَّبَعُوا النُّورَ} كلها معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب

ص: 642

صفة {النُّورَ} . {أُنْزِلَ:} ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى ما قبله. {مَعَهُ:}

ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{أُنْزِلَ مَعَهُ} صلة الموصول لا محل لها، والعائد رجوع نائب الفاعل إليه. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُمُ:} ضمير فصل لا محل له. {الْمُفْلِحُونَ:}

خبر المبتدأ، وإن اعتبرت {هُمُ} مبتدأ ثانيا ف:{الْمُفْلِحُونَ} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والجملة الاسمية:{هُمُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَالَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاِتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}

الشرح: {قُلْ:} هذا الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً:} في هذا الكلام دليل على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الخلق؛ لأن قوله: {يا أَيُّهَا النّاسُ} خطاب عام يدخل فيه جميع الناس، ثم أمره تعالى بأن يقول:{إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} يقتضي: أنه مبعوث إلى جميع الناس.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على الأنبياء بستة: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» . رواه مسلم. {النّاسُ:} انظر شرحه في الآية رقم [82]. {اللهِ:} انظر الآية رقم [87]. {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} انظر الآية رقم [6/ 1]. ومن كان مالك السموات والأرض، فهو جدير بأن يعبد، ويتضرع إليه. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} فهذا تقرير لوحدانيته تعالى، واختصاصه بالتعظيم، والتبجيل. {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ:} انظر شرح هذه الكلمات في الآية السابقة. {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ:} فهو وصف للنبي المذكور.

والمراد ب: (كلماته) القرآن العظيم، والتوراة. أو عيسى، عليه السلام، فيكون فيه تعريض لليهود، وتنبيه على أن من لم يؤمن به؛ لم يعتبر إيمانه صحيحا، وفي قوله تعالى:

{يُحيِي وَيُمِيتُ} مزيد اختصاص بوحدانية الله؛ لأنه لا يقدر على الإحياء، والإماتة غيره تعالى. وانظر شرح:{كَلِمَتُ} في الآية رقم [137]. {وَاتَّبِعُوهُ:} فيه تنبيه على أن من صدق محمدا صلى الله عليه وسلم، ولم يتابعه بالتزام شرعه، والعمل بهديه؛ فهو لا يزال في حيز الضلالة.

ص: 643

{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ:} توفقون للخير بجميع أنواعه. وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [63]. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

تنبيه: لم يقل: فآمنوا بالله وبي بعد قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ} لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه سابقا، لما في الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم: أن الذي وجب الإيمان به هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي؛ الذي يؤمن بالله، وكلماته كائنا من كان، أنا أو غيري، إظهارا للنصفة، وتفاديا من العصبية لنفسه. انتهى نسفي. وانظر الالتفات في الآية رقم [6](الأنعام) فإنه جيد.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، فاعله مستتر تقديره:«أنت» . (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو (أيها): منادى نكرة مقصودة، مبني على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه لا محل له. وأقحم للتوكيد، وهو عوض عن المضاف إليه. {النّاسُ:} بدل من: (أي).

وقيل: صفة لها، وبدل المنصوب محلاّ منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية، وإنما أتبعت ضمة البناء مع أنها لا تتبع؛ لأنها وإن كانت ضمة بناء لكنها عارضة، فأشبهت ضمة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده العلامة الصبان لأنه قال: والمتجه وفاقا لبعضهم: أن ضمة التابع إتباع، لا إعراب، ولا بناء. وقيل: إن رفع التابع المذكور إعراب، واستشكل بعدم المقتضي للرفع، وأجيب بأن العامل يقدر من لفظ عامل المتبوع، مبنيّا للمجهول، نحو: يدعى وهو مع ما فيه من التكلف يؤدي إلى قطع المتبوع.

وقيل: إن رفع التابع المذكور بناء لأن المنادى في الحقيقة هو المحلى ب (ال)، لكن لما لم يمكن إدخال حرف النداء عليه، توصلوا إلى ندائه ب (أي)، أي مع قرنها بهاء التنبيه. ورده بعضهم بأن المراعى في الإعراب اللفظ، وأن الأول منادى، والثاني تابع له، والإعراب السائد الآن أن تقول، مرفوع تبعا للفظ. والجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها.

{رَسُولُ:} خبر (إنّ)، و (هو) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال مما قبلها، التقدير: مرسلا إليكم. {جَمِيعاً:} حال من الكاف والميم، فهي حال مؤكدة، ومتداخلة. والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{الَّذِي:} بدل من لفظ الجلالة، أو صفة له، أو هو منصوب بفعل محذوف، أو هو مبتدأ خبره ما بعده، فهو مبني على السكون في محل جر، أو في محل نصب، أو في محل رفع حسب ما رأيت. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{لَهُ مُلْكُ..} .

إلخ صلة الموصول لا محل لها. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {إِلهَ:} اسم (لا) مبني

ص: 644

على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له.

{هُوَ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كونه بدلا من اسم (لا) على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. وثانيها كونه بدلا من: {لا} وما عملت فيه؛ لأنها، وما بعدها في محل رفع بالابتداء، وثالثها كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف. وهو الأقوى. والجملة الاسمية:{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} بدل من جملة الصلة قبلها لا محل لها مثلها على الوجهين الأولين في {الَّذِي} وفي محل رفع خبره على الوجه الثالث فيه. {يُحيِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، منع من ظهورها الثقل، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والجملة الفعلية يقال فيها ما قيل في الجملة الاسمية قبلها، وجملة:{وَيُمِيتُ} معطوفة على ما قبلها. {فَآمِنُوا:} الفاء: هي الفصيحة.

وانظر الآية رقم [38]. (آمنوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَرَسُولِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي} انظر محل هذه الأسماء، وإعرابها في الآية السابقة، وجملة:{يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ} صلة الموصول، والعائد رجوع الفاعل إليه، وجملة:{فَآمِنُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا؛ فآمنوا، والجملة الشرطية هذه مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَاتَّبِعُوهُ} معطوفة على جملة: {فَآمِنُوا بِاللهِ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها، والميم علامة جمع الذكور. {تَهْتَدُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعلّ)، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل لا محل لها.

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}

الشرح: {قَوْمِ:} انظر الآية رقم [32]. {مُوسى:} انظر الآية رقم [103]. {أُمَّةٌ:} انظر الآية رقم [34]. {يَهْدُونَ} أي: يرشدون الناس إلى الحق. وانظر الآية رقم [33] لشرح الحق. {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي: يحكمون بالحق، والعدل بين الناس. هذا؛ ويجيء هذا الفعل بمعنى الميل، وهو بهذا المعنى يكون أحد الأفعال التي يتغير معناها بتغير الجار، تقول: عدلت عنه، بمعنى: أعرضت عنه، وتقول: عدلت إليه، بمعنى: أقبلت عليه. وانظر الآية رقم [127](النساء). هذا؛ وقد يجيء هذا الفعل محتملا لمعنى الميل، ومعنى التسوية، وذلك كما في قوله تعالى {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الآية رقم [1] (الأنعام) فإن اعتبرت الجار والمجرور:

{بِرَبِّهِمْ} متعلقين ب {يَعْدِلُونَ} كان المعنى: إن الكفار يسوون الأصنام بربهم. وإن اعتبرتهما متعلقين بالفعل (كفروا) كان: {يَعْدِلُونَ} بمعنى يميلون، والمعنى: إن الكفار يميلون، وينحرفون عن إفراد الله بالوحدانية. وانظر الآية رقم [98] من سورة (المائدة).

ص: 645

تنبيه: لقد اختلف في هؤلاء القوم، فقيل: هم الذين أسلموا من اليهود، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثل عبد الله بن سلام، وأصحابه، رضي الله عنهم. وأطلق لفظ الأمة عليهم، وإن كانوا قليلين، كما أطلق على إبراهيم-عليه السلام-منفردا في قوله تعالى:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً} وقيل: هم قوم بقوا على الدين الحق الذي جاء به موسى-عليه الصلاة والسلام قبل التحريف والتبديل، ودعوا الناس إليه.

قال البيضاوي: والمراد بها: الثابتون على الإيمان، القائمون على الحق من أهل زمانه، أتبع ذكرهم أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيها على أن تعارض الخير، والشر، وتزاحم أهل الحق، والباطل أمر مستمر. انتهى. هذا؛ وقد ذكر القرطبي والخازن قصة من قبيل الخرافات، وقد فندها الخازن، وتركها القرطبي مسلمة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَمِنْ قَوْمِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و {قَوْمِ:} مضاف، و {مُوسى:}

مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {أُمَّةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {يَهْدُونَ:} فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: الناس، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{أُمَّةٌ} . {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أي: ملتبسين بالحق. (به): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والجملة الفعلية (يعدلون به) معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع صفة مثلها.

{وَقَطَّعْناهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اِسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}

الشرح: {وَقَطَّعْناهُمُ:} وصيرناهم، وفرقناهم. ويقرأ الفعل بتشديد الطاء، وتخفيفها.

وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً:} أنث العدد مع أن السبط مذكر؛ لأن بعده {أُمَماً} فذهب التأنيث إلى الأمم. هذا؛ وقد قيل: أراد بالأسباط القبائل والفرق، فلذا أنث العدد. ولا تنس: أن {أَسْباطاً} جمع التكسير، وجمع التكسير يؤنث فعله، ويذكر، وكذا عدده. وانظر شرح:{عَشْرَةَ} في الآية رقم [92](المائدة). انظر شرح (الأسباط) في الآية رقم [140](البقرة) والأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، عليهما السلام، وقد جعلهم الله أسباطا ليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم، فيخفف الأمر على موسى، انظر الآية رقم [12] (المائدة). {أُمَماً:} جمع أمة. وانظر الآية رقم [34].

ص: 646

{مُوسى:} انظر الآية رقم [103]. {إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ:} وكان هذا في التيه المذكور في الآية رقم [5/ 29] وانظر هذا. الاستسقاء في الآية رقم [2/ 60] وشرح هذه الكلمات بكاملها، مع إبدال الفعل هناك:{فَانْفَجَرَتْ} بما ذكر هنا، وهما بمعنى واحد، وكلاهما مطاوع للفعل المحذوف. وانظر شرح:{قَوْمُهُ} في الآية رقم [32]. {بِعَصاكَ:} انظر الآية رقم [107].

{عَيْناً:} انظر الآية رقم [116]. {أُناسٍ} انظر الآية رقم [82] والمراد به كل سبط من الأسباط، أي: علموا بالعلم الذي خلقه الله في عقولهم. وانظر العلم، والمعرفة في الآية رقم [62] (الأنفال). {وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ..}. إلخ: ما أجدرك أن تنظر شرح ذلك مفصلا في الآية رقم [57](البقرة) وذلك بغية الاختصار. وانظر: {وَأَوْحَيْنا} في الآية رقم [117].

الإعراب: {وَقَطَّعْناهُمُ:} (قطعناهم): فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والميم علامة جمع الذكور. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {اِثْنَتَيْ:} مفعول به ثان. وقيل: حال والأول أقوى، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بالمثنى، {عَشْرَةَ:} مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، لوقوعه موقع نون المثنى، ولا يصح أن يقال: إنه مضاف إليه لتضمنه معنى العطف. {أَسْباطاً:} بدل مما قبله. وقيل: تمييز. {أُمَماً:}

على الاعتبار الأول فيما قبله، فهو بدل بعد بدل، أو صفة لأسباطا، وعلى الاعتبار الثاني فهو بدل من {أَسْباطاً،} وجملة: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع. {إِذِ:} ظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون في محل نصب متعلق بما قبله، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين. {اِسْتَسْقاهُ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء في محل نصب مفعول به. {قَوْمُهُ:} فاعل، الهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذِ} إليها. {أَنِ:} حرف تفسير. وقيل:

حرف مصدري. {اِضْرِبْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها مفسرة للإيحاء، وعلى اعتبار الثاني في (أن) تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بضربك الحجر، أو ضربك الحجر، وهو تقدير لا معنى له على الوجهين. {بِعَصاكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْحَجَرَ:}

مفعول به. (انبجست): ماض، والتاء للتأنيث. {مِنْهُ:} متعلقان بما قبلهما. {اِثْنَتا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف

إلخ، و {عَشْرَةَ} مثل سابقه. {عَيْناً:} تمييز، وجملة:

(انبجست

) إلخ معطوفة على جملة محذوفة؛ إذ التقدير: فضرب، فانبجست

إلخ، والجملتان معطوفتان على جملة:{اِسْتَسْقاهُ..} . إلخ، فهي في محل جر مثلها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمَ كُلُّ:} فعل، وفاعل، والفعل بمعنى:(عرف) هنا، و (كل) مضاف، و (أناس): مضاف إليه. {مَشْرَبَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة،

ص: 647

والميم علامة جمع الذكور، وجملة:{قَدْ عَلِمَ..} . إلخ مستأنفة، أو هي في محل نصب حال من:{قَوْمُهُ} وهي تحتاج إلى تقدير رابط، أي: علم كل أناس منهم

إلخ. {وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ..} . إلخ، انظر إعراب هذا الكلام إفرادا، وجملا في آية (البقرة) رقم [57] مع ملاحظة الخطاب هناك، والغيبة هنا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اُسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَاُدْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)}

الشرح: {قِيلَ لَهُمُ:} القائل لهم موسى قبل أن يموت في التيه، أي: قال لهم: إذا خرجتم من التيه، أو القائل لهم: هو يوشع بن نون بعد أن خرجوا من التيه، وفي سورة (البقرة) {وَإِذْ قُلْنا} وانظر إعلال:{قِيلَ} في الآية رقم [5/ 104]. {اُسْكُنُوا،} وفي سورة (البقرة){اُدْخُلُوا} ولا منافاة بينهما؛ لأن كل ساكن في موضع لا بد له من الدخول إليه. {هذِهِ الْقَرْيَةَ:} بيت المقدس، أو أريحاء. وانظر الآية رقم [88]. {حَيْثُ:} انظر الآية رقم [27].

{شِئْتُمْ:} انظر: {يَشاءَ} في الآية رقم [89]. (قولوا): انظر «القول» في الآية رقم [5].

{حِطَّةٌ} أي: حط عنا خطايانا. {سُجَّداً:} سجود انحناء، لا سجودا شرعيّا بوضع الجبهة على الأرض. {نَغْفِرْ:} يقرأ بالنون، وبالتاء مع البناء للمجهول. {خَطِيئاتِكُمْ:} ويقرأ:

«(خطاياكم)» و «(خطيئتكم)» بالإفراد. {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي: خيرا وثوابا. وانظر (زاد) في الآية رقم [69]. والمحسنون هم الذين أحسنوا العمل مع الله ومع عباده. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

تنبيه: الآية الكريمة، والآية رقم [58] من سورة (البقرة) بمعنى واحد تنصان على حادثة واحدة، مع اختلاف في بعض التراكيب، وإبدال حرف بحرف، وهذا لا يغير المعنى، وإن تغير الإعراب من بعض الوجوه، تأمل. والله أعلم.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، أو هو مفعول به لذلك المحذوف، التقدير: واذكر وقت القول لهم. {قِيلَ:} ماض مبني للمجهول. {لَهُمُ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل. {اُسْكُنُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11]. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به. {الْقَرْيَةَ:} بدل أو عطف بيان مما قبله. وقيل: صفة. وانظر إعراب: {اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في الآية رقم [19] فإنه جيد. والجملة الفعلية: {اُسْكُنُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وبعضهم يعتبرها في محل رفع نائب فاعل:{قِيلَ} . وهذا على رأي من يجيز

ص: 648

وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول يحذف الفاعل، ويقام المفعول مقامه. وهذا لا غبار عليه. وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: قيل القول.

فالأقوال ثلاثة في مثل هذا التركيب، وجملة:{قِيلَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها.

(كلوا): هو مثل {اُسْكُنُوا} . {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {حَيْثُ:} ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب متعلق بالفعل: (كلوا). {شِئْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها، وجملة:{وَكُلُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وكذا ما بعدها معطوف أيضا. {حِطَّةٌ:} خبر مبتدأ محذوف، أي أمرنا أو مسألتنا {حِطَّةٌ،} وقرئ بالنصب على أنه مفعول مطلق بفعل محذوف، التقدير: حط عنا خطايانا حطة، أو هو مفعول لما قبله، والجملة الاسمية على الاعتبار الأول، أو الفعلية على الاعتبار الثاني في محل نصب مقول القول. {الْبابَ:} انظر إعراب: {الْجَنَّةَ} في الآية رقم [19] فهو مثله. {سُجَّداً:} حال من واو الجماعة. {نَغْفِرْ:} مضارع مجزوم؛ لأنه جواب للطلب، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {خَطِيئاتِكُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وعلى قراءة:«(تغفر)» بالتاء، فهو مبني للمجهول، وخطاياكم نائب فاعله، مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجار والمجرور:{لَكُمْ} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{نَغْفِرْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب للطلب. (سنزيد): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والسين حرف استقبال.

{الْمُحْسِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{سَنَزِيدُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)}

هذه الآية هي نفس الآية المذكورة في سورة (البقرة) برقم [59] فهي مثلها في شرحها وإعرابها، مع إبدال {فَأَنْزَلْنا} ب {فَأَرْسَلْنا،} ولا منافاة بينهما؛ لأنهما لا يكونان إلا من أعلى إلى أسفل. وقيل: بينهما فرق، وهو أن الإنزال لا يشعر بالكثرة، والإرسال يشعر بذلك، فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب قليلا، ثم أرسله عليهم كثيرا. انتهى خازن. هذا؛ ومع إبدال {يَفْسُقُونَ} ب {يَظْلِمُونَ} والجمع بين اللفظين: أنهم لما ظلموا أنفسهم بما غيروا، وبدلوا؛ فسقوا بذلك، وخرجوا عن طاعة الله تعالى. وانظر (الظلم) في الآية رقم [6/ 146] وانظر شرح (غير) في الآية رقم [2] من سورة (التوبة).

ص: 649

{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)}

الشرح: {وَسْئَلْهُمْ:} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمسئولون هم اليهود الذين كانوا معاصرين له، والغاية من السؤال: التقريع، والتوبيخ بقديم كفرهم، وعصيانهم، والإعلام بما هو من علومهم التي لا تعلم إلا بتعليم، أو وحي؛ ليكون ذلك معجزة له صلى الله عليه وسلم. {عَنِ الْقَرْيَةِ} أي: عن أهل القرية، أو عن خبر القرية فهو على حذف مضاف، على حد قوله تعالى:{وَجاءَ رَبُّكَ} وانظر شرح: {الْقَرْيَةِ} في الآية رقم [88]. {الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ:} قريبة منه، وهي أيلة، ويسميها اليهود إيلات، وهي مرفأ على البحر الأحمر. وقيل: هي مدين. وقيل: طبرية، والمعتمد الأول. {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ:} يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت، وقرئ «(يعدّون)» بضم الياء، وتشديد الدال، أي: يعدون آلات الصيد يوم السبت، وقد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة. {تَأْتِيهِمْ:} انظر (أتى) في الآية رقم [35]. {يَوْمَ سَبْتِهِمْ:} يوم تعظيمهم أمر السبت، مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة. وقيل: هو اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه، ويؤيد الأول: أنه قرئ: (يوم إسباتهم) وانظر شرح اليوم في الآية رقم [6/ 128] و {شُرَّعاً} ظاهرة على وجه الماء. {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ:} لا يداخلون في السبت، وقرئ الفعل بفتح ياء المضارعة، وضمها. {كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ:} نختبرهم مثل ذلك الاختبار الشديد. {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ:} بسبب فسقهم، أي: خروجهم عن طاعة الله تعالى.

هذا؛ وإتيان الحيتان يوم السبت، وعدم إتيانها في غيره هو الابتلاء، والاختبار. وانظر (نا) في الآية رقم [7] وانظر {الْفاسِقِينَ} في الآية رقم [145].

الإعراب: {وَسْئَلْهُمْ:} الواو: حرف استئناف. (اسألهم): أمر، وفاعله مستتر، تقديره:

«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقال الجمل: معطوفة على جملة (اذكر) المقدرة في الآية السابقة. {عَنِ الْقَرْيَةِ:} متعلقان بما قبلهما. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: {الْقَرْيَةِ} . {كانَتْ:} ماض ناقص، والتاء للتأنيث، واسمها ضمير مستتر تقديره:«هي» . {حاضِرَةَ:} خبر (كان)، وهو مضاف، و {الْبَحْرِ:} مضاف إليه، وجملة:{كانَتْ..} . إلخ صلة الموصول، والعائد رجوع اسم (كان) إليه. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب {كانَتْ،} أو ب {حاضِرَةَ} . وقيل: متعلق بالمضاف المحذوف. وقال مكي: متعلق بالفعل السابق، التقدير: سلهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت. وجوز اعتباره بدلا من

ص: 650

المضاف المحذوف. {إِذْ:} ظرف مثل سابقه متعلق بالفعل قبله، أو هو بدل بعد بدل. أفاده البيضاوي. {تَأْتِيهِمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء مفعول به. {حِيتانُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، و {يَوْمَ} مضاف، و {سَبْتِهِمْ:} مضاف إليه. والهاء في محل جر بالإضافة.

{شُرَّعاً:} حال من {حِيتانُهُمْ} وجملة: {تَأْتِيهِمْ..} . إلخ وجملة: {يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} كلتاهما في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {يَوْمَ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{لا يَسْبِتُونَ} في محل جر بإضافة {يَوْمَ،} إليها، وجملة:{لا تَأْتِيهِمْ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط، وتقدير الكلام: ويوم عدم سبتهم غير آتية إليهم.

هذا؛ وقال أبو البقاء: {يَوْمَ} ظرف متعلق بما بعده، وهذا يعني: أن التركيب (ولا تأتيهم يوم لا يسبتون) وهو معنى صحيح لا بأس به، ولكن الأول أقوى. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، وتقدير الكلام: نبلوهم بلاء آخر مثل ذلك البلاء بسبب فسقهم المستمر. وأجاز الزجاج احتمالا آخر على بعد: أن الكاف في محل نصب حال من فاعل {لا تَأْتِيهِمْ،} وعليه فالوقف على كذلك، وما بعده مستأنف، وعلى الإعراب الأول فالوقف على:{لا تَأْتِيهِمْ} . {نَبْلُوهُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {بِما} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية لا غير. {كانُوا:}

ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَفْسُقُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، انظر التقدير في الشرح، وجملة:{نَبْلُوهُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)}

الشرح: قالت: انظر «القول» في الآية رقم [5]. {أُمَّةٌ:} جماعة. وانظر الآية رقم [34].

{لِمَ:} كلمة مؤلفة من حرف، واسم، فالحرف اللام، والاسم (ما) الاستفهامية، وقد حذفت ألفها، كما تحذف مع كل جار، نحو قوله تعالى:{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} . {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ،} {عَمَّ يَتَساءَلُونَ} وذلك للفرق بين الموصولة، والاستفهامية. ويقال: للفرق بين الخبر، والاستخبار.

{تَعِظُونَ:} تنصحون، وإعلاله مثل إعلال:{تَجِدُ} في الآية رقم [17] وانظر (الموعظة) في الآية رقم [145]. {قَوْماً:} انظر الآية رقم [32]. {اللهُ:} انظر الآية رقم [87]. {مُهْلِكُهُمْ} أي: في

ص: 651

الدنيا، وقد كان ذلك؛ حيث مسخوا قردة، وخنازير. {مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً} أي: في الآخرة.

{مَعْذِرَةً:} نعتذر بها إلى الله، ويقرأ بالنصب، والرفع. «ربكم:» انظر الآية رقم [3].

{يَتَّقُونَ:} انظر (التقوى) في الآية رقم [26]. وانظر: {عَذاباً} في الآية رقم [38].

تنبيه: لقد اختلف المفسرون: هل كان أهل القرية فرقتين، أو ثلاثا؟ والمعتمد الثاني: فرقة اعتدت، وأصابت الخطيئة، وفرقة نهت المعتدية عن ذلك، وفرقة أمسكت عن الصيد، وسكتت عن الموعظة، وقالوا للناهين:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ..} . إلخ. أي: لاموهم على موعظة المعتدين. كما اختلفوا في الفرقة التي أمسكت عن الصيد، ولم تنه: هل نجت، أم هلكت؟

روى عكرمة عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: أسمع الله يقول {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ} فلا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة، وجعل يبكي، قال عكرمة: فقلت: جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا، وكرهوا ما هم عليه، وقالوا:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ} وإن لم يقل: أنجيتهم، لم يقل: أهلكتهم، قال: فأعجبه قولي، ورضي به، وأمر لي ببردين فكسانيهما، وقال: نجت الساكتة، وقال ابن زيد: نجت الناهية، وهلكت الفرقتان. انتهى. خازن بتصرف. والمعتمد الأول.

الإعراب: {إِذْ:} معطوفة على: {إِذْ} الأولى في الآية السابقة. {قالَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {أُمَّةٌ:} فاعله والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {أُمَّةٌ} . {لِمَ} اللام: حرف جر، و (ما) اسم استفهام مبني على السكون في محل جر باللام. وانظر حذف ألفها في الشرح، والجار والمجرور متعلقان بالفعل بعدهما.

{تَعِظُونَ قَوْماً:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

{اللهُ:} مبتدأ. {مُهْلِكُهُمْ:} خبر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب صفة:{قَوْماً} . {أَوْ:} حرف عطف. {مُعَذِّبُهُمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وهذه الإضافة فيه وفي سابقه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{عَذاباً:} مفعول مطلق، عامله اسم الفاعل قبله. {شَدِيداً:} صفته. {قالُوا:} فعل، وفاعل.

{مَعْذِرَةً:} بالرفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: موعظتنا معذرة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وبالنصب من وجهين: أحدهما: أنه مفعول لأجله، أي وعظناهم من أجل المعذرة. الثاني: أنه مفعول مطلق بفعل محذوف، أي: نعتذر معذرة، وعلى هذين الوجهين ينتج جملة فعلية، فهي في محل نصب مقول القول. وجوز وجه ثالث، وهو أن ينتصب انتصاب المفعول به؛ لأن المعذرة تتضمن كلاما، والمفرد المتضمن لكلام إذا وقع بعد القول؛ نصب نصب المفعول به، كقلت: خطبة، وسيبويه يختار الرفع، قال: لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا، ولكنهم قيل لهم: لم تعظون؟ فقالوا: موعظتنا معذرة. {إِلى رَبِّكُمْ:} متعلقان

ص: 652

ب {مَعْذِرَةً} أو بمحذوف صفة لها والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [158] والجملة الاسمية معطوفة على:{مَعْذِرَةً} فهي مفيدة للتعليل مثلها. تأمل، وتدبر وربك أعلم.

{فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165)}

الشرح: {نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ:} تناسوا، وتركوا ما وعظهم به صلحاؤهم. وانظر الآية رقم [6/ 44]. {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} أي: عن عمل السوء، وهو صيد السمك. وانظر ما ذكرته في الآية السابقة. وانظر الآية رقم [73]. {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ:} أهلكنا المعتدين بالصيد بعذاب شديد بسبب فسقهم، ومخالفة أوامر ربهم. وانظر (الظلم) في الآية رقم [6/ 144] وعذاب في الآية رقم [38]. {بَئِيسٍ:} شديد من: بؤس بؤسا: إذا اشتد، وفيه أكثر من عشر قراءات. وانظر (نا) في الآية رقم [7] وإعلال:{يَنْهَوْنَ} مثل إعلال: {تَحْيَوْنَ} في الآية رقم [25].

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [134]. {نَسُوا:} فعل، وفاعل. والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا} في الآية رقم [5]. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {ذُكِّرُوا:} ماض مبني للمجهول. والواو نائب فاعله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء، وجملة:{نَسُوا..} . إلخ لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا.

{أَنْجَيْنَا:} فعل، وفاعل. وانظر إعراب:{وَجَعَلْنا} في الآية رقم [10]. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {يَنْهَوْنَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {عَنِ السُّوءِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{أَنْجَيْنَا..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، وجملة:{وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} معطوفة على جواب (لمّا)، لا محل لها أيضا. {بِعَذابٍ:} متعلقان بالفعل: (أخذنا). {بَئِيسٍ:} صفة: (عذاب). {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [162] مع سبك المصدر وجره، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(أخذنا). و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)}

الشرح: {فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ:} تكبروا عن الموعظة، والنصيحة. وانظر الآية رقم [77].

وانظر إعلال (أتوا): في الآية رقم [138]. {قُلْنا لَهُمْ:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {كُونُوا}

ص: 653

{قِرَدَةً خاسِئِينَ:} صاغرين، وهذا الأمر أمر تكوين لا قول، كقوله تعالى:{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك، فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية تقريرا، وتفصيلا للأولى، وهو المعتمد.

تنبيه: ذكر الله تعالى هذه الحادثة باختصار في سورة (البقرة) رقم [65] و [66] وبالإشارة إليها في سورة (النساء) رقم [47] وبالتعرض لها في سورة (المائدة) رقم [81] وفصلها الحكيم العليم في الآيات الأربع المتقدمة تفصيلا، وكانت هذه الحادثة في زمن داود، عليه السلام.

هذا؛ وقد قرئ: «(قردة)» بفتح القاف، وكسر الراء، و «(خاسين)» بدون همزة، وذلك في سورة (البقرة) ولم يتعرض أحد لهذه القراءة هنا.

قال أهل التفسير: أمر الله اليهود بتعظيم يوم الجمعة، واتخاذه يوم عبادة، وراحة، فأبوا، واختاروا يوم السبت، فابتلوا به. والسبب في ذلك: أنهم كانوا يزعمون: أن الله ابتدأ الخلق في يوم الأحد، وفرغ منه في يوم الجمعة، فزعموا: أن الله استراح في يوم السبت. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فشدد الله عليهم، فأمرهم بتعظيمه، ونهاهم عن كل عمل فيه، فلما أراد الله، أن يبتليهم كانت الحيتان تظهر لهم في يوم السبت، ينظرون إليها في البحر كالجمال، فإذا انقضى السبت ذهبت، فلم تر إلى السبت المقبل، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: إنكم نهيتم عن الأخذ، فاتخذوا حياضا على ساحل البحر، وسوقوا إليها الحيتان يوم السبت، فإذا كان يوم الأحد فخذوها، ففعلوا ذلك زمانا، ثم إنهم تجرءوا على السبت، وقالوا: ما نرى السبت إلا قد حل لنا، فاصطادوا وأكلوا وباعوا، فصار أهل القرية أحزابا ثلاثة، وكانوا نحوا من سبعين ألفا، انظر الآية رقم [163]. قال الناهون: لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بينهم بجدار، للناهين باب يداخلون ويخرجون منه، وللعاصين باب، ولعنهم داود عليه الصلاة والسلام، فأصبح الناهون ذات يوم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن لهم لشأنا، لعل الخمر قد غلبتهم، فعلوا على الجدار الذي بينهم، فإذا هم قد مسخوا قردة.

وقال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، ففتحوا عليهم الباب، ودخلوا، فصار القردة يعرفون أنسابهم من الناس، ولم يعرف الناس أقرباءهم من القردة، فجعلت القردة تأتي أقرباءها من الناس، فتشم ثيابها وتبكي، فيقول لهم أقرباؤهم: ألم ننهكم؟ فتقول القردة برأسها نعم. وانظر (الناجين) في الآية رقم [165] والجمهور على أن الممسوخين ماتوا بعد ثلاثة أيام.

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف عطف. لما: انظر الآية رقم [134]. {عَتَوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. وانظر ما ذكرته في جملة:{نَسُوا..} . إلخ في الآية السابقة. {عَنْ ما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل

ص: 654

جر. {نُهُوا عَنْهُ} مثل: {ذُكِّرُوا بِهِ} في الآية السابقة، إعرابا ومحلاّ وعائدا وجملة:{قُلْنا لَهُمْ..} . إلخ جواب (لمّا)، لا محل لها، و (لمّا) هذه ومدخولها كلام معطوف على مثله في الآية السابقة لا محل له مثله. {كُونُوا:} أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق. {قِرَدَةً:} خبر: {كُونُوا} . {خاسِئِينَ:} خبر ثان. وقيل: صفة: {قِرَدَةً:} وقيل:

حال من واو الجماعة منصوب

إلخ، وجملة:{كُونُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}

الشرح: {تَأَذَّنَ رَبُّكَ:} أعلم، تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإيعاد، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. هذا؛ وقيل: إن معنى الفعل السابق: آلى ربك، ولذا أجيب بما يجاب به القسم، كما ستعرفه، واختلف في الضمير في:{عَلَيْهِمْ،} والمعتمد: أنه يعم اليهود الذين بقوا بعد داود وسليمان، عليهما السلام، ثم فسدوا وفسقوا. {يَوْمِ:} انظر الآية رقم [128](الأنعام).

{الْقِيامَةِ:} انظر الآية رقم [12] منها. {مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ:} من يذيقهم أشد العذاب، والمراد بختنصر، حيث خرب ديارهم، وقتل رجالهم، وسبى نساءهم، وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس، ثم إلى ملوك الروم؛ حتى بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ففعل بهم ما فعله غيره، ثم ضرب عليهم الجزية، ولكن في هذه الأيام حين تفرق المسلمون، وصاروا شيعا وأحزابا ودويلات استطاع اليهود أن يقيموا دولة بمساعدة أوربا وأمريكا تتحدى جميع المسلمين في الدنيا. {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ} أي: لمن أصر على الكفر، ففيه دليل على أن الله يجمع لهم مع ذلة الدنيا عذاب الآخرة. {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي:

لمن آمن منهم، ورجع عن الكفر، واليهودية، ودخل في دين الإسلام. {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ:} صيغتا مبالغة من الغفران والرحمة، انظر ما ذكرته في الآية رقم [155].

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. (إذ): مفعول به لفعل محذوف، أو هو ظرف منصوب بالفعل المحذوف، التقدير: واذكر يا محمد وقت إيذان ربك، أي: إعلامه، والجملة المقدرة معطوفة على جملة: (اسألهم

) إلخ في الآية رقم [163]. {تَأَذَّنَ:} ماض.

{رَبُّكَ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها.

{لَيَبْعَثَنَّ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر تقديره:«هو» والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب {تَأَذَّنَ رَبُّكَ} المتضمن معنى القسم، واللام واقعة في جواب هذا القسم. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{إِلى يَوْمِ:} متعلقان بالفعل: (يبعثن) أيضا، و {يَوْمِ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه.

ص: 655

{مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {يَسُومُهُمْ:} مضارع، والهاء مفعول به أول، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {سُوءَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْعَذابِ:} مضاف إليه. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبُّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة. {لَسَرِيعُ:} خبر: {إِنَّ،} واللام هي المزحلقة، و (سريع) مضاف، و {الْعِقابِ:} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها؛ إذ التقدير: لسريع عقابه. والجملة الاسمية: {إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وإعراب ما بعدها ظاهر، لا خفاء فيه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}

الشرح: {وَقَطَّعْناهُمْ..} . إلخ: أي: فرقناهم في الأرض بحيث لا يخلو قطر منهم، وذلك لإضعافهم، وإذلالهم، حتى لا تكون لهم شوكة، ولا عزة، ولا كرامة، وقد صار لهم في هذا الزمن دولة، وسلطان. انظر ما ذكرته في الآية السابقة. وانظر:{وَقَطَّعْناهُمْ} في الآية رقم [160].

وانظر (نا) في الآية رقم [7]. {أُمَماً:} جماعات جمع: أمة. وانظر الآية رقم [34]. {مِنْهُمُ الصّالِحُونَ} أي: يوجد جماعة منهم متمسكون بشريعة موسى-عليه السلام-حتى بعث عيسى عليه السلام. وقيل: المراد بهم الذين أدركوا بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به. والصحيح الأول، يدل عليه الآية اللاحقة؛ لأن الخلف إنما كان بعد هؤلاء الذين وصفهم الله بالصلاح. {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ} أي: منحطون عن الصالحين، وهم الذين كفروا، وفسقوا، وبدلوا، وحرفوا.

{وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ:} اختبرناهم بالنعم والنقم، والخير والشر، كقوله تعالى:

{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أي: اختبارا، وامتحانا، فالمؤمن يشكر في الخير والنعماء، ويصبر في الشر، والضراء. والكافر، والفاجر، والفاسق يزداد كفرا، وفجورا في الأولين، ويضجر ويزداد فسادا في الأخيرين. وانظر شرح (الحسنة) و (السيئة) في الآية رقم [95]. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ:} ينتبهون فيرجعون إلى الطاعة، ويتركون المعاصي. وانظر (رجع) في الآية رقم [150] وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [26].

الإعراب: {وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً:} إعراب هذه الجملة انظره في الآية رقم [160].

والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وهو أولى من العطف على ما قبلها. {مِنْهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الصّالِحُونَ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب صفة:{أُمَماً} . وقيل: بدل. والأول أوجه. ما تقدم هو الإعراب

ص: 656

الظاهر، والأصح: أن مضمون الجار والمجرور {مِنْهُمُ} مبتدأ، و {الصّالِحُونَ} هو الخبر؛ لأن (من) الجارة دالة على التبعيض، أي: بعضهم الصالحون، وجمع الضمير يؤيد ذلك، ويؤيده عطف:(كثير) عليه في الآية رقم [69](المائدة) وعطف: (أكثرهم) عليه في الآية رقم [3/ 110].

وخذ قول الحماسي: [الكامل]

منهم ليوث لا ترام وبعضهم

ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب

حيث قابل لفظ: {مِنْهُمُ} بما هو مبتدأ، أعني: لفظة: (بعضهم) وهذا مما يدل على أن مضمون {مِنْهُمُ} مبتدأ. {مِنْهُمُ:} قل فيه ما قلته في سابقه، والمبتدأ أو الخبر محذوف، تقديره: ناس. {دُونَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة: (ناس) المحذوف، على حد قوله تعالى:{وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} أي: ما منا أحد إلا له مقام معلوم. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، وقول أبي البقاء:{دُونَ ذلِكَ} ظرف، أو خبر على ما ذكرنا في الآية رقم [/94 6] لا وجه له قطعا. و {دُونَ:} مضاف، و (ذلك) اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. (بلوناهم): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {بِالْحَسَناتِ:} متعلقان بما قبلهما. (السيئات): معطوف على سابقه. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {يَرْجِعُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعلّ)، والجملة الاسمية تعليل للابتلاء، لا محل لها.

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)}

الشرح: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي: جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم، وقسمناهم إلى القسمين خلف، وهو القرن، أو الجيل الذي بعد ما قبله، والخلف بسكون اللام يستعمل في الشر كما في آية مريم رقم [59] وبفتحها في الخير، وقال البيضاوي:{خَلْفٌ} مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد، والجمع. هذا؛ وخذ قول لبيد، رضي الله عنه:[الكامل]

ذهب الّذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وقال صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله» . وقد يتعاوضان، فيستعمل كل منهما موضع الآخر، قال حسان بن ثابت-رضي الله عنه-مستعملا ساكن اللام في الخير:[الطويل]

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا

لأوّلنا في طاعة الله تابع

ص: 657

وقال آخر مستعملا مفتوح اللام في الشر: [الرجز]

إنا وجدنا خلفا بئس الخلف

أغلق عنّا بابه ثم حلف

لا يدخل البواب إلاّ من عرف

عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف

انتهى قرطبي بتصرف. وانظر مثل هذا التعاوض في الآية رقم [5](الأنعام). ولا تنس: أن (خلف) ظرف مكان بمعنى (وراء). {وَرِثُوا الْكِتابَ} أي: التوراة، فقرءوها وعلموها، وخالفوا أحكامها، انظر شرح الكتاب في الآية رقم [2]. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى:} يأخذون حطام الدنيا الحقير الفاني، وهو ما كانوا يأخذونه من الرشا في الحكم، وغيره، والتنديد بهذا كثير في القرآن الكريم. هذا؛ و (العرض) متاع الدنيا بفتح الراء، وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير، سمي عرضا؛ لأنه متعرض للزوال. وانظر شرح:{الْأَدْنى} في الآية رقم [3].

{وَيَقُولُونَ:} يقول المحرفون والمبدلون من علماء اليهود. وانظر (القول) في الآية رقم [5].

{سَيُغْفَرُ لَنا} أي: لا يؤاخذنا الله بذلك، ويتجاوز عنا. وانظر الآية رقم [20] من سورة (المائدة).

{وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} أي: يرجون المغفرة، مصرين على الذنوب، غير تائبين منها.

وانظر (أتى) في الآية رقم [35]. وانظر: {مِثْلَ} في الآية رقم [94](الأنعام). {مِيثاقُ الْكِتابِ:}

المعنى ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكام العهود، والمواثيق في الكتاب، وهو التوراة.

وانظر مثل إعلال ميثاق في الآية رقم [8]. {أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ:} ولكنهم تركوا الحق.

وقالوا: الباطل، وحرفوا وبدلوا. {اللهِ:} انظر الآية رقم [87]. {الْحَقَّ:} انظر الآية رقم [33].

{وَدَرَسُوا ما فِيهِ} أي: قرءوا ما في التوراة من عهود، ومواثيق، ولكن أهملوا العمل بما درسوا وعلموا، فكانوا كالحمير التي تحمل الكتب، وما نفعها منها؟! انظر سورة (الجمعة). هذا؛ وقرئ «(وادّارسوا ما فيه)». هذا؛ وقال بعضهم: معنى درسوا محوا ما فيه بترك العمل به، والفهم له.

وانظر الآية رقم [101] البقرة والآية رقم [3/ 187]. {وَالدّارُ:} انظر الآية رقم [78]. {الْآخِرَةُ:}

انظر الآية رقم [45]. {أَفَلا:} انظر الآية رقم [65]. {تَعْقِلُونَ:} تفهمون وتعلمون. وانظر شرح العقل في الآية رقم [8/ 22] فإنه جيد. هذا؛ ويقرأ الفعل بتاء المضارعة على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، انظر الالتفات في الآية رقم [6/ 6] فإنه جيد كما يقرأ بالياء. {خَيْرٌ:} انظر الآية رقم [12]. {يَتَّقُونَ:} انظر التقوى في الآية رقم [26] هذا؛ ومعنى {وَالدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ..} . إلخ أي الذي أعده الله في الآخرة لأوليائه، وأهل طاعته، العاملين بما أمرهم الله به في كتابه، ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يرتشوا في الأحكام خير لهم من الدنيا، وما فيها.

تنبيه: قال القرطبي: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا، فعن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام، كما يبلى الثوب، فيتهافت، يقرءونه

ص: 658

لا يجدون له شهوة، ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذّئاب، أعمالهم طمع، لا يخالطه خوف، إن قصّروا؛ قالوا: سنبلّغ، وإن أساءوا؛ قالوا: سيغفر لنا، إنّا لا نشرك بالله شيئا. انتهى. فهو موقوف على الصحابي. أسنده الدارمي.

الإعراب: {فَخَلَفَ:} الفاء: حرف عطف. (خلف): ماض. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{خَلْفٌ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا.

{خَلْفٌ:} فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على: (قطعناهم

) إلخ في الآية السابقة لا محل لها مثلها. {وَرِثُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{قالُوا:} في الآية رقم [5] والجملة الفعلية في محل رفع صفة: {خَلْفٌ} . {الْكِتابَ:} مفعول به. {يَأْخُذُونَ:} فعل، وفاعل. {عَرَضَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {هذَا} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْأَدْنى:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه.

وقيل: صفته، وجملة:{يَأْخُذُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الضمير فقط. (يقولون): فعل، وفاعل. {سَيُغْفَرُ:} مضارع مبني للمجهول، والسين مفيدة للتوكيد على زعمهم، ولا معنى للاستقبال هنا، ولا سيما إذا عرفت: أن الجملة مع القول في محل نصب حال. {لَنا:} متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل. وقيل: نائب الفاعل يعود إلى مفهوم الجملة السابقة، أي سيغفر لنا الأخذ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. وجملة:{وَيَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. (إن):

حرف شرط جازم. {يَأْتِهِمْ:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والهاء مفعول به. {عَرَضَ:} فاعله. {مِثْلُهُ:} صفة: {عَرَضَ،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَأْتِهِمْ..} . إلخ ابتدائية لا محل لها، ويقال: لأنها جملة شرط غير جازم. {يَأْخُذُوهُ:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، و (إن) ومدخولها في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. وهذا يشكل؛ لأن (إن) الشرطية للاستقبال، إلا أن يقال:

إن الاستقبال غير مراد هنا، والحال متداخلة. {أَلَمْ} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير، وتوبيخ.

(لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يُؤْخَذْ:} مضارع مبني للمجهول مجزوم ب: (لم). {عَلَيْهِمْ:}

متعلقان به. {مِيثاقُ:} نائب فاعل، وهو مضاف، و {الْكِتابَ:} مضاف إليه، وجملة:{أَلَمْ يُؤْخَذْ..} . إلخ معترضة بين المتعاطفين كما ستعرفه. (أن): حرف مصدري، ونصب. (لا): نافية.

{يَقُولُوا:} مضارع منصوب ب (أن) وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الْحَقَّ:} منصوب، وجاز ذلك؛ لأن قول الحق كثير، و (أن) والمضارع في تأويل مصدر في محل رفع بدل، أو عطف بيان من

ص: 659

{مِيثاقُ} . أو هو في محل جر بحرف جر محذوف. التقدير: بأن لا، أو لئلا يقولوا

إلخ، وهناك وجه غريب، وبعيد نقله الجمل عن السمين، وهو أنّ (أن) مفسرة، و (لا) ناهية، والفعل مجزوم لا منصوب. (درسوا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَرِثُوا..} .

إلخ. وقال الجلال، وتبعه الجمل: إنها معطوفة على جملة: {أَلَمْ يُؤْخَذْ..} . إلخ. والمعتمد الأول. {ما:} موصولة أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة: {ما} أو بمحذوف صفته، التقدير: درسوا الذي كتب فيه، أو شيئا كائنا فيه. {وَالدّارُ:} الواو: حرف استئناف. (الدار): مبتدأ. {الْآخِرَةُ:} صفته. {خَيْرٌ:}

خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {لِلَّذِينَ:} متعلقان ب {خَيْرٌ،} وجملة:

{يَتَّقُونَ} مع المفعول المحذوف صلة الموصول لا محل لها {أَفَلا تَعْقِلُونَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {أَفَلا تَتَّقُونَ} في الآية رقم [65].

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}

الشرح: {يُمَسِّكُونَ:} يقرأ بالتشديد، والتخفيف، ماضي الأول: مسّك، وماضي الثاني:

أمسك، وفي المختار: أمسك بالشيء، وتمسك، واستمسك، وامتسك به كله بمعنى: اعتصم به، وكذا مسّك به تمسيكا. انتهى. {بِالْكِتابِ:} المراد به التوراة، فلم يحرفوه، ولم يبدلوه، فأداهم هذا التمسك إلى الإيمان بالكتاب الثاني، وهو القرآن. والمراد بالتمسك بالكتاب: العمل بما فيه من إحلال حلاله، وتحريم حرامه، وإقامة أحكامه. {وَأَقامُوا الصَّلاةَ:} داوموا على إقامتها في مواقيتها، وإنما أفردها بالذكر، وإن كانت داخلة في التمسك بالكتاب تنبيها على عظم قدرها، وأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله، ورسوله. وانظر الآية رقم [8/ 3] الآتية.

{إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ:} الذين أصلحوا أنفسهم، وعملهم، فثوابهم، وأجرهم يقدم إليهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في الذين أسلموا من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه رضي الله عنهم، فتمسكوا بالتوراة فأداهم ذلك إلى الإسلام.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. وقيل: في محل جر معطوف على ما قبله، والمعتمد الأول، وجملة:{يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ} صلة الموصول لا محل لها، والعائد الواو، وجملة:{وَأَقامُوا الصَّلاةَ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها، وقد اختلفتا مضارعا، وماضيا. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، وقد حذفت نونها للتخفيف، وجملة:{لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:

{إِنّا..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والرابط: إقامة الظاهر، وهو:{الْمُصْلِحِينَ} مقام

ص: 660

الضمير؛ إذ مقتضى القياس: (إنا لا نضيع أجرهم) أو هناك ضمير محذوف، التقدير: أجر المصلحين منهم. هذا؛ وعلى اعتبار عطف (الذين) على سابقه، فالجملة الاسمية:{إِنّا لا نُضِيعُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}

الشرح: {نَتَقْنَا:} قلعنا، ورفعنا، وأصل النتق: الجذب. هذا؛ والنتق قلع الشيء من موضعه والرمي به، ومنه نتق ما في الجراب إذا نفضه فرمى به، وامرأة ناتق ومنتاق إذا كانت كثيرة الولادة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«عليكم بزواج الأبكار، فإنّهنّ أنتق أرحاما، وأطيب أفواها، وأرضى باليسير» . {الْجَبَلَ:} جبل الطور للتصريح به في الآية رقم [63](البقرة). {ظُلَّةٌ:}

سقيفة فوقهم. {وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ:} علموا وأيقنوا: أنه ساقط عليهم، فالظن ليس على بابه هنا. {بِقُوَّةٍ:} بجد واجتهاد وصدق عزيمة، ولا بد من تقدير «قلنا» قبل:{خُذُوا} ليرتبط نظم الكلام. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ:} الله، وتتركون الكفر والمعاصي والعناد وقبائح الأعمال، ورذائل الأخلاق هذا؛ وانظر (التقوى) في الآية رقم [26]. هذا؛ والترجي في هذه الآية وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لشيء من عباده، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

تنبيه: قال أصحاب الأخبار: إن بني إسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لما فيها من التكاليف الشاقة؛ أمر الله-عز وجل-جبريل-عليه السلام-أن يرفع جبل الطور فوق رءوسهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوا ما فيها سقط الجبل عليكم، فلما رأوا الجبل فوقهم؛ خروا ساجدين، فسجد كل واحد منهم على خدّه، وحاجبه الأيسر، وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفا من سقوطه عليه، لذلك لا تسجد اليهود إلا على شقهم الأيسر. انتهى بتصرف. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [2/ 63] تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. (إذ): معطوفة على مثلها في الآية رقم [167] وإعرابها مثلها. {نَتَقْنَا الْجَبَلَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {فَوْقَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. وقيل: متعلق بمحذوف حال من:

{الْجَبَلَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {كَأَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{ظُلَّةٌ:} خبرها، والجملة الاسمية:{كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} في محل نصب حال من: {الْجَبَلَ،} والرابط الضمير فقط. وقول مكي: خبر لمبتدإ محذوف لا وجه له قطعا. (ظنوا): فعل، وفاعل، والمصدر المؤول من:{أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ} في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل: (ظنوا)،

ص: 661

وجملة: {وَظَنُّوا..} . إلخ فيها ثلاثة أوجه: أحدها: كونها معطوفة على جملة: {نَتَقْنَا..} . إلخ فهي في محل جر مثلها، وثانيها: كونها في محل نصب حال من: {الْجَبَلَ،} والرابط: الضمير فقط، فتكون الحال قد تكررت، ولا بد من تقدير (قد) قبلها لتقربها من الحال، وثالث الأوجه:

كون الجملة مستأنفة، وهو بعيد {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} انظر إعراب هذا الكلام مستوفى في الآية رقم [63](البقرة) فلا حاجة لإعرابه هنا.

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172)}

الشرح: {رَبُّكَ:} انظر الآية رقم [3]. {آدَمَ:} انظر الآية رقم [11]. {ذُرِّيَّتَهُمْ:} الذرية تقع على الواحد، وعلى الجمع. قيل: هو مشتق من الذّرا، وهو بفتح الذال: كل ما استذريت به، يقال: أنا في ظل فلان، وفي ذراه، أي: في كنفه، وستره، ودفئه، وهو بضم الذال: أعلى الشيء. وقيل: هو مشتق من الذرء، وهو الخلق، أبدلت همزتها ياء، ثم شددت الياء، وتبعتها الراء في التشديد. هذا؛ ويقرأ:«(ذرياتهم)» بالجمع وانظر {ذَرَأْنا} في الآية رقم [179].

{أَنْفُسِهِمْ:} انظر الآية رقم [9]. {أَلَسْتُ:} انظر إعلاله في الآية رقم [6/ 66]. {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [5]. {بَلى:} انظر الآية رقم [2/ 81] فإنه جيد. {يَوْمَ الْقِيامَةِ:} انظر الآية رقم [167]. {كُنّا:} انظر إعلال: {قُلْنا} في الآية رقم [11] فهو مثله.

{شَهِدْنا..} . إلخ: هذا من مقول الملائكة؛ أي: تقول الملائكة: شهدنا عليكم بالإقرار بالربوبية؛ لئلا تقولوا: {إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} لم ينبهنا عليه أحد. هذا؛ وقد قرئ هذا الفعل، والفعل الآتي بالياء، ويكون الفاعل (الله) تبارك، وتعالى، ويكون المعنى، قال الله تعالى: فعلنا ذلك لئلا يقولوا

إلخ. هذا؛ وقد قيل: إن الكلام على الغيبة من مقولهم، والمعنى: قالوا: بلى شهد بعضنا على بعض، وعلى الاعتبارين الأولين فالوقف على:{بَلى،} وعلى الاعتبار الثالث فلا وقف عليها. وهذا إشارة إلى العهد والميثاق الذي أخذه الله على بني آدم. وقيل: هو إشارة إلى الإيمان والتوحيد. والأول أولى، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: في معنى الآية الكريمة، وتفسيرها مذهبان: مذهب السلف، ومذهب الخلف، فمحصل المذهب الأول: أن الله أخرج بعضهم من صلب بعض، من صلب آدم، نسلا بعد نسل، كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان (واد قرب عرفة) يوم عرفة، ونصب لهم دلائل على ربوبيته، وركب فيهم عقلا، وفهما. ومذهب الخلف محصله: أنه لا إخراج، ولا قول، ولا شهادة بالفعل، وإنما هذا كله على سبيل المجاز التمثيلي، فشبه حال النوع الإنساني بعد

ص: 662

وجوده بالفعل بصفات التكليف من حيث نصب الأدلة الدالة على الربوبية لله المقتضية لأن ينطق، ويقر بمقتضاها بأخذ الميثاق عليه بالفعل، بالإقرار بما ذكر، فنصب الأدلة بالفعل إنما هو على طريقة الخلف.

تنبيه: يروى: أن عمر-رضي الله عنه-سئل عن هذه الآية، فقال: سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنّ الله-تبارك وتعالى-خلق آدم، ثمّ مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريّة، فقال:

خلقت هؤلاء للجنّة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرّيّة، فقال:

خلقت هؤلاء للنّار، وبعمل أهل النّار يعملون». فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة؛ حتّى يموت على عمل من أعمال الجنة، فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنّار استعمله بعمل أهل النّار حتّى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله النار» . أخرجه مالك في الموطأ، وأبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن. انتهى قرطبي وخازن.

فائدة: قال ابن العربي: فإن قيل: فكيف يجوز أن يعذب الخلق، وهم لم يذنبوا، أو يعاقبهم على ما أراده منهم، وكتبه عليهم، وساقهم إليه؟! قلنا: ومن أين يمتنع ذلك أعقلا، أم شرعا؟ فإن قيل: إن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك، قلنا: لأن فوقه آمرا يأمره، وناهيا ينهاه، وربنا تعالى لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخالق، ولا تحمل أفعال العباد على أفعال الإله، وبالحقيقة الأفعال كلها لله جل جلاله، والخلق بأجمعهم له، صرفهم كيف شاء، وحكم بينهم بما أراد، وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلّة وشفقة الجنسيّة، وحب الثناء، والمدح، لما يتوقع في ذلك من الانتفاع، والباري تعالى مقدّس عن ذلك كله، فلا يجوز أن يعتبر به. انتهى قرطبي.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. (إذ): معطوفة على مثلها في الآية رقم [167] وإعرابها مثلها. {أَخَذَ رَبُّكَ:} فعل، وفاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {مِنْ بَنِي:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي:} مضاف، و {آدَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {مِنْ ظُهُورِهِمْ:} بدل مما قبلهما بدل بعض، وقيل بدل اشتمال. {ذُرِّيَّتَهُمْ:}

مفعول به والهاء في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. (أشهدهم): ماض، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى:{رَبُّكَ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {عَلى أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَلَسْتُ:}

الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لست): ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه.

ص: 663

{بِرَبِّكُمْ:} خبر (ليس) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: قال ربك: {أَلَسْتُ..} . إلخ، وهذه الجملة مفسرة ل {وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ}. {قالُوا:} فعل، وفاعل والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {بَلى:} حرف جواب في محل نصب مقول القول على الحكاية.

{شَهِدْنا:} فعل، وفاعل، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَقُولُوا} في محل جر بحرف جر محذوف، و (لا) مقدرة؛ إذ التقدير: لئلا تقولوا، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:

{شَهِدْنا،} وهذا عند الكوفيين، وهو عند البصريين على حذف مضاف، التقدير: كراهية قولكم يوم القيامة، فهو مفعول لأجله، والجملة الفعلية:{شَهِدْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: قالت الملائكة: شهدنا لئلا تقولوا

إلخ، وهذا على قراءة:«تقولوا» بالتاء، وأما على قراءته بالياء، فيكون الجار والمجرور:(لئلا يقولوا) متعلقين بالفعل: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ} وتكون جملة: {قالُوا بَلى} مستأنفة، وجملة:{شَهِدْنا} من مقولها، ومتعلقها محذوف، التقدير: قالوا: بلى شهدنا على أنفسنا. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، و {يَوْمَ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها.

{كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {عَنْ هذا:} متعلقان بما بعدهما.

{غافِلِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{كُنّا..} . إلخ في محل رفع خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}

الشرح: {أَوْ تَقُولُوا:} هو مثل سابقه بالتاء، والياء. وانظر الإعراب. {إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ} أي: فعلوا الشرك، وابتدعوه، فاقتدينا بهم، وسرنا على طريقتهم. والمعنى: إنما أخذ عليهم العهد، والميثاق في قديم الأزل؛ لئلا يحتجوا بتقليد آبائهم. وعلى القول الثاني في شرح الآية السابقة يكون المعنى: إن الله نصب الدلائل على ربوبيته، وأظهرها للعقول قطعا للعذر بتقليد الآباء والأجداد؛ لأن ما نصب الله في هذا الكون من دلائل على توحيده والإيمان به موجود في كل زمان ومكان، فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والإقبال على تقليد الآباء في الشرك. {وَكُنّا ذُرِّيَّةً} انظر الآية السابقة. {أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ:} أفتعذبنا بما ابتدع آباؤنا من الباطل، وهو الشرك؟ وانظر (الباطل) في الآية رقم [139]. هذا؛ وفي الآية الكريمة قطع لعذر الكفار بالاحتجاج بتقليد الآباء، والأجداد.

ص: 664

الإعراب: {أَوْ:} حرف عطف. {تَقُولُوا:} مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والناصب المقدر بسبب العطف والفعل في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، و (لا) مقدرة، التقدير: أو لئلا تقولوا، أو هو على حذف مضاف. التقدير: كراهية قولكم. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {أَشْرَكَ آباؤُنا:} فعل، وفاعل، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {قَبْلُ} مبني على الضم في محل جر لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. (كنا): ماض ناقص مبني على السكون، و (نا) اسمه. {ذُرِّيَّةً:} خبره، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {مِنْ بَعْدِهِمْ:}

متعلقان بمحذوف صفة: {ذُرِّيَّةً،} والهاء في محل جر بالإضافة. {أَفَتُهْلِكُنا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (تهلكنا): مضارع، و (نا): مفعول به. (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي أو بشيء فعله المبطلون، وعلى الاعتبار الثالث تؤول (ما) مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بفعل المبطلين. {فَعَلَ:} ماض. {الْمُبْطِلُونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{أَفَتُهْلِكُنا..} .

إلخ مستأنفة، ثم هي داخلة في مقول القول. تأمل، وتدبر وربك أعلم وأجل، وأكرم.

{وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}

الشرح: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ:} نبين، ونوضح الآيات الدالة على عظمة الله تبيينا مثل تبيين الميثاق والعهد ليتدبرها العباد، فيرجعوا عن الشرك إلى التوحيد، وإلى الحق والإيمان، ويعرضوا عن الباطل والكفر. هذا؛ وانظر شرح:{الْآياتِ} في الآية رقم [9] وشرح: {رَجَعَ} في الآية رقم [150] وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [171] وانظر (نا) في الآية رقم [7].

الإعراب: (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: نفصل الآيات تفصيلا كائنا مثل تفصيل أخذ العهد والميثاق على بني آدم. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [151].

{نُفَصِّلُ:} مضارع. والفاعل مستتر وجوبا تقديره: «نحن» . {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية معطوفة على الكلام السابق، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [168] وهي معطوفة على محذوف، انظر الشرح.

ص: 665

{وَاُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175)}

الشرح: {وَاتْلُ:} اقرأ يا محمد. {عَلَيْهِمْ:} على اليهود. وقيل: على قومك. والمعتمد الأول. {نَبَأَ:} خبر. وانظر الآية رقم [101]. {الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا:} لقد اختلف بالمقصود في هذا اختلافا كبيرا.

فقيل: اسمه بلعم بن باعوراء. وقيل: بلعام ابن باعر. وقيل: هو من قوم موسى. وقيل: هو من الكنعانيين، أوتي علم بعض كتب الله تعالى، فسأله بعض الكنعانيين أن يدعو على موسى وقومه فأبى. وهذا على القول بأن موسى-عليه السلام-لم يمت في التيه، وأما على اعتباره مات في التيه، فيكون الدعاء على يوشع خليفة موسى الذي قاتل الجبارين بعد موسى، على نبينا، وعليهم جميعا أفضل صلاة، وأزكى تسليم. وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة؟ فلم يزالوا به، وقدموا له أموالا كثيرة حتى رضي، وذهب معهم إلى الجبل المطل على موسى وقومه، وكان قد عزم على قتال الكنعانيين الجبارين، فأخذ بالدعاء على موسى وقومه، فلم يدع بشيء إلا صرف الله به لسانه على قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل، فقالوا له: يا بلعام! أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا، فقال: هذا ما لا أملكه، هذا شيء غلب الله عليه، واندلع لسانه على صدره، فقال لمن ذهبوا به: ذهبت مني الدنيا والآخرة! والمراد ب: {آياتِنا:} العلم الذي علمه الله إياه. وقيل: هو الاسم الأعظم.

والمرجح: أنه من علماء بني إسرائيل. وانظر (نا) في الآية رقم [7].

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص، وسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم: نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب القديمة، وعلم: أن الله يرسل رسولا في ذلك الوقت، وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم حسده، وكفر به، وكان أمية صاحب شعر وحكمة ومواعظ حسنة، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:«آمن شعره وكفر قلبه» . وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب بن صيفي، الذي سأذكره في الآية رقم [107] من سورة (التوبة). والمعتمد الأول.

{فَانْسَلَخَ مِنْها} أي: من معرفة الله تعالى، أي: نزع منه العلم الذي كان يعلمه، بعد أن كفر بها، ونبذها وراء ظهره. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ:} فلحقه، وأدركه، وصار قرينا له، حتى أهلكه وقال الجمل: أي فصار قدوة، ومتبوعا للشيطان على سبيل المبالغة. وانظر شرح:{الشَّيْطانُ} في الاستعاذة؛ فإنه جيد. {فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ:} من الضالين الكافرين بسبب مخالفة أوامر ربه، وطاعة هواه وشيطانه.

ص: 666

الإعراب: (اتل): أمر مبني على حذف حرف العلة، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره: أنت. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {نَبَأَ:}

مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة.

{آتَيْناهُ:} فعل، وفاعل ومفعول به أول. {آياتِنا:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَاتْلُ..} . إلخ معطوفة على المقدر في {وَإِذْ أَخَذَ} . (انسلخ): ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} . {مِنْها:} متعلقان به، وجملة:{فَانْسَلَخَ مِنْها} معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. {فَأَتْبَعَهُ:} ماض، والهاء مفعول به. {الشَّيْطانُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة أيضا على جملة الصلة. (كان): ماض ناقص، واسمها يعود إلى:{الَّذِي} . {مِنَ الْغاوِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان)، وجملة:{فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ} معطوفة أيضا على جملة الصلة، لا محل لها مثلها.

{وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاِتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}

الشرح: {شِئْنا:} انظر شاء في الآية رقم [89]. {لَرَفَعْناهُ بِها:} إلى منازل الأبرار من العلماء بسبب تلك الآيات، وذلك بالتوفيق للعمل بها. {وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} أي: سكن إلى الدنيا، ومال إليها، ورضي بها، وأصله من الخلود، وهو الدوام، والمقام، والأرض هنا عبارة عن الدنيا؛ لأن كل شيء فيها. {وَاتَّبَعَ هَواهُ:} في إيثار الدنيا ولذاتها على الآخرة، ونعيمها، فخسر دنياه وآخرته، ولا تنس أن مشيئة الله قد تعلقت بذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [172] ففيها الجواب الكافي، والدواء الشافي.

هذا؛ والهوى يقصر ويمد، والمراد بالأول: الحبّ، والعشق، والغرام، وهو أيضا محبة الإنسان للشيء، وغلبته على قلبه، وهو ما في الآية الكريمة، ومنه قوله تعالى {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي نهاها عن شهواتها، وما تدعو إليه من معاصي الله تعالى، ويراد بالممدود ما بين السماء والأرض، وقد جاء الهوى بمعنى العشق ممدودا في الشعر، ومنه قول الشاعر:[الطويل]

وهان على أسماء إن شطّت النّوى

نحنّ إليها والهواء يتوق

وإليك هذين البيتين، فإنهما من النكت الحسان:[الكامل]

جمع الهواء مع الهوى في مهجتي

فتكاملت في أضلعي ناران

ص: 667

فقصّرت بالممدود عن نيل المنى

ومدّدت بالمقصور في أكفاني

وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر؛ لأنه لا يقال: فلان يهوى الخير، بل يقال: فلان يحب الخير، ويريده. هذا؛ وجمعه: أهواء، وجمع الممدود: أهوية. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ:} فصفته كصفة الكلب في أخس أحواله، وتشبيه بلعام بالكلب حاصل حينما دعا على موسى، عليه السلام، أو على يوشع، فخرج لسانه، فوقع على صدره، وجعل يلهث كالكلب. وانظر:{مَثَلُ} في الآية رقم [6/ 93]. {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} أي: يلهث في جميع أحواله: زجرته، أم لم تزجره.

قال القتيبي: كل شيء يلهث، فإنما يلهث من إعياء، أو عطش، إلا الكلب؛ فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال المرض، وحال الصحة، وحال الري، وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، فقال: إن وعظته ضل، وإن تركته ضل، فهو كالكلب، إن تركته لهث، وإن طردته لهث. وانظر الآية الآتية برقم [193]. وإنما يلهث الكلب دائما لضعف فؤاده.

{ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أي: إن المثل الذي ضرب الله لبلعام ينطبق على كل كافر مكذب لآيات الله، وجاحد لها، فوجه التمثيل بين المكذبين وبين الكلب اللاهث، أنهم إذا وعظوا لا يتعظون، وإذا تركوا فهم لا يهتدون، بل هم في ضلال في كل حال. وانظر شرح:

{الْقَوْمِ} في الآية رقم [31] وشرح (الآيات) في الآية رقم [9]. {فَاقْصُصِ..} . إلخ: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقص على اليهود وعلى قومه أخبار من كفر بآيات الله لعلهم يتعظون فينتفعون بما تقص عليهم. هذا؛ و {الْقَصَصَ} مصدر قولهم: قص فلان الحديث يقصه قصّا وقصصا، وأصله:

تتبع الأثر، يقال: خرج فلان يقص أثر فلان، أي يتتبعه ليعرف أين يذهب، ومنه قوله تعالى:

{وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اتبعي أثره. وانظر الترجي في الآية رقم [171].

تنبيه: قال الخازن: وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا، ويتبعون الهوى، وذلك لأن الله عز وجل خص هذا الرجل بآياته، وحكمته، وعلّمه الاسم الأعظم، وجعل دعاءه مستجابا، ثم إنه لما اتبع هواه، وركن إلى الدنيا؛ نزع منه ما كان أعطيه، وانسلخ من الدين، فخسر الدنيا والآخرة.

عن كعب بن مالك الأنصاري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والسّرف لدينه» . أخرجه الترمذي.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{شِئْنا:} فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف، التقدير: شئنا له الخير، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَرَفَعْناهُ:} فعل، وفاعل ومفعول به، واللام واقعة في جواب (لو)، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محل لها. {بِها:} جار ومجرور

ص: 668

متعلقان بما قبلهما، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلكِنَّهُ:} الواو: حرف عطف. (لكنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {أَخْلَدَ:}

ماض، وفاعله مستتر تقديره هو يعود إلى:{الَّذِي} . {إِلَى الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} في محل رفع خبر (لكنّ) والجملة الاسمية معطوفة على (لو) ومدخولها، لا محل لها مثله. (اتبع): ماض، وفاعله مثل سابقه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {هَواهُ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَمَثَلُهُ:} الفاء: حرف استئناف. (مثله): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {كَمَثَلِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (مثل) مضاف، و {الْكَلْبِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{فَمَثَلُهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَوْ:}

حرف عطف. {تَتْرُكْهُ:} مضارع معطوف على فعل الشرط مجزوم مثله، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعوله. {يَلْهَثْ:} معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، وفاعله «أنت» ، وجملتا الشرط في محل نصب حال من:{الْكَلْبِ،} التقدير: لاهثا ذليلا بكل حال.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {مَثَلُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْقَوْمِ:} مضاف إليه. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة: {الْقَوْمِ،} وجملة: {كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَاقْصُصِ:}

الفاء: هي الفصيحة. (اقصص): أمر مبني على السكون، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، والفاعل تقديره:«أنت» . {الْقَصَصَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا تحققت: أنّ المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصصه عليهم حسبما أوحي إليك، والجملة الشرطية على هذا التقدير معطوفة على ما قبلها بالعاطف المذكور.

{لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [168] وهي مفيدة للتعليل.

{ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)}

الشرح: {ساءَ:} ماض جامد فيه معنى الذم مثل: بئس. {مَثَلاً:} انظر الآية رقم [93](الأنعام). {الْقَوْمُ:} انظر الآية رقم [32]. {بِآياتِنا:} المراد بها: المعجزات؛ التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أعظمها الحديث عن أخبار الأمم السابقة، ولا سيما أخبار بني إسرائيل. وانظر الآية رقم [9] و (نا) في الآية رقم [7]. {وَأَنْفُسَهُمْ:} انظر الآية رقم [9]. {يَظْلِمُونَ:} انظر البغي والظلم في الآية رقم [6/ 146]. وظلمهم لأنفسهم بسبب إدخالها نار الجحيم لكفرهم، وعنادهم، ومخالفة أوامر الله تعالى. هذا؛ وقرأ عاصم الجحدري، والأعمش برفع (مثل القوم) وحذف التمييز، والمراد ذم الكفار المكذبين، وذم التمثيل بهم، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

ص: 669

الإعراب: {ساءَ:} ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فسره التمييز، وهو:

{مَثَلاً} التقدير: بئس المثل مثلا. {الْقَوْمُ:} مبتدأ مؤخر، خبره الجملة الفعلية قبله، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم القوم، وعلى قراءة عاصم، والأعمش يكون (مثل) فاعلا، وهو مضاف، و (القوم) مضاف إليه، ويكون:{الَّذِينَ..} . إلخ هو المخصوص بالذم، وعلى قراءة الجمهور لا بد من تقدير مضاف قبل {الْقَوْمُ} ليكون التمييز والفاعل والمخصوص بالذم كلها متحدة المعنى، وعليه فتقدير الكلام يكون:(ساء مثلا مثل القوم) فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا كثير شائع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة: {الْقَوْمُ} على قراءة الجمهور، وفي محل رفع خبر لمبتدإ محذوف على قراءة عاصم، والأعمش، ولا بد من تقدير مضاف محذوف أيضا، أي: هو مثل الذين

إلخ، وجملة:

{كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول، والعائد واو الجماعة. {وَأَنْفُسَهُمْ:} مفعول به مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَظْلِمُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان)، وجملة:(كانوا يظلمون أنفسهم) معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، فيكون المذمومون قد جمعوا بين التكذيب، وظلم أنفسهم، أو هي مستأنفة فلا تكون داخلة في جملة الصلة، ويكون المعنى: وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم، فإن وباله لا يتخطاها. انتهى بيضاوي بتصرف.

{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)}

الشرح: هذا تصريح بأن الهداية للإيمان، والكفر، والضلال من الله تعالى الواحد القهار، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض. وما أجدرك أن تنظر الآية رقم [30] والآية رقم [3/ 88] وانظر الآية رقم [13] من سورة السجدة، والآية رقم [172] ففيها الجواب الكافي والدواء الشافي، وقد راعى سبحانه لفظ:{مَنْ} في الأول، فأفرد الضمير:{فَهُوَ الْمُهْتَدِي} وراعى معناها في الثاني، فجمع اسم الإشارة، وما بعده. وانظر الخسران في الآية رقم [149].

{اللهُ:} انظر الآية رقم [87].

الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو هو في محل نصب مفعول به مقدم. {يَهْدِ:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {اللهُ:} فاعله، والمفعول محذوف على اعتبار {مَنْ} مبتدأ، التقدير: يهده. {فَهُوَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هو): ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْمُهْتَدِي:} خبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، وهي ثابتة هنا عند جميع القراء بخلاف ما في الإسراء والكهف، والجملة الاسمية في

ص: 670

محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر:{مَنْ} على اعتبارها مبتدأ مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [131] والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُمُ:} ضمير فصل لا محل له. {الْخاسِرُونَ:} خبر المبتدأ. هذا؛ ويجوز اعتبار {هُمُ} مبتدأ ثانيا مبنيّا على السكون في محل رفع. {الْخاسِرُونَ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وباقي الإعراب مثل الجملة السابقة بلا فارق، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يُضْلِلْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)}

الشرح: {ذَرَأْنا:} خلقنا. {لِجَهَنَّمَ:} انظر دركات النار في الآية رقم [145](النساء).

{الْجِنِّ وَالْإِنْسِ:} انظر الآية رقم [6/ 115] ففيها الكفاية. {لا يَفْقَهُونَ بِها:} لا يفقهون بها.

هذا؛ والفقه في اللغة: الفهم، والعلم بالشيء، ثم صار علما على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم، يقال: فقه الرجل يفقه فهو فقيه: إذا فهم، والفعل من باب فهم الذي هو بمعناه. وفقه من باب ظرف، وكرم: صار فقيها، ومعنى الجملة: لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يعلمون بها الخير والهدى، لإعراضهم عن الحق. وتركهم قبوله. {أَعْيُنٌ:} جمع عين.

وانظر الآية رقم [116]. {لا يُبْصِرُونَ بِها:} لا يرون طريق الحق والهدى، ولا ينظرون بها في آيات الله وأدلة توحيده. {لا يَسْمَعُونَ بِها} أي: لا يسمعون المواعظ وآيات القرآن سماع قبول، وقد حذف مفعول هذا الفعل وسابقه للتعميم. وانظر الآية رقم [100].

{أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ} أي: إن الذين خلقهم الله لجهنم، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية كالبهائم التي لا تعقل ما يقال لها؛ لأن الحواس المذكورة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وإنما فضل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدي إلى معرفة الحق من الباطل، والخير من الشر. وانظر شرح:{كَالْأَنْعامِ:} في الآية رقم [6/ 136]. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} أي: من الأنعام؛ لأنها تطلب منافعها، وتهرب من مضارها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة. وانظر فضل الحمار على الجاهل في الآية رقم [6/ 35] وهل الكافر والعاصي إلا من أجهل الجهال؟! {أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} أي: عن ما ينفعهم وما يضرهم. هذا؛ وانظر الآية رقم [2/ 18] والآية رقم [8/ 22] تجد ما يسرك.

ص: 671

الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر إعرابه في الآية رقم [130]. {ذَرَأْنا:} فعل، وفاعل، وجملة:

{وَلَقَدْ ذَرَأْنا..} . إلخ جواب القسم المحذوف، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له.

{لِجَهَنَّمَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من:

{كَثِيراً،} ولا وجه له، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {كَثِيراً:} مفعول به، وهو صفة لموصوف محذوف، أي خلقا كثيرا. {مِنَ الْجِنِّ:}

متعلقان بمحذوف صفة ثانية للموصوف المحذوف. {وَالْإِنْسِ:} معطوف على ما قبله. {لَهُمْ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والجملة الاسمية في محل نصب صفة للموصوف المحذوف، أو في محل نصب حال منه لوصفه بما تقدم، والوصف يخصص النكرة. هذا؛ وجوز تعليق {لَهُمْ} بمحذوف صفة أو حال على نحو ما رأيت، و {قُلُوبٌ} فاعل بالجار والمجرور، والمعتمد الأول، وإن فضل السمين الثاني لأنه من الوصف بالمفرد. {لا:} نافية. {يَفْقَهُونَ:}

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله. {بِها:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{قُلُوبٌ} . {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها} إعراب هاتين الجملتين كسابقتهما، ومفعول الفعلين محذوف للتعميم، انظر الشرح. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {كَالْأَنْعامِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. هذا؛ ويجوز اعتبار الكاف اسما بمعنى مثل، فهي الخبر، و (الأنعام) في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {بَلْ:}

حرف عطف تبتدأ بعده الجمل. {هُمْ أَضَلُّ:} مبتدأ وخبر، ومتعلق {أَضَلُّ} محذوف، انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية السابقة، وهي مؤكدة لسابقتها لا محل لها مثلها

{وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)}

الشرح: {وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى:} المعنى: أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله، وأسماؤه جلت قدرته كلها حسنى؛ لأنها تدل على معان حسنة، فمنها ما يستحقه بحقائقه، كالقديم قبل كل شيء، والباقي بعد كل شيء، والقادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، والواحد الذي ليس كمثله شيء. ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها الحسنة كالغفور، والرحيم، والرءوف، والشكور، والحليم. ومنها ما يوجب التخلق به كالفضل، والعفو. ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال، كالسميع، والبصير، والمقتدر. ومنها ما يوجب الإجلال، كالعظيم، والجبار، والمتكبر، وأسماء الله توقيفية، وهي تسعة وتسعون اسما.

ص: 672

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحبّ الوتر» . وفي رواية: «من أحصاها» . متفق عليه، قال البخاري: أحصاها: حفظها، وقد ذكر سبحانه (الأسماء الحسنى) في أربع آيات، أولها في هذه الآية، وثانيها في آخر سورة (الإسراء) وثالثتها في أول سورة (طه) ورابعتها في آخر سورة الحشر، وسأذكرها بالتفصيل في سورة الإسراء إن شاء الله تعالى. وأسماء جمع: اسم، انظر اشتقاقه في البسملة أول هذا الكتاب. هذا؛ والحسنى مؤنث الأحسن كالكبرى مؤنث الأكبر، والصغرى مؤنث: الأصغر. وقيل: بل هو مصدر وصف به كالرجعى، وأفرده كما أفرد وصف ما لا يعقل في قوله:{وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى} وانظر الآية رقم [9/ 53]. {فَادْعُوهُ بِها:} ادعوا الله بأسمائه التي سمى بها نفسه، أو سماه بها رسوله.

وقال القرطبي: أي: اطلبوا منه بأسمائه، فيطلب منه بكل اسم ما يليق به، تقول: يا رحيم ارحمني، ويا غفور اغفر لي! وهكذا.

وللدعاء شرائط: منها: أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها، ويستحضر في قلبه عظمة المدعو سبحانه وتعالى، ويخلص النية في دعائه مع كثرة التعظيم، والتقديس لله، ويعزم المسألة مع رجاء الإجابة، ويعترف لله سبحانه بالربوبية، وعلى نفسه بالعبودية. فإذا فعل العبد ذلك، عظم موقع الدعاء، وكان له تأثير عظيم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [55]. {وَذَرُوا:}

اتركوا. وانظر الآية رقم [70]. {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ:} الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد، والعدول عن الاستقامة، ولتفسيره فيه أقوال:

منها ما كان الجاهليون يفعلونه من تسمية أصنامهم بالآلهة، واشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى، فسموا اللات مشتقّا من الإله، والعزى مشتقّا من العزيز، ومناة مشتقّا من المنان. وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد. ومنها تسمية الله تعالى بما لم يسم به نفسه، ولم يرد فيه نص من كتاب، ولا سنة، ومنها سوء الأدب في الدعاء، مثل أن يقول: يا خالق القردة. ومنها أن يدعو العبد الله باسم لا يعرف معناه. هذا؛ ويقرأ الفعل: «يلحدون» بضم الياء وكسر الحاء من: ألحد الرباعي، وبفتحهما من: لحد الثلاثي. {سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ:} انظر شرح هذه الجملة في الآية رقم [6/ 120] تجد ما يسرك، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. (لله): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْأَسْماءُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {الْحُسْنى:} صفة:

{الْأَسْماءُ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {فَادْعُوهُ:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [37]. (ادعوه): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله. وانظر إعراب:{اُسْجُدُوا} في الآية رقم [11] والجملة الفعلية لا محل لها على جميع

ص: 673

الوجوه المعتبرة بالفاء. {بِها:} متعلقان بما قبلهما. (ذروا): فعل أمر وفاعله والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ} صلة الموصول لا محل لها. {سَيُجْزَوْنَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والسين حرف استقبال. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي أو شيئا كانوا يعملونه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به ثان، التقدير سيجزون عملهم. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{سَيُجْزَوْنَ..} . إلخ: مستأنفة، لا محل لها.

{وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}

الشرح: {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم المهاجرون والأنصار، والتابعون لهم بإحسان. قال قتادة رضي الله عنه: بلغنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية، قال:«هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها» . يريد قوم موسى عليه السلام، وقرأ الآية رقم [159] وقال الخازن: وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق، ويعمل به ويهدي إليه. وعن معاوية قال وهو يخطب على المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال من أمّتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، حتّى يأتي أمر الله، وهم على ذلك» . متفق عليه انتهى. وقال النسفي: قيل هم العلماء، والدعاة إلى الدين، وفيه دلالة على أن إجماع كل عصر حجة. وانظر شرح المفردات في الآية رقم [159] ففيها الكفاية.

الإعراب: {وَمِمَّنْ:} (ممّن): جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: ومن الذين، أو من ناس خلقناهم. {أُمَّةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية، مستأنفة، لا محل لها. وانظر باقي الإعراب في الآية رقم [159] ففيه الكفاية لذوي الدراية.

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا:} المراد به جميع المكذبين بآيات الله، وهم الكفار. وقيل:

المراد بهم أهل مكة. والأول أولى؛ لأن صيغة العموم تتناول الجميع إلا ما دل الدليل على خروجه منه. انتهى. خازن. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ:} قال الأزهري: سنأخذهم قليلا

ص: 674

قليلا من حيث لا يحتسبون، وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم من أبواب النعم ما يغتبطون به، ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون.

هذا؛ وأصل الاستدراج: الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة، قال الضحاك: المعنى كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة، أي فيظنوا أن تواتر النعم لطف من الله تعالى بهم، فيزدادون بطرا وانهماكا في الضلال حتى يحق عليهم العذاب، وما أجدرك أن تنظر الآية رقم [/44 6] هذا؛ وانظر (نا) في الآية رقم [7]. ويقرأ: الفعل «(سيستدرجهم)» بياء المضارعة، فيكون فيه التفات من التكلم إلى الغيبة. انظر التفات في الآية رقم [6/ 6]. {حَيْثُ:} انظر الآية رقم [27].

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجوز نصبه على الاشتغال بفعل محذوف، والمعتمد الأول، وجملة:{كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ:} السين: حرف استقبال، ويقال: حرف تسويف. (نستدرجهم): مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به. هذا؛ وعلى قراءة الفعل بالياء، يكون الفاعل مستترا تقديره هو، فيحتمل عوده إلى (الله)، وأن يكون ضمير التكذيب المفهوم من الفعل:{كَذَّبُوا،} والجملة الفعلية على جميع الوجوه في محل رفع خبر المبتدأ، ولا محل لها على الاشتغال، وقد رأيت ضعفه. {مِنْ حَيْثُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و {حَيْثُ:} مبني على الضم في محل جر، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها، ومفعول الفعل محذوف، التقدير: لا يعلمون: أنه استدراج، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}

الشرح: {وَأُمْلِي لَهُمْ:} أمهلهم. والإملاء: الإمهال. {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ:} إن أخذي شديد قوي. وإنما سماه كيدا؛ لأن ظاهره إحسان، وباطنه خذلان. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن مكري شديد، وفي المختار: الكيد: المكر، وربنا جل علاه منزه عن المكر، والكيد، وإنما الكلام من باب المشاكلة، قيل: نزلت الآية والتي قبلها في المستهزءين من قريش. والمعتمد التعميم كما أسلفت. وانظر المشاكلة في الآية رقم [30](الأنفال).

الإعراب: {وَأُمْلِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية مستأنفة، وقيل في محل رفع خبر مبتدأ محذوف، التقدير:

وأنا أملي، وعليه فالجملة اسمية، وهي مستأنفة أيضا. وجوز أبو البقاء عطفها على ما قبلها.

وهو غير وجيه لاختلاف تقدير الضميرين. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {إِنَّ:}

حرف مشبه بالفعل. {كَيْدِي:} اسم: {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل

ص: 675

ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {مَتِينٌ:} خبر:

{إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليل للإملاء، والإمهال، لا محل لها.

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}

الشرح: {أَوَلَمْ:} انظر الآية رقم [63]. {يَتَفَكَّرُوا:} التفكر: التأمل، وإعمال الخاطر في عاقبة الأمر. {بِصاحِبِهِمْ:} المراد به سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. وانظر: {أَصْحابُ} في الآية رقم [36]. {جِنَّةٍ:} جنون. {إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: ما الرسول صلى الله عليه وسلم إلا منذر للناس من غضب الله وعقابه وموضح لهم ما ينفعهم، وما يضرهم. هذا؛ وانظر إعلال:{مُبِينٌ} في الآية رقم [59](الأنعام). وانظر (جن) في الآية رقم [76] منها تجد ما سيرك.

تنبيه: قال قتادة: ذكر لنا: أن نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلا، فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا «يا بني فلان، يا بني فلان، إني لكم نذير مبين» ، وكان يحذرهم بأس الله ووقائعه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت إلى الصباح، فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة، وإنما نسبوه إلى الجنون، وهو بريء منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في الأقوال، والأفعال؛ لأنه كان معرضا عن الدنيا، ولذاتها، مقبلا على الآخرة ونعيمها، مشتغلا بالدعاء إلى الله تعالى، وإنذار بأسه ونقمته ليلا ونهارا من غير ملال، ولا ضجر. فعند ذلك نسبوه إلى الجنون، فبرأه الله من الجنون، وهو بريء منه. انتهى خازن، وجمل بتصرف.

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقريع، وتوبيخ. الواو: حرف عطف. لم:

حرف نفي وقلب وجزم. {يَتَفَكَّرُوا:} مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة مع الجملة المقدرة المعطوفة عليها على القول الثاني، ومعطوفة على ما قبلها على القول الأول في الواو. {ما:} نافية. {بِصاحِبِهِمْ:}

متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة. {جِنَّةٍ:}

مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به للفعل قبلها المعلق عن العمل لفظا بسبب {ما} النافية. هذا؛ ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} ثم ابتدأ كلاما آخر. إما استفهام إنكار، وإما نفيا. انتهى جمل. ولا أرى الاستفهام قويّا، وأعتمد الوجه الأول. {إِنْ:} حرف نفي. {هُوَ:} ضمير فصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:}

حرف حصر. {نَذِيرٌ:} خبر المبتدأ. {مُبِينٌ:} صفة: {نَذِيرٌ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

ص: 676

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}

الشرح: {أَوَلَمْ:} هو مثل الآية السابقة. {يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ..} . إلخ: نظر تفكر، واعتبار، واستدلال. (الملكوت): الملك العظيم، فهو من أبنية المبالغة وانظر الآية رقم [75] الأنعام.

{وَالْأَرْضِ:} انظر الآية رقم [1] منها. {وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ:} مما يقع عليه الشيء من الأجناس، التي لا يمكن حصرها؛ ليدلهم على كمال قدرة صانعها، ووحدة مبدعها، وعظم شأن مالكها، وليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه. وانظر شرح:{شَيْءٍ} في الآية رقم [85]. {اللهُ:}

انظر رقم [87]. {وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ:} والمعنى: أولم ينظروا في اقتراب آجالهم، فيسارعوا إلى طلب الحق، والتوجه إلى ما ينجيهم قبل معاينة الموت، ونزول العذاب. انتهى بيضاوي.

{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ:} تعجب من حال الكفار. والمعنى: فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يؤمنون إذا لم يؤمنوا به، ويصدقوا بتعاليمه، وليس بعد كتابه كتاب؛ لأنه خاتم الرسل، وكتابه خاتم الكتب، لانقطاع الوحي بعده إلى يوم القيامة. انتهى. خازن.

قال القرطبي: استدل بهذه الآية، وأمثالها من قال بوجوب النظر في آيات الله، والاعتبار بمخلوقاته، قالوا: وقد ذم الله من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم، فقال:{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها..} . إلخ الآية رقم [179]. انتهى بتصرف كبير.

الإعراب: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} في الآية السابقة. {فِي مَلَكُوتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، و {مَلَكُوتِ:}

مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه. (الأرض): معطوف على ما قبله. {وَما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على: {مَلَكُوتِ،} والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: وفي الذي خلقه الله. {مِنْ شَيْءٍ:} متعلقان بمحذوف حال من العائد المحذوف، و (من) بيان لما أبهم في (ما). {أَنْ:} مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه، وجوز أبو البقاء اعتبار {أَنْ} مصدرية. {عَسى:} فعل ماض جامد، مبني على فتح مقدر على الألف، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَكُونَ} في محل رفع فاعل:

{عَسى،} وهو تام هنا، وإن كان من أفعال الرجاء. وجملة:{عَسى أَنْ يَكُونَ} في محل رفع خبر: {أَنْ،} و {أَنْ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر معطوف على:

{مَلَكُوتِ،} وعلى اعتبار: {أَنْ} مصدرية تؤول مع الفعل: {عَسى} بمصدر في محل جر

إلخ. {قَدِ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اِقْتَرَبَ:} ماض. {أَجَلُهُمْ:}

ص: 677

فاعل: {اِقْتَرَبَ،} والجملة الفعلية في محل نصب خبر: {يَكُونَ،} وعلى هذا يكون اسم {يَكُونَ} ضمير شأن محذوفا، وهو قول الزمخشري والبيضاوي والنسفي، وجوز السمين اعتبار {أَجَلُهُمْ} اسم {يَكُونَ} مؤخرا، وجملة:{قَدِ اقْتَرَبَ} في محل نصب خبر مقدما، وعليه ففاعل {اِقْتَرَبَ} ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى متأخر لفظا، وأرى أن {يَكُونَ} و {اِقْتَرَبَ} قد تنازعا:{أَجَلُهُمْ} فالمسألة من باب التنازع تأمل جيدا يظهر لك ذلك جليّا بعونه تعالى. {فَبِأَيِّ} الفاء: هي الفصيحة. (بأي): متعلقان بالفعل بعدهما، و (أي) مضاف، و {حَدِيثٍ:} مضاف إليه.

{بَعْدَهُ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف صفة: {حَدِيثٍ،} والهاء في محل جر بالإضافة.

{يُؤْمِنُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، انظر التقدير في الشرح. هذا؛ وقال الزمخشري:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} متعلق بقوله {عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} قال السمين: يعني التعلق المعنوي، المرتبط بما قبله، لا الصناعي، وهو واضح.

انتهى. جمل بتصرف كبير مني.

{مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}

الشرح: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ..} . إلخ: قال المفسرون: هذا تعليل لإعراضهم عن الإيمان. وعن التفكر في آيات الله، والنظر في ملكوت السموات، والأرض. والمعنى: من كتب الله له الضلالة في الأزل؛ فلا يهتدي إلى الإيمان، ولا إلى النظر في شيء مما ذرأ الله في هذا الكون. وانظر الآية رقم [178] وما أحلت عليها هناك. {وَيَذَرُهُمْ:} يتركهم، ويقرأ بالياء والنون، والرفع والجزم مع الياء لا غير، وعلى قراءة النون يكون فيه التفات من الغيبة إلى التكلم. انظر الالتفات في الآية رقم [6/ 6] وانظر الآية رقم [69]. {طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ:} انظر الآية رقم [6/ 110] وانظر الآية [171].

الإعراب: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ} انظر: {مَنْ يَهْدِ اللهُ} في الآية رقم [178] فإعرابهما واحد بلا فارق. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل (إنّ).

{هادِيَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا)، وهذا على لغة الحجازيين الذين يجيزون ذكر خبر (لا)، فأما على لغة بني تميم الذين يوجبون حذفه؛ فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة:{هادِيَ،} كما يجوز تعليقهما به لأنه اسم فاعل، وعليهما فخبر (لا) محذوف، تقديره: موجود، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وانظر باقي الإعراب في الآية [178]. والجملة الاسمية: {مَنْ..} . إلخ أو الفعلية على الاعتبار الثاني تعليل كما رأيت في الشرح، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين. {وَيَذَرُهُمْ:} بالجزم

ص: 678

معطوف على محل جواب الشرط، والفاعل يعود إلى {اللهُ} وعلى قراءة الرفع، فالفاعل تقديره:

«نحن» على قراءة النون، وتقديره «هو» على قراءة الياء، والجملة الفعلية على الاعتبارين في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، فعلى الأول التقدير: ونحن نذرهم، وعلى الثاني التقدير: وهو يذرهم، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة، لا محل لها، والهاء مفعول به. وانظر باقي الإعراب في الآية رقم [6/ 110] فإنه جيد.

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)}

الشرح: {يَسْئَلُونَكَ} أي: أهل مكة، أو بعض اليهود، كما ستراه آخرا. وانظر ما ذكرته في:(سأل) في الآية رقم [8/ 1] تجد ما يسرك. {السّاعَةِ:} انظر الآية رقم [34]. {أَيّانَ مُرْساها:} متى وقوعها؟ وقيل: متى إثباتها، واستقرارها؟ ورسو الشيء: ثباته، واستقراره، ومنه: رسا الجبل، وأرسى السفينة. وهذا على فتح الميم، والأول على ضم الميم. {قُلْ:}

انظر «القول» في الآية رقم [5]. {إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي} أي: علم وقوع الساعة، وهو يوم القيامة، عند الله، استأثر به، فلم يطلع عليه نبيّا مرسلا، ولا ملكا مقربا. {لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ} أي:

لا يظهر الساعة في وقتها المحدد لها إلا الله تعالى. {ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} خفي علمها على أهل السموات والأرض، وكل ما خفي علمه فهو ثقيل على الفؤاد.

وقال ابن جريج، والسدي: عظم وصفها على أهل السموات والأرض، وذلك لعظم هولها. وانظر شرح:{السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} في الآية رقم [6/ 1]. {لا تَأْتِيكُمْ:} انظر (أتى) في الآية رقم [35]. {بَغْتَةً:} فجأة على حين غفلة. {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها} أي: عالم بها، كثير السؤال عنها من قولهم: أحفيت في المسألة: إذا بالغت في السؤال عنها؛ حتى علمتها. {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ:} وليس في السؤال، ولا في الجواب تكرار: لأن السؤال الأول عن وقت قيام الساعة، والثاني عن أحوالها من ثقلها، وشدائدها، والفرق بين الجوابين لطيف، وهو أنه لما كان السؤال الأول واقعا عن وقت قيام الساعة عبر عن الجواب فيه بقوله تعالى:«علم وقت قيامها عند ربي» ، ولما كان السؤال الثاني واقعا عن أحوالها، وشدائدها، وثقلها عبر عن الجواب فيه بقوله سبحانه وتعالى:{عِنْدَ اللهِ} لأنه أعظم الأسماء. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ:} أن علمها عند الله، وأنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه. وانظر شرح:{النّاسِ} في الآية رقم [82].

{رَبِّي:} انظر الآية رقم [3].

ص: 679

تنبيه: قال المحققون: سبب إخفاء علم الساعة، ووقت قيامها عن العباد؛ ليكونوا دائما على خوف، وحذر منها؛ لأنهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت؛ كانوا على وجل وخوف منها، فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة، والتوبة، وأزجر لهم عن المعصية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقومنّ الساعة؛ وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة، وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومنّ السّاعة وقد رفع أكلته إلى فيه، لا يطعمها» .

متفق عليه. هذا؛ وقد أخفى الله أمورا أخرى مثل ليلة القدر، وساعة الإجابة يوم الجمعة؛ ليجتهد العبد في كل ليالي شهر رمضان في العبادة، وليكون مجتهدا في الدعاء كل يوم الجمعة.

تنبيه: قد ثبت: أن للساعة علامات، وهي صغرى، وكبرى، فالصغرى قد ظهر جميعها، كقبض العلم الشرعي، وتقارب الزمان، وفيض المال، وكثرة الزلازل، وكثرة القتل، وتطاول البدو في البنيان، وكثرة الفجور، والفسوق، وغير ذلك مما هو واقع، ومشاهد الآن. وأما العلامات الكبرى فعشرة، أذكر منها ظهور المهدي، ونزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال، وأما خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك فهو من مبادئ وقوع الساعة، وقيامها كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة. والله أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {يَسْئَلُونَكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {عَنِ السّاعَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {أَيّانَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {مُرْساها:} مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية بدل من {السّاعَةِ،} فهي في محل جر، والتقدير: يسألونك عن زمان حلول الساعة. وجوز الجمل عن السمين: أن الظرف: {أَيّانَ} منصوب بفعل محذوف رافع ل {مُرْساها} بالفاعلية، وهو مذهب أبي العباس المبرد. انتهى. والمعتمد الأول، وجملة:{يَسْئَلُونَكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قُلْ:}

أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {عِلْمُها:} مبتدأ، وها، في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدَ:} مضاف، و {رَبِّي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:

{إِنَّما..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لا:} نافية. {يُجَلِّيها:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء

إلخ، و (ها): في محل نصب مفعول به. {لِوَقْتِها:} متعلقان بما قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل الفعل. {لا يُجَلِّيها،} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، {ثَقُلَتْ:} ماض، والفاعل

ص: 680

يعود إلى: {السّاعَةِ،} والتاء للتأنيث، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ضمير:

{السّاعَةِ،} والرابط عود الضمير إليها، والجملة على تقدير «قد» قبلها. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {لا:} نافية. {تَأْتِيكُمْ:} مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل يعود إلى {السّاعَةِ} أيضا، والكاف: مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال أيضا، فتكون الحال قد تكررت، وهي جملة. ونقل الجمل عن أبي السعود:

أنه يعتبر الجمل كلها مستأنفة، فإذا تكون في محل نصب مقول القول، وعلى اعتبارها أحوالا، فهي ضمنا في محل نصب مقول القول أيضا. {إِلاّ:} حرف حصر. {بَغْتَةً:} مفعول مطلق لفعل محذوف، أو هو مصدر في محل الحال، أي باغتة لكم، {يَسْئَلُونَكَ..}. إلخ: فعل، وفاعل ومفعول به، والمتعلق محذوف اكتفاء بما قبله، والجملة الفعلية مؤكدة لسابقتها لفظا لا محل لها مثلها. {كَأَنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {حَفِيٌّ:} خبرها. {عَنْها:} متعلقان ب {حَفِيٌّ؛} لأنه اسم فاعل، أو اسم مفعول، والجملة الاسمية:{كَأَنَّكَ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المفعول به، والرابط الضمير فقط. {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ} تقدم إعراب هذه الجملة، وهي مستأنفة، لا محل لها. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَ:} اسمها، وهو مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف المقدر في الشرح في محل رفع خبر: (لكن)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول أيضا.

{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي..} . إلخ: أي: لا أملك لنفسي جلب نفع ولا دفع ضر، ففيه إظهار العبودية لله تعالى، والتبري من ادعاء العلم بالغيب. هذا؛ وقد قدم سبحانه:{ضَرًّا} على: {نَفْعاً} في الآية رقم [49] من سورة (يونس). {إِلاّ ما شاءَ اللهُ} أي: أن يطلعني عليه من علم الغيب كرما وفضلا، فيلهمني إياه، ويوفقني إليه. وانظر (النفس) في الآية رقم [9]. {شاءَ:} انظر الآية رقم [89]. {اللهُ:} انظر الآية رقم [87]. {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ:} المعنى واضح. وانظر إعلال مثل: {كُنْتُ} في الآية رقم [10]. {الْغَيْبَ:} كل ما يغيب عن الإنسان. وانظر الآية رقم [5/ 112]. {مَسَّنِيَ:} أصابني.

{السُّوءُ:} الفقر والجوع والمرض، وغير ذلك. وانظر الآية رقم [73]. {إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ..} .

إلخ: أي ما أنا إلا عبد مرسل للتخويف من الكفر، والمعاصي، وللتبشير بالجنة، والنعيم المقيم للمتقين المطيعين. وخص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بالإنذار والتبشير، ولأنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه. {لِقَوْمٍ:} انظر الآية رقم [31]. {يُؤْمِنُونَ:} انظر (الإيمان) في الآية [2].

ص: 681

تنبيه: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن أهل مكة قالوا: يا محمد! ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتري به، فتربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي يريد أن تجدب، فترحل عنها إلى ما قد أخصبت؟! فأنزل الله الآية الكريمة. انتهى خازن.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر وجوبا تقديره:«أنت» . {لا:} نافية. {أَمْلِكُ:}

مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {لِنَفْسِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وجوز تعليقهما بمحذوف حال من:{نَفْعاً} كان صفة له

إلخ. {نَفْعاً:} مفعول به. {وَلا:} الواو:

حرف عطف. {لا:} نافية، ويقال: زائدة لتأكيد النفي. {ضَرًّا:} معطوف على ما قبله. {إِلاّ:}

أداة استثناء. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إلا الذي؛ أو شيئا شاءه الله، وجملة:{لا أَمْلِكُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كُنْتُ:} ماض ناقص، مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{أَعْلَمُ الْغَيْبَ} في محل نصب خبر كان، وجملة:

{كُنْتُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير جازم.

{لاسْتَكْثَرْتُ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (استكثرت): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محل لها. {مِنَ الْخَيْرِ:} متعلقان بما قبلهما، و (لو) ومدخولها في محل نصب مقول القول. {ما:} نافية. {مَسَّنِيَ:} ماض، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {السُّوءُ:}

فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لو) لا محل لها مثله. {إِنْ:} حرف نفي. {أَنَا:}

ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {نَذِيرٌ:} خبر المبتدأ. (بشير): معطوف على ما قبله. {لِقَوْمٍ:} متعلقان ب {نَذِيرٌ،} أو ب {وَبَشِيرٌ} على التنازع، وجملة:{يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل جر صفة: (قوم). والجملة الاسمية:

{إِنْ أَنَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمّا تَغَشّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ (189)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها:} انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [1](النساء) ففيه الكفاية، مع إبدال (خلق) ب (جعل) وهما بمعنى واحد. وانظر الفرق بينهما في الآية رقم [6/ 1] وانظر (الزوج) في الآية رقم [19]. {لِيَسْكُنَ إِلَيْها:} ليستأنس بها،

ص: 682

ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه، أو جنسه. {فَلَمّا تَغَشّاها:} جامعها، كنى به عن الجماع أحسن كناية. لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة، وقد غشيها، وتغشاها: إذا علاها، وتجللها. والتعبير بما رأيت أدب من آداب القرآن الكريم وهو كثير، فقد رأيت التعبير بالمس في الآية رقم [2/ 236] وهو كناية عن الجماع، وكذلك {لامَسْتُمُ} في الآية رقم [3/ 43] وفي الآية رقم [5/ 7] كناية عن الجماع أيضا عند بعض الفقهاء والمفسرين وغير ذلك، وهذا الأدب تجده في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها:«ما رأيت منه» أي من النبي صلى الله عليه وسلم «ولا رأى مني» تعني الفرج. {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} أي:

لم تلق منه ما يلقى الحبالى من النساء من الكرب والأذى، أثناء الحمل، ولم تستثقله كما يستثقلنه، وهذه الخفة كانت في أول الحمل حين كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة. {فَمَرَّتْ بِهِ:}

فاستمرت به، أي: قامت وقعدت، وراحت ورجعت، وهي لا تشعر بثقل ذلك الحمل. وقرئ:

«(فمرت)» بالتخفيف وقرئ «(فاستمرت)» و «(فمارت)» من المور، وهو المجيء والذهاب، أو من المرية، وهي الشك، أي فظنت الحمل وارتابت به في أول الأمر. {فَلَمّا أَثْقَلَتْ:} صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها، وقرب وقت ولادتها. وقرئ بالفعل بالبناء للمجهول، أي: أثقلها حملها.

{دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما} أي: سأل الله آدم وحواء أن يرزقهما ولدا بشرا سويّا مثلهما. {لَئِنْ آتَيْتَنا..} .

إلخ: أي وحقك إن أعطيتنا ما سألناك لنشكرنك على إنعامك وإفضالك. هذا؛ والشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله.

تنبيه: {حَمْلاً:} بفتح الحاء، وسكون الميم، قال ابن السكيت: الحمل بالفتح ما كان في بطن، أو على رأس شجرة، والحمل بالكسر ما كان على ظهر، أو رأس. قال الأزهري: وهذا هو الصواب، وهو قول الأصمعي، وقال القرطبي: وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر، وقال أبو سعيد السيرافي: يقال في حمل المرأة حمل وحمل، يشبه مرة لاستبطانه بحمل المرأة، ومرة لبروزه، وظهوره بحمل الدابة. انتهى.

الإعراب: {هُوَ:} ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره. {خَلَقَكُمْ:} ماض، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {مِنْ نَفْسٍ:}

متعلقان بما قبلهما. {واحِدَةٍ:} صفة: {نَفْسٍ،} وجملة: {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها} معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. {لِيَسْكُنَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:{نَفْسٍ،} وقد ذكر باعتبار المعنى؛ لأن المقصود آدم، وهو مذكر. {إِلَيْها:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(جعل)، التقدير: جعل منها زوجها؛ لسكونه إليها.

ص: 683

والجملة الاسمية: {هُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: وجوب لوجوب. وهي ظرف بمعنى «حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {تَغَشّاها:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{نَفْسٍ،} وذكر كسابقه، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على القول بحرفية (لمّا) لأنها حينئذ ابتدائية، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على القول بظرفيتها، وعلى اعتبارها متعلقة بالجواب. {حَمَلَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى حوّاء المعبر عنها ب {زَوْجَها}. {حَمْلاً:} مفعول مطلق إن أريد به المصدر، ومفعول به إن أريد به الولد الذي في بطنها. {خَفِيفاً:} صفته، والجملة الفعلية:{حَمَلَتْ..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له وجملة:{فَمَرَّتْ بِهِ} معطوفة على جواب (لمّا) لا محل لها مثله. {فَلَمّا أَثْقَلَتْ} هو مثل سابقه في إعرابه. {دَعَوَا:} ماض، وألف الاثنين فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {رَبَّهُما:} بدل من لفظ الجلالة بدل كل من كل، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، ومتعلق الدعاء محذوف لدلالة الجملة القسمية عليه، أي: دعوا الله في أن يرزقهما ولدا صالحا. وجملة: {دَعَوَا..} . إلخ جواب (لمّا)

إلخ، و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله. {لَئِنْ:}

اللام: موطئة لقسم محذوف، (إن): حرف شرط جازم. {آتَيْتَنا:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، و (نا): مفعول به أول. {صالِحاً:} صفة للمفعول الثاني المحذوف، أي ولدا صالحا، وجملة:{آتَيْتَنا صالِحاً} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَنَكُونَنَّ:} مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف، واسم الفعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» . {مِنَ الشّاكِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (نكون)، والجملة الفعلية:

{لَنَكُونَنَّ..} . إلخ جواب القسم المحذوف، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.

وانظر الآية رقم [90] تجد ما يسرك. والقسم وجوابه فيه وجهان: أظهرهما: أنه مفسر لجملة الدعاء، كأنه قيل: فما كان دعاؤهما؟ فقيل: كان كذا، وكذا. والثاني: أنه معمول لقول مضمر، تقديره: فقالا: لئن

إلخ. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

{فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (190)}

الشرح: فلما رزق الله آدم وحواء ولدا بشرا سويّا؛ جعلا له شركاء فيما أعطاهما من الولد الصالح. هذا؛ ويقرأ: «(شركا)» بكسر الشين، وكلاهما بمعنى الشريك، والمراد به: إبليس اللعين

ص: 684

أخزاه الله! وعبر بالأول، وهو الجمع عن المفرد على سبيل المبالغة، حيث سميا الولد عبد الحارث كما ستقف عليه، وما فعلاه ليس بإشراك في العبادة، بل هو إشراك في التسمية فقط، وهذا لا يقتضي الكفر. {فَتَعالَى:} تنزه سبحانه، وهو فعل ناقص التصرف يأتي منه المضارع، ولا يأتي منه الأمر. {اللهُ:} انظر الآية رقم [87].

الإعراب: (لمّا): انظر الآية السابقة. {آتاهُما:} ماض مبني على الفتح المقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (الله) تقديره:«هو» ، والهاء مفعول به أول، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {صالِحاً:} صفة لمفعول ثان محذوف. وانظر مثل جملة: {آتاهُما صالِحاً} في الآية السابقة {جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {دَعَوَا اللهَ} إفرادا ومحلاّ، والجار والمجرور {لَهُ} يحتمل تعليقهما بالفعل قبلهما، وبمحذوف حال من:{شُرَكاءَ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا

إلخ. {فِيما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {جَعَلا،} أو بمحذوف صفة: {شُرَكاءَ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

في الذي، أو في شيء آتاهما إياه، و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله.

{فَتَعالَى:} الفاء: حرف استئناف. (تعالى): ماض

إلخ. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها وقيل: معطوفة على جملة: {هُوَ الَّذِي..} . إلخ، وما بينهما اعتراض.

{عَمّا:} عن: حرف جر. (ما): مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (عن)، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: تعالى الله عن شركهم، ولا تحتمل (ما) الموصولة، ولا الموصوفة هنا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)}

الشرح: {أَيُشْرِكُونَ} أي: أهل مكة، والمتعلق محذوف، التقدير: به في العبادة. {ما:}

واقعة على الأصنام المعبودة، وأفرد الضمير في الفعل بعدها نظرا للفظها، وجمع في الضمائر:

{وَهُمْ..} . إلخ نظرا لمعناها، وهو الأصنام، والتعبير عن الأصنام بضمير العقلاء، بالنظر لما يلزم زعمهم فيها من الألوهية المستلزمة للعقل. انتهى جمل.

تنبيه: في تفسير الآيات المتقدمة كلام كثير وروايات متعددة، أذكر منها ما يلي: قال بعض المفسرين: لما أهبط الله آدم، وحواء إلى الأرض؛ ألقيت الشهوة في نفس آدم، فأصاب حواء، فحملت من ساعتها، فلما ثقل الحمل، وكبر الولد في بطنها، أتاها إبليس، في صورة رجل، فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري؟ قال: إني أخاف أن يكون بهيمة، أو كلبا، أترين في الأرض إلا بهيمة، أو نحوها، قالت: إني أخاف بعض ذلك، قال: وما يدريك من أين

ص: 685

يخرج؟ أمن دبرك، أو من فيك، أو يشق بطنك، فيقتلك؟ فخافت حواء من ذلك، وذكرته لآدم، فلم يزالا في غم من ذلك، ثم عاد إليها إبليس، فقال لها: إني من الله بمنزلة، فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويّا مثلك، ويسهل عليك خروجه؛ فسميه عبد الحارث، واسم إبليس في الملائكة الحارث، فذكرت ذلك حواء لآدم عليهما السلام، فقال: لعله صاحبنا الذي قد علمت، فعاودها إبليس، فلم يزل بهما حتى غرهما، فلما ولدت سمياه عبد الحارث. انتهى. خازن. وانظر قصة هابيل وقابيل. وما ذكرته في الآية رقم [30] من سورة (المائدة).

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانت حواء تلد لآدم، فيسميه عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس، وقال لهما: إن سركما أن يعيش لكما ولد؛ فسمياه عبد الحارث، فولدت، فسمياه عبد الحارث، فعاش. انتهى. خازن.

قال القرطبي: ونحو ذلك مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي، وغيره، وفي الإسرائيليات كثير ليس له ثبات، فلا يعول عليه من له قلب، فإن آدم وحواء عليهما السلام، وإن غرهما بالله الغرور، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين على أنه قد سطر، وكتب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خدعهما مرّتين، خدعهما في الجنة، وخدعهما في الأرض» . انتهى.

هذا؛ وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا حملت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سمّيه عبد الحارث فإنّه يعيش، فسمّته فعاش، وكان ذلك من وحي الشّيطان، وأمره» . رواه الحاكم، وقال: صحيح، والترمذي، وقال: حسن غريب. وهذا الحديث موجود في تفسير الخازن، وذكره الجلال، وقال الجمل، وفي الكرخي: وقصد الشيخ المصنف بسياق الحديث التلويح بالرد على البيضاوي وغيره: أن هذا الكلام لا يليق بالأنبياء. انتهى.

قال البيضاوي: ويحتمل أن يكون الخطاب في: {خَلَقَكُمْ} لال قصي من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصي، وكان لها زوج من جنسها قرشية عربية، فطلبا من الله الولد، فأعطاهما أربعة بنين، فسمياهم عبد مناف، وعبد شمس، وعبد قصي، وعبد الدار، ويكون الضمير في (يشركون) لهما، ولأعقابهما المقتدين بهما. انتهى. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَيُشْرِكُونَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. (يشركون): فعل، وفاعل.

{ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {لا:} نافية. {يَخْلُقُ:}

مضارع، والفاعل تقديره:«هو» يعود إلى الموصول. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{أَيُشْرِكُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (هم): ضمير مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُخْلَقُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

ص: 686

{وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)}

الشرح: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} أي: إن الأصنام التي يعبدها، ويقدسها الكفار، لا تقدر على نصرهم إذا احتاجوا لذلك. {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} أي: ولا يقدرون على أن يدفعوا عن أنفسهم مكروها، فإن من أراد كسرها قدر عليه، وهي لا تقدر على دفعه، وقصة إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-شاهد صدق على ذلك.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَسْتَطِيعُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {نَصْراً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا

إلخ. {نَصْراً:}

مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {يَنْصُرُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)}

الشرح: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ..} . إلخ: الخطاب للكفار، وضمير النصب للأصنام، والمعنى. وإن تدعوا آلهتكم إلى طلب هدى، ورشاد كما تطلبونه من الله؛ لا يتابعوكم على مرادكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله، ويجوز أن يكون الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، والضمير المنصوب للكفار، أي: وإن تدعوا الكفار إلى الإيمان، لا يستجيبوا لكم. وإنما جمع المؤمنون مع الرسول لأن كل واحد منهم يدعو الكفار إلى الإيمان، ويرغبهم فيه، كما فعل أبو بكر الصديق-رضي الله عنه-وغيره. هذا؛ وقد قرئ الفعل:«لا يتبعوكم» بتشديد التاء وتخفيفها.

{سَواءٌ:} اسم بمعنى مستو، وهو ما في الآية، ويأتي بمعنى الوسط، كما في قوله تعالى {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} أي وسط الجحيم، ويأتي بمعنى العدل، قال تعالى:{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} وسواء الشيء: غيره، قال الأعشى:[الطويل]

تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي

وما عدلت عن أهلها لسوائكا

ويستعمل للجمع، فتقول: هم سواء، أي: متساوون، وقد يجمع، فيقال: هم أسواء، والأول أفصح. هذا؛ وسواء السبيل: ما استقام منه، وسواء الجبل: ذروته. {أَدَعَوْتُمُوهُمْ:} هو مثل ما تقدم في الخطاب، وغيره. {صامِتُونَ:} ساكتون، والفعل:«صمت» من باب نصر، ويقال: صمت، يصمت من باب حسب يحسب. هذا؛ وقد وقع الالتفات في هذه الآية بالنسبة لسابقتها، وذلك من الغيبة إلى الخطاب. وانظر فائدته في الآية رقم [6](الأنعام).

ص: 687

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَدْعُوهُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والميم علامة جمع الذكور، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي. {إِلَى الْهُدى:} متعلقان بما قبلهما. {لا:} نافية، {يَتَّبِعُوكُمْ:} فعل، وفاعل ومفعول به، وهو جواب الشرط مجزوم مثل سابقه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذ الفجائية و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، وهو أولى من العطف على ما قبله. {سَواءٌ:} خبر مقدم. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان به. {أَدَعَوْتُمُوهُمْ:}

الهمزة: حرف استفهام وتسوية. (دعوتموهم): ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم حرف دال على جماعة الذكور، وحركت بالضم، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به. {أَمْ:}

حرف عطف. {أَنْتُمْ صامِتُونَ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، وهمزة التسوية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر، التقدير: دعاؤكم لهم وسكوتكم سواء عليكم في عدم الإفادة. هذا؛ وبعضهم يعتبر {سَواءٌ} مبتدأ، والمصدر المؤول خبره، والمعنى لا يتغير. هذا؛ وإنما عدل عن مجيء الجملة الفعلية الواقعة بعد {أَمْ} إلى الاسمية للمبالغة في عدم إفادة الدعاء ببيان مساواته للسكوت الدائم المستمر، وفي السمين: وإنما أتى بالجملة الثانية اسمية؛ لأن الفعل يشعر بالحدوث، ولأنها رأس فاصلة. انتهى جمل بتصرف.

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194)}

الشرح: {تَدْعُونَ:} تعبدون، أو تسمّون. {دُونِ:} انظر الآية رقم [3]. {اللهِ:} انظر الآية رقم [87]. {عِبادٌ:} جمع: عبد، ويجمع أيضا على عبيد، والمراد مخلوقون، لا المراد:

أرقاء مستعبدون. {أَمْثالُكُمْ:} جمع مثل بمعنى أشباهكم. وانظر الآية رقم [93] الأنعام.

{فَادْعُوهُمْ:} اسألوهم جلب نفع، أو دفع ضر. {كُنْتُمْ:} انظر إعلال: {قُلْنا} في الآية رقم [11] فهو مثله. هذا؛ وقرئ «(إن)» بسكون النون، و «(عبادا)» بالنصب، و «أمثالكم» بالرفع والنصب.

المعنى: إن الأصنام التي تعبدونها من دون الله مملوكة لله أمثالكم مسخرة مذللة مثل ما أنتم مسخرون مذللون. وقد وصفها الله بأنها عباد مع كونها جمادا؛ لأن المشركين لما ادعوا أنها تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا: أنها عاقلة، فاهمة، فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم.

وجواب آخر، وهو: أن هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين.

والمعنى: أن قصارى هذه الأصنام؛ التي تعبدونها أحياء عاقلة على معتقدكم، فهم عباد لله أمثالكم، ولا فضل لهم عليكم، فلم عبدتموهم، وجعلتموهم آلهة، وجعلتم أنفسكم عبيدا لهم؟!

ص: 688

انتهى خازن بتصرف كبير. أقول: وأحد هذين الاعتبارين هو الذي سبب إجراء جمع المذكر السالم على الحجارة المعبودة من دون الله في هذه الآية، والآية التالية. وانظر إطلاق (من) على الأصنام في الآية رقم [10/ 34]. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، والجملة بعده صلته، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: تدعونهم. {مِنْ دُونِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز تعليقهما بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {دُونِ:}

مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {عِبادٌ:} خبر: {إِنَّ} . {أَمْثالُكُمْ:} صفة: {عِبادٌ،} والكاف في محل جر بالإضافة. هذا؛ وعلى القراءة الثانية ف (إن): حرف نفي بمعنى (ما)، يعمل عملها وهي حجازية و {الَّذِينَ} اسمها مبني على الفتح في محل رفع، و (عبادا): خبرها منصوب و {أَمْثالُكُمْ} صفته على نصبه، وعلى رفعه فهو الخبر، و (عبادا): يكون حالا من الضمير المحذوف؛ الذي رأيت تقديره. وهذه القراءة شاذة.

قال النحاس: وهذه القراءة لا ينبغي أن يقرأ بها؛ لأنها مخالفة للسواد، أي للجمهور، ولأن سيبويه يهملها، ولا يعملها، ولأن الكسائي زعم: أنّ {إِنَّ} لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى (ما) إلا أن يكون بعدها إيجاب، كقوله تعالى {إِنِ الْكافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ} .

{فَادْعُوهُمْ:} الفاء: هي الفصيحة. وانظر الآية رقم [38]. (ادعوهم): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَلْيَسْتَجِيبُوا:} الفاء: حرف عطف. اللام: لام الأمر، وسكنت لثقل الكسرة بعد (الفاء) كما تسكن بعد الواو وثم. (يستجيبوا): مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [70].

{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ اُدْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)}

الشرح: {أَلَهُمْ} أي: للأصنام التي يعبدونها. والاستفهام للتوبيخ، والتقريع، وقد رأيت في الآية السابقة السبب في إطلاق جمع المذكر السالم عليها. {يَمْشُونَ:} إعلاله مثل إعلال:

{نَسُوا} في الآية رقم [6/ 44]. {أَيْدٍ:} انظر الآية رقم [108] لشرحه، وإعلاله مثل إعلال:

{لَآتٍ} في الآية رقم [6/ 134]. {يَبْطِشُونَ:} الجمهور على قراءته بكسر الطاء من باب ضرب، وقرأ الحسن البصري وغيره بضم الطاء من باب: قتل، وهي لغة. والبطش: هو الأخذ بعنف.

ص: 689

{أَعْيُنٌ:} انظر الآية رقم [116]. {يَسْمَعُونَ:} انظر الآية رقم [100]. {شُرَكاءَكُمْ:} آلهتكم.

والمعنى: ادعوا أصنامكم واستعينوا بهم في عداوتي. {ثُمَّ كِيدُونِ:} فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر، ولا تمهلوني، فإني لا أبالي بكم لاعتمادي على ولاية الله وحفظه وانظر ما ذكرته في الآية رقم [34] من سورة (يونس) عليه الصلاة، والسّلام. {ثُمَّ:} انظر الآية رقم [103].

معنى الآية الكريمة إن قدرة الإنسان المخلوق إنما تكون بجوارحه المذكورة، فإنها آلات يستعين بها في جميع أموره، والأصنام ليس لها من هذه الأعضاء شيء، فهو مفضل عليها بهذه الأعضاء. فظهر بهذا: أن الإنسان أفضل منها بكثير لعجزها، بل لا فضل لها البتة؛ لأنها حجارة، وجماد لا تضر، ولا تنفع، فكيف يليق بالإنسان العاقل الأفضل أن يشتغل بعبادة الأدون؛ الأرذل، الذي لا يضر، ولا ينفع؟.

الإعراب: {أَلَهُمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي إنكاري. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَيْدٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. {يَبْطِشُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة:{يَبْطِشُونَ بِها} في محل رفع صفة: {أَيْدٍ،} وإعراب ما قبل هذه الجملة، وما بعدها مثلها بلا فارق، والجمل كلها مستأنفة، لا محل لها. {قُلِ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {اُدْعُوا:} أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق، {شُرَكاءَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {كِيدُونِ:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، والمفعول محذوف، وهو ياء المتكلم؛ إذ التقدير: فكيدوني. وقد قرئ بها. {فَلا:} الفاء: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تُنْظِرُونِ:} مضارع مجزوم ب (لا) وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، والمفعول محذوف، وهو ياء المتكلم، مثل سابقه، والجمل الفعلية المتعاطفة في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ (196)}

الشرح: {وَلِيِّيَ اللهُ:} متولي أموري، وناصري. وانظر:{أَوْلِياءَ} في الآية رقم [3].

{نَزَّلَ الْكِتابَ:} القرآن. والمعنى: كما أيدني بإنزال القرآن يتولى حفظي، وينصرني. وانظر شرح:{الْكِتابَ} في الآية رقم [2]. {يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ} أي: بنصره، وحفظه، فلا تضرهم عداوة من عاداهم من المشركين، وغيرهم.

ص: 690

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئا، ولا يعصونه بشيء أبدا. هذا؛ وقرئ:«ولى الله» بفتح الياء، وبالإضافة إلى (الله) والمراد به جبريل، قال القرطبي: والقراءة الأولى أبين لقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ} .

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {وَلِيِّيَ:} اسم: {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {اللهُ:} خبر: {إِنَّ} . {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة لما قبله، وعلى القراءة الثانية:(ولي): اسم: {إِنَّ} منصوب بالفتحة الظاهرة، وهو مضاف، و (الله): مضاف إليه، و {الَّذِي} خبر:{إِنَّ،} وجملة: {نَزَّلَ الْكِتابَ} صلة الموصول، والعائد رجوع الفاعل إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. (هو): مبتدأ، وجملة:{يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، واعتبارها في محل نصب حال من لفظ الجلالة غير مستبعد، والرابط: الواو، والضمير.

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)}

انظر شرح هذه الآية في الآية رقم [192] و [193]. قال الخازن: والفائدة في تكريرها: أن الآية الأولى مذكورة على جهة التقريع، والتوبيخ، وهذه الآية مذكورة على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة، وهو الله الذي يتولى الصالحين بنصره، وحفظه، وبين هذه الأصنام، وهي ليست كذلك، فلا تكون معبودة.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} (الذين): مبتدأ، والجملة بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير:

والذين تدعونهم. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز تعليقهما بمحذوف حال من الضمير المحذوف، والجملة الفعلية:{لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} في محل رفع خبر المبتدأ. وانظر إعرابها، وإعراب ما بعدها في الآية رقم [192]. {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية: {إِنَّ وَلِيِّيَ..} . إلخ فهي في محل نصب مقول القول مثلها، واعتبرهما البيضاوي تعليلا لما قبلهما، فتكون بدورها في محل نصب مقول القول.

{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)}

الشرح: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا:} يقال في هذه الجملة ما قيل بقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ} في الآية رقم [193] من الاعتبارين. {وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ:}

الخطاب في هذه الجملة للرسول صلى الله عليه وسلم، والضمير المنصوب المراد به الكفار، أو الأصنام، فعلى

ص: 691

الأول يكون المعنى: للكفار عيون، ولكن لا يبصرون بها طريق الهدى والرشاد، كما أن لهم آذانا، ولكن لا يسمعون كلمة الحق، والنصح، والسداد. وعلى الثاني يكون المعنى: للأصنام عيون، ولكن لا يبصرون بها. قيل: إن الكفار كانوا يصنعون لأصنامهم عيونا من جواهر ثمينة، وصورا بصورة من ينظر إلى من يواجهه. وإطلاق جمع المذكر السالم على الأصنام سببه ما ذكرته في الآية رقم [194]. وانظر إعلال (ترى) في الآية [143].

الإعراب: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [193].

الواو: حرف استئناف. (تراهم): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، وجملة:{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} في محل نصب حال، واكتفى (ترى) بمفعول واحد؛ لأنه بصري، وجملة (تراهم

) إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَهُمْ:}

الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ، وجملة:{لا يُبْصِرُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبره، والجملة الاسمية {وَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)}

الشرح: {خُذِ الْعَفْوَ:} استعمل العفو، والصفح عن المسيئين إليك، والمعتدين عليك.

وقال الخازن: العفو هنا: الفضل، وما جاء بلا كلفة، والمعنى: اقبل الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم، فيستعصوا عليك، فتتولد منه العداوة، والبغضاء. وقيل: معناه: خذ الفضل من أموال الناس، وذلك قبل أن تفرض الزكاة، فلما فرضت، نسخت ذلك.

أقول: وهذا لا يناسب المقام. وانظر: {عَفَوْا} في الآية رقم [95]. {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي:

بالمعروف والجميل من الأفعال، والأخلاق، وقرئ بضمتين مثل: الحلم، قال القرطبي، وهما لغتان، العرف، والمعروف. والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس.

انتهى. أقول: وضد ذلك المنكر. وانظر الآية رقم [156] و [3/ 104] تجد ما يسرك. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [145]. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ:} فلا تجادلهم، ولا تعاملهم بأعمالهم، صيانة لك، ورفعة لقدرك عن مجاوبتهم. وهذا؛ وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فهو تعليم، وتأديب لجميع خلقه، هذا فإن كان المراد بالجاهلين: الكفار؛ فهو منسوخ بآية السيف بحقهم، وإن كان المراد جفاة العرب، وأجلافهم؛ فالحكم لم ينسخ بحق النبي العظيم. وانظر (الجاهل) في الآية رقم [6/ 35] تجد ما يسرك.

تنبيه: روي: أنه لما نزلت الآية الكريمة قال الرسول المعظم صلى الله عليه وسلم لجبريل-عليه السلام:

«ما هذا؟» . قال: لا أدري حتى أسأل رب العزة، فسأل، ثم رجع، فقال:«إنّ ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك» . ذكره البغوي بغير سند، وقال جعفر

ص: 692

الصادق: أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه، وقد نظم بعضهم ما قاله جبريل فيما يلي:[الرجز]

مكارم الأخلاق في ثلاثة

من كملت فيه فذلك الفتى

إعطاء من تحرمه ووصل من

تقطعه والعفو عمّن اعتدى

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذه الأخلاق من الله، فمن أراد الله به خيرا منحه خلقا حسنا، ومن أراد به سوءا منحه خلقا سيّئا» . رواه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الشاعر الحكيم: [الكامل]

كلّ الأمور تزول عنك وتنقضي

إلا الثّناء فإنه لك باقي

ولو أنّني خيّرت كلّ فضيلة

ما اخترت غير مكارم الأخلاق

الإعراب: {خُذِ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الْعَفْوَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وما بعدها معطوف عليها. {بِالْعُرْفِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَأَعْرِضْ:}

الواو: حرف عطف. (أعرض): أمر، وفاعله: أنت. {عَنِ الْجاهِلِينَ:} متعلقان بما قبلهما.

{وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}

الشرح: {يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ:} ينخسنك منه نخس، أي: وسوسة من الشيطان تحملك على خلاف ما أمرت به، كغضب، وتفكير بشيء غير صالح. هذا؛ والنخس والنزغ والنسغ، والنغز، والهمز، والوسوسة ألفاظ مترادفة، وأصل النزغ: الفساد، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف-عليه السلام:{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} أي: أفسد، فقد شبه سبحانه وسوسة الشيطان وإغواءه للناس بنخس السائق دابته بشيء؛ لتسير..

هذا؛ وانظر شرح: {الشَّيْطانِ} في الآية رقم [49] من سورة (الأنفال). {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} أي:

اطلب النجاة من ذلك بالله، فأمر سبحانه العبد أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه، والاستعاذة به، ولله المثل الأعلى، فلا يستعاذ من الكلاب إلا بصاحب الكلاب. {سَمِيعٌ:} يسمع استعاذتك.

{عَلِيمٌ:} يعلم ما فيه صلاحك، فيحملك عليه، أو هو سميع بأقوال من آذاك، عليم بأفعاله، فيجازيه عليها، مغنيا لك عن الانتقام، ومتابعة الشيطان. هذا؛ وفي الآية الكريمة استعارة تبعية، حيث شبه الإغراء على المعاصي بالنزغ، واستعير النزغ للإغراء، ثم اشتق منه {يَنْزَغَنَّكَ} .

قال القرطبي: ونظير هذه الآية ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشّيطان أحدكم، فيقول له: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له:

من خلق ربّك؟ فإذا بلغ ذلك؛ فليستعذ بالله، ولينته».

ص: 693

تنبيه: قال ابن زيد: لما نزلت الآية السابقة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فكيف بالغضب يا ربّ» .

فأنزل الله عز وجل هذه الآية.

الإعراب: {وَإِمّا:} الواو: حرف عطف. (إما): هي (إن) الشرطية مدغمة في (ما) الزائدة.

وانظر الآية رقم [35]. {يَنْزَغَنَّكَ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والكاف مفعول به. {مِنَ الشَّيْطانِ:} متعلقان بمحذوف حال من:

{نَزْغٌ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا

إلخ. {نَزْغٌ:} فاعل، وجملة:

{يَنْزَغَنَّكَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{فَاسْتَعِذْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (استعذ): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .

{بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل جزم عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تعليل للأمر، لا محل لها. هذا؛ وجواب (استعذ) محذوف، أي يدفعه عنك.

{إِنَّ الَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}

الشرح: {اِتَّقَوْا:} انظر {التَّقْوى} في الآية رقم [26]. {مَسَّهُمْ:} أصابهم. {طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ:} لمة منه، وهو اسم فاعل من طاف كأنها طافت بهم، ودارت حولهم، فلم تقدر أن تؤثر فيهم. أو من: طاف به الخيال، يطيف طيفا، وقرئ:«(طيف)» على أنه مصدر، وهما لغتان بمعنى واحد. وقيل: بينهما فرق فالطائف ما يطوف حول الإنسان، والطيف الوسوسة. وقال الأزهري: الطيف في كلام العرب: الجنون، وقيل للغضب: طيف؛ لأن الغضبان يشبه المجنون. {الشَّيْطانِ:} انظر الآية رقم [49] من سورة (الأنفال)، و «ال» فيه للجنس، ولذا جمع الضمير العائد عليه في الآية التالية. {تَذَكَّرُوا} أي: قدرة الله، وإنعامه عليهم، فتركوا المعصية، وكفوا غضبهم. {فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ:} مواقع الخطأ، ومكايد الشيطان بسبب التذكر، فيبتعدون عمّا ذكر. هذا؛ وقد كثر ذكر الطيف، والخيال في الشعر العربي، وهو ما يرى في النوم، أو يتخيل في اليقظة. قال زياد بن حمل:[البسيط]

فقمت للطّيف مرتاعا فأرّقني

فقلت أهي سرت أم عادني حلم؟

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب.

{اِتَّقَوْا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {مَسَّهُمْ:} ماض شرط: {إِذا،} والهاء مفعول به. {طائِفٌ:} فاعله،

ص: 694

والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح. {مِنَ الشَّيْطانِ:}

متعلقان ب {طائِفٌ،} أو بمحذوف صفة له. {تَذَكَّرُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والمفعول محذوف انظر الشرح، والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها {فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب:{فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ} في الآية رقم [107] بلا فارق.

{وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)}

الشرح: {وَإِخْوانُهُمْ} أي: إخوان الشياطين الذين لم يتقوا الله يمدهم الشيطان، وإخوان الشياطين: هم الفجار من ضلال الإنس. {يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ:} يزيدونهم غيّا وضلالا بالتزيين والوسوسة. هذا؛ ويقرأ الفعل: «يمدونهم» بفتح الياء وضم الميم من الثلاثي، ويقرأ بضم الياء وكسر الميم من الرباعي، كما يقرأ «(يمادّونهم)» ، كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغواء، وهؤلاء يعينونهم بالاتباع والامتثال. {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ:} ثم لا يمسكون عن إغوائهم، والفعل على هذا بضم الياء وكسر الصاد من الرباعي، ويقرأ الفعل بفتح الياء وضم الصاد من الثلاثي، ويكون المعنى: ثم لا يكفون عن اتباع الشياطين، ولا يتوبون، ولا يرجعون إلى الله تعالى، وهؤلاء بخلاف المؤمنين المذكورين في الآية السابقة الذين إذا مسهم طائف من الشيطان. وانظر:{ثُمَّ} في الآية رقم [103].

الإعراب: {وَإِخْوانُهُمْ:} (إخوانهم): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَمُدُّونَهُمْ:} فعل، وفاعل ومفعول به، والميم علامة جمع الذكور، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {فِي الغَيِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما وجوز تعليقهما بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول. والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يُقْصِرُونَ:} فعل، وفاعل، والمتعلق محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

{وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اِجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}

الشرح: {وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} أي: بمعجزة ظاهرة مما اقترحوه عليك. وانظر (أتى) في الآية رقم [35] و «آية» في الآية رقم [9]. {قالُوا:} أي: أهل مكة. {لَوْلا:} هلا. {اِجْتَبَيْتَها:} اختلقتها، وابتدعتها من عندك، كما هو شأنك وعادتك. تقول العرب: اجتبيت الكلام: إذا اختلقته، وابتدعته.

هذا؛ واجتباه اختاره: واصطفاه. قال الكلبي: كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الآيات تعنتا، فإذا تأخرت اتهموه، وقالوا: لولا اجتبيتها. {قُلْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} أي: أنا لست بمختلق للآيات، ولا بمخترع لها، لا أتبع إلا ما ينزل به جبريل عليّ من عند ربي.

ص: 695

{هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: هذا القرآن بصائر للقلوب، بها يبصر الحق، ويدرك الصواب. هذا؛ وبصائر جمع بصيرة، وهي الدلالة الواضحة، فيهتدى بها، فأطلق على القرآن لفظ البصيرة تسمية للسبب باسم المسبب وانظر الآية رقم [104] من سورة (الأنعام). {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} أي: رشد وبيان وهداية من الضلالة ونعمة شاملة لمن قرأ القرآن وانتفع به. وانظر إعلال (هدى) في الآية رقم [91] الأنعام. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ:} خصهم بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالقرآن وبتعاليمه.

تنبيه: قال الخازن: وهنا لطيفة، وهي الفرق بين هذه المراتب الثلاث، وذلك أن الناس متفاوتون في درجات العلوم، فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد، وهم أصحاب «عين اليقين» ، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال، والنظر، وهم أصحاب «علم اليقين» ، ومنهم المسلم المستسلم، وهم: عامة المؤمنين، وهم أصحاب:«حق اليقين» ، فالقرآن في حق الأولين-وهم السابقون-بصائر، وفي حق القسم الثاني-وهم المستدلون-هدى، وفي حق القسم الثالث-وهم عامة المؤمنين-رحمة. انتهى. وانظر الآية رقم [57](يونس) تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَإِذا:} (إذا): انظر الآية رقم [201]. {لَمْ:} حرف نفي وقلب وجزم.

{تَأْتِهِمْ:} مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {بِآيَةٍ:} متعلقان بما قبلهما. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، {لَوْلا:} حرف تحضيض. {اِجْتَبَيْتَها:} فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّما:}

كافة ومكفوفة. {أَتَّبِعُ:} مضارع، والفاعل تقديره:«أنا» . {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يُوحى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. ونائب الفاعل يعود إلى:{ما،} وهو العائد، أو الرابط. {إِلَيَّ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ رَبِّي:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{إِنَّما أَتَّبِعُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بَصائِرُ:} خبر المبتدأ. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب {بَصائِرُ،} أو بمحذوف صفة له. (هدى): معطوف على: {بَصائِرُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {وَرَحْمَةٌ:}

معطوفة على {بَصائِرُ} أيضا. {لِقَوْمٍ:} متعلقان ب (رحمة)، أو ب (هدى) على التنازع، أو بمحذوف صفة لأحدهما، وحذفت صفة الثاني لدلالة صفة الأول، أو بالعكس. {يُؤْمِنُونَ:}

ص: 696

فعل، وفاعل، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية في محل جر صفة (قوم)، والكلام:{هذا بَصائِرُ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}

الشرح: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: لما ذكر سبحانه وتعالى عظم شأن القرآن بقوله:

{هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أتبعه بما يجب من تعظيم شأنه عند قراءته، فقال سبحانه وتعالى:{وَإِذا قُرِئَ} عليكم أيها المؤمنون {الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} يعني: أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه، وتتدبروا مواعظه {وَأَنْصِتُوا} يعني: عند قراءته، والإنصات السكوت للاستماع، يقال: نصت، وأنصت، وانتصت بمعنى واحد. واختلف العلماء في الحال التي أمر الله عز وجل بالاستماع لقارئ القرآن، والإنصات له إذا قرأ؛ لأن قوله:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فمقتضاه أن يكون الاستماع، والسكوت واجبين، وللعلماء في ذلك أقوال:

القول الأول: -وهو قول الحسن، وأهل الظاهر-أن تجرى هذه الآيات على العموم، ففي أي وقت، وأي موضع قرئ القرآن يجب على كل أحد الاستماع له، والسكوت.

الثاني: أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة، روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه:

أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم، فأمروا بالسكوت، والاستماع لقراءة القرآن. وقال عبد الله، كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة: سلام على فلان، وسلام على فلان، فجاء القرآن:{وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ..} . إلخ.

الثالث: أنها نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام. روي عن أبي هريرة: قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصوات، وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه سمع ناسا يقرءون مع الإمام، فلما انصرف، قال: أما آن لكم أن تفقهوا {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} كما أمركم الله.

الرابع: أنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة. وهذا القول قد اختاره جماعة، وفيه بعد؛ لأن الآية مكية، والخطبة إنما وجبت يوم الجمعة بالمدينة، واتفقوا على أنه يجب الإنصات حال الخطبة بدليل السنة.

واختلف العلماء في القراءة خلف الإمام: فذهب جماعة إلى إيجابها، سواء جهر الإمام بالقراءة، أو أسر، يروى ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ، رضي الله عنهم أجمعين. وهو قول الأوزاعي، وإليه ذهب الشافعي..

وذهب قوم إلى أنه يقرأ فيما أسر الإمام فيه، ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه، يروى ذلك عن ابن عمر، وهو قول عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وبه قال مالك، والزهري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق.

ص: 697

وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسر الإمام، أو جهر، يروى ذلك عن جابر، وإليه ذهب أصحاب الرأي. أي: السادة الأحناف.

حجة من لا يرى القراءة خلف الإمام ظاهر هذه الآية، وحجة من قال: يقرأ في السرية دون الجهرية، قال: إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن، ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام، فحملنا مدلول الآية على صلاة السرية، وحملنا مدلول السنة على صلاة الجهرية، جمعا بين دلائل الكتاب، والسنة.

وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية قال: الآية واردة في غير الفاتحة؛ لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ولم يفرق بين السرية والجهرية، ويدل عليه ما روي عن عبادة بن الصامت؛ قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال:«أراكم تقرءون وراء إمامكم!» . قال، قلنا يا رسول الله: أي والله! قال:

«لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» . أخرجه الترمذي بطوله، وأخرجاه في الصحيحين أقصر منه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج، يقولها ثلاثا» . أي غير تمام. انتهى. بتصرف بسيط، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: (إذا): انظر الآية رقم [201]. {قُرِئَ:} ماض مبني للمجهول. {الْقُرْآنُ:}

نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا): إليها على المشهور المرجوح.

{فَاسْتَمِعُوا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (استمعوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها. {لَهُ:} متعلقان بما قبلهما، وجوز اعتبار اللام زائدة، فيكون الضمير مجرورا لفظا، منصوبا محلاّ على أنه مفعول به. وجملة:{وَأَنْصِتُوا} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} انظر إعراب هذه الجملة، وما ذكرته من الترجي في الآية رقم [63].

{وَاُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205)}

الشرح: {رَبَّكَ:} انظر الآية [3]. {نَفْسِكَ:} انظر (النفس) في الآية رقم [9]. {تَضَرُّعاً:}

انظر الآية رقم [55]. {وَدُونَ:} انظر الآية رقم [3]. {بِالْغُدُوِّ:} جمع غدوة بضم الغين، وهي ما بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس، وقيل: إلى الضحوة الكبرى، والغداة في الأصل: الضحوة، ولو حملها حامل على أول النهار؛ جاز له التذكير، والجمع: غدوات. {وَالْآصالِ:} جمع: أصيل، وهو الوقت بين العصر، والمغرب، ويجمع أيضا على أصائل، وأصل، وأصلان. وقيل: أصائل جمع

ص: 698

أصل، أي فهو جمع الجمع. وليس بشيء. هذا؛ ويطلق الأصيل على الشعاع الممتد من الشمس إلى الماء، فيشبه لون أشعته في الماء لون الذهب وانظر الآية رقم [41] من سورة (آل عمران)، والآية رقم [52] من سورة (الأنعام)، ففيهما كبير فائدة. هذا؛ و (خيفة) أصلها:(خوفة) فوقعت الواو ساكنة إثر كسرة، فقلبت ياء، فهو واوي الأصل من الخوف.

تنبيه: قال الخازن-رحمه الله تعالى-الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه غيره من أمته؛ لأنه عام لسائر المكلفين، ثم قال: والمعنى: اذكر ربك بالبكر، والعشيات. وإنما خص هذين الوقتين بالذكر؛ لأن الإنسان يا قوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت، فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل، وأما وقت الآصال، وهو آخر النهار، فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت، فيستحب له أن يستقبله بالذكر؛ لأنه حالة تشبه الموت، ولعله لا يا قوم من تلك النومة، فيكون موته على ذكر الله، عز وجل. {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ} أي: عما يقربك إلى الله تعالى من ذكر، وصلاة وغيرهما، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَاذْكُرْ:} الواو: حرف استئناف. (اذكر): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .

{رَبَّكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {فِي نَفْسِكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {تَضَرُّعاً:} حال من الفاعل المستتر، بمعنى: متضرعا متذللا.

وقيل: هو مفعول لأجله. وقيل: مفعول مطلق لفعل محذوف. {وَخِيفَةً:} معطوف على ما قبله. {وَدُونَ:} قدر البيضاوي ما يلي: ومتكلما كلاما فوق السر، ودون الجهر، وهذا يعني أن (دون) معطوف على محذوف هو (فوق) وهذا متعلق بمحذوف معطوف بدوره على {تَضَرُّعاً} و (خيفة)، وقول أبي البقاء: معطوف على «تضرع» ، والتقدير: مقتصدين؛ لا وجه له، و (دون) مضاف، و {الْجَهْرِ:} مضاف إليه. {مِنَ الْقَوْلِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الْجَهْرِ،} ويجوز تعليقهما بالجهر نفسه لأنه مصدر، وقول الجمل:«كأن هذا حال من: (دون)، أي حال كون الدون كائنا من القول» لا وجه له. {بِالْغُدُوِّ:} متعلقان بالفعل: (اذكر). (الآصال):

معطوف على ما قبله. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَكُنْ:} مضارع ناقص مجزوم ب (لا)، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {مِنَ الْغافِلِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: {تَكُنْ،} وجملة: {وَلا تَكُنْ..} . إلخ معطوفة على جملة: (اذكر

) إلخ لا محل لها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع.

{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ:} المراد بهم الملائكة بالإجماع، والمراد بالعندية: القرب من الله بالزلفى، والرضا، لا المكانية. وفي القرطبي: ومعنى العندية: أنهم في مكان لا ينفذ فيه

ص: 699

إلا حكم الله. وقيل: هذا على جهة التشريف لهم، وأنهم بالمكان المكرم، فهو عبارة عن قربهم في الكرامة لا في المسافة. {لا يَسْتَكْبِرُونَ..}. إلخ: عدم الكبر يجر للطاعة، والطاعة إما قلبية، وإما بدنية، فأشار للأولى بقوله:{وَيُسَبِّحُونَهُ} لأن التسبيح: التنزيه، والتعظيم، وهو يكون باللسان. وإلى الثانية بقوله:{وَلَهُ يَسْجُدُونَ} أي: يخصونه بالخضوع، والتذلل، والسجود برهان ذلك، وهو يكون بالبدن.

تنبيه: يسن سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية، وهي أول آية يسن السجود عند تلاوتها، والآيات التي يسن السجود لتلاوتها هي أربع عشرة، والدليل هو سجود النبي صلى الله عليه وسلم. فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة، فيسجد، ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت صلاة. متفق عليه، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السّجدة، فسجد؛ اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار!» . رواه مسلم. والله أعلم.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {عِنْدَ:} مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه، والكاف ضمير في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لا:} نافية. {يَسْتَكْبِرُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . {عَنْ عِبادَتِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:

{وَيُسَبِّحُونَهُ:} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. (له): متعلقان بما بعدهما، والجملة الفعلية:{وَلَهُ يَسْجُدُونَ} معطوفة على خبر: {إِنَّ،} فهي في محل رفع، والفعل المضارع في الجمل الثلاث مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة فاعله.

تمت سورة (الأعراف) بحمد الله، وتوفيقه، والله أسأل، وبنبيه أتوسل أن يعين على إتمامه، وأن ينفع به المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

ص: 700