المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأنعام وهي مكية ما عدا ست آيات منها فإنها مدنية، - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٣

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة الأنعام وهي مكية ما عدا ست آيات منها فإنها مدنية،

‌سورة الأنعام

وهي مكية ما عدا ست آيات منها فإنها مدنية، وهي قوله تعالى:{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..} . إلخ الثلاث آيات المتضمنة عشر وصايا، والآيات الثلاث:{وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ..} . إلخ إلى قوله {تَسْتَكْبِرُونَ} . وقد نزلت جملة واحدة غير الآيات المشار إليها، نزلت ليلا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، فكتبوها من ليلتهم. وآياتها مائة وخمس وستون، أو أربع وستون.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)}

الشرح: انظر البسملة والكلام عليها في أول سورة الفاتحة. {الْحَمْدُ لِلّهِ:} لا أتكلم على هذين اللفظين بأكثر مما ذكرته في أول سورة الفاتحة. {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ:} خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع السموات دون الأرض، وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة بالصفات، والآثار، والحركات، وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها، ولأنها متعبد الملائكة، ولم يقع فيها معصية، و (جعل) هنا بمعنى: خلق وأنشأ.

قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-الفرق بين {خَلَقَ} و {جَعَلَ} الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التضمين، ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمات بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت المجوس، وجمع الظلمة لأنها متعددة، وتختلف باختلاف الشيء الذي تكون فيه، مثل ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الموضع المظلم، فإن كل واحد منها يخالف صاحبه، ووحد (النور) لأنه نوع واحد لا يختلف، وقدم {الظُّلُماتِ} لأنها مخلوقة قبل النور.

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله خلق خلقه في ظلمة، ثمّ ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلّ» . ذكره البغوي. هذا؛ وانظر تفسيرا آخر للظلمات والنور في الآية رقم [18](المائدة). {ثُمَّ:} انظر الآية رقم [46](المائدة). {كَفَرُوا:} انظر الآية رقم [39] منها. {بِرَبِّهِمْ:} انظر سورة الفاتحة.

ص: 243

{يَعْدِلُونَ:} يعرضوان عن عبادة الله تعالى، أو يسوون الأصنام بربهم، والشرح الوافي لذلك انظره في الآية رقم [135] النساء ففيه الكفاية، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية ابتدائية لا محل لها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة (الله)، أو هو بدل منه. {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم. {وَالْأَرْضَ:} معطوف عليه، وجملة:{خَلَقَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وإعراب:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} مثلها، وهي معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} صلته. {بِرَبِّهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بالفعل بعدهما على حسب ما رأيت في المعنى، وجملة:{يَعْدِلُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية السابقة لا محل لها مثلها، وقيل: يجوز عطفها على جملة: {خَلَقَ السَّماواتِ} ولم يظهر لي صحة جوازه.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ:} وقال سبحانه في غير هذه الآية: {خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ} والمعنى: ابتدأ خلقكم منه، فإنه المادة الأولى، وإن آدم الذي هو أصل البشر خلق منه. أو المعنى: خلق أباكم، فحذف المضاف. هذا قول المفسرين.

أقول: وعليه فخلقنا من طين أو تراب هو خلق غير مباشر، وهناك خلق مباشر، يدركه كل إنسان، وذلك بالرجوع إلى مبدأ خلقه، فلا ريب أن المادة التي يبدأ خلق الإنسان منها مستمدة من دمه، ودمه مستمد من الغذاء، والشراب، ومصدر هذين إنما هو من الأرض التي ينبت فيها الغذاء على جميع أنواعه، والشراب على اختلاف أجناسه. احفظ هذا؛ وافهمه فإنه جيد، وتوسع في تحليله، والكلام عليه إن أردت. {قَضى:} انظر الآية رقم [117](البقرة) فالكلام على هذا اللفظ طويل هناك، ومعناه هنا: كتب، وقدر.

وقد اختلف في تفسير الأجلين المذكورين هنا على أقوال: فقيل: أجل الموت، وأجل القيامة، وقيل، الأول ما بين خلق الإنسان وموته، الثاني ما بين موته وبعثه للحساب، وقيل:

الأول: النوم، والثاني: الموت، وقيل: الأول لمن مضى، والثاني لمن بقى ولمن يأتي، أو الثاني هو الأول، وتقديره: وهو أجل مسمى؛ أي: معلوم، ومثبت معين. {عِنْدَهُ:} في علمه وتقديره الأزلي. والإضافة إضافة تشريف، وقل مثله في كل إضافة لله جل علاه، وتقدست أسماؤه. وانظر إعلال مثل:{مُسَمًّى} في الآية رقم [91]. {تَمْتَرُونَ:} تشكون، من: المرية، أو من المراء، وهو

ص: 244

المجادلة، وأفادت {ثُمَّ} معنى استبعاد ذلك منهم بعد أن ثبت أنه سبحانه خالقهم، وخالق أصولهم، ومحييهم، ومميتهم، وباعثهم ليوم لا ريب فيه، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإبداع الحياة فيها وإبقائها؛ كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيا، فالآية الأولى دليل التوحيد، والثانية دليل البعث للحساب والجزاء. انتهى. بيضاوي، وغيره بتصرف.

الإعراب: {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، وجملة:{خَلَقَكُمْ} صلة الموصول لا محل لها.

{مِنْ طِينٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز تعليقهما بمحذوف حال، وذلك على تقدير المضاف الذي رأيته في الشرح، أي: كائنا من طين، وجملة:{قَضى أَجَلاً} معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {وَأَجَلٌ:} مبتدأ. {مُسَمًّى} صفته مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، وهذه الصفة هي التي جوزت الابتداء بالنكرة. هذا؛ وجوز اعتبار (أجل) خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: وهو (أجل)، {عِنْدَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ على الأول، ومتعلق ب:{مُسَمًّى} على الاعتبار الثاني، والجملة الاسمية معطوفة على الوجهين على الجملة الاسمية السابقة لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{تَمْتَرُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)}

الشرح: {فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ:} انظر الآية رقم [1]. {سِرَّكُمْ} أي: ما تسرون وتخفون من أعمال، أو ما تضمرونه في قلوبكم. {وَجَهْرَكُمْ} أي: ما تجهرون به وتظهرونه للناس من أعمال. {ما تَكْسِبُونَ:} من خير أو شر، فيثيب على الخير، ويعاقب على الشر.

قال البيضاوي: ولعله أريد بالسر والجهر ما يخفى، وما يظهر من أحوال الأنفس، وبالمكتسب أعمال الجوارح، ولا تنس: أن {يَعْلَمُ} بمعنى يعرف فلذا اكتفى بمفعول واحد.

وانظر العلم والمعرفة في الآية رقم [61](الأنفال).

الإعراب: {وَهُوَ اللهُ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بلفظ الجلالة بتأويله بمشتق، أي: المعبود، أو المستحق للعبادة، وقيل: متعلقان بالفعل بعدهما، والأول أرجح عندي، والجملة الفعلية:{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ:} في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، ويجوز اعتبارها في محل نصب حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، وقيل: هي مستأنفة. ولا وجه له، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ

ص: 245

معطوفة على ما قبلها على جميع الاعتبارات فيها، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: تكسبونه، وعلى الثالث تؤول مع الفعل بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم كسبكم.

{وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4)}

الشرح: {تَأْتِيهِمْ:} «أتى» يستعمل لازما، إن كان بمعنى: حضر، وأقبل، ومتعديا إن كان بمعنى: وصل، وبلغ، فمن الأول قوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} . ومن الثاني ما في الآية الكريمة، ومثلها كثير. {آيَةٍ:} تطلق على معان كثيرة، منها الدلالة، ومنه قوله تعالى:{لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ} وتطلق على المعجزة، مثل انشقاق القمر ونحوه، وتطلق على الموعظة، كما في قوله تعالى {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} كما تطلق على جملتين أو أكثر من كلام الله تعالى، والكل هنا محتمل. {رَبِّهِمْ:} انظر سورة (الفاتحة). {مُعْرِضِينَ:} مهملين للنظر في تلك الآيات لا يلتفتون إليها لقلة خوفهم من الله، ولقلة فهمهم وإدراكهم. والمراد بالضمائر المتصلة أهل مكة.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {تَأْتِيهِمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء: في محل نصب مفعول به. {مِنْ:} حرف جر صلة. {آيَةٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {مِنْ آياتِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {آيَةٍ،} و {آياتِ:}

مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء: في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، وانظر إعراب آمنوا في الآية رقم [1] المائدة والألف للتفريق. {عَنْها:} متعلقان بما بعدها. {مُعْرِضِينَ:} خبر: {كانُوا} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال. وصاحب الحال هو الضمير المنصوب محلاّ، وقيل {مِنْ آيَةٍ،} وساغ ذلك لتخصصها بالوصف، وعلى الاعتبارين فالرابط الضمير فقط.

{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)}

الشرح: {كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ:} كذب كفار قريش بالحق، وهو القرآن المنزل من عند الله لما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم آية، وقد تحداهم الله به فعجزوا عن معارضته، وإذا كانوا قد كذبوا به؛ فلم لا يكذبون غيره من آيات؟! وانظر شرح:{بِالْحَقِّ} في الآية رقم [5/ 27]،

ص: 246

{جاءَهُمْ:} جاء: يستعمل لازما، إن كان بمعنى حضر، وأقبل، ومتعديا إن كان بمعنى وصل، وبلغ، فمن الأول قوله تعالى:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} ومن الثاني الآية الكريمة، ومثلها كثير. {يَأْتِيهِمْ:} انظر الآية السابقة. {أَنْبؤُا:} انظر الآية رقم [5/ 14]، ومعنى {فَسَوْفَ..}. إلخ أي: سيظهر لهم عاقبة استهزائهم عند نزول العذاب بهم يوم القيامة، أو حين يعلو شأن الإسلام وتنزل بهم الذلة والمهانة. وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده.

الإعراب: {فَقَدْ:} الفاء: حرف استئناف. قد: حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{كَذَّبُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:

{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]، {بِالْحَقِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لَمّا:} ظرف بمعنى حين مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله، وجملة:{جاءَهُمْ:} في محل جر بإضافة:

{لَمّا} إليها. والجملة الفعلية: {فَقَدْ كَذَّبُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وقال السفاقسي وغيره:

معطوفة على ما قبلها، وقول الزمخشري: الجملة جواب شرط مقدر، أي: إن كانوا معرضين عن الآيات؛ فلا تعجب، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها. ففيه تكلف لا يخفى. انتهى جمل بتصرف. {فَسَوْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (سوف): حرف استقبال. {يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ:} مضارع ومفعوله وفاعله، وانظر الآية السابقة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، و {يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ:} مضاف، و {ما:} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي موصولة، أو موصوفة. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه. {بِهِ:} متعلقان بالفعل بعدهما، وجملة:{بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ:} في محل نصب خبر كان، وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلا بالباء، ولا يصح اعتبار:{ما} مصدرية لعود الضمير عليها وهي حرف، وجوز ابن عطية اعتبارها مصدرية. وعليه فالضمير يعود على (الحق) وعند الأخفش يعود إليها الضمير؛ لأنها عنده اسم. انتهى جمل بتصرف.

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)}

الشرح: {يَرَوْا:} ينظروا، وهو معلق عن العمل بما بعده، وإعلاله مثل إعلال:{عَصَوْا} في الآية رقم [5/ 78]، {قَرْنٍ:} بفتح القاف وسكون الراء، مائة سنة على الصحيح، وقيل:

ثمانون، وقيل: ثلاثون، ويقال: القرن في الناس: أهل زمان واحد، وهو المراد في الآية الكريمة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني

إلخ». ومنه قول الشاعر: [الطويل]

إذا ذهب القرن الذي أنت فيهمو

وخلّفت في قرن فأنت غريب

ص: 247

وخذ قول لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه: [الطويل]

فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب

لعلّك تهديك القرون الأوائل

والقرن بفتح القاف أيضا: الزيادة العظمية التي تنبت في رءوس بعض الحيوانات، والقرن الجبل الصغير، وذؤابة المرأة من الشعر، والقرن من القوم: سيدهم، ومن السيف حده، ونصله، وجمعه في كل ما تقدم: قرون، هذا؛ وهو بكسر القاف وسكون الراء: الكفؤ في الشجاعة والعلم وغيرهما، والجمع على هذا: أقران. {مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ:} جعلنا لهم فيها مكانا يستقرون فيه. أو أعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا فيه من أنواع التصرف فيها، والمراد:

قوم عاد، وثمود، وفرعون، وغيرهم. {ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ:} الخطاب لأهل مكة، والمراد: ما لم نجعل لكم ما جعلنا لهم من قوة وطول. {وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ:} المطر، وأطلق المطر على السماء لنزوله منها. {مِدْراراً:} غزيرا كثيرا. {الْأَنْهارَ:} انظر الآية رقم [5/ 85]، والمراد بيان ما كان فيه أولئك الأقوام من خير ونعمة ورخاء. و {وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ..}. إلخ: خلقنا وأحدثنا من بعدهم ناسا غيرهم. والمعنى: كما أهلك الله من قبلكم، وأحدث غيرهم كذلك قادر الله على إهلاككم، وخلق غيركم. ففيه تهديد ووعيد لا يخفيان، هذا؛ و «مكّن» يتعدى بنفسه وبحرف الجر كما رأيته في الآية، مثل: نصحته، ونصحت له.

تنبيه: في الآية الكريمة التفات إلى الخطاب في: {لَكُمْ} الذي هو خطاب لأهل مكة عن الغيبة التي يقتضيها السياق في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا:} فلو قال: ما لم نمكن لهم؛ لكان جاريا على الظاهر. هذا؛ والالتفات يكون أيضا من الخطاب إلى الغيبة، وعنهما إلى التكلم، وبالعكس، ومن المفرد إلى الجمع، وبالعكس، كما سأنبه عليه في محاله إن شاء الله تعالى، وله فوائد كثيرة، منها:

تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد. هذه فائدته العامة، ويختص كل موقع بنكت ولطائف باختلاف محله كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه: حث السامع، وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصصه بالمواجهة. انتهى جمل نقلا من كرخي.

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَرَوْا:}

مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كَمْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم، وقال الجلال:

خبرية بمعنى: كثيرا، وجوز أبو البقاء اعتبارها ظرفا لما بعدها، كما جوز اعتبارها مصدرا، أي:

فهي مفعول مطلق، والمعتمد الأول، ثم الثاني. {أَهْلَكْنا:} فعل وفاعل، {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بالفعل (قبلهما)، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة. {قَرْنٍ:} تمييز: {كَمْ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر

ص: 248

الزائد. {مَكَّنّاهُمْ:} فعل وفاعل ومفعول به. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{كَمْ أَهْلَكْنا..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعول، أو مفعولي الفعل:{يَرَوْا،} والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محل لها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة لمصدر محذوف، التقدير:{مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} التمكين الذي لم نمكن لكم، أو في محل نصب مفعول به ثان على تضمين الفعل معنى: أعطيناكم، والعائد على الوجهين محذوف، أو هي نكرة موصوفة في محل نصب مفعول به ثان، والرابط محذوف أيضا، التقدير: ما لم نمكنه لكم، وجوز أبو البقاء اعتبارها أيضا مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلقة بما قبلها. {لَمْ:} حرف جازم. {نُمَكِّنْ:} مضارع مجزوم بلم. والفاعل مستتر تقديره: «نحن» والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف على نحو ما رأيت. {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ:} معطوفة على جملة:

{مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} فهي في محل جر صفة مثلها. {مِدْراراً:} حال من السماء. وجملة: {وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ} معطوفة أيضا عليها. {تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. والفاعل يعود إلى:{الْأَنْهارَ،} والجملة الفعلية في محل نصب حال من: {الْأَنْهارَ} على اعتبار (جعلنا) متعديا لمفعول واحد، أو هي في محل نصب مفعول به ثان على اعتباره متعديا لمفعولين. {مِنْ تَحْتِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، وجملة:{فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ:} معطوفة على جملة: {قَرْنٍ مَكَّنّاهُمْ..} . إلخ فهي في محل جر صفة مثلها، وجملة:{وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً:} معطوفة أيضا. {آخَرِينَ:} صفة {قَرْناً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وانظر ما ذكرته في التعبير ب (نا) في الآية رقم [7/ 5] وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5] فإن ما في الآية ينطبق عليه.

{وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}

الشرح: {نَزَّلْنا:} انظر الآية رقم [5/ 49]، {عَلَيْكَ:} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. {كِتاباً فِي قِرْطاسٍ} أي: كتابا مكتوبا في ورق، وانظر شرح الكتاب في الآية رقم [1](الأعراف)، {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ:} مسوه، وإنما قال: لمسوه، ولم يقل: عاينوه؛ لأن اللمس أبلغ من المعاينة؛ لأن المرئيات قد يدخلها التخيلات كالسحر ونحوه، بخلاف الممسوس، فلا يمكنهم أن يقولوا: إنما سكرت أبصارنا، وانظر شرح (يد) في الآية رقم [5/ 11] قال: انظر القول في الآية رقم [7/ 4]{كَفَرُوا:} انظر الآية رقم [5/ 36]{سِحْرٌ مُبِينٌ:} انظر الآية رقم [5/ 110].

ص: 249

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد، قالوا: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه: أنه من عند الله، وأنك رسوله، وقد ذكر الله ذلك عنهم في سورة (الإسراء) رقم [90] وما بعدها، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {نَزَّلْنا:}

فعل وفاعل. {عَلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما. {كِتاباً:} مفعول به. {فِي قِرْطاسٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: {كِتاباً} . والجملة الفعلية: {نَزَّلْنا..} . إلخ لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَلَمَسُوهُ:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

{نَزَّلْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها. {بِأَيْدِيهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لَقالَ:} اللام: واقعة في جواب (لو). {لَقالَ الَّذِينَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مع المقول جواب (لو) لا محل لها.

{كَفَرُوا:} فعل وفاعل والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [5/ 110] وهي في محل نصب مقول القول.

{وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8)}

الشرح: {وَقالُوا:} انظر الآية رقم [7/ 4] أو [2/ 26]. {لَوْلا:} هلا. {عَلَيْهِ:} على محمد صلى الله عليه وسلم. {مَلَكٌ:} من ملائكة السماء، يشهد له أنه نبي. {لَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي: لحق إهلاكهم لأن سنة الله جرت بذلك فيمن قبلهم. {ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ:} لا يمهلون بعد نزول الملك طرفة عين، بل يعجل لهم العذاب، وقد ذكر الله عنهم ذلك في سورة (الإسراء) وسورة (الفرقان) وانظر {قَضى} في الآية رقم [117](البقرة) و [45](الأنفال) فإنه جيد. وانظر {ثُمَّ} في الآية رقم [103] الأعراف ورقم [43](المائدة).

الإعراب: {وَقالُوا:} (الواو): حرف عطف. (قالوا): فعل وفاعل، والألف للتفريق.

{لَوْلا:} حرف تحضيض. {أُنْزِلَ:} ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مَلَكٌ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية:{لَوْلا أُنْزِلَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. والجملة الفعلية: {وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنْزَلْنا:} فعل وفاعل. {مَلَكاً:} مفعول به، والجملة الفعلية:

{أَنْزَلْنا..} . إلخ لا محل لها على نحو ما رأيت. {لَقُضِيَ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (قضي الأمر): ماض مبني للمجهول ونائب فاعل، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محل لها.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يُنْظَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ. والواو نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لو) لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له على الوجهين.

ص: 250

{وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)}

الشرح: {وَلَوْ جَعَلْناهُ..} . إلخ: أي: ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا؛ لأنهم كانوا يقولون تارة لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم. ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة. {لَجَعَلْناهُ رَجُلاً} أي: لو أرسلنا إليهم ملكا؛ لجعلناه في صورة رجل، وذلك لأن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها، ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنسان، كما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وكما جاء الملكان إلى داود عليه السلام في صورة رجلين، وكذلك أتى الملائكة إلى إبراهيم، ولوط عليهما الصلاة والسّلام، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته التي خلق عليها؛ صعق لذلك، وغشي عليه. {وَلَلَبَسْنا..}. إلخ: هذا جواب ل (لو) محذوفة كما ستعرفه في الإعراب.

والمعنى: لو جعلنا الملك المنزل عليهم رجلا؛ لاشتبه الأمر عليهم، واختلط أيضا حيث يقولون له: إنما أنت بشر مثلنا، ولست بملك، ولست برسول، ولو استدل على ملكيته بالقرآن المعجز؛ لكذبوه كما كذبوا محمدا، عليه الصلاة والسلام، ففيه تأكيد لاستحالة جعل الرسول ملكا. هذا؛ ويقرأ «(لبسنا)» بدون لام، كما يقرأ بالتشديد، وانظر الآية رقم [137] تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف عطف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{جَعَلْناهُ:} فعل وفاعل ومفعول به. {مَلَكاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية لا محل لها على نحو ما رأيت في الآية السابقة، وجملة:{لَجَعَلْناهُ رَجُلاً:} جواب لولا محل لها، ولو ومدخولها معطوف على ما قبله لا محل له مثله. {وَلَلَبَسْنا:} الواو: حرف عطف، وجملة:

{وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ:} جواب (لو) محذوفة انظر التقدير في الشرح. و (لو) المقدرة، ومدخولها معطوف على ما قبله لا محل له أيضا. {ما:} تحتمل الموصولة والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يلبسونه، وعلى اعتبار:{ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: لبسهم.

{وَلَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)}

الشرح: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ:} فيه تعزية، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان من تكذيب المشركين له، واستهزائهم به، فقد جعل الله أسوة له في ذلك الأنبياء والمرسلين الذين كانوا قبله، وتلك سنة متبعة في الأولين، والآخرين، حيث لم يقم داع يدعو إلى الإصلاح

ص: 251

والخير، إلا وقوبل بالاستهزاء والسخرية. {فَحاقَ بِالَّذِينَ} أي: فنزل بالأقوام المستهزءين بالرسل العذاب المهين والعقاب الشديد، وفي هذه الآية تحذير للمشركين من أهل مكة أن يفعلوا بنبيهم كما فعل من كان قبلهم بأنبيائهم، فينزل بهم مثل ما نزل بهم، هذا؛ و (رسل) جمع:

رسول، وانظر:(سبل) في الآية رقم [16](المائدة) تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {وَلَقَدِ:} الواو: حرف قسم وجر. والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم المقدر.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اُسْتُهْزِئَ:} ماض مبني للمجهول. {بِرُسُلٍ:}

متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل. {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان بمحذوف صفة (رسل) والكاف في محل جر بالإضافة: وجملة (لقد

إلخ) جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له من الإعراب. (حاق): ماض. {بِالَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{سَخِرُوا} صلة الموصول لا محل لها. {مِنْهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} انظر إعراب هذه الكلام في الآية رقم [5] مع ملاحظة: أنّ {ما} وقعت هناك في محل جر بالإضافة، وهنا وقعت في محل رفع فاعل، وهي في الأصل في محل جر بالإضافة، فإن الأصل. حاق عقاب ما كانوا

إلخ فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وجميع الاعتبارات هناك معتبرة هنا.

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اُنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}

الشرح: {قُلْ:} هذا أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ليرشد قومه بالسير في الأرض، والنظر بما فعل الله بالأقوام الذين كذبوا رسلهم حيث أهلكهم بسبب ذلك. وفيه تهديد ووعيد لا يخفيان لأهل مكة، ولكل المكذبين. وانظر شرح:{ثُمَّ} في الآية رقم [43](المائدة).

هذا؛ وقد قال تعالى في الآية رقم [3/ 137]. {اُنْظُرُوا} . وقال هنا: {ثُمَّ انْظُرُوا،} والفرق بينهما: أن النظر جعل هناك مسببا عن السير، فكأنه قيل:{سِيرُوا} لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين، ومعنى السير هنا إباحة السير في الأرض للتجارة، وغيرها، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك ب:{ثُمَّ} التي هي للتراخي لتباعد ما بين الواجب والمباح. انتهى نسفي بتصرف كبير.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {سِيرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [1] المائدة.

والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ثُمَّ:}

حرف عطف. {اُنْظُرُوا:} إعرابه مثل إعراب سابقه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي

ص: 252

في محل نصب مقول القول. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر كان تقدم عليها، وعلى اسمها. {كانَ:} ماض ناقص. {عاقِبَةُ:} اسمها مرفوع، وهو مضاف، والمكذبين مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كَيْفَ كانَ..} . إلخ: في محل نصب مفعول به للفعل قبلها، المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وجملة:{قُلْ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)}

الشرح: {قُلْ:} انظر القول في الآية رقم [26] أو [7/ 4]. {ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} {ما:}

أطلقت على جميع الموجودات في السموات والأرض من الملك والمخلوقات العاقلة وغيرها، والأصل فيها أن تطلق على غير العاقل، وقد غلب غير العاقل على العاقل، وهو مستعمل في القرآن الكريم بكثرة، وقد يغلب العاقل على غيره، وذلك باستعمال:(من) مكان: {ما} وهو موجود أيضا ومستعمل في القرآن، وانظر {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وشرحهما في الآية رقم [1]. والمراد بالاستفهام هنا: التوبيخ والتبكيت. {قُلْ لِلّهِ:} هذا تقرير لهم، وتنبيه على أنه المتعين للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتى لأحد أن يجيب بغيره كما نطق به قوله سبحانه:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} . انتهى جمل نقلا من أبي السعود. {لِلّهِ:} انظر شرحه في الاستعاذة. {كَتَبَ:} هو في الأصل بمعنى: أوجب، وفرض، ولكن يجب تفسيره هنا ب «وعد» لأنه لا يجب على الله شيء، وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [7/ 9] وسأتكلم عن {الرَّحْمَةَ} في الآية رقم [7/ 155] إن شاء الله تعالى. {يَوْمِ الْقِيامَةِ:} هو اليوم الذي يا قوم فيه الناس من قبورهم للحساب والجزاء، وأصل القيامة: القوامة؛ لأنها من: قام، يا قوم. قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة. وانظر شرح (اليوم) في الآية رقم [128]. {لا رَيْبَ فِيهِ:} لا شك في وجوده وإتيانه. وانظر الآية رقم [2/ 2] تجد ما يسرك. {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: بتعريضها للعذاب الأبدي، وتضييع رأس مالهم الحقيقي، وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم، والتفكير القويم، وأي خسران أعظم من خسارة الجنة، والحرمان من نعيمها الذي لا ينقطع؟! وانظر الآية رقم [5/ 5] تجد ما يسرك.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} : معطوف على {السَّماواتِ} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة

ص: 253

لا محل لها. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو الله، والجملة الاسمية هذه في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ لِلّهِ} مستأنفة لا محل لها. {كَتَبَ:}

ماض، وفاعله يعود إلى الله. {عَلى نَفْسِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الرَّحْمَةَ:} مفعول به، وجملة:{كَتَبَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: والله. (يجمعنكم): مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به، والميم علامة جمع الذكور. {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {يَوْمِ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {لا رَيْبَ فِيهِ:}

انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [4/ 87] وانظر إعراب شبيهتها في الآية رقم [5/ 109] والجملة الفعلية: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ..} . إلخ جواب القسم المحذوف، والقسم المحذوف وجوابه كلام مستأنف لا محل له. وقيل: الجملة الفعلية جواب {كَتَبَ} لما تضمنه من معنى القسم، وعلى هذا فلا يوقف على قوله:{الرَّحْمَةَ} وهو ضعيف، وأضعف منه ما قاله الزجاج من أن الجملة في محل نصب بدلا من الرحمة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية:{خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} صلة الموصول لا محل لها. {فَهُمْ:} الفاء: زائدة لتحسين اللفظ، وساغ وقوعها هنا لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يُؤْمِنُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف في محل رفع خبر المبتدأ الاسمية: (هم

) إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، هذا؛ وقد قيل: إن الذين منصوب على الذم بفعل محذوف، كما قيل: أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: أنتم الذين، وهذان القولان ضعيفان، وأضعف منهما قول الأخفش:{الَّذِينَ خَسِرُوا} بدل من الضمير المنصوب في: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} .

{وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}

الشرح: {وَلَهُ:} ولله. {ما سَكَنَ:} من السكنى حيث يتناول الساكن والمتحرك، أو من السكون، وهو الهدوء، والاستقرار، ومعناه: ما سكن، وتحرك، فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر. {اللَّيْلِ وَالنَّهارِ:} انظر شرحهما في الآية رقم [96] الآتية فإنه جيد. {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ:}

صيغتا مبالغة، فهو سبحانه يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الليل والنهار، وانظر شرح:{ما} في الآية السابقة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلَهُ:} الواو: حرف عطف. (له): متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم {ما:} تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، وجملة:{سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها،

ص: 254

والجملة الاسمية: {وَلَهُ ما سَكَنَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {قُلْ لِلّهِ} فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وأيضا جملة:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} معطوفة عليها، واستئنافها ممكن.

{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)}

الشرح: {قُلْ:} هذا أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم لينكر اتخاذ غير الله معبودا، فإن المراد ب:{وَلِيًّا} هنا: إلها، علما بأن الولي يطلق على المعين والنصير والمساعد، ومتولي الأمور ومدبرها.

وانظر الآية رقم [4/ 89]{السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} انظر الآية رقم [1]. ومعنى {فاطِرِ:} خالق ومبدع، ومبتدئ.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: ما عرفت معنى: {فاطِرِ} حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها. وقرئ «(فطر)» و «(فاطر)» بالجر والنصب والرفع.

{يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ:} يرزق ولا يرزق. من: أطعم الرباعي، وقرئ الثاني بفتح الياء من الثلاثي، والمعنى: هو المانح جميع النعم للعباد، وهو غير محتاج إلى شيء من ذلك. {قُلْ:} انظر القول في الآية رقم [7/ 4] أو [2/ 26]. {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ:} فلا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أول سابق إلى الدين والإيمان من أمته. {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: وقيل لي: {وَلا تَكُونَنَّ،} ولو عطف على ما قبله لفظا، لقيل، وأن لا أكون

إلخ، والمعنى: أمرت بالإسلام، ونهيت عن الشرك. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {أَوَّلَ:} انظر الآية رقم [2/ 41] أو [7/ 143].

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَغَيْرَ:} الهمزة: حرف استفهام وإنكار. (غير): مفعول أول قدم على فعله، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {أَتَّخِذُ:}

مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» . {وَلِيًّا:} مفعول به ثان، قال أبو البقاء: ويجوز أن يكون {أَتَّخِذُ} متعديا إلى واحد، وهو ولي، و (غير الله) صفة له، قدمت عليه فصارت حالا. وهو تكلف لا خفاء فيه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فاطِرِ:} بالجر صفة لفظ الجلالة، أو بدل منه، وبالنصب على تقدير فعل محذوف، وبالرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي: هو (فاطر)، والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من لفظ الجلالة، وكذلك الجملة الفعلية على تقدير فعل، والجملة الفعلية على قراءة «(فطر)» ولكنها تحتاج إلى تقدير (قد) قبلها، فكلتاهما في محل نصب حال من لفظ الجلالة. و {فاطِرِ:}

مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه تقديره هو. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله على لفظه. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يُطْعِمُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى {اللهِ} ومفعوله

ص: 255

محذوف للتعميم. والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُوَ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو والضمير. {وَلا:} الواو: حرف عطف.

(لا): نافية. {يُطْعِمُ:} مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {أُمِرْتُ:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون، وتاء الفاعل نائب فاعله. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {أَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب (أن)، واسمه مستتر تقديره:«أنا» . {أَوَّلَ:} خبره، و {أَوَّلَ:} مضاف، و {مَنْ} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَسْلَمَ} صلة: {مَنْ} أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها، و {أَنْ} والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بكوني أول فريق أسلم. والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وأفرد ضمير {أَسْلَمَ} لتأويل {مَنْ} بما رأيت، وجملة:{أُمِرْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) وجملة: {إِنِّي أُمِرْتُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ:} مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له. وهو في محل جزم بلا الناهية، واسمه ضمير مستتر فيه تقديره:«أنت» . {مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر (تكون)، والجملة الفعلية:{وَلا تَكُونَنَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقيل لي: {وَلا تَكُونَنَّ..} . إلخ وهذه الجملة معطوفة على جملة: {أُمِرْتُ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها، وجوز البيضاوي العطف على قوله:{قُلْ} والأول أولى بالاعتبار. وفي ظاهر الكلام التفات من التكلم إلى الخطاب، انظر الآية رقم [6]. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}

الشرح: {قُلْ..} . إلخ: هذا الكلام جواب ثالث، ومبالغة في قطع أطماع المشركين في أن يترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب الأليم. وانظر القول في الآية رقم [2/ 26] أو [7/ 4] وانظر الخوف، والتخويف في الآية رقم [2/ 155]. {عَذابَ:} انظر الآية رقم [5/ 36]. {يَوْمٍ عَظِيمٍ:} المراد به: يوم القيامة الذي شرحته لك في الآية رقم [12] وانظر شرح {يَوْمٍ} في الآية رقم [128] الآتية. {رَبِّي:} انظر سورة الفاتحة رقم [1] أو الآية رقم [2](الأعراف).

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنِّي أَخافُ:} هذا يشبه: {إِنِّي أُمِرْتُ،} {إِنْ:} حرف شرط جازم. {عَصَيْتُ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل

ص: 256

الشرط، والتاء فاعله. {رَبِّي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة، وجملة:{عَصَيْتُ رَبِّي:} لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، و {إِنْ} ومدخولها كلام معترض بين الفعل {أَخافُ} ومفعوله، وهو:{عَذابَ،} و {عَذابَ:}

مضاف، و {يَوْمٍ:} مضاف إليه. {عَظِيمٍ:} صفة {يَوْمٍ،} وجملة: {إِنِّي أُمِرْتُ:} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}

الشرح: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} أي: يصرف العذاب عنه، ويقرأ بالبناء للمعلوم:(يصرف):

فيكون الفاعل ضميرا يعود، إلى (الله) وقد قرئ بإظهاره، والمفعول به محذوف. {يَوْمَئِذٍ:}

تنوين (إذ) عوض عن جملة محذوفة، تضاف (إذ) إليها في الأصل، فإن الأصل:«يوم إذ يجيء العذاب» فحذفت الجملة الفعلية، وعوض عنها التنوين، وكسرت (إذ) لالتقاء الساكنين كما كسرت:(صه) و (مه) عند تنوينهما، ومثل ذلك قل في:(حينئذ، وساعتئذ، ونحوهما).

{فَقَدْ رَحِمَهُ:} نجاه من العذاب وتكرم عليه. {وَذلِكَ:} الإشارة إلى الصرف، أو إلى الرحمة، أو إلى كليهما. {الْمُبِينُ:} اسم فاعل من أبان الرباعي: أصله: مبين، بسكون الباء، وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ولا تنس: أن اسم الفاعل من بان الثلاثي بائن، أصله: باين، وإعلاله مثل إعلال:(قائم) في الآية رقم [18](آل عمران).

الإعراب: {مَنْ} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُصْرَفْ:}

مضارع مبني للمجهول، فعل الشرط مجزوم، ونائب فاعله ضمير مستتر تقديره «هو» يعود إلى {عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الآية السابقة، وانظر الشرح، وعلى قراءة البناء للفاعل فالفاعل يعود إلى ربي في الآية السابقة، تقديره: هو، ومفعوله محذوف، تقديره: العذاب. {عَنْهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، وانظر ما ذكرته في الشرح. هذا؛ وقد ذكر أبو البقاء أوجها أخر في الإعراب فيها تكلف وتعسف. {فَقَدْ:} الفاء:

واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {رَحِمَهُ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به، وجملة:{فَقَدْ رَحِمَهُ} في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: هو جملة جواب الشرط، وقيل: هو جملة فعل الشرط، وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية:

ص: 257

{مَنْ يُصْرَفْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. (ذلك): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{الْفَوْزُ:} خبره. {الْمُبِينُ:} صفته، والجملة الاسمية (ذلك

) إلخ معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة لا محل لها على الوجهين.

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}

الشرح: {يَمْسَسْكَ:} يصبك. وانظر (لمس، ومس) في الآية رقم [7]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {بِضُرٍّ:} فقر ومرض ونحوهما. {فَلا كاشِفَ لَهُ:} فلا يقدر على كشفه إلا الله تعالى. {بِخَيْرٍ:} صحة وغنى ونحوهما. {شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [5/ 19]، {قَدِيرٌ:} مقتدر لا يعجزه شيء في هذا الكون، فهو الضار، وهو النافع، وهو المذل، وهو المعز، والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ولكنه يعم كل واحد في كل زمان ومكان.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {يَمْسَسْكَ:} مضارع فعل الشرط مجزوم، وفك التضعيف على قاعدة في المضعف معروفة، والكاف في محل نصب مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {بِضُرٍّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {كاشِفَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {لَهُ:}

متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر (لا). وهذا على لغة الحجازيين الذين يجيزون ذكر خبر (لا)، فأما على لغة بني تميم الذين يوجبون حذفه، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة:

{كاشِفَ،} كما يجوز تعليقهما ب: {كاشِفَ} لأنه اسم فاعل، وعليهما فخبر (لا) محذوف، تقديره، موجود أو حاصل، والجملة الاسمية:{فَلا كاشِفَ لَهُ} في محل جزم جواب الشرط.

{إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {هُوَ:} ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع بدل من محل اسم (لا)؛ لأنه في الأصل مرفوع، أو هو بدل من (لا) واسمها لأنهما في محل رفع مبتدأ، أو هو بدل من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. وهو الأقوى والأولى، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب، ولا يصعب عليك بعد هذا إعراب بقية الآية.

وهذا هو الإعراب الظاهر والمتبادر، ولكن عند التأمل يتبين لك: أن جواب الشرط في الجملة الثانية محذوف. التقدير: فلا راد له، كما في قوله تعالى:{وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وقوله: {فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل لكل من الجوابين: المذكور في الشرطية الأولى والمحذوف في الثانية.

ص: 258

{وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)}

الشرح: {الْقاهِرُ:} القهر إما أن يراد به الغلبة أو التذليل، وما هنا من الأول، وكذا قوله تعالى حكاية عن قول فرعون:{وَإِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ} ومن الثاني قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} وعبارة الخازن: يعني: وهو الغالب لعباده، {الْقاهِرُ} لهم، وهم مقهورون تحت قدرته، والقاهر، والقهار معناه: الذي يدبر خلقه بما يريد، وإن شق عليهم، فلا يستطيع أحد من خلقه رد تدبيره، والخروج من تحت قهره وتقديره. ومعنى {فَوْقَ عِبادِهِ} هنا: أن قهره قد استعلى على خلقه، فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم من الاقتدار والقهر الذي لا يقدر أحد على الخروج منه، ولا ينفك عنه. انتهى بتصرف. وهذا يعني أن لا فوقية معلومة. {الْحَكِيمُ:} في أمره وتدبير شئون عباده. {الْخَبِيرُ:} بعباده وما ببواطنهم وأسرارهم وأحوالهم.

الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو): ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْقاهِرُ:} خبره. {فَوْقَ:} ظرف مكان متعلق ب {الْقاهِرُ} وجوز اعتباره متعلقا بمحذوف خبر ثان للمبتدإ، كما جوز اعتباره متعلقا بمحذوف حال من الضمير المستتر ب {الْقاهِرُ،} التقدير: مستعليا فوق عباده، وهذا يفيده التفسير والشرح. وهو مضاف، و {عِبادِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الْقاهِرُ} .

مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية بعدها معطوفة عليها، وإعرابها ظاهر إن شاء الله تعالى.

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (19)}

الشرح: {قُلْ:} انظر الآية رقم [2/ 26] أو [7/ 4] لشرح: «القول» . {شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [5/ 19]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {اللهُ شَهِيدٌ..} . إلخ: المراد بشهادة الله: إظهار المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي فعل، ولا شك أن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول، لعروض الاحتمالات في الألفاظ دون الأفعال. فإن دلالتها لا يعرض لها الاحتمال، وأن المعجزة نازلة من قوله تعالى:«صدق عبدي في كل ما يبلغ عني» . {وَأُوحِيَ إِلَيَّ:} أنزل علي. {الْقُرْآنُ:} انظر الآية رقم [5/ 48]. {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ:} لأخوفكم بالقرآن عذاب جهنم وسخط الله إن لم تؤمنوا بالله ورسوله، وتتركوا ما أنتم عليه من العبادات الباطلة. {وَمَنْ بَلَغَ} أي: ومن سمع القرآن وبلغه إلى يوم القيامة من العرب والعجم، أو من الثقلين إنسا وجنّا ونباتا وجمادا، والمقصود بكاف

ص: 259

المخاطب: أهل مكة الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ:} هذا استفهام تقرير وتوبيخ، والمعنى: إنكم تعبدون آلهة مع الله، وتشهدون بأنها حق يجب اتباعه. {قُلْ لا أَشْهَدُ} أي: لا أعترف ولا أشهد بحقية هذه الأصنام التي تقدسونها وتعبدونها من دون الله. {إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ:} هذا تقرير وتثبيت للتوحيد بعبادة إله واحد، وهو الله الذي لا شريك له. {بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ} أي: أنا أبرأ من كل شيء تعبدونه من دون الله.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة حين قال كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد لقد سألنا عنك اليهود، والنصارى، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله. هذا؛ ويعلم من الآية الكريمة جواز إطلاق الشيء على الله تعالى، وهو كذلك، لكن بشرط التقييد بأن يقال: هو شيء لا كسائر الأشياء. انتهى جمل نقلا عن شيخه. وقال مكي: وفي الآية دلالة أن شيئا من أسماء الله. أقول: لم يثبت ذلك عمن يحتج بقوله من أئمة المسلمين، ماضيهم وحاضرهم.

الإعراب: {أَيُّ:} اسم استفهام مبتدأ، وهو مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {أَكْبَرُ:} خبره.

{شَهادَةً:} تمييز. وقرئ بالجر على الإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {اللهُ:} مبتدأ، وخبره محذوف، أي: الله أكبر شهادة. {شَهِيدٌ} خبر مبتدأ محذوف، أي: هو شهيد، فالكلام جملتان لا جملة واحدة، وهما جواب ل:{أَيُّ} من حيث اللفظ والمعنى، ويجوز اعتبار الجلالة مبتدأ، و {شَهِيدٌ} خبره، والجملة على هذا جواب ل {أَيُّ} من حيث المعنى، أي: إنها دالة على الجواب، وليست بجوابه.

انتهى جمل نقلا عن السمين. والجملتان أو الجملة في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. {بَيْنِي:} ظرف مكان متعلق ب {شَهِيدٌ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. (أوحي): ماض مبني للمجهول. {إِلَيَّ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {هذَا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل. {الْقُرْآنُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، وقيل: صفة. ولا وجه له. {لِأُنْذِرَكُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل تقديره:«أنا» والكاف مفعول به. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأن المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَأُوحِيَ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. (من): فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه في محل نصب عطفا على الضمير المتصل الواقع مفعولا به، وتكون (من) موصولة، والعائد عليها من صلتها محذوف، أي: ولأنذر الذي بلغه القرآن، والثاني: أن في {بَلَغَ} ضميرا مرفوعا يعود على (من) ويكون المفعول محذوفا، وهو منصوب المحل أيضا نسقا على مفعول:{لِأُنْذِرَكُمْ} التقدير:

ص: 260

ولأنذر الذي بلغ الحكم، فالعائد هنا مستقر في الفعل، والثالث: أن (من) مرفوعة المحل نسقا على الضمير المرفوع في: {لِأُنْذِرَكُمْ،} وجاز ذلك لأن الفصل بالمفعول والجار والمجرور أغنى عن تأكيده، والتقدير:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ،} ولينذركم الذي بلغه القرآن. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

الهمزة: حرف استفهام. (إنكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {لَتَشْهَدُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (تشهدون): فعل وفاعل. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، ومع مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه. {آلِهَةً:} اسم: {أَنَّ} مؤخر.

{أُخْرى:} صفة {آلِهَةً} منصوب مثله

إلخ، و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول الفعل:(تشهدون)، وجملة:{لَتَشْهَدُونَ..} . إلخ: في محل رفع خبر (أنّ) والجملة الاسمية: {أَإِنَّكُمْ..} . إلخ تحتمل أن تكون داخلة في المقول، وأن تكون مستأنفة لا محل لها، وجملة:{قُلْ لا أَشْهَدُ} مستأنفة لا محل لها. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {هُوَ:}

مبتدأ. {إِلهٌ:} خبره. {واحِدٌ:} صفة إله، هذا؛ وقد جوز أبو البقاء اعتبار (ما) غير كافة موصولة اسم (إنّ). ولا وجه له البتة. والجملة الاسمية:{إِنَّما هُوَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ إِنَّما..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (إنني): حرف مشبه بالفعل. والنون للوقاية، وياء المتكلم اسمها. {بَرِيءٌ} خبره. {مِمّا:} متعلقان ب {بَرِيءٌ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بمن، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: تشركون به. هذا؛ ويجوز اعتبار (ما) مصدرية تسبك مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب: (من)، التقدير:{بَرِيءٌ} من شرككم، والجملة الاسمية (إنني

) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)}

الشرح: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ..} . إلخ: المراد بهم علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن كفار مكة قالوا: إنا سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا:

أنه ليس لك عندهم ذكر، وأنكروا معرفته. فبين الله في الآية السابقة: أن شهادته له كافية على صحة نبوته، وبين في هذه الآية: أن اليهود والنصارى يعرفونه، وأنهم كذبوا في قولهم أنهم لا يعرفونه، هذا؛ وإن الآية ذكرت في سورة (البقرة) رقم [146] وإذا عرفت أن سورة (البقرة) مدنية، وأن سورة (الأنعام) مكية ظهرت لك الحكمة من تكريرها بألفاظها في سورتين، فهي في سورة (البقرة) تمدح عبد الله بن سلام، وأتباعه، وهي في سورة (الأنعام) تذم الذين أنكروا

ص: 261

صفات النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئلوا عنها. {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} انظر تفسير هذا الكلام في الآية رقم [12]. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آتَيْناهُمُ:} فعل وفاعل ومفعول به أول، وانظر إعراب (حللتم) في الآية رقم [5/ 2] {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد الضمير المنصوب. {يَعْرِفُونَهُ:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والضمير المنصوب يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى القرآن، وكلاهما مفهوم مما تقدم، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. ما: مصدرية. {يَعْرِفُونَ:} فعل وفاعل. {أَبْناءَهُمُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وما والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: يعرفونه معرفة كائنة مثل معرفتهم أبناءهم، وهو قول أبي البقاء وغيره. في مثل هذا التركيب، ومذهب سيبويه في مثله النصب على الحال من المصدر المفهوم من الفعل المتقدم على طريق الاتساع، فيكون التقدير:

يعرفونه على مثل هذه الحالة. {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ:} انظر إعرابها في الآية رقم [12] أعني به الوجه الأول، وأضيف ما ذكر من أوجه في إعرابها، فقد جوز اعتبار:{الَّذِينَ} صفة ل:

{الَّذِينَ} أو بدل منه، كما جوز اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف، أي: هم الذين خسروا أنفسهم، كما جور اعتباره منصوبا على الذم، وهذان الوجهان مفرعان على النعت مقطوعان عنه، وعلى الأقوال الثلاثة يكون قوله:{فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} من باب عطف جملة اسمية على مثلها، ويجوز أن يكون عطفا على:{خَسِرُوا،} وفيه نظر من حيث إنه يؤدي إلى ترتب عدم الإيمان على خسرانهم، والظاهر: أن الخسران هو المترتب على عدم الإيمان. انتهى جمل.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ (21)}

الشرح: {وَمَنْ أَظْلَمُ..} . إلخ، أي: لا أحد أظلم

إلخ، وذلك لجمعهم بين أمرين لا يجتمعان عند عاقل، افتراؤهم على الله بما هو باطل غير ثابت، وتكذيبهم ما هو ثابت بالحجة.

أو المعنى: لا أحد أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين، فكيف بمن جمع بينهما. انتهى جمل نقلا عن كرخي. والأمر الأول: هو ما زعمه مشركو العرب من كون الملائكة بنات الله تعالى، والأمر الثاني: هو تكذيبهم بالقرآن الكريم، وبالمعجزات التي أيد الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وانظر شرح {آيَةٍ} في الآية رقم [4]. {لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ:} لا يسعدون بالخلود في جنته؛ لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه، والفوز بكل محبوب. وانظر الآية رقم [135]. وانظر الظلم في الآية رقم [144]. وانظر الآية رقم [17] من سورة (يونس) فهذه الآية مثلها في جميع كلماتها.

ص: 262

الإعراب: (من): اسم استفهام مفيد للنفي مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:}

خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {مِمَّنِ:} متعلقان ب: {أَظْلَمُ،} و (من) تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية:{اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} صلة (من)، أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل عليها، وجملة:{كَذَّبَ بِآياتِهِ} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها، وهو ضمير الشأن. {لا:} نافية. {يُفْلِحُ:} مضارع.

{الظّالِمُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ..} . إلخ تعليل للنفي المفهوم من الاستفهام السابق، أو هي مستأنفة لا محل لها على الوجهين.

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)}

الشرح: {وَيَوْمَ:} انظر الآية رقم [128] لشرحه فإنه جيد. والمراد به هنا يوم القيامة.

{نَحْشُرُهُمْ:} نجمعهم للحساب ونخرجهم من قبورهم للجزاء، وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 7] فإنه جيد. وقرئ مع ما بعده بالياء. {نَقُولُ:} انظر القول في الآية رقم [7/ 4]. {لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا:}

جمع من جعل لله ندّا في العبادة. {أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ} أي: آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله في العبادة والتعظيم والتقديس. وانظر الآية رقم [34] من سورة (يونس) تجد ما يسرك. {الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ:} تدعون أنهم يشفعون لكم، والمراد من الاستفهام التوبيخ والتقريع.

قال البيضاوي: ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها، ويحتمل: أنهم يشاهدونهم، ولكن لما لم ينفعوهم، فكأنهم غيب عنهم، بعد هذا انظر ما ذكرته في الآية رقم [4/ 60] من شرح:{تَزْعُمُونَ} . ثم انظر الآية رقم [94].

الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف استئناف. (يوم): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر، هذا؛ وذكر الجمل وجوها كثيرة يظهر عليها التكلف والتعسف. {نَحْشُرُهُمْ:} مضارع، والفاعل تقديره نحن، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {جَمِيعاً:} حال من الضمير المنصوب، والجملة الفعلية: «اذكر يوم

» إلخ مستأنفة لا محل لها. {لِلَّذِينَ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{أَشْرَكُوا:} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{نَقُولُ..} . إلخ مع المقول الآتي معطوفة على ما قبلها في محل جر مثلها. {أَيْنَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {شُرَكاؤُكُمُ:} مبتدأ مؤخر، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {الَّذِينَ:} اسم

ص: 263

موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة: {شُرَكاؤُكُمُ} . {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{تَزْعُمُونَ} مع مفعوليه المحذوفين في محل نصب خبر (كان) وجملة: {كُنْتُمْ..} . إلخ صلة الموصول، والعائد محذوف، وهو أحد المفعولين المحذوفين؛ إذ التقدير: الذين كنتم تزعمونهم شركاء. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ (23)}

الشرح: {فِتْنَتُهُمْ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: معذرتهم، هذا؛ والفتنة:

التجربة والاختبار، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم؛ قيل له: فتنة. قال الزجاج:

في قوله: {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} معنى لطيف، وذلك أن الرجل يفتتن بمحبوب، ثم تصيبه فيه محنة، فيتبرأ من محبوبه، فيقال: لم تكن فتنته إلا بذلك المحبوب، فكذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام، ثم لما رأوا العذاب؛ تبرءوا منها، يقول الله تبارك وتعالى:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} ومحبتهم للأصنام إلا أن تبرءوا منها. انتهى جمل. {قالُوا:} انظر القول في الآية رقم [7/ 4].

{وَاللهِ:} انظر الاستعاذة. {رَبِّنا:} انظر الآية رقم [7/ 3] و [7/ 22]. {وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ:}

يكذبون ويحلفون على عدم الشرك مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة، كما يقولون:{رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها..} . إلخ مع علمهم بالخلود انتهى بيضاوي. وانظر شرح: {ثُمَّ} في الآية رقم [5/ 46]. والتعبير بالماضي بدلا من المضارع انظر الكلام عليه في الآية رقم [5/ 116].

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {لَمْ} حرف نفي وقلب وجزم. {تَكُنْ:} مضارع ناقص مجزوم ب: {لَمْ} . {فِتْنَتُهُمْ:} اسم تكن مرفوع، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {قالُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1] والفعل محله النصب ب: {أَنْ،} و {أَنْ} والفعل {قالُوا} في تأويل مصدر في محل نصب خبر: {تَكُنْ} . هذا؛ وقد قرئ «(يكن)» بالياء، مع نصب (فتنتهم) فيكون المصدر اسم (يكن) مؤخرا، و (فتنتهم) خبرها مقدما، {وَاللهِ:} متعلقان بفعل محذوف، تقديره: نحلف أو نقسم. {رَبِّنا:} يقرأ بالجر على أنه بدل من لفظ الجلالة، أو صفة له، ويقرأ بالنصب على أنه منادى حذفت منه أداة النداء، وتكون الجملة الندائية معترضة بين القسم وجوابه. {ما:} نافية. {كُنّا:} فعل ناقص مبني على السكون، ونا: ضمير متصل في محل رفع اسمها. {مُشْرِكِينَ:} خبرها منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم

إلخ، والجملة الفعلية:{ما كُنّا..} . إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{لَمْ تَكُنْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة لا محل لها أيضا.

ص: 264

{اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)}

الشرح: {اُنْظُرْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ:} المراد به اعتذارهم بالباطل، وتبرؤهم من عبادة الأصنام والشرك الذي كانوا عليه، ويستعملون الكذب في الآخرة مثل ما كانوا عليه في دار الدنيا، وذلك لا ينفعهم. وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [7/ 9] فإنه جيد.

{وَضَلَّ عَنْهُمْ:} غاب عنهم ولم يروه. هذا معناه هنا. هذا؛ وأكثر استعماله في القرآن الكريم بمعنى كفر وخرج عن جادة الحق والصواب، وهو ضد اهتدى واستقام، وضل الشيء: ضاع وهلك، وضل: أخطأ، ولولا هذا المعنى؛ لكفر أولاد يعقوب بقولهم لأبيهم:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وضل: تحير، وهو أقرب ما يفسر به قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} . {ما كانُوا يَفْتَرُونَ:} يختلقون ويبتدعون من عبادة الأصنام وجميع أنواع الشرك. هذا؛ والتعبير بالماضي بدلا من المستقبل، إنما هو لتحقق وقوعه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [116](المائدة).

تنبيه: قال مجاهد-رحمه الله تعالى-إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة، ورأى المشركون سعة رحمة الله تعالى وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين؛ قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو مع أهل التوحيد، فيحلفون الأيمان الكاذبة: أنهم ما كانوا مشركين، فيختم الله على أفواههم، فتشهد عليهم جوارحهم، كما بين الله ذلك في سورة (النور) وسورة (يس)، وسورة (فصلت). انتهى نسفي.

تنبيه: ذكر الله في هذه الآية: أنهم ينفون شركهم، بل ويحلفون الأيمان الكاذبة، وذكر في الآية رقم [4/ 42] أنهم لا يقدرون على إخفاء شيء من كفرهم، وذلك بقوله سبحانه {وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} والجمع بينهما هو: أن في يوم القيامة مواقف مختلفة، ففي بعضها لا يكتمون، وفي بعضها يكتمون، بل ويكذبون ويحلفون، كما في قوله جل شأنه:{فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} مع قوله تعالت قدرته {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} . انتهى جمل نقلا عن كرخي.

وانظر الآية رقم [30] الآتية.

الإعراب: {اُنْظُرْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، وهو معلق عن العمل بسبب الاستفهام. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من واو الجماعة بعده.

{كَذَبُوا:} فعل وفاعل والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {عَلى أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{كَيْفَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل: {اُنْظُرْ،} وجملة: {اُنْظُرْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (ضل):

ماض. {عَنْهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} تحتمل الموصولة والموصوفة والمصدرية، فعلى

ص: 265

الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، والجملة الفعلية بعده في محل نصب خبر (كان) وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة ما، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: كانوا يفترونه، وعلى اعتبار:{ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر، فيكون في محل رفع فاعل للفعل (ضل) التقدير: ضل عنهم افتراؤهم، وجملة:{وَضَلَّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي داخلة في حيز المنظور، وجوز اعتبارها مستأنفة فلا تكون داخلة في حيزه، تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)}

الشرح: {وَمِنْهُمْ:} من المشركين. {يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ:} حين تقرأ القرآن، والمراد: أبو سفيان، وأبو جهل، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف، والحارث بن عامر حين اجتمعوا يستمعون القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم باستماعهم، فقالوا للنضر-وكان يقرأ تاريخ الفرس، والرومان-يا أبا قتيبة ما يقول محمد، قال: ما أدري غير أني أراه يحرك لسانه، ويقول: أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقّا. فقال أبو جهل: كلا لا تقر بشيء من هذا، الموت أهون علي من هذا.

هذا؛ وقد قال سبحانه هنا: {يَسْتَمِعُ} وفي سورة (يونس) رقم [42]{يَسْتَمِعُونَ} بالجمع؛ لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد، وما في سورة (يونس) في جميع الكفار، فناسب الجمع، فأعيد الضمير على معنى {مَنْ} وفي الأول على لفظها، وإنما لم يجمع في قوله:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} وهي الآية رقم [43] من سورة (يونس) لأن الناظرين إلى المعجزات أقل من المستمعين للقرآن. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.

{أَكِنَّةً:} أغطية، جمع كنان، وهو الوعاء الجامع المحيط بالشيء، وهو غير الكن بكسر الكاف فإنه يجمع على أكنان، كما في قوله تعالى:{مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً} . {أَنْ يَفْقَهُوهُ:}

الفقه: الفهم. {وَقْراً:} الصمم في الأذن، وهو بفتح الواو، و (الوقر) بكسر الواو: حمل البغل، والحمار، والوقار: الحلم والرزانة والتعقل، وهو أيضا: العظمة والهيبة، وفي هذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب، فيشرح بعضها للهدى والإيمان، فتتقبله، ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله، ولا تؤمن به. {يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها} أي: لا يصدقوا بكل المعجزات

ص: 266

الدالة على صدقك، وذلك لشدة عنادهم، واستحكام الجهل فيهم، وانظر شرح:{آيَةٍ} في الآية رقم [4]. {حَتّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ} أي: إنهم إذا رأوا الآيات واستمعوا القرآن إنما جاءوا ليجادلوك ويخاصموك بالباطل لا ليؤمنوا. {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: الكفار منهم، وانظر (القول) في الآية رقم [7/ 4] وانظر (كفروا) في الآية رقم [5/ 36] {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ:} أكاذيب وأباطيل الأمم السابقة وأخبارهم وأقاصيصهم والأساطير جمع: أسطورة، وإسطارة بكسر الهمزة. وقيل:

واحدها: سطر بفتح الطاء. وأسطار جمع، وأساطير جمع الجمع. هذا؛ وسطر الكتابة جمعه في القلة: أسطر، وفي الكثرة: سطور، مثل: فلس وأفلس وفلوس، هذا؛ وقد قيل في معنى أساطير الأولين: إنها الترهات، وهي عند العرب طرق غامضة، ومسالك وعرة مشكلة، يقول قائلهم؛ أخذنا في الترهات، بمعنى: عدلنا عن الطريق الواضح إلى الطريق المشكل الذي لا يعرف، فجعلت الترهات مثلا لما لا يعرف ولا يتضح من الأمور المشكلة الغامضة التي لا أصل لها.

انتهى خازن، وجمل. وانظر الآية رقم [31] الأنفال.

الإعراب: {وَمِنْهُمْ:} الواو: حرف استئناف، (منهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:}

اسم موصول أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {يَسْتَمِعُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} . {إِلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} صلة:

{مَنْ،} أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها. هذا هو الإعراب الظاهر، ولكنني لا أعتمده، وإنما أقول: مضمون (منهم) مبتدأ، و {مَنْ} خبره، وانظر شرح ذلك وتفصيله في الآية رقم [2/ 8] أو [7/ 168] تجد ما يسرك. (جعلنا): فعل وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]{عَلى قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما على تفسيره ب: «ألقينا» ومتعلقان بمحذوف مفعول به ثان على اعتبار الفعل متعديا لمفعولين، وقد تقدم على المفعول الأول، التقدير: جعلنا الأكنة مستقرة على قلوبهم، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{أَكِنَّةً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يَفْقَهُوهُ:} مضارع منصوب بأن، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، ولا مقدرة؛ إذ التقدير: لئلا {يَفْقَهُوهُ،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل: (جعلنا)، وهذا عند الكوفيين، وهو عند البصريين على حذف مضاف، التقدير: كراهية فهمهم له، فهو مفعول لأجله، وانظر الشاهد [48] من كتابنا فتح القريب المجيب، وجملة {وَجَعَلْنا..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع، هذا؛ وجوز اعتبارها في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب:(من)، ويجب تقدير قد قبلها، والرابط: الواو والضمير. {وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً:}

معطوف على ما قبله، وإذا قدرت:(جعلنا) قبله وضح لك ذلك. {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {يَرَوْا:} فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون

ص: 267

والواو فاعله، والألف للتفريق، والفعل بصري فلذا اكتفى بمفعول واحد، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لا يُؤْمِنُوا:} جواب الشرط مجزوم

إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {حَتّى:} حرف ابتداء.

{إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {جاؤُكَ:} فعل وفاعل ومفعول به، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1] والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح.

{يُجادِلُونَكَ:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط. {يَقُولُ الَّذِينَ:} مضارع وفاعله، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول لا محل لها. {أَنْ:} حرف نفي بمعنى ما. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَساطِيرُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، والأولين مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنْ هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُ الَّذِينَ..} . إلخ جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. بعد هذا ينبغي لك أن تعرف أن أبا الحسن الأخفش يعتبر {إِذا} في مثل هذه الآية مجرورة ب:{حَتّى،} وهو رأي لا يوافقه عليه أحد من النحويين، تأمل، وتدبر وربك أعلم.

{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)}

الشرح: {وَهُمْ:} المراد بهذا الضمير كفار قريش. {يَنْهَوْنَ عَنْهُ:} ينهون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينهون الناس عن استماع آيات القرآن. {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ:} يبتعدون عنه بأنفسهم، ونأى ينأى نأيا بمعنى بعد، يتعدى بنفسه وبحرف الجر، وهو الأكثر. هذا؛ وإعلال الفعلين مثل إعلال {عَصَوْا} في الآية رقم [5/ 78]. هذا؛ وقد قال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما:

نزلت الآية في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، كان ينهى المشركين عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم، ويمنعه منهم، وينأى هو بنفسه عن الإيمان به. أقول: وذبّ أبي طالب الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الإيمان به مشهور مسطور، ولكن سياق الآيات المتقدمة يؤيد الوجه الأول؛ لأنها جميعها في ذم طريقتهم وسلوكهم تجاه الإسلام والقرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام. {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاّ..} . إلخ، أي لا يضرون غيرهم بسلوكهم هذا، ولا {يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ،} ولكنهم لا يعلمون الحقيقة.

هذا؛ والشعور: إدراك الشيء من وجه يدق ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته، ودقة معرفته. والمعنى: وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم بما يفعلون، وأنهم

ص: 268

سيحاسبون عليه حسابا عسيرا، وسيعاقبون عليه عقابا شديدا. ولا تنس أن الفعل {يَشْعُرُونَ} من الثلاثي، وهو في الآية رقم [109] الآتية من الرباعي.

الإعراب: (هم): ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَنْهَوْنَ:} فعل وفاعل. {عَنْهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ:} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {وَإِنْ:} الواو: واو الحال. (إن): حرف نفي بمعنى: «ما» . {يُهْلِكُونَ:} فعل وفاعل. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَإِنْ يُهْلِكُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو والضمير. (ما): نافية. {يَشْعُرُونَ:} فعل وفاعل، والمفعول محذوف. إذ التقدير: وما يشعرون أنهم هالكون، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)}

الشرح: {تَرى:} انظر إعلاله في الآية رقم [5/ 52] وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى منه الرؤية. {وُقِفُوا:} هذا يكون يوم القيامة، وعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [5/ 116] {النّارِ:} انظر دركاتها في الآية رقم [4/ 145]، وإعلاله وشرحه في الآية رقم [5/ 37]. {فَقالُوا:} انظر القول في الآية رقم [7/ 4]. {نُرَدُّ} أي: إلى دار الدنيا، {بِآياتِ رَبِّنا} أي: بالآيات الناطقة بأحوال النار وأهوالها، والآمرة بالإيمان بالله وبرسوله، فهم يتمنون حين يشاهدون النار وأهوالها ثلاثة أمور: الرجوع إلى دار الدنيا، وعدم التكذيب بآيات الله. أو بالمعجزات، والكون من جملة المؤمنين الصادقين الذين فازوا برضا الله ونعيم الآخرة الذي لا ينقطع، ولا يزول. وانظر شرح:{آيَةٍ} في الآية رقم [4] وانظر شرح: {رَبِّنا} في سورة الفاتحة رقم [1] أو رقم [7/ 3] وانظر شرح الإيمان في الآية رقم [95] المائدة.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {تَرى:}

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره:

«أنت» ، والمفعول محذوف، التقدير: ترى حالهم، وقيل: هي قلبية، وتكلف تقدير ما لا داعي له.

{إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان، وقيل: هي بمعنى «إن» ، ولا وجه له، انظر الشرح. {وُقِفُوا:}

ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، فيكون (وقف) متعديا، ويكون بمعنى:(حبسوا) وقد قرئ بالبناء للمعلوم، وعلى الوجهين فالجملة فعلية هي في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {عَلَى النّارِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{تَرى..} . إلخ لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، التقدير: لرأيت أمرا فظيعا ونحوه، و (لو)

ص: 269

ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، فإن الكلام شروع في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقض لما صدر عنهم في الدنيا. (قالوا): فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:

{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1] والجملة الفعلية مع مقولها معطوفة على جواب لو الذي رأيت تقديره، لا محل لها مثله. (يا): حرف تنبيه، وجوز اعتبارها أداة نداء، والمنادى محذوف، والأول أقوى، كما يفيده مغني اللبيب، انظر بحث (يا) في كتابنا:«فتح القريب المجيب» . (ليتنا):

حرف مشبه بالفعل، ونا: ضمير متصل في محل نصب اسمها، {نُرَدُّ:} مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل تقديره:«نحن» ، والمتعلق محذوف؛ إذ التقدير: نرد إلى الدنيا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (ليت)، وجملة:{يا لَيْتَنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {وَلا:} الواو: واو المعية، (لا): نافية. {نُكَذِّبَ:} مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الواو، والفاعل مستتر تقديره:

«نحن» . {بِآياتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (آيات) مضاف، و (الله) مضاف إليه. و «أن» المضمرة والفعل:{نُكَذِّبَ} في تأويل مصدر في محل نصب معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق:

التقدير: نتمنى ردّا إلى الدنيا وعدم تكذيب. (نكون): مضارع ناقص منصوب بأن المضمرة، أو بسبب عطفه على ما قبله، واسمه مستتر تقديره:«نحن» . {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر:

(نكون)، و «أن» المضمرة والفعل (نكون) في تأويل مصدر معطوف على المصدر السابق، هذا؛ وقد قرئ الفعلان بالرفع، وفيه وجهان: أحدهما: العطف على الفعل: {نُرَدُّ،} فيكونان داخلين في المتمنى، وهو ما رأيته في الشرح، والثاني: أن يكون كل منهما خبر مبتدأ محذوف، التقدير:

ونحن لا نكذب

إلخ، ونحن نكون

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من نائب فاعل نرد، وجوز اعتبار الجملتين الاسميتين مستأنفتين، فلا تكونان داخلتين في المتمنى، هذا؛ وقد قرئ برفع الأول، ونصب الثاني، وبالعكس، والإعراب لا يتغير.

{بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)}

الشرح: {بَدا لَهُمْ ما كانُوا..} . إلخ: أي: ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم وكفرهم وعنادهم، وقبائح أعمالهم، فتمنوا ما تقدم ذكره ضجرا لا عزما على أنهم لو رجعوا إلى الدنيا لآمنوا. {وَلَوْ رُدُّوا} أي: إلى الدنيا بعد ما ظهر لهم ما ظهر، وهذا على سبيل الفرض والتقدير؛ لأن الرجوع محال. {لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} أي: من الكفر والمعاصي، وذلك للحكم الأزلي في حقهم: أنهم أصحاب النار. فالحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان حيث شملتنا عناية الله ورحمته. {لَكاذِبُونَ} أي: فيما يقولونه، ويعدون به أنفسهم. وانظر التعبير بالماضي عن المستقبل في الآية رقم [5/ 116](المائدة).

الإعراب: {بَلْ:} حرف إضراب. {بَدا:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر.

{لَهُمْ:} متعلقان به. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل

ص: 270

رفع فاعل، وجملة:{كانُوا يُخْفُونَ:} صلة: {ما،} أو صلتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: كانوا يخفونه. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بمحذوف في محل نصب حال من الضمير المحذوف الذي رأيت تقديره، و {قَبْلُ} بني على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. والجملة الفعلية:{بَلْ بَدا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{رُدُّوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف كما رأيت في الشرح. والجملة الفعلية لا محل لها كما رأيت في الآية السابقة، وجملة {لَعادُوا..} . إلخ جواب (لو) لا محل لها، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]، {لِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام. {نُهُوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله.

{عَنْهُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وجملة: {نُهُوا عَنْهُ:} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ ب:(عن)، و (لو) ومدخولها في محل نصب حال من واو الجماعة.

والاستئناف ممكن بالإعراض عن الكلام السابق. {وَإِنَّهُمْ:} الواو: واو الحال. (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَكاذِبُونَ:} اللام: هي المزحلقة.

(كاذبون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية:{وَإِنَّهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو والضمير معا.

{وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)}

الشرح: {وَقالُوا:} انظر القول في الآية رقم [7/ 4]. {إِنْ هِيَ:} ما هي

إلخ، وقد وصف سبحانه الحياة التي يحياها ابن آدم ب:{الدُّنْيا} لدناءتها، وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، ورحم الله من قال:[الكامل]

يا خاطب الدنيا الدّنية إنها

شرك الرّدى وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها

أبكت غدا تبّا لها من دار

هذا؛ و {هِيَ} ضمير مبهم يفسره خبره، وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها لفظا ورتبة.

{وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ:} فهم ينفون البعث للحساب والجزاء يوم القيامة، وهو ركن من أركان الإيمان، كما رأيت فيما مضى.

الإعراب: {وَقالُوا:} (قالوا): فعل وفاعل، والألف للتفريق. وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: ما. {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {حَياتُنَا:} خبر المبتدأ مرفوع، ونا: ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الدُّنْيا:} صفة {حَياتُنَا} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر،

ص: 271

والجملة الاسمية: {إِنْ هِيَ..} . إلخ: في محل نصب مقول القول. {وَما:} الواو: حرف عطف.

(ما): نافية حجازية تعمل عمل ليس. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع اسمها.

{بِمَبْعُوثِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (مبعوثين): خبر (ما)، فهو مجرور لفظا، منصوب محلاّ، والجملة الاسمية:{وَما نَحْنُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {لَعادُوا..} . إلخ أو على: {نُهُوا عَنْهُ} أو على جملة:

{وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} فتكون مستقبلة، وقد عبر بالماضي لتحقق وقوع ذلك، انظر الآية رقم [5/ 116] أو هي مستأنفة لا محل لها، فتكون مما قالوه في الدنيا، وليست داخلة في حيز (لو)، وعلى الاعتبارات الثلاثة الأول تكون داخلة في حيز:(لو). تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}

الشرح: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ:} انظر مثله في الآية رقم [27]. ومعنى الوقوف على ربهم: حبسهم يوم القيامة للسؤال والتوبيخ. وقيل: معناه: وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، وعرفوه حق المعرفة. {رَبِّهِمْ:} انظر سورة الفاتحة رقم [1]. {قالَ:} انظر القول في الآية رقم [2/ 26] أو [7/ 4]. {هذا} أي: البعث للحساب والجزاء من عقاب وثواب. والمراد بالاستفهام: التوبيخ والتقريع على تكذيبهم وكفرهم. {بِالْحَقِّ:} انظر الآية رقم [5/ 27].

{بَلى:} انظر الآية رقم [2/ 81]. {وَرَبِّنا:} أكدوا اعترافهم بهذا اليمين إظهارا لكمال يقينهم بحقية ما رأوا من البعث؛ حيث انكشف لهم تماما.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: للقيامة مواقف، ففي موقف ينكرون، ويقولون:{وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} وفي موقف يعترفون بما كانوا ينكرونه في الدنيا، وانظر الآية رقم [24]. {قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ:} القائل هو الله تعالى، أو تقول لهم الخزنة ذلك بأمر الله تعالى، وإنما خص لفظ الذوق؛ لأنهم في كل حال يجدون ألم العذاب وجدان الذائق في شدة الإحساس، وانظر الآية رقم [14] من سورة (الأنفال). {تَكْفُرُونَ:} انظر {كَفَرُوا} في الآية رقم [36](المائدة).

الإعراب: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [27] فهو مثله بلا فارق. {أَلَيْسَ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. (ليس): فعل ماض ناقص. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسم (ليس) والهاء حرف تنبيه لا محل له. {بِالْحَقِّ:} الباء:

حرف جر زائد. (الحق): خبر (ليس) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{أَلَيْسَ..} . إلخ: في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وجوز اعتبارها في محل نصب مقول القول،

ص: 272

{وَرَبِّنا:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: نقسم، ونا: في محل جر بالإضافة، والجملة القسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَذُوقُوا:} الفاء: هي الفصيحة، أو هي زائدة. (ذوقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [5/ 1]، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منكم {فَذُوقُوا..} . إلخ، وهذا الكلام في محل نصب مقول القول، وعلى الوجه الثاني في الفاء فجملة: (ذوقوا

) إلخ في محل نصب مقول القول بمفردها. {بِما:} متعلقان بالفعل (ذوقوا)، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون.

والتاء اسمه. {تَكْفُرُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان) والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: كنتم تكفرون به، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بسبب كفركم، ويظهر: أن هذا الوجه أقوى من الوجهين الأولين، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)}

الشرح: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا..} . إلخ: ما أجدرك أن تنظر هذه الخسارة في الآية رقم [12].

{بِلِقاءِ اللهِ:} المراد به: البعث بعد الموت للحساب والجزاء

إلخ. أو المراد بلقائه تعالى:

رؤيته يوم القيامة؛ لأن منكر البعث منكر للرؤية. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {جاءَتْهُمُ:} انظر الآية رقم [5]. {السّاعَةُ:} القيامة، سميت بذلك لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، وقيل: سميت ساعة لسرعة الحساب فيها؛ لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة أو أقل من ذلك. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [187] من سورة (الأعراف)، وانظر تفسير قوله:{سَرِيعُ الْحِسابِ} في الآية رقم [2/ 202]، ولا تنس أن ساعة كل إنسان وقيامته وقت مقدمات الموت، وما فيه من أهوال، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من مات فقد قامت قيامته» . {بَغْتَةً:}

فجأة. {قالُوا:} انظر القول في الآية رقم [2/ 26] أو [7/ 4]. {يا حَسْرَتَنا:} هي شدة التألم، ونداؤه مجاز، فليس القصد حضور الحسرة، بل الاعتراف بما وقع لهم من شدة الندم والتحسر عليه. {عَلى ما فَرَّطْنا فِيها} أي: قصرنا وأهملنا في الحياة الدنيا، وانظر الآية رقم [38]، وذلك في العمل الصالح، وعاد الضمير على الدنيا ولم يجر لها ذكر؛ لأنها معلومة، أو في الساعة، أي في شأنها والإيمان بها. {أَوْزارَهُمْ:} ذنوبهم التي عملوها في الدنيا.

هذا؛ والوزر: الثقل، وقد عبر الله عن الذنوب بالأثقال في سورة (العنكبوت) وذلك في قوله:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ} وحمل الذنوب بالمعنيين على الظهور قيل به: إن

ص: 273

الكافر إذا أخرج من قبره يوم القيامة يستقبله أقبح شيء صورة، وأنتنه ريحا، فيقول له: هل تعرفني، فيقول: لا، فيقول: أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك حتى أخزيك على رءوس الخلائق! فيركبه، ويتخطى به الناس، حتى يقف بين يدي الله تعالى. {ساءَ ما يَزِرُونَ:} بئس ما يحملونه.

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَسِرَ الَّذِينَ:} فعل وفاعل.

{كَذَّبُوا:} فعل وفاعل، وانظر إعراب آمنوا في الآية رقم [5/ 1]. {بِلِقاءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (لقاء): مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، ومفعول {خَسِرَ} محذوف، تقديره: أنفسهم على حد ما رأيت في الآية رقم [12] و [20]. {حَتّى إِذا:} انظر الآية رقم [25]. ففيها الكفاية.

{جاءَتْهُمُ:} ماض، والتاء للتأنيث، والميم حرف دال على جماعة الذكور، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، {السّاعَةُ:} فاعل، والجملة الفعلية:{جاءَتْهُمُ..} . إلخ: في محل جر بإضافة {إِذا} إليها

إلخ. {بَغْتَةً:} حال من: {السّاعَةُ} . بمعنى: باغتة، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: تبغتهم بغتة، فتكون هذه الجملة في محل نصب حال من {السّاعَةُ}. وجوز اعتبار {بَغْتَةً} مصدرا ل:(جاء) من غير لفظه، كقولهم: أتيته ركضا.

{قالُوا:} فعل وفاعل والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المقول جواب {إِذا} لا محل لها.

و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف لا محل لها. (يا): حرف نداء ينوب مناب أدعو. (حسرتنا):

منادى، ونا: في محل جر بالإضافة، ونداء الحسرة مجاز؛ لأنها لا يتأتى منها الإقبال، وإنما المعنى على المبالغة في شدة التحسر. وكأنهم نادوا الحسرة، فقالوا: إن كان لك وقت فهذا أوان حضورك، ومثله: يا ويلتا ونحوه، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول. {ما:}

تحتمل الموصولة والموصوفة والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بالحسرة لأنها مصدر، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: فرطناه فيها، وعلى اعتبار:{ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بعلى، التقدير: يا حسرتنا على تفريطنا في دنيانا، وهذا أقوى من الوجهين السابقين في {ما،} {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. وجملة: {يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو، والضمير. {عَلى ظُهُورِهِمْ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، واعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من:{أَوْزارَهُمْ} لا بأس به، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَلا:} حرف تنبيه. {ساءَ:} فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير فيه مفسر بما بعده. {ما:} نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على التمييز، وجملة:{يَزِرُونَ} في محل نصب صفة ما، والتقدير: ساء الشيء شيئا مزرى به، ورابط الصفة محذوف، التقدير: يزرونه، والمخصوص بالذم أيضا محذوف، التقدير: هو حملهم. هذا؛

ص: 274

وأجاز أبو البقاء اعتبار الفعل: {ساءَ} متصرفا من الإساءة، وله مفعول محذوف، كما أجاز اعتبار {ما} موصولة وموصوفة ومصدرية، فعلى الأولين {ما} مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد او الرابط محذوف، وتقدير الكلام:

ألا ساءهم الذي، أو شيء يزرونه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها في محل رفع فاعل، التقدير: ساءهم حملهم، والجملة الفعلية:{أَلا ساءَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)}

الشرح: {الْحَياةُ الدُّنْيا:} انظر الآية رقم [29]. {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: وما أعمال الدنيا إلا لعب ولهو تلهي الناس، وتشغلهم عن طاعة الله تعالى، وما يعقبها من منفعة دائمة، ولذة حقيقية. هذا؛ واللعب: ترك ما ينفع بما لا ينفع، واللهو: الميل عن الجد إلى الهزل. {وَلَلدّارُ الْآخِرَةُ:} المراد بها الجنة وما فيها من نعيم مقيم، والمراد العمل بها. {خَيْرٌ:} أفضل، وانظر ما ذكر في الآية رقم [2/ 54] أو [7/ 12]. {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي: يبتعدون عن الشرك والمعاصي.

{أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: ألا تفهمون أن الآخرة خير من الدنيا، فتعملون لها. وانظر الآية رقم [/44 2] أو [5/ 107] {تَعْقِلُونَ:} انظر العقل في الآية رقم [2/ 75]. وقد قرئ الفعل بالتاء والياء، وعلى الأول فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، انظره في الآية رقم [6].

الإعراب: {وَمَا:} الواو: حرف استئناف. {مَا:} نافية. {الْحَياةُ:} مبتدأ. {الدُّنْيا:}

صفة: {الْحَياةُ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {إِلاّ:} حرف حصر.

{لَعِبٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. (لهو): معطوف على ما قبله. {وَلَلدّارُ:} الواو: حرف عطف. اللام: لام الابتداء. (الدار): مبتدأ. {الْآخِرَةُ:}

صفة (الدار). هذا؛ وقد قرئ «(ولدار الآخرة)» بالإضافة كما في سورة (يوسف). {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {لِلَّذِينَ:} متعلقان ب {خَيْرٌ} .

وجملة: {يَتَّقُونَ} مع المفعول المحذوف صلة الموصول. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام.

الفاء: حرف استئناف. لا: نافية. {تَعْقِلُونَ:} فعل وفاعل. والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وانظر الآية رقم [107](المائدة).

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33)}

الشرح: {نَعْلَمُ:} المضارع هنا بمعنى الماضي، أي: علمنا، و {قَدْ} مفيدة لتكثير العلم، وقد علق الفعل عن العمل بسبب لام الابتداء التي زحلقت إلى خبر (إنّ) ولذلك كسرت همزتها،

ص: 275

ولولا وجود هذه اللام لفتحت الهمزة كما هو معروف. وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 6].

{لَيَحْزُنُكَ:} ليسوءك، وهو يقرأ بفتح الياء من الثلاثي، كما يقرأ بضمها من الرباعي. {الَّذِي يَقُولُونَ} أي: قالوه من قولهم: {إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ونحوه. {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} أي: في الحقيقة؛ لأنهم يعلمون صدقك وأمانتك وجميع صفاتك الحميدة. هذا؛ ويقرأ الفعل بتشديد الذال، وتخفيفها من: أكذبه إذا وجده كاذبا، أو نسبه إلى الكذب. {الظّالِمِينَ:} الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وظلموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالجحود والإنكار. وانظر (الظلم) في الآية رقم [144]. {بِآياتِ اللهِ:} انظر الآية رقم [4]. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {يَجْحَدُونَ:} جحد الشيء: أنكره، وجحد الإسلام: كفره به، وهو من باب: فتح.

تنبيه: قال السدي: التقى الأخنس بن شريق، وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟. فإنه ليس هنا أحد يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة؛ فماذا يكون لسائر قريش. وقال أبو جهل مشافهة للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نتهمك ولا نكذبك، ولكنا نكذب الذي جئت به، وعن علي بن أبي طالب-كرم الله وجهه-أن أبا جهل -لعنه الله تعالى-قال للنبي: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله فيهم:{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ..} . إلخ. أخرجه الترمذي. وفي الآية الكريمة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعزية له عما يواجهه به قومه من تكذيب وغيره. هذا؛ وجحودهم بآيات الله يفيده قول أبي جهل الخبيث، وغيره.

الإعراب: {قَدْ:} حرف مفيد للتكثير كما رأيت. {نَعْلَمُ:} مضارع، والفاعل ضمير مستتر فيه تقديره:«نحن» . {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل والهاء ضمير الشأن في محل نصب اسمها.

{لَيَحْزُنُكَ:} اللام: هي المزحلقة، (يحزنك): مضارع ومفعوله. {الَّذِي:} فاعله. والجملة الفعلية بعده صلته. والعائد محذوف. إذ التقدير: الذي يقولونه. وجملة: {لَيَحْزُنُكَ} إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {إِنَّهُ..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعولي الفعل قبلها، والجملة الفعلية:{قَدْ نَعْلَمُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {فَإِنَّهُمْ:} الفاء:

حرف تعليل ذكره الجمل، (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء: اسمها. {لا:} نافية، {يُكَذِّبُونَكَ:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية تعليلية لا محل لها من الإعراب كما أفاده الجمل، وأرى: أنها معطوفة على ما قبلها، فهي داخلة في المعلوم عند الله تعالى. الواو: حرف عطف. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل.

{الظّالِمِينَ:} اسم (لكنّ) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم، وفيه إقامة الظاهر محل المضمر لشدة التشنيع عليهم. {بِآياتِ:} متعلقان ب {الظّالِمِينَ،} أو

ص: 276

متعلقان بالفعل بعدهما، وهو الأقوى، و (آيات) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {يَجْحَدُونَ:}

فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ). والجملة الاسمية: (لكنّ

) إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)}

الشرح: {رُسُلٌ:} جمع: رسول، انظر الآية رقم [5/ 83] والآية رقم [4/ 150] و [4/ 164] {فَصَبَرُوا:} انظر الصبر في الآية رقم [2/ 45] فإنه جيد. {وَأُوذُوا:} آذاهم أقوامهم، وتلك هي سنة الأولين والآخرين في إيذاء المجرمين للمؤمنين وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 6]. {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ:} المراد بذلك ما ينبئ عنه بقوله جلت قدرته: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ} . وقوله جل ذكره: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} .

وغير ذلك من المواعيد السابقة للرسل عليهم الصلاة والسّلام، الدال على نصرة محمد صلى الله عليه وسلم.

وانظر الآية رقم [115]. {اللهِ:} انظر الاستعاذة، {جاءَكَ:} انظر الآية رقم [5]. {نَبَإِ:}

خبر وقصص المرسلين السابقين قبلك. وانظر (ينبئهم) في الآية رقم [14] المائدة.

تنبيه: في الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعزية له عما يلقاه من تكذيب قومه له، واعتدائهم عليه، وذلك لأن عموم البلوى مما يهون أمرها بعض تهوين، خذ قول الخنساء في هذا المقام فإنه جيد:[الوافر]

ولولا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أسلّي النفس عنه بالتّأسّي

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كُذِّبَتْ:} ماض مبني للمجهول والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {رُسُلٌ:} نائب فاعل. {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان بمحذوف صفة {رُسُلٌ،} والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ..} . إلخ لا محل لها لأنها جواب القسم المقدر، والجملة القسمية:{وَلَقَدْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (صبروا): فعل وفاعل والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1] والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {عَلى:} حرف جر، و {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: صبروا على تكذيبهم. {وَأُوذُوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم،

ص: 277

والواو نائب فاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي تسبك بمصدر، تقديرا، أي: وعلى إيذائهم. {حَتّى:} حرف غاية وجر تقدر بعدها «أن» مضمرة. {أَتاهُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. والهاء: في محل نصب مفعول به. {نَصْرُنا:}

فاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، ومفعوله محذوف، التقدير:

نصرنا إياهم، وأن المضمرة بعد {حَتّى} والفعل أتى في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل: {كُذِّبَتْ،} وهو أولى من تعليقهما ب (صبروا)، أو ب (أوذوا).

{وَلا:} الواو، واو الحال. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {مُبَدِّلَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {لِكَلِماتِ:} متعلقان بمحذوف خبر (لا). وانظر إعراب فلا كاشف له في الآية رقم [17] و (كلمات) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية ولا مبدل

إلخ.

في محل نصب حال من: {نَصْرُنا،} والرابط الواو فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها، وهو الأقوى فيما يظهر. {وَلَقَدْ جاءَكَ:} هو مثل سابقة في إعرابه وفي محله، وفاعل (جاء) مضمر فيه، فقيل:

تقديره: المجيء، وقيل: تقديره: النبأ، فيكون الجار والمجرور:{مِنْ نَبَإِ} متعلقين بمحذوف حال من الفاعل المستتر، وأجاز الأخفش اعتبار «من» زائدة، والفاعل {نَبَإِ،} وسيبويه لا يجيز زيادة {مِنْ} في الواجب، هذا؛ وقد قال الجمل: الجار والمجرور في محل رفع على أنه فاعل، أما باعتبار مضمونه، أي: بعض نبأ المرسلين، أو بتقدير الموصوف، أي: بعض من نبأ المرسلين، و {نَبَإِ:} مضاف، و {الْمُرْسَلِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)}

الشرح: {كَبُرَ عَلَيْكَ:} عظم وشق عليك. {إِعْراضُهُمْ} أي: عنك وعن الإيمان بما جئت به. {اِسْتَطَعْتَ:} قدرت. {تَبْتَغِيَ:} تطلب. {نَفَقاً:} هو سرب في الأرض يخلص منه إلى مكان آخر، وأصله في حجرة اليربوع، ومنه: النافقاء والقاصعاء، وفي هذه الأيام يشق نفق تحت الجبال يكون طريقا عامّا. {سُلَّماً:} السلم: الدرج يصعد عليه إلى الأعلى، وهو مشتق من السلامة، قالوا: لأنه يسلم به إلى المكان الذي يريد الارتقاء إليه. {فَتَأْتِيَهُمْ:} انظر (أتى) في الآية رقم [4]. {بِآيَةٍ:} انظر الآية رقم [4]. {شاءَ:} انظر الآية رقم [5/ 18]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {الْجاهِلِينَ:} جمع: جاهل، وهو الذي يجهل ما يتعلق به من المكروه والمضرة، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم كيفيته وحاله، ولا يشتري الحلم بالجهل، ولا الأناة بالطيش، ولا الرفق بالخرق، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]

ص: 278

فإن تزعميني كنت أجهل فيكمو

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

وإن لم يكن كذلك يصدق عليه أنه من أكبر الجهال، والحمار أفضل منه، كما قال الشاعر الحكيم:[الكامل]

فضل الحمار على الجهول بخلّة

معروفة عند الّذي يدريها

إنّ الحمار إذا توهّم لم يسر

وتعاود الجهال ما يؤذيها

ومعنى الآية الكريمة: وإن كان شق عليك يا محمد وعظم إعراض قومك عن الإيمان بك وعما جئت به، فإن قدرت أن تذهب في طريق مخفي تحت الأرض، أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية تدلهم على صدقك. والمقصود من هذا أن يقطع الرسول صلى الله عليه وسلم طمعه من إيمانهم، ولا يتأذى بسبب إعراضهم عنه، وعن الإيمان به. ويبين الله سبحانه أن الهداية هدايته، فلو شاء لهداهم إلى الإيمان، فالأمر ليس إليك يا محمد، فلا تكونن من الذين يجهلون الحكمة الإلهية.

وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يجهلها!

تنبيه: ذكر ابن الجوزي في سبب نزول هذه الآية: أن الحارث بن عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش، فقال: ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات، فإن فعلت آمنا بك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، رضي الله عنهما، انتهى خازن.

الإعراب: (إن): حرف شرط جازم، {كانَ:} ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير الشأن محذوف، وقيل:{إِعْراضُهُمْ} اسمها تأخر عن الخبر. {كَبُرَ:}

ماض، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى:{إِعْراضُهُمْ،} أو هو فاعله، كما رأيت، وأرى: أن الفعلين قد تنازعاه، فإذا أعملت فيه أحدهما وجب الإضمار في الثاني، والثاني أولى عند البصريين لقربه، والأول أولى عند الكوفيين لسبقه. {عَلَيْكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{كَبُرَ عَلَيْكَ..} . إلخ في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط (إن استطعت) إعرابه مثل إعراب سابقه، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً} في محل نصب مفعول به، {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {نَفَقاً،} وجوز تعليقهما بالفعل: {تَبْتَغِيَ،} كما قيل بتعليقهما بمحذوف حال من فاعله المستتر، والأول أقوى. {سُلَّماً:} معطوف على: {نَفَقاً،} {فِي السَّماءِ:} يجوز فيهما ما جاز بقوله: {فِي الْأَرْضِ} وجواب الشرط محذوف، التقدير: فافعل، و (إن) ومدخولها في محل جزم جواب (إن) السابقة، والكلام:{وَإِنْ كانَ..} . إلخ كله مستأنف لا محل له. {فَتَأْتِيَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (تأتيهم): معطوف على: {تَبْتَغِيَ} منصوب مثله، والفاعل مستتر تقديره «أنت» والهاء مفعول به. {بِآيَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَلَوْ:} الواو:

حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ اللهُ:} فعل وفاعل، والمفعول

ص: 279

محذوف، تقديره: هدايتهم، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها ابتدائية، ويقال؛ لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَجَمَعَهُمْ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (جمعهم): فعل ماض ومفعوله، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . والجملة الفعلية جواب (لو) لا محل لها. {عَلَى الْهُدى:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {فَلا:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا فلا تكونن

إلخ. (لا): ناهية جازمة.

{تَكُونَنَّ:} مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، وهو في محل جزم ب:(لا) الناهية، واسمه ضمير مستتر تقديره:«أنت» . {مِنَ الْجاهِلِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر الفعل الناقص، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء.

{إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)}

الشرح: {يَسْتَجِيبُ:} يجيب دعاءك. {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي: سماع قبول بقلوبهم وعقولهم.

{وَالْمَوْتى:} المراد به الكفار؛ لأنهم لا يسمعون الموعظة سماع قبول، وقد حكى القرآن عنهم ذلك:{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ} . وأكبر دليل على ذلك آية (البقرة) رقم [171] وآية (الأعراف) رقم [179] اعتبرتهم كالأنعام، بل هم أضل. {يَبْعَثُهُمُ اللهُ} أي: في يوم القيامة للحساب والجزاء، فحينئذ يسمعون، وتتفتح آذانهم، وتزال الأكنة عن قلوبهم. هذا؛ وانظر (سمعوا) في الآية رقم [5/ 83]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {ثُمَّ:} انظر الآية رقم [5/ 43]{يُرْجَعُونَ:} رجع، يستعمل لازما ومتعديا، و {يُرْجَعُونَ} يقرأ بالبناء للمعلوم والمجهول، فعلى الأول يكون من اللازم، وعلى الثاني يكون من المتعدي.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ:} فعل وفاعل. {يَسْمَعُونَ:} فعل وفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والجملة الفعلية:

{إِنَّما يَسْتَجِيبُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (الموتى): فيه ثلاثة أوجه: أولها هو مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية:{يَبْعَثُهُمُ اللهُ} في محل رفع خبره، والثاني هو منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده، ورجح هذا الوجه على الرفع بالابتداء لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها، فهو نظير قوله تعالى:{وَالظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} . بعد قول: {يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ} . والثالث هو مرفوع نسقا على الموصول قبله، وعليه فجملة:{يَبْعَثُهُمُ اللهُ} مع المتعلق المحذوف في محل نصب حال. انتهى جمل نقلا عن السمين. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل بعدهما. {يُرْجَعُونَ:} فعل وفاعل. أو هو فعل ونائب فاعله على نحو ما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

ص: 280

{وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)}

الشرح: {وَقالُوا} أي: قال كفار قريش، وانظر الآية رقم [26] (البقرة) أو [7/ 4] (الأعراف) لشرح «القول». {نُزِّلَ عَلَيْهِ} أي: على الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر:(أنزلنا) في الآية رقم [51](المائدة).

{آيَةٌ:} انظر الآية رقم [4]. {رَبِّهِ:} انظر سورة الفاتحة رقم [1] و [7/ 2]. {اللهَ:} انظر الاستعاذة، والمراد بالآية التي طلبوها مثل الناقة والعصا والمائدة ونحو ذلك، فلم يكتفوا بما شاهدوا من المعجزات مثل انشقاق القمر ونحوه. {إِنَّ اللهَ قادِرٌ} أي: على إجراء المعجزات المذكورة، ولكن إذا نزلت ولم يؤمنوا؛ يحل بهم البلاء. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ:} أن نزول الآيات التي طلبوها بلاء عليهم وهلاك لهم؛ إن لم يؤمنوا، ويوحدوا بعد نزولها.

الإعراب: (قالوا): فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1] والجملة الفعلية مع مقولها مستأنفة لا محل لها. {لَوْلا:} حرف تحضيض. {نُزِّلَ:}

ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {آيَةٌ:} نائب فاعل. {مِنْ رَبِّهِ:}

متعلقان بمحذوف صفة {آيَةٌ،} وجملة: {لَوْلا نُزِّلَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {إِنَّ اللهَ قادِرٌ:} إن واسمها وخبرها، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {عَلى:} حرف جر، والمصدر المؤول من:{أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} في محل جر ب: (على) والجار والمجرور متعلقان بقادر لأنه اسم فاعل، فلذا فيه ضمير مستتر هو فاعله، التقدير: قادر على إنزال آية. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ:} اسمها، والهاء: في محل جر بالإضافة. {يَعْلَمُونَ:} فعل وفاعل. ومفعولاه محذوفان كما رأيت تقديره في الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لكنّ)، والجملة الاسمية:{وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول.

{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}

الشرح: {دَابَّةٍ:} تدب، أي: تمشي على وجه الأرض من الإنسان والحيوان والوحش والهوام وغير ذلك، فلذا يطلق لفظ دابة على الذكر والأنثى مما ذكر. {طائِرٍ:} اسم جنس يطلق على جميع الطيور التي تطير في الهواء. انظر ما ذكرته في الآية رقم [2/ 260]. وإنما ذكر سبحانه الجناحين مع ذكر {يَطِيرُ} للتوكيد، كقولك: كتبت بيدي، ونظرت بعيني. {أُمَمٌ:} جمع: أمة،

ص: 281

وهي الجماعة، والطائفة، والمراد طوائف مختلفة، والجمع باعتبار المعنى. وقال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. يريد: أن كل جنس من الحيوان أمة، فالطير أمة، والدواب أمة، والسباع أمة تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم.

ويدل على أن كل جنس من الدواب أمة ما روي عن عبد الله بن مغفل-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم؛ لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم» .

أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي. {أَمْثالُكُمْ} أي: في تدبير رزقها وخلقها وأحوالها، وفي أنها تعرف ربها، وتوحده، وتسبحه، وتصلى له، كما أنكم تعرفونه، وتوحدونه، وتسبحونه، وتصلون له، وفي أنها يفهم بعضها عن بعض، ويألف بعضها بعضا، كما أن جنس الإنسان يألف بعضهم بعضا، ويفهم بعضهم عن بعض، وفي أن الذكر منها يعرف الأنثى، وفي أنها تبعث بعد الموت للحساب. انتهى خازن بتصرف.

هذا؛ وقد قال العلماء: جميع ما خلق الله عز وجل لا يخرج عن هاتين الحالتين، إما أن يدب على الأرض، أو يطير في الهواء، حتى ألحقوا حيوان الماء بالطير؛ لأن الحيتان تسبح في الماء، كما أن الطير تسبح في الهواء، وإنما خص سبحانه ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء، وإن كان ما في السماء مخلوقا له؛ لأن الاحتجاج بالمشاهد أظهر وأدلى مما لا يشاهد.

انتهى خازن، وجمل بتصرف. {ما فَرَّطْنا:} يقال: فرط الشيء، أي: ضيعه وتركه، وفرط في الشيء، أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه، وانظر الآية رقم [31] {الْكِتابِ:} المراد به اللوح المحفوظ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل ودقيق، لم يهمل الله فيه أمر حيوان ولا جماد، أو المراد به القرآن الكريم، فإنه سبحانه قد دون فيه ما يحتاج إليه الناس من أمر الدين والدنيا، في العبادة، أو الإشارة، أو في الدلالة، أو في الاقتضاء، وانظر الآية رقم [7] أو [7/ 2] تجد ما يسرك. {شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [5/ 19]. {ثُمَّ:} انظر الآية رقم [5/ 43]، {رَبِّهِمْ:} انظر سورة الفاتحة رقم [1] أو [7/ 2]، {يُحْشَرُونَ:} يجمعون ويبعثون للحساب والجزاء، والمراد جميع المخلوقات ليدبر شئونهم في الآخرة، كما دبرها في الدنيا.

قال أبو هريرة-رضي الله عنه: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير، وكل شيء، فيأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. انتهى خازن بتصرف. وقول أبي هريرة مأخوذ من قول سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {مِنْ:} حرف جر صلة. {دَابَّةٍ:}

مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {دَابَّةٍ} . {وَلا:} الواو: حرف عطف.

(لا): زائدة لتأكيد النفي. {طائِرٍ:} بالجر معطوف على لفظ: {دَابَّةٍ} . وقرئ بالرفع على

ص: 282

محله. {بِجَناحَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسر لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} في محل جر صفة: {طائِرٍ} . {إِلاّ:} حرف حصر. {أُمَمٌ:} خبر المبتدأ. {أَمْثالُكُمْ:} صفة: {أُمَمٌ} .

والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{وَما مِنْ دَابَّةٍ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{ما:} نافية. {فَرَّطْنا:} فعل وفاعل. وانظر بإعراب: {حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]. {فِي الْكِتابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} واقع موقع المصدر فهو مفعول مطلق منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره.. إلخ، وجملة:{ما فَرَّطْنا..} . إلخ معترضة كذا قيل، وهذا على عطف ما بعدها على ما قبلها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِلى رَبِّهِمْ:}

متعلقان بالفعل بعدها، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور، {يُحْشَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية السابقة لا محل لها مثلها.

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا:} المراد بهم كفار قريش كذبوا بالقرآن وبالمعجزات. وانظر شرح {آيَةٍ} في الآية رقم [4]. {صُمٌّ:} جمع: أصم، والمراد: أنهم لا يسمعون آيات القرآن الدالة على ربوبية الله تعالى وعظيم قدرته سماعا تتأثر به نفوسهم فينتفعون منه. {وَبُكْمٌ:} جمع:

أبكم، وهو الذي لا ينطق لمرض في لسانه، والمراد: لا ينطقون الحق مع كونهم ينطقون. وانظر الآية رقم [36] والآية رقم [2/ 18]. {الظُّلُماتِ:} انظر الآية رقم [5/ 18] والآية رقم [1]، {يَشَأِ:}

انظر الآية رقم [5/ 18]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:} انظر الآية رقم [5/ 16].

تنبيه: في الآية الكريمة دليل واضح على أن الهادي والمضل هو الله تعالى، فمن أحب هدايته وفقه بفضله وإحسانه للإيمان، ومن أحب ضلالته تركه على كفره، وهذا عدل منه؛ لأنه تعالى هو الفاعل المختار، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون. وجواب من يعترض على خلق الضلال في العبد ذكرته في الآية رقم [4/ 88]. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية:

{كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها. {صُمٌّ:} خبر المبتدأ، وجوز اعتباره خبرا لمبتدإ محذوف. التقدير: بعضهم صم، وعليه فالجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر المبتدأ.

(بكم): معطوف على ما قبله. وقيل: هو خبر ثان، ولا يتأتى هذا إلا باعتبار الواو زائدة. {فِي الظُّلُماتِ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو ثالث، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الضمير

ص: 283

المستتر في {صُمٌّ وَبُكْمٌ} وذكر أبو البقاء أوجها أخر يظهر فيها التكلف، والتعسف. والجملة الاسمية: (الذين

) إلخ مستأنفة لا محل لها. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ {يَشَأِ:} مضارع فعل الشرط مجزوم. وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين.

{اللهُ:} فاعله. ومفعوله محذوف، التقدير: ضلاله. {يُضْلِلْهُ:} مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى {اللهُ} والهاء مفعول به، وخبر المبتدأ الذي هو من مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية:{مَنْ يَشَأِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وإعراب ما بعدها مثلها، وهي معطوفة عليها لا محل لها مثلها.

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40)}

الشرح: {أَرَأَيْتَكُمْ} أي: أخبروني. قال الجمل: استعمال أرأيت في الإخبار مجاز، أي:

أخبروني عن حالتكم العجيبة. ووجه المجاز: أنه لما كان العلم بالشيء سببا للإخبار عنه، والأبصار به طريقا إلى الإحاطة به علما، وإلى صحة الإخبار عنه؛ استعملت الصيغة التي لطلب العلم، أو لطلب الإبصار في طلب الخبر لاشتراكهما في الطلب. انتهى. {أَتاكُمْ:} انظر الآية رقم [4]. {عَذابُ:} اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر: تعذيب؛ لأنه من: عذب، يعذب، بتشديد الذال فيهما. وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، نحو: عطاء، ونبات لأعطى، وأنبت. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {السّاعَةُ:} انظر الآية رقم [31]. والمراد: أتاكم هول الساعة وفزعها. {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ:} استفهام إنكاري توبيخي.

المعنى لهذه الآية: قل يا محمد لهؤلاء الكفارة: أخبروني ماذا تفعلون إن نزل بكم عذاب الله في الدنيا. مثل ما نزل بالأمم السابقة من غرق وخسف ومسخ وصواعق ونحو ذلك، من أنواع العذاب، أو أتتكم الساعة وأهوالها فجأة، هل تسألون غير الله ليكشف عنكم ما ينزل بكم، إن كنتم صادقين في دعواكم؛ فاسألوا أصنامكم كشف الضر عنكم. هذا؛ ولقد كان الكفار إذا نزل بهم شدة وبلاء رجعوا إلى الله بالتضرع والدعاء، وتركوا الأصنام، فقيل لهم: أترجعون إلى الله في حال الشدة والبلاء، ولا تعبدونه، ولا تطيعونه في حال اليسر والرخاء.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَرَأَيْتَكُمْ:} الهمزة حرف استفهام. (رأيتكم): فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم علامة جمع الذكور. هذا الإعراب هو المعتمد في مثل هذا التركيب، وهناك أقوال وآراء كثيرة ضعيفة أعرضت عنها روما للاختصار. وقد اختلف أيضا في مفعولي هذا الفعل، فقال

ص: 284

قوم: هو محذوف، دل عليه الكلام، تقديره: أرأيتكم عبادتكم الأصنام. هل تنفعكم عند مجيء الساعة. ودل عليه قوله: {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} . وقال آخرون: لا يحتاج إلى مفعول؛ لأن بالشرط وجوابه قد حصل معنى المفعول. وملخص كلام السمين: أن المفعول الأول محذوف، والمسألة من باب التنازع، تنازع {أَرَأَيْتَكُمْ} وفعل الشرط في {عَذابُ اللهِ} فالأول يطلبه مفعولا، والثاني يطلبه فاعلا، فأعمل الثاني، وحذف مفعول الأول، وأما المفعول الثاني، فهو الجملة الاستفهامية. انتهى جمل بتصرف كبير. وأرى أن الفعل معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وأن الجملة الفعلية:{أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} سدت مسد المفعولين وما بينهما كلام معترض لا محل له أعطى الكلام تقوية وتسديدا، وحذف جواب الشرط لدلالة الكلام عليه، ولا حاجة إلى هذا التكلف، والتعسف. والله الموفق والمعين وبه أستعين، وانظر الآية [50] من سورة (يونس).

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {أَتاكُمْ:} ماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر، وهو في محل جزم فعل الشرط، والكاف مفعول به. {عَذابُ:} فاعل، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها ابتدائية ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {أَتَتْكُمُ:} ماض معطوف على ما قبله، وهو في محل جزم مثله، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والكاف مفعول به. {السّاعَةُ:} فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها

إلخ، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فمن تدعون؟ وقيل: تقديره: إن أتاكم

دعوتم الله، وقيل: تقديره: فأخبروني أتدعون غير الله لكشفه. وهذا مأخوذ من معنى الكلام السابق كما رأيت في الشرح، وقيل غير ذلك، ولعلك تدرك معي: أن الأول هو المعتمد. {أَغَيْرَ:}

الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (غير): مفعول به مقدم، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.

{تَدْعُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب سدت مسد مفعولي الفعل:{أَرَأَيْتَكُمْ} أو هي مفعوله الثاني على نحو ما رأيت فيما تقدم. {إِنْ} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كُنْتُمْ صادِقِينَ} لا محل لها على نحو ما رأيت، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فادعوا أصنامكم ونحو ذلك، كما رأيت في الشرح.

{بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)}

الشرح: {بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ} أي: بل تتوجهون إلى الله بالدعاء في ساعات البلاء، وتخصونه بالتضرع؛ ليكشف عنكم ما نزل بكم. {فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ..}. إلخ: أي: فيرفع عنكم البلاء، إن شاء. أن يرفعه تفضلا منه وجودا، وهذا في الدنيا، وأما في الآخرة؛ فلا يشاء ولا يستجيب دعاء الكافرين مهما تضرعوا، ودعوا، كما أفاده قوله تعالى:{وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} أي:

ص: 285

في ضياع، وانظر:{شاءَ} في الآية رقم [5/ 18]. {وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ} أي: تتركون أصنامكم في حين نزول البلاء لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع، وهو يفيد: أن تركهم الأصنام في ساعات البلاء بمنزلة من قد نسيها. وانظر «النسيان» في الآية رقم [14] المائدة.

الإعراب: {بَلْ:} حرف إضراب وانتقال. {إِيّاهُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل نصب مفعول به مقدم. {تَدْعُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} فهي مثلها في محل نصب، وهذا أقوى وأولى من الاستئناف. (يكشف): مضارع، وفاعله يعود إلى {اللهِ}. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {تَدْعُونَ:} فعل وفاعل، والمفعول محذوف، التقدير: تدعونه. {إِلَيْهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ ب:{إِلَيْهِ} والجملة الفعلية: (يكشف

) إلخ معطوفة على ما قبلها. {إِنْ:}

حرف شرط جازم. {شاءَ:} فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} والمفعول به محذوف والجملة الفعلية: لا محل لها كما رأيت في الآية السابقة، وجواب الشرط محذوف، والجملة الفعلية:«فهو يكشف» : معطوفة على ما قبلها. (تنسون): فعل وفاعل. {ما:} تحتمل الموصولة والموصوفة، وهي مفعول به، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ما تشركونه مع الله في العبادة، وجملة:{وَتَنْسَوْنَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، والجملة الشرطية معترضة بين المتعاطفين.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا..} . إلخ: يبين الله في هذه الآية الكريمة أنه أرسل قبل نبينا صلى الله عليه وسلم رسلا إلى الأمم السابقة، فكذبوهم، ولم يؤمنوا بما جاءوهم به، فانتقم الله منهم بأن أصابهم بأنواع البلاء ليرجعوا، فلم يرجعوا إلى رشدهم. وتلك هي سنة الله في الأولين، وتلك سنته في الآخرين. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. هذا؛ و {بِالْبَأْساءِ:} الفقر الشديد، وقيل: هو الجوع، وهي مؤنث البؤس الذي هو الشدة والمكروه. والضراء: الأمراض والآفات على اختلاف أنواعها.

هذا؛ وقد قال البيضاوي: وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما، ولكن، إذا عرفت أن البؤسى تأنيث البؤس، وأن الباء فتحت، ومدت الألف بالبأساء، عرفت أن لها مذكرا. ولا تنس أن البؤسى ضد النعمى، وأن البأساء ضد النعماء. {يَتَضَرَّعُونَ:} يخضعون ويتوبون؛ إذ التضرع: التخشع والتذلل والانقياد، وترك التمرد. والترجي في الآية إنما هو بحسب عقول البشر، وإلا فالله لا يحصل منه ترج ورجاء لشيء من عباده. وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 6] فإنه جيد.

الإعراب: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ:} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [34] ولا تنس أن المفعول محذوف، التقدير: أرسلنا رسلا. {مِنْ:} حرف جر صلة. {قَبْلِكَ:} ظرف زمان

ص: 286

مجرور لفظا، منصوب محلاّ، متعلق بالفعل قبله. (أخذناهم): فعل وفاعل ومفعول به أول.

{بِالْبَأْساءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، معطوفة بدورها على ما قبلها لا محل لها مثلها، انظر الشرح. {وَالضَّرّاءِ:}

معطوف على سابقه. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، وجملة:{يَتَضَرَّعُونَ} في محل رفع خبرها، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل لا محل لها.

{فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43)}

الشرح: {جاءَهُمْ:} انظر الآية رقم [5]. {بَأْسُنا:} عذابنا، وانظر الآية السابقة، {تَضَرَّعُوا:} دعوا وتذللوا، وانظر الآية السابقة. {قَسَتْ:} فأصله: قسى، فلما اتصلت به تاء التأنيث التقى ساكنان: الألف، وتاء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. وإذا قسى القلب فلا تؤثر فيه المواعظ، ولا ينتفع بها. وانظر الآية رقم [5/ 13] أو [2/ 74]. {الشَّيْطانُ:} انظر الاستعاذة. وتزيين الشيطان: هو زخرفته ووسوسته وإغواؤه في المعاصي والكفر، وما كانوا يفعلونه من تحريم وتحليل، وغير ذلك. وفحوى الآية الكريمة أن الله تعالى يرغب في التوبة والرجوع إليه، ولا سيما في أوقات الشدائد والبلاء، ولكن الكفار لم يرجعوا عن غيهم، بل بقوا سادرين في طغيانهم حتى أهلكهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق. وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 7] فإنه جيد.

الإعراب: {فَلَوْلا:} الفاء: حرف استئناف. (لولا): حرف تحضيض. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {تَضَرَّعُوا} . {جاءَهُمْ:} ماض ومفعوله. {بَأْسُنا:} فاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {تَضَرَّعُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة، وما تعلق بها كلام مستأنف لا محل له. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {قَسَتْ:}

فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والتاء حرف لا محل له.

{قُلُوبُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وكذلك جملة:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ} معطوفة عليها، وقيل: مستأنفة، والأول أقوى وأولى. {ما:} تحتمل الموصولة والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: كانوا يعملونه. وعلى الوجه الثالث في {ما} تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: زين لهم الشيطان عملهم. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم،

ص: 287

والواو اسمه، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {يَعْمَلُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان). تأمل، وتدبر، وربك أعلم وأجل، وأكرم.

{فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)}

الشرح: {نَسُوا:} انظر «النسيان» في الآية رقم [5/ 14] وأصله: نسيوا، فقل في إعلاله:

استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، ثم قلبت كسرة السين ضمة لمناسبة الواو. والمراد بنسيانهم هنا: تكبرهم وإعراضهم عن الموعظة والنصيحة كبرا وعنادا. {ما ذُكِّرُوا بِهِ:} وعظوا به وخوفوا به، والمراد بذلك: البأساء، والضراء. {فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ:} من الصحة والعافية وسعة العيش، حيث أبدلهم الله مكان البأساء الرخاء، والسعة في العيش، ومكان الضراء الصحة والعافية في الأبدان، وذلك على سبيل الاستدراج لهم، والامتحان لهم بالشدة والرخاء، إلزاما للحجة، وإزاحة للعلة، ومكرا بهم، وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 7]. {شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [5/ 19]. {فَرِحُوا بِما أُوتُوا:} بما أعطوا من الخير والنعمة. وانظر «الفرح» في الآية رقم [58] سورة (يونس) تجد ما يسرك ويثلج صدرك. {أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً:} أهلكناهم فجأة. {مُبْلِسُونَ:} آيسون من كل خير ورحمة.

وقال الفراء: المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، وذلك يقال لمن يسكت عند انقطاع حجته، ولا يكون له جواب: قد أبلس. وأقول: سمي إبليس من هذا؛ لأنه أفلس من رحمة الله، وانقطع رجاؤه من سعة فضل الله. بعد هذا خذ ما رواه عقبة بن عامر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم:

«إذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحب، وهو مقيم على معصيته، فذلك منه تعالى استدراج، ثم تلا:

{فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ..} . إلخ». ذكره البغوي بغير سند، وأسنده الطبري. انتهى خازن.

وانظر الآية رقم [7/ 182] والتي بعدها.

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي عند الفارسي، وابن السراج، وابن جني ظرف بمعنى: حين، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. وصوب ابن هشام الأول. والمشهور الثاني. {نَسُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:

{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {ما:} موصولة أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {ذُكِّرُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، والألف للتفريق. {بِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{ذُكِّرُوا بِهِ} صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا،

ص: 288

وابتدائية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا. {فَتَحْنا:} فعل وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَبْوابَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {كُلِّ} مضاف إليه، و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه، وجملة:{فَتَحْنا..} . إلخ جواب لما لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب:{حَتّى إِذا} انظر الآية رقم [25]. {فَرِحُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة. {أُوتُوا:}

ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف إذ التقدير: أوتوه. {أَخَذْناهُمْ:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية جواب إذا لا محل لها. {بَغْتَةً:} حال من الضمير بمعنى مبغوتين، أو هو مفعول مطلق للفعل قبله، على حد:(أتيته ركضا) و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{فَإِذا:} الفاء: حرف عطف. (إذا): هي الفجائية، وفيها ثلاثة أوجه: وهي حرف عند الأخفش وابن مالك، وظرف مكان عند المبرد وابن عصفور، وظرف زمان عند الزجاج والزمخشري، وزعم الأخير: أن عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة، ولا يعرف هذا لغير الزمخشري، وإنما ناصبها عندهم الخبر المذكور. انتهى. من المغني بتصرف. {هُمْ مُبْلِسُونَ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

{فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)}

الشرح: {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ..} . إلخ، فأهلك الكافرون عن آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد.

و {دابِرُ} من: دابره دبرا: ودبورا: إذا تبعه حتى قضى عليه، وانظر شرح:{الْقَوْمِ} في الآية رقم [5/ 22]. {ظَلَمُوا} أي: أنفسهم بالكفر والمعاصي ومخالفة أوامر الواحد القهار. وانظر الآية رقم [144]. {وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ:} انظر شرح مفردات هذه الجملة في الآية رقم [1] من سورة (الفاتحة) وقد حمد الله نفسه على هلاك الكافرين، من حيث إن هلاكهم تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها. وفيه تعليم للرسل ولمن آمن بهم أن يحمدوا الله على كفايته إياهم شر الذين ظلموا، ويحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم إذ أهلك المشركين المكذبين. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَقُطِعَ:} الفاء: حرف عطف. (قطع): ماض مبني للمجهول. {دابِرُ:} نائب فاعله، وقرئ «(قطع)» بالبناء للفاعل ونصب (دابر)، فيكون الفاعل عائدا، إلى الله تعالى، و {دابِرُ:} مضاف، و {الْقَوْمِ:} مضاف إليه. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة {الْقَوْمِ} وجملة: {ظَلَمُوا} مع المفعول المحذوف صلة الموصول، وجملة:{فَقُطِعَ..} .

ص: 289

إلخ معطوفة على جملة: {أَخَذْناهُمْ} لا محل لها مثلها. (الحمد): مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {رَبِّ:} صفة (الله)، و {رَبِّ:} مضاف، و {الْعالَمِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{وَالْحَمْدُ لِلّهِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا، وفيه عطف جملة اسمية على فعلية.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)}

الشرح: {قُلْ:} انظر «القول» في الآية رقم [2/ 26] أو [7/ 4] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

{أَرَأَيْتُمْ:} أخبروني، وانظر الآية رقم [40]. {إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ..}. إلخ: أصمكم وأعماكم، وغطى على قلوبكم ما يزول به عقلكم، وفهمكم، وإنما خص سبحانه هذه الأعضاء بالذكر؛ لأنها أشرف أعضاء الإنسان، فإذا تعطلت هذه الأعضاء؛ اختل نظام الإنسان، وفسد أمره، وبطلت مصالحه في الدين والدنيا. هذا؛ ووحد السمع وجمع ما بعده لأنه مصدر حذف ما أضيف إليه لدلالة المعنى؛ إذ التقدير: مواضع سمعهم، أو يقال: وحد السمع لوحدة المسموع وهو الصوت دونهما، أو للمصدرية، والمصادر لا تجمع. وقرئ شاذّا:«(وعلى أسماعهم)» .

والمراد بالختم هنا: عدم وصول الحق إلى قلوبهم، وعدم نفوذه واستقراره فيها. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [2/ 7] بهذا الصدد. {يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي: بما سلبتم من سمع وبصر وقلب، والمعنى:

أي فرد من آلهتكم يأتيكم بما ذكر. {نُصَرِّفُ الْآياتِ:} نكررها: تارة من جهة المقدمات العقلية، وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين. {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ:}

يعرضوان عن الإيمان، يقال: صدف عن الشيء صدفا، وصدوفا، أي: أعرض، و {ثُمَّ} معناها هنا: استبعاد واستنكار الإعراض عن الآيات بعد تكريرها وتقريرها. بعد هذا انظر «القول» في الآية رقم [7/ 4]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {يَأْتِيكُمْ:} انظر الآية رقم [4]. {الْآياتِ:} انظر الآية رقم [4]. {ثُمَّ:} انظر الآية رقم [43](المائدة).

هذا؛ ولم يؤت هنا بالكاف في قوله {أَرَأَيْتُمْ} وأتي به في الآية رقم [40] لأن التهديد هناك أعظم. فناسب التأكيد بكاف الخطاب، ولما لم يؤت بالكاف هنا وجب ثبوت علامة الجمع بالتاء لئلا يلتبس. انتهى. جمل بتصرف، وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 6] تجد ما يسرك.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر وفاعله مستتر تقديره: «أنت» ، والمخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم.

{أَرَأَيْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام. (رأيتم): فعل وفاعل، والميم علامة جمع الذكور، وقد اختلف في مفعولي هذا الفعل، (فقال قوم): هو محذوف دل عليه الكلام، تقديره: أرأيتم سمعكم

إلخ، هل تستطيعون ردها إن سلبت منكم، ودل عليه قوله:{مَنْ إِلهٌ} . وقال

ص: 290

آخرون: لا يحتاج إلى مفعول؛ لأن الشرط وجوابه قد حصل معنى المفعول. وملخص كلام السمين: أن المفعول الأول محذوف، والمسألة من باب التنازع، تنازع:{أَرَأَيْتُمْ} وفعل الشرط في: {سَمْعَكُمْ..} . إلخ، وكلاهما يطلبه مفعولا له، فحذف المفعول الأول، وأعمل:{أَخَذَ} في {سَمْعَكُمْ} . وأما المفعول الثاني ل {أَرَأَيْتُمْ} فهو الجملة الاستفهامية. خذ هذا؛ وأرى أن الفعل:

{أَرَأَيْتُمْ} معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وأن الجملة الاسمية:{مَنْ إِلهٌ..} . إلخ سدت مسد مفعوليه، وما بينهما كلام معترض لا محل له، ولا حاجة إلى هذا التكلف، والتعسف.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ:} انظر إعراب مثله في الآية رقم [40]. وجملة:

{وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ} معطوفة على ما قبلهما لا محل له مثلها، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلهٌ:} خبره. {غَيْرُ:}

صفة {إِلهٌ،} و {غَيْرُ:} مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه. {يَأْتِيكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى إله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، أو في محل رفع صفة ثانية ل:{إِلهٌ} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال معنى الاستفهام، وهو أرجح الأقوال الثلاثة. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والضمير يعود إلى ما أخذ، وختم عليه، أو إلى أحد هذه المذكورات، وحذف ما يعود إلى الآخرين اكتفاء به.

والجملة الاسمية: {مَنْ إِلهٌ..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعولي: {أَرَأَيْتُمْ} أو هي مفعوله الثاني على نحو ما رأيت فيما تقدم، والجملة الشرطية:{إِنْ أَخَذَ..} . إلخ معترضة بينهما، وجملة:{أَرَأَيْتُمْ..} . إلخ: في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {اُنْظُرْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {كَيْفَ:} اسم استفهام وتعجب مبني على الفتح في محل نصب حال عامله ما بعده. {نُصَرِّفُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» . {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية:{نُصَرِّفُ الْآياتِ} في محل نصب سدت مسد مفعول انظر المعلق عن العمل، وجملة:{اُنْظُرْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يَصْدِفُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية:{كَيْفَ نُصَرِّفُ..} . إلخ فهي داخلة مثلها في المفعولية.

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظّالِمُونَ (47)}

الشرح: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ:} انظر الشرح الوافي لهذا الكلام في الآية

ص: 291

رقم [40]. {بَغْتَةً:} فجأة من غير مقدمة، أو إنذار. {جَهْرَةً:} عيانا بأن ظهرت أمارات العذاب ليلا أو نهارا. {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظّالِمُونَ:} الاستفهام بمعنى النفي، أي: لا يهلك إلا القوم الكافرون، والمراد: أن الإهلاك إهلاك سخط وغضب، فلا يرد أن غيرهم يهلكون بلا ريب، لكن ليس سخطا وتعذيبا، بل إثابة، ورفع درجة. انتهى جمل نقلا عن كرخي. وانظر (القوم) في الآية رقم [22](المائدة).

الإعراب: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [40] ففيه الكفاية. {بَغْتَةً:} حال من الضمير المنصوب بمعنى: مباغتين، ويصح أن يكون حالا من:

{عَذابُ اللهِ} بمعنى مباغتا، أو هو مفعول مطلق عامله الفعل (أتى) من غير لفظه. {جَهْرَةً:}

معطوف على {بَغْتَةً} على الوجهين المعتبرين فيه، ويقرأ بالواو وبأو. {هَلْ:} حرف استفهام بمعنى النفي. {يُهْلَكُ:} يقرأ بالبناء للفاعل من الثلاثي، وبالبناء للمفعول من الرباعي. {إِلاَّ:}

حرف حصر. {الْقَوْمُ:} فاعل أو نائب فاعل على نحو ما رأيت. {الظّالِمُونَ:} صفة القوم مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الفعلية:{هَلْ يُهْلَكُ..} . إلخ تصالح لما صالح له:

{أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} انظر في الآية رقم [40].

{وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)}

الشرح: {الْمُرْسَلِينَ:} بفتح السين جمع: رسول، ويجمع على: رسل، كما في قوله تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} وانظر شرح الرسول والنبي في الآية رقم [5/ 83]{مُبَشِّرِينَ:}

المطيعين بالجنة والرضا والرضوان. {وَمُنْذِرِينَ} أي: مخوفين الكافرين والعاصين من النار وغضب الواحد القهار. {آمَنَ} أي: بالله ورسله، وانظر الآية رقم [93] (المائدة) {وَأَصْلَحَ:}

عمله بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى. {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ:} من عذاب الله وغضبه. {عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ:} في الآخرة بسبب شيء يهمهم أو يزعجهم، وهذا؛ وعد من العلي القدير، فهنيئا لمن وفق للعمل الصالح في الدنيا ليفوز في الآخرة برضا ربه، ونعيمه الدائم الذي لا ينقطع، وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 7] تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {نُرْسِلُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» . {الْمُرْسَلِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له.

{مُبَشِّرِينَ:} حال منصوب

إلخ. (منذرين): معطوف عليه، فهو حال أيضا، والجملة الفعلية:{وَما نُرْسِلُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم

ص: 292

شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {آمَنَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» . (أصالح): فعل ماض معطوف على ما قبله فهو في محل جزم مثله، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية. {خَوْفٌ:} مبتدأ. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وإن علقتهما ب:{خَوْفٌ} لأنه مصدر، فيكون الخبر محذوفا، تقديره: موجود، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {هُمْ:} مبتدأ، وجملة:

{يَحْزَنُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها فهي مثلها، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [39] هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فتكون جملة:{آمَنَ} صلته، والجملة الاسمية:{فَلا خَوْفٌ..} . إلخ خبره، ودخلت الفاء على خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، ويقويه عطف الموصول في الآية التالية عليه، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي مستأنفة لا محل لها. هذا؛ وقد قرئ:«(لا خوف)» بدون تنوين على إعمال (لا) إعمال (إنّ)، وهي قراءة شاذة؛ لأن (لا) متى تكررت أهملت، وآيات كثيرة تشهد بذلك، بعد هذا يجب أن تعلم أنه قد روعي لفظ (من) في إعادة فاعل {آمَنَ} إليها فلذا أفرد، وروعي معناها في:{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ،} فلذا جمع الضمير.

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا:} انظر الآية رقم [39]. وهو مقابل لمن آمن في الآية السابقة؛ إذ اقتضت حكمة الله ورحمته ألا يذكر التصديق من المؤمنين، إلا ويذكر التكذيب من الكافرين، ولا يذكر الإيمان إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة إلا ويذكر النار، ولا يذكر الرحمة إلا ويذكر الغضب والسخط، ليكون المؤمن راغبا، راهبا، خائفا، راجيا

إلخ. {يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ:} يصيبهم وينزل بهم العذاب. {يَفْسُقُونَ:} انظر الفاسقين في الآية رقم [5/ 25] وانظر (نا) في الآية رقم [7] الأعراف.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَذَّبُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [/1 5]{بِآياتِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ:}

مضارع ومفعوله وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، وجملة:{كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها. {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [5] وغيرها، و (ما) المصدرية وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور

ص: 293

متعلقان بالفعل قبلهما، والتقدير: بسبب فسقهم، واعتبار (ما) موصولة، أو موصوفة هنا بعيد.

تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)}

الشرح: {قُلْ:} انظر «القول» في الآية رقم [7/ 4]. {خَزائِنُ اللهِ:} خزائن رزقه، و {خَزائِنُ} جمع: خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء: إحرازه بحيث لا تناله الأيدي. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي: لا أعلم ما لم يوح إلي فيه شيء، ولم ينصب عليه دليل. {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ:} وهذا رد لقولهم: قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج النساء إلى غير ذلك. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ} أي: ما أخبركم إلا بما أنزل الله عليّ. وانظر: {أَوْحَيْنا} في الآية رقم [4/ 163]. {الْأَعْمى} أي: الكافر والضال والجاهل، ومعنى عماهم أنهم لا يبصرون طريق الحق والصواب. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [36] و [39] {وَالْبَصِيرُ:} هو المؤمن المهتدي العالم، ومعنى بصره: أنه يبصر طريق الحق والصواب.

{أَفَلا:} انظر ما ذكرته في الآية رقم [5/ 104]. {تَتَفَكَّرُونَ} أي: في خلق السموات والأرض فتهتدون فلا تكونون ضالين أشباه العميان، أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر ونحو ذلك.

ومجمل معنى الآية الكريمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم بأمر الله له: أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي، وأنه لا يعلم الغيب فيخبر بما كان وبما سيكون، وأنه ليس بملك حتى يطلع على ما لا يطلع عليه البشر، إنما يتبع ما يوحى إليه من ربه عز وجل، فما أخبر عنه من غيب، فإنما هو بوحي الله إليه. انتهى جمل، وخازن. وتتمة المعنى: لا يكون الكافر والمؤمن على درجة واحدة عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، وكذلك المطيع والعاصي، ألا يتفكر العقلاء ذوو البصيرة في ذلك لعلهم يرجعون إلى رشدهم.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أشياء ليست بمقدوره، واستنكروا منه أشياء لا تكون بزعمهم ممن يدعي النبوة، فبين الله لهم: أن الرسول بشر لا يقدر على أشياء ليست من صنع البشر، وأنه يتلقى ما يعلمه الله إياه بواسطة الملك. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لا:} نافية. {أَقُولُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» . {لَكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {عِنْدِي:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {خَزائِنُ:} مبتدأ

ص: 294

مؤخر، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَلا أَقُولُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {مَلَكٌ:}

خبرها، والجملة الاسمية:{إِنِّي مَلَكٌ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَلا أَقُولُ لَكُمْ..} .

إلخ معطوفة على مثيلتها، فهي داخلة في مقول:{قُلْ} . {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: ما. {أَتَّبِعُ:}

مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» . {إِلاّ:} حرف حصر. {ما:} تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يُوحى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المقصورة، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد أو الرابط. {إِلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والجملة الفعلية:{إِنْ أَتَّبِعُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {هَلْ:} حرف استفهام، وتوبيخ. {يَسْتَوِي:} مضارع مرفوع

إلخ. {الْأَعْمى:} فاعله مرفوع. {وَالْبَصِيرُ:}

معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية:{هَلْ يَسْتَوِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ} مستأنفة لا محل لها. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام وإنكار وتوبيخ. (فلا):

الفاء: حرف عطف. (لا): نافية. {تَتَفَكَّرُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة إن كانت من مقول الله تعالى، أو هي في محل نصب مقول القول، إن كانت من مقول الرسول صلى الله عليه وسلم.

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}

الشرح: {وَأَنْذِرْ بِهِ:} خوف بالقرآن الذي أوحي إليك من ربك. {الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ:} المراد بهم المسلمون المفرطون في طاعة الله تعالى. المرتكبون للمعاصي والمنكرات، المعترفون بالبعث والحشر، الذي هو الجمع يوم القيامة للحساب والجزاء. وانظر شرح {رَبِّهِمْ} في الآية رقم [7/ 3]. {مِنْ دُونِهِ:} من غير الله تعالى وانظر رقم [7/ 3].

{وَلِيٌّ:} نصير ومعين، وانظر الآية رقم [14]. {شَفِيعٌ:} يشفع لهم من عذاب الله تعالى، وانظر الشفاعة في الآية رقم [4/ 85] فإنه جيد. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ:} المعاصي فيبتعدون عنها، والتقوى مأخوذة من الوقاية، وهي الحفظ والتحفظ من الشر، والمتقي ربه يجعل نفسه في وقاية من النار.

والترجي في هذه الآية وأمثالها، إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج ورجاء لشيء من عباده، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

الإعراب: {وَأَنْذِرْ:} الواو: حرف استئناف. (أنذر): فعل أمر وفاعله مستتر تقديره:

«أنت» . {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{يَخافُونَ..} . إلخ صلة

ص: 295

الموصول لا محل لها، والمصدر المؤول من:{أَنْ يُحْشَرُوا} في محل نصب مفعول به. {إِلى رَبِّهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة: (أنذر

) إلخ مستأنفة لا محل لها. {لَيْسَ:} ماض ناقص. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر ليس تقدم على اسمها.

{مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بما تعلق به ما قبلهما، وتعليقهما بشفيع بعدهما، لا يأباه المعنى، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وإن اعتبرت:{مِنْ دُونِهِ} متعلقين بمحذوف خبر ثان، فيكون من تعدد الخبر، وهو شبه جملة، {وَلِيٌّ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر. (لا): زائدة لتأكيد النفي.

{شَفِيعٌ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{لَيْسَ لَهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والميم حرف دال على جماعة الذكور. {يَتَّقُونَ:} فعل وفاعل، والمفعول محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل) والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} مفيدة للتعليل على نحو ما رأيت في الآية رقم [185](البقرة).

{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ (52)}

الشرح: {وَلا تَطْرُدِ:} الطرد: الإبعاد، وطرده: أبعده، وهو من الباب الأول. {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ:} يعبدونه، وقيل: يصلون له؛ لأن الصلاة تشتمل على الذكر والدعاء، والمراد بذكر الغداة والعشي: صلاتا الفجر والعصر، وقيل: المراد الدوام في جميع الأوقات بل وجميع الحالات. هذا؛ وقد قرئ: «(بالغدوة)» بضم الغين وسكون الدال. {رَبَّهُمْ:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] بالإضافة لما ذكرت من تفسير (الغداة والعشي) أقول: العشي ومثله العشية من صلاة المغرب إلى العتمة، وهو قول الجوهري، وقال: قلت قال الأزهري: العشي من بين زوال الشمس وغروبها، ويقابل العشية الغدوة، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وقيل إلى الضحوة الكبرى، أما الغداة فهي في الأصل الضحوة، وجمع العشية: عشيّات، وجمع الغداة:

غدوات، وجمع الغدوة: غدو، ويقابل بالأصيل، وجمعه: آصال، قال تعالى:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} {رِجالٌ..} . إلخ الآية من سورة (النور) كما يقابل الغدو بالعشي، قال تعالى في حق فرعون وأشياعه:{النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا..} . إلخ الآية من سورة (غافر)، وانظر الآية رقم [3/ 41] والآية رقم [7/ 205]. {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ:} يطلبون ذاته، فالوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته. وانظر الآية رقم [2/ 112]. {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ..}. إلخ: أي لا تكلف أمرهم ولا يكلفون أمرك. وقيل: ما عليك حساب رزقهم، فتملهم، وتطردهم عنك، ولا رزقك عليهم، إنما الرازق لجميع الخلق هو الله تعالى. انتهى خازن.

ص: 296

وقال البيضاوي: أي ليس عليك حساب إيمانهم، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم انتهى بتصرف. ولو قلنا: معناه: لا تسأل عن أعمالهم، ولا يسألون عن عملك؛ لكان جيدا، ويكون مثل الآية الكريمة رقم [2/ 141] وهي:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ..} . إلخ وانظر {شَيْءٍ} في الآية رقم [5/ 19]. {فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ} أي: إن فعلت ذلك، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من الظلم، وانظر الآية رقم [147] الآتية.

تنبيه: روي: أن زعماء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو طردت هؤلاء الأعبد عن مجلسك-يعنون بذلك فقراء المسلمين وضعفاءهم كعمار وصهيب وبلال وخباب-جلسنا إليك، وحادثناك، فقال:

ما أنا بطارد المؤمنين، قالوا: فأقمهم عنا إذا جئناك. قال: نعم. وروي: أن عمر-رضي الله عنه قال له: لو فعلت حتى تنظر إلى ماذا يصيرون، فدعا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ليكتب، فنزلت الآية الكريمة وما بعدها، وكذلك نزلت آية (الكهف):{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ..} . إلخ الآية رقم [28] فكان عليه الصلاة والسلام إذا أقبل عليه أحد من هؤلاء الفقراء؛ يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ويرحب بهم، ويجلسهم إلى جانبه.

هذا؛ وقد قيل: إن الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم هم أجلاف العرب، وكان ذلك في المدينة المنورة، ويرده: أن سورة (الأنعام) مكية، وأن الحادثة وقعت في مكة. وانظر الآية رقم [28] من سورة (نوح).

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لا): ناهية جازمة. {تَطْرُدِ:}

مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» .

{الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} صلة الموصول لا محل لها. {بِالْغَداةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. (العشي): معطوف على ما قبله، وجملة:{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط، وجملة:{وَلا تَطْرُدِ} .. إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، أو هي مستأنفة لا محل لها على الوجهين. {ما:} نافية مهملة. {عَلَيْكَ:} متعلقان بمحذوف خبر تقدم على المبتدأ. {مِنْ حِسابِهِمْ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو متعلقان بمحذوف خبر ثان، فيكون من تعدد الخبر، وهو شبه جملة. هذا؛ وجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من {شَيْءٍ} كان صفة له

إلخ، وكثير من النحاة لا يجيز مجيء الحال من المبتدأ. {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة. هذا؛ واعتبار:{مِنْ حِسابِهِمْ} متعلقين بمحذوف حال من الضمير المستقر في الخبر المقدم المحذوف لا غبار عليه. هذا؛ وقد جوز اعتبار: {ما} نافية حجازية تقدم خبرها على اسمها والإعراب على حقيقته، كما جوز اعتبار:{مِنْ حِسابِهِمْ} متعلقين بمحذوف خبر مقدم، و {عَلَيْكَ} متعلقين بمحذوف حال من:{شَيْءٍ} كما في

ص: 297

تركيب الجملة: {وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ،} وإعرابها كإعراب سابقتها، والجملة الاسمية:

{ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قال الجمل فيها: هي بمنزلة التعليل، أي للنهي المتقدم. أقول:

أو هي مستأنفة، فلا محل لها على الوجهين. {فَتَطْرُدَهُمْ:} مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء السببية في جواب النفي، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {فَتَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية في جواب النهي، واسمه مستتر تقديره:«أنت» . {مِنَ الظّالِمِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (تكون). وكلا الفعلين يؤولان مع «أن» المضمرة بمصدر معطوف بفاء السببية على مصدر متصيد من الفعل السابق؛ إذ التقدير: لا يكن منك طرد للفقراء المؤمنين فتكون من الظالمين، وما حسابهم عليك فتطردهم من اختصاصك. وقيل:(تكون) معطوف على ما قبله على وجه التسبب؛ لأن كونه ظالما مسبب عن طردهم.

{وَكَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ (53)}

الشرح: {فَتَنّا:} ابتلينا واختبرنا، والضمير في {بَعْضَهُمْ} المراد به بعض الناس، والمعنى: ابتلينا الغني بالفقير، والفقير بالغني، والشريف بالوضيع، والوضيع بالشريف

إلخ، فكل واحد مبتلى بضده، فكان ابتلاء الأغنياء الشرفاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حسدهم لفقراء الصحابة الذين سبقوهم إلى الإسلام، وتقدموا عليهم، فامتنعوا من الدخول في الإسلام لذلك، فكان ذلك فتنة وابتلاء لهم، وأما فتنة الفقراء بالأغنياء، فلما يرون من سعة رزقهم، وخصب عيشهم، فكان ذلك فتنة لهم. انتهى. خازن. {لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ} .. إلخ: أي أهؤلاء أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا، ونحن الأكابر والعظماء، وهم الفقراء والضعفاء؟! وهو إنكار واستغراب لأن يخص هؤلاء بإصابة الحق والسبق إلى الخير، كقولهم في آية أخرى:{لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ} . {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} أي: فيعلم الله الشاكر لنعمه، فيزيده منها، كما قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ويعلم الجاحد لنعمه، فينتقم منه، كما أفاده قوله تعالى:{وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} .

الإعراب: {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف تقدم على عامله، التقدير: فتنا بعضهم فتونا كائنا مثل ذلك الفتون. {فَتَنّا:}

فعل وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]{بَعْضَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِبَعْضٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لِيَقُولُوا} اللام: لام التعليل، وقيل: هي لام الصيرورة والعاقبة. (يقولوا): مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في

ص: 298

تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية (كذلك

) إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {أَهؤُلاءِ:} الهمزة: حرف استفهام. الهاء:

حرف تنبيه. (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسرة في محل رفع مبتدأ، وجملة:{مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ} في محل رفع خبر المبتدأ. {مِنْ بَيْنِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة.

هذا؛ ويجوز تعليق: {مِنْ بَيْنِنا} بمحذوف حال من الضمير المجرور محلاّ ب: (على)، وفسر بمفردين. هذا؛ وقد اعتبر:(هؤلاء) منصوبا على الاشتغال بفعل محذوف يفسره الفعل الظاهر العامل في ضميره بواسطة (على)، ولا أراه قويّا. {أَلَيْسَ:} الهمزة: حرف استفهام وتقرير. (ليس):

ماض ناقص. {اللهُ:} اسمها. {بِأَعْلَمَ:} الباء: حرف جر صلة. (أعلم): خبر (ليس) مجرور لفظا منصوب محلاّ، وعلامة الجر اللفظي الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للصفة، ووزن أفعل. {بِالشّاكِرِينَ:} متعلقان ب: (أعلم)، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{أَلَيْسَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}

الشرح: {وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا:} هم الذين نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن طردهم في الآية السابقة. وصفهم الله بالإيمان بالقرآن، واتباع الحجج بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة تنبيها على إحرازهم لفضيلة العلم وفضيلة العمل، وأمر الله نبيه بأن يبدأهم بالسلام، أو يبلغهم سلام ربهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله وفضله. {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ:} انظر شرح هذه الجملة في الآية رقم [12]. {أَنَّهُ} أي: الحال والشأن. {سُوءاً:} ذنبا ومعصية.

{بِجَهالَةٍ:} ما أحراك أن تنظر الآية رقم [4/ 17] وانظر الجاهل في الآية رقم [35]. {ثُمَّ:}

انظر الآية رقم [5/ 50]. {تابَ:} رجع واستغفر من ذنبه، وانظر شروط التوبة في الآية رقم [/17 4]. {وَأَصْلَحَ:} عمله بالتدارك والعزم على أن لا يعود. {غَفُورٌ:} صيغة مبالغة من الغفران.

{رَحِيمٌ:} انظر البسملة. بعد هذا انظر (جاءك) في الآية رقم [5] والإيمان في الآية رقم [5/ 96] و (آياتنا) في الآية رقم [4] والقول في الآية رقم [7/ 4]. هذا؛ وقد قرئ بفتح همزة «أنه» في الموضعين وبكسرها فيهما، وفتح الأولى، وكسر الثانية، فالقراءات ثلاثة، وكلها سبعية.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): انظر الآية رقم [25]. {جاءَكَ الَّذِينَ:}

ماض ومفعوله وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح، وجملة:{يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها. {فَقُلْ:} الفاء: واقعة في

ص: 299

جواب (إذا). {سَلامٌ:} مبتدأ، سوغ الابتداء به-وهو نكرة-الدعاء؛ لأنه من مسوغات الابتداء بالنكرة. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله، وجملة:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} في محل نصب مقول القول أيضا. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير الشأن في محل نصب اسمها. {مَنْ:}

اسم شرط مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَمِلَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (من) بيان لما أبهم في:{مَنْ} {سُوءاً:} مفعول به. {بِجَهالَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر أيضا، ولا بأس بتعليقهما بمحذوف صفة {سُوءاً} أي: كائنا، أو مفعولا {بِجَهالَةٍ}. {ثُمَّ:} حرف عطف. {تابَ:} ماض معطوف على فعل الشرط، والفاعل يعود إلى من. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَأَصْلَحَ:} معطوف على فعل الشرط أيضا، وفاعله مستتر يعود إلى {مَنْ} أيضا، ومفعوله محذوف، والجملة الاسمية:{فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو من مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [29]. هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} موصولة فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية:{فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في محل رفع خبره، ودخلت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وتعتبر زائدة، وعلى الوجهين فالجملة اسمية، وهي في محل رفع خبر (أنّ).

بعد هذا نعود إلى إعراب محل (أنّه) في الموضعين، فتح الهمزة في الأول يجعلها تؤول بمصدر، وفي محله وجوه: أحدها: أنه بدل من {الرَّحْمَةَ} فهو في محل نصب، فإن نفس هذا المصدر المتضمن للإخبار بذلك رحمة. والثاني: أنه في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:

لأنه من عمل، فلما حذفت اللام جرى في محله الخلاف المشهور. والثالث: كونه في محل رفع على أنه مبتدأ، والخبر محذوف، أي: عليه أنه من عمل

إلخ. والرابع: كونه في محل نصب على أنه مفعول: {كَتَبَ،} و {الرَّحْمَةَ} مفعول من أجله. انتهى جمل. وأقواها الوجه الأول، والثالث، والرابع ضعيفان ظاهر فيهما التكلف، والتعسف. وأما كسر الهمزة فينتج عنه جملة اسمية، وفي محلها وجهان: أحدهما: أنها مستأنفة، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} والثاني: أن كتب أجري مجرى قال. فكسرت الهمزة بعده كما تكسر بعد القول الصريح، وأما فتح الهمزة في الموضع الثاني يجعلها تؤول أيضا بمصدر. وفي محله ثلاثة وجوه: أحدها: كونه في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، أي فغفرانه ورحمته حاصلان لمن عمل سوءا بجهالة، ثم تاب من بعده، أو فعليه غفرانه ورحمته.

الثاني: كون المصدر المؤول في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فأمره أو شأنه أنه

ص: 300

غفور رحيم. الثالث: كونه تكرير للأول، كررت (أن) لما طال الكلام، وعطفت الثانية على الأولى بالفاء، وهذا منقول عن أبي جعفر النحاس. انتهى جمل.

أقول: عند التأمل يظهر لك ضعفه؛ لأن الثانية واقعة في جواب {مَنْ} أو في خبره كما رأيت في الإعراب، فهي ضمنا واقعة في محل رفع خبر الأولى، وأما كسر الهمزة فينتج عنه جملة اسمية، وفي محلها وجهان: أحدهما أنها في محل جزم جواب الشرط، أو في محل رفع خبر {مَنْ} على اعتبارها موصولة، وهو ما رأيته فيما تقدم من الإعراب، والثاني: أنها عطف على الأولى وتكرير لها انتهى. جمل.

أقول: هذا ضعيف، وسبب ضعفه، ما ذكرته في الوجه الثالث من أوجه فتحها. وأما القراءة الثالثة؛ فيؤخذ فتح الأولى، وكسر الثانية مما تقدم في كسرهما، وفتحهما بما يليق من ذلك، وهو ظاهر. انتهى جمل.

{وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}

الشرح: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ:} المعنى: مثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونوضحها، ونلخصها في صفة المطيعين الأوابين، والمجرمين المصرين على الكفر والعناد والمعاصي واقتراف السيئات. وانظر شرح:{آيَةٍ} في الآية رقم [4] وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 7]{وَلِتَسْتَبِينَ:} لتظهر، يقال: استبان الأمر، وتبين، واستبنته، وتبينته. والمعنى واحد.

{سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ:} طريق المجرمين، وانظر شرح:{سَبِيلُ} في الآية رقم [5/ 16] فإنه جيد.

وقرئ الفعل «(تستبين)» بالتاء على اعتباره مؤنثا، وقرئ بالياء على اعتباره مذكرا. هذا؛ و {الْمُجْرِمِينَ} جمع مجرم، والمراد به هنا: الكفار، ويشمل {الْمُجْرِمِينَ} من المسلمين الذين يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، والذين يعتدون على الحرمات. وينتهكون المحرمات، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَكَذلِكَ} الواو: حرف عطف. الكاف: حرف تشبيه وجر. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل الذي بعده، وتقدير الكلام:{نُفَصِّلُ الْآياتِ} تفصيلا كائنا مثل ذلك التفصيل

إلخ. {نُفَصِّلُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ..} . إلخ معطوفة على ما في الآية رقم [53] أو هي مستأنفة لا محل لها على الوجهين. {وَلِتَسْتَبِينَ:} الواو: حرف عطف. اللام:

حرف تعليل وجر. (تستبين): مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل. {سَبِيلُ:} فاعله.

ص: 301

هذا؛ وقد قرئ بنصبه، فيكون الفاعل مستترا تقديره:«أنت» ، و {سَبِيلُ} مضاف، و {الْمُجْرِمِينَ:}

مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة لأنه جمع مذكر سالم، و «أن» المضمرة والفعل:(تستبين) على القراءتين في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على جار ومجرور محذوفين، وهما متعلقان بالفعل {نُفَصِّلُ} وتقدير الكلام: نفصل الآيات ليظهر الحق ولتستبين

إلخ.

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)}

الشرح: {قُلْ:} هذا وما بعده خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وانظر «القول» في الآية رقم [7/ 4].

{نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أي: نهاني ربي عن عبادة الأصنام التي تعبدونها وتقدسونها من دون الله، وقيل: معناه: تدعونها وتلجئون إليها عند الشدائد؛ لأن الجمادات أحقر من أن تعبد، أو يلجأ إليها عند المهمات. {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ:} هذا تأكيد لقطع أطماع المشركين في أن يميل النبي الكريم إلى عبادة الأصنام، وإشارة إلى أن ما يفعلونه من عبادة الأصنام إنما هو جهل واتباع هوى لا يستند إلى شيء يعتمد عليه. {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} أي: إن اتبعت أهواءكم؛ فقد اتبعت طريق غير الحق والصواب. {وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي: وما أنا في شيء من الهدى إن اتبعت أهواءكم. وفيه تعريض بأنهم على غير هدى وحق. بعد هذا انظر معنى: {أَعْبُدَ} في سورة (الفاتحة)، و {دُونِ} في الآية رقم [7/ 2]. {اللهِ:} انظر الاستعاذة.

{أَهْواءَكُمْ:} جمع هوى، وانظر الآية رقم [4/ 135]. {ضَلَلْتُ:} انظر: {وَضَلَّ} في الآية رقم [24]. هذا؛ وقد فك التضعيف لاتصاله بضمير رفع متحرك، وهو واجب، وهو هنا بفتح اللام الأولى، ويقرأ في آية أخرى:«(قل إن ضللت)» بكسرها.

قال الرازي في مختاره: فهذه، أي الأولى لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون:

(ضللت) أضل بالكسر فيهما انتهى.. أقول: لغة نجد من باب ضرب والثانية من باب ورث.

الإعراب: {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها.

{نُهِيتُ:} ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، والمصدر المؤول من:

{أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ} في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: عن عبادة الذين، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: تدعونه، والجار والمجرور متعلقان به، واعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من المفعول المحذوف لا بأس به، والجملة الفعلية:{نُهِيتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ

ص: 302

مستأنفة لا محل لها. {لا:} نافية. {أَتَّبِعُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» {أَهْواءَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{لا أَتَّبِعُ} .. إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ} .. إلخ مستأنفة لا محل لها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {ضَلَلْتُ:} فعل وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {إِذاً:} حرف جواب وجزاء مهمل لا عمل له. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية مهملة، أو حجازية تعمل عمل «ليس». {أَنَا:}

ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو في محل رفع اسم (ما). {مِنَ الْمُهْتَدِينَ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، أو هما متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر (ما)، والجملة اسمية على الوجهين معطوفة على ما قبلها لا محل لها.

{قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)}

الشرح: {بَيِّنَةٍ:} هي الدلالة الواضحة، والحجة الدامغة. {رَبِّي:} انظر الآية رقم [/3 7]. {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ:} الضمير يعود ل: {رَبِّي} أي: كذبتم به حيث أشركتم به غيره، أو للبينة باعتبار المعنى. وقيل: يعود إلى القرآن؛ لأنه مفهوم من المقام، وهو كالمذكور. {ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ:} المراد بالضمير المجرور بالباء: العذاب الذي طلبوه مرارا، وحكاه القرآن عنهم:{وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ} أي: نصيبنا من العذاب، إلى غير ذلك. و {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ} أي: ما الحكم في تأخير العذاب، وتعجيله إلا لله. {يَقُصُّ الْحَقَّ:}

يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به، ويقدره. من: قص أثره، أو قص خبره: إذا تتبعه. وقيل: هو بمعنى يقول الحق. ويقرأ «(يقض)» بالضاد، من القضاء، يعني: يقضي القضاء الحق، وانظر شرح {الْحَقَّ} في الآية رقم [5/ 27]. {وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ:} الله خير القاضين والحاكمين بالحق.

وانظر شرح: {خَيْرُ} في الآية رقم [7/ 12]. تأمل، وتدبر، وربك أعلم وأجل، وأكرم.

الإعراب: {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها.

{عَلى بَيِّنَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {مِنْ رَبِّي:} متعلقان بمحذوف صفة {بَيِّنَةٍ،} وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَكَذَّبْتُمْ:} الواو: واو الحال. (كذبتم): فعل وفاعل. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} في محل نصب

ص: 303

حال من: {بَيِّنَةٍ،} والرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء، وهذا باعتبار رجوع الضمير إلى بينة، كما رأيت، وهي على تقدير «قد» قبلها، وجوز اعتبارها مستأنفة لا محل لها. {ما:} نافية مهملة.

{عِنْدِي:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم منصوب. وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. (ما): تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ، أو في محل رفع اسم:{ما} مؤخر على اعتبارها عاملة عمل ليس، والجملة الفعلية:{تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء والمتعلق محذوف؛ إذ التقدير: من العذاب، وهذا الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلاّ بالباء و «من» بيان لما أبهم في {ما}. والجملة الاسمية:

{ما عِنْدِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {إِنِ:} نافية بمعنى: {ما} . {الْحُكْمُ:}

مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول أيضا، والجملة الفعلية:{يَقُصُّ الْحَقَّ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط رجوع الفاعل إليه فقط. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْفاصِلِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{وَهُوَ خَيْرُ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، فهي حال متعددة، أو من فاعل:{يَقُصُّ} المستتر، فهي حال متداخلة، والرابط على الاعتبارين: الواو، والضمير.

{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ (58)}

الشرح: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي..} . إلخ، أي لو كان في قدرتي ومكنتي ما تطلبونه من العذاب.

وانظر الآية السابقة. {لَقُضِيَ الْأَمْرُ..} . إلخ، أي: لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي، وانتهى الأمر بيني وبينكم إلى المقاطعة التامة والاستراحة من كيدكم وشركم. وانظر:{قَضى} في الآية رقم [2/ 117] فإنه جيد. {وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ} أي: وبأحوالهم، وما يستحقون من العذاب، والوقت الذي يستحقونه فيه. وقال البيضاوي: فيه معنى الاستدراك، كأنه قال: ولكن الأمر إلى الله، وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ، وبمن ينبغي أن يمهل منهم. هذا؛ والمراد {بِالظّالِمِينَ} هنا: الكفار والمشركون، ويشمل الظالمين من المسلمين الذين يعتدون على حقوق الناس، وينتهكون حرماتهم. وانظر الظلم في الآية رقم [145] الآتية.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {عِنْدِي:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: {أَنَّ} تقدم

ص: 304

على اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {ما:} اسم: {أَنَّ} مؤخر، وانظر الآية السابقة ففيها الكفاية لتتمة الإعراب، و {أَنَّ} واسمها وخبرها المقدم في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف هو شرط {لَوْ} عند المبرد، التقدير: لو ثبت استعجالهم العذاب. وقال سيبويه: هو في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو استعجالهم العذاب ثابت أو حاصل. وقول المبرد هو المرجح؛ لأن {لَوْ} لا يليها إلا فعل ظاهر أو مقدر، والفعل المقدر وفاعله جملة فعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَقُضِيَ:} اللام: واقعة في جواب {لَوْ} . (قضي الأمر): ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله. {بَيْنِي:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَقُضِيَ..} . إلخ جواب لولا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . مستأنفة لا محل لها. (الله): مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبره. {بِالظّالِمِينَ:}

متعلقان ب: {أَعْلَمُ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)}

الشرح: {وَعِنْدَهُ:} عند الله. {مَفاتِحُ الْغَيْبِ:} خزائن الغيب، أي ما غاب عن المخلوقات من معلومات لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد ذكرها ربنا في آخر آية من آيات سورة (لقمان). وقال سبحانه في سورة (الرعد) {اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ}. وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى، لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يدري أحد متى يأتي المطر. وفي رواية أخرى: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى الساعة إلا الله» . أخرجه البخاري. أقول: وما اخترع من أشياء، وما اكتشف من أمور في هذا العصر، وما يتحدثون عنه من مغيبات، مثل نزول المطر، وغير ذلك، إنما هو قائم على التجربة، والحدس، والتخمين،

ص: 305

وكثيرا ما يخطئ، وقد يصيب، فيبقى من غيب الله تعالى. وأضيف: أنه ذكر في تفسير: {مَفاتِحُ الْغَيْبِ} أمور، فقال الضحاك، ومقاتل:{مَفاتِحُ الْغَيْبِ،} خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب، وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب. وقيل: انقضاء الآجال، وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة، وخواتيم أعمالهم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أنها خزائن غيب السموات والأرض، من الأقدار والأرزاق، وغير ذلك. انتهى خازن بتصرف.

بعد هذا أقول: اختلف في {مَفاتِحُ:} فقيل: هو جمع: مفتح بفتح الميم وكسر التاء، كمخزن وزنا ومعنى، وهذا على تفسيره بخزائن. وقيل: هو جمع: مفتح بكسر الميم، وفتح التاء، وهذا على تفسيره بطرق الغيب، فيكون مرادا به: الآلة المعلومة، ويؤيده قراءة مفاتيح، جمع: مفتاح، ويكون حذف منه عند الجمع الألف التي تقلب ياء في صيغة منتهى الجموع، كما نقل في جمع مصباح مصابح، وفي جمع محراب محارب. انتهى جمل بتصرف كبير.

{الْبَرِّ:} بفتح الباء، وهو الأرض القفر التي لا ماء فيها ولا نبات. و {وَالْبَحْرِ} القرى والأمصار، ولا يحدث فيها شيء إلا والله يعلمه، قاله مجاهد، وقال جمهور المفسرين، هو (البر والبحر) المعروفان؛ لأن جميع الأرض، إما بر وإما بحر، وفي كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته، وغرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته، وسعة علمه. وهذا هو المعتمد. هذا؛ والبر بكسر الباء: كلمة جامعة لجميع خصال الخير الدنيوية والأخروية. انظر الآية رقم [176] من سورة (البقرة) والبر بضم الباء: القمح الحنطة التي نأكلها خبزا

{تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ:} يعلم عدد ما يسقط من أوراق الشجر. وعدد ما يبقى منه. {حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ} أي: حبة موجودة في بطن الأرض، قبل أن تنبت وما يطرأ عليها من تغيرات حتى تخرج من الأرض، وانظر:{ظُلُماتِ} في الآية رقم [1]. {رَطْبٍ وَلا يابِسٍ:} هو عبارة عن كل شيء في الوجود؛ لأن جميع الأشياء، أما رطبة، وإما يابسة. {كِتابٍ:} المراد به اللوح المحفوظ؛ لأن الله تعالى كتب فيه علم ما يكون وما قد يكون قبل أن يخلق السموات والأرض. وفائدة إحصاء الأشياء كلها في هذا الكتاب؛ لتقف الملائكة على إنفاذ ما سجله الله فيه. انتهى خازن. {مُبِينٍ} انظر الآية رقم [16].

الإعراب: (عنده): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة.

{مَفاتِحُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {الْغَيْبِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {لا:} نافية. {يَعْلَمُها:} مضارع ومفعوله. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {هُوَ:} ضمير رفع منفصل مبني على الفتح في محل رفع وقع فاعلا للفعل قبله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{مَفاتِحُ الْغَيْبِ} والعامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الظرف لوقوعه خبرا، وقال أبو البقاء: أو نفس الظرف، إن رفعت به {مَفاتِحُ} أي: إن رفعته به فاعلا، وذلك على رأي الأخفش. انتهى.

جمل. أقول: وهذا يشكل بوقوع الحال من المبتدأ، والحال هيئة فاعل، أو مفعول، كما هو

ص: 306

معروف، لذا فإني أرى أن تكون الحال من الضمير المستتر في متعلق الظرف، والمتعلق هو العامل في الحال، وبهذا يزول الإشكال، وينكشف الغموض. (يعلم): مضارع، وفاعله يعود إلى الله، وهو كسابقه لم ينصب إلا مفعولا واحدا؛ لأنه بمعنى: يعرف، وليس من أفعال القلوب انظر الآية رقم [61] من سورة (الأنفال) ففيها البيان الشافي بإذن الله تعالى. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي الْبَرِّ:} متعلقان بمحذوف صلة {ما،} أو صفتها، وجملة:{وَيَعْلَمُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا، والاستئناف ممكن. تأمل. {إِلاّ:} حرف حصر. {يَعْلَمُها:} فعل مضارع، ومفعوله، وفاعله يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{وَرَقَةٍ،} وسوغ مجيء الحال منها وهي نكرة تقدم النفي، فإنه من المسوغات للابتداء بالنكرة. {لا:} زائدة لتأكيد النفي. {حَبَّةٍ:} معطوف على لفظ {وَرَقَةٍ} ولو قرئ بالرفع، لكان على الموضع. {فِي ظُلُماتِ:} متعلقان بمحذوف صفة حبة، وظلمات مضاف، و {الْأَرْضِ:} مضاف إليه. {وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ:} بالجر معطوفان على لفظ {وَرَقَةٍ} و (لا) مقحمة مفيدة للتوكيد. قال الجمل: لكن لا يناسب تسلط السقوط على الثلاثة، كما لا يخفى؛ إذ لا يناسب وما يسقط رطب ولا يابس، فالمعنى: وما من حبة و {وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} . قال البيضاوي: وقرئت-أي: الثلاثة-بالرفع، وفيهن حينئذ وجهان: الأول: عطفها على محل {وَرَقَةٍ} والثاني: على الابتداء، {إِلاّ:} حرف حصر. {فِي كِتابٍ:} متعلقان بمحذوف بدل من قوله {إِلاّ هُوَ} بدل كل من كل على أن المراد بالكتاب المبين على علم الله تعالى، أو بدل اشتمال إن أريد به اللوح المحفوظ، وهذا على اعتبار {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ} معطوفات على لفظ {وَرَقَةٍ} أو على محلها، وأما على الوجه الثاني فيهن، وهو الرفع على الابتداء، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر عن هذه المرفوعات، التقدير:

مسجلات في: {كِتابٍ مُبِينٍ} وينتج عن ذلك جملة اسمية مستأنفة لا محل لها، ويكون الوقف على {يَعْلَمُها} جيدا، وانظر الآية رقم [61] من سورة (يونس) فإنه جيد.

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)}

الشرح: {يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ:} ينيمكم فيه، ويراقبكم. استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس، والتمييز، فإن أصله قبض الشيء بتمامه. انتهى بيضاوي.

وقال الجلال في تفسيره: يقبض أرواحكم عند النوم، قال الجمل في تعليقه عليه: هذا مبني على أن في الجسد روحين: روح الحياة، وهي لا تخرج إلا بالموت، وروح التمييز، وهي تخرج بالنوم، فتفارق الجسد، فتطوف بالعالم، وترى المنامات، ثم ترجع إلى الجسد عند تيقظه.

ص: 307

وفي زاده على البيضاوي هناك ما نصه: وعلى ما ذكره المصنف ليس في ابن آدم إلا روح واحدة، تكون لابن آدم بحسبها ثلاثة أحوال: حال يقظة، وحالة نوم، وحالة موت، فباعتبار تعلقها بظاهر الإنسان وباطنه تعلقا كاملا تثبت له حالة اليقظة، وباعتبار تعلقها بظاهر الإنسان فقط تثبت له حالة النوم، وباعتبار انقطاع تعلقها عن الظاهر والباطن تثبت له حالة الموت. انتهى جمل. {جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ:} كسبتم فيه، وجرح من باب: نفع، واجترح: عمل بيده واكتسب، ومنه قيل لكواسب الطير والسباع جوارح جمع جارحة؛ لأنها تكسب بيدها. ففي الكلام استعارة تصريحية؛ لأنها استعملت بالفعل. ثم انظر الآية رقم [96] لشرح الليل والنهار. {يَبْعَثُكُمْ فِيهِ:} يوقظكم من نومكم في النهار، فقد استعار لفظ الوفاة للنوم، واستعار لفظ البعث للإيقاظ من النوم. {لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى} أي: ليبلغ المتيقظ في النهار، والنائم في الليل آخر عمره المسمى له في الدنيا، ثم المرجع والمآب بعد ذلك إلى الله تعالى بالموت، وبعد ذلك يكون الإحياء للحساب والجزاء فينبئ كل إنسان بما قدمت يداه في ليله، ونهاره، وغدوه، ورواحه.

هذا؛ وانظر: {قَضى} في الآية رقم [2/ 117] و {ثُمَّ} في الآية رقم [5/ 43] و {يُنَبِّئُكُمْ} في الآية رقم [5/ 14] و (يعلم) في الآية السابقة.

الإعراب: (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {يَتَوَفّاكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {بِاللَّيْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ..} . إلخ لا محل لها مثلها.

{ما:} تحتمل الموصولة والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

جرحتموه بالنهار، وعلى اعتبار:{ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلم جرحكم بالنهار، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، واكتفى الفعل (يعلم) بمفعول واحد، كما في الآية السابقة، وجملة:{يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {لِيُقْضى} مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف، وهو مبني للمجهول. {أَجَلٌ:} نائب فاعله. هذا؛ ويقرأ الفعل بالبناء للمعلوم ونصب (أجلا) على أنه مفعول به، فيكون الفاعل ضميرا مستترا يعود إلى (الله). {مُسَمًّى:} صفة لما قبله على الوجهين، فهو مرفوع، أو منصوب، والضمة أو الفتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، و «أن» المضمرة والفعل:(يقضى) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بما

ص: 308

قبلهما من مجموع الفعلين، أي:{يَتَوَفّاكُمْ} ثم {يَبْعَثُكُمْ} لأجل ذلك. انتهى جمل نقلا عن السمين. {إِلَيْهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَرْجِعُكُمْ:} مبتدأ مؤخر، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {يُنَبِّئُكُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به أول. {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، وانظر الإعراب في الآية رقم [30] فإنه مثل:{بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بلا فارق، والجملة الفعلية:{يُنَبِّئُكُمْ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها أيضا، و {ثُمَّ} في الآية للتراخي والمهلة. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)}

الشرح: {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ:} انظر الآية رقم [18] ففيها الكفاية. {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} أي: ملائكة تحفظ أعمالكم وتسجلها، وهم الملائكة الكاتبون الكرام. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ} يكتبون ما يقوله وما يفعله العبد من خير وشر، وطاعة ومعصية. قيل: إن مع كل إنسان ملكين، ملك عن يمينه، وملك عن شماله، والأول آمر على الثاني، فإذا عمل العبد حسنة أسرع صاحب اليمين إلى كتابتها، وإذا عمل سيئة، قال لصاحب الشمال: اصبر لعله يتوب، فإن لم يتب منها كتبها صاحب الشمال سيئة واحدة. وفائدة جعل الملائكة موكلين بالإنسان: أنه إذا علم أن له حافظا من الملائكة موكلا به يحفظ عليه أقواله وأعماله في صحائف تنشر له وتقرأ عليه يوم القيامة على رءوس الأشهاد؛ كان ذلك أزجر له عن فعل القبيح وترك المعاصي: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . وقيل: المراد بالحفظة هم الملائكة الذين يحفظون ابن آدم من شر المخلوقات يدل عليه قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} وكلا القولين صحيح وواقع. {حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: انتهى أجله المحدود له في الدنيا. {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا:} قبض روحه عزرائيل الموكل بقبض الأرواح وأعوانه من الملائكة الذين جعلهم الله تحت إمرته. {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ:} لا يقصرون فيما وكل إليهم من تقديم أو تأخير. بعد هذا انظر: {جاءَ} في الآية رقم [5]. {أَحَدَكُمُ:} انظر الآية رقم [2/ 96]. {الْمَوْتُ:} انظر الآية رقم [5/ 109]. {تَوَفَّتْهُ:} إعلاله مثل إعلال: {قَسَتْ} في الآية رقم [43]. {رُسُلُنا:} انظر (سبل) في الآية رقم [5/ 16] وانظر (نا) في الآية رقم [7] من سورة (الأعراف).

تنبيه: قال الله تعالى في آية: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} وقال في آية أخرى: {قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وقال هنا: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا} والجمع بين هذه الآيات: أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد، أمر الله ملك الموت بقبض روحه،

ص: 309

ولملك الموت أعوان من الملائكة، يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم؛ تولى قبضها ملك الموت بنفسه. انتهى خازن بتصرف كبير.

الإعراب: {وَهُوَ الْقاهِرُ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {فَوْقَ:} ظرف مكان متعلق ب: {الْقاهِرُ؛} لأنه اسم فاعل، و {فَوْقَ:} مضاف، و {عِبادِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} معطوفة على: {الْقاهِرُ} لأنه بمعنى الذي يقهر عباده، أو هي معطوفة على الجملة الاسمية، وهذا على رأي من يجيز عطف الفعلية على الاسمية، وهو المعتمد. وقيل: هي معطوفة على جملة: {يَتَوَفّاكُمْ..} . إلخ في الآية السابقة، فتكون من جملة صلة الموصول.

وقيل: هي في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وهو يرسل

إلخ، وعليه فالجملة اسمية وهي في محل نصب حال من فاعل:{الْقاهِرُ} المستتر. وقيل: مستأنفة، وهو أضعف هذه الأقوال، وأقواها أولها. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان ب: {وَيُرْسِلُ،} وجوز تعليقهما ب: {حَفَظَةً} .

وقيل: في محل نصب حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا

إلخ وهذا أضعف الثلاثة، وأقواها القول الأول. {حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا:} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [25] مع العلم: أنه قد قرئ «(توفاه)» وهو ماض. وقيل: هو مضارع حذفت منه تاء المضارعة، أصله:(تتوفاه) والكلام: {حَتّى إِذا جاءَ..} . إلخ مستأنف لا محل له. (هم): مبتدأ، وجملة:{لا يُفَرِّطُونَ} في محل رفع خبره، وقد قرئ بتشديد الراء وتخفيفها، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {رُسُلُنا} والرابط الواو والضمير. وقيل:

مستأنفة، والأول أولى.

{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)}

الشرح: {رُدُّوا إِلَى اللهِ} أي: يردون، بمعنى: يرجعون، وعبر بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه، وانظر الآية رقم [5/ 116] لبحث ذلك فإنه جيد. {اللهِ:} انظر الاستعاذة.

{مَوْلاهُمُ:} متولي أمورهم ومالكهم. هذا؛ وكما يطلق المولى على الإله المعبود بحق، كما في هذه الآية، يطلق على السيد، والعبد، والحليف، وابن العم والنصير، والصاحب. {الْحَقِّ:}

العدل الذي لا يحكم يوم القيامة إلا بالحق، وانظر الآية رقم [5/ 27]. {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} أي:

الحكم بين العباد يوم القيامة إنما هو لله وحده، بخلاف الدنيا، فإنه وإن لم يكن حاكم في الحقيقة غير الله فيها، لكن فيها بحسب الظاهر حكام متعددة. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.

{أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ:} يحاسب الخلائق يوم القيامة في مقدار حلب الشاة، لا يشغله حساب أحد عن حساب أحد؛ لأنه لا يحتاج إلى فكر وعد. وانظر:{سَرِيعُ الْحِسابِ} في الآية رقم [5/ 4]

ص: 310

ولا تنس: أن في الكلام التفاتا من الإفراد إلى الجمع، والسر في الإفراد في الآية السابقة، والجمع هنا؛ وقوع الموت، والتوفي على الانفراد، وأما البعث والرجوع إلى الله يوم القيامة فإنه على الجمع، أي يا قوم جميع الخلائق من قبورهم دفعة واحدة.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف للتراخي، وانظر الآية رقم [5/ 46]. {رُدُّوا:} ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جواب {إِذا} في الآية السابقة، لا محل لها مثله. {مَوْلاهُمُ:} صفة {اللهِ} أو بدل منه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْحَقِّ:} صفة ثانية. وقيل: هو صفة ل: {مَوْلاهُمُ} ويقرأ بالنصب على إضمار فعل، أي أمدح أو أعني، وذلك على القطع، {أَلا:} حرف تنبيه واستفتاح، يسترعى به انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام.

{لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْحُكْمُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ:} في محل نصب حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، والرابط: الواو، والضمير.

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ (63)}

الشرح: {قُلْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وانظر «القول» في الآية رقم [2/ 26] أو [7/ 4].

{يُنَجِّيكُمْ:} بتشديد الجيم من نجّى، ويقرأ بتخفيفها من: أنجى. {ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ:} أهوالهما وشدائدهما في أسفاركم، استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتها في الهول، وإبطال الإبصار، فيقال لليوم الشديد: يوم متكلم، ويوم ذو كواكب، أي إنه يوم اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته، وفي ظهور الكواكب فيه؛ لأن الكواكب لا تظهر إلا في الظلمة. وقيل: الحمل على الحقيقة أولى، فظلمات البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة الرياح، فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب، وظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة الرياح العاصفة، والأمواج الهائلة، فيحصل من ذلك أيضا الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك، وانظر:{الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} في الآية رقم [59].

تدعونه تضرعا وخفية: تسألون الله النجاة من الشدائد والهول في السر والجهر. {لَئِنْ أَنْجانا..} .

إلخ: أي يقولون حين وقوعهم في الشدائد: لئن أنجانا الله من هذه المتاعب، والمشاق؛ لنشكرنه تعالى عليها، ولا يكون الإنسان شاكرا إلا بالإيمان، وما يتعلق به من أعمال، والشكر يتطلب المزيد من النعم. انظر الآية رقم [53]. ويقرأ:«(لئن أنجيتنا)» على الخطاب.

ص: 311

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُنَجِّيكُمْ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{مَنْ..} . والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:

{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {مِنْ ظُلُماتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما؛ و {ظُلُماتِ:} مضاف، و {الْبَرِّ:} مضاف إليه. و (البحر): معطوف على ما قبله. {تَدْعُونَهُ:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، التقدير: داعين إياه، أو من فاعله المستتر، التقدير: مدعوّا من جهتكم، والرابط على الوجهين الضمير فقط. {تَضَرُّعاً:} حال بمعنى متضرعين، فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، وجوز اعتباره مفعولا مطلقا من معنى العامل، لا من لفظه، على حد:(قعدت جلوسا){وَخُفْيَةً:} معطوف على ما قبله على الاعتبارين فيه، وهو يقرأ بضم الخاء وكسرها، كما قرئ:«(خيفة)» من الخوف. {لَئِنْ} اللام: موطئة لقسم محذوف.

(إن): حرف شرط جازم. {أَنْجانا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر في محل جزم فعل الشرط، والفاعل مستتر يعود إلى {مَنْ} و (نا): مفعول به، وعلى قراءة:«(أنجيتنا)» فهو فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعلية لا محل لها على الوجهين؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {مِنْ هذِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {لَنَكُونَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (نكونن): فعل مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له، واسمه ضمير مستتر تقديره:«نحن» ، {مِنَ الشّاكِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الفعلية:{لَنَكُونَنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المحذوف المدلول عليه باللام الموطئة، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» والكلام: {لَئِنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، واقع حالا، أي: قائلين، أو تقولون:{لَئِنْ..} . إلخ.

{قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}

الشرح: {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {يُنَجِّيكُمْ:} يقرأ بتشديد الجيم وتخفيفها كما في الآية السابقة. {مِنْها:} من ظلمات البر والبحر. {كُلِّ كَرْبٍ:} غير ظلمات البر والبحر، والكرب هو: الغم الشديد الذي يأخذ بالنفس. {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} أي: تعودون إلى شرككم بعد نجاتكم من الشدائد والأهوال، وهذا كان دأبهم؛ إذا مسهم الضر؛ لجئوا إلى الله وحده، وإذا كشفه عنهم؛ يعودون إلى عبادة الحجارة والأوثان، ألا ساء ما يعملون، وانظر:{ثُمَّ} في الآية رقم [5/ 43].

الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ، وجملة:{يُنَجِّيكُمْ مِنْها} في محل رفع خبره، وانظر الآية السابقة لإعرابها، والجملة الاسمية:{اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها} في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:

ص: 312

{قُلِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَمِنْ كُلِّ:} معطوفان على {مِنْها،} فهما متعلقان حكما بالفعل السابق، و {كُلِّ:} مضاف، و {كَرْبٍ:} مضاف إليه. {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَنْتُمْ:}

ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، وجملة:{تُشْرِكُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية السابقة، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، تأمل، وتدبر وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}

الشرح: {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} أي: كما فعل بقوم نوح، وقوم لوط، وأصحاب الفيل، وعاد، وثمود. {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أي: كما أغرق فرعون، وخسف بقارون. وقيل: من {فَوْقِكُمْ:} أكابركم، وحكامكم. {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ:} سفلتكم، وعبيدكم.

ولا وجه له. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً:} يخلطكم فرقا متحزبين على أهواء شتى، فيتسبب القتال بينكم.

وفي الخازن: {شِيَعاً} جمع شيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر. فهم شيعة، وأشياع، وأصله من التشيع، ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضا. وقيل: الشيعة هم الذين يتوقى بهم الإنسان. انتهى.

وفي القاموس: وشيعة الرجل-بالكسر-: أتباعه، وأنصاره، والفرقة على حدة، وتقع على الواحد، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث. وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليّا وأهل بيته، حتى صار اسما لهم خاصة. والجمع: أشياع، وشيع، كعنب. انتهى.

{وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ:} يعني: يقتل بعضكم بعضا، هذا هو ما عليه المسلمون في هذه الأيام من الاختلافات، وسفك بعضهم دماء بعض.

قال الخازن: ثم اختلف المفسرون فيمن عنى الله بهذه الآية، فقال قوم: عنى بها المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيهم نزلت هذه الآية. قال أبو العالية: هن أربع صفات ذكرت في الآية الكريمة، وكلهن عذاب، فجاءت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعا، وأذيق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان، وهما لا بد واقعتان، يعني: الخسف، والمسخ.

عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك. {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: أعوذ بوجهك. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: هذا أهون، أو هذا أيسر» . رواه البخاري.

وعن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه: أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية، دخل، فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا به طويلا، ثم انصرف

ص: 313

إلينا، فقال:«سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسّنة (الجدب) فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» . متفق عليه.

وعن خباب بن الأرت-رضي الله عنه-قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، فأطالها، فقالوا:

يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها! قال:«أجل إنّها صلاة رغبة، ورهبة، إنّي سألت الله فيها ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمّتي بسنة (جدب وقحط) فأعطانيها، وسألته أن لا يسلّط عليهم عدوّا من غيرهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» . أخرجه الترمذي. انتهى خازن. {نُصَرِّفُ الْآياتِ:} نبين دلائلنا، وحجتنا لهؤلاء المكذبين، وانظر الآية رقم [46]. {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ:} يفهمون، ويعتبرون، فينزجروا عما هم عليه من الكفر، والتكذيب. وانظر «الترجي» في الآية رقم [51] والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {هُوَ الْقادِرُ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ هُوَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والمصدر المؤول من {أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً} في محل جر ب:(على) والجار والمجرور متعلقان ب: {الْقادِرُ} أي: القادر على بعث عذاب عليكم. {مِنْ فَوْقِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة: {عَذاباً،} أو هما متعلقان به، والكاف في محل جر بالإضافة.

{مِنْ تَحْتِ:} معطوفان على ما قبلهما، و {تَحْتِ:} مضاف، و {أَرْجُلِكُمْ:} مضاف إليه. {يَلْبِسَكُمْ:}

مضارع معطوف على: {يَبْعَثَ} فهو منصوب مثله، والفاعل يعود إلى (الله) والكاف مفعول به، وأصل الكلام: يلبس أموركم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. والفعل يقرأ بفتح الياء وضمها. {شِيَعاً:} حال. {وَيُذِيقَ:} مضارع معطوف أيضا على: {يَبْعَثَ،} وفاعله يعود إلى الله.

{بَعْضَكُمْ:} مفعول به أول، والكاف في محل جر بالإضافة. {بَأْسَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {بَعْضٍ:} مضاف إليه. {اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [46]. {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ:} انظر إعراب مثل هذه الجملة، ومحلها في الآية رقم [51].

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)}

الشرح: {وَكَذَّبَ بِهِ} أي: بالقرآن، أو بالعذاب؛ الذي وعدوا به. {قَوْمُكَ:} انظر الآية رقم [5/ 22]. {الْحَقُّ:} انظر الآية رقم [5/ 27]{قُلْ:} انظر «القول» في الآية رقم [2/ 26] أو [7/ 4]. {لَسْتُ:} حذفت عينه لالتقاء الساكنين: الياء والسين؛ إذ أصله: «ليس» بكسر الياء، ثم سكنت الياء للتخفيف، ولم تقلب ألفا على القياس؛ لأن التخفيف بالتسكين في الجامد أسهل من القلب، فلما اتصل بضمير رفع متحرك؛ سكنت العين، فالتقى ساكنان: الياء والسين، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار:{لَسْتُ} . {بِوَكِيلٍ:} بحفيظ، وكل إلي أمركم، فأمنعكم

ص: 314

من التكذيب، أو أجازيكم، إنما أنا منذر، والله الحفيظ، وإذا عرفت: أن السورة مكية؛ فيكون هذا الحكم منسوخا بآية القتال المدنية.

الإعراب: (كذب): ماض. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {قَوْمُكَ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الْحَقُّ} في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالباء، والرابط: الواو والضمير. {لَسْتُ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان ب: (وكيل) بعدهما، وجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال منه: كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {بِوَكِيلٍ:} الباء:

حرف جر صلة. (وكيل): خبر ليس منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ لَسْتُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}

الشرح: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ:} لكل خبر أخبر به القرآن من العذاب، والإيعاد بالانتقام من المشركين، والمعاندين وقت يقع فيه المذكور، لا يقدم، ولا يؤخر، سواء أكان ذلك في الدنيا، أو في الآخرة. وكذلك ما أخبر به القرآن من النصر، وعلو الشأن للمؤمنين فله وقت وقوع محدد لا يقدم ولا يؤخر، وانظر:{يُنَبِّئُهُمُ} في الآية رقم [5/ 14]. {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: ترون تحقيق ما ذكر من الوعد والوعيد، وفيه تهديد لا يخفى للكفارة والمعاندين. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {لِكُلِّ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و (كل) مضاف، و {نَبَإٍ:} مضاف إليه.

{مُسْتَقَرٌّ} مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية مستأنفة، وعلى مذهب الأخفش فهو فاعل بالجار والمجرور. (سوف): حرف استقبال). {تَعْلَمُونَ:} فعل وفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

{وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (68)}

الشرح: {يَخُوضُونَ فِي آياتِنا} أي: يكذبون، ويستهزءون بها، ويطعنون فيها. وانظر:{آيَةٍ} في الآية رقم [4]. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} . فلا تجالسهم، وقم عنهم. {حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي: حتى يأخذوا في حديث غير حديث الاستهزاء بآيات الله. هذا؛ والخوض: الدخول في الشيء كالماء ونحوه، وهنا استعير للحديث بالباطل، والبهتان، والافتراء. وينبغي أن تعلم: أن هذه الآية مكية،

ص: 315

فهي تنهى المسلمين عن مجالسة المشركين، وأما آية (النساء) رقم [140] فهي مدنية تنهى المسلمين عن مجالسة اليهود، والمنافقين، انظرها هناك. {وَإِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ:} بوسوسته النهي عمّا أمرت به من ترك مجالسة الخائضين بعد تذكرك له، فلا تقعد بعد ذلك معهم. هذا؛ ويقرأ الفعل بتشديد النون، وتخفيفها، وبتشديد السين، وتخفيفها. وانظر «النسيان» في الآية رقم [5/ 14]. {الشَّيْطانُ:}

انظر الاستعاذة. {مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} أي: معهم، فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب، والاستهزاء موضع التصديق، والاستعظام، وانظر شرح {الْقَوْمِ} في الآية رقم [5/ 22] والظالمين في الآية رقم [144] وانظر شرح:(غير) في سورة (الفاتحة).

الإعراب: {وَإِذا:} انظر الآية رقم [25]. {رَأَيْتَ:} فعل وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]. {الَّذِينَ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{يَخُوضُونَ فِي آياتِنا:} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{رَأَيْتَ..} . إلخ في محل جر بإضافة إذا إليها على القول المشهور المرجوح، وجملة:(أعرض عنهم): جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{يَخُوضُوا} مضارع منصوب بأن مضمرة بعد {حَتّى،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي حَدِيثٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{غَيْرِهِ:} صفة: {حَدِيثٍ،} والهاء في محل جر بالإضافة. (إما) هذه: (إن) الشرطية مدغمة في (ما) الزائدة. {يُنْسِيَنَّكَ:} مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، أو الخفيفة على القراءتين في محل جزم فعل الشرط، والكاف مفعول به. {الشَّيْطانُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا) ناهية. {تَقْعُدْ:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول لا محل لها.

{بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. و {بَعْدَ:} مضاف، و {الذِّكْرى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و {مَعَ:} مضاف، و {الْقَوْمِ:} مضاف إليه. {الظّالِمِينَ:} صفة {الْقَوْمِ} مجرور مثله

إلخ. والجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها.

{وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}

الشرح: {وَما عَلَى الَّذِينَ..} . إلخ: أي: ليس حساب المشركين الذين يخوضون في آيات الله على المتقين، ولا يسألون عن شيء من أعمالهم القبيحة، وإن جالسوهم، وحادثوهم.

ص: 316

{وَلكِنْ ذِكْرى} أي: ولكن عليهم أن يعظوهم، ويذكروهم بآيات الله لعلهم ينتهون عن شركهم، وعن استهزائهم بالمؤمنين، وعن تكذيبهم بآيات الله. هذا؛ وانظر (التقوى) في الآية رقم [5/ 35] وشرح {شَيْءٍ} في الآية رقم [5/ 19]. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ:} انظر الآية رقم [51].

تنبيه: لما نزلت الآية السابقة قال المسلمون: لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، ونطوف به، فنزلت هذه الآية.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما) نافية. {عَلَى الَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {يَتَّقُونَ:} فعل وفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول. {مِنْ حِسابِهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من {شَيْءٍ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {مِنْ:} حرف جر صلة، {شَيْءٍ:} مبتدأ مؤخر، أو اسم ما على اعتبارها عاملة عمل «ليس» فهو مرفوع على الاعتبارين، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة لا محل لها. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف، (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {ذِكْرى:} مفعول مطلق عامله محذوف، التقدير: ولكن ذكروهم ذكرى، أو هو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: ولكن عليهم، أو عليكم ذكرى، أي: تذكيرهم، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، أي: هو ذكرى، فالأوجه ثلاثة، وجوز رابع، وهو العطف على موضع:{شَيْءٍ} المجرور، فهو عطف مفرد على مفرد، وأما على الأوجه السابقة، فهو من عطف الجمل. انتهى جمل نقلا عن السمين. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [51].

{وَذَرِ الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)}

الشرح: {وَذَرِ:} اترك، وهذا الفعل لم يأت منه ماض، وانظر الآية رقم [7/ 70] تجد ما يسرك. {لَعِباً:} انظر الآية رقم [32] والمعنى: أعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين الذين جعلوا ديانتهم وعبادتهم مبنية على التشهي، يحلون، ويحرمون حسب أهوائهم. {وَغَرَّتْهُمُ:}

خدعتهم، وشغلتهم عن الإيمان بالله وحده. {الْحَياةُ الدُّنْيا:} انظر الآية رقم [32]. {وَذَكِّرْ بِهِ} أي: بالقرآن الكريم. {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ:} أن تهلك، وترهن بسوء عملها، وأصل الإبسال والبسل المنع، ومنه: أسد باسل؛ لأن فريسته لا تفلت منه، والباسل: الشجاع؛ لامتناعه من

ص: 317

قرنه. وهذا بسل، أو بسيل عليك، أي: حرام ممنوع. وانظر شرح: {نَفْسٌ} في الآية رقم [/9 2] أو [7/ 9]. {بِما كَسَبَتْ:} بما عملت من سيئات، وأوزار. {لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ،} انظر الآية رقم [51] فهو مثله. {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها} أي: وإن تفد كل نفس نفسها من عذاب الله بما تملك من حطام الدنيا؛ لا يؤخذ منها، أي: لا يقبل منها، وما أحراك أن تنظر الآية رقم [5/ 41] و [3/ 91] فإنك تجد ما يسرك. {أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا:} أسلموا إلى العذاب بسبب كفرهم، وعنادهم، وأعمالهم القبيحة. {لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ:} تأكيد لعذابهم، وتحصيل لأنواعه، والمعنى: هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم، ونار تشتعل في أبدانهم بسبب كفرهم، وعنادهم. هذا؛ وانظر:{تَعْدِلْ} في الآية رقم [1] وما أحيل عليها برقم [4/ 135] وانظر: {وَعَذابٌ أَلِيمٌ} في الآية رقم [5/ 36].

{يَكْفُرُونَ:} انظر الآية رقم [5/ 41] أو [66] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {وَذَرِ:} (ذر): فعل أمر مبني على السكون، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} صلة الموصول لا محل لها، والفعل قد نصب مفعولين، أو مفعولا واحدا، فيكون:{لَعِباً} حالا، أو مفعولا لأجله، وجملة:{وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وجملة:

{وَذَكِّرْ بِهِ} معطوفة على جملة: {وَذَرِ الَّذِينَ..} . إلخ لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع، والمصدر المؤول من:{أَنْ تُبْسَلَ} في محل جر بحرف جر محذوف، و «لا» مقدرة؛ إذ التقدير: لئلا تبسل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهذا عند الكوفيين، وهو عند البصريين على حذف مضاف، التقدير: كراهة إبسالهم، فهو مفعول لأجله وانظر الشاهد رقم [48] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . {نَفْسٌ:} نائب فاعل: {تُبْسَلَ} .

{لَيْسَ:} ماض ناقص. {لَها:} متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} مقدم. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بما بعدهما على التنازع، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {وَلِيٌّ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، انظر الآية السابقة، وحذف مثله لشفيع، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ في محل رفع صفة نفس وجوز اعتبارها مستأنفة.

{تَعْدِلْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هي» يعود إلى نفس. {كُلَّ:}

مفعول مطلق، ويقال: نائب عنه، و {كُلَّ:} مضاف، و {عَدْلٍ:} مضاف إليه. {لا:} نافية.

{يُؤْخَذْ:} مضارع مبني للمجهول، وهو جواب الشرط مجزوم، ونائب الفاعل يعود إلى:{عَدْلٍ} {مِنْها:} متعلقان به، وجملة:{تَعْدِلْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية

إلخ، وجملة:{لا يُؤْخَذْ مِنْها} لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، والجملة الشرطية:{وَإِنْ تَعْدِلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في

ص: 318

محل رفع خبر المبتدأ. {أُبْسِلُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1] والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {بِما:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: كسبوه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بكسبهم. هذا؛ وإعراب: {بِما كَسَبَتْ} مثل: {بِما كَسَبُوا} تقديرا، وتأويلا، وتعليقا، وغير ذلك بلا فارق {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شَرابٌ:} مبتدأ مؤخر. {مِنْ حَمِيمٍ:}

متعلقان بمحذوف صفة: {شَرابٌ} . (عذاب): معطوف على: {شَرابٌ} عطف مفرد على مفرد.

{أَلِيمٌ:} صفته. والجملة الاسمية: {لَهُمْ شَرابٌ..} . إلخ في محل رفع خبر ثان ل: {أُولئِكَ،} ويجوز أن تكون في محل نصب حال من واو الجماعة في: {أُبْسِلُوا} والرابط الواو فقط، وجوز اعتبارها مستأنفة لا محل لها، وهذا وجوز اعتبار:{الَّذِينَ} بدلا من: {أُولئِكَ} أو نعتا له، فيتعين حينئذ أن تكون الجملة الاسمية:{لَهُمْ شَرابٌ} خبرا ل: {أُولئِكَ} . {بِما كانُوا يَكْفُرُونَ:} إعراب هذه مثل إعراب: {بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} في الآية [30] والجار والمجرور: {بِما..} . إلخ على جميع الاعتبارات متعلقان ب: {شَرابٌ} أو ب (عذاب) على التنازع أيضا.

{قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى اِئْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمتعلق محذوف، أي: قل لهؤلاء المشركين عبدة الأصنام، وعلق مثله في كل ما تقدم، وما يأتي أيضا، وانظر «القول» في الآية رقم [7/ 4].

{أَنَدْعُوا:} أنعبد. {مِنْ دُونِ اللهِ..} . إلخ: أي: أنعبد الأصنام التي لا تنفع، ولا تضر. وانظر (دون) في الآية رقم [7/ 2]. {وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ..}. إلخ: نرجع إلى الشرك، وعبادة الأصنام بعد أن منّ الله علينا بالإيمان، والتعبير عن ذلك بالرد على الأعقاب لزيادة التقبيح؛ إذ الأعقاب جمع عقب، وهو مؤخر القدم. ففيه استعارة لا تخفى. {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ..}. إلخ: أي حالنا إن رجعنا إلى الشرك كحال من ذهبت به مردة الجن، فألقته في أرض فلاة، مترامية الأطراف، فهو حيران لا يدري أن يذهب، وماذا يفعل؟ {لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا:}

لذلك الحيران الذي استهوته الشياطين رفقة يدعونه إلى الطريق المستقيم، ويقولون له:{اِئْتِنا} .

{قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى} أي: إن الدين الإسلامي هو الهدى والنور، وما عداه من الأديان ضلال، وانظر الآية رقم [3/ 73]. (أمرنا

) إلخ: أمرنا الله أن نسلم وجوهنا وننقاد لأوامره.

ص: 319

(رب العالمين): انظر سورة (الفاتحة)، وانظر شرح:{أَصْحابٌ} في الآية رقم [5/ 29] وانظر (أتى) في الآية رقم [4] وانظر شرح: (الشيطان) في الاستعاذة.

تنبيه: قال سليمان الجمل: قيل: نزلت الآية الكريمة في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام. فتوجه الأمر حينئذ للإيذان بما بينه وبين الصديق من الاتصال، والاتحاد تنويها بشأن الصديق. وفي البيضاوي إشارة إلى ذلك.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَنَدْعُوا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. (ندعو): مضارع مرفوع، متعلقان بالفعل قبلهما، و {دُونِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{لا يَنْفَعُنا:} صلة {ما،} أو صفتها، وجملة:{وَلا يَضُرُّنا:} معطوفة عليها، والعائد أو الرابط هو رجوع الفاعل في الجملتين إلى ما، و (نا): مفعول به، وجملة:

{أَنَدْعُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا} معطوفة على جملة: {أَنَدْعُوا..} . إلخ فهي مثلها في محل نصب مقول القول، وهي داخلة في حكم الإنكار والنفي، والجار والمجرور متعلقان بالفعل نرد، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، وجوز اعتبار الجملة في محل نصب حال، على تقدير:«ونحن نرد على أعقابنا» وفيه تكلف. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وبعد مضاف، و {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وجملة:

{هَدانَا اللهُ:} في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {كَالَّذِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، أي: نرد ردّا كائنا مثل رد الذي استهوته. وهو مذهب أبي البقاء، وغيره في مثل هذا التركيب، ومذهب سيبويه في مثله النصب على الحال من المصدر المفهوم من الفعل المتقدم على طريق الاتساع، فيكون التقدير: ونرد على مثل هذه الحالة. هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما فالمحل على الوجهين، وتكون مضافة والذي مبنيّا على السكون في محل جر بالإضافة. {اِسْتَهْوَتْهُ:} ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الشَّياطِينُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {حَيْرانَ:} حال من الضمير المنصوب. {فِي الْأَرْضِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال أولى من الضمير المنصوب.

وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {حَيْرانَ،} أو من الضمير المستتر فيه، {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَصْحابٌ:} مبتدأ مؤخر، وجملة:{يَدْعُونَهُ} في محل رفع صفة أصحاب، والجملة الاسمية:{لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ} مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الضمير في:{حَيْرانَ} . وقيل: هي بدل من الحال التي قبلها، ولا وجه له. {إِلَى الْهُدَى:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {اِئْتِنا:} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهو الياء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، انظر

ص: 320

الشرح، والجملة الفعلية المقدرة في محل نصب حال من واو الجماعة، أي: يدعونه إلى الهدى قائلين له: {اِئْتِنا} . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هُدَى:} اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، و {هُدَى:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْهُدَى:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ}. هذا؛ ويجوز اعتبار:{هُوَ} ضمير فصل لا محل له. والجملة الاسمية: {إِنَّ هُدَى..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

(أمرنا): ماض مبني للمجهول مبني على السكون، و (نا): في محل رفع نائب فاعله. {لِنُسْلِمَ:}

مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وجوز اعتبار اللازم زائدة قائمة مقام «أن» المصدرية، فعلى الأول تؤول «أن» المضمرة مع الفعل بمصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ويكون المفعول به محذوفا، التقدير: وأمرنا بالإخلاص لإسلام وجوهنا لرب إلخ. وعلى الثاني تؤول أن التي حلت اللام محلها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: أمرنا بالإسلام. {لِرَبِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (رب):

مضاف، و {الْعالَمِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:

(أمرنا

إلخ) معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول.

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاِتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)}

الشرح: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ:} انظر شرح: {الصَّلاةَ} في الآية رقم [4/ 103] ومعنى {أَقِيمُوا الصَّلاةَ:} أدوها في أوقاتها، وحافظوا على طهارتها، وركوعها، وسجودها، وخشوعها، ومن لم يؤدها على الوجه الأكمل، يقال عنه: صلى، ولا يقال: أقام الصلاة. {وَاتَّقُوهُ:} انظر الآية رقم [5/ 35]. {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: يجمع الخلائق بعد خروجهم من قبورهم إلى الله؛ ليحاسبهم على أعمالهم. هذا؛ وفي الكلام هنا التفات من التكلم في الآية السابقة إلى الخطاب في هذه الآية، وانظر الالتفات في الآية رقم [6].

الإعراب: {وَأَنْ:} (أن): حرف مصدري. {أَقِيمُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {الصَّلاةَ:} مفعول به.

{وَاتَّقُوهُ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله، و (أن) المصدرية، والفعل {أَقِيمُوا} في تأويل مصدر معطوف على المصدر المؤول:{لِنُسْلِمَ} في الآية السابقة، فهو في محل جر مثله.

التقدير: وأمرنا بإقامة الصلاة. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.

{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل

ص: 321

بعدهما. {تُحْشَرُونَ:} مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}

الشرح: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} انظر الآية رقم [1]. {بِالْحَقِّ:} انظر الآية رقم [5/ 30]. {وَيَوْمَ:} انظر الآية رقم [128]. {يَقُولُ:} انظر «القول» في الآية رقم [/4 7]. {كُنْ فَيَكُونُ} أي: أحدث، فيحدث، وليس المراد حقيقته: أمر، وامتثال، بل هو تمثيل ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور، والمطيع بلا توقف. انتهى بيضاوي. انظر ما ذكرته في الآية رقم [117] من سورة (البقرة) فهو جيد.

الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر كما في الآية السابقة، والجملة الفعلية:{خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ:} صلة الموصول لا محل لها. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: خلق السموات والأرض خلقا ملتبسا بالحق. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، التقدير: محقّا، والأول أقوى معنى، وأتم سبكا. (يوم): مفعول به لفعل محذوف، التقدير: واذكر يوم يقول

إلخ، وعليه فالجملة فعلية، وهي مستأنفة لا محل لها، وقال أبو البقاء: فيه جملة أوجه: أحدها: هو معطوف على الهاء في (اتقوه) أي: واتقوا عذاب يوم يقول.

والثاني: هو معطوف على السموات، أي خلق يوم يقول. والثالث: هو خبر {قَوْلُهُ الْحَقُّ} أي:

وقوله الحق يوم يقول، والواو داخلة على الجملة المقدم فيها الخبر، والحق صفة قوله. والرابع:

هو ظرف لمعنى الجملة التي هي: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} أي: يحق قوله في يوم، يقول: كن. والخامس:

هو منصوب على تقدير: اذكر. وأرى أن هذا هو الجدير بالاعتبار، والأوجه الأربعة المتقدمة ظاهر فيها التكلف، والتعسف. {يَقُولُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {كُنْ:} فعل أمر تام، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {فَيَكُونُ:} الفاء: حرف عطف. (يكون): مضارع تام، وفي فاعله أوجه: أحدها: أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة. الثاني: أنه ضمير الصور المنفوخ فيها، ودل عليه قوله:{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} . والثالث: أنه ضمير اليوم، أي: فيكون ذلك اليوم العظيم. والرابع: أن الفاعل هو: {قَوْلُهُ} و {الْحَقُّ} صفته، أي: فيوجد قوله الحق، ويكون الكلام على هذا قد تم على الحق. انتهى جمل نقلا عن السمين. ومثله في العكبري، والجملة الفعلية على جميع هذه الاعتبارات معطوفة على جملة:{يَقُولُ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها، وإن اعتبرتها خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير:«فهو يكون» يصح على بعض الاعتبارات في الفاعل،

ص: 322

ولا يصح على بعضها. تأمل جيدا، وتفهم حقّا؛ يتوضح لك ذلك. هذا؛ وقرأ ابن عامر في الآية رقم [2/ 117] بالنصب، كما رأيته هناك، وضعفه أبو البقاء، وبينات سبب ضعفه هناك، فارجع إليه إن شئت. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الشرح: هذا الكلام متصل بالآية السابقة. ومعنى {قَوْلُهُ الْحَقُّ} أي معنى قوله تعالى الحق الواضح الذي لا خفاء فيه، ولا اعوجاج. وله الملك يوم ينفخ في الصور. إنما أخبر عن ملكه في ذلك اليوم العظيم، وإن كان الملك له تعالى خالصا في الدنيا، والآخرة؛ لأنه لا منازع له يومئذ يدعي الملك، وأنه المنفرد بالملك يومئذ، وأن من كان يدعي الملك بالباطل من الجبابرة، والفراعنة، وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم، واعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار، وأنه لا منازع له فيه، وعلموا: أن الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا باطل وغرور.

هذا؛ والصور: قرن كهيئة البوق. قاله مجاهد، ويدل على صحته ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصّور؟ قال: «قرن ينفخ فيه» . أخرجه أبو داود، والترمذي، وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم؟ وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر، فينفخ» . فكأنّ ذلك ثقل على أصحابه، فقالوا: كيف نفعل يا رسول الله، وكيف نقول؟ فقال:«قولوا: حسبنا الله، ونعم الوكيل، على الله توكّلنا» . وربّما قال: «توكّلنا على الله» .

أخرجه الترمذي. انتهى خازن بتصرف.

وينبغي أن تعلم: أن الذي ينفخ في الصور إنما هو إسرافيل-عليه السلام-أحد الملائكة العشرة المقربين، وهو ينفخ نفختين، بينهما أربعون عاما على الصحيح، الأولى لإماتة جميع المخلوقات، والثانية لإحيائهم، وبعثهم للحساب والجزاء، خذ قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} . بعد هذا اذكر: أن الزمخشري-رحمه الله تعالى-قال: إن كل ما فاؤه نون، وعينه فاء يدل على معنى الخروج والذهاب، مثل: نفق، ونفد، ونفث، ونفخ، ونفش

إلخ. {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} أي: يعلم سبحانه ما غاب عن أبصار عباده، وما يشاهدونه، فلا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم. {الْحَكِيمُ} أي: في جميع أفعاله، وتدبير خلقه.

{الْخَبِيرُ:} بكل ما يفعلونه من خير، أو شر.

الإعراب: {قَوْلُهُ الْحَقُّ:} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، و {الْحَقُّ} نعته، وخبره قوله:

{وَيَوْمَ يَقُولُ} أي: الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، كما رأيت في الآية السابقة. والثاني: أنه

ص: 323

فاعل بقوله: {فَيَكُونُ} و {الْحَقُّ:} نعته أيضا، وقد تقدم هذان الوجهان، والثالث: أن {قَوْلُهُ الْحَقُّ} مبتدأ وخبر، أخبر سبحانه عن قوله بأنه لا يكون إلا حقّا. الرابع: أن (قول) مبتدأ أيضا، و {الْحَقُّ:} نعته، والظرف:{يَوْمَ يُنْفَخُ} متعلق بمحذوف خبره، وعليه: فقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ} جملة اسمية معترضة بين المبتدأ والخبر لا محل لها من الإعراب. انتهى جمل نقلا عن السمين، وذلك بتصرف. {وَلَهُ الْمُلْكُ} جملة اسمية معترضة على وجه رأيته، أو هي معطوفة على جملة:

{قَوْلُهُ الْحَقُّ} لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع، أو هي في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير. {يَوْمَ:} فيه أوجه أيضا:

أحدها: أنه خبر لقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} وقد تقدم هذا بتحقيقه. الثاني: أنه بدل من: {وَيَوْمَ يَقُولُ} فيكون حكمه حكم ذاك. الثالث: أنه ظرف ل: {تُحْشَرُونَ} أي: وهو الذي إليه تحشرون في يوم ينفخ في ذلك الصور. الرابع: أنه منصوب بنفس {الْمُلْكُ} أي: متعلق به لأنه مصدر، أي: وله الملك في ذلك اليوم. الخامس: أنه منصوب بالفعل {يَقُولُ} . السادس: أنه منصوب ب: {عالِمُ الْغَيْبِ} بعده، أي: متعلق به لأنه اسم فاعل، السابع: أنه منصوب بقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} انتهى جمل نقلا من السمين بتصرف مني. {يُنْفَخُ:} مضارع مبني للمجهول. {فِي الصُّورِ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {عالِمُ:}

بالرفع فيه أوجه: أحدها: أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو عالم الغيب، الثاني: أنه فاعل {يَقُولُ} أي: يوم يقول عالم الغيب. الثالث: أنه فاعل بفعل محذوف، يدل عليه الفعل المبني للمجهول، كأنه لما قال: ينفخ في الصور؛ سأل سائل، فقال: من الذي ينفخ؟ فقيل: عالم الغيب، أي ينفخ فيه عالم الغيب، أي: يأمر بالنفخ فيه. انتهى جمل نقلا عن السمين. وأجاز أبو البقاء أيضا اعتباره صفة ل: {الَّذِي} والمعتمد الأول من كل هذه الأقوال. هذا؛ ويقرأ بالجر، قال أبو البقاء: بدل من (رب العالمين) أو من الهاء في: {وَلَهُ} وهذه القراءة ليست سبعية، فلذا يظهر الضعف في الإعراب على الوجهين، و {عالِمُ:} مضاف، و {الْغَيْبِ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه تقديره هو يعود إلى (الله). {وَالشَّهادَةِ:} معطوف على ما قبله. وعلى الوجه الأول من أوجه الرفع وهو أقواها، فالجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، وهي مستأنفة على جميع الوجوه المعتبرة في:{عالِمُ} . تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)}

الشرح: {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [7/ 4]. {إِبْراهِيمُ:} ذكر فيه سبع لغات، انظرها في التفاسير، ومعناه في السريانية: أب رحيم. {آزَرَ:} لقد اختلف في هذا الاسم،

ص: 324

فقيل: هو اسم أبي إبراهيم، وله اسم آخر:«تارح» بالحاء أو بالخاء، فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان:{آزَرَ} وتارخ، مثل يعقوب، وإسرائيل اسمان لرجل واحد، فيحتمل أن يكون اسمه الأصلي {آزَرَ،} وتارح لقب له.

وقال سليمان التيمي: {آزَرَ} سب، وعيب، ومعناه في كلامهم: المعوج. وقيل: الشيخ الهرم. وقال سعيد بن المسيب، ومجاهد:{آزَرَ} اسم صنم، كان والد إبراهيم يعبده، فلقب به للزوم عبادته له. وقيل: معناه: يا عابد آزر، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.

والصحيح هو الأول. وقد أخرج البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة، وغبرة» .

فثبت بهذا: أن اسمه الأصلي: {آزَرَ،} لا تارخ، والله أعلم. انتهى خازن بتصرف كبير. هذا؛ وقد قرئ برفعه على النداء، وهو مما يؤيده. {أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً:} هذا استفهام توبيخي إنكاري، أي: أتعبد أصناما؟ وهي لا تستحق الإلهية. هذا؛ والأصنام جمع: صنم، وهو التمثال الذي يتخذ من خشب، أو حجارة، أو حديد، أو ذهب، أو فضة على صورة الإنسان، أو غيره، وهو الوثن. {وَقَوْمَكَ:} انظر الآية رقم [5/ 21]. {ضَلالٍ:} كفر، وخروج عن جادة الحق والصواب، {مُبِينٍ:} انظر الآية رقم [16]. هذا؛ وانظر (النّصب) في الآية رقم [5/ 3] و (الأنصاب) في الآية رقم [93] المائدة.

تنبيه: قال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: قد جرى المفسرون على أن آزر اسم أبيه، وهو مشكل بما تقرر في السير، من أن جميع نسبه صلى الله عليه وسلم مطهر من عبادة الأصنام، بدليل قوله تعالى:{وَتَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ} . ويجاب بأن محل ذلك ما دام النور المحمدي في أصلابهم، أما بعد انتقاله منهم، فتجوز عليهم عبادة الأصنام، وغيرها، من سائر أنواع الكفر. تأمل.

تنبيه: هناك من يقول: إن آزر عم إبراهيم، وليس أباه، وكثيرا ما يطلق على العم لفظ الأب تجوزا، وكثيرا ما ينادي الرجل ابن أخيه، بقوله: يا بني. أقول: ينفي هذا الزعم تكرر لفظ الأبوة في القرآن الكريم، كما ترى في هذه الآية، وكما في قوله تعالى في سورة (الأنبياء):{إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} وأيضا في سورة التوبة: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ،} وأيضا في سورة (الشعراء): {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ} وغير ذلك كثير، ولا سيما في سورة (مريم).

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر. أو هو مفعول به لهذا المقدر، وجملة:{قالَ إِبْراهِيمُ} في محل جر بإضافة (إذ) إليها. {لِأَبِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {آزَرَ:}

ص: 325

بدل مطابق من: (أبيه) أو عطف بيان عليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، ويجوز اعتباره منصوبا بفعل محذوف، التقدير: أعني {آزَرَ،} وذلك على القطع باعتباره وصفا، وليس علما. هذا؛ ويقرأ بالرفع، وفيه اعتباران:

الأول أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي هو {آزَرَ،} وذلك باعتباره وصفا، والثاني: أنه منادى بأداة نداء محذوفة، أي: يا {آزَرَ،} وذلك باعتباره علما. {أَتَتَّخِذُ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وإنكار. (تتخذ): مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَصْناماً:} مفعول به أول.

{آلِهَةً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {أَراكَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول أيضا. {وَقَوْمَكَ:} معطوف على الكاف، والكاف في محل جر بالإضافة. {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني على اعتباره علميّا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الكاف الواقعة مفعولا به، وما عطف عليها على اعتبار الفعل بصريّا. {مُبِينٍ:} صفة ضلال.

{وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)}

الشرح: {نُرِي إِبْراهِيمَ:} اختلف في هذه الرؤية. فقيل: كانت بالبصر. وقيل: كانت بالبصيرة، فمن قال بالأول قال: إن الله تعالى شق لإبراهيم-عليه الصلاة والسلام-السموات حتى رأى العرش، وشق له الأرض حتى رأى ما في بطنها. ومن قال بالثاني قال: إن هذه الرؤية كانت بعين البصيرة؛ لأن ملكوت السموات والأرض عبارة عن الملك، وذلك لا يعرف إلا بالفعل، فبان بهذا: أن هذه الرؤية كانت بعين البصيرة. انتهى خازن بتصرف. هذا؛ والملكوت: الملك، زيدت فيه التاء للمبالغة، كالرهبوت، والرغبوت، والرحموت، من الرهبة، والرغبة، والرحمة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما-يعني: خلق السموات والأرض، وقال مجاهد، وسعيد بن حبير -رحمهما الله تعالى-: يعني: آيات السموات والأرض، وذلك أنه أقيم على صخرة، وكشف له عن السموات حتى رأى العرش، والكرسي، وما في السموات من العجائب، وكشف له عن الأرض، حتى نظر إلى أسفل الأرضين، ورأى ما فيها من العجائب. وانظر شرح:{السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} في الآية رقم [1]. {الْمُوقِنِينَ:} جمع: موقن، وأصله: مؤيقن؛ لأنه من: أيقن، فحذفت الهمزة من مضارعه، كما تعرفه في الآية رقم [124] وحذفت من اسم فاعله، فصار (ميقن) ثم أبدلت الياء واوا لسكونها وانضمام ما قبلها. هذا؛ والإيقان: إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه بالاستدلال. وفي الخازن: واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال الشبهة؛ لأن

ص: 326

الإنسان في أول الحال، لا ينفك عن شبهة وشك، فإذا كثرت الدلائل، وتوافقت صارت سببا لحصول اليقين، والطمأنينة في القلب، وزالت الشبهة عند ذلك. انتهى. وينبغي أن تعلم أن اليقين من: يقن الثلاثي، وأما الإيقان فإنه من أيقن الرباعي. تأمل، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف عامله الفعل الذي بعده، التقدير: نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض رؤية كائنة مثل رؤيته ضلال أبيه. أو عامله محذوف قبله، التقدير: كما رأى أباه وقومه في ضلال مبين أريناه ذلك. وجوز أبو البقاء تعليق الجار والمجرور بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: والأمر كائن مثل ذلك، والأول أقوى، وأعرف عند النحاة، وانظر الآية رقم [53] لتفصيل إعراب كذلك. {نُرِي:} مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل تقديره:«نحن» . {إِبْراهِيمَ:} مفعول به أول. {مَلَكُوتَ:} مفعول به ثان، و (هو) مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه. (الأرض): معطوف على سابقه. (ليكون): مضارع ناقص منصوب ب:

«أن» مضمرة بعد لام التعليل، واسمه يعود إلى {إِبْراهِيمَ}. {مِنَ الْمُوقِنِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (يكون) و «أن» المضمرة، والفعل يكون في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على جار ومجرور محذوفين، وهما متعلقان بالفعل:{نُرِي،} وتقدير الكلام: أريناه ملكوت

إلخ ليستدل على قدرة الله تعالى، وليكون من الموقنين، أي لاستدلاله، ولكينونته {مِنَ الْمُوقِنِينَ،} وجملة (كذلك

إلخ) مستأنفة على جميع الاعتبارات فيها.

{فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)}

الشرح: {جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ:} أقبل الليل على إبراهيم، وستره بظلامه، وغطاه. هذا؛ والجن ضد الإنس، والواحد جني، سموا بذلك لاستتارهم عن أعين الناس، والجنين: الولد في بطن أمه، سمي بذلك لاستتاره أيضا عن الأعين، والجنة: البستان الكثير الأشجار، سمي بذلك لأنه يستر ما فيه لكثرة أشجاره، وهي بفتح الجيم. هذا؛ والجنّة بكسر الجيم: الجنون، وسمي بذلك لأنه يغطي العقل ويذهب به، انظر الآية رقم [184] من سورة (الأعراف)، وجنّ فلان: ذهب عقله. وهو ملازم للبناء للمجهول، ويقال: أجنه الليل إجنانا، وجن عليه، يجن ويجن جنونا، وإذا قالوا: أجن؛ لم يأتوا بعلى، وإذا قالوا: جن؛ أدخلوا على، كما في الآية الكريمة، وأضيف: أن (أجن) بتخفيف النون، وضم الجيم، وكسرها بمعنى: تغير، يقال: أسن الماء، وأجن: إذا تغير طعمه، وريحه، ويقال: في صدره أجن، أي: حقد، قال الشاعر:[الطويل]

إذا كان في صدر ابن عمّك أجنة

فلا تستزدها سوف يبدو دفينها

هذا؛ وانظر شرح {اللَّيْلُ} في الآية رقم [96]. {رَأى كَوْكَباً} أي: لامعا، وهو الزهرة، أو المشتري. {هذا رَبِّي:} انظر الآية رقم [1] من سورة (الفاتحة). {أَفَلَ:} غاب. {قالَ:} انظر

ص: 327

«القول» في الآية رقم [7/ 4]. {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أي: الذين يغيبون، والمعنى: لا أرغب في عبادة الأرباب الذين يتغيرون من حال إلى حال؛ لأن ذلك من صفات الأجسام الحادثة التي يطرأ عليها الزوال، والفناء.

تنبيه: اختلف المفسرون في بيان الوقت الذي جرى لإبراهيم-عليه السلام-ما ذكر في هذه الآية، وما بعدها، فقيل: كان ذلك في سن مراهقته. وقيل: كان بعد بلوغه سن الرشد. وقيل:

كان بعد الأربعين من عمره، وهو السن الذي يمنح فيه الرسول الرسالة على الأغلب. كما اختلف في المعنى المراد من ذلك على الرأي الأخير الذي رجحه المحققون على وجوه:

الوجه الأول: أن إبراهيم-عليه السلام-أراد أن يستدرج قومه بهذا القول، ويعرفهم جهلهم، وخطأهم في تعظيم النجوم، وعبادتها؛ لأنها تتغير من حال إلى حال، وما كان بهذه المثابة لا يستحق العبادة.

الوجه الثاني: أن إبراهيم-عليه السلام-قال هذا القول على سبيل الاستفهام، والمعنى أيكون هذا ربّا؛ ودلائل النقص فيه ظاهرة؟

الوجه الثالث: أن إبراهيم-عليه السلام-قال ذلك على وجه الاحتجاج على قومه، يقول:

هذا ربي بزعمكم، فلما غاب قال: لو كان إلها كما تزعمون؛ لما غاب.

الوجه الرابع: أن في هذه الآية إضمار يقولون، أي قال: يقولون هذا ربي.

الوجه الخامس: أن الله تعالى قال في حقه: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} . ثم قال بعده: {فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} والفاء تقتضي التعقيب، فدل هذا على أن هذه الواقعة بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض بعد الإيقان، ومن كان بهذه المنزلة الشريفة العالية لا يليق بحاله أن يعبد الكواكب، أو يتخذها ربّا. انتهى خازن باختصار، وبتصرف كبير.

أقول: الوجه الخامس هو بمنزلة البرهان والدليل على صحة الوجوه الأربعة، ولا سيما الوجهين الأولين. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: ذكر المفسرون: أن شأن إبراهيم في ولادته شبيه بشأن موسى-عليه السلام-في ولادته، وأنه ربّي خفية عن النمرود الذي هو شبيه بفرعون بادعاء الألوهية، والربوبية. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [2/ 258] ففيه الكفاية.

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [44].

وجملة: {جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} ابتدائية لا محل لها على القول بحرفية (لما)، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على القول بظرفيتها. {رَأى:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {إِبْراهِيمَ}. {كَوْكَباً:} مفعول به، والجملة الفعلية جواب (لما)، لا محل لها. وقيل:

هي في محل نصب حال، وهو ضعيف معنى وتركيبا؛ لأن الجملة الماضوية إذا وقعت حالا؛

ص: 328

تكون «قد» قبلها ظاهرة أو مقدرة، وتقدير «قد» قبلها هنا غير جيد معنى. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل لها. {رَبِّي:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{هذا رَبِّي} في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها على اعتبار جملة: {رَأى كَوْكَباً} جواب (لما)، وهي جواب (لما) على اعتبار تلك في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب:«على» ، وقد رأيت ضعفه، و (لما) ومدخولها. قيل بعطفه على جملة:{قالَ إِبْراهِيمُ..} . إلخ فتكون الآية السابقة معترضة بين المتعاطفين. وقيل: معطوفة على الآية السابقة لا محل لها، ورجح الجمل الأول، وأرجح الثاني. وانظر الوجه الخامس من الشرح يظهر لك ذلك. {فَلَمّا أَفَلَ:} إعرابه مثل سابقه. {لا:} نافية. {أُحِبُّ} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:

«أنا» . {الْآفِلِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم

إلخ، والجملة الفعلية:{لا أُحِبُّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لما) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هو معطوف على ما قبله على الوجهين المعتبرين فيه.

{فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ (77)}

الشرح: {بازِغاً:} طالعا؛ إذ البزوغ: الطلوع، وبزغ، يبزغ من باب: نصر، يستعمل لازما، ومتعديا، يقال: بزغ البيطار الدابة، أي: أسال دمها، فبزغ هو، أي: سال، هذا هو الأصل، ثم قيل لكل بزوغ: طلع، ومنه: بزغ ناب الصبي، والبعير تشبيها بذلك انتهى جمل نقلا عن السمين.

{قالَ هذا رَبِّي:} انظر الآية السابقة. {أَفَلَ:} غاب. {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} أي: إن لم يثبتني ربي على الهدى. وليس المراد: أنه لم يكن مهتديا؛ لأن الأنبياء لم يزالوا على الهداية من أول الفطرة.

{لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ} أي: الكافرين. فيه تعريض لقومه بأنهم على ضلال.

قال البيضاوي: استعجز إبراهيم نفسه، واستعان بربه في درك الحق، فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه، إرشادا لقومه، وتنبيها لهم على أن القمر أيضا لتغير حاله، لا يصالح للألوهية، وأن من اتخذه إلها فهو ضال. انتهى.

الإعراب: {فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي:} إعراب هذا الكلام مثله في الآية السابقة.

و {بازِغاً:} حال من {الْقَمَرَ} ولا يصح اعتباره مفعولا ثانيا؛ لأن {رَأَى} بصرية، وليست علمية، والكلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له. {فَلَمّا أَفَلَ قالَ..}. إلخ:

ص: 329

انظر مثله في الآية السابقة. {لَئِنْ} اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم.

{لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَهْدِنِي:} مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وهو في محل جزم فعل الشرط، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {رَبِّي:} فاعل مرفوع، انظر الآية السابقة، وانظر بقية الإعراب وتفصيله في الآية رقم [63] فإنه مثله بلا فارق. والكلام:{لَئِنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله.

{فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (78)}

الشرح: {فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي:} انظر شرح هذا الكلام في الآيتين السابقتين. {هذا أَكْبَرُ} أي: جرما، وضوءا، ونفعا من جميع الكواكب، والقمر. {أَفَلَتْ:}

غابت. {يا قَوْمِ:} انظر الآية رقم [5/ 21]. {إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ} أي: بالله من الأصنام، والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث. هذا؛ وقد ذكّر المبتدأ في الجملة:{هذا رَبِّي} و {هذا أَكْبَرُ} وهو اسم الإشارة مع كونه عائدا إلى الشمس، وهي مؤنث لتذكير خبره، وهو:(ربي):

وصيانة للرب عن شبهة التأنيث، ولهذا قالوا في صفات الله تعالى: علام، ولم يقولوا: علامة، وإن كان الثاني أبلغ، تفاديا من علامة التأنيث، وانظر:{بَراءَةٌ} في الآية رقم [1] من سورة (التوبة).

الإعراب: {فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي} انظر إعراب هذا الكلام في الآيتين السابقتين. {هذا أَكْبَرُ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول أيضا.

{فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ:} انظر الآيتين السابقتين، وكل ما في هذه الآية معطوف على ما قبله، والاستئناف ممكن. {يا قَوْمِ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [5/ 21] ففيه الكفاية، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول، والجملة الاسمية:{إِنِّي بَرِيءٌ} في محل نصب مقول القول أيضا. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {بَرِيءٌ،} و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء تشركونه مع الله في عبادته، وانظر ما بينات به (من) في الشرح، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(من)، التقدير: إني بريء من إشراككم. ولعلك تدرك معي: أن هذا أوضح من التقديرين السابقين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 330

{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}

الشرح: بعد أن أثبت إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-بالدليل القطعي العقلي بطلان عبادة الكواكب، والشمس، والقمر، وأعلن براءته من عبادتها توجه إلى الله بهذا الكلام؛ الذي فيه قصر العبادة على خالق السموات والأرض. والمراد ب:(الوجه) في هذه الآية: جميع البدن، وانظر:{فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} في الآية رقم [1] و [14]. {حَنِيفاً} أي: مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق، قال الشاعر:[الوافر]

ولكنّا خلقنا إذ خلقنا

حنيفا ديننا عن كلّ دين

هذا؛ والحنف: الميل في القدمين. {وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} تعريض بقومه بأنهم كافرون مشركون لعبادتهم الكواكب، وهي لا تضر، ولا تنفع.

الإعراب: {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها.

{وَجَّهْتُ:} فعل وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]. {وَجْهِيَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {لِلَّذِي:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} صلة الموصول، والعائد الفاعل المستتر. {حَنِيفاً:} حال من تاء الفاعل. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية مهملة، أو هي عاملة عمل:«ليس» . {أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو في محل رفع اسم (ما). {مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، أو بمحذوف خبر (ما)، والجملة الاسمية على الوجهين في محل نصب حال من تاء الفاعل أيضا، والرابط: الواو والضمير، وجملة:{وَجَّهْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي وَجَّهْتُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)}

الشرح: {وَحاجَّهُ قَوْمُهُ:} جادلوه، وخاصموه في دينه، وتوحيده، وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء؛ إن تركها، وانظر شرح:{قَوْمُهُ} في الآية رقم [5/ 21]. {قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ} أي: أتجادلونني في توحيد الله، وإيماني به. هذا؛ وقد قرئ بتشديد النون، وتخفيفها، فعلى الأول تكون نون الوقاية قد أدغمت في نون الرفع بعد تسكينها، وعلى الثاني تكون قد حذفت

ص: 331

إحدى النونين على اختلاف في المحذوف منهما، انظر الكلام على الشاهد [1049] من كتابنا:

«فتح القريب المجيب» . هذا؛ ويجري في: {تَأْمُرُونِّي} من سورة (الزمر) ما جرى في:

{أَتُحاجُّونِّي} قراءة، وحذفا، وانظر «القول» في الآية رقم [7/ 4]. {اللهِ:} انظر الاستعاذة.

{وَقَدْ هَدانِ:} إلى التوحيد والعبادة، وهو يقرأ بحذف ياء المتكلم، وإثباتها. {وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ} أي: لا أخاف معبوداتكم؛ التي تهددونني بها؛ لأنها لا تضر، ولا تنفع؛ لأنهم قالوا له: إنا نخاف أن تمسّك الأصنام بخبل، أو جنون لعيبك إياها. {إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً:}

إلا أن يقدّر عليّ ربي أن يصيبني بمكروه من جهتها. {يَشاءَ:} انظر الآية رقم [5/ 18].

{رَبِّي:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1]. {شَيْئاً:} انظر الآية رقم [5/ 19]. {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي: إن الله بكل شيء عليم، فلا يصيب عبدا شيء من ضر، أو نفع إلا بعلمه، وتقديره، ومشيئته. {أَفَلا:} انظر الآية رقم [5/ 107] فإنه جيد. {تَتَذَكَّرُونَ:} تتعظون، فتميزوا، وتفرقوا بين الصحيح، والفاسد، والقادر، والعاجز.

تنبيه: قال البغوي: لما رجع إبراهيم إلى أبيه، وصار من الشباب بحالة تسقط عنه طمع الذابحين، أي:(وهذا بناء على ما ذكرته لك من أنه ولد خفية، وربّي خفية) وضمه آزر إلى نفسه، جعل آزر يصنع الأصنام، ويعطيها إبراهيم ليبيعها، فيذهب وينادي من يشتري ما يضره، ولا ينفعه؟ فلا يشتريها أحد، فإذا بارت عليه؛ ذهب بها إلى نهر، فصوب فيه رءوسها، وقال:

«اشربي» استهزاء بقومه، وبما هم فيه من الضلالة، حتى فشا استهزاؤه بها في قومه، وأهل بلدته (حاجّه قومه) يعني: خاصمه قومه، وجادلوه في أمر دينه. انتهى خازن.

وما أحراك أن تنظر المناظرة بينه، وبين النمرود في الآية رقم [258](البقرة) وانظر النتيجة الحاسمة بينه، وبين قومه في سورة (الأنبياء)، إن كنت من أهل القرآن.

الإعراب: (حاجه): ماض، ومفعوله. {قَوْمُهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الوجهين. {أَتُحاجُّونِّي:}

الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. (تحاجوني): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والنون للوقاية، وانظر القراءتين في الشرح، والواو فاعله، وياء المتكلم مفعوله. {فِي اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {هَدانِ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المقدرة، أو الثابتة على حسب القراءتين في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو والضمير. وقيل: في محل نصب حال من ياء المتكلم، وتقدير الحال في الأول: هاديا لي. وفي

ص: 332

الثاني: مهديّا من عنده، أي: حال كوني مهديّا من عنده. (لا): نافية. {أَخافُ:} مضارع، وفاعله أنا. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء. وعلى الثالث تؤول (ما) مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: ولا أخاف إشراككم بالله، والجملة الفعلية هذه يجوز أن تكون مستأنفة، ويحتمل أن تكون في محل نصب حال باعتبارين: أحدهما: أن تكون حالا ثانية معطوفة على الأولى، فيكون الحالان من الياء في:{أَتُحاجُّونِّي} والثاني: أنها حال من ياء المتكلم في:

{هَدانِ،} فتكون جملة حالية من بعد جملة حالية، فهي قريبة من الحال المتداخلة، إلا أنه لا بد من إضمار مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع لما تقدم من أن الفعل المضارع المنفي ب:

«لا» حكمه حكم المثبت، من حيث أنه لا تباشره الواو. انتهى.. جمل نقلا عن السمين

{إِلاّ:} حرف حصر، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً،} في محل رفع مبتدأ، وخبره محذوف، وتقدير الكلام: لكن مشيئة الله إياي بضر أخافها. والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، وهذا الاستثناء يسمى منقطعا. هذا؛ وجوز اعتباره متصلا؛ لأنه من جنس الأول، والمستثنى منه الزمان، كما أشار إلى ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله:

«لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة أو مضرة إلا وقت مشيئة ربي شيئا» .

وقواه الجمل بقوله: وهو أظهر القولين. {شَيْئاً:} مفعول به. وقيل: نائب مفعول مطلق.

{وَسِعَ:} ماض. {رَبِّي:} فاعل مرفوع

إلخ. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {عِلْماً:} تمييز، وجوز اعتباره مفعولا مطلقا عامله:{وَسِعَ؛} لأن معناه: علم، والأول أولى، وأقوى، والجملة الفعلية:{وَسِعَ..} . إلخ كالتعليل للاستثناء؛ إذ المعنى فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه بسبب من الأسباب؛ لأنه أحاط بكل شيء علما. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام. الفاء: حرف استئناف. (لا): نافية. {تَتَذَكَّرُونَ:}

فعل وفاعل. والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وانظر ما قيل في قوله تعالى {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} في الآية رقم [107](المائدة) فإنه مثل هذه الآية بلا فارق.

{وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)}

الشرح: {أَخافُ:} الخوف: الفزع، وانظر الخوف في الآية رقم [155] (البقرة) تجد ما يسرك. {سُلْطاناً:} حجة، وبرهانا، والمعنى: كيف أخاف الأصنام التي تعبدونها، وهي جمادات لا تضر، ولا تنفع، ولا تبصر، ولا تسمع، وأنتم لا تخافون الله، وقد أشركتم به ما

ص: 333

ليس فيه حجة وبرهان، وهو أعظم الذنوب. {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أي: من الأولى بالأمن من العذاب {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وتفهمون، الموحدون، أم المشركون. هذا؛ والفريق: الطائفة من الناس، وهو أكثر من الفرقة، قال تعالى:{فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} وقال جل شأنه: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ،} والفريق: اسم جمع لا واحد له من لفظه كرهط، وقوم.

الإعراب: {وَكَيْفَ:} الواو: حرف استئناف. (كيف): اسم استفهام، وتعجب مبني على الفتح في محل نصب حال، عامله ما بعده. {أَخافُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {ما:} تحتمل الموصولة والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف مع المتعلق، التقدير: ما أشركتموه بالله، وعلى الثالث تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: أخاف إشراككم بالله غيره. {أَنَّكُمْ:}

حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {أَشْرَكْتُمْ:} فعل، وفاعل. {بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ..} . إلخ يجوز فيها أن تكون معطوفة على ما قبلها، فتكون داخلة في حيز التعجب، والإنكار، وأن تكون في محل نصب حال، التقدير: وكيف أخاف الذي تشركون به حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم؟! ولا بد من تقدير المبتدأ قبل المضارع المنفي ب: (لا)، كما رأيت في الآية السابقة، والحال من تاء الفاعل، والرابط:

الواو، والضمير. {فَأَيُّ:} الفاء: حرف استئناف. (أي): اسم استفهام مبتدأ، وهو مضاف، و {الْفَرِيقَيْنِ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة لأنه مثنى. {أَحَقُّ:} خبر المبتدأ. {بِالْأَمْنِ:} متعلقان ب: {أَحَقُّ} لأنه اسم تفضيل، والجملة الاسمية:{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ:} انظر ما يشبهها في الآية رقم [40].

بعد هذا ينبغي أن تعلم: أن الآية بكاملها، والآية التي قبلها كل ذلك من مقول إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}

الشرح: {وَلَمْ يَلْبِسُوا:} لم يخلطوا، وانظر الآية رقم [9]. {إِيمانَهُمْ:} انظر الآية رقم [/96 5]. {بِظُلْمٍ:} المراد به هنا الشرك؛ لما روي: أنه لما نزلت الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال-عليه الصلاة والسلام-ليس ما تظنون، إنما هو ما قال لقمان

ص: 334

لابنه: {يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . رواه البخاري، ومسلم عن ابن مسعود، رضي الله عنه. وليس الإيمان بالله أن تصدق بوجود الصانع الحكيم، وتخلط بهذا التصديق الإشراك به. وقيل: المعصية. {لَهُمُ الْأَمْنُ:} من عذاب الله، ومن سخطه في الدنيا، والآخرة.

{مُهْتَدُونَ:} موفقون إلى طريق الخير، والسداد، والهدى والرشاد. هذا؛ وقد اختلف: هل الآية الكريمة من تتمة كلام إبراهيم، أو من كلام الله تعالى؟ ويختلف الإعراب على القولين.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

هم الذين. وهذا على اعتباره من تتمة كلام إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، وأما على الاعتبار الثاني، فهو مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلته، والجملة الفعلية:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ} معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها، وجوز اعتبارها في محل نصب حال من واو الجماعة، فيكون الرابط: الواو، والضمير. {بِظُلْمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {إِيمانَهُمْ}. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب. {لَهُمُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْأَمْنُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {أُولئِكَ} والجملة الاسمية والتي قبلها في محل نصب مقول القول، أي: قال: «هم الذين

» إلخ، وهذا على اعتباره من كلام إبراهيم، وأما على اعتباره من كلام الله تعالى-أي: غير محكي-ففي خبره أوجه: أحدها: أن الجملة الاسمية: {أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} في محل رفع خبر: {الَّذِينَ} . الثاني: أن يكون: {أُولئِكَ} بدلا، أو عطف بيان، والجملة الاسمية:{لَهُمُ الْأَمْنُ} في محل رفع خبر: {الَّذِينَ} . الثالث: أن {لَهُمُ} خبر: {الَّذِينَ،} و {الْأَمْنُ} فاعل بالجار والمجرور، والمعتمد الأول من الثلاثة، والجملة:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها على اعتبارها من كلام الله تعالى، وإن اعتبرتها في محل نصب مقول القول، أي:

قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ فلست مفندا، والجملة الاسمية:{وَهُمْ مُهْتَدُونَ} في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ باللام، والرابط: الواو، والضمير.

{وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}

الشرح: {وَتِلْكَ حُجَّتُنا:} الإشارة إلى ما احتج به إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-على قومه: {فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} إلى قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . {آتَيْناها إِبْراهِيمَ:} أعطيناه إياها. أو أرشدناه. أو: علمناه إياها. وانظر شرح: {قَوْمِهِ} في الآية رقم [5/ 20]. {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ:} يقرأ بالتنوين وبالإضافة. ورفع الدرجات يكون بالعلم، والحكمة، والتقوى، والصلاح، لا بالمال ولا بمراتب الدنيا الفانية. وانظر شرح:{نَشاءُ} في الآية رقم [5/ 18]. {رَبَّكَ:} انظر

ص: 335

سورة (الفاتحة) رقم [1]. {حَكِيمٌ:} في رفعه، وخفضه، وعزه، وذله لمن يشاء. {عَلِيمٌ:}

بأحوال عباده من يستحق الرفع منهم، ومن يستحق الخفض. وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 7].

هذا؛ وقد قرئ «(يرفع)» و «(يشاء)» بالياء أيضا، ويكون في الكلام التفات، وانظره في الآية رقم [6].

الإعراب: (تلك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {حُجَّتُنا:} خبر المبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة. {آتَيْناها إِبْراهِيمَ:} ماض، وفاعله، ومفعولاه، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{حُجَّتُنا} والعامل في الحال اسم الإشارة. هذا؛ وقيل: الجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، كما قيل: إن {حُجَّتُنا} بدل من اسم الإشارة، والجملة الفعلية في محل رفع خبره. واعتمد الأول؛ لأن له نظائر في كتاب الله، مثل:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً،} {وَهذا بَعْلِي شَيْخاً،} {عَلى قَوْمِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول الأول، التقدير:«حجة على قومه» ، والجملة الاسمية:{وَتِلْكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {نَرْفَعُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:

«نحن» . {دَرَجاتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {دَرَجاتٍ} مضاف، و {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة {مَنْ،} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: نشاؤه. هذا؛ وعلى قراءة التنوين ف: {مَنْ} هو المفعول به، و {دَرَجاتٍ} يكون منصوبا بنزع الخافض، التقدير: نرفع في درجات من نشاء رفعه، وجملة:{نَرْفَعُ..} . إلخ في محل نصب حال من (نا) والرابط: الضمير فقط، وجوز اعتبارها مستأنفة، والجملة الاسمية:

{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} مستأنفة، ومقوية لمعنى الكلام السابق، لا محل لها.

{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)}

الشرح: {وَوَهَبْنا لَهُ} أي: لإبراهيم. {إِسْحاقَ:} ابنه، وكان بعد أن دبت في عروقه الشيخوخة، والعجز. وهذا معروف، ومكرر ذكره في القرآن الكريم. {وَيَعْقُوبَ:} ابن إسحاق حفيد إبراهيم وقد ولد قبل وفاة جده. {كُلاًّ هَدَيْنا} أي: كلاّ من إسحاق، ويعقوب هداهما الله للإيمان، وأنعم عليهما بنعمة النبوة، والرسالة. {وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل إبراهيم، وقد عد الله هداية نوح نعمة على إبراهيم، من حيث إنه جده، وشرف الأجداد يتعدى إلى الأحفاد، كما هو معروف في جميع العصور. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ:} الضمير لإبراهيم إذ الكلام فيه، وقيل لنوح؛ لأنه أقرب، ولأن يونس، ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم، وإنما الجميع من ذرية نوح. {وَأَيُّوبَ:} صاحب البلاء، وهو من ولد العيص بن إسحاق. {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}

ص: 336

أي: كما جزيناهم، وفضلناهم بالنبوة، والرسالة نجزي المحسنين خيرا في كل زمان، ومكان.

هذا؛ وانظر ما ذكرته في الآية [3/ 33] من حياة نوح، وعمره، وعمر إبراهيم وعمران، على نبينا وعليهم ألف صلاة وسلام، وانظر إعلال:{ذُرِّيَّةً} واشتقاقها في الآية رقم [3/ 34] فإنه جيد.

تنبيه: ذكر الله في هذه الآية: أنه وهب لإبراهيم الذرية الصالحة، ولم يقل: رزقنا، أو آتينا، أو أعطينا، مما يدل على أن الولد الصالح هبة من الله للعبد، بخلاف الولد الفاسد المفسد، فإنه نقمة، وغضب من الله على العبد، ورحم الله من قال:[الكامل]

نعم الإله على العباد كثيرة

وأجلّهنّ نجابة الأولاد

الإعراب: (وهبنا): فعل وفاعل، وانظر:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [2](المائدة). {لَهُ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {إِسْحاقَ:} مفعول به. (يعقوب): معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية:

(وهبنا

) إلخ معطوفة على الجملة الاسمية في الآية السابقة لا محل لها مثلها. {كُلاًّ:}

مفعول به مقدم. {هَدَيْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {وَنُوحاً هَدَيْنا:}

هو مثل سابقه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من {داوُدَ،} وما عطف عليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {داوُدَ:} وما بعده معطوف على (نوحا) أي: فالنصب بفعل محذوف دل عليه {هَدَيْنا} السابق. (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل الذي بعده، وتقدير الكلام:

«نجزي المحسنين جزاء كائنا مثل ذلك الجزاء الذي جازينا به إبراهيم، وذريته» . {نَجْزِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«نحن» .

{الْمُحْسِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم

إلخ، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وهي معترضة في المعنى لعطف الآية التالية على ما قبلها.

{وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ (85)}

الشرح: (زكريا ويحيى) انظر الآية رقم [38 و 3/ 39]. (عيسى): هو ابن مريم، وانظر الآية رقم [5/ 49] وفيه دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت. (إلياس) هو ابن ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران. وهو المعتمد.

الإعراب: {وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ:} هذه الأسماء معطوفة على الأسماء السابقة، فهي منصوبة بفتحة مقدرة على الألف للتعذر، ما عدا (إلياس) فإنه منصوب بفتحة ظاهرة. {كُلٌّ:}

مبتدأ، وجاز الابتداء به؛ وهو نكرة لإضافته في المعنى؛ إذ التقدير: كلهم. {مِنَ الصّالِحِينَ:}

متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معترضة بين الأسماء المتعاطفة.

ص: 337

{وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86)}

الشرح: {وَإِسْماعِيلَ:} هو ابن إبراهيم من صلبه، وإنما أخر ذكره إلى هنا؛ لأنه ذكر إسحاق، وذكر أولاده من بعده على نسق واحد، فلهذا السبب أخر ذكره إلى هنا. {وَالْيَسَعَ:}

هو ابن أخطوب بن العجوز، وهو علم أعجمي دخلت عليه اللام، كما دخلت في العباس، والفضل، والوليد، واليزيد، ونحو ذلك، ويقرأ بقراءات كثيرة. {وَيُونُسَ:} هو ابن (متى) وهو صاحب الحوت الذي سأتكلم عنه-إن شاء الله تعالى-في سورة (الصافات) بالتفصيل. هذا؛ وفي نونه وسين يوسف ثلاث لغات. {وَلُوطاً:} هو ابن أخي إبراهيم، وقد هاجر معه من العراق إلى فلسطين، كما ذكر الله في سورة الأنبياء، وبعد هجرته منح الرسالة، والنبوة. {وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ} أي: كلاّ من المذكورين في الآيات الثلاث فضلهم الله، ورفع منزلتهم، وأعلى مكانتهم بالنبوة، والهدى على العالمين، عالمي زمانهم ليبقى سيدنا، وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم سيدهم، وسيد الأولين، والآخرين إلى يوم الدين. هذا؛ ويستدل بهذه الآية من يقول: إن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن العالم بفتح اللام اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملك، فيقتضي: أن الأنبياء أفضل من الملائكة.

تنبيه: ذكرت لك في الآية رقم [4/ 163] أن أبا ذر-رضي الله عنه-سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء قال: «مائة ألف، وأربعة وعشرون ألفا، قال: كم عدد الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، أول الرسل آدم، وآخرهم نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام» . هذا؛ وأربعة منهم من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ومحمد صلّى الله عليهم جميعا، وسلم. وإسماعيل مستعرب. والمذكور في القرآن منهم خمسة وعشرون، ومعرفتهم بأسمائهم واجبة على كل مسلم ومسلمة من المكلفين، وأعني بمعرفتهم: أنه لو عرض اسم رسول على مسلم؛ فيجب أن يعرف أهو من المرسلين، أم لا؟ هذا؛ وقد ذكر الله في هذه الآيات ثمانية عشر رسولا بأسمائهم من غير ترتيب، وبقي سبعة، وهم آدم، وإدريس، وشعيب، وصالح، وهود، وذو الكفل، وهو ابن أيوب المتقدم ذكره، ومحمد، فهؤلاء الخمسة والعشرون رسولا هم الذين يجب الإيمان بهم تفصيلا، وقد نظموا في قول بعضهم:[البسيط]

حتم على كلّ ذي التكليف معرفة

بأنبياء على التفصيل قد علموا

في تلك حجّتنا منهم ثمانية

من بعد عشر، ويبقى سبعة وهمو

إدريس هود شعيب صالح وكذا

ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

تنبيه: ولما أظهر إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-دينه، وغلب خصمه بالحجج القاطعة، والبراهين القوية، والدلائل الصحيحة؛ التي فهمه الله تعالى إياها، وهداه إليها؛ عدد نعمه عليه،

ص: 338

فإنه رفع ذريته في عليين، وأبقى النبوة في عقبه إلى يوم الدين، فقال تعالى:{وَوَهَبْنا لَهُ..} . إلخ، والمقصود من تلاوة هذه النعم على محمد صلى الله عليه وسلم تشريفه؛ لأن شرف الوالد يسري إلى الولد.

الإعراب: {وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً:} هذه الأسماء معطوفة على ما قبلها، فهي منصوبة مثلها. (كلاّ): مفعول به مقدم. {فَضَّلْنا:} فعل، وفاعل. {عَلَى الْعالَمِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كُلاًّ هَدَيْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها.

تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاِجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)}

الشرح: {وَمِنْ آبائِهِمْ:} هذا الكلام معطوف على: {وَنُوحاً هَدَيْنا} أي: وهدينا من آبائهم

إلخ، أو هو معطوف على قوله تعالى:{وَكلاًّ فَضَّلْنا} أي: وفضّلنا من آبائهم

إلخ.

{وَذُرِّيّاتِهِمْ:} انظر الآية رقم [3/ 34]. {وَاجْتَبَيْناهُمْ:} اصطفيناهم، واخترناهم. {وَهَدَيْناهُمْ:} تكرير مؤكد لما ذكر، وسبق. {صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:} انظر الآية رقم [5/ 18] لشرح الأول، وإعلال الثاني.

تنبيه: (من) الجارة معناها التبعيض، وهو يفيد أن بعض آبائهم لم يكن نبيّا، بل ولم يكن مهديّا، ويمثل له بآزر على ما سبق، وكذلك بعض الذرية، ويمثل له بابن نوح. عليه الصلاة، والسّلام.

الإعراب: {وَمِنْ آبائِهِمْ:} جار ومجرور معطوفان على: (نوحا)، أو على:(كلاّ) كما رأيت في الشرح، و {وَذُرِّيّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ:} معطوفان عليه أيضا، والهاء في الكل في محل جر بالإضافة، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور. {وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [3](المائدة) والجملتان معطوفتان على جملة: {كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا..} . إلخ، فهما مؤكدتان لما سبق. {إِلى صِراطٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مُسْتَقِيمٍ:} صفة صراط.

{ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)}

الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى المصدر المفهوم من الفعلين السابقين، أي: الاجتباء، والهداية. {هُدَى اللهِ:} هو توفيق الله، انظر الاستعاذة لشرح الجلالة. {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ:}

يوفق إلى الهداية من يشاء الله هدايته، وتوفيقه إلى الخير، وفيه دليل واضح على أن الله هو المتفضل، والمنعم على من وفق لطاعته، وعبادته. {وَلَوْ أَشْرَكُوا} أي: لو أشرك هؤلاء الأنبياء، أو أحد منهم مع فضلهم، وعلو شأنهم. وهذا على سبيل الفرض، والتقدير. {لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما}

ص: 339

{كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: لذهب ثواب أعمالهم هباء منثورا، ولكانوا كغيرهم من المشركين في استحقاق العقاب الشديد، والخلود في نار السعير؛ لأن الله لا يقبل مع الشرك أي عمل صالح.

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُدَى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المقصورة، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {يَهْدِي:} مضارع مرفوع

إلخ. {بِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، والفاعل يعود إلى الله تقديره:«هو» . {مَنْ:} تحتمل الموصوفة، والموصولة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يشاؤه. {مِنْ عِبادِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، ومن بيان لما أبهم في:{ما} وجملة: {يَهْدِي..} . إلخ في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، أو في محل نصب حال من:(هدى الله) والعامل في الحال اسم الإشارة، والرابط:

الضمير المجرور محلاّ بالباء. هذا؛ ويجوز اعتبار: {هُدَى اللهِ} بدلا من اسم الإشارة، فتكون الجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والمعتمد القول الثاني، انظر ما ذكرته في الآية رقم [83].

(لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجملة:{أَشْرَكُوا} مع المتعلق المحذوف لا محل لها لأنها؛ ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَحَبِطَ:} اللام: واقعة في جواب لو.

(حبط): ماض. {عَنْهُمْ:} متعلقان به. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل:(حبط)، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيء، كانوا يعملونه، وعلى الثالث تؤول ما مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: لحبط عنهم عملهم. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَعْمَلُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانُوا،} وجملة: {لَحَبِطَ عَنْهُمْ..} . إلخ جواب (لو) لا محل لها، و (لو) ومدخولها معطوف على الجملة الاسمية لا محل له مثلها، فهي مستأنفة، والمعطوف له حكم المعطوف عليه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)}

الشرح: {أُولئِكَ..} . إلخ: الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في الآيات السابقة، أو إلى من نهج نهجهم من الآباء، والذرية، وغيرهم، وليس كل واحد قد أنزل عليه كتاب، إذا فالمراد من أنزل عليهم، وهو موسى، وعيسى، وداود، ومن لم ينزل عليه كتاب، ولكن أمر بالعمل في الكتاب الذي أنزل على من قبله، وهذا يشمل جميع رسل بني إسرائيل الذين كانوا مأمورين بالعمل بما في التوراة. وانظر شرح {الْكِتابَ} في الآية [2] الأعراف. {وَالْحُكْمَ} أي: الحكمة،

ص: 340

وهي ما تكمل به نفوسهم من المعارف، والأحكام، والأخلاق. وقال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. {وَالنُّبُوَّةَ:} الرسالة. {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ} أي: فإن يكفر بالثلاثة المذكورة أهل مكة. {فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ} أي: فقد أعددنا ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها قوما يؤمنون بها. قيل: هم الأنصار، والمهاجرون، أو كل من آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. هذا؛ وانظر:{كَفَرُوا} في الآية رقم [5/ 36] وانظر: {قَوْماً} في الآية رقم [22](المائدة).

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبره، والجملة الفعلية:{آتَيْناهُمُ الْكِتابَ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (إن): حرف شرط جازم. {يَكْفُرْ:} مضارع فعل الشرط. {بِها:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع فاعل، والهاء حرف تنبيه لا محل له، وجملة:

{يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقَدْ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {وَكَّلْنا:} فعل وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 3]. {بِها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {قَوْماً:}

مفعول به. {لَيْسُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِها:}

متعلقان بما بعدهما. {بِكافِرِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (كافرين): خبر ليس مجرور لفظا منصوب محلاّ، وجملة:{لَيْسُوا..} . إلخ في محل نصب صفة {قَوْماً} وجملة: {فَقَدْ وَكَّلْنا..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

{أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)}

الشرح: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ:} الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في الآيات السابقة.

{فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ:} هذا الأمر موجه لسيد الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم بأن يسير على طريقة الرسل السابقين، وينهج نهجهم، ويتخلق بأخلاقهم والمراد ب:(هداهم) ما توافقوا عليه من التوحيد، وأصول الدين، دون الفروع المختلف فيها، فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل، ولا يمكن التأسي بهم جميعا، فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله.

والهاء في: {اِقْتَدِهْ} للسكت، وفيها قراءات كثيرة. {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي: قل: يا محمد لكفار قريش: لا أطلب منكم أجرا على ما جئتكم به من هدى، ورشاد، وفلاح، كما لم

ص: 341

يطلب غيري من الرسل أجرا من أقوامهم على ما بلغوهم إياه. {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ:} ما هو، أي: القرآن أو التبليغ، والإرشاد إلا عظة لجميع المخلوقات من الإنس، والجن.

تنبيه: احتج بالآية الكريمة بعض العلماء على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء وذلك لأن جميع خصال الكمال التي كانت متفرقة فيهم، أمر بالاقتداء بهم فيها، أي بالتخلق بها ليحوز الجميع، فكان نوح صاحب تحمل الأذى من قومه، وإبراهيم صاحب كرم، وإسحاق ويعقوب صاحبي صبر على البلاء، والمحن، وداود وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة، وأيوب صاحب صبر على البلاء، ويوسف جامعا بين الصبر والشكر، وموسى صاحب الشريعة الظاهرة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا، وإسماعيل صاحب صدق، ويونس صاحب تضرع، فأمر محمد أن يقتدي بهم، وجمع له جميع ما تفرق فيهم. انتهى جمل نقلا من الخازن بالمعنى.

الإعراب: {أُولئِكَ الَّذِينَ:} مبتدأ، وخبر، انظر التفصيل في الآية السابقة. وجملة:{هَدَى اللهُ} صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير (هداهم الله) والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {فَبِهُداهُمُ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [35]. (بهداهم): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{اِقْتَدِهْ:} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء للسكت، وهي حرف يجتلب للاستراحة عند الوقف، وجوز أبو البقاء اعتبارها هاء الضمير، ولا أراه قويّا، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا؛ فاقتد بهداهم. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لا:} نافية. {أَسْئَلُكُمْ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» والكاف مفعول به أول. {عَلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَجْراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى ما. {هُوَ:} مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل لها. {ذِكْرى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {لِلْعالَمِينَ:} متعلقان ب: {ذِكْرى} لأنه مصدر، والجملة الاسمية:{إِنْ هُوَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول أيضا.

{وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}

الشرح: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عظموه حق تعظيمه، أو: ما عرفوه حق معرفته في الرحمة، والإنعام على العباد. {إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ:} حين أنكروا الوحي، وبعثة

ص: 342

الرسل، وذلك من عظائم رحمته، وجلائل نعمته. {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى:} وهو التوراة. {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} أي: تجعلون التوراة أجزاء أجزاء، تكتبونها في دفاتر مقطعة، تظهرونها للناس، فيها ما تحبون إظهاره، وتخفون كثيرا مما فيها كنعت محمد صلى الله عليه وسلم.

هذا؛ وتقرأ الأفعال الثلاثة بالياء، والتاء. {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} أي: علمتم أشياء لم تكونوا تعلمونها، أنتم ولا أسلافكم، علمتموها من القرآن الكريم، ولم تنص التوراة عليها، فقد بين القرآن ما التبس عليكم، وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم. ونظيره قوله تعالى:{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . {قُلِ اللهُ} أي: أنزله الله. {ذَرْهُمْ:}

دعهم، واتركهم. وهذا الفعل قد أميت ماضيه، انظر الآية رقم [7/ 70]. {فِي خَوْضِهِمْ:} في باطلهم، وطغيانهم، وانظر الآية رقم [68]. {يَلْعَبُونَ:} يهزءون ويسخرون. وانظر الآية رقم [32].

{اللهَ:} انظر «الاستعاذة» . {قالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [7/ 4]. {أَنْزَلَ:} انظر الآية رقم [5/ 49]. {بَشَرٍ:} يطلق هذا اللفظ على الإنسان ذكرا كان أو أنثى، مفردا وجمعا، مثل كلمة «الفلك» تطلق على المفرد والجمع، وسمي بنو آدم بشرا لبدو بشرتهم، وهي ظاهر الجلد، بخلاف أكثر المخلوقات، فإنها مكسوة بالشعر، أو الصوف، أو الريش. {شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [5/ 19]. {الْكِتابَ:} المراد به هنا التوراة، وانظر الآية رقم [7/ 2] لشرحه. {جاءَ:}

انظر الآية رقم [5]. {مُوسى:} هو في الأصل موشى بالشين، مركب من اسمين: الماء، والشجر فالماء يقال له في العبرانية (مو) والشجر يقال له (شا) فعربته العرب، وقالوا: موسى بالسين، وسبب تسميته بذلك أن امرأة فرعون التقطته من نهر النيل بين الماء والشجر، لما رمته أمه فيه، كما هو مذكور في سورة (طه) و (القصص). {وَهُدىً:} أصله هديا، بضم الهاء، وفتح الدال، وتحريك الياء منونة، فقلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الألف والتنوين، الذي يرسم ألفا في حالة النصب بحسب الأصل، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار (هدى)، وإنما أتوا بياء أخرى لتدل على الياء المحذوفة الأصلية، بخلاف ما إذا لم يأتوا بها، وقالوا (هدا) فلا يوجد ما يدل عليها. {لِلنّاسِ:} انظر الآية رقم [5/ 32]. {قَراطِيسَ:}

جمع: قرطاس، وهو الورق الذي يكتب فيه.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في اليهود، أي: علمائهم، فقد ورد: أن مالك بن الصيف جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها:

أن الله تعالى يبغض الحبر السمين، أي: العالم الجسيم، وكان مالك المذكور كذلك، فقال:

نعم، وكان يحب إخفاء ذلك، لكن أقر لإقسام النبي عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنت حبر سمين، أي أنت مبغوض، فغضب، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال أصحابه الذين كانوا معه: ويحك، ولا على موسى، فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فلما سمعت اليهود تلك المقالة؛ عتبوا عليه، وقالوا: أليس الله أنزل التوراة على موسى، فلم قلت هذا؟! قال:

ص: 343

أغضبني محمد فقلته، فقالوا: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق، فعزلوه من الحبرية، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. انتهى جمل نقلا من الخازن.

أقول: ذكرت لك في أول هذه السورة: أنها مكية، وأن هذه الآية وما بعدها مدنيات، وهذا يوافق ما ذكرته لك عن اليهود في المدينة، وهو يدحض قول من يقول: إن القائلين: {ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} هم كفار قريش، تأمل، وتدبر، والله أعلم.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. {ما:} نافية. {قَدَرُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {اللهَ:} منصوب على التعظيم.

{حَقَّ:} مفعول مطلق، ويقال: نائب عنه، و {حَقَّ:} مضاف، و {قَدْرِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان بمعنى: وقت مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. وقيل: {إِذْ} حرف تعليل. {ما:} نافية. {أَنْزَلَ اللهُ:} فعل وفاعل. {عَلى بَشَرٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية:{ما أَنْزَلَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها على القول الأول فيها، ولا محل لها على اعتبار:{إِذْ} حرف تعليل. {مِنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{أَنْزَلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى:{مِنْ} تقديره هو. {الْكِتابَ:} مفعول به. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة الكتاب، وجملة:{جاءَ بِهِ مُوسى} صلة الموصول، والعائد الضمير المجرور بالباء. {نُوراً:} حال من الضمير المجرور محلاّ بالباء، والعامل فيه:{جاءَ،} أو من {الْكِتابَ،} والعامل فيه: {أَنْزَلَ،} وجملة: {أَنْزَلَ الْكِتابَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ: {مِنْ،} والجملة الاسمية: {مَنْ أَنْزَلَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (هدى): معطوف على: {نُوراً} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب (هدى)، أو بمحذوف صفة له. {تَجْعَلُونَهُ:}

فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {قَراطِيسَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب حال مثل:{نُوراً} فتكون الحال قد تعددت إفرادا، وجملة. هذا؛ وجوز اعتبار {قَراطِيسَ} منصوبا بنزع الخافض. وقيل: هو على حذف مضاف، أي ذا قراطيس، وجملة:{تُبْدُونَها} في محل نصب صفة: {قَراطِيسَ،} والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، فهي في محل نصب مثلها، والرابط محذوف؛ إذ التقدير (تخفون منها كثيرا)، وقول مكي:«مبتدأ لا موضع له من الإعراب» لا وجه له، إلا إذا كان يقصد إضمار مبتدأ، التقدير:«وأنتم تخفون كثيرا» فتكون الجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة. {وَعُلِّمْتُمْ:} ماض مبني للمجهول مبني

ص: 344

على السكون، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا لم تعلموه. {أَنْتُمْ:} ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع تأكيد لواو الجماعة ليصح العطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {آباؤُكُمْ:} معطوف على واو الجماعة، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:

(علمتم

) إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة في الأفعال الثلاثة، وهذا على قراءتها بالتاء، فيجب تقدير «قد» قبلها، وأما على قراءة الأفعال بالياء، ففي الجملة الفعلية وجهان:

الأول: اعتبارها مستأنفة، والثاني: اعتبارها في محل نصب حال أيضا، ويكون في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب. {اللهَ:} فيه وجهان: الأول اعتباره فاعلا لفعل محذوف، التقدير: أنزله الله، والثاني: مبتدأ، وخبره محذوف، التقدير: الله أنزله، والجملة على الوجهين في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ اللهُ} مستأنفة لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف.

{ذَرْهُمْ:} أمر، وفاعله تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {فِي خَوْضِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير الواقع مفعولا به، أو هما متعلقان بالفعل بعدهما، أو بمحذوف حال من واو الجماعة، وجملة:{يَلْعَبُونَ} في محل نصب حال من الضمير المنصوب، أو من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، أو من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، وجملة:{ذَرْهُمْ..} . إلخ معطوفة على جملة: {قُلْ..} . إلخ لا محل لها مثلها.

{وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)}

الشرح: {وَهذا كِتابٌ:} المراد به: القرآن الكريم الذي أنزله الله على قلب سيد العالمين نورا ورحمة للناس أجمعين. {أَنْزَلْناهُ:} انظر الآية رقم [5/ 49]. وليس المراد هنا: أنه أنزل جملة واحدة، بل المراد بيان إنزاله فحسب. وانظر شرح {كِتابٌ} في الآية رقم [7/ 2]. {مُبارَكٌ:} كثير النفع والفائدة. {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: موافق للكتب التي قبله في التوحيد، وتنزيه الله تعالى، والدلالة على البشارة، والنذارة. وانظر تفسير الآية رقم [2/ 66] ففيها فائدة. {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى:}

هي مكة المعظمة سميت بذلك؛ لأنها قبلة أهل القرى جميعا، ومحجهم، ومجتمعهم، وأعظم القرى شأنا. وقيل: لأن الأرض دحيت من تحتها، أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. وانظر الآية رقم [123] هذا؛ وقد قرئ الفعل بالتاء، والياء، والإنذار: التخويف من عذاب الله وسخطه في الدنيا والآخرة. {وَمَنْ حَوْلَها} أي: من القرى، والمراد بعد ذلك جميع الناس شرقا وغربا.

وانظر شرح (حول) في الآية رقم [17] من سورة (البقرة). {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ..} . إلخ:

ص: 345

فإن من صدق بالآخرة؛ خاف العاقبة، ولا يزال الخوف يحمله على النظر، والتدبر، حتى يؤمن بالنبي، والكتاب، والضمير في:{بِهِ} يحتملهما، ويحافظ على الطاعة، وتخصيص الصلاة بالذكر؛ لأنها عماد الدين، وعلم الإيمان، والمراد بالإيمان بالآخرة: الإيمان المعتد به بخلاف إيمان اليهود، والنصارى، وغيره بالآخرة فإنه إيمان لا يعتد به لفقد شرطه الأساسي، وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وانظر شرح (الصلاة) في الآية رقم [4/ 103] والآية رقم [11](التوبة) فإنه جيد.

تنبيه: وصف الله الكتاب الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هنا بالإنزال قبل وصفه بالبركة، بخلاف قوله تعالى في سورة (الأنبياء):{وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ} قالوا: لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال؛ إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شيء، بخلافه هناك، ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية؛ لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا، والثانية اسما صريحا؛ لأن الاسم يدل على الثبوت، والاستقرار، وهو مقصود هنا، أي: بركته ثابتة مستقرة. انتهى جمل نقلا عن السمين.

الإعراب: {وَهذا كِتابٌ:} مبتدأ وخبر، وجملة:{أَنْزَلْناهُ} في محل رفع صفة أولى ل: (الكتاب). {مُبارَكٌ:} صفة ثانية. {مُصَدِّقُ:} صفة ثالثة. هذا؛ ويجوز في غير القرآن نصب الصفتين على الحال من: {كِتابٌ} لوصفه بالجملة الفعلية كما رأيت. هذا؛ و {مُصَدِّقُ:} مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ:} مضاف، و {يَدَيْهِ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى صورة، والهاء في محل جر بالإضافة. (لتنذر): مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وهو يقرأ بالتاء والياء، فعلى الأول تقدير فاعله: أنت، وعلى الثاني تقديره:«هو» يعود إلى: {كِتابٌ} . {أُمَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْقُرى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف. (من): اسم موصول أو نكرة موصوفة بمعنى ناسا مبنية على السكون في محل نصب معطوفة على ما قبلها.

{حَوْلَها:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (من) أو بمحذوف صفتها على اعتبارها نكرة، والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على محذوف، التقدير:«أنزلناه للإيمان، وللإنذار» . وقيل: معطوفان على ما دل عليه {مُبارَكٌ} أي: أنزلناه للبركات، وللإنذار، وقيل غير ذلك. (الذين): فيه وجهان:

أحدهما أنه مبني على الفتح في محل نصب معطوف على: {أُمَّ الْقُرى،} والثاني أنه في محل رفع مبتدأ، وجملة:{يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} صلة الموصول، وجملة {يُؤْمِنُونَ بِهِ} في محل نصب حال من واو الجماعة على الوجه الأول في الموصول، وفي محل رفع خبره على الوجه الثاني فيه. (هم):

ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَلى صَلاتِهِمْ:} متعلقان بالفعل بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:«يحافظون على صلاتهم» في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

ص: 346

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)}

الشرح: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} أي: لا أحد أظلم، وأفجر، وأفسد من إنسان يختلق الكذب على الله، فزعم أنه نبي بعثه الله، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي اللذين ادعيا النبوة في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. {أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} أي: قال نزل علي قرآن، ولم ينزل عليه شيء، كعبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فلما نزلت الآية:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ..} . إلخ، فلما بلغ قوله تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ} قال عبد الله: {فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} تعجبا من تفصيل خلق الإنسان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبها، فكذلك نزلت، فشك عبد الله، وقال: لئن كان محمد صادقا؛ لقد أوحي إلي، ولئن كان كاذبا؛ لقد قلت كما قال. فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين، ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام، فأسلم قبل فتح مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم نازل بمر الظهران وكان في إسلامه دخن، ودغل ظهر ما ظهر منه في خلافة الإمام علي، رضي الله عنه. أي: بعد ثلاثين عاما. {وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ} قيل: المراد: كفار قريش، أو النضر بن الحارث. فقالوا، أو قال كما حكى القرآن عنهم:{لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا} والصحيح: أنه من مقول عبد الله بن أبي سرح، فكان من جملة كتبة الوحي، فكان إذا أملى عليه النبي صلى الله عليه وسلم:{سَمِيعاً بَصِيراً} كتب مكانه: {عَلِيماً حَكِيماً} وإذا أملى عليه: {عَلِيماً حَكِيماً} كتب: {غَفُوراً رَحِيماً} وهكذا. {تَرى:} انظر الآية رقم [5/ 52]. {الظّالِمُونَ:} انظر الآية رقم [144] الآتية.

{فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ:} شدائده، من غمره الماء: إذا غشيه وغطاه. وانظر شرح {الْمَوْتِ} في الآية رقم [5/ 106]. {وَالْمَلائِكَةُ:} انظر الآية رقم [2/ 30]. {باسِطُوا أَيْدِيهِمْ:} يقبض أرواح الكفار، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [61]. وقبض أرواحهم يكون في شدة، وغلظة. {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} أي: تقول لهم الملائكة: أخرجوا أنفسكم أي: خلصوها من العذاب. وقيل:

المعنى: أخرجوا أرواحكم من أجسادكم. وهذا تعنيف، وتغليظ عليهم. وانظر ما يفعل بهم عند الموت في الآية رقم [8/ 50]. {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ:} أراد وقت الإماتة، وما يعذبون به من شدة النزع، أو المراد الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له. والهون: الهوان، وإضافة العذاب إليه، كقولك: رجل سوء، والمراد: التمكن في الهوان. {بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ..} . إلخ:

أي: العذاب الشديد واقع بسبب افترائكم على الله أمورا لا أصل لها؛ من أن له شريكا،

ص: 347

وصاحبة، وولدا، ودعوى النبوة، والوحي وغير ذلك. {وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} أي:

فلا تؤمنون بها. وهذا يدل على أن كل شخص وعظ، ونصح، فلم يقبل الموعظة والنصيحة فيكون من المستكبرين عن آيات الله، وينزل به ما نزل بالمشركين؛ الذين أعرضوا عن آيات الله.

المفردات: {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {قالَ:} انظر «القول» في الآية رقم [7/ 5]. {شَيْءٌ:}

انظر الآية رقم [5/ 19]. {مِثْلَ:} هو بكسر الميم، وسكون الثاء، ومثله: مثيل، نحو: شبه، وشبيه، وهو اسم متوغل في الإبهام، فلا يتعرف بإضافته إلى الضمير، وغيره من المعارف، ولذلك نعتت به النكرة في قوله تعالى حكاية عن قول فرعون، وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ،} ويوصف به المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، كما في الآية الكريمة، وتستعمل على ثلاثة أوجه: الأول بمعنى الشبيه، كما في الآية الكريمة، والثاني: بمعنى نفس الشيء، وذاته، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عند بعضهم حيث قال: المعنى: ليس كذاته شيء، والثالث:

زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي: بما آمنتم.

هذا؛ وأما المثل في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً..} . إلخ، وشبهه، فهو القول السائر بين الناس، والذي فيه غرابة، من بعض الوجوه، والممثل بمضربه، أي هو الحالة الأصلية التي ورد الكلام فيها. وما أكثر الأمثال في اللغة العربية، علما بأن ألفاظ الأمثال لا تغير، تذكيرا، وتأنيثا، إفرادا، وتثنية وجمعا، بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل، أي: أصله مثل: (الصيف ضيعت اللبن)، فإنه يضرب لكل من فرط في تحصيل شيء في أوانه، ثم طلبه بعد فواته. هذا؛ ويجمع مثل بكل معانيه على أمثال، كما في الآية رقم [7/ 194]. {أَنْفُسَكُمُ:}

انظر الآية رقم [7/ 9]. {الْيَوْمَ:} انظر الآية رقم [128]. {كُنْتُمْ:} انظر إعلال مثله في الآية رقم [5/ 8]. {الْحَقِّ:} انظر الآية رقم [5/ 27]. {آياتِهِ:} انظر الآية رقم [4] وانظر (الوحي) في الآية رقم [4/ 163] وانظر شرح {غَيْرَ} في سورة (الفاتحة).

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم استفهام معناه النفي، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:} خبر المبتدأ. {مِمَّنِ:} جار ومجرور متعلقان ب {أَظْلَمُ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة الفعلية:{اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} صلة: (من)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أُوحِيَ:} ماض مبني للمجهول. {إِلَيَّ:}

متعلقان بمحذوف نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} معطوفة على الجملة الفعلية قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُوحَ:} مضارع مبني للمجهول مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف المقصورة. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {شَيْءٌ:} نائب فاعل، وجملة:{وَلَمْ يُوحَ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل: {قالَ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. (من):

ص: 348

اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر معطوفة على (من) المجرورة.

التقدير: وممن قال

إلخ. {سَأُنْزِلُ:} السين: حرف استقبال. (أنزل): مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» . {مِثْلَ:} مفعول به. وقيل: هي صفة لمصدر محذوف، التقدير: سأنزل إنزالا مثل ما أنزل

إلخ. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير، أنزل الله. وعلى الوجه الثالث تؤول ما مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: مثل: إنزال الله. وهذا على اعتبار: {مِثْلَ} صفة لمصدر محذوف، كما رأيت، وجملة:

{سَأُنْزِلُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ صلة (من)، أو صفتها على نحو ما رأيت. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {تَرى:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والمفعول محذوف، التقدير: ولو ترى الكفار. {إِذِ:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله.

{الظّالِمُونَ:} مبتدأ مرفوع

إلخ. {فِي غَمَراتِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة {إِذِ} إليها، و {غَمَراتِ:} مضاف، و {الْمَوْتِ:} مضاف إليه، وجواب (لو) محذوف، التقدير: ولو ترى يا محمد الكفار حين الظالمين في غمرات الموت؛ لرأيت أمرا عظيما. (الملائكة): مبتدأ. {باسِطُوا:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، و {باسِطُوا:} مضاف، و {أَيْدِيهِمْ:}

مضاف إليه مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل، وهذه الإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية: (الملائكة

) إلخ في محل نصب حال من الضمير المستتر في متعلق: {فِي غَمَراتِ} والرابط الواو فقط. {أَخْرِجُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنْفُسَكُمُ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: قائلين، أو:

يقولون لهم، والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط.

{الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {أَخْرِجُوا،} فيكون الوقف عليه، أو هو متعلق بالفعل بعده، فيكون الوقف على {أَنْفُسَكُمُ}. {تُجْزَوْنَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع.. إلخ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {عَذابَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْهُونِ:} مضاف إليه، من إضافة الموصوف للصفة، وجملة:{تُجْزَوْنَ..} . إلخ على الوجهين في الظرف داخلة في مقول القول الواقع حالا كما رأيت، وهو أولى من الاستئناف. {بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [30] فإنه مثله بلا فارق. {غَيْرَ:} مفعول به على تفسير {تَقُولُونَ} بتفترون، أو تذكرون، أو هو صفة لمفعول مطلق محذوف، أي: تقولون قولا غير الحقّ، وهو مضاف، و {الْحَقِّ:} مضاف إليه. {وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ:} إعراب هذه الجملة واضح

ص: 349

إن شاء الله تعالى، وفي محلها وجهان: أولها: العطف على ما قبلها، والثاني: الاستئناف، فتكون لا محل لها، وقد سيقت للإخبار بذلك تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

تنبيه: ذكر أبو البقاء في إعراب: {كَذِباً} ما يلي: فقال: يجوز أن يكون: {كَذِباً} مفعول {اِفْتَرى،} وأن يكون مصدرا على المعنى، أي: افتراء، وأن يكون مفعولا من أجله، وأن يكون مصدرا في موضع الحال. أقول: والأول أقواها.

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}

الشرح: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى:} فهذا يقال للمشركين يوم القيامة، والقائل هم الملائكة.

وقيل: هو قول الله تعالى. والأول أقوى؛ لأن هذا الكلام متصل بما قبله، والأول من مقول الملائكة كما رأيت، ولكن إذا عرفت أن الآيات الثلاث السابقة مدنية، وأن هذه الآية، وما بعدها مكية، فيبعد العطف، وإنما الكلام مستأنف، فيصالح للاعتبارين. هذا؛ وقد عبر سبحانه عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه. انظر مبحث هذا في الآية رقم [5/ 116] فإنه جيد، وانظر (جاء) في الآية رقم [5]. وقد اختلف في {فُرادى:} هل هو مفرد، أو جمع، أو هو اسم جمع؟ وفي البيضاوي: و {فُرادى} جمع فرد، والألف للتأنيث ككسالى، وقرئ:«(فرادا)» بالتنوين، كغراب، و «(فراد)» كثلاث، و «(فردى)» كسكرى. انتهى. فهذه أربع قراءات الأولى هي المتواترة، والثلاثة بعدها شواذ، كما في السمين. انتهى جمل. والمعنى: منفردين عن الأموال، والأولاد، وسائر ما جمعتموه في الدنيا. أو عن الأعوان، والأصنام؛ التي زعمتم أنها تشفع لكم. {كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: على الهيئة التي ولدتم عليها، أي: حفاة، عراة، غرلا، بهما. وانظر شرح:{أَوَّلَ} في الآية رقم [2/ 41] أو [7/ 143] فإنه جيد. {وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ} أي: تركتم الشيء الذي تفضلنا به عليكم في الدنيا، فلم تحملوا منه شيئا إلى الآخرة، قليلا، أو كثيرا. هذا؛ والوراء يأتي بمعنى ما خلف الظهر، وقد يأتي بمعنى أمام، وقدام، قال تعالى:{وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} و {وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وهو كثير في القرآن الكريم، وفي الشعر العربي، وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 7]. {وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ} أي:

شركاء الله في ربوبيتكم، واستحقاق عبادتكم لهم. وانظر إعلال:{نَرى} في الآية رقم [5/ 52] وانظر (زعم) في الآية رقم [4/ 60] فإنه جيد. والمراد ب {شُفَعاءَكُمُ:} الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى. {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي: تقطع وصلكم، وتشتت جمعكم. هذا؛ والبين:

ص: 350

الفراق والبعاد، وهو أيضا الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود، والأبيض، ومن استعماله بمعنى الفراق، والبعاد قول كعب بن زهير-رضي الله عنه:[البسيط]

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلاّ أغنّ غضيض الطرف مكحول

هذا؛ وقد قرئ «(بينكم)» بالرفع، والنصب، فالرفع على الفاعل، أي: تقطع وصلكم، والنصب على الحذف يريد: ما بينكم. انتهى مختار الصحاح. ولا تنس: أن (بين) ظرف مكان بمعنى وسط، تقول: جلس بين القوم، كما تقول: جلس وسط القوم، وانظر الإعراب.

{وَضَلَّ:} انظر الآية رقم [24]. {ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ:} تدعون كذبا، وافتراء: أنهم شفعاؤكم، وأن لا بعث، ولا جزاء.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جِئْتُمُونا:} ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم حرف دال على جماعة الذكور، وحركت بالضم، فتولدت واو الإشباع. و (نا): مفعول به.

{فُرادى:} حال من الفاعل منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محل له، وهو أولى من العطف كما بينته في الشرح. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. {ما:} مصدرية. {خَلَقْناكُمْ:} فعل وفاعل ومفعول به. {أَوَّلَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {مَرَّةٍ:} مضاف إليه، و {ما} المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، وتقدير الكلام: جئتمونا مجيئا كائنا مثل خلقكم أول مرة، أو هما متعلقان بمحذوف حال واقعة بدلا من:{فُرادى،} أو بمحذوف حال ثانية، إن جوز التعدد فيها، أو حال من الضمير المستتر في:{فُرادى،} وانظر مثله في الآية رقم [20]. (تركتم): فعل، وفاعل. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

خولناكموه، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 3] وجملة: (تركتم

) إلخ، في محل نصب حال من تاء الفاعل، أو من الكاف الواقعة مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير، و (قد) قبلها مقدرة، و (ترك) متعد لمفعول واحد، وإن كان بمعنى:«صير» فينصب مفعولين ثانيهما محذوف، ويكون الظرف:{وَراءَ} متعلقا به، التقدير: كائنا وراء، و {وَراءَ:} مضاف، و {ظُهُورِكُمْ:} مضاف إليه والكاف في محل جر بالإضافة، وجوز الاستئناف بجملة {وَتَرَكْتُمْ..} .

إلخ. {ما:} نافية. {نَرى:} مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {مَعَكُمْ:}

ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، وهو بصري، فلذا اكتفى بمفعول واحد، وهو:{شُفَعاءَكُمُ} والكاف في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة لما

ص: 351

قبله، أو هو بدل منه. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {فِيكُمْ:} متعلقان ب {شُرَكاءُ} بعدهما، أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {شُرَكاءُ:} خبر (أنّ) و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {زَعَمْتُمْ} والجملة الفعلية هذه صلة الموصول، والعائد اسم (أنّ)، وجملة:{وَما نَرى..} . إلخ معطوفة على جملة:

(تركتم

) إلخ على الوجهين المعتبرين فيها، هذا؛ وقدر الجلال: ويقال لهم توبيخا: {وَما نَرى..} . إلخ، وهذا يعني: أن الجملة الفعلية في محل نصب مقول لقول القول محذوف. ولم أره لغيره. {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف. (قد): حرف تحقيق

إلخ. {تَقَطَّعَ:}

ماض، وفاعله مستتر يعود على الاتصال المدلول عليه بما تقدم. هذا؛ وجه فيكون:{بَيْنَكُمْ} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والثاني: أن الفاعل هو: {بَيْنَكُمْ} على تفسيره بالوصال، وهو مبني على الفتح في محل رفع. وقيل: بل هو منصوب، وهو مرفوع المحل، وقالوا: إنما بقي على نصبه اعتبارا بأغلب أحواله. وقول الزمخشري: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} لقد وقع التقطع بينكم، فهذا حل معنى، لا حل إعراب. هذا؛ وعلى قراءة رفعه فهو فاعل بلا خلاف فيه، ويكون خاليا من معنى الظرفية. هذا؛ وقد قرئ «(لقد تقطع ما بينكم)» فما على هذه القراءة هي الفاعل، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، ويكون {بَيْنَكُمْ} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة:{ما،} أو صفتها، ولذا فقد اعتبر أبو البقاء على قراءة:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} الفاعل محذوفا، وقدره بشيء، واعتبر الظرف متعلقا بمحذوف صفة لهذا المحذوف. وجملة:{تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} جواب القسم المحذوف لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. (ضل): ماض. {عَنْكُمْ:} متعلقان به. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل ل (ضل)، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

«كنتم تزعمونه» . وعلى الاعتبار الثالث، ف {ما} وما بعدها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل، التقدير:«ضل عنكم زعمكم» . والجملة الفعلية هذه معطوفة على جواب القسم، لا محل لها.

{كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَزْعُمُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان) الناقصة. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (95)}

الشرح: {اللهَ:} انظر الاستعاذة. {فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى:} شاق الحب عن النبات. فيشق الحبة اليابسة، فيخرج منها ورق أخضر، ويشق النواة اليابسة، فيخرج منها شجرة صاعدة في الهواء. و {الْحَبِّ} هو الذي ليس له نوى، كالحنطة، والشعير، و (النّوى) ضد الحب، كالرطب، والخوخ، والمشمش. انتهى جمل نقلا من الخازن بتصرف. {الْحَيَّ:} قال البيضاوي: يريد ما

ص: 352

ينمو من الحيوان، والنبات ليطابق ما قبله. {الْمَيِّتِ:} مما لا ينمو كالنطفة، والبيضة، والحبة.

ومعروف إخراج أحدهما من الآخر. هذا؛ وقد قيل: إن المراد بالحي: المؤمن، وبالميت:

الكافر، فالمؤمن حي القلب بالإيمان، والكافر ميت القلب بالكفر، خذ قول ربك:{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ} . هذا؛ والميت والميتة بفتح الميم وسكون الياء فيهما، وهو من فارقت روحه جسده، وجمعه: أموات، وأما المشدد فهو الحي الذي سيموت، وعليه قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} . وجمعه: موتى، قال بعض الأدباء في الفرق بينهما:[الطويل]

أيا سائلي تفسير ميت وميّت

فدونك قد فسّرت ما عنه تسأل

فمن كان ذا روح فذلك ميّت

وما الميت إلا من إلى القبر يحمل

هذا هو الأصل الغالب في الاستعمال، وقد يتعاوضان كما في قول عدي بن الرعلاء الغساني:[الخفيف]

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميّت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرّجاء

أقول: ومن هذا ما في هذه الآية الكريمة، وأيضا الآية رقم [3/ 27] حيث استعمل المشدد فيهما لفاقد الحياة والروح كما هو واضح، وانظر مثل هذا التعاوض في الآية رقم [7/ 168] ولا تنس: أن أصل ميت: ميوت؛ لأنه من: مات، يموت، فقل في إعلاله: اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وقل مثله في إعلال سيد، وهين، وصيب ونحو ذلك. هذا؛ وذكر:(مخرج) هنا بلفظ الاسم حملا على:

{فالِقُ الْحَبِّ،} فإن الجملة الفعلية: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} واقعة موقع البيان له، كما ستعرفه في الإعراب. {ذلِكُمُ اللهُ} أي: ذلكم الله المدبر الخالق الصانع لهذه الأشياء المحيي المميت لها.

{فَأَنّى تُؤْفَكُونَ؟} أي: فأنى تصرفون عن الحق، فتعبدون غير الله الذي هو خالق الأشياء كلها؟! قال تعالى في سورة الذاريات:{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} فهو من باب: ضرب، ومصدره: أفكا، كضربا. هذا؛ وهو من الباب الرابع بمعنى: كذب، ومصدره: إفكا كعلما، ويغلب مجيء الأول بالبناء للمجهول، وقد يجيء بالبناء للمعلوم كما في الآية رقم [7/ 117] وقوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا} . وما في الآية تعجيب للناس من الله تعالى في ذهابهم للفرق بين الرب والمربوب. وفي الآية الكريمة دليل على صحة البعث يوم القيامة بعد الموت لأن القادر على إخراج البدن من النطفة قادر على إخراجه من التراب للحساب والجزاء.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {فالِقُ:} خبرها، وهو مضاف، و {الْحَبِّ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه تقديره:«هو» وجملة:

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} في محل رفع خبر ثان. وقيل: مستأنفة، ولا أرتضيه. {وَمُخْرِجُ:} معطوف

ص: 353

على: {فالِقُ،} وهو مضاف، و {الْمَيِّتِ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مِنَ الْحَيِّ:} متعلقان باسم الفاعل، والجملة الاسمية:{ذلِكُمُ اللهُ} مستأنفة لا محل لها. {فَأَنّى:} الفاء: أراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وصحيحا؛ فأين تذهبون، وتصرفون عن الحق؟! (أنى): اسم استفهام بمعنى: «كيف» مبني على السكون في محل نصب حال من واو الجماعة. هذا؛ وإن اعتبرت (أنى) للمكان كما هو أصل معناها، فتكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلقة بالفعل بعدها، {تُؤْفَكُونَ:} مضارع مبني للمجهول، وواو الجماعة نائب فاعله، ومتعلقه محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية:

{فَأَنّى تُؤْفَكُونَ} لا محل لها لأنها جواب للشرط المقدر ب: «إذا» ، والشرط المقدر، وجوابه كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم وأجل، وأكرم.

{فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}

الشرح: {فالِقُ الْإِصْباحِ:} شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل، أو عن بياض النهار، أو شاق ظلمة الإصباح، وهو الغبش الذي يليه، و {الْإِصْباحِ} في الأصل مصدر: أصبح: إذا دخل في الصباح، سمي به الصبح. انتهى بيضاوي. هذا؛ والصباح، والصبح: الفجر، وهما خلاف المساء، وأصبحنا: دخلنا في الصباح، وأمسينا دخلنا في المساء. هذا؛ والإمساء ضد الإصباح، قال الشاعر:[الرجز]

أفنى رياحا وبني رياح

تناسخ الإمساء والإصباح

والممسى، والمصبح مثلهما، قال أمية بن أبي الصلت:[البسيط]

الحمد لله ممسانا ومصبحنا

بالخير صبّحنا ربّي ومسّانا

هذا؛ وقد قرئ بفتح الهمزة. {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً:} يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه، من: سكن إليه: إذا اطمأن إليه استئناسا به، أو: يسكن فيه الخلق من قوله: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} هذا؛ والليل واحد بمعنى الجمع، واحدته الليلة، مثل: تمر وتمرة، وقد جمع على ليال، فزادوا فيه الياء على غير قياس، ونظيره: أهل، وأهال، والليل الشرعي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وهو أحد قولين في اللغة، والقول الآخر: هو من غروبها إلى طلوعها. هذا؛ والنهار ضد الليل، وهو لا يجمع، كما لا يجمع العذاب، والسراب، فإن جمعته؛ قلت في الكثير: نهر بضمتين، كسحاب، وسحب، وفي القليل: أنهر. والنهار من طلوع الفجر، أو من طلوع الشمس على ما تقدم في نهاية الليل إلى غروب الشمس، وقد يطلق عليهما اسم اليوم، كما ستعرفه في

ص: 354

الآية رقم [128]. هذا؛ والليل يطلق على الحبارى، أو فرخها، وفرخ الكروان، والنهار يطلق على فرخ القطا. انتهى قاموس. وقد ألغز بعضهم بقوله:[الوافر]

إذا شهر الصيام إليك وافى

فكل ما شئت ليلا أو نهارا

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً:} تحسب بهما الأوقات، والأيام، والشهور، والأعوام، وذلك بسبب تعاقبهما، وتداولهما. هذا؛ والحسبان مصدر بضم الحاء، وكسرها، فالأول ماضيه من باب: قتل، وهو بمعنى العد. والثاني من باب: تعب، وهو بمعنى الظن. {ذلِكَ:} الإشارة إلى فلق الصبح، وتسيير الليل والنهار والشمس والقمر. {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي: الذي قهر الشمس والقمر وسيرهما على الوجه المخصوص لمعرفة ما ذكرته، كيف لا، والله يقول:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} .

الإعراب: {فالِقُ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو فالق، وهو مضاف، و {الْإِصْباحِ:}

مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه: هذا؛ وقد قرئ «(فلق الإصباح)» وهي قراءة شاذة. {جَعَلَ:} ماض، وفاعله مستتر يعود إلى الله. {اللَّيْلَ:} مفعول به أول.

{سَكَناً:} مفعول به ثان. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ:} معطوفان على: {اللَّيْلَ} . {حُسْباناً:} معطوف على: {سَكَناً} . وقيل: هو منصوب بنزع الخافض، أي: بحسبان، ويشهد له آية الرحمن:

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ} . هذا؛ وقد قرئ «(فالق)» بالنصب على المدح بفعل محذوف، كما قرئ «(جاعل)» معطوفا على:{فالِقُ} على رفعه، ونصبه، وبجر:{اللَّيْلَ،} كما في: {الْإِصْباحِ،} فيكون عطف: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} على محل: {اللَّيْلَ} . وقد قرئا بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، تقديره: والشمس، والقمر مجعولان. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {تَقْدِيرُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْعَزِيزِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {الْعَلِيمِ:} بدل من: {الْعَزِيزِ،} ويقال: صفة له، والجمل في الآية الكريمة كلها مستأنفة لا محل لها.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)}

الشرح: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ..} . إلخ: أي الله هو الذي خلق النجوم ليهتدي بها بنو آدم في ظلمات الليل؛ التي تكون وتحصل في الأرض الفلاة، وكذلك في لجج البحار. وانظر الآية رقم [1]. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} أي: الدلالات على قدرة الله تعالى قد بيناها، وفصلناها فصلا فصلا. وهو ما ذكره في الآية السابقة، وغيرها. {لِقَوْمٍ:} انظر:

ص: 355

{يا قَوْمِ} في الآية رقم [5/ 20]. {يَعْلَمُونَ:} علم تفهم وعمل، فينتفعون بذلك. هذا؛ وفي الكلام التفات، انظر الآية رقم [6] وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 6] وانظر شرح:{الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} في الآية رقم [59] وشرح (الآيات) في الآية رقم [4].

الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر، والجملة الفعلية:{جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} صلة الموصول لا محل لها. {لِتَهْتَدُوا:} مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:

{جَعَلَ،} التقدير: للاهتداء. {بِها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي ظُلُماتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {ظُلُماتِ:} مضاف، و {الْبَرِّ:} مضاف إليه. {وَالْبَحْرِ:} معطوف عليه. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {فَصَّلْنَا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]. {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{يَعْلَمُونَ} في محل جر صفة (قوم)، وقد حذف المفعول، وهو يؤذن بالعموم، والجملة الفعلية:{قَدْ فَصَّلْنَا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أما الجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ؛ فإنها معطوفة على ما قبلها.

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)}

الشرح: {أَنْشَأَكُمْ:} خلقكم، أو: بدأ خلقكم. {نَفْسٍ واحِدَةٍ:} المراد به آدم أبو البشر، وتوضح ذلك آية النساء رقم [1]. {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أي: فلكم استقرار في الأصلاب، أو فوق الأرض، أو استيداع في الأرحام، أو تحت الأرض، أو موضع استقرار، واستيداع. ويقرأ:

«(مستقر)» بفتح القاف، وكسرها. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ:} انظر الآية السابقة. {يَفْقَهُونَ:}

يفهمون ما يقال لهم. هذا؛ وذكر سبحانه مع ذكر النجوم {يَعْلَمُونَ} لأن أمرها ظاهر، ومع ذكر تخليق بني آدم {يَفْقَهُونَ؛} لأن إنشاءهم من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة، ودقيق نظر.

الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر، والجملة الفعلية:{أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} صلة الموصول لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. (مستقر): مبتدأ، خبره محذوف، انظر تقديره في الشرح. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ..} . إلخ انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية السابقة.

ص: 356

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ اُنْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}

الشرح: {السَّماءِ:} يذكر، ويؤنث، والسماء كل ما علاك، فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت:

سماء، والسماء: المطر، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناك. قال معاوية بن مالك: [الوافر]

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

أراد بالسماء: المطر، ثم أعاد الضمير عليه في:«رعيناه» بمعنى النبات. هذا؛ والمراد بالسماء في هذه الآية: السحاب الذي ينزل منه المطر، وإعادة الضمير عليه بمعنى النبات يسمى في فن البديع بالاستخدام. هذا؛ وأصل سماء: سماو، فيقال في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان:

الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة. {ماءً:} أصله: موه، بفتح الميم، والواو، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:(ماه) فلما اجتمعت الألف والهاء، وكلاهما خفي؛ قلبت الهاء همزة، ودليل ذلك: أن جمع ماء: أمواه، ومياه، وتصغيره على مويه، وأصل ياء مياه واو، لكنها قلبت ياء لانكسار ما قبلها في جمع أعلت في مفرده، كما قالوا: دار وديار، وقيمة وقيم، ومثله قولهم: سوط وسياط، وحوض وحياض، وثور وثيرة.

{فَأَخْرَجْنا بِهِ:} فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، انظر الآية رقم [6] وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 7] أو [5/ 14]. {نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: نبت كل صنف من النبات.

والمعنى: إظهار القدرة، وبيانها في إنبات الأنواع المختلفة بماء واحد، كما في قوله تعالى:{يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} . {فَأَخْرَجْنا مِنْهُ} أي: من النبات، أو من الماء. {خَضِراً} أي: شيئا خضرا، أي: غضّا طريّا. {نُخْرِجُ مِنْهُ} أي: من الخضر المذكور، والتعبير بالمضارع مع أن المقام للماضي لاستحضاره الصورة الغريبة. انتهى جمل نقلا من أبي السعود. {حَبًّا مُتَراكِباً:} يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة، ونحوها. {قِنْوانٌ:}

جمع: قنو، وهو من النخل كالعنقود من العنب. هذا؛ ويقرأ بتثليث القاف، وجمع أيضا على:

أقناء، وقنيان بضم القاف، وكسرها. هذا؛ وصنوان مثل: قنوان جمعا، ولغة كما ستعرفه إن شاء الله في سورة (الرعد) والمعنى: وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان. والطلع: أول ما يخرج من العرجون، ثم يصير قنوا. {وَجَنّاتٍ:} جمع: جنة، وهي البستان. وانظر ما ذكرته في

ص: 357

الآية رقم [76]. {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ:} بعض ذلك الثمر متشابه، وبعضه غير متشابه في الهيئة، والقدر، والطعم، واللون. {اُنْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ} أي: ثمر كل واحد مما ذكر. {إِذا أَثْمَرَ:} إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلا، لا يكاد ينتفع به. هذا؛ وثمر جمع: ثمرة، مثل: بقرة، وبقر، وجمع الجمع: ثمار. {وَيَنْعِهِ} أي: وإلى حال نضجه، كيف يعود ضخما ذا نفع، ولذة، وهو في الأصل مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت. وقيل: جمع: يانع، كتاجر، وتجر. وقرئ بالضم، وهو لغة فيه، وقرئ «(يانعة)». {إِنَّ فِي ذلِكُمْ:} الإشارة، إلى جميع ما ذكر من قوله:{إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى..} . إلى هنا. {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ:} لدلالات على وجود القادر الحكيم، وتوحيده، فإن حدوث الأجناس المختلفة، والأنواع المتفننة من أصل واحد، ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها، ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها، ولا يعوقه عن فعله ندّ يعارضه، وضد يعانده، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به، والرد عليه، وهو ما في الآية التالية. هذا؛ وخص المؤمنون بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بهذه الآيات دون غيرهم.

الإعراب: {وَهُوَ الَّذِي:} مبتدأ وخبر، والجملة الفعلية:{أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} صلة الموصول، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أَنْزَلَ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من:

{ماءً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، والجملة الفعلية:{فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ} مستأنفة لا محل لها، ولا يصح عطفها على جملة الصلة لاختلاف الفاعلين في الغيبة، والتكلم.

وجملة: {فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً} معطوفة عليها لا محل لها مثلها، وجملة:{نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً} في محل نصب صفة: {خَضِراً} . {وَمِنَ النَّخْلِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ طَلْعِها:} بدل مما قبلهما بدل بعض من كل. {قِنْوانٌ:} مبتدأ مؤخر. {دانِيَةٌ:} صفة:

{قِنْوانٌ،} وذكر أبو البقاء وجوها لا طائل تحتها. {وَجَنّاتٍ:} معطوف على: {حَبًّا} . وقيل:

على: {نَباتَ،} كما قيل على: {خَضِراً،} فتكون الجملة الاسمية معترضة بين المتعاطفين، و (جنات) منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {مِنْ أَعْنابٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: «(جنات)» . هذا؛ وقد قرئ برفع: «(جنات)» على اعتباره مبتدأ خبره محذوف، التقدير: ولكم، أو: ثم جنات، أو: من الكرم جنات، ولا يجوز عطفه على:

{قِنْوانٌ؛} إذ العنب لا يخرج من النخل. {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ:} معطوفان على: {نَباتَ،} أو على: (جنات

) إلخ، وقال البيضاوي: أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم. انتهى.. {مُشْتَبِهاً:} حال من: (الرمان)، أو من الجميع. {وَغَيْرَ:} معطوف على ما قبله، و (غير) مضاف، و {مُتَشابِهٍ:} مضاف إليه. {اُنْظُرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون.

والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق مستأنفة لا محل لها. {إِلى ثَمَرِهِ:}

ص: 358

متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِذا:} ظرف زمان مجرد عن الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {أَثْمَرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:

{ثَمَرِهِ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة: {إِذا} إليها. هذا؛ وإن اعتبرت {إِذا} شرطية؛ فيكون جوابها محذوفا، والأول أولى. {وَيَنْعِهِ:} معطوف على: {ثَمَرِهِ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم حرف دال على جماعة الذكور. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء. (آيات): اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب

إلخ.

{لِقَوْمٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (آيات)، وجملة:{يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل جر صفة (قوم)، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها.

{وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَصِفُونَ (100)}

الشرح: {لِلّهِ:} انظر الاستعاذة. {شُرَكاءَ الْجِنَّ} أي: الملائكة بأن عبدوهم، وقالوا:

الملائكة بنات الله، سماهم الله جنّا لاجتنانهم، تحقيرا لشأنهم، أو المراد: الشياطين؛ لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى. وانظر: {الْجِنَّ} في الآية رقم [76]. {وَخَلَقَهُمْ:} المعنى: وقد علموا: أن الله خلقهم لا الجن. {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: اختلقوا، وافتروا، وقرئ بتشديد الراء، وتخفيفها، كما قرئ:«(وحرفوا)» أي: زوروا، وواو الجماعة تشمل اليهود، والنصارى، ومشركي العرب، فاليهود قالوا: عزيز ابن الله، والنصارى قالوا: عيسى ابن الله، والعرب قالوا: الملائكة بنات الله من غير علم بذلك، ولا حجة، ولا برهان عليه.

{سُبْحانَهُ:} اسم مصدر. وقيل: مصدر مثل غفران، وليس بشيء؛ لأن الفعل:«سبح» بتشديد الباء، والمصدر: تسبيح. ولا يكاد يستعمل إلا مضافا، منصوبا بإضمار فعله، مثل: معاذ الله، وقد أجري علما على التسبيح، بمعنى التنزيه على الشذوذ في قول الأعشى:[السريع]

قد قلت لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر؟

وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار، والجهل بحقيقة الحال، ولذلك جعل مفتاح التوبة، فقال موسى-على نبينا وعليه الصلاة والسّلام-:{سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال ذو النون-عليه السلام: {سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} . وقد نزه الله ذاته بنفسه تنزيها لائقا به. {وَتَعالى:} تعاظم، ومضارعه: يتعالى، مثل: يتعاظم، ولا أمر له.

{عَمّا يَصِفُونَ} أي: يصفون الله، بأن له ولدا. هذا؛ وانظر شرح:{شُرَكاءَ} في الآية رقم [34] من سورة (يونس) وشرح: (غير) في سورة (الفاتحة)، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 359

الإعراب: (جعلوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني تقدم. {شُرَكاءَ:} مفعول به أول تأخر. {الْجِنَّ:} بدل منه. هذا؛ وجه للإعراب. هذا؛ ويقرأ برفع «(الجن)» على أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الجن، وهذا؛ وجه ثان. والوجه الثالث:{شُرَكاءَ،} مفعول ثان تقدم.

{الْجِنَّ:} مفعول أول تأخر، والجار والمجرور:{لِلّهِ} متعلقان ب {شُرَكاءَ،} أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة المشهورة. وجملة:{وَخَلَقَهُمْ} في محل نصب حال من لفظ الجلالة، وهي على تقدير:«قد» قبلها، والرابط: الواو، والضمير. وقيل:

الجملة مستأنفة، والأول أقوى، والجملة الفعلية:{وَجَعَلُوا لِلّهِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَخَرَقُوا لَهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {بَنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. (بنات): معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل: (خرقوا). وقيل:

متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، أي: خرقوا له خرقا كائنا بغير علم، والأول أقوى.

{سُبْحانَهُ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الفعلية الحاصلة منه ومن فعله المحذوف مستأنفة لا محل لها. وهذا عند الخليل، وسيبويه، وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف، والأول أقوى. {وَتَعالى:} فعل ماض معطوف على فعل اسم المصدر المحذوف مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى الله، والجملة الفعلية لا محل لها مثل الجملة المقدرة. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن) والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن الذي، أو عن شيء يصفونه به، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن) التقدير: تعالى الله عن وصفهم. تأمل، وتدبر.

{بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)}

الشرح: {بَدِيعُ:} مبدع بمعنى: موجد السموات والأرض على غير مثال سبق، وانظر الآية رقم [1]. {أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ:} من أين، أو كيف يكون له ولد. {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ} أي:

زوجة يكون له منها الولد. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: من شأنه أن يخلق في هذه الدنيا. وانظر

ص: 360

شرح: {شَيْءٍ} في الآية رقم [5/ 19]. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:} لا يخفى عليه خافية. وفي الآية الكريمة استدلال على نفي الولد من وجوه.

الأول: أن من مبدعاته السموات، والأرضين، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها، وطول مدتها، فهو أولى بأن يتعالى عنها.

الثاني: أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين، والله تعالى منزه عن المجانسة.

الثالث: أن الولد كفؤ الوالد، ولا كفؤ له تعالى لوجهين:

الأول: أن كل ما عداه مخلوقه، فلا يكافئه. الثاني: أنه لذاته عالم بكل المعلومات، ولا كذلك غيره بالإجماع. انتهى بيضاوي.

الإعراب: {بَدِيعُ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو بديع. وقيل: هو مبتدأ خبره ما بعده.

وقيل: هو فاعل للفعل (تعالى). وأقواها الأول، وأضعفها الثالث. و {بَدِيعُ:} مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وقيل: من إضافة الصفة المشبهة.

والأول أقوى. انظر الشرح، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {أَنّى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب حال عامله ما بعده، وهو مفيد للإنكار، وهذا على اعتباره بمعنى:«كيف» وأما على اعتباره ظرفا بمعنى: «من أين» فهو مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بما بعده. {يَكُونُ:} مضارع ناقص. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {وَلَدٌ:} اسم {يَكُونُ} مؤخر، وإن اعتبرت يكون تامّا؛ ف:{وَلَدٌ} فاعله، و {لَهُ:} متعلقان بمحذوف حال من: {وَلَدٌ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وهذا أحسن. تأمل. والجملة الفعلية:{أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل رفع خبر المبتدأ، كما رأيت. والأول أقوى. {وَلَمْ:} الواو: واو الحال. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {تَكُنْ:} مضارع ناقص. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {صاحِبَةٌ:} اسمها مؤخر، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب {لَهُ} والرابط:

الواو، والضمير، وجملة:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال ثانية، و «قد» قبلها مقدرة، والرابط: الواو، والضمير أيضا، والجملة الاسمية:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} مستأنفة، أو هي في محل نصب حال ثالثة، فتكون الحال قد تكررت؛ وهي جملة.

{ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}

الشرح: {ذلِكُمُ:} الإشارة إلى الموصوف بما ذكر من الصفات. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {رَبُّكُمْ:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] أو [7/ 3]. {خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: في

ص: 361

هذا الكون، وانظر شرح:{شَيْءٍ} في الآية رقم [5/ 19]. {فَاعْبُدُوهُ،} فوحدوه، وأخلصوا له العبادة، وهي غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذلك يحرم السجود لغيره تعالى. هذا؛ وقد قيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. {وَكِيلٌ:} حفيظ، ومتولي جميع أمور خلقه الذين أنتم من جملتهم، ففوضوا أموركم إليه، واقصروا عبادتكم عليه. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {ذلِكُمُ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم علامة جمع الذكور. {اللهُ:} خبر أول. {رَبُّكُمْ:}

خبر ثان، والكاف في محل جر بالإضافة، والميم علامة جمع الذكور. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل: «إن» . {إِلهَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود.

{إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {هُوَ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول كونه بدلا من اسم: {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. والثاني: كونه بدلا من: {لا} وما عملت فيه؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء. والثالث: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأقوى. تأمل. والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثالث. {خالِقُ:} خبر رابع، وهو مضاف، و {كُلِّ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و {كُلِّ:}

مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. خذ هذا، وقد جوز اعتبار لفظ الجلالة خبرا واحدا، وما بعده بدل منه، كما جوز اعتبار لفظ الجلالة بدلا من اسم الإشارة، والخبر ما بعده. {فَاعْبُدُوهُ:}

الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: إذا كان ذلك حاصلا فاعبدوه.

(اعبدوه): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر كما رأيت، وانظر الآية رقم [35]. والجملة الاسمية:

{وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} مستأنفة لا محل لها، والإعراب واضح إن شاء الله تعالى.

{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}

الشرح: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ} أي: لا تراه سبحانه وتعالى الأبصار. وقيل: معناه لا تحيط به الأبصار. {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ:} يرى الأبصار، ولا تراه. {اللَّطِيفُ} أي:

بأوليائه، وأحبابه. {الْخَبِيرُ:} بهم، وبأعمالهم.

تنبيه: قال الخازن: قال جمهور المفسرين: معنى الإدراك: الإحاطة بكنه الشيء، وحقيقته.

والأبصار ترى الباري جل جلاله، ولا تحيط به، كما أن القلوب تعرفه، ولا تحيط به، وقال سعيد بن المسيب في تفسير قوله:{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ} لا تحيط به الأبصار.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة. وقد تمسك بظاهر الآية قوم من أهل البدع، وهم الخوارج، والمعتزلة، وبعض المرجئة، وقالوا: إن الله تبارك

ص: 362

وتعالى لا يراه أحد من خلقه، وإن رؤيته مستحيلة عقلا؛ لأن الله أخبر: أن الأبصار لا تدركه، وإدراك البصر عبارة عن الرؤية؛ إذ لا فرق بين قوله: أدركته ببصري، ورأيته ببصري، فثبت بذلك أن قوله:{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ} بمعنى: لا تراه الأبصار، وهذا يفيد العموم.

ومذهب أهل السنّة: أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات القيامة، وفي الجنة، وأن رؤيته غير مستحيلة عقلا، واحتجوا لصحة مذهبهم بتظاهر أدلة الكتّاب، والسنّة والإجماع من الصحابة، ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تبارك وتعالى للمؤمنين في الآخرة، قال الله تبارك وتعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} ففي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة إلى غير ذلك من الآيات، والأحاديث. انتهى جمل منقولا عن الخازن بحروفه. وبقي فيه كلام كثير.

أقول: يبقى تأويل الآية الكريمة على استحالة رؤية الله في الدنيا.

الإعراب: {لا:} نافية. {تُدْرِكُهُ:} مضارع، والهاء مفعول به. {الْأَبْصارُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): مبتدأ. {يُدْرِكُ:}

مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {الْأَبْصارُ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُوَ يُدْرِكُ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير الواقع مبتدأ، وهو أولى من العطف على ما قبلها. والجملة الاسمية:{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}

الشرح: {جاءَكُمْ:} انظر الآية رقم [5]. {بَصائِرُ:} جمع بصيرة، وهي للنفس كالبصر للبدن، سميت بها الدلالة؛ لأنها تجلى لها الحق، وتبصرها به.

وقال النسفي: البصيرة نور القلب الذي يستبصر به القلب، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر. {رَبِّكُمْ:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] أو [7/ 3]. {فَمَنْ أَبْصَرَ:} الحق، وآمن به.

{فَلِنَفْسِهِ} أي: أبصر، وإياها نفع. {وَمَنْ عَمِيَ} أي: عن الحق، وضل سواء السبيل.

{فَعَلَيْها} أي: فعلى نفسه وبال إضلاله. {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: أحفظ أعمالكم، وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر، والله هو الحفيظ، والرقيب عليكم، يحفظ أعمالكم، ويجازيكم عليها. وهذا كلام ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكاه الله عنه.

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ:} ماض، والكاف في محل نصب مفعول به. {بَصائِرُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {مِنْ رَبِّكُمْ:}

ص: 363

متعلقان ب {بَصائِرُ،} أو بمحذوف صفة له. {فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَبْصَرَ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {فَلِنَفْسِهِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لنفسه):

متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالإبصار لنفسه، والجملة الاسمية هذه في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [39]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فالجملة بعده صلته، والجملة الاسمية المقدرة في محل رفع خبره، وزيدت الفاء في خبره لشبه الموصول بالشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين مفرعة عما قبلها لا محل لها، والجملة الاسمية بعدها معطوفة عليها، وإعرابها كإعرابها، والتقدير: ومن عمي فالعمى عليها. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» .

{أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسمها. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بما بعدهما.

{بِحَفِيظٍ:} الباء: حرف جر صلة. (حفيظ): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) مهملة فالضمير مبتدأ، وتكون الباء قد زيدت في خبره، ولكن الأول أعرف، وأشهر. والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}

الشرح: {وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} أي: ومثل ذلك التصريف، وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة. من: الصرف، وهو: نقل الشيء من حال إلى حال. وانظر الآية رقم [46]. {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} أي: قرأت كتب الماضين، وجئت بهذا منها. ويقرأ:«(دارست)» أي: أهل الكتاب، وذاكرتهم. والدرس: القراءة، والتعلم، ويقرأ أيضا بقراءات كثيرة وصلت إلى ثلاث عشرة قراءة، ثلاث منها سبعيات، وسائرهن شاذات. {وَلِنُبَيِّنَهُ:} الضمير ل {الْآياتِ} باعتبار المعنى، أي بتأويلها بالكتاب، أو للقرآن، وإن لم يذكر؛ لكونه معلوما، أو للمصدر، أي: للتبيين، والتصريف. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ:} خصهم سبحانه بالذكر لعلهم يعملون بما يعلمون، وانظر الفرق بين {يَعْلَمُونَ} و {يَفْقَهُونَ} في الآية رقم [98] وانظر:{يا قَوْمِ} في الآية رقم [5/ 20] و (نا) في الآية رقم [6](الأعراف).

الإعراب: (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، عامله ما بعده، التقدير: نصرف الآيات تصريفا كائنا مثل ذلك التصريف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [55]. {نُصَرِّفُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه

ص: 364

جمع مؤنث سالم. (ليقولوا): مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور معطوفان على محذوف، التقدير: ليعتبروا، وليقولوا. هذا؛ ويسمي الكوفيون اللام: لام العاقبة، ولام الصيرورة. {دَرَسْتَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. (لنبينه):

إعراب هذا الفعل مثل سابقه، والمؤول معطوف، وتقدير هذه المعطوفات: نصرف الآيات للاعتبار، ولقولهم، وللتبيين. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف للتعميم في محل جر صفة: (قوم)، تأمل، وتدبر وربك أعلم وأجل، وأكرم.

{اِتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)}

الشرح: {اِتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ:} هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على الإيمان، والتمسك بما يوحى إليه من آيات القرآن، وأمر له بالإعراض عن المشركين، وبعدم الاعتداد بهم، وبأباطيلهم.

وهذا قبل الأمر بقتالهم، فالآية محكمة. وقيل: بل هي منسوخة بآية القتال، وإذا علمت: أن الآية مكية، فالأول هو المعتمد. {رَبِّكَ:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] أو [7/ 3] وانظر (الوحي) في الآية رقم [4/ 163] فإنه جيد.

الإعراب: {اِتَّبِعْ:} أمر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:

{أُوحِيَ إِلَيْكَ} صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع نائب الفاعل إليها، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: اتبع إيحاءنا إليك. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل، و {مِنْ} بيان لما أبهم في {ما،} والكاف في محل جر بالإضافة. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [102]. وهي معترضة بين المتعاطفين، أو هي في محل نصب حال من:{رَبِّكَ} بمعنى منفردا، والأول أقوى، والجملة الفعلية:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، الأولى بالابتداء والثانية بالإتباع، والإعراب واضح إن شاء الله تعالى.

{وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)}

الشرح: {وَلَوْ شاءَ اللهُ:} توحيدهم، وعدم إشراكهم. {ما أَشْرَكُوا:} ما عبدوا الحجارة، والأوثان. وهذا نص صريح في أن شركهم كان بمشيئة الله تعالى، خلافا للمعتزلة في قولهم: لم يرد الله من أحد الشرك، وينبغي أن تعلم: أن الإرادة غير الرضا، وانظر:{شاءَ} في الآية رقم [5/ 18] وانظر (الإرادة) في الآية رقم [5/ 41]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. {حَفِيظاً:} رقيبا،

ص: 365

وانظر الآية رقم [104]. {بِوَكِيلٍ:} تقوم بأمورهم، وتتولى شئونهم. هذا؛ وعند التأمل يظهر لك: أن معنى الجملتين واحد، فمعنى الثانية مؤكد لمعنى الأولى. وهذا قبل الأمر بقتال المشركين، كما في الآية السابقة.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ اللهُ:} فعل وفاعل. والمفعول محذوف كما رأيت تقديره في الشرح. {ما:} نافية. {أَشْرَكُوا:}

فعل، وفاعل. والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1] والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، والأولى لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف. {ما:} نافية. {جَعَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول أول، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما بعدهما. {حَفِيظاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على (لو) ومدخولها، أو هي مستأنفة لا محل لها {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب:{وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} في الآية رقم [104] بلا فارق. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، ولا تنس: أن مفعول {حَفِيظاً} محذوف؛ لأنه ينصب المفعول كفعله: (حفظ، يحفظ) وتقديره: (أعمالهم) ونحوه. تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأعظم.

{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)}

الشرح: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أي: ولا تذكروا آلهة المشركين التي يعبدونها بما فيها من القبائح. {فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: اعتداء، وتجاوزا عن الحق إلى الباطل. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: على جهالة بالله، وبما يجب أن يذكر به من تقديس، وثناء، وشكر.

{اللهِ:} انظر الاستعاذة. {كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي: من الخير، والشر بإحداث ما يمكنهم منه، ويحملهم عليه توفيقا، وتخذيلا، والمعنى: زينا لهؤلاء الكفارة عملهم، كما زينا لكل أمة عملهم، وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 6] و {أُمَّةٍ} في الآية رقم [5/ 66] والآية [38]. {ثُمَّ:} انظر الآية رقم [5/ 43]. {رَبِّهِمْ:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] أو [7/ 2]. {فَيُنَبِّئُهُمْ:} انظر الآية رقم [5/ 15] وانظر: {دُونِ} في الآية [7/ 3] و (غير) في سورة (الفاتحة).

تنبيه: روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطعن في آلهة المشركين، فقالوا له: لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون إلهك، فنزلت الآية الكريمة. وقيل: كان المسلمون يسبونها، فنهوا عن ذلك؛ لئلا يكون سبهم سببا لسب الله تعالى. وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة؛ وجب تركها، فإن ما يؤدي إلى الشر شر. انتهى بيضاوي.

ص: 366

وقيل: لما نزلت هذه الآية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا آلهتهم؛ فيسبوا ربكم» . فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم. فظاهر الآية وإن كان نهيا عن سب الأصنام، فحقيقتها النهي عن سب الله تعالى؛ لأنه سبب لذلك. انتهى خازن.

أقول: ومن هذا القبيل ما يفعله كثير من الناس من سب آباء غيرهم، فيردون لهم الكيل كيلين، والصاع صاعين، أي: فيسبون آباءهم، وأمهاتهم، وأجدادهم. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرّجل والديه» .

قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال:«يسبّ أبا الرجل، فيسبّ أباه، ويسبّ أمّه، فيسبّ أمّه» . رواه البخاري، ومسلم.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): ناهية جازمة. {تَسُبُّوا:} مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، والجملة بعده صلته، لا محل لها. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف العائد على الموصول، أو من الموصول نفسه، و {دُونِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {فَيَسُبُّوا:} مضارع مجزوم، أو منصوب، فالأول بالعطف على السابق، والثاني، بإضمار:«أن» على اعتبار الفاء للسببية، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون

إلخ، وعلى الاعتبار الثاني تؤول «أن» المضمرة مع الفعل المضارع بمصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم سبّ للذين يدعون.. فيسبوا الله ظلما

إلخ. {اللهِ:} منصوب على التعظيم. {عَدْواً:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو مفعول لأجله، والثاني: هو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل؛ لأن السب عدوان في المعنى. والثالث:

مصدر في موضع الحال، أي: معتدين. هذا؛ ويقرأ بضم العين، والدال، وتشديد الواو، فيكون مصدرا على «فعول» كالقعود، والجلوس، ويقرأ:«(عدوا)» بفتح العين، وتشديد الواو على أنه حال. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال، أي: جهلا منهم بالله، و (غير) مضاف، و {عِلْمٍ:}

مضاف إليه. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: زينا لهؤلاء أعمالهم تزيينا كائنا مثل تزييننا لكل أمة عملهم، وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [55] واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {زَيَّنّا:} فعل وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]. {لِكُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (كل) مضاف، و {أُمَّةٍ:} مضاف إليه. {عَمَلَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة والجملة الفعلية:{كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِلى رَبِّهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{مَرْجِعُهُمْ:} مبتدأ مؤخر، والهاء فيهما في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها لا محل لها مثلها. (ينبئهم): مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} والهاء

ص: 367

مفعول به. {بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني، وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [5/ 14]:{بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} فإنه مثله بلا فارق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا، وأعني:{فَيُنَبِّئُهُمْ..} . إلخ.

{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)}

الشرح: {وَأَقْسَمُوا:} حلفوا، وسمي الحلف قسما؛ لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق، ومكذب، وهو رباعي كما ترى، فهمزته تثبت في الماضي، والأمر، وتحذف في المضارع مع ضم حرف المضارعة كما تراه في إعلال:(يصيب) في الآية رقم [124] الآتية. هذا؛ وأما «قسم» الثلاثي فإنه بمعنى: جزأ، وفرق، فمضارعه بفتح حرف المضارعة، وهمزته في الأمر وصل. {بِاللهِ:} انظر الاستعاذة. {جَهْدَ أَيْمانِهِمْ:} غاية اجتهادهم فيها، وذلك: أنهم كانوا يقسمون بآلهتهم، وآبائهم، فإذا كان الأمر عظيما؛ أقسموا بالله. و (الجهد) بفتح الجيم: المشقة، وبضمها: الطاقة وانظر الآية رقم [5/ 53] وانظر: {الْأَيْمانَ} في الآية رقم [5/ 89]. {جاءَتْهُمْ آيَةٌ:}

انظر الآية رقم [4]{لَيُؤْمِنُنَّ بِها:} ليصدقن بها. {قُلْ:} انظر «القول» في الآية رقم [7/ 5]. {إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ} أي: ينزلها كما يشاء، وإذا كانت بمعنى المعجزات، فيظهرها الله على يد الرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يريده. {وَما يُشْعِرُكُمْ:} وما يدريكم، ويعلمكم. وانظر رقم [26].

{أَنَّها إِذا جاءَتْ..} . إلخ: يقرأ بفتح الهمزة وكسرها، وقد ذكر ابن هشام الآية في مغنيه، ونقل فيها أقوال العلماء الأعلام، مثل الخليل، والفارسي، والزجاج، والنحاس، سألخصه في الإعراب إن شاء الله تعالى. هذا؛ والمراد بالعندية في هذه الآية: أنه تعالى هو المختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون غيره، فهي في حكمه، وقضائه، لا تتعلق بها قدرة أحد بوجه من الوجوه.

الإعراب: {وَأَقْسَمُوا:} (أقسموا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {جَهْدَ:} مفعول مطلق عامله: (أقسموا)، وهو من معناه، أو هو حال من واو الجماعة بمعنى: جاهدين، و {جَهْدَ:} مضاف، و {أَيْمانِهِمْ:}

مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {لَئِنْ:} اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {جاءَتْهُمْ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والتاء للتأنيث والهاء مفعول به. {آيَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَيُؤْمِنُنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (يؤمنن): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة في محل رفع فاعل، والنون للتوكيد حرف لا محل له. {بِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:

ص: 368

{لَيُؤْمِنُنَّ بِها} جواب القسم لا محل لها، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم؛ فالجواب للسابق منهما ما لم يتقدم عليهما ما يحتاج إلى خبر، فيصح أن يكون الجواب للشرط المتأخر، وأن يكون جوابا للقسم، والمرجح أن يكون للشرط مطلقا» . قال ابن مالك-رحمه الله-في ألفيته: [الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

وإن تواليا وقبل ذو خبر

فالشّرط رجّح مطلقا بلا حذر

وربّما رجّح بعد قسم

شرط بلا ذي خبر مقدّم

هذا؛ والقسم المحذوف، وجوابه المذكور، والشرط المذكور، وجوابه المحذوف كل ذلك جواب لقوله:{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ} وهذا القسم، وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّمَا:} كافة ومكفوفة. {الْآياتُ:} مبتدأ. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، و {عِنْدَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَما:}

الواو: حرف استئناف. (ما): اسم استفهام إنكاري مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{يُشْعِرُكُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى (ما)، والكاف مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف؛ إذ التقدير: بإيمانهم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {أَنَّها:} حرف مشبه بالفعل، وها: ضمير متصل في محل نصب اسمها. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {جاءَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {الْآياتُ} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح. {لا:} نافية. {يُؤْمِنُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية لا محل لها جواب:{إِذا،} ويقرأ الفعل بالياء، والتاء على الخطاب، و {إِذا} ومدخولها في محل رفع خبر:(أنّ)، والجملة الاسمية (إنها

إلخ) مفيدة للتعليل، وهذا على قراءة «(إنها)» بكسر الهمزة. هذا؛ وأما على قراءتها بفتح الهمزة، ففيها اعتبارات كثيرة.

أظهرها: أنها بمعنى «لعلّ» حكى الخليل: (ائت السوق أنّك تشتري لنا منه شيئا) أي:

لعلك، فهذا من كلام العرب، كما حكاه الخليل شاهدا على كون (أنّ) بمعنى (لعل) ويدل على ذلك أنها في مصحف أبي، وقراءته:(وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون) ونقل عنه: (وما يشعركم لعلها إذا جاءت) ورجحوا ذلك بأن «لعل» قد كثر ورودها في مثل هذا التركيب، كقوله تعالى:{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ} و {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى} .

الثاني أن تكون (لا) مزيدة، وهذا رأي الفراء، وشيخه، قال: ومثله: {ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ} أي: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم: أنها إذا جاءت يؤمنون، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا.

ص: 369

الثالث: أن (ما) حرف نفي، يعني: أنه نفى شعورهم بذلك، وعلى هذا فليطلب ل:{يُشْعِرُكُمْ} فاعل، فقيل: هو ضمير الله تعالى، أضمر للدلالة عليه. انتهى. وهذا كلام مستأنف من جهته تعالى لبيان الحكمة الداعية إلى ما أشعر به الجواب السابق، من عدم مجيء الآيات، خوطب به المسلمون فقط، أو مع النبي انتهى جمل نقلا عن السمين، وعن أبي السعود.

أقول: وعلى قراءة فتح الهمزة تؤول مع مدخولها بمصدر، وهذا المصدر في محل جر بحرف جر محذوف. قال ابن هشام: وقال قوم: (أنّ) مؤكدة، والكلام فيمن حكم بكفرهم، ويئس من إيمانهم، والآية عذر للمؤمنين؛ أي: أنكم معذورون؛ لأنكم لا تعلمون ما سبق به القضاء من أنهم لا يؤمنون حينئذ.

وقيل: التقدير: لأنهم، واللام متعلقة بمحذوف، أي: لأنهم لا يؤمنون امتنعنا من الإتيان بها، ونظيره قوله تعالى:{وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} . واختاره الفارسي. واعلم أن مفعول: {يُشْعِرُكُمْ} الثاني على هذا القول، وعلى القول بأنها بمعنى:«لعل» محذوف، أي: إيمانهم. وعلى بقية الأقوال (أنّ) وصلتها. انتهى مغنى بتصرف. وقد أطلت عليك الكلام حبّا في الإفادة. تأمل، وربك أعلم.

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}

الشرح: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني: ونحول بينهم وبين الإيمان. إذ التقليب تحويل الشيء، وتحريكه عن وجهه إلى وجه آخر؛ لأن الله تعالى إذا صرف القلوب، والأبصار عن الإيمان بقيت على الكفر. وانظر الآية رقم [2/ 144]. هذا؛ والأفئدة هي القلوب. {كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ:} والمعنى: يصرفون عن التوحيد، والإيمان، كما صرفوا عن التصديق بالآيات التي رأوها أولا مثل انشقاق القمر ونحوه. إذا المراد بالآيات:

المعجزات التي اقترحوها على الرسول صلى الله عليه وسلم. {وَنَذَرُهُمْ:} نتركهم. وانظر الآية رقم [7/ 70].

{طُغْيانِهِمْ:} الطغيان: تجاوز الحد، ومنه قوله تعالى:{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} .

{يَعْمَهُونَ:} يتحيرون، ويترددون، والعمه: التحير، والتردد، وهو قريب من العمى، لكن العمى يطلق على ذهاب نور العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعمه لا يطلق إلا على الثاني. وانظر (نا) في الآية رقم [5/ 32] والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: (نقلب): مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» ، ويقرأ بياء المضارعة فيكون تقدير الفاعل هو يعود إلى (الله)، ويقرأ بتاء المضارع المضمومة على أنه مبني للمجهول، ورفع

ص: 370

{أَفْئِدَتَهُمْ} على أنه نائب فاعله، وعلى الأولين هو مفعول به. {وَأَبْصارَهُمْ:} معطوف على ما قبله على الوجهين المعتبرين فيه. والهاء في محل جر بالإضافة. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {لَمْ:} حرف جازم. {يُؤْمِنُوا:} مضارع مجزوم ب {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون.. إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَوَّلَ:}

ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {مَرَّةٍ:} مضاف إليه، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، التقدير: نقلب أفئدتهم، وأبصارهم تقليبا كائنا مثل صرفهم عن الإيمان بما تقدم من المعجزات. والجملة الفعلية:{وَنُقَلِّبُ..} . إلخ معطوفة على قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} في الآية السابقة، أو هي مستأنفة، والأول أقوى. (نذرهم): مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» ، وبالياء تقديره هو يعود إلى:{اللهِ،} والهاء مفعول به أول. {فِي طُغْيانِهِمْ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{يَعْمَهُونَ} في محل نصب مفعول به ثان؛ لأن (نذر) بمعنى نترك، وهو من أفعال التحويل، والتصيير. هذا؛ ويجوز أن يكون:{فِي طُغْيانِهِمْ} متعلقين بمحذوف مفعول به ثان، وجملة:{يَعْمَهُونَ} في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به.

وأرى: أنها في محل نصب من تعدد المفعول الثاني. وانظر مثل هذا في الآية رقم [2/ 15] والجملة الفعلية: {وَنَذَرُهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

{وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}

الشرح: {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ:} الضمير المجرور يعود إلى كفار قريش، ومن على شاكلتهم من كفار العرب، وانظر (نا) في الآية رقم [7/ 6] و {نَزَّلْنا} في الآية رقم [5/ 49].

{الْمَلائِكَةَ:} انظر الآية رقم [2/ 30]. {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى} أي: بأن يقول لهم الأموات، بعد إحيائهم: آمنوا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم لما آمنوا، وانظر الكلام في الآية رقم [2/ 73] أو [7/ 143]. فإنه جيد. والموتى جمع ميت. وانظر الآية رقم [95]. {وَحَشَرْنا:} جمعنا، وبعثنا لهم. {شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [5/ 19]. {قُبُلاً:} بضم القاف، والباء جمع: قبيل، وهو الفوج والجماعة من الناس.

هذا؛ ويقرأ بكسر القاف، وفتح الباء، فهو بمعنى المعاينة، والمشاهدة. هذا؛ والآية تشير إلى الأمور التي طلبها المشركون من النبي المعظم صلى الله عليه وسلم، وذكرها الله في قوله حكاية عنهم:{لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ،} و {فَأْتُوا بِآبائِنا} و {أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} فيبين الله في هذه الآية: أنهم لو أعطوا ما سألوا؛ لا يؤمنون إلا بمشيئته، وإرادته. هذا؛ وانظر الإيمان في الآية رقم [5/ 93] وانظر:

{يَشاءَ} في الآية رقم [5/ 18]. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أنهم لم أعطوا كل ما طلبوه من الآيات؛

ص: 371

لم يؤمنوا؛ لأن الإيمان ليس بمشيئتهم، وإرادتهم، وإنما هو بمشيئة الله، وأيضا الكفر بمشيئته، فمن شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء له الكفر كفر. هذا؛ وانظر الجهل، والجاهل في الآية رقم [35].

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{أَنَّنا:} (أنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {نَزَّلْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْهِمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْمَلائِكَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{نَزَّلْنا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف هو شرط (لو) عند المبرد، التقدير: لو ثبت إنزالنا الملائكة. وقال سيبويه: هو في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف، التقدير: ولو إنزالنا ثابت، أو حاصل. وقول المبرد هو المرجح. وانظر بقية الكلام في الآية رقم [58]. والجملة الفعلية:{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، وأيضا جملة:{وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها. {قُبُلاً:}

حال من: {كُلَّ شَيْءٍ} . وقيل: هو ظرف. والأول أقوى. {ما:} نافية. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه. {لِيُؤْمِنُوا:} مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانُوا} التقدير: ما كانوا مريدين للإيمان، والجملة الفعلية:{ما كانُوا..} . إلخ جواب (لو) لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {إِلاّ:} حرف استثناء، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَشاءَ اللهُ} في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، وهل الاستثناء متصل، أو منقطع؟ خلاف. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ:} اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَجْهَلُونَ} في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية هذه معطوفة على جملة:

{كانُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)}

الشرح: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ..} . إلخ: المعنى: كما جعلنا لك أعداء من قومك، أو من غيرهم؛ جعلنا لكل نبي بعث قبلك إلى قومه أعداء من شياطين الإنس، والجن. {نَبِيٍّ:} انظر الآية رقم [5/ 81]. {عَدُوًّا:} العدو: ضد الصديق، وهو على وزن فعول بمعنى فاعل، مثل: صبور، وشكور، وما كان على هذا الوزن، يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث إلا لفظا واحدا جاء نادرا، قالوا:«هذه عدوة الله» . قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} وقال حكاية عن قول إبراهيم-عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} والجمع: أعداء، وأعاد، وعدات، وعدى. وقيل: أعاد جمع: أعداء، فيكون جمع الجمع. وفي القاموس المحيط،

ص: 372

والعدا بالضم، والكسر: اسم الجمع. {شَياطِينَ:} جمع: شيطان، انظر الاستعاذة. {الْإِنْسِ:}

البشر، الواحد إنسي بكسر الهمزة فيهما، وجمع الإنسي أناس، وأناسي، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً} ويقال أيضا: أناسية، مثل: صيارفة، وصياقلة. هذا؛ وسمي بنو آدم إنسا لظهورهم، ولأنهم يؤنسون، أي يبصرون، كما سمي الجنّ جنّا لاجتنانهم، كما رأيت في الآية رقم [76]. وسمي بنو آدم بشرا لبدو بشرتهم، كما رأيت في الآية رقم [91]. هذا؛ وتطلق كلمة (الإنسان) على الذكر، والأنثى من بني آدم، ومثلها كلمة:(شخص) قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} . ومعلوم: أن الله تعالى لم يقصد الذكور خاصة، والقرينة الآيات الكثيرة الدالة على أن المراد: الذكر، والأنثى، واللام في:

«الإنسان» إنما هي لام الجنس التي تفيد الاستغراق، ولذا صح الاستثناء من الإنسان في السورة الكريمة. هذا؛ وإنسان العين هو المثال الذي يرى فيها، وهو النقطة السوداء التي تبدو لامعة وسط السواد. {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ:} يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، أو بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض. {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} أي: الأباطيل المموهة، من: زخرفه: إذا زينه للناظرين، وانظر «القول» في الآية رقم [7/ 5]. {شاءَ:} انظر الآية رقم [5/ 18]. {رَبُّكَ:}

انظر الفاتحة رقم [1] أو [7/ 3]. {فَذَرْهُمْ:} اتركهم، وانظر الآية رقم [7/ 186]. {يَفْتَرُونَ:}

يختلقون من الكفر، وغيره مما زين لهم. وهذا قبل الأمر بالقتال.

تنبيه: الآية الكريمة صريحة في أنه يوجد شياطين من بني آدم في ثياب البشر، وقد ذكرت لك في الاستعاذة: أن كلمة الشيطان تطلق على كل نفس عاتية خبيثة، خارجة عن الصراط المستقيم، من الإنس، والجن، والحيوان، وهذا هو قول ابن عباس-رضي الله عنهما-في رواية عطاء عنه، وهو قول مجاهد، وقتادة، قالوا: وشياطين الإنس أشد تمردا من شياطين الجن؛ لأن شيطان الجن إذا عجز عن إغواء المؤمن الصالح، وأعياه أمره؛ استعان على إغوائه بشيطان الإنس؛ ليفتنه. ويدل على صحة هذا القول ما رواه أبو ذر-رضي الله عنه-قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تعوّذت بالله من شيطان الجنّ، والإنس؟» . قلت: يا رسول الله! وهل للإنس شيطان؟ قال: «نعم شرّ من شياطين الجنّ» . ذكره البغوي بغير سند، وأسنده الطبري.

وقال مالك بن دينار-رحمه الله تعالى-: إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجرني إلى المعاصي. انتهى خازن بتصرف بسيط.

أقول: وكما يوجد شياطين من الإنس في ثياب البشر يوجد كلاب، وحيات، وعقارب، وحشرات على اختلاف أنواعها من الإنس في ثياب البشر، والذي يعامل الناس في هذه الأيام، ويخالطهم؛ فإنه يفضل الكلاب، وما ذكرته على كثير منهم. ولولا الإطالة عليك؛ لذكرت لك

ص: 373

الكثير من الأشعار والأقوال المأثورة في هذا الصدد. ولا تنس أخيرا: أن الآية صريحة في أن ما يفعله الكافر، والعاصي، والفاسد، والمفسد إنما هو بمشيئة الله، فهنيئا لمن لم يشأ الله له الضلالة، والمعاصي، والفساد، وويل، ثم ويل، ثم ويل، لمن شاء الله له شيئا من ذلك.

اللهم تولني بعنايتك، واحفظني من شر شياطين الإنس، والجن، ولا تشأ لي ما يبعدني عن رحاب جودك، وكرمك، وإحسانك، واجعل توسلي هذا شاملا لعقبي، ولإخواني، ولجميع المسلمين، واغفر لي ما قدمت من سيئات في حياتي، واغفر لوالدي، ولجميع المؤمنين والمؤمنات؛ فإنك خير مسئول، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

الإعراب: {وَكَذلِكَ:} (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف عامله ما بعده، التقدير: جعلنا لكل نبي

إلخ. جعلا كائنا مثل الجعل الذي جعلناه لك من عداوة قومك لك، وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [55]. {جَعَلْنا:} فعل وفاعل. وانظر إعراب:

{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]. {لِكُلِّ:} متعلقان بمحذوف مفعول ثان تقدم على الأول، وهو {عَدُوًّا}. {شَياطِينَ:} بدل من: {عَدُوًّا،} وبعضهم أعرب {عَدُوًّا} مفعولا ثانيا مقدما، و {لِكُلِّ نَبِيٍّ} حالا منه قدم عليه على القاعدة:«نعت النكرة، إذا تقدم عليها يعرب حالا» .

و {شَياطِينَ:} مفعولا أول مؤخرا، وأعرب الزمخشري، وأبو البقاء، والحوفي:{شَياطِينَ} مفعولا أول، والثاني {عَدُوًّا،} و {لِكُلِّ نَبِيٍّ} حالا من: {عَدُوًّا} لأنه صفته في الأصل انتهى جمل. و {شَياطِينَ:} مضاف، و {الْإِنْسِ:} مضاف إليه. {وَالْجِنِّ:} معطوف على ما قبله.

{يُوحِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {بَعْضُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلى بَعْضٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {زُخْرُفَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْقَوْلِ:} مضاف إليه. {غُرُوراً:} مفعول لأجله، أو هو حال، بمعنى: غارين، والجملة الفعلية:{يُوحِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من (الشياطين)، وجوز اعتبارها صفة:{عَدُوًّا} . {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [107]. و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {فَذَرْهُمْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. (ذرهم): أمر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب معطوفة على الضمير المنصوب، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو شيئا تفترونه. وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب معطوف على الضمير المنصوب، التقدير:

فذرهم، وافتراءهم. هذا؛ وجوز اعتبار الواو للمعية، فتكون:{ما} على الاعتبارين الأولين في محل نصب مفعول معه، وعلى الاعتبار الثالث يكون المصدر المسبوك منها، ومن الفعل في

ص: 374

محل نصب مفعول معه، والجملة الفعلية:{فَذَرْهُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا وحاصلا؛ فذرهم

إلخ.

{وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}

الشرح: {وَلِتَصْغى:} تميل، ومنه قوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} وأصغى إليه: مال بسمعه نحوه، وأصغى الإناء: أماله، وبابه، نصر، ورمى، وصدي، والضمير يعود إلى ما عاد إليه الضمير في:{فَعَلُوهُ} وهو زخرفة القول، وما نتج عنه من الاغترار، والخداع. {بِالْآخِرَةِ} انظر الآية رقم [5/ 33]. {وَلِيَقْتَرِفُوا:} وليكتسبوا من الآثام، والسيئات. {مُقْتَرِفُونَ:}

مكتسبون من الأعمال الخبيثة.

الإعراب: (لتصغى): مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَفْئِدَةُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} مضاف إليه مبني على الفتح في محل جر، والجملة الفعلية:{لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} صلة الموصول لا محل لها، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على قوله:{غُرُوراً} لأن اللام مفيدة لمعناه، ويكون ما بينهما كلاما معترضا، ولكن لما كان المفعول الأول مستكملا لشروط النصب؛ نصب، وهذا فات فيه شرط النصب، وهو صريح المصدرية، واتحاد الفاعل، فإن فاعل الوحي {بَعْضُهُمْ،} وفاعل الإصغاء (الأفئدة) فلذا وصل الفعل بحرف العلة. انتهى جمل نقلا عن الكرخي. وقال ابن الأنباري: اللام متعلقة بفعل مضمر معناه: وفعلنا بهم ذلك؛ لكي تصغى إلى الباطل أفئدة

إلخ. وقال غيره: اللام متعلقة ب {يُوحِي} . وقيل: اللام لام القسم، وكسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون، وهذا القول عزاه ابن هشام في مغنيه لأبي الحسن الأخفش، وقال: وافقه أبو علي الفارسي على ذلك، وانظر الكلام على الشاهد (379) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ففيه الكفاية. والمعتمد الأول من هذه الأقوال، وقول ابن الأنباري لا بأس به. وانظر الآية [9/ 62]. {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا:} مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعل لهما، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على ما قبلهما، وتقدير الكلام:

للإصغاء، وللإرضاء، وللاقتراف. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{مُقْتَرِفُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون

ص: 375

عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو: شيئا هم مقترفونه، أو: له.

{أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)}

الشرح: {أَبْتَغِي:} أطلب. {حَكَماً:} حاكما يحكم بيني، وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل. هذا؛ وحكم أبلغ من حاكم، فلذا لا يوصف به غير العادل؛ لأن الحاكم من شأنه أن يحكم، والحكم أهل أن يتحاكم إليه. {أَنْزَلَ:} انظر الآية رقم [5/ 49]. {الْكِتابَ:} المراد به القرآن الكريم، وانظر الآية رقم [7/ 2]. {مُفَصَّلاً:} مبينا فيه الحق والباطل، بحيث ينفي التخليط، والالتباس، وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه، وتقريره مغن عن سائر الكتب.

{آتَيْناهُمُ:} أعطيناهم. {الْكِتابَ:} المراد به التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه الصلاة والسلام. {أَنَّهُ} أي: القرآن. {رَبِّكَ:} انظر الآية رقم [1] من سورة (الفاتحة) ورقم [7/ 3].

{بِالْحَقِّ:} انظر الآية رقم [5/ 27] والمراد بالذين يعلمون أن القرآن منزل من عند الله بالحق:

عبد الله بن سلام، وأصحابه. وقيل: بل المراد جميع اليهود، وإنما وصف جميعهم بالعلم؛ لأن أكثرهم يعلمون، ومن لم يعلم فهو متمكن منه بأدنى تأمل. انتهى بيضاوي بتصرف. {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ:} الشاكين في أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون: أنه منزل من ربك بالحق. هذا؛ وقد قيل: إن هذا الخطاب غير ملائم بحسب الظاهر؛ لأن النهي المذكور محال في حقه صلى الله عليه وسلم.

وحاصل الجواب: أن متعلق الامتراء هو علم أهل الكتاب بحقية القرآن. وهو أحد الأجوبة في الكشاف. والثاني: أنه من باب التهييج، والتحريض على الأمر. والثالث: أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، لكن المقصود الغير. انتهى جمل بتصرف.

أقول: أو أنه على سبيل الفرض، والتقدير؛ لأنه من المحال أن يشك النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، أو يبني شيئا من أموره على الشك. وانظر الآية رقم [2/ 147]. هذا؛ وقد كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكما. فأمره الله أن يجيبهم بما في الآية الكريمة من جواب.

الإعراب: {أَفَغَيْرَ:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار، وتوبيخ. الفاء: حرف عطف.

(غير): مفعول به مقدم، و (غير) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {أَبْتَغِي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {حَكَماً:} حال، أو تمييز ل (غير). ذكره الحوفي، وأبو البقاء، وابن عطية. هذا؛ وجوز اعتبار (غير) حالا من:

{حَكَماً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وانظر الآية رقم [164] الآتية. فيكون:

{حَكَماً} مفعولا به، والجملة الفعلية:{أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي} معطوفة على مقدر يقتضيه الكلام،

ص: 376

والكلام كله مقول لقول محذوف، التقدير: قل لهم يا محمد: أأميل إلى زخارف الشياطين، فأبتغي حكما؟! انتهى. أبو السعود بتصرف، والناقل الجمل. {وَهُوَ الَّذِي:} مبتدأ وخبر، والجملة الفعلية:{أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ} صلة الموصول، والعائد: رجوع الفاعل إلى الموصول، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير. {مُفَصَّلاً:} حال من: {الْكِتابَ} . (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية:{آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} صلة الموصول لا محل لها، والعائد الضمير المنصوب. {يَعْلَمُونَ:} فعل وفاعل. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {مُنَزَّلٌ:} خبرها. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان ب {مُنَزَّلٌ} . {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في: {مُنَزَّلٌ} وأن، واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي:{يَعْلَمُونَ} والجملة الفعلية هذه في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:

{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها غير داخلة في مقول المقدر. {فَلا:} الفاء: هي الفصيحة، (لا): ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ:} مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهو في محل جزم ب (لا) الناهية، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {مِنَ الْمُمْتَرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر الفعل الناقص، والجملة الفعلية:{فَلا تَكُونَنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط محذوف، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا فلا تكونن

إلخ، وانظر الآية رقم [35]. والشرط المقدر ومدخوله كلام مستأنف فيما يظهر، لا محل له.

{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}

الشرح: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ..} . إلخ: يقرأ بالإفراد، والجمع، فمن قرأ بالإفراد؛ قال: الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة. إذا كانت مضبوطة بضابط واحد، ومعنى تمامها: بلوغها الغاية في الأخبار، والأحكام، والمواعيد. {صِدْقاً:} في الأخبار، والمواعيد. {وَعَدْلاً:} في الأقضية، والأحكام، والشهادة. {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ:} لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق، وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها، كما فعل بالتوراة، وغيرها، والمراد بكلمات الله: قرآنه الذي أنزله، وتولى حفظه ورعايته، كما قال:{إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} . {السَّمِيعُ:} لما يقولون. {الْعَلِيمُ:} بما يضمرون من الكيد، والخداع، فلا يهملهم. هذا؛ وانظر:{لِكَلِماتِ اللهِ} أيضا في الآية رقم [34].

تنبيه: (كلمت) فيها ثلاث لغات: الأولى: كلمة على وزن نبقة، وهي الفصحى، ولغة أهل الحجاز، وبها نطق القرآن الكريم في آيات كثيرة، وجمعها: كلم، كنبق. والثانية: كلمة على وزن سدرة، والثالثة كلمة على وزن: تمرة، وهما لغتا تميم، وجمع الأولى: كلم، كسدر، والثانية:

ص: 377

كلم، كتمر، وكذلك كل ما كان على وزن فعل، نحو: كبد، وكتف، فإنه يجوز فيه اللغات الثلاث، فإن كان الوسط حرف حلق، جاز فيه لغة رابعة وهي إتباع الأول للثاني في الكسر، نحو:

فخذ، وشهد. وهي في الأصل قول مفرد، مثل محمد، وقام، وقعد، وفي، ولن، وقد تطلق على الجمل المفيدة، كما في قوله تعالى {كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} إشارة إلى:{رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر، كلمة لبيد:[الطويل]

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم-لا محالة-زائل»

المراد ب: «كلمة» الشطر الأول بكامله. وتقول: قال فلان كلمة، والمراد بها: كلام كثير، وهو شائع، ومستعمل عربية في القديم، والحديث. وانظر شرح الكلام في الآية [7/ 143].

الإعراب: (تمت): ماض، والتاء للتأنيث. {كَلِمَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، و {كَلِمَةُ:} مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة.

{صِدْقاً:} يحتمل المفعول لأجله، والحال، والتمييز. {وَعَدْلاً:} معطوف على سابقه. {لا:}

نافية للجنس تعمل عمل: «إن» . {مُبَدِّلَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب.

{لِكَلِماتِهِ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر: {لا،} وهذا على لغة الحجازيين الذين يجيزون ذكر خبر {لا} فأما على لغة بني تميم الذين يوجبون حذفه، فالجار والمجرور متعلقان ب {مُبَدِّلَ} لأنه اسم فاعل، أو بمحذوف صفة له. والثاني أقوى، وعليهما فخبر:{لا} محذوف، تقديره: موجود، أو حاصل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة، وجوز اعتبارها في محل نصب حال من:{كَلِمَةُ رَبِّكَ،} وقد أغنى الظاهر عن الضمير، أي: الذي يربط الحال بصاحبها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} مستأنفة مقوية لمعنى الكلام السابق. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ (116)}

الشرح: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} أي: أكثر الناس، يريد الكفار، والجهال، وأتباع الأهواء الفاسدة. {يُضِلُّوكَ:} يبعدوك. وانظر: {وَضَلَّ} في الآية رقم [24]. {سَبِيلِ اللهِ:} دينه، ومنهاجه القويم، وصراطه المستقيم، وانظر:{سَبِيلِ} في الآية رقم [5/ 16].

{اللهِ:} انظر الاستعاذة. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ،} وهو ظنهم: أن آباءهم كانوا على الحق، وأن أصنامهم ستشفع لهم، وتنفعهم، أو هم يتبعون جهالتهم، وآراءهم الفاسدة. فإن الظن يطلق على ما يقابل العلم. {وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ:} يكذبون على الله فيما ينسبون إليه، كاتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه، وتحليل الميتة، وتحريم البحائر، وغير ذلك. أو يقدرون: أنهم

ص: 378

على شيء. وحقيقة الخرص ما يقال من ظن، وتخمين، ومنه: خرص التمر، والعنب على شجرهما، وهو معروف في مبحث الزكاة في الفقه الإسلامي.

روي: أن المشركين، قالوا للنبي: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟: فقال: «الله قتلها» . قالوا: أنت تزعم: أن ما قتلت أنت، وأصحابك حلال، وما قتلها الكلب، والصقر حلال، وما قتله الله حرام! فنزلت الآية الكريمة.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تُطِعْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {أَكْثَرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {مَنْ} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وجملة:{تُطِعْ أَكْثَرَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يُضِلُّوكَ:}

مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {إِنْ:} حرف نفي.

{يَتَّبِعُونَ:} فعل، وفاعل. {إِلاَّ:} حرف حصر لا محل له. {الظَّنَّ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. (إن): حرف نفي. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاَّ} حرف حصر لا محل له، وجملة:{يَخْرُصُونَ} في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}

الشرح: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ:} يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن ربك هو أعلم منك، ومن جميع خلقه أيّ الناس يكفر، ويخرج عن جادة الحق والصواب.

{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ:} كذلك هو أعلم بمن كان على هدى، واستقامة، وسداد، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه. فأخبر سبحانه: أنه أعلم بالفريقين: الضال، والمهتدي، وأنه يجازي كلاّ بما يستحق. {رَبَّكَ:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] أو [7/ 2]. {يَضِلُّ:} انظر الآية رقم [24].

{سَبِيلِهِ:} المراد به دينه، وانظر الآية رقم [5/ 16] هذا؛ وقد قرئ:«يضل» أيضا بضم الياء من الرباعي، وفتحها من الثلاثي.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{هُوَ أَعْلَمُ} في محل رفع خبرها، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة لا محل لها. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية

ص: 379

على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، دل عليه:{أَعْلَمُ} لابه؛ لأن أفعل لا ينصب الظاهر، ولا يرفعه إلا في مسألة الكحل، ونحوها. والجملة الفعلية:{يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} صلة: {مَنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها. هذا؛ وجوز اعتبار:{مَنْ} استفهامية مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها في محل رفع خبرها، والجملة الاسمية معلق الفعل المقدر عنها، أي: إنها في محل نصب مفعول به. وقيل: {مَنْ} موصولة، وهي في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بمن، بدليل ظهور الباء بعده في:{بِالْمُهْتَدِينَ} .

وعليه فالجار والمجرور متعلقان ب {أَعْلَمُ} . (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبره {بِالْمُهْتَدِينَ:} متعلقان ب {أَعْلَمُ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

{فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)}

الشرح: {فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ:} هذا مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام، ويحرمون الحلال، وهو ما ذكرته لك في شرح الآية رقم [116]. والأمر للإباحة، لا للوجوب. {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ:} والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه، لا مما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم، أو مات حتف أنفه، فإن الإيمان بآيات الله يقتضي استباحة ما أحله الله، واجتناب ما حرمه. {اِسْمُ:} انظر شرحه في البسملة. {اللهِ:} انظر شرحه في الاستعاذة. {كُنْتُمْ:} انظر إعلال مثله في الآية رقم [5/ 6]. {بِآياتِهِ:} انظر الآية رقم [4].

{مُؤْمِنِينَ:} انظر (الإيمان) في الآية رقم [5/ 94].

الإعراب: {فَكُلُوا:} الفاء: فيها وجهان: أحدهما: أنها الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر: التقدير: إن كنتم صحيحي الإيمان؛ فكلوا. والثاني: أنها عاطفة على محذوف، كأنه قيل: كونوا على الهدى، فكلوا، والظاهر: أنها عاطفة على ما تقدم من مضمون الجمل المتقدمة انتهى. جمل بتصرف كبير. وأرجح الاستئناف على جميع الأقوال المذكورة، وذلك بالإعراض عن الكلام السابق. (كلوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {مِمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصوفة والموصولة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية:{ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط هو الضمير المجرور محلاّ ب (على)، والجملة الفعلية: (كلوا

) إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المذكورة في الفاء. {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [40] والجار والمجرور متعلقان ب {مُؤْمِنِينَ} بعدهما، والدلالة على جواب الشرط المحذوف في هذه الآية أوضح منها في تلك.

ص: 380

{وَما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)}

الشرح: {وَما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} أي: أيّ شيء يمنعكم من أكل الذي ذكر اسم الله عليه؟! فأرى: أن في الكلام توبيخا. {اِسْمُ اللهِ:} انظر الإحالة في الآية السابقة.

{فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ:} بين لكم المحرم عليكم، والمحلل لكم، وذلك فيما ذكره في الآية رقم [5/ 3]. {إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ:} ألجأتكم الضرورة إلى أكله، وقد ذكر في الآية المذكورة، والمحال عليها أيضا برقم [2/ 173]. {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ:} يخرجون عن جادة الحق والصواب بتحليل الحرام، وتحريم الحلال. هذا؛ ويقرأ الفعل بفتح ياء المضارعة، وضمها، كما يقرأ «فصل» و «حرم» بالبناء للمفعول، وللفاعل. {بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ،} بما تهواه أنفسهم من تحليل الميتة وغيرها، وتحريم البحيرة، وغيرها، وذلك من غير علم علموه. هذا؛ و (أهوائهم) جمع: هوى. وما أجدرك أن تنظر الآية رقم [4/ 135] فإنه جيد جدا. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} أي: بالمتجاوزين الحق إلى الباطل، والحلال إلى الحرام، وبالعكس فيهما.

{رَبَّكَ:} انظر الآية رقم [1] من سورة (الفاتحة)، وانظر شرح:{بِغَيْرِ} فيها أيضا، وانظر شرح (الحرام) في الآية رقم [5/ 2].

تنبيه: في إحالة التفصيل فيما حرم الله على آية (المائدة) إشكال أورده فخر الدين الرازي -رحمه الله تعالى-وحاصله: أن سورة (الأنعام) مكية، وسورة (المائدة) مدنية من آخر القرآن نزولا بالمدينة، وقوله:{وَقَدْ فَصَّلَ..} . إلخ يقتضي: أن ذلك التفصيل قد تقدم على هذا المحل، والمدني متأخر عن المكي، فيمتنع كونها متقدمة، ثم قال: بل الأولى أن يقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ..} . إلخ، أي في قوله بعد هذه الآية في هذه السورة:{قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً..} .

إلخ الآية الآتية رقم [145] وهذه وإن كانت مذكورة بعدها بقليل، إلا أن هذا القدر من التأخر، لا يمنع أن يكون هو المراد.

قال كاتبه: وقد ذكر المفسرون وجها آخر، وهو: أن الله علم: أن سورة (المائدة) متقدمة على سورة (الأنعام) في الترتيب، لا في النزول، فبهذا الاعتبار حسنت الحوالة على ما في (المائدة) بقوله:{وَقَدْ فَصَّلَ..} . إلخ باعتبار تقدمه في الترتيب، وإن كان متأخرا في النزول، والله أعلم بمراده. انتهى جمل نقلا من الخازن بتصرف كبير.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبره. {أَلاّ:} (أن): حرف

ص: 381

ناصب. (لا): نافية. {تَأْكُلُوا:} مضارع منصوب ب (أن)، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِمّا:} متعلقان بمحذوف صفة مفعول به، التقدير: شيئا كائنا مما

إلخ، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من). {ذُكِرَ:} ماض مبني للمجهول. {اِسْمُ:} نائب فاعله، وهو مضاف، و {اللهِ:}

مضاف إليه. {عَلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{ذُكِرَ..} . إلخ صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ ب (على)، و (أن) المصدرية، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في عدم الأكل، والجار والمجرور متعلقان ب (ما) الاستفهامية لتضمنها معنى الفعل. وقيل: هو في محل نصب بنزع الخافض، والجملة الاسمية:{وَما لَكُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَقَدْ:}

الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {فَصَّلَ:} ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} {لَكُمْ:} متعلقان به. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: حرمه عليكم، وفاعل:{حَرَّمَ} يعود إلى: {اللهِ} أيضا.

{عَلَيْكُمْ:} متعلقان به، وهذا على قراءة الفعلين بالبناء للفاعل، وأما على قراءتهما بالبناء للمفعول، فنائب فاعل:(فصّل) هو {ما} ونائب فاعل: (حرّم) يعود على {ما،} وهو العائد، أو الرابط. والجملة الفعلية:{وَقَدْ فَصَّلَ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، ورجوع الفاعل عليه في قراءة البناء للفاعل، والواو فقط على قراءة البناء للمفعول. {أَلاّ:} أداة استثناء. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة، مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء، وهل هو متصل، أو منقطع؟ خلاف، والأرجح الأول؛ لأنه استثناء من:{ما،} أو من ضميرها العائد عليها من الجملة بعدها، فهو استثناء، من الجنس.

{اُضْطُرِرْتُمْ:} ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله. {إِلَيْهِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلاّ ب (إلى). {وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {كَثِيراً:} اسمها.

{لَيُضِلُّونَ:} اللام: هي المزحلقة، والجملة الفعلية:(يضلون بأهوائهم) في محل رفع خبر:

(إنّ)، فعلى قراءة الفعل بضم الياء يكون المفعول محذوفا، وعلى قراءته بفتح الياء يكون لازما لا يحتاج إلى مفعول. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال، أي: ملتبسين بغير، و (غير) مضاف، و {عِلْمٍ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ كَثِيراً..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، ولا يوجد رابط لاعتبارها حالا. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [117] وهي مستأنفة لا محل لها، وفيه تهديد، ووعيد للمتجاوزين حدود الله.

ص: 382

{وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)}

الشرح: {وَذَرُوا:} اتركوا، وانظر الآية رقم [7/ 70]. {ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ:} المراد به جميع الذنوب سرها، وعلانيتها. وقيل: المراد بظاهر الإثم: أفعال الجوارح، وباطنه: أفعال القلوب، فيدخل في ذلك الأمراض القلبية كلها من حسد، وكبر، وعجب، وإرادة الشر للعباد.

وقيل: المراد بظاهر الإثم: الزنى في الحوانيت، وباطنه: الزنى في السر. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [5/ 3] فإنه جيد. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ:} انظر الآية رقم [4/ 111] فإنه جيد.

{سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ:} سيعاقبون عقابا شديدا بسبب اكتسابهم الذنوب، والمعاصي، والسيئات. هذا؛ و (يجزون) من الجزاء، والمجازاة، وهي المكافأة على عمل ما، تكون في الخير، وتكون في الشر، فمن الأول قوله تعالى:{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} ومن الثاني قوله تعالى: {وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} فقد أراد جزاء الشر، والجزاء من جنس العمل، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر. هذا؛ والفعل:«جزى» وما يتصرف منه ينصب مفعولين.

الإعراب: (ذروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {ظاهِرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْإِثْمِ:} مضاف إليه، من إضافة الصفة للموصوف، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {وَباطِنَهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ} اسمها، وجملة:{يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ} صلة الموصول لا محل لها. {سَيُجْزَوْنَ:} السين: حرف استقبال.

(يجزون): مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {بِما:} متعلقان بمحذوف مفعوله الثاني، أي: يجزون سوءا كائنا بسبب عملهم، وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [124] الآتية فإنه مثله بلا فارق، والجملة الفعلية:{سَيُجْزَوْنَ..} . إلخ في محل رفع خبر:

{إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها.

{وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)}

الشرح: {وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ:} ظاهر في تحريم متروك التسمية عمدا، أو نسيانا. وإليه ذهب داود الظاهري، وابن سيرين، والشعبي. ونقل عن عطاء: أنه قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام، أو شراب، فهو حرام، واحتجوا على ذلك بظاهر هذه الآية، وهو

ص: 383

مؤول بما ستعرفه. وقال الثوري، وأبو حنيفة: إن ترك التسمية عامدا؛ لا تحل، وإن تركها ناسيا؛ حلت. وقال الشافعي: تحل الذبيحة، سواء ترك التسمية عامدا، أو ناسيا. ونقله البغوي عن ابن عباس، ومالك، ونقل ابن الجوزي عن أحمد روايتين، فيما إذا ترك التسمية عامدا، وإن تركها ناسيا؛ حلت، فمن أباح أكل الذبيحة التي لم يذكر عليها اسم الله تعالى، قال: المراد من الآية الميتات بدون تذكية، وما ذبح على اسم الأصنام، بدليل: أن الله تعالى قال في سياق الآية: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وأجمع العلماء على أن آكل ذبيحة المسلم التي ترك التسمية عليها لا يفسق.

وفي الحديث حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متروك التسمية، قال:«كلوا فإنّ الله في قلب كلّ مؤمن» وفي الحديث أيضا: «ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يذكر اسم الله عليها» . {وَإِنَّهُ:}

الضمير يعود إلى (ما)، ويجوز أن يعود إلى الأكل، وهو مصدر الفعل المتقدم. {لَفِسْقٌ:}

خروج عما يحل، وانظر {الْفاسِقِينَ} في الآية رقم [5/ 25]. (شياطين): انظر الآية رقم [112] وانظر الاستعاذة. {لَيُوحُونَ:} يوسوسون، ويزخرفون. {أَوْلِيائِهِمْ:} أتباعهم، وأنصارهم، وانظر الآية رقم [14]. {لِيُجادِلُوكُمْ:} وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: «الله قتلها» ، قالوا: تزعم: أن ما قتلت أنت، وأصحابك حلال، وما قتله الصقر، والكلب حلال، وما قتله الله حرام! {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي: في استحلال ما حرم الله.

{إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ:} فإن من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره، واتبعه في دينه؛ فقد أشرك، ولأن من أحل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أحل الله؛ فهو مشرك؛ لأنه أثبت حاكما غير الله، ومن كان كذلك؛ فهو مشرك. انتهى بيضاوي وجمل بتصرف.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَأْكُلُوا:} مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِمّا:} متعلقان بمحذوف صفة مفعول به محذوف، التقدير: شيئا كائنا مما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من)، وجملة:{لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ ب (على)، والجملة الفعلية:{وَلا تَأْكُلُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: (ذروا

) إلخ في الآية السابقة لا محل لها مثلها. {وَإِنَّهُ:} الواو: واو الحال. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَفِسْقٌ:} اللام: هي المزحلقة. (فسق): خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب (على)، والرابط:

الواو، والضمير. هذا؛ وقد جوز اعتبارها مستأنفة لا محل لها، كما جوز اعتبارها معطوفة على ما قبلها مع تخالفهما في الفعلية، والاسمية. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {الشَّياطِينَ:} اسم (إنّ). {لَيُوحُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (يوحون): فعل، وفاعل. {إِلى أَوْلِيائِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِيُجادِلُوكُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة

ص: 384

بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(يوحون)، والجملة الفعلية:{لَيُوحُونَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ الشَّياطِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف. (إن):

حرف شرط جازم. {أَطَعْتُمُوهُمْ:} ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. اللام: هي المزحلقة. (مشركون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} في محل جزم جواب الشرط، ومن حقها أن تقترن بالفاء، وإنما حسن حذفها فيه لأن الشرط بلفظ الماضي. هذا؛ وقد قيل إن اللام الموطئة للقسم مقدرة، فالأصل لئن أطعتموهم

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} جواب القسم المحذوف المدلول عليه باللام، وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده على القاعدة التي رأيت شرحها في الآية رقم [109] والقسم، وجوابه، أو: والشرط وجوابه كلام مستأنف لا محل له.

{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)}

الشرح: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ:} في الكلام استعارة تمثيلية واضحة، مثل الله به من هداه للإيمان، وأنقذه من الضلال، وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء، فيميز بها بين الحق والباطل، والهدى والضلالة. {مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها} أي: كالذي بقي في ظلمات الكفر يتخبط فيها، ولا يستطيع الخروج منها. {زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ..}. إلخ: أي كما زين للمؤمنين إيمانهم زين للكافرين كفرهم، وسوء أعمالهم. بعد هذا انظر {أَوَلَوْ} في الآية رقم [104] المائدة ف:{أَوَمَنْ} مثله. {مَيْتاً:} انظر الآية رقم [95] ويقرأ به هنا مخففا، ومشددا. {النّاسِ:} انظر الآية رقم [5/ 32]. {مَثَلُهُ:}

انظر الآية رقم [93]. {الظُّلُماتِ} أي: ظلمة الكفر، وظلمة الجهالة، وظلمة عمى البصيرة، وانظر الآية رقم [1]. انظر الكفر في الآية رقم [5/ 39]. هذا؛ والمزين هو الله تعالى، ويدل عليه قوله:{زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ} وانظر (نا) في الآية رقم [34] أو رقم [6] من سورة (الأعراف).

ص: 385

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في حمزة، رضي الله عنه وأبي جهل. وقيل: نزلت في عمر، أو عمار بن ياسر-رضي الله عنهما، وأبي جهل، وخصوص السبب لا يمنع العموم، فكل من أنعم الله عليه بالإيمان فقد أحياه به، وكل من خيمت ظلمات الكفر عليه، فهو ميت بلا ريب، أي: ميت القلب. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَوَمَنْ:} الهمزة: حرف استفهام. الواو: حرف عطف، أو استئناف. (من):

اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه يعود إلى (من). {مَيْتاً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية صلة (من)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها. (أحييناه): فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. (جعلنا): فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {لَهُ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {نُوراً:} مفعول به. {يَمْشِي:} مضارع مرفوع، والفاعل يعود إلى (من). {بِهِ:} متعلقان به. {فِي النّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من فاعل:{يَمْشِي،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {نُوراً} . {كَمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالكاف. {مَثَلُهُ:} مبتدأ. {فِي الظُّلُماتِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية هذه صلة:(من)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ بالإضافة. {لَيْسَ:} ماض ناقص. {بِخارِجٍ:} الباء: حرف جر زائد. (خارج): خبر {لَيْسَ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، واسم {لَيْسَ} ضمير مستتر فيه تقديره هو يعود إلى (من). {مِنْها:} متعلقان ب (خارج)، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ في محل نصب حال من (من) أي: مثل الذي أو: شخص استقر في الظلمات حالة كونه مقيما فيها. وقال أبو البقاء: صاحب الحال الضمير المستتر في الجار والمجرور، ولا يجوز أن يكون حالا من الهاء في:{مَثَلُهُ} للفصل بينه وبين الحال في الخبر، وليس بشيء؛ لأن الحال قد تأتي وبينها وبين صاحبها كلام كثير، كما يشهد به الواقع، والكلام:{أَوَمَنْ كانَ..} . إلخ مستأنف لا محل له فيما أرى. {كَذلِكَ:} متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: زين للكافرين أعمالهم تزيينا كائنا مثل تزيين إيمان المؤمن له أعماله. {زُيِّنَ:} ماض مبني للمجهول. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع نائب فاعل، وعلى الثالث تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع نائب فاعل، انظر التقدير آنفا. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان) وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:(كانوا يعملونه).

ص: 386

{وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)}

الشرح: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا..} . إلخ: أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها؛ ليمكروا فيها، جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها؛ ليمكروا فيها. هذا؛ وقرئ:«(أكبر مجرميها)» وانظر الآية رقم [41](المائدة) وتخصيص الأكابر بالذكر؛ لأنهم أقوى على استتباع الناس، والمكر بهم، بما لهم من سلطة، ومال، وجاه، وتلك سنة الله: أنه جعل أتباع الرسل ضعفاء أقوامهم، وجعل فساقهم أكابرهم، وإذا عرفنا: أن العلماء ورثة الأنبياء؛ تجلت لنا هذه الحقيقة في كل زمان، ومكان؛ حيث نجد أصدقاء العلماء، ومجالسيهم، وملازميهم هم الفقراء، والضعفاء، بينما نجد الأغنياء، وأصحاب الجاه الدنيوي بعيدين عنهم، إلا من رحم ربك. {وَما يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ} أي: إن وبال مكرهم يعود إليهم ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. {وَما يَشْعُرُونَ:} أن وبال ذلك المكر يعود عليهم، ويضرهم. هذا؛ و (القرية) في الأصل: اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على الضيعة الصغيرة، وعلى المدينة الكبيرة، كيف لا، وقد جعل الله مكة المكرمة أم القرى، كما رأيت في الآية رقم [92]. هذا؛ وفي القاموس المحيط: القرية بكسر القاف، وفتحها، والنسبة إليها قروي، وقريي. والمكر: الكيد، والخداع، وتدبير الضر، والشر للناس في الخفاء كالذي حصل من زعماء مكة مع الرسول صلى الله عليه وسلم. {بِأَنْفُسِهِمْ:} انظر الآية رقم [7/ 9].

{يَشْعُرُونَ:} الشعور: هو إدراك الشيء من وجه يدق، ويخفى، مشتق من الشعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته، ودقة معرفته، والمعنى: وما يشعرون: أن وبال مكرهم راجع على أنفسهم، وأنهم سيحاسبون عليه يوم القيامة حسابا عسيرا.

الإعراب: (كذلك): متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا، أي:

جعلنا في مكة فساقا، ومجرمين جعلا مثل جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، وانظر تفصيل الإعراب في الآية رقم [55]. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [2](المائدة){فِي كُلِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {كُلِّ} مضاف، و {قَرْيَةٍ:} مضاف إليه. {أَكابِرَ:} مفعول به ثان مقدم. {مُجْرِمِيها:} مفعول به أول مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وها: ضمير متصل في محل جر بالإضافة. هذا؛ وجوز اعتبار: {فِي كُلِّ} مفعولا أولا، و {أَكابِرَ} مفعولا ثانيا، و {مُجْرِمِيها} بدلا من:{أَكابِرَ،} كما جوز أن يكون:

{أَكابِرَ:} مضافا، و {مُجْرِمِيها:} مضافا إليه، إن فسر الجعل بالتمكين، وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد، والمطابقة، ولذلك قرئ:«(أكبر مجرميها)» . انتهى. بيضاوي. هذا؛ وقد

ص: 387

اعتبر الجمل {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} هو المفعول الثاني وجب تقديمه؛ ليصح عود الضمير عليه، و {أَكابِرَ} هو المفعول الأول، وما بعده مضاف إليه، ثم قال: وهذا أحسن الأعاريب، ثم نقل عن السمين كلاما كثيرا لا طائل تحته. {لِيَمْكُرُوا:} مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل. وقيل: هي لام العاقبة، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل جعلنا. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {يَمْكُرُونَ:} فعل وفاعل، {إِلاّ:} حرف حصر. {بِأَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{وَما يَمْكُرُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهو أولى، وأقوى من الاستئناف، وجملة:{وَما يَشْعُرُونَ} معطوفة عليها.

{وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)}

الشرح: {جاءَتْهُمْ آيَةٌ} أي: جاء كفار قريش علامة، وبينة تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.

وانظر الآية رقم [4] و [5]. {قالُوا} أي: كفار قريش، وانظر «القول» في الآية رقم [7/ 3]. {لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ} أي: قالوا: لن نصدق محمدا حتى ينزل علينا مثل ما نزل عليه من الوحي، والآيات القرآنية. {نُؤْتى:} انظر (أتى) في الآية رقم [4]. {مِثْلَ:} انظر الآية رقم [93]. {رُسُلُ:} انظر الآية رقم [5/ 83] وأيضا رقم [5/ 19]. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} أي: الله أعلم بالشخص الذي يستحق النبوة، والرسالة، فيخص بها من علم أنه يصالح لها، وذلك بما تحلى به ذلك الشخص من فضائل نفسانية، وأخلاق حميدة؛ إذ الرسالة ليست بالمال، ولا بقوة الرجال، ولا بشرف الأنساب. هذا؛ ويقرأ:«(رسالاته)» .

{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا:} كفروا، وعاندوا. {صَغارٌ:} ذلة، وحقارة. {عِنْدَ اللهِ} أي: يوم القيامة، وقد أصابتهم في الدنيا قبل الآخرة، وذلك بغزوة بدر، وفتح، مكة وغيرهما، {وَعَذابٌ شَدِيدٌ،} أي في الآخرة، وانظر:{وَعَذابٌ} في الآية رقم [5/ 39]. {بِما كانُوا يَمْكُرُونَ:} بسبب مكرهم، وخداعهم، وخروجهم عن جادة الحق والصواب، وانظر (المكر) في الآية السابقة. هذا؛ والعندية هنا مجاز عن حشرهم يوم القيامة، أو عن حكمه، وقضائه بذلك.

تنبيه: (يصيب)، ماضيه: أصاب، وهو يحتمل معاني كثيرة، تقول: أصاب السهم، يصيب:

لم يخطئ هدفه. وأصاب الرجل، يصيب في قوله: أتى بالصواب. وأصاب فلانا البلاء، يصيبه:

ص: 388

وقع عليه. وأصل يصيب: يؤصيب، أو يؤصوب، فقل في إعلاله: حذفت الهمزة للتخفيف حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل: أؤصيب، الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار:(يصيب أو يصوب) ثم يقال: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الياء، أو الواو-وهي الكسرة-إلى الصاد بعد سلب سكونها، فصار:(يصيب، أو يصوب) ثم قلبت الواو في الثاني ياء لانكسار ما قبلها. وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي مزيدة الهمزة في أوله، مثل: أجاب، يجيب، وأكرم، يكرم، وأخرج، يخرج، كما حذفت الهمزة الثانية من: يؤمنون؛ لأن ماضيه:

آمن، وأصله: أأمن، والمضارع يؤأمن، أؤمن، فتحذف من الأول، وتسهل في الثاني، وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور، كما في قول أبي حيان الفقعسي:[الرجز]

فإنه أهل لأن يؤكرما

ولا تنس: أن الهمزة المزيدة هذه تحذف من اسمي الفاعل، والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم، ومكرم، والقياس: مؤكرم، ومؤكرم، وقس على ذلك. تنبه لهذا؛ واحفظه، فإني لا أعيده مرة ثالثة في هذا الكتاب، والله يتولاني وإياك، ويأخذ بيدي ويدك إلى أقوم طريق.

تنبيه: يروى: أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقّا؛ لكنت أنا أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنّا، وأكثر مالا، وأعز نفرا. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك: أنه قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا، منا نبي يوحى إليه. والله لا نؤمن به، ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. فأنزل الله هذه الآية. وإنما قالوا هذه المقالة الخبيثة حسدا منهم للنبي صلى الله عليه وسلم. انتهى بتصرف.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. إذا: ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب، وجملة:{جاءَتْهُمْ آيَةٌ} في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {لَنْ:} حرف تفي ونصب واستقبال. {نُؤْمِنَ:} مضارع منصوب ب (لن)، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» . {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {نُؤْتى:} مضارع مبني للمجهول منصوب ب «أن» المضمرة، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل تقديره:«نحن» ، وهو المفعول الأول. {مِثْلَ:}

مفعول به ثان، و {مِثْلَ} مضاف، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها،

ص: 389

والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: أوتيه رسل الله. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بإضافة {مِثْلَ} إليه، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لَنْ نُؤْمِنَ..} .

إلخ في محل نصب مقول القول. {اللهُ أَعْلَمُ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {حَيْثُ:} مفعول به لفعل محذوف، تقديره: يعلم. {يَجْعَلُ:} مضارع، وفاعله يعود إلى {اللهِ}. {رِسالَتَهُ:} مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة، وعلى القراءة الثانية:

«(رسالاته)» علامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها، وجملة: «يعلم حيث

» إلخ المقدرة هي بمنزلة البدل من: {أَعْلَمُ} . {سَيُصِيبُ:} السين: حرف استقبال.

(يصيب): مضارع. {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{أَجْرَمُوا} صلته لا محل لها. {صَغارٌ:}

فاعل. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {صَغارٌ،} أو بمحذوف صفة له، و {عِنْدَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَعَذابٌ:} معطوف على {صَغارٌ} . {شَدِيدٌ:} صفته. {بِما:}

متعلقان بالفعل (يصيب) و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:«بما كانوا يمكرونه» وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في مجل جر بالباء، التقدير:«بسبب مكرهم» . {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَمْكُرُونَ} في محل نصب خبر {كانُوا} .

{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)}

الشرح: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ:} يعرفه طريق الحق، ويوفقه للإيمان. {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ:} يقال شرح الله صدره فانشرح، أي: وسعه لقبول الإيمان، والخير، فوسع، وذلك أن الإنسان إذا اعتقد في عمل من الأعمال: أن نفعه زائد، وخيره راجح، وربحه ظاهر، مال بطبعه إليه، وقويت رغبته فيه، فتسمى هذه الحال: سعة النفس، وانشراح الصدر، فيتسع حينئذ صدره للخبر، ويفسح فيه مجاله. وهذا كله كناية عن جعل النفس قابلة للحق، مهيأة لحلوله فيها، معرضة عما يمنعه، وينافيه. وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه، فقال:«نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له، وينفسح» . فقالوا: هل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «نعم: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» . أسنده الطبري عن ابن مسعود.

ص: 390

{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً:} حتى لا يدخله الإيمان. وقال الكلبي: ليس للخير فيه منفذ. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا سمع ذكر الله؛ اشمأز قلبه، وإذا سمع ذكر الأصنام؛ ارتاح إلى ذلك.

أقول: ولعله أخذه من قوله تعالى {وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . هذا؛ وقرئ: {ضَيِّقاً} بالتخفيف، والتشديد. وقرئ:

«حرجا» بفتح الراء، وكسرها. {كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ:} شبه الله الكافر مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة، ونبه به على أن الإيمان يمتنع منه، كما يمتنع منه الصعود. وقيل: معناه: كأنه يتصاعد إلى السماء نبوّا عن الحق، وتباعدا في الهرب منه. وأصل {يَصَّعَّدُ} يتصعد، وقد قرئ به، كما قرئ بالتخفيف، وقرئ:«(يصّاعد)» بمعنى متصاعد، وانظر شرح {السَّماءِ} في الآية [99]. {كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} أي: كما يضيق صدر الكافر، ويبعد قلبه عن قبول الحق يجعل العذاب أو الخذلان على الكافرين الذين لا يؤمنون بآيات الله. بعد هذا انظر (يريد) في الآية رقم [5/ 17]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة، وانظر:{أَضَلَّ اللهُ} في الآية رقم [88] من سورة (النساء) فإنه جيد.

الإعراب: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [39] والمصدر المؤول من: {أَنْ يَهْدِيَهُ} في محل نصب مفعول به. {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً} إعرابه واضح إن شاء الله تعالى، وهو مثل سابقه. {حَرَجاً:} قيل: هو صفة لما قبله، ولا أراه قويّا، وإنما أرى: أنه من تعدد المفعول الثاني؛ لأن أصل ما قبله خبر ل: {صَدْرَهُ} والخبر يتعدد بلا ريب، فقولك (صدره ضيق حرج) كلام لا غضاضة فيه، فلما دخل الفعل الذي هو من أفعال التصيير والتحويل، فتعدد الخبر صار من تعدد المفعول الثاني. احفظه فإنه جيد.

{كَأَنَّما:} كافة ومكفوفة. {يَصَّعَّدُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (من).

{فِي السَّماءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{كَأَنَّما..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: رجوع الفاعل إليه. {كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: يجعل الله الرجس

جعلا كائنا مثل جعل صدر الكافر ضيقا

إلخ. {يَجْعَلْ:} مضارع. {اللهُ:} فاعله. {الرِّجْسَ:} مفعول أول. {عَلَى الَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف مفعول ثان، وجملة:{لا يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، والكلام:{كَذلِكَ..} . إلخ مع المقدر المحذوف كله مستأنف لا محل له.

{وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)}

الشرح: {وَهذا:} هذه الإشارة إلى البيان الذي جاء به القرآن في هذه السورة، وهو ما رأيته. {صِراطُ رَبِّكَ:} طريق ربك الذي ارتضاه الله، وهو الإسلام، والدين الذي جاء به

ص: 391

محمد صلى الله عليه وسلم، وتعاليمه السمحة. وقد رأيت في سورة (الفاتحة) أنه يقرأ بالصاد، والسين، والزاي، ويذكر، ويؤنث، والأول أكثر. هذا؛ ولو جعلت الإشارة إلى ما بعدها، كما في قوله تعالى {ذلِكَ الْكِتابُ} و {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} فلست مفندا. {مُسْتَقِيماً} أي: لا عوج فيه، وانظر إعلاله في الآية رقم [5/ 16]. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ:} انظر شرح هذا الكلام في الآية رقم [97].

وفي الكلام التفات، انظر الآية رقم [6] وانظر (نا) في الآية رقم [6] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {وَهذا:} الواو: حرف استئناف. (هذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {صِراطُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {رَبِّكَ:}

مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {مُسْتَقِيماً:} حال من: {صِراطُ رَبِّكَ،} والعامل في الحال اسم الإشارة لما فيه من معنى الفعل، والجملة الاسمية:{وَهذا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [97].

{لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)}

الشرح: {لَهُمْ دارُ السَّلامِ} أي: السلامة، وهي الجنة، وسميت الجنة بذلك؛ لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلامة، كما قال تعالى في وصفها:{اُدْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} وقيل: المراد بالسلام التحية، كما قال تعالى:{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وقال:

{تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ} انتهى. خازن باختصار. {عِنْدَ رَبِّهِمْ:} في المراد بهذه العندية وجوه:

أحدها: أنها معدة عنده، كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة، كقوله {جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} .

وثانيها: أن العندية تشعر بأن هذا الأمر المدخر الموصوف بالقرب من الله بالشرف، والرتبة، لا بالمكان، والجهة لتنزهه تعالى عنهما.

ثالثها: هي كقوله تعالى في صفة الملائكة: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ} وقوله في الحديث القدسي: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» . وقوله: «أنا عند ظن عبدي بي» . وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} انتهى جمل نقلا من كرخي. {وَلِيُّهُمْ:}

متولي أمورهم، وانظر الآية رقم [14]. {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ:} بسبب أعمالهم الصالحة التي عملوها في دار الدنيا. هذا؛ وانظر: {دارُ} في الآية رقم [78](الأعراف). {رَبِّهِمْ،} انظر الآية رقم [3] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {دارُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّلامِ:} مضاف إليه. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر ثان. وقيل: متعلق بمحذوف حال من: {دارُ السَّلامِ} وكثير من النحاة لا يجيز مجيء الحال من المبتدأ، والأولى أن يكون

ص: 392

متعلقا بمحذوف حال من الضمير المستقر في الخبر المحذوف، وهو متعلق:{لَهُمْ} . و {عِنْدَ:}

مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{لَهُمْ دارُ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها، وجوز اعتبار الجملة الاسمية في محل جر صفة ثانية ل:(قوم)، كما جوز اعتبارها في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، والجملة الاسمية:{وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} في محل نصب حال من: {رَبِّهِمْ} والرابط: الواو، والضمير. {بِما:} متعلقان ب {وَلِيُّهُمْ} لأنه اسم فاعل، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [124] فإنه مثله بلا فارق. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}

الشرح: {وَيَوْمَ:} المراد به يوم القيامة، وما فيه من الحساب، والعذاب، والأهوال.

هذا؛ واليوم في الدنيا هو الوقت من طلوع الشمس إلى غروبها، وهذا في العرف، وأما اليوم الشرعي فهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما يطلق اليوم على الليل، والنهار معا، كما رأيت في الآية رقم [96] وقد يراد به الوقت مطلقا، تقول: ذخرتك لهذا اليوم، أي لهذا الوقت، والجمع أيام، أصله: أيوام، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وجمع الجمع: أياويم، وأيام العرب: وقائعها، وحروبها، وأيام الله: نعمه، ونقمه. ويقال: فلان ابن الأيام، أي:

العارف بأحوالها، ويقال: أنا ابن اليوم، أي: أعتبر حالي فيما أنا فيه. {يَحْشُرُهُمْ:} يبعثهم جميعا للحساب، والجزاء، والضمير مراد به جميع الخلق من الجن، والإنس، ولم يتقدم له ذكر، ولكنه فسر بما بعده، كما ترى، وقرئ بالنون. {يا مَعْشَرَ:} جماعة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: رهط، ونفر، وجمعه: معاشر، مثل: أراهط. {الْجِنِّ:} انظر الآية رقم [76]{قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} أي: قد استكثرتم من إغوائهم، وإضلالهم، أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم، فحشروا معكم، كقولهم: استكثر الأمير من الجنود. انتهى بيضاوي. وانظر {الْإِنْسِ} في الآية رقم [112](قال): انظر «القول» في الآية رقم [7/ 3]. {أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ:} الذين أطاعوا الجن فيما يأمرونهم به. {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ} أي: انتفع الإنس بالجن، بأن دلوهم على الشهوات، وما يتوصل به إليها، وانتفع الجن بالإنس بأن أطاعوهم، وحصلوا مرادهم منهم. وقيل: استمتاع الإنس بهم: أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز، والمخاوف، كما في قوله تعالى:{وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً} واستمتاع الجن بالإنس اعترافهم: أنهم يقدرون على إجارتهم، واستغاثتهم. {وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي}

ص: 393

{أَجَّلْتَ لَنا:} وهو يوم القيامة إذا بعثوا فيه للحساب، والجزاء، وهو اعتراف منهم بطاعة الشيطان، واتباع الهوى، وتكذيب البعث، وتحسر على حالهم. {قالَ:} القائل الملائكة بأمر الله تعالى.

{النّارُ مَثْواكُمْ:} منزلكم. هذا؛ والفرق بين مأوى، ومثوى: أن الثاني مكان الإقامة المنبئة عن المكث، وأما المأوى الذي يأوي إليه الإنسان ولو موقتا. وانظر الآية رقم [3/ 151]. هذا؛ و {النّارُ} أصلها: النور، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وهي من المؤنث المجازي، وقد تذكر، وتصغيرها: نويرة، والجمع: أنور، ونيران، ونيرة، ويكنى بها عن جهنم التي سيعذب الله بها الكافرين، والفاسقين. {إِلاّ ما شاءَ اللهُ} أي: إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير. وقيل: {إِلاّ ما شاءَ اللهُ} قبل الدخول، كأنه قيل:«النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم» . {رَبَّكَ:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] أو [7/ 3]. {حَكِيمٌ:} في أفعاله.

{عَلِيمٌ:} بأحوال الثقلين، وأعمالهم. هذا؛ وانظر:{شاءَ} في الآية رقم [5/ 20]. {اللهُ:}

انظر الاستعاذة، والآية رقم [8/ 1] وانظر:{رَبَّنَا} في الآية رقم [23](الأعراف) تجد ما يسرك.

الإعراب: (يوم): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر. {يَحْشُرُهُمْ:} مضارع، والفاعل تقديره هو يعود إلى (الله) وعلى قراءته بالنون فالفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء في محل نصب مفعول به. {جَمِيعاً:} حال من الضمير المنصوب، وهي حال مؤكدة. (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (معشر): منادى منصوب، وهو مضاف، و {الْجِنِّ:} مضاف إليه، والجملة الندائية اعتبرها البيضاوي، وأبو البقاء في محل نصب ب:«اذكر» المقدر، والصواب: أنها في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير:«ويقال لهم: يا معشر الجن» . والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، فهي داخلة في منصوب «اذكر». {قَدِ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اِسْتَكْثَرْتُمْ:} فعل، وفاعل. {مِنَ الْإِنْسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{قَدِ..} . إلخ في محل نصب حال من المنادى، والعامل فيه:«يا» لما فيها من معنى الفعل على حد قول الشاعر: [البسيط]

يا أيّها الرّبع مبكيّا بساحته

{قالَ:} ماض. {أَوْلِياؤُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْإِنْسِ:} متعلقان بمحذوف حال من {أَوْلِياؤُهُمْ} . {رَبَّنَا:} منادى حذفت منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة. {اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنا:} فعل، وفاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة. {بِبَعْضٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكلام:{رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ..} . إلخ، في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها فهي داخلة في منصوب: «اذكر» المقدر، وساغ ذلك؛ لأن {قالَ} حكاية حال ماضية، والصواب أنها مراد بها المستقبل، فهي بمعنى المضارع. وانظر هذا المبحث -أعني به: التعبير بالماضي عن المستقبل-في الآية رقم [5/ 116] فإنه جيد، وهو أولى من

ص: 394

الاستئناف. (بلغنا): فعل، وفاعل. {أَجَلَنَا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة.

{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة لما قبله، وجملة:{أَجَّلْتَ لَنا} صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: أجلته لنا، وجملة:{وَبَلَغْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {قالَ:} ماض، والفاعل يعود إلى الله.

{النّارُ:} مبتدأ. {مَثْواكُمْ:} خبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وهو أولى من اعتباره ظرفا، والكاف في محل جر بالإضافة. {خالِدِينَ:} حال من كاف الخطاب منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وفاعله مستتر فيه.

{فِيها:} متعلقان ب: {خالِدِينَ،} والجملة الاسمية: {النّارُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء المنقطع؛ لأن الأوقات ليست من جنس ما تقدم. وقد تكلف أبو البقاء تأويلين لاعتبار الاستثناء متصلا، ولا داعي لذلك. وقال مكي: وإن جعلت {ما} لمن يعقل لم يكن منقطعا، فكأنه يريد: أن المستثنى من الخلود أشخاص. ولم يقل به أحد. والجملة الفعلية بعد {ما} صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير:«إلا الأوقات شاءها الله» . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة.

{حَكِيمٌ:} خبر أول. {عَلِيمٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية لا محل لها على الوجهين. تأمل، وتدبر، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)}

الشرح: {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضاً:} نكل بعضهم إلى بعض، أو نجعل بعضهم يتولى بعضا، فيغويهم. أو: أولياء بعض، وقرناءهم في العذاب كما كانوا في الدنيا. انتهى. بيضاوي.

هذا؛ وخذ قول ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا أراد الله بقوم خيرا؛ ولى عليهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شرّا؛ ولّى عليهم شرارهم، فعلى هذا القول: إن الرعية متى كانوا ظالمين؛ سلط الله عليهم ظالما مثلهم، فمن أراد أن يخلص من ظلم ذلك الظالم؛ فليترك الظلم. وحديث «كيفما تكونوا يولّ عليكم». مشهور. {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} أي: يسلط الله عليهم من يظلمهم بسبب أعمالهم الخبيثة التي اكتسبوها. هذا؛ وما قبله من الخازن. هذا؛ وانظر (نا) في الآية رقم [5/ 32] و [7/ 6] وانظر الظلم في الآية رقم [144] الآتية.

الإعراب: {وَكَذلِكَ:} (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف عامله ما بعده، التقدير: «نولي بعض الظالمين بعضا تولية كائنة مثل إنزال العقاب

ص: 395

بالإنس، والجن الذين استمتع بعضهم ببعض». وقد قدم، وأخر بعضهم في التقدير. وهذا أحسن كما رأيت الكثير منه فيما مضى. {نُوَلِّي:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {بَعْضَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الظّالِمِينَ:}

مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم. {بَعْضاً:}

مفعول به ثان، فالأول هو المولّى، والثاني هو المولّى عليه. وقدر الجلال:«على بعض» فكأنه يعني: أنه منصوب بنزع الخافض، ولا مبرر له؛ لأن الفعل ينصب مفعولين صريحين، تقول:

ولّيت محمودا عملا. وهو واضح إن شاء الله تعالى. {بِما:} متعلقان بالفعل: {نُوَلِّي} وانظر إعراب: {بِما كانُوا يَمْكُرُونَ} في الآية رقم [124].

{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)}

الشرح: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ:} انظر الآية رقم [128]. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ:} الرسل من الإنس خاصة، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك، ونظيره قوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} والمرجان يخرج من الملح دون العذب، وتعلق بظاهره قوم منهم الضحاك، ومقاتل، وقالوا: بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم. وقيل: الرسل من الجن رسل المرسل إليهم، وهو ما حصل حينما سمع بعض الجن القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا، ثم ذهبوا إلى قومهم منذرين. اقرأ آيات سورة (الأحقاف):{وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ..} . وسورة (الجن) بكاملها تفهم ذلك؛ إن كنت من أهل القرآن، والإيمان.

{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي:} يتلونها عليكم مع التوضيح، والتبيين، والقاص من يحكي القصة، ومن أحسن من الله قصصا، ولكن أكثر الناس لا يعقلون. وانظر الآية رقم [4].

{وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} أي: ويخوفونكم من يوم القيامة العظيم شأنه، الشديد هوله، الطويل زمانه، الذي تعرضون فيه على ربكم. {قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا} أي: نقر، ونعترف: أنه وصل إلينا ما ذكر من إرسال الرسل، وإنذارهم إيانا. {وَغَرَّتْهُمُ:} خدعتهم، وفتنتهم. {الْحَياةُ الدُّنْيا:}

انظر الآية رقم [29]. {وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ..} . إلخ: أي: اعترفوا بكفرهم، وخروجهم عن طاعة ربهم. وهذه الشهادة منهم غير المتقدمة كما ترى، فلا تكرار في الكلام. بعد هذا انظر شرح:{رُسُلٌ} في الآية رقم [83](المائدة) وشرح (يوم) في الآية رقم [128] وشرح: {أَنْفُسِنا} في الآية رقم [7/ 8] وشرح (الكفر) في الآية رقم [36] من سورة (المائدة).

ص: 396

تنبيه: قال الخازن: فإن قلت: كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية، وجحدوا الشرك، والكفر في قوله تعالى {وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ؟} قلت: يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة، فإذا رأوا ما حصل للمؤمنين من الخير، والفضل، والكرامة؛ أنكروا الشرك، لعل ذلك الإنكار ينفعهم، وقالوا:{وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} فحينئذ يختم على أفواههم، وتشهد عليه جوارحهم بالشرك، والكفر، فذلك قوله تعالى:{وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} انتهى بحروفه. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [42] من سورة (النساء).

الإعراب: {يا مَعْشَرَ:} (يا): حرف نداء ينوب مناب «أدعو» . (معشر): منادى، وهو مضاف، و {الْجِنِّ:} مضاف إليه. {وَالْإِنْسِ:} معطوف على سابقه. {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام مفيد للتوبيخ. (لم): حرف نفي وقلب وجزم، وبدخول الاستفهام أفاد التقرير أيضا.

{يَأْتِكُمْ:} مضارع مجزوم ب (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والكاف مفعول به. {رُسُلٌ:} فاعله. {مِنْكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة له.

{يَقُصُّونَ:} مضارع، والواو فاعله. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان به. {آياتِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء ضمير في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَقُصُّونَ..} . إلخ في محل رفع صفة ثانية ل:

{رُسُلٌ} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. وقيل: في محل نصب حال محذوفة من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، والأول أقوى يؤيده قوله تعالى:{وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ} وجملة: {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، و {لِقاءَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {يَوْمِكُمْ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة يومكم أي المشار إليه، والهاء حرف تنبيه لا محل له، وبعضهم يعتبر اسم الإشارة بدلا، أو عطف بيان، وما ذكرته أولى.

والجملة الفعلية: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف كالجملة الندائية قبلها. {شَهِدْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]{عَلى أَنْفُسِنا} متعلقان بما قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{شَهِدْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مستأنفة وهي بمنزلة جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا عند ذلك التوبيخ؟ فقيل: {قالُوا شَهِدْنا..} . إلخ. و {قالُوا:} ماض لفظا، ومعناه مستقبل، أي: يقولون، وانظر هذا البحث في الآية رقم [5/ 110] تجد ما يسرك.

(غرتهم): ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والهاء مفعول به. {الْحَياةُ:} فاعله.

{الدُّنْيا:} صفة الحياة مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها، واعتبارها في محل نصب حال من واو الجماعة سديد، والمعنى يؤيده، ولكنها تحتاج إلى تقدير:«قد» قبلها، والرابط: الواو،

ص: 397

والضمير. (شهدوا): فعل وفاعل، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {عَلى أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {كافِرِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بكونهم كافرين، أو هو منصوب بنزع الخافض، وبعضهم يعتبره مفعولا صريحا، ولا تنس: أن جملة: {كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، والجملة الفعلية:{وَشَهِدُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

{ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131)}

الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى ما تقدم ذكره من إرسال الرسل للإنس، والجن. {رَبُّكَ:}

انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] والآية رقم [7/ 2]. {الْقُرى:} انظر الآية رقم [123]. {بِظُلْمٍ} أي: بسبب ظلمهم، وخروجهم عن أوامر ربهم. وانظر (الظلم) في الآية رقم [144]. {وَأَهْلُها غافِلُونَ} أي: لم ينبهوا برسل، ولم ينذروا بعقاب الله، وسخطه؛ إن هم أعرضوا.

هذا؛ و (أهل) اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: معشر، ورهط، والأهل: العشيرة، وذو القربى، ويطلق على الزوجة، وعلى الأتباع أيضا، وجمعه: أهلون، وأهال، وآهال، وأهلات، وأهلات وبالأولين قرئ قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ} .

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الأمر ذلك، واعتبره الجمل مبتدأ، خبره ما بعده، ويعتبره الفراء مفعولا به لفعل محذوف، التقدير: فعل الله ذلك، والأول أرجح، وأولى. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، وجوز اعتبارها مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. التقدير: أنه. {لَمْ:} حرف جازم. {يَكُنْ:}

مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ} . {رَبُّكَ:} اسمه، والكاف في محل جر بالإضافة. {مُهْلِكَ:}

خبر {يَكُنْ،} وهو مضاف، و {الْقُرى:} مضاف إليه مجرور

إلخ، وهذه الإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة:{لَمْ يَكُنْ..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنْ} على اعتبارها مخففة من الثقيلة، و {أَنْ} على الوجهين فيها تؤول بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بالمبتدإ المقدر؛ لأنه مصدر على الوجه الأول في الإعراب، ومتعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ على قول الجمل، ومتعلقان بالفعل المحذوف على رأي الفراء. {بِظُلْمٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في {مُهْلِكَ} . وقيل: متعلقان به نفسه، والجملة الاسمية:{وَأَهْلُها غافِلُونَ} في محل نصب حال من {الْقُرى،} والرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 398

{وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (132)}

الشرح: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا:} المعنى: ولكل عامل بطاعة الله، أو بمعصيته درجات. يعني: منازل يبلغها بعمله إن كان خيرا؛ فخير، وإن كان شرّا؛ فشر. وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع، والانحطاط، كتفاضل الدرج. وهذا إنما يكون في الثواب، والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا، فمنهم من هو أعظم ثوابا، ومنهم من هو أشد عقابا، وقيل غير ذلك انتهى خازن. وهذا الذي أرتضيه. {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ:} قيل: هذا مختص بأهل الكفر، والمعاصي، ففيه وعيد، وتهديد لهم، والذي ذكرته بالجملة الأولى أصح؛ لأن علمه تعالى شامل لكل المعلومات، فيدخل فيه المؤمن، والكافر، والطائع، والعاصي، وإنه تعالى عالم بأعمالهم على التفصيل التام، فيجزي كل عامل على قدر عمله، وما يليق به من ثواب، أو عقاب. انتهى. خازن بتصرف. ويقرأ «يعملون» بالياء، والتاء.

الإعراب: {وَلِكُلٍّ:} (لكل) متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {دَرَجاتٌ:} مبتدأ مؤخر.

{مِمّا:} متعلقان بمحذوف صفة {دَرَجاتٌ} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(من) والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو من شيء عملوه. وعلى الثالث تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(من)، التقدير: من عملهم، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. (ما): نافية حجازية تعمل عمل ليس. {رَبُّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة. {بِغافِلٍ:} الباء: حرف جر صلة. (غافل): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفاعله مستتر فيه.

{عَمّا:} متعلقان ب {بِغافِلٍ} . و (ما) تحتمل ما تحتمله سابقتها، وباقي الإعراب واضح إن شاء الله تعالى. والجملة الاسمية:{وَما رَبُّكَ..} . إلخ تحتمل الاستئناف، والعطف على ما قبلها، ولا محل لها على هذين الوجهين، كما تحتمل أن تكون في محل نصب حال من واو الجماعة، في:{عَمِلُوا} وعليه فالرابط: الواو، والضمير المحذوف، وهو مفعول:

{يَعْمَلُونَ} . تأمل، وتدبر، وربك أعلم وأجل، وأكرم.

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)}

الشرح: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} أي: عن خلقه، فلا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم، فلكل عامل عمله، وجميع الخلق فقراء إليه. {ذُو الرَّحْمَةِ:} صاحب الرحمة الواسعة لجميع خلقه، فمن رحمته تأخير العذاب عن المذنبين لعلهم يتوبون، ويرجعون. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي:

ص: 399

يهلككم، والخطاب لأهل مكة، ففيه وعيد، وتهديد لهم؛ لأن الآية مكية، كما قد عرفت، وقد بين الله مثله للمؤمنين في الآية رقم [5/ 54] وهي مدنية كما قد عرفت هناك. ويتجلى التهديد، والوعيد في الآية الأخيرة من سورة (محمد) عليه الصلاة والسلام:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} . {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ} أي: ينشئ، ويخلق من بعد إهلاككم خلقا غيركم أمثل، وأطوع منكم. {كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} أي: كما أوجدكم من نسل قوم لم يكونوا على مثل صفتكم، بل كانوا طائعين، وهم أهل سفينة نوح، وذريتهم من بعدهم من القرون إلى زمنكم. هذا؛ وانظر شرح:(ربك) في الآية رقم [1] من سورة (الفاتحة) والآية رقم [7/ 2]. {الرَّحْمَةِ:} انظر الآية [7/ 155]. {يَشَأْ:} انظر الآية رقم [5/ 18]. {ذُرِّيَّةِ:}

هي نسل بني آدم، وهي تقع على الواحد، والجمع، قيل: هي مشتقة من الذرا، وهو بفتح الذال كل ما استذريت به، يقال: أنا في ظل فلان، وفي ذراه، أي: في كنفه، وستره، ودفئه، وهو بضم الذال: أعلى الشيء. وقيل: هي مشتقة من الذرء، وهو الخلق، قال تعالى:{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ،} وقال تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} من آية أخرى. أبدلت همزة الذرء ياء، ثم شدّدت الياء، وتبعتها الراء في التشديد. {قَوْمٍ:} انظر الآية رقم [20] من سورة (المائدة).

الإعراب: {وَرَبُّكَ:} (ربك): مبتدأ. {الْغَنِيُّ:} خبر أول. {ذُو:} خبر ثان مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو:} مضاف، و {الرَّحْمَةِ:} مضاف إليه، وقيل:{الْغَنِيُّ ذُو} صفتان للمبتدإ، والخبر الجملة الشرطية الآتية، والأول أقوى. {إِنْ:}

حرف شرط جازم. {يَشَأْ:} مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (ربك)، والمفعول محذوف كما قد عرفته، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{يُذْهِبْكُمْ:} مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (ربك)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هو في محل رفع خبر المبتدأ، كما رأيت، والجملة الاسمية:{وَرَبُّكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (يستخلف): مضارع معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، والفاعل يعود إلى (ربك) أيضا. هذا؛ ويجوز في العربية رفع (يستخلف) ونصبه، وانظر ما ذكرته من قراءات في الآية رقم [283] (البقرة) وما تبعها من أوجه الإعراب. أما في هذه الآية لم أعثر على قراءة بغير الجزم. {مِنْ بَعْدِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، {ما:} موصولة، أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يشاؤه. {كَما:} الكاف:

حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {أَنْشَأَكُمْ:} ماض، والفاعل يعود إلى (ربك)، والكاف مفعول به. {مِنْ ذُرِّيَّةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من كاف الخطاب، التقدير: «بدلا من ذرية

» إلخ، و {ذُرِّيَّةِ:} مضاف، و {قَوْمٍ:} مضاف إليه.

{آخَرِينَ:} صفة {قَوْمٍ} مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر

ص: 400

سالم

إلخ. هذا؛ و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا، أي: يستخلف

إلخ استخلافا كائنا مثل إنشائكم

إلخ.

{إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}

الشرح: {إِنَّ ما تُوعَدُونَ:} به من مجيء القيامة، والبعث بعد الموت، والحشر للحساب، والجزاء، وانظر الوعد في الآية رقم [7/ 44] {لَآتٍ} أي: لكائن لا محالة، فهو متحقق الوقوع، هذا {لَآتٍ} أصله: لاتي بكسرة على الياء علامة للجر، أو بضمة علامة للرفع، وبتنوين الصرف، لكن استثقلت الكسرة أو الضمة على الياء بعد كسرة، فسكنت الياء، فالتقى ساكنان: الياء، والتنوين، فحذفت الياء لعلة الالتقاء، وبقيت التاء مكسورة على ما كانت عليه قبل الإعلال، فقيل:«آت» بالكسر، وإنما لم يقل بالرفع لأن الياء محذوفة لعلة الالتقاء، فهي كالثابتة، فتمنع الرفع للتاء. وهكذا قل في إعلال كل اسم منقوص مجرد من:«ال» والإضافة، سواء أكان ثلاثيّا، أم رباعيّا. {بِمُعْجِزِينَ} أي: فائتين عذاب الله، والعجز معروف. هذا؛ وانظر:{بِمُعْجِزِينَ} في الآية رقم [2] من سورة (التوبة)، ورقم [53] من سورة (يونس) ويكثر تكراره في القرآن الكريم، للدلالة على أن الكافرين، والفاسقين لا يعجزون الله تعالى، ولا يهربون من عذابه، وانتقامه. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {ما:} موصولة، أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ}. {تُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير أن الذي، أو شيئا توعدونه. {لَآتٍ:} اللام: هي المزحلقة. (آت): خبر إن مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَما:} الواو: واو الحال. {ما:} نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» . {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما). {بِمُعْجِزِينَ:} الباء: حرف جر صلة.

(معجزين): خبر (ما). مجرور لفظا، منصوب محلاّ، والجملة الاسمية:{وَما أَنْتُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{قُلْ يا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ (135)}

الشرح: {قُلْ:} انظر «القول» في الآية رقم [7/ 5]. والمخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

{يا قَوْمِ:} انظر الآية رقم [5/ 20] أو رقم [7/ 58]. {اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ:} على غاية

ص: 401

تمكنكم، واستطاعتكم. أو على ناحيتكم، وجهتكم، وحالتكم التي أنتم عليها. فالكل محتمل هنا. وقرئ بالجمع:«(مكاناتكم)» . {إِنِّي عامِلٌ:} على ما كنت عليه من المصابرة، والثبات على الإسلام، والمعنى: اثبتوا على كفركم، وعداوتكم لي، فإنّي ثابت على الإسلام، وعلى مصابرتكم، فهو أمر تهديد، ووعيد، دليله ما بعده. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ:} من تكون له العاقبة المحمودة، لنا، أو لكم. وقيل: معناه: فسوف تعلمون عند نزول العذاب بكم، أيّنا كان على الحق في عمله، نحن، أم أنتم؟ {عاقِبَةُ الدّارِ} أي: المحمودة، والمراد بها: الجنة، وما فيها من النعيم المقيم. وانظر شرح الدار في الآية رقم [78] (الأعراف) وقد قرئ الفعل:«تكون» بالتاء، والياء. {لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ:} لا يسعدون بالخلود في الجنة؛ لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه، والفوز بكل محبوب.

هذا؛ وقد وضع الله (الظالمين) موضع (الكافرين)؛ لأنه أعم وأكثر فائدة؛ إذ يعم الظالمين من المسلمين في كل زمان، ومكان، كما أنه يشمل جميع أنواع الظلم. وانظر (الظلم) في الآية رقم [144] الآتية. هذا؛ وفي الآية الكريمة قولان: أحدهما: أنها محكمة. وهذا على رأي من يعتبر مضمونها التهديد، والوعيد. والثاني: أنها منسوخة بآية السيف. وهذا على قول من يرى:

أن المراد بها ترك القتال. وانظر: {لا يُفْلِحُ} في الآية رقم [21].

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {يا قَوْمِ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [5/ 20] أو [7/ 58]. {اِعْمَلُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {عَلى مَكانَتِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{اِعْمَلُوا..} . إلخ مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنِّي عامِلٌ} تعليل للأمر، وهي من مقول القول. {فَسَوْفَ:} الفاء: حرف تعليل. (سوف): حرف استقبال. ويقال: حرف تسويف. {تَعْلَمُونَ:} فعل، وفاعل. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، فيكون الفعل من العرفان، وانظر «العلم، والمعرفة» في الآية رقم [61] من سورة (الأنفال). {تَكُونُ:} مضارع ناقص. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عاقِبَةُ:} اسم تكون مؤخر، وهو مضاف، و {الدّارِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية:{تَكُونُ..} . إلخ صلة من لا محل لها من الإعراب. هذا؛ ويجوز أن تكون {مَنْ} استفهامية في محل رفع مبتدأ والجملة الفعلية بعدها في محل رفع خبرها، والجملة الاسمية على هذا الاعتبار في محل نصب سدت مسد مفعول:{تَعْلَمُونَ} على اعتباره متعديا لمفعول واحد، أو في محل نصب سدت مسد مفعوليه على اعتباره من أفعال اليقين، وعلى الاعتبارين فهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، والجملة الفعلية تعليلية، مؤكدة لمضمون الجملة قبلها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء

ص: 402

اسمها. {لا:} نافية. {يُفْلِحُ:} مضارع. {الظّالِمُونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:

{لا يُفْلِحُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {إِنَّهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. هذا؛ وقد قيل: إن الجملة الاسمية مستأنفة، وكأنها جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: وما عاقبتهم؟ وعليه، فليست داخلة في المقول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)}

الشرح: {وَجَعَلُوا} أي: مشركو العرب. {لِلّهِ:} انظر شرحه في الاستعاذة. {ذَرَأَ:}

خلق. {مِنَ الْحَرْثِ:} المراد به: جميع المزروعات التي كانوا يزرعونها، وهي قليلة كما هو معروف. {وَالْأَنْعامِ:} يطلق هذا اللفظ على الحيوانات المأكول لحمها، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، والماعز. {نَصِيباً:} قسما. {فَقالُوا:} انظر «القول» في الآية رقم [7/ 5].

{بِزَعْمِهِمْ:} انظر (زعم) في الآية رقم [60](النساء) فإنه جيد. {لِشُرَكائِنا:} المراد به:

الأصنام التي كانوا يقدسونها، ويعظمونها. وانظر الآية رقم [34] من سورة (يونس) تجد ما يسرك.. {يَصِلُ:} أصله يوصل؛ لأن ماضيه وصل، فحذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها، وهما: الياء، والكسرة، وتحذف من مضارع المتكلم، والمخاطب قياسا عليه. {ساءَ ما يَحْكُمُونَ:} بئس الحكم حكمهم. هذا؛ ويقرأ: «بزعمهم» بفتح الزاي، وضمها، وهما قراءتان سبعيتان، وفيه لغة ثالثة لبعض قيس.

تنبيه: لما بين الله تعالى قبح طريقة الكفار، وما كانوا عليه من إنكار البعث بعد الموت، وغير ذلك؛ عقبه بذكر أنواع من جهالاتهم، وأحكامهم الفاسدة، تنبيها على ضعف عقولهم، وفساد ما كانوا عليه في الجاهلية.

تنبيه: روي: أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث، ونتاج لله، ويصرفونه للضيفان، والمساكين، وشيئا منها لالهتهم، وينفقونه على سدنتها، ويذبحون عندها، ثم إن رأوا ما عينوه لله أزكى بدلوه بما لالهتهم، وإن رأوا ما لالهتهم أزكى؛ تركوه لها حبّا لها، وفي قوله:{مِمّا ذَرَأَ} تنبيه على فرط جهالتهم، فإنهم أشركوا للخالق في خلقه جمادا لا يقدر على شيء، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له. انتهى بيضاوي.

وفي الخازن: وكانوا يجبرون ما جعلوه لها مما جعلوه لله، ولا يجبرون ما جعلوه لله مما جعلوه لها، وكانوا إذا أصابهم قحط؛ استعانوا بما جعلوه لله يأكلون منه، ووفروا ما جعلوه لها،

ص: 403

ولم يأكلوا منه، فإذا هلك ما جعلوه؛ لها أخذوا بدله مما جعلوه لله، ولا يفعلون كذلك فيما جعلوه لها. انتهى بحروفه.

هذا؛ وقد روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب؛ فاقرأ ما فوق الثلاثين والمئة من سورة (الأنعام) انتهى خازن. وفي محفوظي: فاقرأ ما فوق الخمس والثلاثين

إلخ، وهو الموافق للواقع. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَجَعَلُوا:} (جعلوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني تقدم على الأول.

{مِمّا:} متعلقان بمحذوف حال من {نَصِيباً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة المشهورة، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

من الذي، أو من شيء ذرأه. {مِنَ الْحَرْثِ:} الجار، والمجرور بدل مما قبلهما.

{وَالْأَنْعامِ:} معطوف على ما قبله. {نَصِيباً:} هو المفعول الأول. وجملة: {وَجَعَلُوا..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: (جعلوا

) إلخ لا محل لها مثلها. {بِزَعْمِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بالفعل:

{فَقالُوا،} والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية:{وَهذا لِشُرَكائِنا} معطوفة على سابقتها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول. {فَما:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (ما).

{لِشُرَكائِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:

{كانَ..} . إلخ صلة ما، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الاسم إليها كما رأيت.

{فَلا:} الفاء: زائدة لتحسين اللفظ، وساغ ذلك؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم.

(لا): نافية. {يَصِلُ:} مضارع، والفاعل يعود إلى:{ما} . {إِلَى اللهِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو {ما} والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها مفرعة عما قبلها ومستأنفة. وإعراب:{وَما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ} واضح إن شاء الله تعالى، والجملة اسمية معطوفة على سابقتها، لا محل لها مثلها. {ساءَ:} ماض جامد دال على إنشاء الذم، وفاعله مستتر فسره التمييز، وهو:{ما} فإنها بمعنى شيء مبنية على السكون في محل نصب على التمييز، وجملة:{يَحْكُمُونَ} في محل نصب صفة {ما،} والمخصوص بالذم محذوف، وتقدير الكلام: «ساء الشيء شيئا محكوما به من قبلهم، وهو

ص: 404

المذموم». هذا؛ وأجيز اعتبار {ما} موصولة وموصوفة ومصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل {ساءَ،} والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وتقديره الكلام. {ساءَ} الذي، أو: شيء يحكمون به، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: ساء حكمهم، وانظر الآية رقم [32] والإعراب الأول هو المعروف، والمشهور، ويؤيده ذكر التمييز منصوبا صريحا في الآية رقم [97] (النساء) وأيضا رقم [115] منها و [38] منها وهو كثير في القرآن الكريم. هذا؛ وجملة:{ساءَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)}

الشرح: {وَكَذلِكَ:} انظر التقدير في الإعراب، فإنه سيتضح لك الأمر. {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ..}. إلخ: وفي هذه الجملة قراءات كثيرة، والمتواتر منها ثنتان: الأولى قراءة العامة مبنيّا للفاعل

إلخ وهذه القراءة واضحة المعنى والتركيب وقرأ ابن عامر «(زيّن)» مبنيّا للمفعول، ورفع «(قتل)» على أنه نائب فاعل، ونصب «أولدهم» على أنه مفعول به للمصدر، وشركائهم بالجر على أن المصدر مضاف إليه. قال البيضاوي: وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر كقول الشاعر: [مجزوء الكامل]

فزججتها بمزجّة

زجّ القلوص أبي مزاده

وقد دافع عن هذه القراءة سليمان الجمل دفاعا شديدا. {شُرَكاؤُهُمْ} أي: من الجن، أو من السدنة. وانظر الآية رقم [34] من سورة (يونس). {لِيُرْدُوهُمْ:} ليهلكوهم بالإغواء، والتزيين.

{وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ:} وليخلطوا عليهم دينهم، وهو دين إسماعيل الصحيح الذي ورثه من أبيه إبراهيم، عليهما الصلاة والسّلام، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به. وقراءة الجمهور بكسر الباء من: لبست عليه الأمر، ألبسه بفتح الباء في الماضي، وكسرها في المضارع؛ إذا أدخلت عليه الشبهة، وخلطته فيه. وقرأ النخعي:«(وليلبسوا)» : بفتح الباء، والصحيح: أن لبس بالكسر بمعنى لبس الثياب، وبالفتح بمعنى الخلط، والصحيح أنه استعار اللبس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم وبين التخليط حتى كأنهم لبسوها كالثياب، وصارت محيطة بهم انتهى جمل نقلا عن السمين.

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [9]. {وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ..} . إلخ: أي ما فعل المشركون ما زين لهم، أو ما فعل شركاء التزيين، أو ما فعل الفريقان شيئا من ذلك. وانظر الآية رقم [112] ففيها الكفاية. هذا؛ وانظر قتل الأولاد في الآية رقم [140] الآتية.

ص: 405

الإعراب: {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف عطف. (كذلك): جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: زين لكثير من المشركين

تزيينا كائنا مثل ذلك التزيين لهم في الشرك، وقسمة الأموال، وغير ذلك. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، وانظر التفصيل في الآية رقم [55]. {زَيَّنَ:} ماض. {لِكَثِيرٍ:} متعلقان به.

{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} متعلقان بمحذوف صفة (كثير). {قَتْلَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أَوْلادِهِمْ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، {شُرَكاؤُهُمْ:} فاعل: {زَيَّنَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وعلى قراءة البناء للمجهول، ف (قتل) بالرفع نائب فاعله، و (أولادهم) بالنصب مفعول به للمصدر، و (شركائهم) بالجر بإضافة (قتل) إليه، وأقحم المنصوب بين المتضايفين، كما رأيت تفصيله في الشرح، وجملة:{وَكَذلِكَ زَيَّنَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، والاستئناف ممكن بالإعراض عما قبلها. {لِيُرْدُوهُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{زَيَّنَ،} التقدير:

لإردائهم و {وَلِيَلْبِسُوا:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. {دِينَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة:{وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [107] و [112] مفردات وجملا، فإن الإعراب واحد. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اِسْمَ اللهِ عَلَيْهَا اِفْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)}

الشرح: {وَقالُوا} أي: مشركو العرب. وانظر «القول» في الآية رقم [7/ 5] هذه: الإشارة إلى ما جعل لالهتهم. {أَنْعامٌ:} انظر الآية رقم [126]. {وَحَرْثٌ:} انظر الآية نفسها.

{حِجْرٌ:} حرام، فعل بمعنى: مفعول، كالذّبح بمعنى: المذبوح، قال تعالى:{وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} و «فعل» يستوي فيه الواحد، والكثير، والمذكر، والمؤنث. {لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ:}

لا يأكل منها إلا من نشاء: يريدون خدم الأوثان، والرجال دون النساء. {بِزَعْمِهِمْ:} انظر الآية قبل السابقة. {وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} يعني: البحائر، والسوائب، والحوامي. انظر الآية

ص: 406

رقم [5/ 103] لشرح ذلك، وتفصيله. {وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا} أي: وقت الذبح، وإنما يذكرون أسماء الأصنام عليها. وقيل: لا يحجون عليها، ولا يركبونها لفعل الخير؛ لأنه لما جرت العادة بذكر الله على فعل كل خير؛ ذم هؤلاء على ترك فعل الخير. وانظر شرح:{اِسْمَ} في البسملة. {اِفْتِراءً:} اختلاقا من غير دليل. (يجزيهم): انظر الآية رقم [120] بعد هذا انظر شرح: {حِجْرٌ} في الآية رقم [23](النساء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَقالُوا:} (قالوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {أَنْعامٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية هذه في محل نصب مقول القول، وجملة {وَقالُوا..}. إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَحَرْثٌ:} معطوف على ما قبله. {حِجْرٌ:} صفة {أَنْعامٌ وَحَرْثٌ} وقد رأيت في الشرح: أنه يستوي فيه المفرد، وغيره. {لا:} نافية.

{يَطْعَمُها:} مضارع، وها: مفعول به. {إِلاّ:} حرف حصر. {مَنْ:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: نشاؤه. {بِزَعْمِهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية:

{لا يَطْعَمُها..} . إلخ في محل رفع صفة ثانية ل {أَنْعامٌ وَحَرْثٌ} أو هي في محل نصب حال منهما بعد وصفهما بما تقدم. {أَنْعامٌ:} خبر لمبتدإ محذوف التقدير: وهذه {أَنْعامٌ} . وهذه الجملة معطوفة على ما قبلهما، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. هذا؛ ويجوز عطف أنعام على السابق، فيكون العطف عطف مفرد على مفرد. {حُرِّمَتْ:} ماض مبني للمجهول.

والتاء للتأنيث. {ظُهُورُها:} نائب فاعل، وها: في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{أَنْعامٌ} . {أَنْعامٌ:} هو مثل سابقه على الوجهين المعتبرين فيه، والجملة الفعلية:{لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا} في محل رفع صفة: {أَنْعامٌ} . {اِفْتِراءً:} فيه أربعة أوجه:

أحدها-وهو مذهب سيبويه-: أنه مفعول من أجله. الثاني: أنه مصدر، عامله من غير لفظه؛ لأن قوله المحكي عنهم افتراء، فهو نظير:«قعد القرفصاء» وهو قول الزجاج. الثالث: أنه مصدر، عامله من لفظه مقدر، أي: افترى ذلك افتراء. الرابع: أنه مصدر في موضع الحال، أي: قالوا ذلك حال افترائهم، وهي تشبه الحال المؤكدة؛ لأن هذا القول المخصوص لا يكون قائله إلا مفتريا، وقوله:{عَلَيْهِ} يجوز تعلقه ب: {اِفْتِراءً} على القول الأول والرابع، وعلى الثاني والثالث بقالوا، لا ب:{اِفْتِراءً} لأن المصدر المؤكد لا يعمل، ويجوز أن يتعلق بمحذوف صفة ل:{اِفْتِراءً،} وهذا جاز على كل قول من الأقوال السابقة. انتهى جمل بحروفه نقلا عن السمين. {سَيَجْزِيهِمْ:} السين، حرف استقبال، ويقال: حرف تنفيس. (يجزيهم): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والهاء مفعول به أول.

ص: 407

{بِما:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، وانظر إعراب:{بِما كانُوا يَمْكُرُونَ} في الآية رقم [124] فهو مثله بلا فارق، والجملة الفعلية:{سَيَجْزِيهِمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)}

الشرح: {وَقالُوا} أي: مشركو العرب. {ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ:} قال ابن عباس، وقتادة، والشعبي-رضي الله عنهم: أرادوا أجنّة البحائر، والسوائب، فما ولد منها حيّا؛ فهو خالص للرجال دون النساء، وما ولد منها ميتا؛ أكله الرجاء، والنساء. وهو قوله:{وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ} .

هذا؛ وقد أنّث {خالِصَةٌ} وهي خبر عن {ما} باعتبار معناها، وذكّر {وَمُحَرَّمٌ} وهو خبر عنها باعتبار لفظها، فعلى هذا تكون التاء في {خالِصَةٌ} للتأنيث. هذا؛ وقد قيل: إن التاء للنقل إلى الاسمية، أو للمبالغة، كما في: علامة، ونسابة، وراوية، والخاصة، والعامة. أو على المصدر على وزن فاعلة، كالعافية، والعاقبة. وذكر (محرّم) للحمل على اللفظ، وهذا نادر لا نظير له، وإنما عهد مراعاة المعنى، ثم اللفظ في (من) و (ما) انتهى جمل بحروفه.

بعد هذا انظر: {الْمَيِّتِ} في الآية رقم [95] و (يجزيهم) في الآية رقم [120] والمعنى هنا:

سيحاسبهم على قولهم الكذب في التحليل، والتحريم بدون دليل، قال تعالى:{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} . {حَكِيمٌ:} في صنعه، وأحكامه، وتشريعاته. {عَلِيمٌ:} بخلقه، وبمصالحهم.

الإعراب: {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ.

{فِي بُطُونِ:} متعلقان بمحذوف صلة: {ما،} أو بمحذوف صفتها، و {بُطُونِ:} مضاف، و {هذِهِ:} مضاف إليه، فهو اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْأَنْعامِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. وقيل: هو صفة لاسم الإشارة. {خالِصَةٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ما فِي..} . إلخ، في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة لا محل لها مثلها.

{لِذُكُورِنا:} متعلقان ب: {خالِصَةٌ،} و (نا): في محل جر بالإضافة. {وَمُحَرَّمٌ:} معطوف على: {خالِصَةٌ} . {عَلى أَزْواجِنا:} متعلقان ب (محرم)، و (نا): في محل جر بالإضافة. هذا؛ وقرئ بنصب: «خالصة» على أنه حال، وصاحب الحال الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور:{فِي بُطُونِ} فيكون خبر المبتدأ متعلق: {لِذُكُورِنا} والقياس يقتضي نصب (محرم) لأنه معطوف على: {خالِصَةٌ،} ولم أجد من قرأه بالنصب، كما قرئ:«(خالصة)»

ص: 408

بالإضافة إلى الضمير، وفي إعرابه وجهان: أحدهما: مبتدأ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبره، فيتكون جملة اسمية في محل رفع خبر المبتدأ:{ما} والثاني على أنه بدل من {ما،} فيبقى: {لِذُكُورِنا} خبرها. (إن): حرف شرط جازم. {يَكُنْ:} مضارع ناقص مجزوم ب (لم)، واسمه يعود إلى ما يوجد في بطون الأنعام. {مَيْتَةً:} خبره، وقرئ «(ميتة)» بالرفع، وهو على اعتبارين: أولهما: اعتباره اسما ل: {يَكُنْ} والخبر محذوف، التقدير: وإن يكن هناك ميتة، وثانيهما اعتبار الفعل تامّا، وميتة فاعله، كما قرئ «(تكن)» بالتاء، ورفع ميتة، ونصبها، والإعراب يكون على الوجهين مثل قراءته بالياء بلا فارق. والجملة الفعلية على جميع وجوه الإعراب لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَهُمْ:}

الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هم): مبتدأ. {فِيهِ:} متعلقان بمحذوف حال من:

{شُرَكاءُ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» {شُرَكاءُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. والجملة الشرطية معطوفة على جملة: (قالوا

) إلخ. {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية السابقة، وهي مستأنفة لا محل لها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {حَكِيمٌ عَلِيمٌ:}

خبران لها، والجملة الاسمية تعليلية، أو مستأنفة لا محل لها على الوجهين.

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ اِفْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)}

الشرح: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ:} المراد بهم العرب الذين قتلوا بناتهم مخافة الفقر، والعار؛ الذي يتسبب عن السبي، ونحوه. وخسارتهم كانت في الدنيا باعتبار السعي في نقص عددهم، وإزالة ما أنعم الله به عليهم. وفي الآخرة باستحقاق العذاب الأليم. هذا؛ وقد قرئ:«قتلوا» بالتشديد، والتخفيف.

هذا؛ وهل كان قتل الأولاد يقتصر على البنات، أم يتعدى إلى الذكور؟ المعروف: أن عامتهم كانوا يكرهون البنات، وإن الكثير منهم يئدون البنات؛ حتى نتج عن ذلك نقص في الإناث في بعض القبائل، ولذا اضطر الواحد منهم إلى الزواج من قبيلة أخرى. وأما قتل الذكور؛ فكان قليلا جدّا، وكان لا يقع إلا في حالات شدة المعيشة، والفقر، والضيق؛ لأنهم كانوا يتكثرون بالذكور، ويعتزون بهم، كما هو معروف، ومشهور. {سَفَهاً:} جهلا، والسفاهة هي الخفة، والجهالة المذمومة، وسبب هذه السفاهة هو قلة العلم، بل عدمه؛ لأن الجهل كان هو الغالب عليهم قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا سموا: جاهلية. هذا؛ وسفه نفسه: استمهنها، وأذلها، واستخف بها،

ص: 409

قال المبرد، وثعلب: سفه بالكسر متعد، وبالضم لازم، ويشهد له ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم:

«الكبر أن تسفه الحقّ، وتغمص الناس» . أي: تحقرهم. وانظر الآية رقم [7/ 65] فإنه جيد. {بِغَيْرِ عِلْمٍ:} بغير حجة، وبرهان. {وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ:} وهو ما ذكر من الزروع، والأنعام، كالبحيرة

إلخ. {اِفْتِراءً عَلَى اللهِ:} اختلافا عليه سبحانه وتعالى. {قَدْ ضَلُّوا:} انظر الآية رقم [24]. {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ:} إلى الحق، والصواب. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَسِرَ:} ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} صفة الموصول، والعائد الضمير المجرور محلاّ بالإضافة. {سَفَهاً:} مفعول لأجله، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف.

{بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (غير) مضاف، و {عِلْمٍ:} مضاف إليه، وجملة:{قَدْ خَسِرَ..} . إلخ: قال الجمل: جواب قسم محذوف. ولم أجده لغيره، ويظهر: أنها مستأنفة إن لم نوافقه بذلك. (حرموا): فعل وفاعل، والألف للتفريق. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني؛ إذ التقدير:

الذي، أو: شيئا رزقهم الله إياه، وعلى الثالث تؤول ما مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: حرموا رزق الله على أنفسهم، وجملة:{وَحَرَّمُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {اِفْتِراءً عَلَى اللهِ:} انظر مثله في الآية رقم [138]. وجملة: {قَدْ ضَلُّوا} بمنزلة التأكيد لجملة: {قَدْ خَسِرَ..} . إلخ. {وَما:} الواو: واو الحال. {ما:} نافية. {كانُوا:}

ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمها، والألف للتفريق. {مُهْتَدِينَ:} خبرها منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وجملة:{وَما كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}

الشرح: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ} أي: والله الذي خلق، وابتدع. {جَنّاتٍ:} بساتين. وانظر:

{جَنَّ} في الآية رقم [76]. {مَعْرُوشاتٍ:} مرفوعات على ما يحملها. {وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ:}

ملقيات على وجه الأرض. وقيل: المعروشات: ما غرسه الناس، وغير المعروشات: ما نبت في البراري، والجبال. وانظر شرح:{وَغَيْرَ} في سورة (الفاتحة). {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ:} إنما أفردا بالذكر مع أنهما داخلان في الجنات؛ لما فيهما من المنافع، والفضيلة على سائر ما ينبت في

ص: 410

الجنات، والمراد بالزرع: جميع الحبوب؛ التي يقتات بها. {مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} أي: ثمره، وحبه في الهيئة، والطعم، كالحلو، والحامض، والجيد، والرديء، والصغير، والكبير، وغير ذلك.

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ:} يتشابه ورقهما، وبعض أفرادهما في اللون، والطعم، ولا يتشابه بعضها. {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ:} ثمر كل واحد من ذلك، والأمر للإباحة لا للوجوب.

{إِذا أَثْمَرَ:} وإن لم ينضج، ولم يبع. وفيه رخصة للمالك في الأكل قبل حصاده، وتمام نضجه، أما بعد النضج فيحرم الأكل منه لتعلق حق الفقراء به، كما هو مبين في الفقه الإسلامي.

{وَآتُوا:} أعطوا. {حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ:} يوم جذاذه، وقطعه، واختلفوا في هذا الحق المأمور بإخراجه، فقيل: المراد به: الزكاة المفروضة، والآية مدنية، وعلى هذا فالآية محكمة، أي غير منسوخة. وقيل: بل المراد به أنه حق سوى الزكاة، فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر، وترك ما سقط من الزرع، والثمر. وهذا؛ وقرئ:«حصاده» بفتح الحاء، وكسرها. {وَلا تُسْرِفُوا:} الإسراف تجاوز الحد فيما يفعله الإنسان، وإن كان في الإنفاق أشهر. وقيل: السرف تجاوز ما حد لك، وسرف المال: إنفاقه في غير منفعة.

ولهذا قال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله؛ فهو سرف؛ وإن كان قليلا. وقال سعيد بن المسيب: معناه: لا تمنعوا الصدقة. فتأويل الآية على هذا القول: لا تجاوزوا الحد في البخل، والإمساك، حتى تمنعوا الواجب من الصدقة. وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف: مجاوزة الحد، إلا أن الأول في البذل، والإعطاء، والثاني في الإمساك، والبخل.

{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أي: يبغضهم، وعليه فعدم محبة الله لهم كناية عن البغض، والسخط، والغضب، ومحبته للعبد رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه.

الإعراب: {وَهُوَ:} (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:}

اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {أَنْشَأَ:} ماض، وفاعله يعود إلى الموصول، وهو العائد. {جَنّاتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {مَعْرُوشاتٍ:} صفة {جَنّاتٍ} منصوب مثله. {وَغَيْرَ:} معطوف على:

{مَعْرُوشاتٍ،} وغير مضاف، و {مَعْرُوشاتٍ:} مضاف إليه، وجملة:{أَنْشَأَ..} . إلخ لا محل لها صلة الموصولة، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي} مستأنفة لا محل لها. {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ:}

معطوفان على جنات، فهو من عطف الخاص على العام. {مُخْتَلِفاً:} حال مما قبله، وهذه الحال مقدرة؛ لأن النخل، والزرع وقت خروجه لا أكل منه، حتى يكون مختلفا، أو متفقا، وهو مثل قولهم: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، وقوله تعالى:{فَادْخُلُوها خالِدِينَ} أوضح. أي:

مقدرا لكم الخلود فيها. {أُكُلُهُ:} فاعل {مُخْتَلِفاً} لأنه اسم فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والضمير عائد للزرع، والباقي مقيس عليه، أو النخل، والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه، أو للجميع على تقدير:«أكل ذلك» أو «كلّ واحد منهما» . {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ:}

ص: 411

معطوفان على جنات. {مُتَشابِهاً:} حال من: (الزيتون والرمان) وفاعله محذوف، تقديره:

ورقهما. {وَغَيْرَ:} معطوف عليه فهو حال مثله، و (غير) مضاف، و {مُتَشابِهٍ:} مضاف إليه، وفاعله أيضا محذوف، التقدير: طعمهما، أو نحو ذلك. {كُلُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {مِنْ ثَمَرِهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِذا:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، مبني على السكون في محل نصب. {أَثْمَرَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {ثَمَرِهِ} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، واعتبار {إِذا} شرطية ضعيف فيما يظهر، والجملة الفعلية:{كُلُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وجملة:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: آتوا حقه الفقراء والمساكين

إلخ. {لا:} ناهية جازمة. {تُسْرِفُوا:} مضارع مجزوم ب {لا،} وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.

{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لا:} نافية. {يُحِبُّ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {الْمُسْرِفِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها.

{وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)}

الشرح: {الْأَنْعامِ:} انظر الآية رقم [136]. {حَمُولَةً وَفَرْشاً:} المراد ما يحمل الأثقال، مثل الجمال، وما يفرش للذبح، مثل الغنم، والماعز، أو ما يفرش المنسوج من شعره، وصوفه ووبره. وقيل: الكبار الصالحة للحمل، والصغار الدانية من الأرض، مثل الفرش المفروش عليها، سميت بذلك؛ لأنها كالفرش للأرض لدنوها منها. {كُلُوا:} هذا الأمر للإباحة. {مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ:} مما أحل لكم أكله. {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ:} طرائقه، وتعاليمه في التحليل، والتحريم من عند أنفسكم. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ:} ظاهر العداوة، بعد هذا انظر شرح:{الشَّيْطانِ} في الاستعاذة، وشرح:{عَدُوٌّ} في الآية رقم [112]. {مُبِينٌ:} انظر إعلاله في الآية رقم [5/ 17]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة. هذا؛ و {خُطُواتِ} جمع خطوة، بضم الخاء، وسكون الطاء. وهي في الأصل ما بين القدمين، فاستعيرت هنا لوسوسة الشيطان، وزخرفته، وتجمع في القلة: خطوات بضم الخاء، وتثليث الطاء، أي: الضم باتباع ثانيه لأوله، والفتح، وإبقاء السكون على حاله كما في المفرد، وتجمع في الكثرة على: خطى، بضم الخاء.

هذا؛ والخطوة بفتح الخاء: المرة الواحدة، وجمعها: خطوات بفتح الخاء، والطاء لا غير.

ص: 412

بعد هذا أنقل لك ما قاله المرحوم مصطفى الغلاييني في جامع الدروس العربية: وإن جمعت اسما ثلاثيّا، مضموم الأول، أو مكسوره، ساكن الثاني، صحيحه، خاليا من الإدغام، مثل:

خطوة، وجمل، وهند، وقطعة، وفقرة، جاز فيه ثلاثة أوجه: الأول: إتباع ثانيه لأوله، كخطوات، وجملات، وهندات، وقطعات وفقرات. الثاني: فتح ثانيه، كخطوات، وجملات، وهندات، وقطعات، وفقرات. الثالث: إبقاء ثانيه على حاله من السكون، كخطوات وجملات، وهندات، وقطعات، وفقرات.

أما الاسم فوق الثلاثي، كزينب، والاسم الصفة، كضخمة، والاسم الثلاثي المحرك الثاني كشجرة، والاسم الثلاثي الذي ثانيه حرف علة، كجوزة، والاسم الثلاثي الذي فيه إدغام، كمرّة، فكل ذلك لا تغيير فيه عند جمعه جمعا مؤنثا سالما. انتهى.

الإعراب: {وَمِنَ الْأَنْعامِ:} متعلقان بفعل محذوف، معطوف على ما قبله، التقدير: وأنشأ، أو: وخلق من الأنعام. {حَمُولَةً:} مفعول به للفعل المحذوف. {وَفَرْشاً:} معطوف على ما قبله. {كُلُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِمّا:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعول به، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير، الذي، أو شيئا رزقكم الله إياه، وعلى الثالث تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، التقدير: من رزق الله لكم. وجملة: {كُلُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (لا): ناهية. {تَتَّبِعُوا:} مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {خُطُواتِ:} مفعول به منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {خُطُواتِ:} مضاف، و {الشَّيْطانِ:} مضاف إليه. والجملة الاسمية: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليل للنهي لا محل لها.

هذا؛ والجار والمجرور: {لَكُمْ} متعلقان بمحذوف حال من {عَدُوٌّ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» .

{ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143)}

الشرح: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ:} ثمانية أصناف. هذا؛ والزوج: ما معه آخر من جنسه يزاوجه، ويحصل منهما النّسل، فيطلق لفظ الزوج على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه، لا ينفك عنه، ويحصل منهما النسل، وكذا يطلق على الاثنين، فهو مشترك، والمراد هنا الإطلاق الأول. انتهى جمل. {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} يعني: الذكر، والأنثى. والضأن: ذوات الصوف من الغنم، الواحد:

ص: 413

ضائن، والأنثى: ضائنة، والجمع: ضوائن. {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} يعني: الذكر، والأنثى، والمعز: ذوات الشعر من الغنم. والمعز يقرأ بسكون العين، وفتحها، وهو جمع ما عز. وقيل:

الضأن، والمعز اسما جمع، والأول أصح. {آلذَّكَرَيْنِ} أي: من الغنم، والماعز.

{الْأُنْثَيَيْنِ:} مثنى أنثى، والمراد بهما أيضا من الغنم، والماعز. {آلذَّكَرَيْنِ:} الهمزة حرف استفهام، وقد مدت مدّا لازما بقدر ست حركات، ولولا مدها لم يظهر الاستفهام، ويسمى هذا المد في أحكام التجويد بمد الفرق؛ لأنه يفرق بين الاستفهام، والخبر؛ لأنه لولا المد؛ لتوهم: أنه خبر لا استفهام. وانظر الآية رقم [51] من سورة (يونس) ففيها الشفاء الكافي لقلبك.

هذا؛ وقد قرئ «(اثنان)» على الابتداء. {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ:} أو ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان، أو أنثى. والمعنى: إنكار أن يحرم الله من جنس الغنم شيئا. {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ:} أخبروني بأمر معلوم من عند الله يدل على تحريم ما حرمتم. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: في دعوى التحريم، وانظر إعلال:{قُلْتُمْ} في الآية رقم [7](المائدة) فإعلال:

{كُنْتُمْ} مثله، وانظر (النبأ) في الآية رقم [14](المائدة) أو رقم [101](الأعراف).

الإعراب: {ثَمانِيَةَ:} ذكر فيه أبو البقاء خمسة أوجه: أحدها: هو معطوف على {جَنّاتٍ} أي: وأنشأ ثمانية أزواج. وحذف الفعل، وحرف العطف. وهو ضعيف. الثاني: أن تقديره:

كلوا ثمانية أزواج. والثالث: هو منصوب ب: «كلوا» محذوف، تقديره: كلوا مما رزقكم ثمانية أزواج، {وَلا تُسْرِفُوا} معترض بينهما. والرابع: هو بدل من: {حَمُولَةً وَفَرْشاً} والخامس: هو حال، تقديره: مختلفة، أو متعددة، وصاحب الحال هو (ما) وتقديره الثاني: كلوا لحم ثمانية، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، و {ثَمانِيَةَ:} مضاف، و {أَزْواجٍ:} مضاف إليه.

{مِنَ الضَّأْنِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {اِثْنَيْنِ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {اِثْنَيْنِ:} بدل من {ثَمانِيَةَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بالمثنى. هذا؛ وعلى قراءة:«(اثنان)» فهو مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الألف

إلخ، والجار والمجرور:{مِنَ الضَّأْنِ} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وعليه فالجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله على الوجهين.

{قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {آلذَّكَرَيْنِ:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار، وتوبيخ. (الذكرين): مفعول به مقدم منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {حَرَّمَ:} ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {اللهُ} . {أَمِ:} حرف عطف. {الْأُنْثَيَيْنِ:} معطوف على (الذكرين) منصوب مثله.. إلخ.

(أم): حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على (الذكرين)، وتحتمل (ما) الموصوفة، أي: شيء. هذا؛ وترسم مع (أم) هكذا (أما) وذلك بسبب

ص: 414

إدغام الميم الساكنة في الميم المتحركة. {اِشْتَمَلَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {عَلَيْهِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. {أَرْحامُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْأُنْثَيَيْنِ:} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الفعلية:{اِشْتَمَلَتْ..} . إلخ صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلاّ ب:(على) وانظر الآية التالية لما أهمل هنا. {نَبِّئُونِي:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {بِعِلْمٍ:} متعلقان به، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{كُنْتُمْ..} . إلخ: لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين في دعوى التحريم؛ فنبئوني بأمر معلوم من عند الله. والجملة الشرطية مرتبطة بما قبلها تمام الارتباط، فهي مستأنفة مثلها.

{وَمِنَ الْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (144)}

الشرح: {الْإِبِلِ:} اسم جمع لا واحد له من لفظه، فمفرده: جمل، أو ناقة، والبعير يشملهما كالإنسان للرجل، والمرأة، وقوله تعالى حكاية عن قول أولاد يعقوب لأبيهم:{وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} دليل واضح على ذلك. هذا؛ ويجمع على: آبال، والإبل مؤنثة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين، مثل: خيل، وغنم، وإبل، فالتأنيث لها لازم، وإذا قالوا: خيلان، وغنمان، وإبلان، فإنما يريدون قطيعين من الخيل، والغنم، والإبل.

{الْبَقَرِ:} اسم جنس، واحدة: بقرة، وهي تقع على الذكر، والأنثى، نحو: حمامة، والصفة تميز الذكر من الأنثى. تقول: بقرة ذكر، وبقرة أنثى. وقيل: بقرة اسم للأنثى خاصة من هذا الجنس، والذكر: الثور، نحو: ناقة، وجمل، وأتان، وحمار. وسمي هذا الجنس بذلك؛ لأنه يبقر الأرض، أي: يشقها بالحرث، ومنه: بقر بطنه. هذا؛ وأهل اليمن يسمون البقرة باقورة، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقة لأهل اليمن:«في ثلاثين باقورة بقرة» . هذا؛ والباقر: جماعة البقر مع رعائها، والتبقر: التوسع في العلم، ومنه محمد (الباقر) لتبقره في العلم، أي: لتبحره فيه. {أَرْحامُ:} جمع رحم، والمراد به هنا: مستودع الجنين في أحشاء الحبلى من الإنسان،

ص: 415

والحيوان. ومعنى هذا الكلام: إنكار: أن الله حرم شيئا من هذه الأجناس الأربعة، ذكرا كان، أو أنثى، وما تحمل إناثها، ردّا عليهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة أخرى، وأولادها كيف كانت تارة زاعمين: أنّ الله حرمها، فقيل لهم: من أين جاء التحريم؟ فإن كان من قبل الذكورة، فجميع الذكور حرام، وإن كان من قبل الأنوثة فجميع الإناث حرام، وإن كان من قبل اشتمال الرحم فالزوجان حرام، فمن أين جاء التخصيص ببعض المذكورات؟

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللهُ بِهذا:} هذا توبيخ آخر، والمعنى: هل كنتم حضورا مع الله وقت وصاكم به؛ لأنكم لا تؤمنون بنبي، فلا طريق لكم إلا المشاهدة، والسماع، فاعتمدتم ذلك، لا بل أنتم كاذبون مفترون هذا التحريم، وهذا التحليل. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ:} حيث نسب إليه تحريم ما لم يحرم، وهل يوجد أشقى، وأشد ظلما، وأبعد عن الحق ممن يكذب على الله، ويضيف إليه شيئا لا أصل له، يفعل ذلك؛ ليضل الناس عن طريق الحق، والصواب.

قيل: المراد بذلك عمرو بن لحي الخزاعي؛ لأنه أول من بحر البحائر، وسيب السوائب، وغير دين إبراهيم-عليه الصلاة والسلام-ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقته، أو ابتدع شيئا لم يأمر به الله، ولا رسوله، ونسب ذلك إلى الله تعالى؛ لأن اللفظ عام، فلا وجه للتخصيص. {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} أي: إن الله لا يرشد، ولا يوفق من كذب على الله، وأضاف إليه ما لم يشرعه لعباده. هذا؛ وانظر:{الْقَوْمَ} في الآية رقم [5/ 20] وانظر (الظلم) في الآية رقم [5/ 51] وانظر: غير في سورة (الفاتحة).

الإعراب: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} هذا الكلام معطوف على مثله في الآية السابقة، وهو مثله قراءة، وإعرابا. {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ} انظر إعراب هذا الكلام في الآية السابقة، وأضيف هنا: أن الجملة الفعلية:

{آلذَّكَرَيْنِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وأن الجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَمِ:} حرف عطف، وهي بمعنى: بل، وتسمى منقطعة، بخلاف سابقتها، فإنها متصلة؛ لأنها معادلة للهمزة، فهي عاطفة. {كُنْتُمْ شُهَداءَ} كان، واسمها، وخبرها، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {شُهَداءَ} وهو أولى من تعليقه ب: (كان). {وَصّاكُمُ اللهُ} ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {بِهذا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه مقحم بينهما لا محل له. (من): اسم استفهام بمعنى النفي مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:} خبره. {مِمَّنِ:} جار ومجرور متعلقان ب {أَظْلَمُ} لأنه صيغة تفضيل، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {اِفْتَرى:} ماض مبني

ص: 416

على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (من). {عَلَى اللهِ:} متعلقان به.

{كَذِباً:} مفعول به. {لِيُضِلَّ:} مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (من). {النّاسَ:} مفعول به. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من {النّاسَ} و (غير):

مضاف، و {عِلْمٍ:} مضاف إليه، التقدير: غير عالمين، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: للإضلال، والجملة الفعلية:{اِفْتَرى..} . إلخ صلة (من) أو صفتها، والجملة الاسمية:{فَمَنْ أَظْلَمُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} انظر إعراب هذه الجملة بكاملها في الآية رقم [51](المائدة) إفرادا، وجملا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومثله ما بعده، وما قبله. {لا أَجِدُ:} انظر إعلال: {يَصِلُ} في الآية رقم [136] فهو مثله. {فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ} أي: أنزل إلي من القرآن الكريم بواسطة جبريل الأمين، عليه السلام. {مُحَرَّماً:} المحرم، والحرام هو في الأصل كل ممنوع، قال تعالى:{وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ} فالحرمات: كل ممنوع منك مما بينك وبين غيرك.

وقولهم: لفلان بي حرمة، أي: أنا ممتنع من مكروهه. وحرمة الرجل محظورة به عن غيره.

وقوله تعالى: {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فالمحروم هو الممنوع من المال والتلذذ به.

والإحرام بالحج، والعمرة هو المنع من أمور معروفة في الفقه الإسلامي.

{طاعِمٍ:} آكل. {يَطْعَمُهُ:} يأكله، والمراد بطاعم الذكور والإناث. فهو رد لما افتروه.

والفعل من باب: فهم، وعلم، وهو في المصحف كما رأيت، وقرئ بتشديد الطاء وكسر العين، ونسبت هذه القراءة لعلي بن أبي طالب، كرم الله وجهه. {يَكُونَ مَيْتَةً} قرئ الفعل بالتاء، والياء كما قرئ برفع:«ميتة» ونصبها. والمراد بتحريم الميتة: تحريم لحمها، أو الانتفاع بشيء منها، وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية، والحديث الشريف ألحق بها ما أبين من حيوان حي، وخص منها السمك والجراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أحلت لنا ميتتان، ودمان: السمك، والجراد، والكبد، والطحال» . وانظر: {الْمَيِّتِ} أي: إعلاله، ومعناه في الآية رقم [95].

{دَماً مَسْفُوحاً} أي: سائلا، بخلاف غيره، كالكبد، والطحال. هذا؛ والمراد به هنا وفي آية (البقرة) دم الحيوان الذي يذبح، كان الجاهليون يجمدونه، ويقلونه بالزيت، ونحوه، ثم يأكلونه.

{لَحْمَ خِنزِيرٍ:} والمراد به جميع أجزائه، وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه معظم ما يؤكل من

ص: 417

الحيوان. {رِجْسٌ:} نجس، وقد ثبت عند كثير من النصارى: أن في أكل لحمه ضررا.

{فِسْقاً:} عصيانا، وخروجا عن طاعة الله تعالى. وانظر:{الْفاسِقِينَ} في الآية رقم [5/ 25].

{أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ:} رفع الصوت للصنم عند ذبحه، ويدخل في ذلك كل ما لم يقصد به وجه الله تعالى، ولذا نهى الإمام علي-رضي الله عنه-عن أكل الإبل التي ذبحها جد الفرزدق غالب عند مباراته غيره في الكرم. وقس على ذلك كل ما لم يقصد به وجه الله تعالى. هذا؛ والإهلال: رفع الصوت، وكانوا يرفعونه عند الذبح لالهتهم، والأصل فيه أن يرفع الصوت بالتكبير عند رؤية الهلال في مطلع الشهر الجديد. هذا؛ ويلحق بما ذكر من الأمور الأربعة بالسنّة النبوية كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير.

{فَمَنِ اضْطُرَّ:} ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر بسبب الجوع، أو خوف، أو إكراه، ونحو ذلك. {باغٍ:} خارج عن المسلمين. من: البغي والظلم. {عادٍ:} معتد عليهم بقطع الطريق. هذا قول المفسرين من أئمة الشافعية. وأما المفسرون من أئمة الحنفية فقد فسروا الأول بقاصد للشهوة، واللذة، وفسروا الثاني بمتجاوز مقدار الحاجة من سد الرمق، ودفع الخوف، والتخلص من الإكراه. هذا؛ وانظر إعلال مثلهما في الآية رقم [134]. {رَبَّكَ:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] أو [7/ 3]. {غَفُورٌ:} لعبده المؤمن إذا فعل الأكل في حال الضرورة المذكورة.

وهو صيغة مبالغة. {رَحِيمٌ:} بعباده حيث رخص لهم الأمور المحظورة في حال الضرورة. وانظر البسملة للتوسع في شرحه، وانظر:{أَوْحَيْنا} في الآية [163] من سورة (النساء).

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لا:} نافية. {أَجِدُ:} مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» . {فِي ما:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني تقدم على الأول، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر. {أُوحِيَ:}

ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما). {إِلَيَّ:} متعلقان به، والجملة الفعلية:

{أُوحِيَ إِلَيَّ} صلة: {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع نائب الفاعل إليها. {مُحَرَّماً:}

مفعول به أول. {عَلى طاعِمٍ:} متعلقان ب {مُحَرَّماً} وجملة: {يَطْعَمُهُ} مع الفاعل المستتر في محل جر صفة {طاعِمٍ} وجملة: {لا أَجِدُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {أَنْ يَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب {أَنْ،} واسمه ضمير مستتر تقديره: «هو» يعود إلى {مُحَرَّماً} . {مَيْتَةً:} خبره. {أَوْ:} حرف عطف.

{دَماً:} معطوف على ميتة. {مَسْفُوحاً:} صفته. {أَوْ:} حرف عطف. {لَحْمَ:} معطوف على ما قبله، و {لَحْمَ:} مضاف، و {خِنزِيرٍ:} مضاف إليه. هذا؛ وقرأ ابن كثير: «(تكون)» بالتاء لتأنيث الخبر، وعلى القراءتين يقرأ «ميتة» بالنصب، والرفع، فعلى النصب يكون الفعل ناقصا، وعلى الرفع يكون الفعل تامّا بمعنى: يوجد، و «أن» المصدرية، والمضارع على نقصانه، أو تمامه في تأويل مصدر في محل نصب على الاستثناء. {فَإِنَّهُ:} الفاء: حرف تعليل. (إنه): حرف مشبه

ص: 418

بالفعل، والهاء اسمها. {رِجْسٌ:} خبرها، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل لا محل لها.

{فِسْقاً:} معطوفة على {مَيْتَةً} في حال نصبه، أو هو معطوف على المصدر المؤول. {أُهِلَّ:}

ماض مبني للمجهول. {لِغَيْرِ:} متعلقان به، و (غير) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {بِهِ:}

متعلقان بمحذوف رفع نائب فاعله، والجملة الفعلية صفة:{فِسْقاً} . {فَمَنِ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اُضْطُرَّ:}

ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (من). {غَيْرَ:} حال من نائب الفاعل، وغير مضاف، و {باغٍ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {عادٍ:} معطوف على ما قبله مجرور مثله.

{فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسمها والكاف في محل جر بالإضافة. {غَفُورٌ رَحِيمٌ:} خبران ل (إنّ): والجملة الاسمية: {فَإِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ في محل جزم عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، هذا هو الظاهر، وعند التأمل يظهر لك: أنّ جواب الشرط محذوف، تقديره، فلا إثم عليه، ولا حرج، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ مفيدة للتعليل لا محل لها، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [39]. هذا؛ ويجوز اعتبار (من) موصولة في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ في محل رفع خبرها، وزيدت الفاء في خبر الموصول لتحسين اللفظ، ولأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وعلى ما تقدم؛ فالخبر محذوف، والجملة الاسمية هذه مفيدة للتعليل، لا محل لها.

{وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنّا لَصادِقُونَ (146)}

الشرح: {هادُوا:} انظر الآية رقم [5/ 18]. {حَرَّمْنا:} انظر: {مُحَرَّماً} في الآية السابقة. {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-هو النعامة، والبعير، ونحو ذلك من الدواب، وكل ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم، والطير، مثل: البعير، والنعامة، والأوز، والبط. هذا؛ وفي (الظفر) خمس لغات، أعلاها بضم الظاء، والفاء، وهي قراءة العامة، وثانيها بضم فسكون، وبها قرأ الحسن، وثالثها بكسر الظاء، والفاء، ونسبت لأبي السمال، ورابعها بكسر الظاء، وسكون الفاء، ونسبت أيضا للحسن، وخامسها: أظفور، ولم يقرأ بها فيما علمت. وجمع الثلاثي: أظفار، وجمع أظفور أظافير، وهو القياس، وأظافر من غير مد، وليس بقياس. انتهى جمل نقلا عن السمين، بتصرف كبير مني. وهذا التحريم المذكور في هذه الآية خاص باليهود اللؤماء. {الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ:} انظر شرحهما في الآية رقم [144].

ص: 419

{شُحُومَهُما:} جمع: شحم، وهو شحم رقيق يغشى الكرش، والأمعاء. {إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما} أي: يستثنى من الشحوم ما علق بظهور البقر، والغنم. {الْحَوايا:} الأمعاء، جمع:

حاوية، أو حاوياء، والمراد: تحليل الشحم الذي يشتمل على الأمعاء. {مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ:}

المراد به: ألية الغنم، فإنه أحل لهم. والمراد بالعظم المختلط: عظم العصعص. {ذلِكَ:}

الإشارة إلى التحريم المذكور. {جَزَيْناهُمْ:} عاقبناهم به، وانظر الآية [120]. {بِبَغْيِهِمْ} أي:

بسبب ظلمهم، وخروجهم عن أوامر ربهم، فكانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي؛ عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم، وهم ينكرون ذلك، ويدعون: أنها محرمة على الأمم قبلهم. وانظر الآية رقم [4/ 160]. {وَإِنّا لَصادِقُونَ} أي: في الإخبار، والوعد، والوعيد. وفيه تعريض باليهود:

أنهم كاذبون فيما يقولون. وانظر (نا) في الآية رقم [5/ 32] أو [6] من سورة (الأعراف).

بعد هذا فالبغي هو الظلم، والاعتداء على حق غيرك، وعواقبه ذميمة، ومال الباغي وخيم، وعقباه أليمة، ولو أن له جنودا بعدد الحصى، والرمل، والتراب، ورحم الله من يقول:[البسيط]

لا يأمن الدّهر ذو بغي ولو ملكا

جنوده ضاق عنها السّهل والجبل

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمكر، ولا تعن ماكرا، ولا تبغ، ولا تعن باغيا، ولا تنكث، ولا تعن ناكثا» . وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ،} {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ،} و {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} .

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه، وتلا الآيات الثلاث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أسرع الخير ثوابا صلة الرّحم، وأعجل الشرّ عقابا البغي، واليمين الفاجرة» . وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنه قال: لو بغى جبل على جبل؛ لدك الباغي.

ورحم الله من يقول: [البسيط]

يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة

فاربع فخير مقال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندكّ منه أعاليه وأسفله

وكان المأمون العباسي يتمثل بهذين البيتين في أخيه الأمين، حين ابتدأ بالبغي عليه، قال الشاعر الحكيم:[مجزوء الكامل]

والبغي يصرع أهله

والظلم مرتعه وخيم

هذا؛ وانظر أنواع الظلم في رسالة: (الحج والحجاج في هذا الزمن).

الإعراب: {وَعَلَى الَّذِينَ:} متعلقان بالفعل {حَرَّمْنا} بعدهما، وجملة:{هادُوا} صلة الموصول لا محل لها. {حَرَّمْنا:} فعل، وفاعل. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {ذِي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة،

ص: 420

و {ذِي:} مضاف، و {ظُفُرٍ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية:{وَعَلَى الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَمِنَ الْبَقَرِ:} معطوفان على: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} فهما في محل نصب مثله، وجوز تعليقهما بالفعل بعدهما، والأول أقوى معنى. {وَالْغَنَمِ:} معطوف على سابقه.

{حَرَّمْنا:} فعل وفاعل. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {شُحُومَهُما:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {إِلاّ:} أداة استثناء. {ما:}

تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء.

{حَمَلَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث. {ظُهُورُهُما:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: حملته

إلخ. {الْحَوايا:} معطوف على ما قبله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وتقديره الكلام: أو حملته الحوايا. وقال أبو البقاء: {الْحَوايا} في موضع نصب عطفا على {ما} . وقيل: هو معطوف على: {شُحُومَهُما،} فتكون محرمة أيضا، ولا وجه للقولين، تأمل. {ما:} معطوفة على: {ما} السابقة على الوجهين المعتبرين فيها، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل المستتر إليها. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{جَزَيْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: جزيناهموه.

هذا؛ وقد جوز اعتبار {ذلِكَ} مفعولا به ثانيا مقدما. والمعنى لا يأباه. {بِبَغْيِهِمْ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول الثاني المحذوف، التقدير: كائنا بسبب بغيهم، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{ذلِكَ..} . إلخ سواء أكانت اسمية أم فعلية؛ فهي مستأنفة لا محل لها.

{وَإِنّا:} الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَصادِقُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (صادقون): خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{وَإِنّا لَصادِقُونَ} في محل نصب حال من (نا) الفاعل، والرابط: الواو، والضمير.

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)}

الشرح: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} أي: فيما جئت به من تحليل، وتحريم، وغير ذلك من أحكام التشريع. {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ} أي: من سعة رحمته: أنه لم يعاجلكم بالانتقام، فلا تغتروا بذلك، فإنه إمهال، لا إهمال، وانظر الآية رقم [7/ 155]. {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي: فحين ينزل العذاب على المجرمين لا يستطيع أحد أن يرده، ويدفعه مهما أوتي من قوة.

ص: 421

هذا؛ وقد قيل: المعنى: ذو رحمة على المطيعين، وذو بأس شديد على المجرمين. ولا بأس.

هذا؛ وسياق الكلام يدل على أن واو الجماعة عائدة على: {الَّذِينَ هادُوا} في الآية السابقة، ولا بأس أن أقول: إن قوله: {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ..} . إلخ يشمل اليهود، ومشركي أهل مكة. (قل):

انظر «القول» في الآية رقم [7/ 5]. {رَبُّكُمْ:} انظر الآية رقم [3](الأعراف). {بَأْسُهُ:} انظر الآية رقم [42]. {الْقَوْمِ:} انظر الآية رقم [5/ 20] أو رقم [32] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إن): حرف شرط جازم.

{كَذَّبُوكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقُلْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قل): أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والمخاطب بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. {رَبُّكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {ذُو:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو:} مضاف، و {رَحْمَةٍ:} مضاف إليه. {واسِعَةٍ:} صفة: {رَحْمَةٍ،} والجملة الاسمية: {رَبُّكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{فَقُلْ..} . إلخ في محل جزم عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. والجملة الشرطية: {فَإِنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يُرَدُّ:} مضارع مبني للمجهول. {بَأْسُهُ:} نائب فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَنِ الْقَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الْمُجْرِمِينَ:} صفة: {الْقَوْمِ} مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والجملة الفعلية:{وَلا يُرَدُّ..} . إلخ معطوفة على خبر المبتدأ، أو هي معطوفة على الجملة الاسمية برمتها، وعلى كل فهي من جملة المقول.

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ (148)}

الشرح: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا:} هذا إخبار عن مستقبل، ووقع مخبره يدل على إعجازه، وقد وقع مقتضاه، كما حكى سبحانه عنهم في سورة (النحل) بقوله:{وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} . {شاءَ:} انظر الآية رقم [5/ 18]. {اللهُ:} انظر الاستعاذة.

{لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ} أي: لو شاء الله خلاف ذلك مشيئة ارتضاء، كقوله:{فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ} لما فعلنا ما فعلنا نحن، ولا آباؤنا. أرادوا أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله، لا الاعتذار عن ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله إياها منهم.

ص: 422

{كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: مثل هذا التكذيب لك في أن الله تعالى منع من الشرك، ولم يحرم ما حرموه كذب الذين من قبلهم الرسل. انتهى بيضاوي.

{حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا} أي: استمروا على ما هم عليه من التكذيب حتى نزل بهم عقاب الله تعالى. وفي قوله تعالى: {ذاقُوا بَأْسَنا} استعارة تصريحية تبعية. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [14] من سورة (الأنفال) تجد ما يسرك. {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ:} من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم. {فَتُخْرِجُوهُ لَنا:} فتظهروه لنا، وتبينوه كما بينا لكم خطأ قولكم، وفعلكم. {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ:} ما تتبعون في تحليلكم وتحريمكم إلا الظن من غير حجة، ولا برهان. {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ} أي: تكذبون. وانظر الآية رقم [116].

تنبيه: ذكرت لك: أن قوله تعالى: {سَيَقُولُ..} . إلخ إخبار عن مستقبل، وقد حقق مقتضاه بما ذكرته لك من سورة (النحل). هذا؛ ولا مانع أن نقول: إن المعنى: أنهم يستمرون على هذا القول، وإن كانوا قد قالوه، وحكمة الاستقبال: أنهم كما قالوا ذلك في الماضي، منهم أيضا من يقوله في المستقبل، وما أحراك أن تنظر الآية رقم [142](البقرة) وما ذكرته في شرحها. بعد هذا انظر «القول» في الآية رقم [7/ 5] و {شَيْءٍ} في الآية رقم [5/ 19] والبأساء في الآية رقم [42].

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {سَيَقُولُ:} مضارع، والسين حرف استقبال. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{أَشْرَكُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول. {لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [107] و [112] ولو ومدخولها في محل نصب مقول القول. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة تأكيد النفي. {آباؤُنا:} معطوف على (نا) وجاز ذلك لوجود الفصل ب: (لا)، وجملة:{وَلا حَرَّمْنا} معطوفة على جملة جواب (لولا) لا محل لها مثلها. {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {كَذلِكَ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف واقع مفعولا مطلقا عامله ما بعده، التقدير:

«كذب الذين من قبلهم تكذيبا كائنا مثل تكذيبهم لك يا محمد» . {كَذَّبَ الَّذِينَ:} فعل، وفاعل.

{مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مقدرة. {ذاقُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق. {بَأْسَنا:} مفعول به، و (نا): في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة بعد {حَتّى} تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل {كَذَّبَ،} والجملة الفعلية: {كَذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {قُلْ:} أمر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {هَلْ:} حرف استفهام، وتوبيخ. {عِنْدَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والكاف في محل جر بالإضافة.

ص: 423

{مِنْ:} حرف جر زائد. {عِلْمٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَتُخْرِجُوهُ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد فاء السببية، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله. {لَنا:} متعلقان به، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر معطوف على المصدر:{عِلْمٍ} التقدير: فهل يوجد عندكم علم فإخراج لنا. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» .

{تَتَّبِعُونَ:} فعل، وفاعل. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الظَّنَّ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. {إِنْ:} حرف نفي. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاَّ:} حرف حصر. {تَخْرُصُونَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول أيضا.

{قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)}

الشرح: {قُلْ:} هذا الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، وانظر «القول» في الآية رقم [5] (الأعراف). {فَلِلّهِ:} انظر الاستعاذة. {الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ:} البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه، وهي من الحج بمعنى القصد، كأنها تقصد إثبات الحكم، وتطلبه. انتهى بيضاوي.

وقال النسفي: الحجة البالغة عليكم بأوامره، ونواهيه، ولا حجة لكم على الله بمشيئته انتهى. وقال الربيع بن أنس: لا حجة لأحد عصى الله، أو أشرك به على الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده. انتهى خازن. {فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ:} بالتوفيق لها، والحمل عليها، ولكن شاء هداية قوم، وضلال آخرين، وفيه دليل على أن الله تعالى لم يشأ إيمان الكافر، ولو شاء لهداه {لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ،} وانظر الإرادة في الآية رقم [5/ 41] وانظر ما ذكرته في الآية رقم [4/ 88] فإنه جيد جدّا.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله: أنت. {فَلِلّهِ:} الفاء: هي الفصيحة. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْحُجَّةُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر، التقدير: إذا لم تكن لكم حجة؛ فلله الحجة، والجملة الشرطية على هذا الاعتبار في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَلَوْ:} الفاء: حرف استئناف.

(لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ:} ماض. وفاعله يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية مع المفعول المحذوف لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. (هداكم):

ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله) والكاف مفعول به.

ص: 424

{أَجْمَعِينَ:} تأكيد لمعنى الكاف مع الميم منصوب

إلخ، والجملة الفعلية:{لَهَداكُمْ..} . إلخ لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم وأجل، وأكرم.

{قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كسابقه، ولا حقه، وانظر «القول» في الآية رقم [/5 7]. {هَلُمَّ:} اسم فعل بمعنى: احضروا، و {شُهَداءَكُمُ:} مفعول به، فإن اسم الفعل يعمل عمل مسماه من تعدّ، ولزوم، واعلم: أن فيها لغتين: لغة الحجاز، ولغة بني تميم، فأما لغة الحجاز، وبها جاء التنزيل، فإنها فيها بصيغة واحدة، سواء أسندت لمفرد، أم مثنى، أم مجموع، مذكر، أم مؤنث، نحو: هلمّ يا زيد، هلمّ يا زيدان، هلمّ يا زيدون، هلمّ يا هندان، هلمّ يا هندات. وهي على هذه اللغة اسم فعل لعدم تغيرها، والتزمت العرب فيها فتح الميم على هذه اللغة، وهي حركة بناء، بنيت على الفتح تخفيفا. وأما لغة تميم-وقد نسبها الليث إلى بني سعد-فتلحقها الضمائر، كما تلحق سائر الأفعال، فيقال: هلمّا يا زيدان، هلمّوا يا زيدون، هلمّي يا هند، هلمّنّ يا هندات. وقال الفراء:

يقال: هلمّين يا نسوة، وهي على هذه اللغة فعل صريح لا يتصرف. هذا قول الجمهور، وقد خالف بعضهم في فعليتها على هذه اللغة، وليس بشيء، والتزمت العرب فيها أيضا على لغة تميم فتح الميم إذا كانت مسندة لضمير الواحد المذكر، ولم يجيزوا فيها ما أجازوه في: ردّ، وشدّ من الضم والكسر. انتهى جمل نقلا عن السمين، ومثله في قطر الندى، ولكنه أخصر. هذا؛ وأصله عند البصريين: هالمّ من: لمّ إذا قصد، حذفت الألف لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل، وعند الكوفيين أصله: هل أم، فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام. وهو بعيد؛ لأن هل لا تدخل على الأمر، ويكون متعديا كما في الآية، ولازما كقوله تعالى:{هَلُمَّ إِلَيْنا} انتهى بيضاوي.

بعد هذا أقول: وهو جامد على الاعتبارين، لا يأتي منه مضارع، أو اسم مضارع، ولا ماض ولا اسمه. وانظر:{هاتُوا} في الآية رقم [2/ 111] و {تَعالَوْا} في الآية التالية. {شُهَداءَكُمُ} أي: من الإنس، أو من الجن، ولا يراد به هنا الأصنام، وهو جمع: شاهد، أو شهيد. وإنما أمروا بإحضارهم؛ لتلزمهم الحجة، ويظهر ضلالهم، وأنه لا متمسك لهم سوى تقليدهم. {فَإِنْ شَهِدُوا:} بعد حضورهم. {فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ:} فلا تصدقهم فيه، وبين لهم فساده، فإن تسليمه موافقة لهم في الشهادة الباطلة. {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أي: إن وقع منهم شهادة؛ فإنما هي باتباع الهوى، فلا تتبع أنت أهواءهم. وانظر {الْهَوى} في الآية رقم [4/ 135] و {آيَةٍ} في الآية رقم [4]. {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ:} لا يصدقون، ولا يعتقدون بوجود

ص: 425

الآخرة، وانظر الآية رقم [5/ 33]. {وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ:} انظر الآية رقم [1] والمحال عليها، فإنه جيد، وانظر:«الحرام، والمحرم» في الآية رقم [145].

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {هَلُمَّ:} انظر الشرح، وفاعله مستتر تقديره:«أنتم» . {شُهَداءَكُمُ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:}

اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة لما قبله، أو هو بدل منه. {يَشْهَدُونَ:} فعل، وفاعل. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {حَرَّمَ:} ماض، والفاعل يعود إلى {اللهَ} .

{هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والهاء حرف تنبيه لا محل له، والجملة الفعلية:{حَرَّمَ هذا} في محل رفع خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: يشهدون بتحريم الله لهذا، والجملة الفعلية هذه صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{هَلُمَّ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف، (إنّ) حرف شرط جازم. {شَهِدُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها

إلخ. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): ناهية. {تَشْهَدْ:} مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {مَعَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{فَلا تَشْهَدْ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط

إلخ، وإن ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلا تَتَّبِعْ:} مثل سابقه. {أَهْواءَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَذَّبُوا بِآياتِنا} صلة الموصول لا محل لها، والجملة الفعلية:{وَلا تَتَّبِعْ..} . إلخ معطوفة على جملة جواب الشرط. {وَالَّذِينَ:} معطوف على ما قبله، فهو في محل جر مثله، والجملة الفعلية:{لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} صلة الموصول لا محل لها.

(هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِرَبِّهِمْ:} متعلقان بالفعل بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَعْدِلُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها.

{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}

الشرح: {قُلْ:} هو مثل سابقه. {تَعالَوْا:} انظر الآية رقم [5/ 104] ففيها الكفاية.

{أَتْلُ:} أقرأ. {حَرَّمَ:} انظر الآية رقم [145]. {رَبُّكُمْ:} انظر سورة (الأعراف) رقم [3]

ص: 426

والشرك رقم [33] منها أيضا. {شَيْئاً:} انظر الآية رقم [5/ 19]. {وَبِالْوالِدَيْنِ:} يراد في هذا اللفظ: الأب، والأم، ففيه تغليب الأب على الأم، وأيضا في لفظ (الأبوين) تغليب، وفيه إشعار بتفضيل الأب على الأم، والذكر على الأنثى. والإحسان إلى الأبوين يكون بالقول، والفعل، والإنفاق عليهما عند عجزهما، واحتياجهما. {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أي: من أجل فقر، ومن خشيته، كقوله:{خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} . هذا؛ وانظر قتل الأولاد في الآية رقم [140].

{الْفَواحِشَ:} كبائر الذنوب، أو الزنى خاصة. {ما ظَهَرَ مِنْها:} بأن اطلع عليها الناس. {وَما بَطَنَ:} بأن لم يطلع عليه إلا الله تعالى. {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ..} . إلخ: هذا شبيه بذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنه؛ لأن الفواحش يندرج فيها قتل النفس، فجرد منها هذا استعظاما له، وتهويلا لشأنه. {الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ:} كالقود، وحدّ الردّة، ورجم المحصن.

فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثّيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . انتهى. متفق عليه. هذا؛ وانظر قتل المؤمن عمدا في الآية رقم [4/ 93]. {ذلِكُمْ} أي: ما ذكر في هذه الآية. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ:} تفهمون ما أباح، وما حرم.

والترجي في هذه الآية، وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لشيء من عباده، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا! وانظر (العقل) في الآية رقم [2/ 75] أو الآية [22] من سورة (الأنفال).

تنبيه: يكثر السؤال في هذه الأيام عن منع الحمل، بل وعن إسقاط الجنين باستعمال بعض العقاقير. والجواب يكون بعونه تعالى كما يلي: منع الحمل إذا كان على اتفاق بين الزوجين، ولسبب من الأسباب، كضعف الزوجة، وعجزها عن القيام بخدمة الأولاد، فهو من المباحات التي لا حرج فيها، وأما إذا كان هربا من نفقات الأولاد، وتكاليف الحياة؛ فهو مكروه كراهة شديدة، وهو يدخل تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«العزل هو الوأد الخفيّ» وإسقاط الجنين بعد التخلق مكروه كراهة شديدة، ما لم يكن هناك خطر على المرأة، كما يحدث في بعض الحالات، فهو من المباحات، وأما إسقاطه بعد نفخ الروح، فهو قتل نفس، ويدخل تحت الوعيد الشديد الذي ذكرته في الآية رقم [4/ 93] ما لم تكن هناك ضرورة شديدة تدعو لإسقاطه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {تَعالَوْا:} فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَتْلُ:} مضارع مجزوم بجواب الأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط مقدر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية لا محل لها بمفردها، وهي مع

ص: 427

سابقتها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فهي على الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

حرمه ربكم عليكم، وعلى الاعتبار الثالث تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: أتل تحريم ربكم عليكم. و {حَرَّمَ} ماض، و {رَبُّكُمْ} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَلاّ:} (أن): حرف مصدري ونصب.

(لا) نافية. {تُشْرِكُوا:} مضارع منصوب ب: (أن)، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله؛ والألف للتفريق. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {شَيْئاً:} مفعول به، أو هو نائب مفعول مطلق، و (أن) المصدرية والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب بدل من الضمير المحذوف الواقع مفعولا به. {وَبِالْوالِدَيْنِ:} متعلقان بفعل محذوف معطوف على ما قبله، ومنصوب أيضا؛ إذ التقدير: وأن تحسنوا بالوالدين. {إِحْساناً:} مفعول مطلق عامله الفعل المحذوف، {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {تَقْتُلُوا:} معطوف على: {تُشْرِكُوا} منصوب مثله

إلخ. {أَوْلادَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة

{مِنْ إِمْلاقٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ.

{نَرْزُقُكُمْ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ} تعليل للنفي لا محل لها.

{وَإِيّاهُمْ:} ضمير نصب منفصل مبني على السكون في محل نصب معطوف على الكاف الواقعة مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {تَقْرَبُوا:} معطوف على ما قبله منصوب أيضا

إلخ. {الْفَواحِشَ:} مفعول به. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب بدلا من الفواحش، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {مِنْها:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، ومن بيان لما أبهم في {ما} وعلى الاعتبار الثالث تؤول ما مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب بدلا من:{الْفَواحِشَ،} التقدير: ولا تقربوا الفواحش ظاهرها، وباطنها. وإعراب:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} مثل إعراب سابقه، بسبب العطف أيضا.

{الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة ل: {النَّفْسَ،} والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: حرمها الله. {أَلاّ:} حرف حصر. {بِالْحَقِّ:}

متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، أي إلا قتلا ملتبسا بالحق. {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{وَصّاكُمْ:} ماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {اللهُ،} أو: إلى {رَبُّكُمْ} . {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محل

ص: 428

لها من الإعراب. هذا؛ وجوز أبو البقاء اعتبار: {ذلِكُمْ} مفعولا به لفعل محذوف، التقدير:

أوجب عليكم، أو ألزمكم ذلكم

إلخ، وعليه فالجملة الفعلية:{وَصّاكُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من اسم الإشارة، ويلزم تقدير:«قد» قبلها، وهو تكلف لا داعي له، وإن الابتداء باسم الإشارة أكثر من وقوعه مفعولا به، ويعطي معنى أقوى، ولا سيما إذا اتصل به اللام المفيدة للبعد، والكاف المفيدة للخطاب. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمه، والميم علامة جمع الذكور. {تَعْقِلُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعل)، والجملة الاسمية:{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ تعليل للوصاية لا محل لها.

تنبيه: الإعراب المتقدم هو الإعراب الظاهر، والمتبادر. وتتميما للفائدة، أنقل لك ما ذكره ابن هشام في مغنيه من أوجه، فقال طيب الله ثراه: فقيل: إن (لا) نافية. وقيل: ناهية. وقيل:

زائدة، والجميع محتمل.

وحاصل القول في الآية أن {ما} خبرية بمعنى الذي، منصوبة ب {أَتْلُ،} و {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} صلة، و {عَلَيْكُمْ} متعلقان ب:{حَرَّمَ،} هذا هو الظاهر، وأجاز الزجاج كون {ما} استفهامية منصوبة بحرم، والجملة محكية ب {أَتْلُ؛} لأنه بمعنى: أقول، ويجوز أن يعلق {عَلَيْكُمْ} ب {أَتْلُ،} ومن رجح إعمال أول المتنازعين، وهم الكوفيون رجحه على تعلقه ب:{حَرَّمَ،} وفي (أن) وما بعدها أوجه:

أحدها: أن يكون في موضع نصب بدلا من: {ما} وذلك على أنها موصولة، لا استفهامية؛ إذ لم يقترن البدل بهمزة الاستفهام.

الثاني: أن يكون في موضع رفع خبرا ل: «هو» محذوفا، أجازهما بعض المعربين، وعليهما ف:(لا) زائدة، قاله ابن الشجري، والصواب: أنها نافية على الأول، وزائدة على الثاني.

الثالث: أن يكون الأصل: أبين لكم ذلك؛ لئلا تشركوا، وذلك لأنهم إذا حرم عليهم رؤساؤهم ما أحله الله سبحانه، فأطاعوهم؛ أشركوا؛ لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته.

والرابع: أن الأصل أوصيكم بأن لا تشركوا، بدليل: أن {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} معناه:

وأوصيكم بالوالدين، وأن في آخر الآية {ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ} . وعلى هذين الوجهين، حذفت الجملة، وحرف الجر.

والخامس: أن التقدير: أتل عليكم أن لا تشركوا، فحذف مدلولا عليه بما تقدم، وأجاز هذه الأوجه الثلاثة الزجاج.

والسادس: أن الكلام تم عند: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ثم ابتدئ: عليكم أن لا تشركوا، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، وأن لا تقتلوا، ولا تقربوا، ف:{عَلَيْكُمْ} على هذا اسم فعل بمعنى: الزموا.

و (أن) في الأوجه الستة مصدرية و (لا) في الأوجه الأربعة الأخيرة نافية.

ص: 429

والسابع: أنّ (أن) مفسرة بمعنى: (أي)، و (لا) ناهية، والفعل مجزوم لا منصوب، وكأنه قيل: أقول لكم: لا تشركوا به شيئا، وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وهذان الوجهان الأخيران أجازهما ابن الشجري. انتهى مغني بحروفه.

أقول: ذكر الأوجه المتقدمة سليمان الجمل بتغيير بعض العبارات، والمؤدى واحد، وزاد:

ثامنا، وتاسعا.

فالوجه الثامن: أنّ (أن) وما بعدها في تأويل مصدر في محل رفع على الابتداء، والخبر الجارّ قبله، والتقدير: عليكم عدم الإشراك، ويكون الوقف على قوله:{حَرَّمَ رَبُّكُمْ} كما تقدم في وجه الإغراء، وهو مذهب أبي بكر ابن الأنباري.

والوجه التاسع: أن تكون في موضع رفع بالفاعلية بالجارّ قبلها، وهو ظاهر قول ابن الأنباري المتقدم، والتقدير: استقر عليكم عدم الإشراك انتهى.

{وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}

الشرح: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بما فيه صلاحه، وتثميره، وتحصيل الربح له، فلا تأخذوا منه شيئا. وهذا إذا كان القيم على مال اليتيم غنيّا، غير محتاج إليه، فلو كان الوصي، أو القيم فقيرا؛ فله أن يأكل بالمعروف. انظر الآية رقم [4/ 6]. {حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ:} فقد اختلف في (الأشدّ) على أقوال كثيرة، والمراد ب:(الأشدّ) في هذه الآية، وأمثالها هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد، وهو فحوى قوله تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} الآية رقم [6] من سورة (النساء).

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ:} يعني بالعدل من غير زيادة، ولا نقصان. {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها:} طاقتها في ذلك، وذكره عقيب الأمر معناه: أن إيفاء الحق عسير، فكأنه قيل: عليكم بما في وسعكم، وطاقتكم، وما عداه غير مؤاخذين به. وانظر (نا) في الآية رقم [32] (المائدة) وانظر الآية رقم [7/ 41] و [2/ 285]. {وَإِذا قُلْتُمْ} أي: تكلمتم في حكم، أو غيره. {فَاعْدِلُوا:}

في قولكم، وحكمكم. {وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى} أي: ولو كان المحكوم عليه صاحب قرابة. وما أجدرك أن تنظر نص الآية رقم [4/ 135] ورقم [5/ 8] ففيهما الدواء الناجع. {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا} أي: ما عهد إلى عباده، ووصاهم به، وأوجبه عليهم. أو ما أوجبه الإنسان على نفسه، كنذر، ونحوه، فيجب الوفاء به. انتهى. خازن. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [5/ 1]. {ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ:} هو مثل الآية السابقة، وقد قرئ بتشديد الكاف، وتخفيفها.

ص: 430

تنبيه: نهى الله عن قربان مال اليتيم. فضلا عن أكله، والقاعدة: أن الأحكام إذا كانت نواهي، يقال فيها: فلا تقربوها، على حد قوله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} وهكذا، وإن كانت أوامر يقال فيها: لا تعتدوها، أي لا تتجاوزوها بأن لا تفعلوا، وما هنا من قبيل الأول.

وتخصيص اليتيم بالذكر مع أن حال البالغ وماله كذلك؛ لأن طمع الطامعين فيه أكثر لضعفه، ولعظم إثمه. بعد هذا انظر شرح (المال) في الآية رقم [2/ 176] و [8/ 28] و {الْيَتِيمِ:} في الآية رقم [2/ 83] والميزان إعلاله مثل إعلال: ميثاق في الآية رقم [5/ 8]{قُلْتُمْ:} انظر إعلاله في الآية رقم [8] من سورة (المائدة).

الإعراب: {وَلا تَقْرَبُوا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَقْرَبُوا:} مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مالَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْيَتِيمِ:} مضاف إليه، {إِلاّ:} حرف حصر.

{بِالَّتِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، والجملة الاسمية:{هِيَ أَحْسَنُ} صلة الموصول لا محل لها. {حَتّى:}

حرف غاية وجر. {يَبْلُغَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد {حَتّى،} والفاعل يعود إلى:

{الْيَتِيمِ} . {أَشُدَّهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:

{وَلا تَقْرَبُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {وَلا تَقْتُلُوا} وما بينهما معترض لا محل له. (أوفوا):

فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{أَوْفُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {الْكَيْلَ:} مفعول به. {وَالْمِيزانَ:} معطوف على ما قبله. {بِالْقِسْطِ:}

متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أي: مقسطين، وجملة:{وَأَوْفُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها. {لا:} نافية. {نُكَلِّفُ:} مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {نَفْساً:} مفعول به أول. {إِلاّ:} حرف حصر. {وُسْعَها:} مفعول به ثان، وها: في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا نُكَلِّفُ..} . إلخ مستأنفة، أو معترضة لا محل لها. {وَإِذا:} الواو: حرف عطف.

(إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قُلْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة إذا إليها. {فَاعْدِلُوا:} الفاء: واقعة في جوابها. (اعدلوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب. (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هو معطوف على جملة:{وَلا تَقْرَبُوا..} . إلخ. {وَلَوْ:} الواو: واو الحال، (لو): وصلية هنا. {كانَ:}

ماض ناقص، واسمه مستتر مفهوم من المقام، التقدير: ولو كان المقول، أو المحكوم عليه.

{ذا:} خبر {كانَ} منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء

ص: 431

الخمسة، و {ذا:} مضاف، و {قُرْبى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{وَلَوْ كانَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الواو فقط، واعتبار (لو) امتناعية يحوج إلى تقدير جواب لها، ولا داعي لذلك. (بعهد):

متعلقان بالفعل بعدهما، و (عهد) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {أَوْفُوا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا. {ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية السابقة.

{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}

الشرح: {وَأَنَّ هذا صِراطِي..} . إلخ: الإشارة إلى ما ذكر في السورة الكريمة، فإنها بأسرها في إثبات التوحيد، والنبوة، وبيان الشريعة. هذا قول البيضاوي.

وقال الخازن، وغيره: الإشارة إلى ما ذكر في الآيتين السابقتين من الوصايا، ويدخل فيه أيضا جميع أحكام الشريعة، وكل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعاليم دين الإسلام. هذا؛ وقد قرئ بفتح همزة «(أنّ)» وكسرها، كما قرئ بالفتح، وسكون النون، وانظر:{صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} في الآية رقم [5/ 16]. {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} يعني: الطرق المختلفة، والأهواء المضلة، والبدع الخبيثة.

وانظر: {سُبُلَ} في الآية رقم [5/ 16] و [7/ 142]. {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي: فتميل بكم هذه الطرق المختلفة المضلة عن دينه، وطريقه الذي ارتضاه لعباده.

روى البغوي بسنده عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّا، ثم قال:«هذا سبيل الله» . ثمّ خطّ خطوطا عن يمينه، وعن شماله، وقال:«هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه» . وقرأ: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً} .

وقال النسفي: روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطّا مستويا، ثم قال:«هذا سبيل الرشد، وصراط الله، فاتبعوه» . ثم خط على كل جانب ستة خطوط ممالة، ثم قال:«هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، فاجتنبوها» . وتلا هذه الآية. ثم يصير كل واحد من الاثني عشر طريقا ستة طرق، فتكون اثنين وسبعين.

أقول: وهذه كلها في النار، وتبقى الفرقة الثالثة والسبعون، وهذه هي الناجية التي تسير على سنة محمد، وسنة خلفائه الراشدين الهادين المهتدين من بعده. وانظر الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية رقم [159] الآتية تجد ما يسرك.

ص: 432

{ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ:} {تَتَّقُونَ:} لتكونوا على رجاء إصابة التقوى، ذكر سبحانه أولا:{تَعْقِلُونَ} ثم: {تَذَكَّرُونَ} ثم: {تَتَّقُونَ} لأنهم إذا عقلوا؛ تفكروا، ثم تذكروا، أي: اتعظوا فاتقوا المحارم. انتهى. نسفي بتصرف.

قال سليمان الجمل: وحاصل ما ذكر في هاتين الآيتين-يعني السابقتين إلى: {تَذَكَّرُونَ} من المحرمات عشرة أشياء: خمسة بصيغ النهي، وخمسة بصيغ الأمر، وتؤول الأوامر بالنهي لأجل التناسب، ثم قال: وفي أبي السعود، وهذه الأحكام العشرة لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: هذه آيات محكمات، لم ينسخهن شيء في جميع الكتب، وهن محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار. وعن كعب الأحبار، والذي نفس كعب بيده: إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة. بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ..} . الآيات. انتهى بحروفه.

الإعراب: {وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل على تشديد النون، ومخففة من الثقيلة على سكونها، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم: (أنّ) أو في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {صِراطِي:} خبر (أنّ)، أو خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة؛ والجملة الاسمية:{هذا صِراطِي} في محل رفع خبر (أنّ). وعلى تخفيفها، وعلى فتح همزتها تؤول مع اسمها، وخبرها بمصدر في محل جر بحرف الجر محذوف، التقدير، ولأن هذا

إلخ، والجار والمجرور هذان معطوفان على المصدر المؤول من قوله:{أَلاّ تُشْرِكُوا} والمجرور بحرف جر محذوف، وعلى كسر همزة (إنّ)، فالجملة تكون اسمية، وهي مستأنفة لا محل لها، وعطفها على الجملة الاسمية:{ذلِكُمْ وَصّاكُمْ..} . إلخ ممكن. هذا؛ وقد ذكر أبو البقاء في المصدر المؤول على فتح همزة (أن) ثلاثة أوجه: أحدها تقدير: ولأن هذا؛ واللام متعلقة بقوله: {فَاتَّبِعُوهُ} أي: ولأجل استقامته اتبعوه. والثاني: أنه معطوف على: {ما حَرَّمَ..} .

إلخ أي: وأتلو عليكم: أن هذا صراطي. والثالث: هو معطوف على الهاء في: {وَصّاكُمْ بِهِ} .

وهو فاسد. وأقول المرضي من أقواله الثلاثة الثاني، وهو مقارب لما ذكرته في الإعراب، {مُسْتَقِيماً:} حال من: {صِراطِي،} وهي حال مؤكدة، والعامل فيها اسم الإشارة. {فَاتَّبِعُوهُ:}

الفاء: هي الفصيحة. (اتبعوه): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا وواقعا؛ فاتبعوا هذا الصراط المستقيم، وانظر الآية رقم [39]. (لا): ناهية. {تَتَّبِعُوا:} مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على

ص: 433

ما قبلها، لا محل لها مثلها. {السُّبُلَ:} مفعول به. {فَتَفَرَّقَ:} الفاء: هي للسببية. (تفرق):

مضارع حذف منه إحدى التاءين منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء، والفاعل يعود إلى {السُّبُلَ}. {بِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعول به، وجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال. {عَنْ سَبِيلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم اتباع، فتفرق. {ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [51].

{ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)}

الشرح: {ثُمَّ:} انظر الآية رقم [5/ 43]. {آتَيْنا:} أعطينا. {مُوسَى:} انظر الآية رقم [5/ 20]. {الْكِتابَ:} المراد به: التوراة التي أنزلها الله على موسى، عليه السلام. {تَماماً} أي: إتماما للنعمة التي أنعمها الله على بني إسرائيل. {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي: على من أحسن القيام بتعاليم هذا الكتاب. هذا؛ وقد قرئ: «(على الذين أحسنوا)» ، كما قرئ:«(أحسن)» بالرفع وبدون واو. {وَتَفْصِيلاً:} بيانا مفصلا، وموضحا لكل ما يحتاج إليه في الدين. هذا؛ وانظر:

{شَيْءٍ} في الآية رقم [5/ 19]. {وَهُدىً:} انظر الآية رقم [91]. {لَعَلَّهُمْ:} لعل بني إسرائيل يؤمنون، ويصدقون بلقاء ربهم للجزاء والحساب. وانظر الترجي في الآية رقم [151].

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف على {وَصّاكُمْ} وهي لترتيب الإخبار، وليست هنا للترتيب الحقيقي، وإلا أفاد الترتيب عكس الواقع. {آتَيْنا:} فعل، وفاعل، وانظر إعراب:{حَلَلْتُمْ} في الآية رقم [5/ 2]. {مُوسَى:} مفعول به أول. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان. {تَماماً:} يجوز فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه مفعول لأجله، أي: لأجل تمام نعمتنا. الثاني: أنه حال من {الْكِتابَ} . الثالث: أنه مفعول مطلق؛ لأنه بمعنى آتيناه إيتاء تمام لا نقصان. الرابع: أنه حال من الفاعل، أي: متممين. الخامس: أنه مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه، ويكون على حذف الزوائد، التقدير: أتممناه إتماما. {عَلَى الَّذِي:} جار ومجرور متعلقان ب {تَماماً،} أو بمحذوف صفة له. {أَحْسَنَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} ومفعوله محذوف، تقديره:

العمل، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. هذا؛ وعلى قراءة:«(أحسنوا)» فهو فعل، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، وعلى قراءة:«(أحسن)» برفع النون فهو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الذي هو أحسن، وعليه فالجملة اسمية، وهي صلة الموصول لا محل لها. (تفصيلا): معطوف على: {تَماماً} . {لِكُلِّ:} جار ومجرور متعلقان ب {وَتَفْصِيلاً} أو بمحذوف صفة له، و (كل): مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {وَهُدىً:}

ص: 434

معطوف على: {تَماماً} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. (رحمة): معطوف على ما قبله. {لَعَلَّهُمْ:}

حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها. {بِلِقاءِ:} متعلقان بالفعل بعدهما، و (لقاء) مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {يُؤْمِنُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ) والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ..} . إلخ مفيدة للتعليل، لا محل لها.

{وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاِتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}

الشرح: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ:} انظر الآية رقم [92] ففيها الكفاية. {فَاتَّبِعُوهُ} أي:

فاعملوا بما فيه من الأوامر، والنواهي، والأحكام. {وَاتَّقُوا:} انظر الآية رقم [5/ 35]. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ:} انظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [151].

الإعراب: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [92].

{فَاتَّبِعُوهُ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [153] ومحلها مثلها أيضا. (اتقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تُرْحَمُونَ:} مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل) والجملة الاسمية:{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ مفيدة للتعليل لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156)}

الشرح: {أَنْ تَقُولُوا} أي: أنزل الله القرآن؛ لئلا تقولوا يا معشر قريش

إلخ، وانظر «القول» في الآية رقم [5] (الأعراف). {إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا} أي: اليهود الذين أنزلت عليهم التوراة، والنصارى الذين أنزل عليهم الإنجيل. وهذا دليل على أن المجوس ليسوا بأهل كتاب. وانظر:{الْكِتابُ} أي: شرحه في الآية رقم [7/ 2]. هذا؛ و (طائفة) الجماعة من الناس، لا واحد لها من لفظها، مثل:(فريق) المذكور في الآية رقم [81]. {وَإِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ:} قراءة كتبهم. {لَغافِلِينَ:} لا علم لنا بشيء من ذلك. والخطاب لأهل مكة، والمراد إثبات الحجة عليهم، بإنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة، والإنجيل قد أنزلا على اليهود، والنصارى، وهما بغير لغتنا، فلم نعرف ما فيهما. فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 435

الإعراب: {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَقُولُوا:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، و «لا» مقدرة؛ إذ التقدير: لئلا تقولوا، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أَنْزَلْناهُ} في الآية السابقة. وقيل: متعلقان ب: {أَنْزَلْناهُ} مقدرا لئلا يلزم الفصل بين العامل، والمعمول بأجنبي إن علقا بالمذكور. وهذا عند الكوفيين، وهو عند البصريين على حذف مضاف، التقدير: كراهية قولكم: {إِنَّما..} . إلخ، فهو مفعول لأجله، وانظر الشاهد [48] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {أُنْزِلَ:} ماض مبني للمجهول.

{الْكِتابُ:} نائب فاعله. {عَلى طائِفَتَيْنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وتعليقهما بمحذوف حال من:{الْكِتابُ} فيه ضعف. {مِنْ قَبْلِنا:} متعلقان بمحذوف صفة: {طائِفَتَيْنِ،} و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{إِنَّما..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {وَإِنْ:}

الواو: واو الحال. (إن): مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها. {كُنّا:} ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {عَنْ دِراسَتِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{لَغافِلِينَ:} اللام: هي الفارقة بين العاملة والمهملة. (غافلين): خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية:{وَإِنْ..} . إلخ في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير. وهذا الإعراب إنما هو على مذهب البصريين، وأما الكوفيون، فيقولون: إن (إن) نافية بمعنى «ما» ، واللام بمعنى:«إلا» ، والتقدير عندهم:«وما كنا عن دراستهم إلا غافلين» . والأقوى عند جمهور النحاة، والمعتمد عندهم هو قول البصريين. وقال ابن مالك-رحمه الله-في ألفيته:[الرجز]

وخفّفت إنّ فقلّ العمل

وتلزم اللاّم إذا ما تهمل

{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)}

الشرح: {أَوْ تَقُولُوا:} الخطاب لمشركي العرب كالذي قبله. {لَوْ أَنّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ} أي:

التوراة، أو الإنجيل، أو كتاب مثلهما. {لَكُنّا أَهْدى مِنْهُمْ:} أهدى من اليهود، والنصارى، وذلك لحدة أذهاننا، وثقافة أفهامنا، وغزارة حفظنا لأيام العرب، ولذلك تلقفنا فنونا من العلم، كالقصص، والأشعار، والخطب مع أننا أميون، لا نقرأ، ولا نكتب. {جاءَكُمْ:} انظر الآية رقم [5].

{بَيِّنَةٌ:} حجة واضحة تعرفونها، وبرهان ساطع ترونه بأعينكم، وتسمعونه بآذانكم. {رَبِّكُمْ:}

ص: 436

انظر الآية رقم [7/ 3]. {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} أي: لمن تأمل فيه، وعمل به، والمراد بذلك القرآن العظيم. {كَذَّبَ:} يقرأ بالتخفيف، والتشديد. {بِآياتِ اللهِ:} آيات القرآن التي أنزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. وانظر الآية رقم [4]. والمعنى: لا أحد أظلم ممن سمع آيات الله، ثم كذب بها بعد أن عرف صحتها، وتمكن من معرفتها. {وَصَدَفَ عَنْها:} أعرض عنها. وانظر الآية رقم [46].

{سَنَجْزِي:} انظر الآية رقم [120]. {سُوءَ الْعَذابِ:} أسوأ العذاب، وأشده. {بِما كانُوا يَصْدِفُونَ:}

بسبب إعراضهم عن آيات الله بعد إذ أنزلت عليهم. وانظر إعلال: {وَهُدىً} في الآية رقم [91].

تنبيه: قال الخازن: إن جماعة من الكفار قالوا: لو أنزل علينا ما أنزله الله على اليهود، والنصارى؛ لكنا خيرا منهم وأهدى. وإنما قالوا ذلك لاعتمادهم على صحة عقولهم، وجودة فطنتهم، وذهنهم. انتهى.

الإعراب: {أَوْ تَقُولُوا:} معطوف على مثله في الآية السابقة منصوب، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنّا:} (أنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها.

{أُنْزِلَ:} ماض مبني للمجهول. {عَلَيْنَا:} متعلقان به. {الْكِتابُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر. انظر محله، وما قيل فيه في الآية رقم [58]. {لَكُنّا} اللام: واقعة في جواب لو. (كنا): ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {أَهْدى:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.

{مِنْهُمْ:} متعلقان ب: {أَهْدى،} والجملة الفعلية: {لَكُنّا..} . إلخ جواب {لَوْ} لا محل لها من الإعراب، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول. {فَقَدْ:} الفاء: حرف تعليل، أو هي الفصيحة، فعلى الأول يكون التقدير: لا تعتذروا بذلك؛ لأنه قد

إلخ، وعلى الثاني يكون التقدير: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم؛ فقد حصل ما فرضتم، وجاءكم بينة. انتهى.. جمل نقلا عن أبي السعود، وقريب منه في روح البيان. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ:} ماض، والكاف مفعول به. {بَيِّنَةٌ:} فاعل. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {بَيِّنَةٌ} وجملة:

{فَقَدْ جاءَكُمْ..} . إلخ لا محل لها على الوجه الأول في الفاء، وفي محل جزم جواب الشرط المقدر على الوجه الثاني فيها. {وَهُدىً:} معطوف على بينة مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها.

{وَرَحْمَةٌ:} معطوف على ما قبله. {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم استفهام بمعنى النفي مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:} خبره. {مِمَّنْ:} متعلقان ب: {أَظْلَمُ،} ومن تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة

ص: 437

الفعلية: {كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ} صلة: (من)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط رجوع الفاعل إليها، وجملة:{وَصَدَفَ عَنْها} معطوفة عليها. {سَنَجْزِي:} السين: حرف استقبال. (نجزي): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الَّذِينَ:}

مفعوله الأول. وجملة: {يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا} صلة الموصول لا محل لها. {سُوءَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْعَذابِ:} مضاف إليه، من إضافة الصفة للموصوف، {بِما:} متعلقان بالفعل: (نجزي) وما تحتمل الموصوفة، والموصوفة، والمصدرية، والجملة الفعلية بعدها صفتها، أو صلتها، والرابط، أو العائد محذوف، التقدير: بشيء، أو: بالذي كانوا يصدفون عنه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بصدوفهم، أو بصدفهم عن آيات الله. وانظر الآية رقم [124]. وجملة:{سَنَجْزِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ اِنْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ (158)}

الشرح: {هَلْ يَنْظُرُونَ} أي: ما ينتظرون. يعني: أهل مكة. وهم ما كانوا منتظرين لذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر؛ شبهوا بالمنتظرين انتهى بيضاوي. وقال الخازن: وتقدير الآية: أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءتهم إحدى هذه الأمور الثلاث، فإذا جاءتهم إحداها؛ آمنوا، وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم. انتهى. {تَأْتِيَهُمُ:} انظر (أتى) في الآية رقم [4]. {الْمَلائِكَةُ:}

انظر الآية رقم [11](الأعراف). والمراد: ملائكة الموت، أو ملائكة العذاب. {يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي:

أمره بالعذاب. وقال الخازن: يعني للحكم، وفصل القضاء بين الخلق يوم القيامة. وانظر الآية رقم [2/ 210] لشرح هذا المجيء، والإتيان. أو {يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ} أي: علامات الساعة.

عن حذيفة بن أسد الغفاري، والبراء بن عازب-رضي الله عنهما-قالا: كنا نتذاكر الساعة؛ إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما تذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة، قال: إنّها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات، الدخان، ودابة الأرض، وخسفا بالمشرق، وخسفا بالمغرب، وخسفا بجزيرة العرب، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج، ومأجوج، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ونارا تخرج من عدن» . {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ:} المراد به طلوع الشمس من مغربها، وهو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وذلك: أن الكفار يسلمون في زمن عيسى، عليه الصلاة والسلام، ولو لم ينفع الكفار إيمانهم أيام عيسى؛ لما صار الدين واحدا، فإذا قبض عيسى، ومن معه من المسلمين، رجع أكثرهم إلى الكفر، فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس؛ آمن من على وجه الأرض حين لا ينفع نفسا

ص: 438

إيمانها لم تكن آمنت من قبل، وكذلك لا ينفع مؤمنا لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع عمل صالح بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان، والعمل الصالح حينئذ حكم من آمن، أو عمل عند الغرغرة، وذلك لا يفيد شيئا، كما قال تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا} . انتهى جمل نقلا عن الخازن بتصرف كبير مني.

{اِنْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ:} تهديد، ووعيد للمشركين، أي: انتظروا إتيان أحد الثلاثة المذكورة، فإنا منتظرون له، وحينئذ يكون لنا النصر، والغلبة، والعزة، والكرامة، ويكون لكم الذلة، والمهانة، وغضب الله تعالى، ثم دخول جهنم. وبئس المصير! ولا تنس: أن الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {هَلْ:} حرف استفهام معناه النفي. {يَنْظُرُونَ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَأْتِيَهُمُ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والهاء مفعول به. {الْمَلائِكَةُ:} فاعله، و {أَنْ} المصدرية، والمضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{هَلْ يَنْظُرُونَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَوْ:} حرف عطف. {يَأْتِيَ:} مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله. {رَبُّكَ:} فاعله. وهو على حذف مضاف كما رأيت في الشرح، فلما حذف المضاف حل المضاف إليه محله، والكاف في محل جر بالإضافة. {يَأْتِيَ:} معطوف على ما قبله أيضا. {بَعْضُ:} فاعله، وهو مضاف، و {آياتِ:} مضاف إليه، و {آياتِ:} مضاف، و {رَبُّكَ:}

مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {لا يَنْفَعُ} بعده.

هذا؛ وقد قرئ برفعه على اعتباره مبتدأ، وجملة:{لا يَنْفَعُ..} . إلخ في محل رفع خبره. {يَأْتِيَ:}

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {بَعْضُ:} فاعله، وهو مضاف، و {آياتِ:} مضاف إليه، و {آياتِ:} مضاف، و {رَبُّكَ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {يَنْفَعُ:} مضارع. {نَفْساً:} مفعول به. {إِيمانُها:} فاعل، و (ها): في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا يَنْفَعُ..} . إلخ مستأنفة على نصب: {يَوْمَ} وتعليقه به، وهي في محل رفع خبره على رفعه، واعتباره مبتدأ، وتكون الجملة الاسمية:{يَوْمَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، ولا تنس: أن جملة: {يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ} في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها، على رفعه ونصبه. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَكُنْ:} مضارع ناقص مجزوم ب: {لَمْ،} واسمه مستتر تقديره: «هي» يعود إلى نفسا. {آمَنَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى:

{نَفْساً} أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{تَكُنْ} . {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وبني قبل على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{لَمْ تَكُنْ..} . إلخ في محل نصب صفة: {نَفْساً،} وجوز اعتبارها مستأنفة. {كَسَبَتْ:} ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود

ص: 439

إلى {نَفْساً} أيضا. {فِي إِيمانِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {خَيْراً:} مفعول به، وجملة:{كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً} معطوفة على جملة: {آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} فهي في محل نصب مثلها. {قُلِ:} أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {اِنْتَظِرُوا:} أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها، وقد حذفت النون للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها.

{مُنْتَظِرُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنّا مُنْتَظِرُونَ} تعليل للأمر لا محل لها.

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ:} بدّدوه، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض، أو افترقوا فيه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلا واحدة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الهاوية، إلا واحدة» . انتهى بيضاوي. أقول: وفي رواية أخرى:

«وهي: ما أنا عليه وأصحابي» . اللهم اهدنا بهدي نبينا، وهدي خلفائه الراشدين، وصحابته أجمعين، وثبتنا بالقول الثابت في الدنيا، والآخرة يا أرحم الراحمين. هذا؛ وقرئ «(فارقوا)» .

{وَكانُوا شِيَعاً} أي: أحزابا متفرقة في الضلالة.

وقال أبو هريرة-رضي الله عنه-في هذه الآية: هم أهل الضلالة من هذه الأمة، وروي ذلك مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا لست منهم في شيء وليسوا منك هم أهل البدع، وأهل الشّبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة» . أسنده الطبري، وروي عنه عليه الصلاة والسلام: أنه قال: «وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، ولا يبقى منه عرق، ولا مفصل، إلا دخله» . أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص. انتهى خازن. وانظر الآية [65]. {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي: أنت بريء منهم، وهم منك براء. وهو أحسن تفسير أرتضيه. وقيل: معناه: لست مأمورا بقتالهم. وقيل: معناه:

لست في شيء كائن من تفريقهم. {إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ} أي: حسابهم، وجزاؤهم إلى الله، فهو الذي يتولى ذلك. {لَسْتَ:} انظر الآية رقم [66]. {شَيْءٍ:} انظر الآية رقم [5/ 19]. {اللهِ:}

انظر الاستعاذة. {يُنَبِّئُهُمْ:} انظر الآية رقم [5/ 14]. هذا؛ وحكم الآية منسوخ بآية السيف.

ص: 440

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {فَرَّقُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، وانظر إعراب:{آمَنُوا} في الآية رقم [5/ 1]. {دِينَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{فَرَّقُوا دِينَهُمْ} صلة الموصول لا محل لها، وجملة:{وَكانُوا شِيَعاً} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {لَسْتَ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من {شَيْءٍ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {فِي شَيْءٍ:} متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر (ليس)، وجملة:{لَسْتَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّما:}

كافة ومكفوفة. {أَمْرُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلَى اللهِ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{إِنَّما أَمْرُهُمْ..} . إلخ تعليل للنفي، أو هي مستأنفة لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يُنَبِّئُهُمْ:} مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} والهاء مفعول به أول، والميم في الكل حرف دال على جماعة الذكور. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، وانظر بقية الإعراب في الآية رقم [156] والآية رقم [12/ 4] وغيرهما مما تقدم مفصلا، والجملة الفعلية:

{يُنَبِّئُهُمْ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها مثلها.

{مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)}

الشرح: {جاءَ:} انظر الآية رقم [5]. {بِالْحَسَنَةِ:} فعل الخير على وجه العموم، وتقييدها وحصرها ب {لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ} لا وجه له. {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} أي: عشر حسنات أمثالها فضلا من الله، وكرما، وجودا منه. وقرئ:«(عشرة أمثالها)» بالتنوين، و «(أمثالها)» بالرفع على الوصف، وهذا أقل ما وعد به سبحانه من الأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين، وبسبعمائة، وبغير حساب، ولذلك قيل: المراد بالعشر الكثرة دون العدد. انتهى بيضاوي. وانظر شرح: {عَشْرُ} في الآية رقم [89] من سورة (المائدة).

أقول: ويختلف العدد الموعود به بحسب الأشخاص الفاعلين، وبحسب الأحوال، والأزمنة، والأمكنة، كما هو معروف، ومشهور. وانظر الكلام على:{مِثْلَ} في الآية رقم [93]{بِالسَّيِّئَةِ:} فعلة الشر، والسوء على وجه العموم، وتقييدها وحصرها بالشرك لا وجه له. هذا؛ وإعلال (السيئة) مثل إعلال:{الْمَيِّتِ} في الآية رقم [95]. {يُجْزى:} انظر الآية رقم [120]. {لا يُظْلَمُونَ} أي: لا يظلم المحسن بإنقاص شيء من ثوابه، ولا يظلم المسيء بزيادة ما يستحقه من العقاب. وانظر «الظلم» و «البغي» في الآية رقم [146] وما أحراك أن تقرأ آية (النساء) رقم [40].

ص: 441

الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {جاءَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ} تقديره:«هو» .

{بِالْحَسَنَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال، أي: ملتبسا بالحسنة. {فَلَهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (له): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَشْرُ:}

مبتدأ مؤخر، و {عَشْرُ:} مضاف، و {أَمْثالِها:} مضاف إليه، و (ها): في محل جر بالإضافة، وعلى القراءة الثانية، ف:«(أمثالها)» بالرفع صفة: {عَشْرُ} . والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} موصولة؛ فهي مبتدأ، وجملة:{جاءَ بِالْحَسَنَةِ} صلتها، والجملة الاسمية:{فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} في محل رفع خبرها، زيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ:} إعرابه مثل سابقه. (لا): نافية. {يُجْزى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى (من)، وهو المفعول الأول. {إِلاّ:} حرف حصر.

{مِثْلَها:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط، أو في محل رفع خبر المبتدأ على نحو ما رأيت في الجملة قبلها، والجملة الاسمية على الوجهين معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع. (هم): ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يُظْلَمُونَ:} مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله. والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} في محل نصب حال من الفاعل المستتر العائد على (من) في الجملتين، والرابط: الواو، والضمير. ولا تنس أنّه روعي لفظ (من) في الجملتين السابقتين، وروعي معناها في هذه الجملة.

{قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}

الشرح: {قُلْ:} هذا موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، كسابقه، ولاحقه. {هَدانِي:} أرشدني، ودلني، ويأتي بمعنى التثبيت كما في سورة (الفاتحة). {رَبِّي:} انظر سورة (الفاتحة) رقم [1] أو [7/ 3].

{صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ:} المراد به دين الإسلام. وانظر الآية رقم [5/ 16] فإنه جيد.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّنِي:} حرف مشبه بالفعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {هَدانِي:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {رَبِّي:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {إِلى صِراطٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

ص: 442

{مُسْتَقِيمٍ:} صفة {صِراطٍ،} وجملة: {هَدانِي..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية:

{إِنَّنِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}

الشرح: {دِيناً:} الدين اسم لجميع ما يعبد به الله تعالى. والدين أيضا: الملة والشريعة.

ومن هذا قوله تعالى: {ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} . والدين: الحساب، والجزاء، ومنه:

يوم الدين، أي: يوم الجزاء، والحساب، ومنه: كما تدين تدان، أي: كما تفعل تجازى. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: يوم الدين يوم حساب الخلائق، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر، إلا من عفا الله عنه، والأمر أمره. ثم قال:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . هذا؛ والدين بفتح الدال القرض المؤجل، وجمع الأول أديان، وجمع الثاني ديون، وأدين. هذا؛ والدينونة: القضاء، والحساب، والديانة: اسم لجميع ما يتعبد به الله. {قِيَماً:} يقرأ بالتشديد، وبالتخفيف، أي: مستقيما لا عوج فيه، فعلى الأول أصله: قيوما، فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت الياء في الياء. وعلى الثاني أصله: قوما، فقلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [4/ 5] والآية [5/ 97] فإنه جيد. {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ:} دين، وطريقة إبراهيم، وهي بكسر الميم، وهي بفتح الميم: الرماد الحار. {حَنِيفاً:} انظر الآية رقم [79]. {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} تعريض بقومه بأنهم كافرون مشركون، لعبادتهم الحجارة، والأوثان، وهي لا تضر، ولا تنفع، كما هو تعريض باليهود والنصارى.

الإعراب: {دِيناً:} بدل من محل {إِلى صِراطٍ؛} لأنه المفعول الثاني، و (هدى) يتعدى تارة بإلى كما هنا، وتارة بنفسه كما في قوله تعالى:{وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً} وكما في سورة (الفاتحة)، وجوز اعتباره منصوبا بفعل مضمر، أي: عرفني دينا قيما، أو: الزموا دينا، كما جوز نصبه على المصدرية على المعنى، أي: هداني هداية دين قيم. ولا وجه له.

وقال أبو البقاء: إنه مفعول ثان ل {هَدانِي} . ولا وجه له؛ لأن المفعول الثاني هو المجرور بإلى، فاكتفى به، ولا يصح اعتباره من تعدد المفعول الثاني؛ لأن {هَدانِي} ليس من أفعال اليقين.

{قِيَماً:} صفة {دِيناً} مبالغة. {مِلَّةَ} . بدل من {دِيناً} أو عطف بيان عليه، وجوز اعتباره منصوبا بفعل محذوف، التقدير، أعني، و {مِلَّةَ} مضاف، و {إِبْراهِيمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {حَنِيفاً:} حال من {إِبْراهِيمَ} .

وقال أبو البقاء: أو على إضمار: أعني. وليس بقوي. هذا؛ وجوز مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأن المضاف مثل جزئه. {وَما:} الواو: حرف عطف أو واو الحال. (ما):

نافية. {كانَ:} ماض ناقص، واسمه مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {إِبْراهِيمَ} . {مِنَ الْمُشْرِكِينَ:}

متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر كان، والجملة الفعلية:{وَما كانَ..} . إلخ في محل نصب

ص: 443

حال ثانية من {إِبْراهِيمَ} والرابط: الواو، والضمير. وقيل: معطوفة على ما قبلها. وقيل:

معترضة. وقيل: مستأنفة وأرجح الحالية.

{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162)}

الشرح: {صَلاتِي:} انظر الآية رقم [4/ 103]. {وَنُسُكِي:} عبادتي كلها. وقيل: المراد:

قربان الذبائح في الحج، والعمرة. وقيل: المراد: مناسك الحج، والعمرة. {وَمَحْيايَ وَمَماتِي:}

وما أنا عليه في حياتي، وأموت عليه من الإيمان، والطاعة، أو طاعات الحياة، والخيرات المضافة إلى الممات، كالوصية والتدبير، أو الحياة، والممات أنفسهما، بمعنى: مالك حياتي، وبيده مماتي انتهى. بيضاوي.

وقال الخازن: وحاصل هذا الكلام أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين أن صلاته ونسكه وسائر عبادته، وحياته وموته، كلها واقعة بخلق الله وقضائه وقدره. {لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ:} انظر الآية رقم [1] من سورة (الفاتحة).

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{صَلاتِي:} اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، {وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي:} هذه الأسماء معطوفة على {صَلاتِي} منصوبة مثلها. هذا؛ ويقرأ بفتح ياء «(محياي)» وسكون ياء الثاني، وبالعكس قراءتان سبعيتان انتهى. جمل. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} . {رَبِّ:} صفة {لِلّهِ،} أو بدل منه، وهو مضاف، و {الْعالَمِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنَّ صَلاتِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}

الشرح: {لا شَرِيكَ لَهُ} يعني: في العبادة، والخلق، والإيجاد، والإعدام، وسائر أفعاله، لا يشاركه فيها أحد من خلقه. {وَبِذلِكَ أُمِرْتُ} أي: قل يا محمد لقومك: أمرت بهذا التوحيد، وبهذا الإخلاص. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ:} قال قتادة: يعني: من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته. وقيل: معناه: وأنا أول المستسلمين لقضائه، وقدره. هذا؛ وانظر شرح:

{أَوَّلُ} في الآية رقم [143] من سورة (الأعراف).

الإعراب: {لا:} نافية للجنس تعمل عمل (إنّ). {شَرِيكَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {لَهُ:} متعلقان بمحذوف خبر {لا،} أو بمحذوف صفة له، وانظر:{وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ}

ص: 444

في الآية رقم [115]. والجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط الضمير فقط، أو هي مستأنفة لا محل لها. (بذلك): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أُمِرْتُ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الاسمية قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، فعلى الحالية يكون الرابط اسم الإشارة. (أنا): ضمير رفع منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَوَّلُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْمُسْلِمِينَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فعلى الحالية يكون الرابط محذوفا، التقدير: أنا أول المسلمين له.

{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)}

الشرح: {أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا} أي: قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين: أأطلب ربّا غير الله، وهو رب كل موجود في هذا الكون الواسع؟! وهو جواب لقولهم حين قالوا له صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى ديننا.

هذا؛ وانظر شرح: {رَبُّ} في الآية رقم [7/ 3] و {شَيْءٍ} في الآية رقم [5/ 19]. {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها:} يعني إن إثم الجاني عليه لا على غيره. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} يعني: لا تؤاخذ نفس آثمة بإثم أخرى، ولا تحمل نفس حاملة حمل أخرى، ولا يؤاخذ أحد بذنب آخر، وذلك: أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا، ولنحمل خطاياكم، إما بمعنى: ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا: فقوله:

{وَلا تَكْسِبُ..} . إلخ رد لقولهم المذكور بالمعنى الأول، وقوله:{وَلا تَزِرُ..} . إلخ رد لقولهم المذكور بالمعنى الثاني. انتهى جمل. نقلا من أبي السعود. {اللهِ:} انظر الاستعاذة. {نَفْسٍ:}

انظر الآية رقم [7/ 9]. {تَزِرُ:} إعلاله مثل إعلال: {يَصِلُ} في الآية رقم [136] وماضيه: وزر، والمصدر: وزر بكسر الواو، وفتحها، وهو بمعنى الإثم. هذا؛ والوزر بفتح الواو والزاي الملجأ والمستغاث، قال تعالى:{كَلاّ لا وَزَرَ..} . إلخ. {ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ:} يوم القيامة، فيجازي كلاّ ما يستحقه من الثواب، أو العقاب. {فَيُنَبِّئُكُمْ:} انظر الآية رقم [5/ 14]. {بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي: في الدنيا بشأن الأديان، والملل، والنحل، ويكون ذلك بتبيين الرشد من الغي، وتمييز المحق من المبطل. هذا؛ وانظر إعلال مثل:{كُنْتُمْ} في الآية رقم [7] من سورة (المائدة).

الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {أَغَيْرَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. (غير): حال، وهو في الأصل صفة ل {رَبًّا،} فلما قدم صار حالا، على القاعدة:

«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» و (غير) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {أَبْغِي:} مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {رَبًّا:} مفعول به، والجملة الفعلية:{أَغَيْرَ..} . إلخ

ص: 445

في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. (هو): مبتدأ.

{رَبُّ:} خبره، وهو مضاف، و {كُلِّ:} مضاف إليه، و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير. (لا): نافية.

{تَكْسِبُ:} مضارع. {كُلِّ:} فاعله، و {كُلِّ:} مضاف، و {نَفْسٍ:} مضاف إليه. {إِلاّ:}

حرف حصر لا محل له. {عَلَيْها:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، والجملة الفعلية:{وَلا تَكْسِبُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {وِزْرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أُخْرى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المقصورة، والجملة الفعلية:{وَلا تَزِرُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب حال. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِلى رَبِّكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{مَرْجِعُكُمْ:} مبتدأ مؤخر، والكاف فيهما ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا. هذا؛ وإن اعتبرت الجملة الفعلية:{وَلا تَكْسِبُ..} . إلخ مستأنفة؛ فتكون هي وما عطف عليها لا محل لها من الإعراب. (ينبئكم): مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} والكاف مفعول به أول. {بِما:} متعلقان به، و (ما) في محل نصب مفعوله الثاني، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِيهِ:} متعلقان بالفعل بعدهما. {تَخْتَلِفُونَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر كان، وجملة:

{كُنْتُمْ فِيهِ..} . إلخ صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلاّ ب:{فِيهِ} .

هذا؛ وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: فينبئكم بكونكم مختلفين فيه، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}

الشرح: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ:} يخلف بعضكم بعضا، أو خلفاء الله في أرضه، تتصرفون فيها، أو خلفاء الله في الأرض في تنفيذ أحكامه، كما في قوله تعالى:{إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . هذا؛ و {خَلائِفَ} جمع: خليفة، مثل: كرائم جمع: كريمة، وصحائف جمع: صحيفة. هذا؛ وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة. وفي المصباح: والخليفة أصله:

خليف بغير هاء؛ لأنه بمعنى الفاعل، دخلته الهاء للمبالغة، كعلامة، ونسابة، ويكون وصفا للرجل خاصة، ويقال: خليفة آخر بالتذكير. ومنهم من يقول: خليفة أخرى بالتأنيث. ويجمع باعتبار أصله على: خلفاء، مثل: شريف وشرفاء. وباعتبار اللفظ على خلائف. انتهى. جمل.

ص: 446

وانظر رقم [14](يونس). {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ:} في الخلق، والرزق، والشرف، والعقل، والقوة، والفضل، فجعل منهم الحسن، والقبيح، والغني، والفقير، والشريف، والوضيع، والعالم، والجاهل، والقوي، والضعيف. وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات.

ليس لأجل العجز، أو الجهل، أو البخل، فإن الله سبحانه منزه عن صفات النقص، وإنما هو لأجل الاختبار، والامتحان، والابتلاء، كما قال تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ} ليظهر للناس الصابر، والشاكر، والمطيع، والعاصي

إلخ. {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ} أي: لمن عصاه؛ لأن كل ما هو آت قريب، والمعنى سريع العقاب إذا جاء وقته، فلا يرد: كيف قال: {سَرِيعُ الْعِقابِ،} مع أنه حليم، والحليم هو الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه؟ {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ:}

لذنوب أوليائه، وأهل طاعته. {رَحِيمٌ} أي: بجميع خلقه.

الإعراب: (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره. {جَعَلَكُمْ:} ماض، والكاف مفعول به أول، والفاعل يعود إلى {اللهِ،} وهو العائد. {خَلائِفَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الْأَرْضِ:} مضاف إليه، وجملة:{جَعَلَكُمْ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. (رفع): ماض، وفاعله يعود إلى:

{اللهِ} . {بَعْضَكُمْ} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَوْقَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {فَوْقَ:} مضاف، و {بَعْضٍ:} مضاف إليه. {دَرَجاتٍ:} منصوب بنزع الخافض، التقدير: إلى درجات، والناصب له عند البصريين النزع، وعند الكوفيين الفعل، والجملة الفعلية {وَرَفَعَ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَهُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {لِيَبْلُوَكُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} والكاف مفعول به. {فِي ما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب {فِي}. {آتاكُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله) والكاف مفعول به أول، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني. التقدير:

آتاكم إياه، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(رفع). {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، {رَبَّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة. {سَرِيعُ:} خبرها، وهو مضاف، و {الْعِقابِ:} مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، والجملة الاسمية:{إِنَّ رَبَّكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والجملة بعدها معطوفة عليها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 447