الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَزَوَالِ الشَّمْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ الْحَقُّ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 63] جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ. وَمَنِّهِ آمِينَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ جِبْرِيلُ عليه السلام يَقُومُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَفِيهِ بُعْدٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ، وَحَسْبُكَ بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ:(يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى نِصْفِ أُذُنَيْهِ). ثُمَّ قِيلَ: هَذَا الْقِيَامُ يَوْمَ يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ بِحُقُوقِ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّشْكُ: يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِلْقَضَاءِ. الرَّابِعَةُ- الْقِيَامُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ حَقِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَظَمَتِهِ وَحَقِّهِ، فَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَاخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَاعْتَنَقَهُ، وَقَامَ طَلْحَةُ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمَ تِيبَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ حِينَ طَلَعَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ:(قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ). وَقَالَ أَيْضًا: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى حَالِ الرَّجُلِ وَنِيَّتِهِ، فَإِنِ انْتَظَرَ ذَلِكَ وَاعْتَقَدَهُ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْبَشَاشَةِ وَالْوُصْلَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَخَاصَّةً عِنْدَ الْأَسْبَابِ، كَالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ مضى في آخر سورة" يوسف"«1» شي من هذا.
[سورة المطففين (83): الآيات 7 الى 13]
كَلَاّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَاّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
(1). راجع ج 9 ص 265 فما بعدها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ: كَلَّا رَدْعٌ وَتَنْبِيهٌ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَطْفِيفِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، أَوْ تَكْذِيبٍ بِالْآخِرَةِ، فَلْيَرْتَدِعُوا عَنْ ذَلِكَ. فَهِيَ كَلِمَةُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا. وَرَوَى نَاسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَلَّا قَالَ: أَلَا تُصَدِّقُونَ، فَعَلَى هَذَا: الْوَقْفُ" لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَفِي تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ: إِنَّ أَعْمَالَ الْفُجَّارِ. وَرَوَى نَاسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْفُجَّارِ وَأَعْمَالَهُمْ لَفِي سِجِّينٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نجيج عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سِجِّينٌ صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، تُقْلَبُ فَيُجْعَلُ كِتَابُ الْفُجَّارِ تَحْتَهَا. وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ وَكَعْبٍ، قَالَ كَعْبٌ: تَحْتَهَا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ تَحْتَ خَدِّ إِبْلِيسَ. وَعَنْ كَعْبٍ أَيْضًا قَالَ: سِجِّينٌ صَخْرَةٌ سَوْدَاءُ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، مَكْتُوبٌ فِيهَا اسْمُ كُلِّ شَيْطَانٍ، تُلْقَى أَنْفُسُ الْكُفَّارِ عِنْدَهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سِجِّينٌ تَحْتَ خَدِّ إِبْلِيسَ. يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: حَجَرٌ أَسْوَدُ تَحْتَ الْأَرْضِ، يُكْتَبُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيِّ: هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى، وَفِيهَا إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْكَافِرَ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ، وَتَحْضُرُهُ رُسُلُ اللَّهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِبُغْضِ اللَّهِ لَهُ وَبُغْضِهِمْ إِيَّاهُ، أَنْ يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجئ سَاعَتُهُ، فَإِذَا جَاءَتْ سَاعَتُهُ قَبَضُوا نَفْسَهُ، وَرَفَعُوهُ إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، فَأَرَوْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُرُوهُ مِنَ الشَّرِّ، ثُمَّ هَبَطُوا بِهِ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَهِيَ سِجِّينٌ، وَهِيَ آخِرُ سُلْطَانِ إِبْلِيسَ، فَأَثْبَتُوا فِيهَا كِتَابَهُ. وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ رُوحَ الْفَاجِرِ إِذَا قُبِضَتْ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَتَأْبَى السَّمَاءُ أَنْ تَقْبَلَهَا، ثُمَّ يُهْبَطُ بِهَا إِلَى الْأَرْضِ، فَتَأْبَى الْأَرْضُ أَنْ تَقْبَلَهَا، فَتَدْخُلُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ، حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى سِجِّينٍ، وَهُوَ خَدُّ إِبْلِيسَ. فَيُخْرَجُ لَهَا مِنْ سِجِّينٍ مِنْ تَحْتِ خَدِّ إِبْلِيسَ رَقٌّ، فَيُرْقَمُ فَيُوضَعُ تَحْتَ خَدِّ إِبْلِيسَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سِجِّينٌ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرُدُّ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى عَمَلُهُمْ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ لَا يَصْعَدُ مِنْهَا شي. وقال:
سِجِّينٌ صَخْرَةٌ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سِجِّينٌ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ وَهُوَ مَفْتُوحٌ) وَقَالَ فِي الْفَلَقِ: (إِنَّهُ جُبٌّ مُغَطًّى). وَقَالَ أَنَسٌ: هِيَ دَرَكَةٌ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى. وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سِجِّينٌ أَسْفَلَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ (. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:) سِجِّينٌ: خَسَارٌ وَضَلَالٌ، كَقَوْلِهِمْ لِمَنْ سَقَطَ قَدْرُهُ: قَدْ زَلِقَ بِالْحَضِيضِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: لَفِي سِجِّينٍ لَفِي حَبْسٍ وَضِيقٍ شَدِيدٍ، فِعِّيلٌ مِنَ السَّجْنِ، كَمَا يَقُولُ: فِسِّيقٌ وَشِرِّيبٌ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
وَرُفْقَةٌ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً
…
ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينًا «1»
وَالْمَعْنَى: كِتَابُهُمْ فِي حَبْسٍ، جُعِلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى خَسَاسَةِ مَنْزِلَتِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحِلُّ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَالْإِبْعَادِ لَهُ مَحَلَّ الزَّجْرِ وَالْهَوَانِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ سِجِّيلٌ، فَأُبْدِلَتِ اللَّامُ نُونًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ «2». وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: سِجِّينٌ فِي الْأَرْضِ السَّافِلَةِ، وَسِجِّيلٌ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا. الْقُشَيْرِيُّ: سِجِّينٌ: مَوْضِعٌ فِي السَّافِلِينَ، يُدْفَنُ فِيهِ كِتَابُ هَؤُلَاءِ، فَلَا يَظْهَرُ بَلْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَالْمَسْجُونِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى خُبْثِ أَعْمَالِهِمْ، وَتَحْقِيرِ اللَّهِ إِيَّاهَا، وَلِهَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الْأَبْرَارِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُهُ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ ولا قومك. ثم فسره له فقال: (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أَيْ مَكْتُوبٌ كَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ، لَا يُنْسَى وَلَا يُمْحَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَرْقُومٌ أَيْ مَكْتُوبٌ، رُقِمَ لَهُمْ بِشَرٍّ: لَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَرْقُومٌ: مَخْتُومٌ، بِلُغَةِ حِمْيَرٍ، وَأَصْلُ الرَّقْمِ: الْكِتَابَةُ، قَالَ:
سَأَرْقُمُ فِي الْمَاءِ الْقَرَاحِ «3» إِلَيْكُمُ
…
عَلَى بُعْدِكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمَاءِ رَاقِمُ
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: (وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ) مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ سِجِّينٍ لَيْسَ عَرَبِيًّا كَمَا لَا يَدُلُّ فِي قَوْلِهِ: (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) بَلْ هُوَ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ سِجِّينٍ. وَقَدْ مَضَى فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ- وَالْحَمْدُ لِلَّهِ- أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ غير عربي. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)
(1). الذي في التاج نقلا عن الجوهري:
ورجلة يضربون الهام عن عرض
(2)
. راجع ج 1 ص 68.
(3)
. القراح بوزن سحاب: الماء الذي لا ثقل به.