المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وصف النسخة المعتمدة - إفادة المبتدي المستفيد فى حكم إتيان المأموم بالتسميع

[برهان الدين الناجي]

الفصل: ‌وصف النسخة المعتمدة

‌وصف النسخة المعتمدة

اعتمدت في إخراج هذه الرسالة على نسخة مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض -وهي مشتراة مِن أحد الورَّاقين الدمشقيين، ولم تُرَقَّمْ بعد- ضمن مجموع للعلَاّمة الحافظ برهان الدين إبراهيم بن محمد الدمشقي، المعروف بالناجي. والمجموع كله بخط إبراهيم بن عثمان بن محمَّد، في شهر رمضان، سنة (878 هـ)، وهذا يدل على أنها منسوخة في حياة المصنَّف المتوفى سنة (900 هـ)، وقد صرَّح الناسخ بذلك حيث قال عن المصنِّف:"حفظه الله".

وتقع مخطوطتنا في أربع ورقات، وعدد الأسطر فيها (21) سطرًا، وهي بخطَّ نسخِىٍّ واضح.

وقد قمت بعزو الآيات الكريمة إلى سورها وترقيمها، وعزو الأحاديث إلى مخرِّجيها، والأقوال إلى مصادرها، والتعليق على ما يحتاج إلى تعليق، على وجه الاختصار.

ولا يفوتني أن أشكر أخي المفضال، الشيخ المحقق محمد بن ناصر العجمي، على ما أكرمني به من تهيئة المخطوطة، فجزاه الله خيرًا.

وصلَّى الله على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.

* * *

ص: 12

مخطوطااات

ممم

صورة الصفحة الأولى من المخطوطة

ص: 13

صورة الصفحة الأخيرة من المخطوطة

ص: 14

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أنعم، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وصحبه وسَلَّم، وبعد:

فإنَّ السنَّة عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه لكل مُصل -من إمام ومأموم ومنفرد- إذا ابتدأ برفع رأسه من الركوع أن يقول: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه"، فإذا انتصب قائمًا، واعتدل بعوده إلى الهيئةِ التي كان عليها قبل رُكُوعِه، قال:"ربَّنا لك الحمد"؛ لما ثبت في الصحيحين (1) وغيرِهما من حديث أبي هريرة: "أنه عليه الصلاة والسلام كان يقولُ: (سمع الله لمن حَمِدَه) حين يَرْفَعُ صُلْبَهُ من الركوع، ثم يقول وهو قائم: (ربنا ولك [الحمد] (2) ". وعند البخاري: "ربنا لك الحمد"(3)، وقال بعض رواته:"ولك الحمد"(4).

(1)"صحيح البخاري"(2/ 272) - الفتح، و"صحيح مسلم"(1/ 293، 294).

(2)

هذه الكلمة سقطت من المخطوط.

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 272).

(4)

وهو الذي اتفق عليه أكثر الرواة. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال العلماء: الرواية بثبوت الواو أرجح، وهي [أي الواو] زائدة، وقيل: عاطفة على محذوف، وقيل: هي واو الحال. قاله ابن الأثير، وضعَّف ما =

ص: 17

وسيأتي التَّعَرُّضُ لِلَفْظِ التحميد بزيادةٍ في التسميع، وإنما المقصود هنا تقريرُ أنه لا خلاف في مذهبه في الجمع بينهما كما نقله شيخ المذهب محيي الدين النووي، في كتابه:"شرح المهذب"(1) وغيره عن الشافعي وأصحابه، وقال:"هذا لا خلاف فيه عندنا"، وقرَّر أنَّ التسميعَ ذِكْرُ رفعِ الرأس من الركوع، والتحميدَ بعده ذكرُ الاعتدالِ منه.

وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة، من حديث جماعات من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين (2): أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه كان يجمع بينهما في صلاة الفرض والتطوع (3).

= عداه. اهـ. "فتح الباري"(2/ 273).

والتقدير على كون الواو عاطفة: (ربَّنا اسْتَجِبْ لنا -أو ما قارب ذلك- ولك الحمد)، ففيه زيادة معنى؛ لأنه يشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر. وأمَّا بإسقاط الواو، فهو يدل على أحد هذين المعنين فقط. انظر:"الإِحكام" لابن دقيق العيد (1/ 204).

(1)

الذي أسماه بـ "المجموع"(3/ 391) ط المطيعي-مكتبة الإِرشاد- جدة.

(2)

منهم:

1 -

أبو هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري (2/ 272)، ومسلم (1/ 293، 294).

2 -

ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه البخاري (2/ 221).

3 -

ابن أبي أوفى رضي الله عنهما، أخرجه مسلم (1/ 346).

(3)

أي مِن حيثُ إطلاقُ الروايات، وإلَاّ فليس هناك روايةٌ خاصَّة في التطوع. ثم إن ما ورد مِن وصف الصحابة لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنه وصفٌ لحال إمامته؛ لأنها الحالة الغالبة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكره ابن دقيق العيد رحمه الله في "الإحكام"(1/ 222).

ص: 18

وقد صح عنه في البخاري (1) وغيره أنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، كذا قرَّره النووي في "شرح المهذب"(2) وغيره، وفي مواضع من "شرح مسلم"(3)، والاستدلالُ به ظاهر.

وقال الإِمام البخاري: "باب ما يقول الإِمام ومَن خلفَه إذا رفع رأسه من الركوع"(4). ثم روى بسنده الصحيح المشهور إلى أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: (سمع الله لمن حمده)، قال: (اللَّهُمَّ ربنا ولك الحمد) ".

وروى الحافظ أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5) عن عليّ بن أبي طالب: "أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، بحولك وقوتك أقوم وأقعد".

وقد ورد في جمع المأموم بينهما أيضاً ما سنذكره.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 111).

(2)

(3/ 393).

(3)

(4/ 193).

(4)

"صحيح البخاري"(2/ 282).

(5)

(1/ 247)، وإسناده ضعيف؛ فيه: أبو إسحاق، وهو السَّبيعي، عمرو بن عبد الله، اختلط بأَخَرَةٍ، كما أنه مشهور بالتدليس، وقد عنعن هنا. انظر:"تقريب التهذيب"(ص 423 - ط محمد عوامة)، و"طبقات المدلسين"(ص 42). وفي إسناده -أيضًا- الحارث، وهو الأعور، قال عنه في "تقريب التهذيب" (ص 146):"كذَّبه الشعبي في رأيه، ورُمِيَ بالرفض، وفي حديثه ضعف".اهـ.

ص: 19

قال الشيخ ولي الدين (1) في "تكملة شرح تقريب الأسانيد"(2) الذي عمله له والده زين الدين (3) في الكلام على حديث: "إنما جعل الِإمامُ لِيُؤْتَمَّ به"(4): "مع (5) أن الاعتماد على قوله عليه الصلاة والسلام: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي" (6) ". اهـ.

فروى الحافظان أبو الحسن الدارقطني وأبو بكر البيهقي في "خلافيَّاته"(7) عن سعيد المَقْبُري: "أنَّه سمع أبا هريرة وهو إمام للناس في الصلاة يقول: (سمع الله لمن حمده، اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد، الله أكبر)، يرفع بذلك صوته ونتابعه معًا".

وسيأتي أنه يستحب للإِمام أو المبلِّغ عنه الجهرُ بالتسميعِ وتكبيرِ

(1) هو أبو زرعة، أحمد بن عبد الرحيم العراقي (ت 826 هـ).

(2)

(2/ 331). وقد أسمى والدُه الشرح المذكور بـ "طرح التثريب في شرح التقريب" الذي أكمله ولده من بعده، رحمهما الله جميعًا.

(3)

هو أبو الفضل، عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت 806 هـ).

(4)

الحديث مروي عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري (2/ 109)، ومسلم (1/ 309، 310).

(5)

قَبْلَهُ في الشرح المذكور: "وقد ورد في جمع المأموم بينهما أحاديث في إسنادها ضعف، فنذكرها، مع أن الاعتماد

" إلخ.

(6)

أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحة"، من رواية مالك بن الحويرث رضي الله عنه، منها (2/ 111).

(7)

لم أجده في "سنن الدارقطني"، والذي في "طرح التثريب"(2/ 332) هو عزوه للبيهقي فقط، وهو الصواب إن شاء الله، وهو في "سننه الكبرى"(2/ 96).

ص: 20

الانتقالات بحيث يسمع المأموم.

وقالَ النووي في "شرح مسلم"(1): "باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع إلَاّ في رفعه من الركوع؛ فإنه يقول فيه: (سمع الله لمن حمده) ".

قال البيهقي: ورُوِي عن أبي بُردة بنِ أبي موسى -وهو الأشعري التابعي- أنه كان يقول خلف الإِمام: (سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد).

وقال عطاء بن أبي رَبَاح: يجمعهما مع الإِمام أحبُّ إلى.

وروى البيهقي والدارقطني (2) بإسناد صحيح عن ابن عون قال: قال ابن سيرين: "إذا قال الإِمام: (سمع الله لمن حمده)، قال من خلفه: (سمع الله لمن حمده) ". زاد البيهقي: (اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد).

إلى غير ذلك.

وروى الحافظ الدارقطني في "سننه"(3) من طريق عمرو بن شَمِر، عن جابر -وهو الجُعْفِيُّ- وهما واهيان (4)، عن عبد الله بن بريدة، عن

(1)(4/ 97).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 345)، ومن طريقه البيهقي في "سننه"(2/ 96).

(3)

(1/ 339)، وكذا أخرجه البيهقي في "الخلافيات" -كما في "طرح التثريب" (2/ 331) - وقال:"وفيه جابر الجُعْفي، لا يحتج به، ومن دونه أكثرهم ضعفاء". اهـ.

(4)

أما عمرو بن شَمِر، فهو الجُعفي الكوفي الشيعي، أبو عبد الله. قال عنه =

ص: 21

أبيه قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بُريدة، إذا رفعت رأسك من الركوع فقل: (سمع الله لمن حمده، اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد مِلْءَ السماوات ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما شئت من شيء بعد) ".

وجه الدلالة منه: أمره بالجمع بين التسميع والتحميد.

ورَوَى -أيضًا- (1) من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان -وفيه لينٌ (2) - عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال:"كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (سمع الله لمن حمده)، قال مَن وراءه: (سمع الله لمن حمده) ". لكنه قال: المحفوظ لهذا الإِسناد إنما هو: "إذا قال الإِمام: (سمع الله لمن حمده) فليقل من وراءَه: (اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد) ".

وسيأتي الجواب عنه وعن نظائره فيما بعد إن شاء الله.

وقد وافق الشافعيَّ على أن المأموم يأتي بالتسميع والتحميد كالإِمام -غيرُ من تقدم- اثنان من المالكيَّةِ.

قال الشيخ سراج الدين بنُ الملَقِّن في شرح حديث: "إنما جُعِل

= البخاري: "منكر الحديث". وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: "متروك الحديث". انظر: "ميزان الاعتدال"(3/ 268).

وأما جابر الجُعْفي، فقد قال عنه في "التقريب" -أيضًا- (ص 137):"ضعيف رافضي". اهـ.

(1)

"سنن الدارقطني"(1/ 340).

(2)

قال عنه في "تقريب التهذيب"(ص 337): "صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وتغير بأَخَرة". اهـ.

ص: 22

الِإمامُ لِيُوْتَمَّ به" من "شرح العمدة": "قاله من المالكية عيسى بن دينار (1) وابن نافع (2)، وإن كان القاضي عياض في "إكماله"(3) خطَّأ من تأوَّل ذلك عليهما".

قال: "وقال مالك في مختصر ما يسر في المختصر": للمأموم أن يجمع بينهما". انتهى.

وقد وافق الشافعىَّ على جمع المنفرد بينهما: مالك وأحمد وابن حزم الظاهري (4)، وعزاه إلى طائفة من السلف.

(1) هو أبو محمد، عيسى بن دينار الغافقي، الطليطلي، صاحب ابن القاسم، كان صالحّا ورعاً، مقدَّمّا في الفقه على يحيي بن يحيي. انصرف إلى الأندلس وعلَّم أهلها الفقه. له تأليف في الفقه يسمى "كتاب الهدية"، كتب به إلى بعض الأمراء، عشرة أجزاء. توفي بطليطلة سنة اثنتي عشرة ومائتين. انظر:"الديباج المذهب"(ص 178، 179)، و"شذرات الذهب"(2/ 28).

(2)

في الأصل: "نافع"، وهو خطأ، والصواب ما أثبته كما هو في "الإِكمال" للقاضي عياض (2/ 269)، والمراد به: أبو محمد، عبد الله بن نافع الصائغ، تفقه بمالك، وهو مفتي المدينة بعده، وتوفي بها سنة ست وثمانين ومائة. انظر:"الديباج المذهب"(1/ 131).

(3)

وهو كتاب: "إكمال المعلم شرح صحيح مسلم"، طبع سنة 1998 م، بتحقيق الدكتور يحيي إسماعيل، نشر دار الوفاء بالمنصورة.

(4)

انظر لمالك: "المدونة"(1/ 71)، ولأحمد:"المغني"(2/ 186)، وذكر أن هذا هو المشهور عن أحمد، وفي رواية أخرى عنه: أن المنفرد لا يأتي بالتحميد.

وانظر لابن حزم: "المحلى"(4/ 119 - 121).

ص: 23

وقال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خلافًا (1).

وقال صاحِبُ "الهداية" من الحنفية: يجمع بينهما في الأصح، وإن كان يروى الاكتفاء بالتسميع، ويُرْوَى بالتحميد (2).

وكذا نقل أبو عيسى الترمذي في "جامعه" عن ابن سيرين وغيره (3). قال: وبه يقول الشافعي وإسحاق.

وكذا نقله عنهما ابن المنذر في "الإِشراف"، وعن أبي بردة وابن سيرين وعطاء.

وذكره الخطابي في "معالم سنن أبي داود"(4) عن ابن سيرين وعطاء.

وقد وافق الشافعىَّ على أن الإِمام يجمع بينهما أيضًا -غيرُ من تقدم-: أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة (5).

قال ابن العراقي: "وهو قول في مذهب مالك أيضًا، حكاه ابن

(1) انظر: "الاستذكار"(5/ 405).

(2)

"الهداية" مع "فتح القدير"(1/ 299، 300).

(3)

الذي في "جامع الترمذي"(2/ 56) في النقل عن ابن سيرين وغيره إنما هو في المأموم.

(4)

(1/ 403) - مطبوع مع مختصر المنذري.

(5)

انظر: "الهداية" مع "فتح القدير"(1/ 298).

ص: 24

شاس (1) في "الجواهر"(2)، أنه يجمع الإِمام بينهما" (3). انتهى.

وقد أشار إلى هذا الإِمام ابن الحاجب في "فروع الأمهات"(4) فقال: "ويستحب للمنفرد في الرفع: (سمع الله لمن حمده، اللَّهُمَّ ربنا ولك الحمد)، وللإِمام الأول، وقيل مثله، وللمأموم الثاني". انتهى.

* فالشافعي جمع للمصلي في هذه المسألة المذاهب كلها، فكان مذهبُه الجامعُ للمحاسن أحقَّها بالاتباع وأَهْلَها.

* وكيف لا وهو ابنُ عَمِّ نبينا وابن عمته، وسميُّه وناصِرُ سُنَّتِهِ، القرشي الشافعي المنسوب إلى جده شافِع؟! ويجتمع نسبه الشريف مع أشرف الأشراف في عبد مناف.

ولقد أحسن أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي من

(1) في حاشية المخطوط: "أوَّله معجمة، وآخره مهملة".

وابن شاس، هو: أبو محمد، عبد الله بن نجم بن شاس الجُذَامي السَّعدي المالكي. سمع من عبد الله بن بَرِّي النحوي، ودرَّس بمصر وأفتى. كان مقبلاً على الحديث، ذا ورع وجهاد. حدَّث عنه الحافظ المنذري. توفي سنة (616 هـ).

(2)

اسم كتابه: "الجواهر الثمينة في فقه أهل المدينة"، وضعه على ترتيب "الوجيز" للغزالي، وجوَّده ونقَّحه، وسارت به الركبان. انظر:"سير أعلام النبلاء"(22/ 98).

(3)

"طرح التثريب"(2/ 330).

(4)

ذكره في "هدية العارفين"(1/ 655) باسم: "جامع الأمهات في الفقه"، وفي "كشف الظنون" بأسم:"فروع ابن الحاجب"، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (13/ 188):"ومختصره في الفقه من أحسن المختصرات، انتظم فيه فوائد ابن شاس". اهـ.

ص: 25

أصحابنا (1) حيث قال في إمامه -بل وإمامنا وإمام الأئمة الأعظم، رضي الله عنه وعنهم أجمعين-:

ومِنْ شُعَبِ الِإيمانِ حُبُّ ابنِ شافع

وفَرْضٌ أكيدٌ حُبُّهُ لا تَطَوُّعُ

وإني حياتي شافعىُّ فإن أَمُتْ

فوصِيَّتي بعدي بأن تتشفَّعوا

وروى الحافظ الكبير أبو بكر الخطيب البغدادي -الذي كان أوَّلاً حنبليًّا ثم انتقل فصار شافعيًّا- بسنده المتصل إلى الإِمام المُزَني قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألتُهُ عن الشافعي فقال: "من أراد محبتي وسُنَّتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعيِّ المطَّلِبي؛ فإنَّه مني وأنا منه".

ومن الغرائب: ما ذكره الحافظ الذهبي -في "ميزانه"(2)، في ترجمة أبي بكر البندنيجي الفقيه، محمد بن حمد بن خلف -وهو من مشايخ السَّمعاني وابن عساكر-: أنه عمل حنبليَّا، ثم حنفيَّا، ثم شافعيَّا واستمرَّ، فلُقِّبَ حنفش.

وقال أبو الحسن علي بن أحمد الدِّينَوَرىُّ الزاهِدُ: رأيت

(1) قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب"(9/ 10): "وهو من كبار الشافعية، وزعم الذهبي أنه كان مالكيًّا، ويدل على أنه شافعي

" ثم ذكر البيتين اللذين سيذكرهما المصنف. قيل: كان مولده سنة أربع ومائتين. قال عنه الحافظ في "التهذيب" (9/ 8): "أبو عبد الله، الفقيه الأديب، شيخ أهل الحديث في عصره، نزيل نيسابور، ثم ذكر من روى عنهم، ومنهم يحيى بن عبد الله بن بكير، وسعيد بن منصور، وممن روى عنه: محمد بن إسحاق الصاغاني وهو أكبر منه. توفي سنة تسعين -أو: واحد وتسعين- ومائتين.

(2)

"ميزان الاعتدال"(3/ 528).

ص: 26

النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، بقول مَن آخذ؟ "فأشار إلى عليّ بن أبي طالب، فقال: خذ بيد هذا، فأتِ به ابنَ عمنا الشافعي؛ ليعمل بمذهبِهِ فيرشُدَ ويبلغَ باب الجنة"، ثم قال:"الشافعي بين العلماء كالبدر بين الكواكب".

ويكفيه هذا الثناءُ البليغ، والحثُّ على اتِّباع مذهبه دون بقية أئمة المذاهب، ولهذا أفتى الشيخ محيي الدين النووي، فيما لو حلف الحالف بالطلاق أن الشافعي أفضل الأئمة في عصره، ومذهبه خَيْرُ المذاهب، أنه لا يقع عليه طلاق.

وقال أحمد بن حنبل: ما أحدٌ مسَّ بيده مَحْبَرَةً ولا قلمًا إلَاّ وللشافعي في رقبته مِنَّةً (1).

وقال الربيع بن سليمان المرادي -خادمُ الشافعي وصاحبُه-: "رأيت في المنام كأنَّ آدمَ عليه السلام مات، فسألت عن ذلك، فقيل: هذا موتُ أعلمِ أهل الأرض؛ لأن الله تعالى عَلَّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها، فما كان إلَاّ يسيرٌ ومات الشافعي".

ورأى غيرُ الرَّبيع ليلةَ مات الإِمامُ الشافعيُّ قائلاً يقول: "الليلةَ مات النبي صلى الله عليه وسلم"(2).

(1) وقال إمام الحرمين الجويني: "ما من شافعي المذهب إلَاّ وللشافعي عليه منة، إلَاّ أحمد البيهقي [يعني به أبا بكر الحافظ صاحب السنن الكبرى] فإن له على الشافعي منة". اهـ. "وفيات الأعيان"(1/ 76). وذلك لنصرته لمذهب الشافعي بجمعه لأدلته وإسناد أحاديثه.

(2)

جرى المؤلف -رحمه الله تعالى- في الثناء على الإِمام الشافعي -رحمه =

ص: 27

* وأما ما احْتَجَّ به الغير على أن المأموم يقتصر على التحميد، من الحديث:"إذا قال الإِمام: (سمع الله لمن حمده)، فقولوا: (اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد) "، وفي لفظ:"ولك"، وفي آخَر:"ربنا ولك"(1)، والحديث الآخر:"إنما جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ به"، وفيه:"وإذا قال: (سمع الله لمن حمده)، فقولوا: (ربنا ولك) وفي لفظ: (اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد) "؟!.

فأجاب عنهما أئمتنا الشافعية رضي الله عنهم، بأنه: ليس في الكلام حصرٌ، وغايةُ ما في الحديث السكوتُ عن إتيان المأموم بالتسميع والإِمامِ بالتحميد (2)، فيستفاد ذلك من دليل آخر، وهو ثبوته مِن فعل الشارع وغيره مما قدَّمناهُ مبسوطًا (3).

= الله- على ما اعتاده أصحاب كل مذهب من مدح إمامهم، بما لا يخلو عادةً من نوع مبالغة في ذلك، وإن كان ليس هناك شك في إمامة الشافعي وعلمه، ورفعة درجته وورعه. ومما ينبغي التنبه له -أيضًا- أن الرؤى ليست مصدراً لاستنباط الأحكام الشرعية والعمل بها، وإنما يستأنس بها فقط.

(1)

أي: من غير ذكر لفظة "اللَّهُمَّ".

(2)

لكن يمكن أن يناقَش ذلك، بأن في الحديث قرينةً تدل على أن المأموم لا يأتي بالتسميع، وهي: أن الحديث سيق لبيان ما يفعله المأموم، فقال:"فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: (سمع الله لمن حمده)، فقولوه: (اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد)، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون" أخرجه البخاري (2/ 216)، ومسلم -واللفظ له- (1/ 310)، وزاد في رواية:"وإذا قال: (ولا الضالين)، فقولوا: (آمين) ".

(3)

لكن لم يثبت ما يدل على إتيان المأموم به خصوصاً.

ص: 28

قال ابن العراقي: "عنى الحديث على مذهب الشافعي: إذا قال الإِمام: (سمع لمن حمده) في انتقاله، فقولوا: (ربنا لك الحمد) في اعتدالكم". قال: بل نزيد على هذا ونقول: إن في الحديث دلالةً على أن المأموم يقول: (سمع الله لمن حمده)، مِن قوله:"إنما جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ به"(1).انتهى (2).

يعني لما فيه من الأمر بمتابعته في غير هذا.

وقال العلَاّمة شمس الدين الكِرْمانيُّ في هذا الحديث من شرحه للبخاري (3): "فإن قلت: هذا دليل لمن قال: لا يزيد المأموم على (ربنا لك الحمد)، ولا يقول (سمع الله لمن حمده

).

قلت: لا نُسَلِّمُ أنه دليل له؛ إذ ليس فيه نفيُ الزيادة، ولئن سلَّمنا فهو معارَض بما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، وثبت أنه قال:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي".

وأما وجه الجمع، فهو أن يقول حال الارتفاع:(سمع الله لمن حمده)، وحال الانتصاب (ربَّنا لك الحمد) ".

قال: "وفي الكلام التفاتٌ، أي من الغَيْبَةِ إلى الحضور"(4).

(1) وقد يقال: تسميع المأموم مستثنى من المتابعة، بدليل القرينة التي أشرف إليها قريبًا، والله تعالى أعلم.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب"(2/ 332).

(3)

(5/ 105).

(4)

أي: فهو أسلوب من أساليب البلاغة، فإن قوله:"سمع الله لمن حمده" خطاب غيبة، وقوله:"ربنا لك الحمد" خطاب حضور. =

ص: 29

قال: "فيه دلالة على أنه يستحب للإِمام الجهر بقوله: (سمع الله لمن حمده) ". انتهى.

وقال ابن المُلَقِّن في شرح "عمدة الأحكام": "الجواب عن الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام علَّمهم ما جهلوه من ذكر الاستواء، بخلاف ذكر الرفع من الركوع وهو التسميع؛ فإنهم كانوا يَعْلَمونه ويعملون به ويتابعون فيه، فلم يُحْتج إلى التنبيه عليه، بخلاف قوله: (ربنا لك الحمد) ".

قال: "وكذا الحديث الآخر الذي فيه: "فإنه من وافق قولُه قولَ الإِمام" جوابه ما ذكرناه".

وقال في شرحه للبخاري: "استَحَبَّ الشافعيةُ الجمعَ بين (سمع الله لمن حمده) وبين (ربنا لك الحمد).

وقالوا: معنى حديث "فقولوا: (ربنا لك الحمد)، أي مع ما قد علمتموه من قول (سمع الله لمن حمده) ".

قال: وإنما خصَّه بالذكر؛ لأنه كان يجهر بـ (سمع الله لمن حمده)، فهم كانوا يعلمونه، ولا يعرفون (ربنا لك الحمد)؛ لأنه يُسِرُّ به؛ فلذلك علَّمهم إياه".

وهذا سبقه إلى نحوه الشيخ تقي الدين السُّبْكي (1) في شرحه للمنهاج (2).

(1) أبو الحسن، علي بن عبد الكافي بن علي السبكي (ت 756 هـ).

(2)

واسمه: "الابتهاج في شرح المنهاج"، كما في "هدية العارفين"(1/ 721)، ولا يزال مخطوطاً.

ص: 30

وأنا أقول: قد جاء في الصحيحين وغيرهما عِدَّةُ أحاديثَ اكتُفي فيها بـ (سمع الله لمن حمده) عن (ربنا لك الحمد).

وقد استدل القاضي عبدُ الوهابِ المالكىُّ (1) بالحديث السابق -"إذا قال الإِمام فقولوا"- على أن الإِمام يقتصر على التسميع، والمأموم على التحميد.

قال شيخنا الحافظ شهاب الدين ابن حَجَر في شرح حديث: "إنما جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ به" من شرحه للبخاري: "وليس في السياق ما يقتضي المنعَ من ذلك؛ لأن السكوت عن الشيء لا يقتضي تركَ فِعْلِه (2)، نَعَمْ مقتضاه أن المأموم يقول: (ربنا لك الحمد) عقب قول الإِمام: (سمع الله لمن حمده)، وأما منع الإِمام من التحميد فليس بشيء؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما"(3).

ثم بسطه في شرح الحديث الآخر: "إذا قال الإِمام فقولوا"، فقال:"استُدِلَّ به على أن الإِمام لا يقول: (ربنا لك الحمد)، وعلى أن المأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده)؛ لكون ذلك لم يُذكر في هذه الرواية. كذا حكاه الطحاوي، وهو قول مالك وأبي حنيفة".

قال: "وفيه نظر؛ لأنَّه ليس فيه ما يدل على النَّفي، بل فيه أن قول

(1) انظر: كتاب "التلقين" له (ص 35).

(2)

والحديث إنما هو مسوق لبيان ما يفعله المأموم لا الإِمام، فلم يَدُلَّ على ترك التحميد في حق الإِمام.

(3)

"فتح الباري"(2/ 179، 180).

ص: 31

المأموم: (ربنا لك الحمد) يكون عقب قول الإِمام: (سمع الله لمن حمده) ".

قال: "والواقع في التصوير ذلك؛ لأن الإِمام يقول التسميع في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله عقب قول الإِمام، كما في الخَبَر".

قال: "وهذا الموضع يَقْرُب من مسألة التأمين؛ أنه لا يلزم من قوله -يعني في الحديث المشهور-: "إذا قال الإِمام: (ولا الضَّالين)، فقولوا:(آمين)"، أن الإِمام لا يُؤمِّنُ بعد قوله (ولا الضالين)، وليس فيه أن الإِمام يُؤَمِّن، كما أنه ليس في هذا أنه يقول: (ربنا لك الحمد)، لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحةٍ صريحةٍ، منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع التسميع والتحميد".

قال: "وأما ما احتجوا به من حيث المعنى، من أنَّ معنى (سمع الله لمن حمده)، طلبُ التحميد فيناسب حالَ الإِمام، وأما المأموم فيناسبه الإِجابة بقوله: (ربنا لك الحمد)، ويقويه حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم (1) وغيره، ففيه: "وإذا قال: (سمع الله لمن حمده)، فقولوا:(ربنا ولك الحمد)؛ يَسْمَعِ الله لكم".

فجوابه أن يقال: لا يدل ما ذكرتم على أن الإِمام لا يقول التحميد؛ إذ لا يمتنع أن يكون طالبًا ومجيبًا".

قال: "وهو نظير مسألة التأمين؛ أنه لا يلزم من كون الإِمامِ داعياً

(1)"صحيح مسلم"(1/ 304).

ص: 32