الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أَقُولُ) : إِنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لَأَكْبَرَ عِبْرَةٍ تَفِيضُ لَهَا عَبَرَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْشَعُ لَهَا قُلُوبُ الْمُتَّقِينَ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا يُبْكِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا تُبْكِيهِ هَذِهِ الْآيَاتُ وَحَدِيثُ كَعْبٍ فِي تَفْصِيلِ خَبَرِهِمْ فِيهَا. وَأَيُّ مُؤْمِنٍ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ أَنْ تَفِيضَ مِنَ الدَّمْعِ، وَقَلْبَهُ
أَنْ يَجِفَّ وَيَرْجُفَ مِنَ الْخَوْفِ إِذَا قَرَأَ أَوْ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ، وَتَأَمَّلْ مَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ بَسْطُهَا إِلَّا فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ، وَلَا أَدْرِي مَا عَسَى أَنْ يَنَالَ مِنْ قَسْوَةِ قُلُوبِ الْمُقَلِّدِينَ، وَجَهْلِ الْمَغْرُورِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِفُونَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الْفَرَائِضَ وَالْوَاجِبَاتِ، وَيُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فَلَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ، وَإِذَا وَعَظَهُمْ وَاعِظٌ أَوْ ذَكَّرَهُمْ مُذَكِّرٌ؛ وَجَدَ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ بَيْنَ جَازِمٍ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَبَيْنَ مُتَّكِلٍ عَلَى شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْفَظُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُكَفِّرَاتِ لِلذُّنُوبِ مَا لَا يَصِحُّ لَهُ سَنَدٌ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ مَتْنٌ. وَمَا لَهُ أَصْلٌ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ - يُرَادُ بِهِ تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ بِشَرْطِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(4: 31) وَمَا كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِ مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينِ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (16:
119)
وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ (آخِرُهَا ص 158 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ وَبَيَّنَ تَحْرِيمَهَ مُطْلَقًا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أَيْ مَعَ جَمَاعَةِ الصَّادِقِينَ أَوْ مِنْهُمْ (وِفَاقًا لِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ تَكُونُ تَفْسِيرًا) دُونَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَنَصَّلُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْكَذِبِ وَيُؤَيِّدُونَهُ بِالْحَلِفِ. وَالصَّادِقُونَ هُمُ الْمُعْتَصِمُونَ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي جِهَادِهِمْ إِذَا جَاهَدُوا، وَفِي عُهُودِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَفِي أَقْوَالِهِمْ وَوُعُودِهِمْ إِذَا حَدَّثُوا وَوَعَدُوا، وَفِي تَوْبَتِهِمْ إِذَا أَذْنَبُوا أَوْ قَصَّرُوا، وَالْمُنَافِقُونَ ضِدُّهُمْ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ.
تَقَدَّمَ فِي آخِرِ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ بِمَا صَدَقُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْتَحِلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عُذْرًا كَاذِبًا فِي التَّخَلُّفِ عَنِ النَّفَرِ مَعَهُ. وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنه (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: مَعَ عَلِيٍّ. وَالْحَقُّ أَنَّهَا عَامَّةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي
عَهْدِهِ، وَمِثْلُهُ
يُقَالُ فِي (الصَّادِقِينَ) مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِي قِصَّتِهِمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَأَعْرَقُ فِي الصِّدْقِ وَأَكْمَلُ. وَلَكِنِّي أَشُمُّ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ رَائِحَةَ وَضْعِ النَّوَاصِبِ وَالرَّوَافِضِ. وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِـ (الصَّادِقِينَ) الْمُهَاجِرُونَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ احْتَجَّ بِالْآيَةِ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ لَا يَصِحُّ، وَوَجَّهَهُ الْقَائِلُونَ بِهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الصَّادِقِينَ هُنَا هُمُ الصَّادِقِينَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ:(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) إِلَى قَوْلِهِ - (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(59: 8) وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَصْفُ خَاصًّا بِالْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّفًا كَآيَةِ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) - إِلَى قَوْلِهِ - (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(49: 15) وَقَوْلِهِ: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ)(33: 8) - (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ)(33: 24) وَغَيْرِهِنَّ - وَهُوَ بَاطِلٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَمَعَ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي الْإِمَامَةِ كَمَا قَالَ الطَّوْفِيُّ.
أَخْرَجَ سَعْدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ، وَلَا يَعِدْ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (9: 119) فَهَلْ تَجِدُونَ لِأَحَدٍ رُخْصَةً فِي الْكَذِبِ؟ وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظٍ ((إِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ، وَلَا يَعِدُ الرَّجُلُ ابْنَهُ ثُمَّ لَا يُنْجِزُ لَهُ، إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ إِنَّهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ: كَذَبَ وَفَجَرَ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ - إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا - وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ)) - إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهُ - وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضِيلَةِ الصِّدْقِ وَرَذِيلَةِ الْكَذِبِ وَكَوْنِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، وَفِي رِوَايَاتٍ عَدِيدَةٍ ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُطْبَعُ عَلَى كُلِّ
خُلُقٍ إِلَّا الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ)) وَإِنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي الْكَذِبِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ مِنْ خَدِيعَةِ حَرْبٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا - يَعْنِي فِي مِثْلِ التَّحَبُّبِ إِلَيْهَا بِوَصْفِ مَحَاسِنِهَا وَرِضَاهُ عَنْهَا، لَا فِي مَصَالِحِ الدَّارِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِهَا - وَالرِّوَايَةُ فِي هَذَا عَلَى عِلَّاتِهَا تُقَيَّدُ بِحَدِيثِ ((إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ ((مَا يُغْنِي الرَّجُلَ الْعَاقِلَ عَنِ الْكَذِبِ)) رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ الْأَوَّلُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالثَّانِي عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنهما.
(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي تَأْكِيدِ وُجُوبِ الْغَزْوِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَحَظْرِ تَخَلُّفِ أَحَدٍ عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، بِمَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى نَفْسِهِ.
(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) مَا كَانَ بِالَّذِي يَصِحُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ عَاصِمَةِ الْإِسْلَامِ وَمَقَرِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَا بِالَّذِي يَسْتَقِيمُ أَوْ يَحِلُّ لَهُمْ (وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ) كَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إِذَا خَرَجَ غَازِيًّا فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَا فِي غَيْرِ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْمِلَّةِ وَمَصَالِحِ الْأُمَّةِ (وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أَيْ وَلَا أَنْ يُفَضِّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَيَصُونُوهَا وَيَرْغَبُوا بِإِيثَارِ رَاحَتِهَا وَسَلَامَتِهَا عَنْ بَذْلِهَا فِيمَا يَبْذُلُ فِيهِ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ الْقُدْسِيَّةَ
مِنِ احْتِمَالِ الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل.
يُقَالُ رَغِبَ فِي الشَّيْءِ إِذَا أَحَبَّهُ وَآثَرَهُ، وَرَغِبَ عَنْهُ: إِذَا كَرِهَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَدْ جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُؤَثِّرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُتَخَلِّفَ يُفَضِّلُ نَفْسَهُ وَيُؤْثِرُهَا عَلَى نَفْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ أَحَدٍ حَتَّى يُحِبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ حُبِّهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا يَصِحُّ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ رَاغِبٍ عَنْ سُنَّتِهِ وَالتَّأَسِّي بِهِ، كَالْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمُبْتَدَعَةِ وَالْمُقَلِّدَةِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ بِدَعَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ عَلَى سُنَّتِهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ - وَنِعْمَ مَا قَالَ: أُمِرُوا أَنْ يَصْحَبُوهُ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأَنْ يُكَابِحُوا مَعَهُ الْأَهْوَالَ بِرَغْبَةٍ وَنَشَاطٍ وَاغْتِبَاطٍ، وَأَنْ يُلَقُّوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّدَائِدِ مَا تَلْقَاهُ نَفْسُهُ، عِلْمًا بِأَنَّهَا أَعَزُّ نَفْسٍ عَلَى اللهِ وَأَكْرَمُهَا ; فَإِذَا تَعَرَّضَتْ مَعَ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا لِلْخَوْضِ فِي شِدَّةٍ وَهَوْلٍ
وَجَبَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْفُسِ أَنْ تَتَهَافَتَ فِيمَا تَعَرَّضَتْ لَهُ وَلَا يَكْتَرِثُ لَهَا أَصْحَابُهَا وَلَا يُقِيمُونَ لَهَا وَزْنًا، وَتَكُونُ أَخَفَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ وَأَهْوَنَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَرْبَئُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ مُتَابَعَتِهَا وَمُصَاحَبَتِهَا، وَيَضِنُّوا بِهَا عَلَى مَا سَمَحَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا نَهْيٌ بَلِيغٌ مَعَ تَقْبِيحٍ لِأَمْرِهِمْ، وَتَوْبِيخٍ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَهْيِيجٍ لِمُتَابَعَتِهِ بِأَنَفَةٍ وَحَمِيَّةٍ اهـ.
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ، وَوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ لَهُ، بِسَبَبِ أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُمْ فِي جِهَادِهِمْ مِنْ أَذًى وَإِنْ قَلَّ، وَمِنْ إِيذَاءٍ لِلْعَدُوِّ وَإِنْ صَغُرَ، فَهُوَ عَمَلٌ صَالِحٌ لَهُمْ بِهِ أَكْبَرُ الْأَجْرِ، فَلَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ لِقِلَّةِ الْمَاءِ - أَوْ نَصَبٌ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ أَوْ قِلَّةِ الظَّهْرِ - أَوْ مَجَاعَةٍ لِقِلَّةِ الزَّادِ - فِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَإِعْزَازِ دِينِهِ (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ) وَطْؤُهُمْ إِيَّاهُ لِأَنَّهُ مِنْ دَارِهِمْ، وَيَعُدُّونَ وَطْأَهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِهَانَةً بِقُوَّتِهِمْ، فَيَغِيظُهُمْ أَنْ تَمَسَّهُ أَقْدَامُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ حَوَافِرُ خُيُولِهِمْ وَأَخْفَافُ رَوَاحِلِهِمْ، فَكَيْفَ إِذَا يَسَّرَ اللهُ فَتْحَهُ لَهُمْ (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا) أَيْ وَلَا يَبْلُغُونَ مِنْ أَيِّ عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا مِمَّا أَرَادُوا مِنْ جَرْحٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ أَوْ هَزِيمَةٍ أَوْ غَنِيمَةٍ (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) أَيْ كُتِبَ لَهُمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ عَمَلٌ صَالِحٌ مُرْضٍ لِلَّهِ تَعَالَى مَجْزِيٌّ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، فَمَا أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ الَّتِي تَعُمُّ الْأُمُورَ الْعَارِضَةَ كَالْجُوعِ
وَالْعَطَشِ، وَتَشْمَلُ كُلَّ حَرَكَةٍ مِنْ بَطْشَةِ يَدٍ أَوْ وَطْأَةِ قَدَمٍ؟ (إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِهَذَا الْأَجْرِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا الْجِهَادَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ أَجْرًا، وَأَنْفَسُ ذُخْرًا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ حُكْمَ الْآيَةِ خَاصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَنْ جَاهَدَ مَعَهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ، عَلَى مَا لَا يَخْفَى مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْأَجْرِ، فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِحْسَانٌ، وَ (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (55: 60) ؟ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
(وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أَيْ كَذَلِكَ شَأْنُهُمْ فِيمَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ صَغُرَ أَمْ كَبُرَ، قَلَّ أَمْ كَثُرَ، وَفِي كُلِّ وَادٍ يَقْطَعُونَهُ فِي سَيْرِهِمْ غَادِينَ أَوْ رَائِحِينَ (وَالْوَادِي: هُوَ مَسِيلُ الْمَاءِ فِي مُنْفَرَجَاتِ الْجِبَالِ وَأَغْوَارِ الْآكَامِ، خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ) لَا يُتْرَكُ شَيْءٌ مِنْهُ أَوْ يُنْسَى بَلْ يُكْتَبُ لَهُمْ:(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بِكِتَابَتِهِ فِي صُحُفِ أَعْمَالِهِمْ (أَحْسُنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وَهُوَ الْجِهَادُ فَإِنَّهُ عِنْدَ وُجُوبِهِ وَفَرِيضَتِهِ بِالِاسْتِنْفَارِ لَهُ يَكُونُ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ ; إِذْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ حِفْظُ الْإِيمَانِ، وَمُلْكُ الْإِسْلَامِ، وَجَمِيعُ مَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، يُقَالُ جَزَاهُ الْعَمَلَ وَجَزَاهُ بِهِ. كَمَا قَالَ:(ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى)(53: 41)
وَالنَّصُّ عَلَى جَزَائِهِمْ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يُنَافِي جَزَاءَهُمْ بِمَا دُونَهُ وَقَدْ قَالَ آنِفًا (إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وَهُوَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ النَّصُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مِنْ أَحْسَنِهَا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الثَّانِي فَقَطْ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَحْسَنِ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ عَلَى قَاعِدَةِ (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) (28: 84) وَبَيَانُ ذَلِكَ بِقَاعِدَةِ (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)(6: 160) وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْزِيهِمْ بِكُلِّ عَمَلٍ مِمَّا ذُكِرَ أَحْسَنَ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ، أَيْ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، بِأَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ الصَّغِيرَةُ فِيهِ كَالنَّفَقَةِ الْكَبِيرَةِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَبَرَّاتِ، وَالْمَشَقَّةُ الْقَلِيلَةُ فِيهِ كَالْمَشَقَّةِ الْكَثِيرَةِ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ.
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .
هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَتِمَّةِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ بِالْقِتَالِ، مَعَ زِيَادَةِ حُكْمِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالنَّفَقَةِ فِي الدِّينِ وَهُوَ آلَةُ الْجِهَادِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا جِهَادُ السَّيْفِ حِمَايَةٌ وَسِيَاجٌ. وَسَبَبُهَا أَنَّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْجِهَادِ وَثَوَابِهِ وَفِي ذَمِّ الْقَاعِدِينَ عَنْهُ وَكَوْنِهِ مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ قَوَّى رَغْبَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ حَتَّى كَانُوا إِذَا أَرَادَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِرْسَالَ سَرِيَّةٍ لِلِقَاءِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ قَلُّوا يَنْتَدِبُ لَهَا جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَسَابَقُونَ إِلَى الْخُرُوجِ فِيهَا، وَيَدَعُونَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ أَوْ مَعَ نَفَرٍ قَلِيلٍ كَمَا وَرَدَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ إِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ لَا فِي كُلِّ اسْتِنْفَارٍ لِمُقَاوَمَةِ الْكُفَّارِ، عَلَى أَنَّ النَّفَرَ الْعَامَّ قَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ تَكْثُرُ فِيهِ الْأَعْذَارُ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ عَلَى الْأَنْصَارِ بِمُقْتَضَى مُبَايَعَتِهِمْ لَهُ (رَاجِعْ ص 271 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أَيْ مَا كَانَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَيُطْلَبُ مِنْهُمْ، أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا فِي كُلِّ سَرِيَّةٍ تَخْرُجُ لِلْجِهَادِ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّرَايَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الرَّسُولُ وَاسْتَنْفَرَهُمْ لِلْخُرُوجِ (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) لَوْلَا حَرْفُ تَحْضِيضٍ وَحَثٍّ عَلَى مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ: أَيْ فَهَلَّا نَفَرَ لِلْقِتَالِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ كَبِيرَةٍ (مِنْهُمْ) كَالْقَبِيلَةِ أَوْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، (طَائِفَةٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ
(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أَيْ لِيَتَأَتَّى لَهُمْ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جُمْلَتِهِمُ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ بِأَنْ يَتَكَلَّفَ الْبَاقُونَ فِي الْمَدِينَةِ الْفَقَاهَةَ فِي الدِّينِ بِمَا يَتَجَدَّدُ نُزُولُهُ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم
مِنْ بَيَانِهَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، فَيُعَرِّفُ الْحُكْمَ مَعَ حِكْمَتِهِ، وَيُفَصِّلُ الْعِلْمَ الْمُجْمَلَ بِالْعَمَلِ بِهِ، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) الَّذِينَ نَفَرُوا لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ (إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أَيْ يَجْعَلُوا جُلَّ هَمِّهِمْ مِنَ الْفَقَاهَةِ بِأَنْفُسِهِمْ إِرْشَادَ هَؤُلَاءِ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا عَلِمُوا، وَإِنْذَارَهُمْ عَاقِبَةَ الْجَهْلِ، وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَخَافُوا اللهَ وَيَحْذَرُوا عَاقِبَةَ عِصْيَانِهِ ; وَيَكُونُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عُلَمَاءَ بِدِينِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى نَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَتَعْمِيمِ هِدَايَتِهِ، فَهَذَا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْغَرَضَ مِنْهُ لَا الرِّيَاسَةُ وَالْعُلُوُّ بِالْمَنَاصِبِ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى النَّاسِ وَطَلَبُ الْمَنَافِعِ الشَّخْصِيَّةِ مِنْهُمْ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِتَعْلِيمِهِ فِي مَوَاطِنِ الْإِقَامَةِ وَتَفْقِيهِ النَّاسِ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصْلُحُ بِهِ حَالُهُمْ، وَيَكُونُونَ بِهِ هُدَاةً لِغَيْرِهِمْ، وَأَنَّ الْمُتَخَصِّصِينَ لِهَذَا التَّفَقُّهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، لَا يَقِلُّونَ فِي الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللهِ عَنِ الْمُجَاهِدِينَ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ. بَلْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الدِّفَاعُ فَرْضًا عَيْنِيًّا، وَالدَّلَائِلُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مُتَكَلَّفٌ بَعِيدٌ عَنْ مَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ، وَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ طَائِفَةٍ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا قِيلَ وَهُوَ بَاطِلٌ.
كُنْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي طَرَابُلُسَ وَكَانَ حَاكِمُهَا الْإِدَارِيُّ (الْمُتَصَرِّفُ) فِيهَا مُصْطَفَى بَاشَا بَابَانِ مِنْ سَرَوَاتِ الْكُرْدِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ لِي مَرَّةً فِي دَارِنَا بِالْقَلَمُونِ: لِمَاذَا تَسْتَثْنِي الدَّوْلَةُ الْعُلَمَاءَ وَطُلَّابَ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنْ خِدْمَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ شَرْعًا وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالْقِيَامِ بِهَذَا الْوَاجِبِ؟ - يُعَرِّضُ بِي - أَلَيْسَ هَذَا خَطَأً لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؟ فَقُلْتُ لَهُ عَلَى الْبَدَاهَةِ بَلْ لِهَذَا أَصْلٌ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَلَوْتُ الْآيَةَ، فَاسْتَكْثَرَ الْجَوَابَ عَلَى مُبْتَدِئٍ مِثْلِي لَمْ يَقْرَأِ التَّفْسِيرَ وَأَثْنَى وَدَعَا. وَقَدْ تَعَارَضَتِ الرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَاخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَالْحَقُّ فِيهَا مَا قُلْنَا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ نَسْخُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ:(انْفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا)(9: 41) - (إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (9: 39) قَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يَقُولُ لِتَنْفِرْ طَائِفَةٌ وَلِتَمْكُثْ طَائِفَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَالْمَاكِثُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هُمُ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيُنْذِرُونَ إِخْوَانَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مَا نَزَلْ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ قَضَاءِ اللهِ فِي كِتَابِهِ وَحُدُودِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ: يَعْنِي مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ - فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَعْنِي عُصْبَةً يَعْنِي السَّرَايَا فَلَا يَسِيرُونَ إِلَّا بِإِذْنِهِ. فَإِذَا رَجَعَتِ السَّرَايَا وَقَدْ نَزَلَ قُرْآنٌ تَعَلَّمُهُ الْقَاعِدُونَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّكُمْ بَعْدَكُمْ قُرْآنًا وَقَدْ تَعَلَّمْنَاهُ، فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُمْ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا أُخَرَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) يَقُولُ يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَيُعَلِّمُونَهُ السَّرَايَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .
فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ آيَاتِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فَهُوَ قَدْ يُوَافِقُ إِطْلَاقَ السَّلَفِ فِي النَّسْخِ وَمِنْهُ عِنْدَهُمْ تَخْصِيصُ الْعَامِّ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا النَّسْخُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ; لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّفِيرِ الْخَاصِّ غَيْرُ مَوْضِعِ النَّفِيرِ الْعَامِّ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَحْكَامِ. وَبِهَذَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) لِلطَّائِفَةِ الَّتِي تَنْفِرُ لِلْغَزْوِ لَا لِلَّتِي تَبْقَى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِيَتَفَقَّهَ الَّذِينَ خَرَجُوا بِمَا يُرِيهِمُ اللهُ مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالنُّصْرَةِ، وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَزَعَمَ الطَّبَرِيُّ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ النَّافِرَةَ تَتَفَقَّهُ بِمَا تُعَايِنُ مِنْ نَصْرِ اللهِ أَهْلَ دِينِهِ وَأَصْحَابَ رَسُولِهِ عَلَى أَهْلِ عَدَاوَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَيُفَقَّهُ بِذَلِكَ مِنْ مُعَايَنَةِ حَقِيقَةِ عِلْمِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ مَنْ لَمْ يَكُنْ فَقِهَهُ.
(وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) فَيُحَذِّرُوهُمْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ مِثْلُ الَّذِي نَزَلَ بِمَنْ شَاهَدُوا مِمَّنْ ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ (إِذَا) هُمْ (رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) مِنْ غَزْوِهِمْ (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) يَقُولُ لَعَلَّ قَوْمَهُمْ إِذَا هُمْ حَذَّرُوهُمْ مَا عَايَنُوا مِنْ ذَلِكَ يَحْذَرُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ حَذَرًا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ
بِالَّذِينِ أَخْبَرُوهُمْ خَبَرَهُمُ اهـ.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ مُتَكَلَّفٌ يَنْبُو عَنْهُ النَّظْمُ الْكَرِيمُ ; فَإِنَّ اعْتِبَارَ طَائِفَةِ السَّرِيَّةِ بِمَا قَدْ يَحْصُلُ لَهَا مِنَ النَّصْرِ - وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَلَا مُطَّرَدٍ - لَا يُسَمَّى تَفَقُّهًا فِي الدِّينِ وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَعْنَى الْفِقْهِ، فَإِنَّ التَّفَقُّهَ هُوَ: التَّعَلُّمُ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّدَرُّجِ وَالْمُتَبَادِرِ مِنَ الدِّينِ عِلْمُهُ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ إِلَّا فِي الَّذِينَ يَبْقَوْنَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَزْدَادُونَ كُلَّ يَوْمٍ عِلْمًا وَفِقْهًا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ:(وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ)(9: 97) وَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِيمَا يَنْزِلُ مِنَ السُّورِ فَيَزْدَادُ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا. وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَشْمَلُ السَّفَرَ لِأَجْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ لِمَا فِي الرِّحْلَةِ مِنْ أَسْبَابِ زِيَادَةِ الِاسْتِفَادَةِ بِالِانْقِطَاعِ لِلْعِلْمِ وَلِقَاءِ أَسَاطِينِهِ، وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ فَضِيلَةَ السِّيَاحَةِ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْفِقْهِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ بِفُرُوعِ الْأَحْكَامِ، وَحَقَّقْنَاهُ بِشَوَاهِدِ الْآيَاتِ فِي تَفْسِيرِ (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (7: 179) (352 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) .
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) .
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْقِتَالِ الَّذِي نَزَلَتْ أَهَمُّ قَوَاعِدِهِ وَأَحْكَامِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ هَاهُنَا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْرِيقِ الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ الْكَثِيرِ الْأَحْكَامِ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، وَبَيَّنَّا حِكْمَتَهُ آنِفًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكَفَّارِ) أَيِ الَّذِينَ يَدْنُونَ مِنْكُمْ وَتَتَّصِلُ بِلَادُهُمْ بِبِلَادِكُمْ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْقِتَالَ شُرِعَ لِتَأْمِينِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحُرِّيَّةِ الدِّينِ وَالدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِهِ، وَقَدْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ:(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(42: 7) وَقَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(6: 19) أَيْ وَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَخُصَّ
الْأَقْرَبَ إِلَيْهِ فِي النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ أُمِّ الْقُرَى فَقَالَ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(26: 214) .
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ الْكُفَّارِ الْعَرَبِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُمْ. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَزْوِ الدَّيْلَمِ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) قَالَ ((الرُّومُ)) اهـ. يَعْنِي أَنَّ الرُّومَ هُمُ الْمُرَادُ بِالْكُفَّارِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ نُزُولِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرِهِمُ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ فِي تَبُوكَ وَسَائِرِ بِلَادِ الشَّامِ.
وَتَرْجِيحُ الْبَدْءِ بِالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبِ مَعْقُولٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كَالْحَاجَةِ وَالْإِمْكَانِ وَالسُّهُولَةِ وَالنَّفَقَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ فِيهِ عَامَّةً فِي الدَّعْوَةِ وَالْقِتَالِ وَالنَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَكَذَا مَا يُدَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ الْجَالِسِينَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فَالَّذِي يَلِيهِ. وَأَمَرَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِمَّا يَلِيهِ. وَإِنَّمَا تَطَّرِدُ الْقَاعِدَةُ
فِي الْحَالَةِ الْعَادِيَّةِ. وَأَمَّا مَا يَعْرِضُ مِنْ ضَرُورَةٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَلَهُ حُكْمُهُ فَأَحْكَامُ الضَّرُورَاتِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَالْآدَابِ. (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أَيْ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ شِدَّةً وَخُشُونَةً فِي الْقِتَالِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(73 ج 10) وَالْغِلْظَةُ عَلَى الْمُقَاتِلِينَ فِي زَمَنِ الْحَرْبِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الطَّبِيعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَتَنْكِيرُهَا فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِأُولِي الْأَمْرِ أَنْ يُحَدِّدُوهَا فِي كُلِّ زَمَنٍ وَكُلِّ حَالٍ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهَا عَلَى كَوْنِهَا طَبِيعِيَّةً لِتَقْيِيدِ مَا أُمِرُوا بِهِ فِي الْأَحْوَالِ الْعَامَّةِ مِنَ الرِّفْقِ وَالْعَدْلِ وَالْبِرِّ فِي مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ، وَأَمْرُ الْقِتَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، وَقَدْ حَرَّمَ فَظَائِعَهَا الْإِسْلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقَدْ بَلَغَتْ فَظَائِعُهَا عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يُخْشَى أَنْ يُفْضِيَ إِلَى تَدْمِيرِ الْعُمْرَانِ كُلِّهِ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) لَهُ فِي مُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ بِالْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ، وَأَهَمُّهَا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فِي الْحَرْبِ، مِنَ التَّقْصِيرِ فِي أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالْغَلَبِ الَّتِي بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ، وَالَّتِي تُعْرَفُ بِالْعِلْمِ وَالتَّجَارِبِ، كَإِعْدَادِ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ قُوَّةٍ، وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَالطَّاعَةِ وَالنِّظَامِ،
وَتَرْكِ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ مَعْنَى التَّقْوَى وَأَنْوَاعِهَا وَاخْتِلَافِ الْمُرَادِ مِنْهَا بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهَا فِي تَفْسِيرِ (8: 29 ص 538 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) .
(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) .
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ آخِرُ مَا نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَتَأْثِيرِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِمْ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَإِخْبَارِ اللهِ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ، كَلِمَةُ ((مَا)) بَعْدَ ((إِذَا)) تُفِيدُ التَّأْكِيدَ لِمَضْمُونِ شَرْطِهَا، يَعْنِي وَإِذَا تَحَقَّقَ إِنْزَالُ اللهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) أَيْ فَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَتَسَاءَلُ مَعَ إِخْوَانِهِ لِلِاخْتِبَارِ أَوْ مَعَ مَنْ يَلْقَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً لِلتَّشْكِيكِ، قَائِلًا: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ إِيمَانًا؟ أَيْ يَقِينًا بِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ، وَصِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ فِي كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ عَلَى صِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا فِيهَا مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْجَازِ الْعَامَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَكَوْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَالسُّؤَالُ عَنِ الْإِيمَانِ بِأَصْلِ الْإِسْلَامِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي تَبْلِيغِهِ عَنِ اللهِ عز وجل وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الْمُقْتَرِنُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ وَخُضُوعِ الْوِجْدَانِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ،
لَا مُجَرَّدُ اعْتِقَادِ صِدْقِ الْخَبَرِ، الَّذِي يُقَابِلُهُ اعْتِقَادُ كَذِبِهِ، فَإِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ كُفْرًا أُولَئِكَ الْمُصَدِّقُونَ الْجَاحِدُونَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ لِرَسُولِهِ فِيهِمْ:(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(6: 33) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(27: 14) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَعْنَاهُ الَّذِي قُلْنَاهُ يَزِيدُ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ وَنَاهِيكَ بِمَنْ يَحْضُرُ نُزُولَهُ عَلَيْهِ وَيَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَكَذَا يَزِيدُ بِتِلَاوَتِهِ وَبِسَمَاعِهِ مَنْ غَيْرِهِ أَيْضًا ثَبَاتًا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَقُوَّةِ إِذْعَانٍ، وَصِدْقِ وِجْدَانٍ، وَرَغْبَةً فِي الْعَمَلِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللهِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ:(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) فَأَثْبَتَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ بِزِيَادَةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الزِّيَادَةَ فِي حَقِيقَتِهِ وَصِفَتِهِ مِنَ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ وَاطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ. وَفِي مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ، وَفِي أَثَرِهِ مِنَ الْعَمَلِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى الرَّبِّ. وَإِنَّمَا يَتَسَاءَلُ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي يَفْقِدُونَهُ، وَإِنَّمَا غَيْرُهُ تَابِعٌ لَهُ. (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يُسَرُّونَ بِنُزُولِهَا وَتَسْتَدْعِي زِيَادَةُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمُ الْبُشْرَى وَالِارْتِيَاحَ بِمَا يَرْجُونَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَثَرِ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أَيْ شَكٌّ وَارْتِيَابٌ. يَدْعُو إِلَى النِّفَاقِ بِإِسْرَارِ الْكُفْرِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) أَيْ كُفْرًا وَنِفَاقًا مَضْمُومًا إِلَى كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمُ السَّابِقِ الَّذِي هُوَ أَقْذَرُ الرِّجْسِ النَّفْسِيِّ وَشَرُّ أَنْوَاعِهِ (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) أَيْ وَاسْتَحْوَذَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَرَسَخَ فِيهِمْ. فَكَانَ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ. وَسَيَمُوتُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْكُفْرِ. وَهَاكَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ.
(أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) الِاسْتِفْهَامُ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْمَقَامِ. وَالْمَعْنَى: أَيَجْهَلُونَ
هَذَا وَيَغْفُلُونَ عَنْ حَالِهِمْ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ عَامًا بَعْدَ عَامٍ مِنْ تَكْرَارِ الْفُتُونِ وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ اسْتِعْدَادُ الْأَنْفُسِ لِلْإِيمَانِ أَوِ الْكُفْرِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ،
كَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ نَصْرِ اللهِ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَوُقُوعِ مَا أَنْذَرَهُمْ، وَمِنْ إِنْبَاءِ اللهِ رَسُولَهُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَفَضِيحَتِهِمْ بِمَا يُسِرُّونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا فَصَّلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَرَ بَعْضَهُ فِي غَيْرِهَا - وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ ((أَوَلَا تَرَوْنَ)) عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَدْ يُرَوِّعُهُمُ الْخَبَرُ الْمُؤَكَّدُ وُقُوعُهُ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَتَعْجَبُونَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ السُّوأَى وَلَا تَرَوْنَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا مِنْ فِتْنَتِهِمْ وَابْتِلَائِهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَذْهَبَ بِشَكِّهِمْ وَيَشْفِيَ مَرَضَ قُلُوبِهِمْ، مِنْ آيَاتِ اللهِ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ:(ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ ثُمَّ تَمُرُّ الْأَعْوَامُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَتُوبُونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَلَا يَتَّعِظُونَ بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِمَّا أَنْذَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ بُرْهَانٍ عَلَى انْطِفَاءِ نُورِ الْفِطْرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ أَقْوَى مِنْ هَذَا؟ إِنْ كَانَ وَرَاءَهُ بُرْهَانٌ أَقْوَى مِنْهُ فَهُوَ أَنَّهُمْ يَفِرُّونَ مِنَ الْعِلَاجِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْفِيَهُمْ مِنْ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ وَهُوَ مَا أَكَّدَ بِهِ مَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ:
(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَكُونُونَ فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ نُزُولِ سُورَةٍ، وَمَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لَهَا، وَمَا قَبْلَهَا فِي بَيَانِ حَالِهِمْ إِذَا بَلَغَهُمْ نُزُولُ سُورَةٍ مِنْ حَيْثُ الْبَحْثِ عَنْ تَأْثِيرِهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأُولَى تَشْمَلُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَمَنْ بَلَّغَ عَنْهُ، وَالْعِبْرَةُ بِمَوْضُوعِهَا لَا بِطَرِيقَةِ الْعِلْمِ بِهَا، وَإِنَّ هَذِهِ أَدَلُّ عَلَى رُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَعَدَمِ الطَّمَعِ فِي رُجُوعِهِمْ عَنْهُ، بِإِثْبَاتِهَا أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ سَمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْهِدَايَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْنَعُونَهُ مِنْ تِلَاوَتِهِ عَلَى النَّاسِ لِئَلَّا يَهْتَدُوا بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِسْكَاتِهِ أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِهِ وَلَغَوْا فِيهِ. وَمَنَعُوا صَاحِبَهُ الصِّدِّيقَ أَيْضًا مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ مِنْ مَسْجِدِهِ الْخَاصِّ لَمَّا رَأَوُا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ يَجْتَمِعُونَ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْهُ وَيَتَأَثَّرُونَ بِخُشُوعِهِ فِيهِ. يَقُولُ: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ وَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ تَسَارَقُوا النَّظَرَ، وَتَغَامَزُوا بِالْعُيُونِ، عَلَى حِينِ تَخْشَعُ أَبْصَارُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَنْحَنِي رُءُوسُهُمْ، وَتَجِبُ
قُلُوبُهُمْ، وَتَرَامَقُوا بِالْعُيُونِ يَتَشَاوَرُونَ فِي الِانْسِلَالِ مِنَ الْمَجْلِسِ خُفْيَةً لِئَلَّا يَفْتَضِحُوا بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْوَحْيِ، قَائِلًا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْعِبَارَةِ:(هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أَيْ مِنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ إِذَا نَحْنُ انْصَرَفْنَا كَارِهِينَ لِسَمَاعِهَا (ثُمَّ انْصَرَفُوا) يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا إِلَى مَجَامِعِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ (ثُمَّ) لِبَيَانِ تَرَاخِي فِعْلِهِمْ عَنْ وَقْتِ قَوْلِهِمْ، إِلَى سُنُوحِ فُرْصَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُمْ وَلَوْ أَفْرَادًا، فَكُلَّمَا لَمَحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَفْلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ انْصَرَفَ (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ وَالْخَبَرَ، لِأَنَّ مَضْمُونَهَا النِّهَائِيَّ فِي
كَلَامِ اللهِ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ قَرِيبًا. وَالْمَعْنَى صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَنْ صِدْقِ الْإِيمَانِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ اللهِ فِي الْقُرْآنِ، الْمُرْشِدَةِ إِلَى آيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ:(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) أَيْ سَبَبُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ فَقَدُوا صِفَةَ الْفَقَاهَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَفَهْمِ الْحَقَائِقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِيهَا، فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ لِعَدَمِ تَدَبُّرِهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهَا، وَمُوَافَقَتِهَا لِلْعَقْلِ، وَهِدَايَتِهَا إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَنْفُسَهُمْ أَعْدَاءً وَخُصُومًا لِلرَّسُولِ، فَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا تَأَمُّلٍ فِيهِ: أَمَعْقُولٌ أَمْ غَيْرُ مَعْقُولٍ؟ أَحَقُّ أَمْ بَاطِلٌ؟ أَخَيْرٌ أَمْ شَرٌّ؟ أَهُدًى أَمْ ضَلَالٌ؟ أَنَافِعٌ أَمْ ضَارٌّ؟ فَأَنَّى يُرْجَى لَهُمْ وَهَذِهِ حَالُهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا بِتَعَدُّدِ نُزُولِ الْآيَاتِ وَالسُّورِ؟ إِنَّمَا مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّتِي جَرَوْا عَلَى نِظَامٍ تَعْلِيمِيٍّ وَتَرْبِيَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ فِي عَصَبِيَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ، وَارْتِبَاطِ مَنَافِعِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ بِهَا، لَقَّنَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ أَنَّهُ يُوجَدُ دِينٌ اسْمُهُ الْإِسْلَامُ بُنِيَ أَسَاسُهُ عَلَى عَدَاوَتِكُمْ لِذَاتِكُمْ، فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَنْظُرُوا فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَحْثِ عَنْ مَطْعَنٍ وَلَوْ مُتَكَلَّفٍ تَلْمِزُونَهُ بِهِ، وَلَا تُفَكِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالِ أَهْلِهِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا لِلْعَدَاوَةِ وَالتَّحْقِيرِ لَهُمْ، وَتَدْبِيرِ الْمَكَايِدِ لِلْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا ظَهَرَ لَكُمْ شَيْءٌ حَسَنٌ مِنْ دِينِهِمْ فَوَجِّهُوا كُلَّ قُوَاكُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَبَلَاغَتِكُمُ الْكَلَامِيَّةِ إِلَى تَشْوِيهِهِ وَذَمِّهِ وَالصَّدِّ عَنْهُ، وَهَذَا مَا يَفْعَلُهُ رِجَالُ الْكَنَائِسِ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَمِنَ الْمَبَاحِثِ الْكَلَامِيَّةِ فِي الْآيَاتِ الْخِلَافُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ،
عَلَى مَذْهَبَيْنِ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ، وَجُمْهُورُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَحُفَّاظِ السُّنَّةِ عَلَى الْإِثْبَاتِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَغْرَبِ مَسَائِلِ عَصَبِيَّاتِ الْمَذَاهِبِ عِنْدَ النُّظَّارِ الْجَدَلِيِّينَ وَمُقَلِّدِيهِمْ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ لِبَحْثِ بَعْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ فِي مَفْهُومِ لَفْظِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِاعْتِقَادِهِ الدُّخُولُ فِي الْمِلَّةِ هَلْ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ فِي ذَاتِهِ؟ أَمِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مُتَعَلِّقُ الْإِيمَانِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا السُّورَةُ؟ وَاسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْكَافِرُ مُؤْمِنًا قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَهِيَ نَظَرِيَّةٌ بَاطِلَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْآيَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَرَ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِيهَا عَلَى التَّصْدِيقِ بِزِيَادَةِ الْعِلْمِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ هَذَا بَدِيهِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ الْمُنَافِقُونَ، وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ صَرِيحَةٌ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي صَرَّحَ فِيهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ أَقَلَّ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُنَجِّي مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ كَالذَّرَّةِ أَوِ الْخَرْدَلَةِ مِنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ الَّذِي لَا يَمَسُّ لِأَهْلِهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ شَيْءٌ، كَالَّذِينِ وَصَفَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)(8: 2) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)(49: 15) إِلَخْ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْيَقِينَ فِي الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ لَهُ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْيَقِينُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ الْإِيمَانُ هُوَ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا تَفْسِيرُ (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (2: 4) وَهُوَ دَرَجَاتٌ: مِنْهَا التَّقْلِيدُ الْجَازِمُ، وَمِنْهَا الْمَعْلُومُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا الشَّكُّ وَالزَّوَالُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا تُصُوِّرَ ارْتِدَادُ مُؤْمِنٍ عَنْ دِينِهِ، وَمِنْهَا مَا يَصِيرُ وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا بِشَرْحِ الصَّدْرِ، وَالنُّورِ الْإِلَهِيِّ، بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا الْيَقِينُ الْمَنْطِقِيُّ وَالْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِالْبُرْهَانِ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ كَذَا مَعَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ كَذَا، فَهُوَ هُوَ الَّذِي قَالُوا: إِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَلَكِنَّهُ نَادِرُ الْوُقُوعِ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِيمَانِ، وَمَعَ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ فِي وَصْفِهِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِهِ، وَفِي تَرَتُّبِ آثَارِهِ عَلَيْهِ.
وَمِثَالُ الْأَوَّلِ أَنْ تَرَى شَبَحًا فِي سُدْفَةِ الْفَجْرِ فَتَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ فِي انْتِصَابِ قَامَتِهِ ثُمَّ
تَزْدَادُ عِلْمًا بِهِ كُلَّمَا انْتَشَرَ الضِّيَاءُ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ تَفْصِيلِيًّا. وَالْبُرْهَانُ الْمَنْطِقِيُّ الْمُفِيدُ لِهَذَا الْيَقِينِ عِنْدَهُمْ لَا تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهُ النَّظَرِيَّةُ فِي دَرَجَةِ الضَّرُورِيَّاتِ قُوَّةً وَثَبَاتًا. وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الْيَقِينَ إِلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: عِلْمِ الْيَقِينِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ، وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْكَشْفِ، وَحَقِّ الْيَقِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِالذَّوْقِ وَالْوِجْدَانِ. وَمَثَّلَ لَهَا بَعْضُهُمْ بِالْفَنَاءِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْمَوْتِ، فَكُلُّ أَحَدٍ عِنْدَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ، فَإِذَا عَايَنَ مَلَائِكَةَ الْمَوْتِ عِنْدَ الْحَشْرَجَةِ وَقَبْلَ قَبْضِ الرُّوحِ كَانَ عَيْنَ الْيَقِينِ، فَإِذَا مَاتَ بِالْفِعْلِ وَصَلَ إِلَى دَرَجَةِ حَقِّ الْيَقِينِ، لَكِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ وَمَا قَبْلَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا التَّكْلِيفُ.
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) .
خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رضي الله عنه: إِنَّهُمَا آخِرُ مَا نَزَلَ. وَبَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى السُّورَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِهَا مَا يُعَارِضُهُ، وَسَنُحَقِّقُ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ.
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلْعَرَبِ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ)(62: 2) فَالْمِنَّةُ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمِهِ أَعْظَمُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ أَنْهَضُ، وَأَخَصُّ قَوْمِهِ بِهِ قَبِيلَتُهُ قُرَيْشٌ، فَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَلَوْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ الْعَرَبُ لَمَا آمَنَ الْعَجَمُ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)(7: 158) وَلَكِنَّهُ وَجَّهَ دَعْوَتَهُ إِلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا فِي قِتَالِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَالْعَرَبُ آمَنُوا بِدَعْوَتِهِ مُبَاشَرَةً، وَالْعَجَمُ آمَنُوا بِدَعْوَةِ الْعَرَبِ، الْعَرَبُ آمَنُوا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَبَيَانِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْعَمَلِ، وَبِمَا شَاهَدُوا مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي شَخْصِهِ، وَالْعَجَمُ آمَنُوا بِدَعْوَةِ الْعَرَبِ وَمَا
شَاهَدُوا مِنْ عَدْلِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ، ثُمَّ بِدَعْوَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى مَا يَأْتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ التَّالِيَةِ (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) (10: 2) إِلَخْ، وَلَكِنَّ آيَةَ أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ هَذِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي كَوْنِ الْبَشَرِ رَسُولًا مِنَ اللهِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ جَمِيعِ كُفَّارِ الْأُمَمِ، وَآيَةُ آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ فِي امْتِنَانِ اللهِ عز وجل عَلَى مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَصَمِيمِ قَوْمِهِمْ، لِتَأْيِيدِ الْحُجَّةِ بِالْمِنَّةِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ كُلِّ قَوْمٍ حُبَّ الِاخْتِصَاصِ بِالْفَضْلِ وَالشَّرَفِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي امْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ:(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(43: 44) أَيْ شَرَفٌ لَكَ وَلَهُمْ، تُذْكَرُونَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، وَيُدَوَّنُ لَكُمْ فِي التَّوَارِيخِ، وَإِنَّمَا قَاوَمَهُ وَعَانَدَهُ أَكَابِرُ قَوْمِهِ حَتَّى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَنَفَةً وَاسْتِكْبَارًا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَهُمْ يَرَوْنَهُ دُونَهُمْ، وَلِمَا يَتَضَمَّنُ اتِّبَاعُهُ مِنَ الْإِقْرَارِ بِكُفْرِهِمْ وَكُفْرِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمُ الَّذِينَ يُفَاخِرُونَ بِهِمْ، مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِمْ بِفَوْزِهِ وَبِأَنَّهُمْ يَنَالُونَ بِاتِّبَاعِهِ مِنْ مَجْدِ الدُّنْيَا فَوْقَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ بِمَسَافَاتٍ تُطَاوِلُ السَّمَاءَ رِفْعَةً وَشَرَفًا، دَعْ مَا هُوَ فَوْقَ مَجْدِ الدُّنْيَا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَارُوا يَفْتَخِرُونَ بِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ، بِأَكْثَرَ مِمَّا يُبِيحُهُ دِينُهُ لَهُمْ، حَتَّى صَارَ أَقْرَبُهُمْ يَتَّكِلُ عَلَى نَسَبِهِ فَيُقَصِّرُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ أَكَّدَ تَعَالَى هَذِهِ الْمِنَّةَ الْخَاصَّةَ بِوَصْفِهِ هَذَا الرَّسُولَ بِقَوْلِهِ:(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) إِلَخْ. الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَلِقَاءُ الْمَكْرُوهِ الشَّدِيدِ، وَقَيَّدَهُ الرَّاغِبُ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ، وَعَزَّ عَلَى فُلَانٍ الْأَمْرُ: ثَقُلَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَنَفَةِ عَنْهُ، وَ ((مَا)) مَصْدَرِيَّةٌ - أَيْ شَدِيدٌ عَلَى طَبْعِهِ وَشُعُورِهِ الْقَوْمِيِّ عَنَتُكُمْ لِأَنَّهُ مِنْكُمْ، وَهَذَا يَشْمَلُ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونُوا فِي دُنْيَاهُمْ أُمَّةً ضَعِيفَةً ذَلِيلَةً يُعْنِتُهَا أَعْدَاؤُهَا بِسِيَادَتِهِمْ عَلَيْهَا وَتَحَكُّمِهِمْ فِيهَا، وَلَا أَنْ يَكُونُوا فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) الْحِرْصُ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْمَفْقُودِ، وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ
بِحِفْظِ الْمَوْجُودِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم حَرِيصًا عَلَى اهْتِدَاءِ قَوْمِهِ بِهِ بِإِيمَانِ كَافِرِهِمْ وَثَبَاتِ مُؤْمِنِهِمْ فِي دِينِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَهُ:(إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ)(16: 37) الْآيَةَ وَقَالَ: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)
(12: 103)(بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أَيْ شَدِيدُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ وَالْعَوَاطِفِ السَّامِيَةِ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِنَصِّ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَرْحَمُ بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَرْأَفُ، وَكُلُّ شَاقٍّ مِنْهَا كَالْجِهَادِ فَهُوَ مَنْجَاةٌ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ مِنْهُ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الشَّاقِّ مِنْهَا يُبَالِغُ حَدَّ الْعَنَتِ، لِلْقَطْعِ فِي هَذَا الدِّينِ بِنَفْيِ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ.
وَصَفَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى، وَسَمَّاهُ بِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، بَعْدَ وَصْفِهِ بِوَصْفَيْنِ هُمَا أَفْضَلُ نُعُوتِ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ الْمُدَبِّرِينَ لِأُمُورِ الْأُمَمِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَفِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ أَنَّ الرَّأْفَةَ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ. وَجَعَلَهُمَا بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الرَّأْفَةَ أَخَصُّ، لَا تَكَادُ تَقَعُ فِي الْكَرَاهِيَةِ، وَالرَّحْمَةُ قَدْ تَقَعُ فِي الْكَرَاهِيَةِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَاخْتَارَ الرَّازِيُّ أَنَّهَا مُبَالَغَةٌ فِي رَحْمَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَإِزَالَةِ الضَّرَرِ.
وَقَالَ أُسْتَاذُنَا: إِنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ، اخْتِيَارًا لِقَوْلِ الرَّازِيِّ (ص 11 ج 2 ط الْهَيْئَةِ) وَأَصَحُّ مِنْهُ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَكَانِ الضَّعْفِ وَالشَّفَقَةِ وَالرِّقَّةِ كَقَوْلِهِمْ: رَأَفَ بِوَلَدِهِ وَتَرَأَّفَ بِهِ. وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الرَّحِيمِ هُوَ الْوَاجِبُ كَأَنَّهُ قَالَ: رَءُوفٌ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأُولِي الْقُرْبَى مِنْهُمْ، وَرَحِيمٌ بِهِمْ كُلِّهِمْ. وَتَخْصِيصُ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُؤْمِنِينَ فِي مُقَابَلَةِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ - لَا يُعَارِضُ كَوْنَ رِسَالَتِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ مَبْذُولَةٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (9: 73) أَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ صَلَوَاتُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى طَبْعِهِ الشَّرِيفِ الرِّقَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْأَدَبُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(3: 159) .
وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي الْآيَةِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) قَالَ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُضَرِيِّهَا وَرَبِيعِيِّهَا وَيَمَانِيِّهَا، يَعْنِي أَنَّ نَسَبَهُ مُتَشَعِّبٌ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَبُطُونِهَا. وَعَنْهُ فِي (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) قَالَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مَا شَقَّ عَلَيْكُمْ (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أَنْ يُؤْمِنَ كُفَّارُكُمْ.
وَمِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ فِي الْآيَةِ قِرَاءَةُ ((أَنْفَسِكُمْ)) بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَاسَةِ، رَوَاهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ، وَهِيَ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَفِيهَا أَنَّ الْمَعْهُودَ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ أَنَّ النَّفِيسَ وَالْأَنْفَسَ مِمَّا يُوصَفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ لَا الْأَشْخَاصُ.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ أُمَّةِ الرَّسُولِ أَوْ قَوْمِهِ الَّذِينَ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَجِيئِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَبِفَضَائِلِهِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهِمْ، إِلَى خِطَابِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ فِي شَأْنِهِ، يَقُولُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا وَانْصَرَفُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أَيْ هُوَ مُحْسِبِي الَّذِي يَكْفِينِي أَمْرَ تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ عَدَاوَتِهِمْ لِي وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِهِ وَقَدْ بَلَّغْتَ وَمَا قَصَّرْتَ (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ لَا مَعْبُودَ غَيْرُهُ أَلْجَأُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ كَمَا يَلْجَئُونَ إِلَى آلِهَتِهِمُ الْمُنْتَحَلَةِ (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) وَحْدَهُ، فَلَا أَكِلُ أَمْرِي فِيمَا أَعْجِزُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَكَيْفَ لَا أَخُصُّهُ بِالتَّوَكُّلِ (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْخَلْقِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ السُّورَةِ التَّالِيَةِ، (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (10: 3) قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ " (الْعَظِيمِ) " بِالْخَفْضِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرَبِّ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَعَظَمَةُ الْعَرْشِ بِعَظَمَةِ الرَّبِّ الَّذِي اسْتَوَى عَلَيْهِ وَعَظَمَةُ الْمُلْكِ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِهِ، وَوَحْدَةُ النِّظَامِ فِيهِ، وَعَظَمَتُهُمَا فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَفِيمَا دُونَهُ هِيَ الْمَظْهَرُ الْوُجُودِيُّ لِعَظَمَةِ هَذَا الرَّبِّ الَّتِي لَا تُحَدُّ، وَلَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا أَحَدٌ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ وَلَا يُتَوَكَّلُ عَلَى سِوَاهُ، وَكَيْفَ يَعْبُدُ غَيْرُهُ بِالدُّعَاءِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَوَكَّلُ عَلَى سِوَاهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمَالِكُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ وَالْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِ، وَيُرَاجَعُ هُنَا تَفْسِيرُ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) (8: 64) (فِي ص 63 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ)
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْعَرْشَ هُنَا
بِالْمُلْكِ (بِالضَّمِّ) لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَجَوُّزًا وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ هَذَا التَّجَوُّزَ لَا مُسَوِّغَ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ فِي كُلِّ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا اللَّفْظُ، وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ أَبْلَغُ مِنْهُ وَأَعَمُّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَزِيَادَةٍ ; إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُلْكٍ فِي الْأَرْضِ عَرْشٌ حَقِيقِيٌّ هُوَ الْمَرْكَزُ الْوَحِيدُ لِتَدْبِيرِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ، فَالْعَرْشُ الْعَظِيمُ يَدُلُّ عَلَى الْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَعَلَى وَحْدَةِ النِّظَامِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ، وَلَفْظُ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْخَلَلِ فِيهِ، وَكَوْنُ تَدْبِيرِهِ لَيْسَ لَهُ مَرْجِعُ وَحْدَةٍ تَكْفُلُ النِّظَامَ، وَتَمْنَعُ الْخَلَلَ وَالْفَسَادَ، وَنُظَّارُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمُفَسِّرُوهُمْ يَتَأَوَّلُونَ الْعَرْشَ وَالِاسْتِوَاءَ عَلَيْهِ فِرَارًا مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ بِزَعْمِهِمُ الْمَبْنِيِّ عَلَى قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَقِيَاسِ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ قِيَاسٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ، وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ رِوَايَاتٌ فِي وَصْفِ الْعَرْشِ وَمَادَّتِهِ هِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مَرْفُوعٌ.
وَنَخْتِمُ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ بِتَحْقِيقِ مَسْأَلَتَيْنِ ذُكِرَتَا فِي تَفْسِيرِهِمَا الْمَأْثُورِ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا حَقَّقَهُمَا: (الْأَوَّلُ مَا وَرَدَ فِي كِتَابَةِ الْآيَتَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَوْنِهِمَا آخِرَ مَا نَزَلَ)
إِنَّ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي دَعْوَتِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ
فِي أَوَّلِ زَمَنِ الْبَعْثَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ قَبْلَ الْبَدْءِ بِتَفْسِيرِهَا أَنَّ ابْنَ أَبِي الْفَرَسِ قَالَ: إِنَّهُمَا مَكِّيَّتَانِ، وَأَنَّهُ يَرُدُّ قَوْلَهُ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُمَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ذَكَرْتُ هُنَالِكَ أَصَحَّ مَا وَرَدَ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ غَيْرُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ قَوْلَ ابْنِ أَبِي الْفَرَسِ هُوَ الْوَجِيهُ مِنْ جَانِبِ الْمَعْنَى، فَهُوَ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا آخِرُ مَا نَزَلَ فَقَدْ أُخْرِجَ فِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ وَالتَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ (مِنْهَا) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ: أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي لَفْظٍ أَنَّ آخِرَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إِلَخِ الْآيَةَ (وَمِنْهَا) عَنِ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِاللهِ - وَفِي لَفْظٍ بِالسَّمَاءِ - هَاتَانِ الْآيَتَانِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (وَمِنْهَا) مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْهُ أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي مُصْحَفٍ فِي
خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ رِجَالٌ يَكْتُبُونَ وَيُمِلُّ عَلَيْهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ 127 مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقْرَأَنِي بَعْدَ هَذَا آيَتَيْنِ " (لَقَدْ جَاءَكُمْ) " إِلَى " (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) " قَالَ: فَخَتَمَ الْأَمْرَ بِمَا فَتَحَ بِهِ: بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ اهـ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لَا مِنَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا صَحَّ أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَالصَّحِيحُ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ السُّورِ سُورَةُ النَّصْرِ، وَمِنَ الْآيَاتِ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (2: 281) كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحِلِّهِ.
وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ الَّذِي كَانَ مُتَفَرِّقًا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهُ قَالَ: حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إِلَى آخِرِهِمَا اهـ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُمَا مَكْتُوبَتَيْنِ عِنْدَمَا جَمَعَ الْمَكْتُوبَ فِي الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا عِنْدَ خُزَيْمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَهِيَ أَرْجَحُ كَمَا سَيَأْتِي، إِلَّا أَنْ تَكُونَا وُجِدَتَا عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَكَانَتَا مَحْفُوظَتَيْنِ مَعْرُوفَتَيْنِ لِلْكَثِيرِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَتَى الْحَارِثُ بْنُ خُزَيْمَةَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ بَرَاءَةَ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إِلَى عُمَرَ فَقَالَ مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي وَاللهِ إِلَّا أَنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُمَا مِنْ
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَوَعَيْتُهُمَا وَحَفِظْتُهُمَا، فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَوْ كَانَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَجَعَلْتُهَا سُورَةً عَلَى حِدَةٍ، فَانْظُرُوا سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَأَلْحِقُوهَا بِهَا، فَأُلْحِقَتْ فِي آخِرِ بَرَاءَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِهِمَا عُمَرَ، فَقَالَ: لَا أَسْأَلُكَ عَلَيْهَا بَيِّنَةً أَبَدًا كَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ أَنَّ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ جَاءَ عُثْمَانَ حِينَ تَصَدَّى لِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَرَكْتُمْ آيَتَيْنِ لَمْ تَكْتُبُوهُمَا، فَقَالُوا مَا هُمَا؟ قَالَ تَلَقَّيْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَأَيْنَ تَرَى أَنْ نَجْعَلَهُمَا؟ قَالَ اخْتِمْ بِهِمَا آخِرَ مَا نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَخُتِمَتْ بِهِمَا بَرَاءَةُ.
فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مَحْفُوظَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهِمَا، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمَا آخِرُ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِالتَّوْقِيفِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمَا وُضِعَتَا بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ قَطْعًا لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ التَّوْقِيفَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ فِي مَوْضِعِهِمَا أَنَّ مَوْضُوعَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مَكِّيَّتَانِ. وَلَمْ تَصِحَّ لِجَمَاعَةِ جَامِعِي الْمُصْحَفِ رِوَايَةٌ بِكِتَابَتِهِمَا فِي إِحْدَى السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَلَكِنْ وُجِدَتَا عِنْدَ أَبِي خُزَيْمَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ فِي آخِرِ بَرَاءَةَ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ مَعَ آخَرِينَ، وَكَانَ عُمَرُ يَحْضُرُهُمْ وَهُمْ يَكْتُبُونَ قَالَ: فَوَجَدْتُ آخِرَ بَرَاءَةَ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ. بِالشَّكِّ وَهُوَ مِنَ الرَّاوِي لَا مِنْ زَيْدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَعَ خُزَيْمَةَ وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي قَرَّرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ آخِرَ التَّوْبَةِ وُجِدَ عِنْدَ أَبِي خُزَيْمَةَ، وَأَمَّا الَّذِي وُجِدَ مَعَ خُزَيْمَةَ فَهُوَ آيَةُ الْأَحْزَابِ، وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَتِهَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فُقِدَتْ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (33: 23) .
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَعْتَمِدُ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ عَلَى عِلْمِهِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى حِفْظِهِ. لَكِنْ فِيهِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ اكْتَفَى مَعَ ذَلِكَ بِخُزَيْمَةَ وَحْدَهُ، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَقَدَهُ فَقْدَ وُجُودِهَا مَكْتُوبَةً، لَا فَقْدَ وُجُودِهَا مَحْفُوظَةً، بَلْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَمْعِ الْقُرْآنِ ((فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْعُسُبِ)) كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ اهـ
وَأَقُولُ: إِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ آنِفًا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَهُوَ مَا كُنْتُ أَفْهَمُهُ دُونَ
غَيْرِهِ، وَأُجِيبَ بِهِ مَنْ سَأَلَنِي عَنْهُ مُسْتَشْكِلًا. فَقَوْلُ الْحَافِظِ: وَالَّذِي يَظْهَرُ إِلَخْ.
كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ: وَالَّذِي يَتَعَيَّنُ الْقَطْعُ بِهِ كَذَا، وَحَسْبُكَ دَلِيلًا عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْبَحْثَ كَانَ عَمَّنْ كَتَبَهَا فَقَطْ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مَحْفُوظَتَيْنِ وَمَكْتُوبَتَيْنِ وَمَعْرُوفَتَيْنِ لِكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عِنْدَ الْجَمْعِ فِي مَوْضِعِ كِتَابَتِهِمَا حَتَّى شَهِدَ مَنْ شَهِدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي وَضَعَهُمَا فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ وِفَاقًا لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَحَدُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُرَتَّبًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَكَانَ عَدَدُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَوْضِعِهِمَا قَلِيلًا، فَلَمَّا كُتِبَتَا فِي الْمَصَاحِفِ وَافَقَ الْجَمِيعُ عَلَى وَضْعِهِمَا هَاهُنَا. وَلَمْ يُرْوَ أَيُّ اعْتِرَاضٍ عَلَى ذَلِكَ عَمَّنْ كَتَبُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَصَاحِفَ اعْتَمَدُوا فِيهَا عَلَى حِفْظِهِمْ كَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
بَقِيَ الْبَحْثُ فِي حِكْمَةِ وَضْعِهِمَا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَمَوْضُوعُهُمَا مَكِّيٌّ، يُؤَيِّدُهُ كَوْنُ الْخِطَابِ فِيهِمَا لِقَوْمِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْمُفَسِّرِينَ وَمَا هُمَا بِأَوَّلِ مَا وُضِعَ مِنَ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ لِمُنَاسَبَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ. وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفِيدَا بِمَوْضِعِهِمَا صِحَّةَ الْخِطَابِ بِهِمَا لِكُلِّ مَنْ تَبْلُغُهُ الدَّعْوَةُ مِنْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ، كَمَا دَلَّ مَوْضُوعُهُمَا وَنُزُولُهُمَا بِمَكَّةَ - كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَرَسِ - عَلَى كَوْنِ الْخِطَابِ فِيهِمَا لِقَوْمِهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْجَمَاهِيرُ. وَيَكُونُ مَا قُلْنَاهُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا.
(طَهَارَةُ نَسَبِهِ صلى الله عليه وسلم وَفَضْلُ قَوْمِهِ وَاصْطِفَاؤُهُ مِنْ خِيَارِهِمْ)
مِنَ الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ مَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي طَهَارَةِ نَسَبِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْ فَضْلِ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَعِتْرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)) وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيَانًا لِمَعْنَى هَذَا الِاصْطِفَاءِ بِمَ كَانَ؟ وَقَدْ وَفَّقَنِي اللهُ لِاسْتِنْبَاطِهِ مِنَ التَّارِيخِ الْعَامِّ، وَبَيَّنْتُهُ فِي الْمَنَارِ وَفِي خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي
جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ حِكْمَةِ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَبِالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، بِالدِّينِ الْعَامِّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ جَهَالَةُ الْبَدْوِ، وَبَعْدَ عَهْدِهِمْ بِمَا سَبَقَ لِأُمَّتِهِمْ مِنَ الْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ، وَلَمْ يُبْعَثْ مِنْ بَعْضِ شُعُوبِ الْحَضَارَةِ الْقَرِيبَةِ كَالْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ، وَيَلِيهِ السُّؤَالُ عَنْ مَزِيَّةِ كِنَانَةَ فِي الْعَرَبِ
مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ، الَّذِينَ امْتَازُوا عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ مِمَّنِ اصْطَفَى اللهُ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ عَنْ مَزِيَّةِ قُرَيْشٍ فِي بَنِي كِنَانَةَ، وَفَضْلِ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ؟
خُلَاصَةُ مَا بَيَّنْتُهُ فِي فَضْلِ الْعَرَبِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، الَّذِي أَعَدَّهُمْ بِهِ اللهُ لِبَعْثَةِ سَيِّدِ الْبَشَرِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، بِالدِّينِ الْعَامِّ الْبَاقِي هِيَ: أَنَّ جَمِيعَ شُعُوبِ الْحَضَارَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا كَانَتْ قَدْ فَسَدَتْ غَرَائِزُهَا وَأَخْلَاقُهَا الْفِطْرِيَّةُ، وَعَقَائِدُهَا الدِّينِيَّةُ، وَآدَابُهَا التَّقْلِيدِيَّةُ، بِفَسَادِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيهَا، وَتَعَاوُنِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى اسْتِعْبَادِهَا وَاسْتِذْلَالِهَا لَهُمَا، وَتَسْخِيرِهَا لِتَوْفِيرِ لَذَّاتِهِمَا وَتَشْيِيدِ صُرُوحِ عَظَمَتِهِمَا، بِسَلْبِ حُرِّيَّتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ بِالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يَفْرِضُ عَلَيْهِمُ الْكَهَنَةُ وَالْأَحْبَارُ وَالْقُسُوسُ الْخُضُوعَ لَهَا، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَدْنَى رَأْيٍ أَوِ اخْتِيَارٍ أَوْ فَهْمٍ فِيهَا، بِسَلْبِ حُرِّيَّةِ إِرَادَتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ بِمَا يَضَعُ لَهُمُ الْمُلُوكُ وَالْحُكَّامُ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالنُّظُمِ الْإِدَارِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ الِاسْتِبْدَادِيَّةِ، وَبِتَحَكُّمِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ قَانُونٍ وَلَا نِظَامٍ أَيْضًا، فَجَمِيعُ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ كَانَتْ مُرْهَقَةً مُسْتَعْبَدَةً فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا إِلَّا الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا عَرَبِ الْحِجَازِ.
وَأَمَّا الْعَرَبُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ رِيَاسَةُ حُكْمٍ اسْتِبْدَادِيَّةٌ تَسْتَذِلُّهُمْ وَتُفْسِدُ بَأْسَهُمْ وَتَقْهَرُ إِرَادَتَهُمْ عَلَى مَا لَا يُرِيدُونَ، وَلَا رِيَاسَةٌ دِينِيَّةٌ تَقْهَرُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ تَقَالِيدَ لَا يَعْقِلُونَهَا بَلْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الْحُرِّيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَفِي أَعْلَى ذُرْوَةٍ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ فَبِحُرِّيَّةِ عُقُولِهِمْ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ لِفَهْمِ دِينِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَبِاسْتِقْلَالِ إِرَادَتِهِمْ كَانُوا عَلَى أَكْمَلِ الِاسْتِعْدَادِ لِلنُّهُوضِ بِمَا اعْتَقَدُوا حَقِّيَّتَهُ وَصَلَاحَهُ وَخَيْرِيَّتَهُ، وَلِإِقَامَتِهِ فِي قَوْمِهِمْ، وَنَشْرِهِ فِي غَيْرِهِمْ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، دُونَ تَحَكُّمِ رَئِيسٍ دِينِيٍّ وَلَا دُنْيَوِيٍّ ; فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ إِنَّمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُوَّادِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِذْعَانِ لِلشَّرْعِ، وَمَا تَضَعُهُ الْأُمَّةُ لِنَفْسِهَا مِنَ النِّظَامِ بِالشُّورَى بَيْنَ مُمَثِّلِيهَا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ، حَتَّى فَرَضَ اللهُ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُشَاوَرَتَهَا فِي أُمُورِهَا، وَقَالَ لَهُ رَبُّهُ فِي صِيغَةِ مُبَايَعَةِ نِسَائِهَا لَهُ:(وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)(60: 12) وَبِهَا كَانَ يُبَايِعُ الرِّجَالُ كَالنِّسَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ.
وَأَمَّا كِنَانَةُ فَقَدْ كَانَ أَشْهَرَ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْكَرَمِ وَالنُّبْلِ، حَتَّى كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ إِلَيْهِ، وَيَنْقُلُونَ عَنْهُ حِكَمًا رَائِعَةً، وَكَفَى بِهَذَا اصْطِفَاءً عَلَيْهِمْ، وَامْتِيَازًا فِيهِمْ.
وَأَمَّا امْتِيَازُ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ مُتَوَاتَرٌ، وَأَهَمُّهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ كَانَ أَكْمَلَ فِيهِمْ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي أَطْرَافِ جَزِيرَتِهِمْ خَضَعُوا لِسِيَادَةِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ خُضُوعًا مَا، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْرَحَ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ أَنْسَابًا، وَأَشْرَفَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَعْلَاهُمْ آدَابًا، وَأَفْصَحَهُمْ أَلْسِنَةً، وَهُمُ الْمُمَهِّدُونَ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ الْعَامَّةِ، بَعْدَ أَنْ جَمَعَ (قُصَيٌّ) جَمِيعَ قَبَائِلِهِمْ بِمَكَّةَ، وَاسْتَقَلُّوا بِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْحِجَابَةِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالرِّفَادَةِ - وَهِيَ إِسْعَافُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْحُجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ -
وَأَسَّسُوا دَارَ النَّدْوَةِ لِأَجْلِ الشُّورَى فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَكَانُوا أَعْرَفَ الْعَرَبِ بِبُطُونِ الْعَرَبِ فِي جَمِيعِ جَزِيرَتِهِمْ بِمَا كَانُوا يَتَنَاوَبُونَهُ مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَبِذَلِكَ كَانُوا أَغْنَى الْعَرَبِ أَيْضًا وَأَشْرَفَهُمْ بِلَا مُنَازِعٍ، وَنَاهِيكَ بِمَا عَقَدُوا مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ فِي حَدَاثَةِ سَنِّ الرَّسُولِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ تَعَاقَدُوا أَوْ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا إِلَّا قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَوْنًا لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ إِلَى أَنْ تُرَدَّ مَظْلَمَتُهُ.
وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَأُمِّ هَانِئٍ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ وَتَارِيخِ الْبُخَارِيِّ، ((فَضَّلَ اللهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ: فَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللهَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُ اللهَ إِلَّا قُرَشِيٌّ (أَيْ لَا يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا قُرَشِيٌّ) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَصَرَهُمْ يَوْمَ الْفِيلِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (أَيْ نَصَرَهُمْ عَلَى قُوَّةٍ تَفُوقُ قُوَّتَهُمْ كَثِيرًا بِمَا يُشْبِهُ نَصْرَهُ لِرُسُلِهِ فِي كَوْنِهِ بِدُونِ اسْتِعْدَادٍ كَسْبِيٍّ يَقْرُبُ مِنِ اسْتِعْدَادِ عَدُوِّهِمْ) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَزَّلَ فِيهِمْ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ وَهِيَ:(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)(106: 1) وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلَافَةَ وَالْحِجَابَةَ وَالسِّقَايَةَ))
وَأَمَّا اصْطِفَاؤُهُ تَعَالَى لِبَنِي هَاشِمٍ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَدْ كَانَ بِمَا امْتَازُوا بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ، فَقَدْ كَانَ جَدُّهُمْ هَاشِمٌ هُوَ صَاحِبَ إِيلَافِ قُرَيْشٍ الَّذِي أَخَذَ لَهُمُ الْعَهْدَ مِنْ قَيْصَرِ الرُّومِ عَلَى حِمَايَتِهِمْ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، وَمِنْ حُكُومَةِ الْيَمَنِ فِي رِحْلَةِ الشِّتَاءِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَشَمَ الثَّرِيدَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ قَوْمِهِ وَلِأَهْلِ مَوْسِمِ الْحَجِّ كَافَّةً، وَقَدْ أَرْبَى عَلَيْهِ فِي السَّخَاءِ وَالْكَرَمِ وَلَدُهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ كَانُوا أَكْرَمَ قُرَيْشٍ أَخْلَاقًا وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالْأَثَرَةِ، وَلَا يُنَازِعُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ فِي حَسَدِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى كَوْنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ: تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ: أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا. . . حَتَّى إِذَا زَاحَمْنَاهُمْ بِالْمَنَاكِبِ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ. فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ وَالْمُبَارَاةِ الْكَسْبِيَّةِ فِي الْفَضَائِلِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضَهُ أَحَدٌ فِي بَلَاغَتِهِ وَلَا هِدَايَتِهِ ; لِأَنَّهُ مِنَ اللهِ لَا مِنْ عِلْمِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَارَضَهُ مَنْ كَانُوا أَشْهَرَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ لِهَذِهِ السُّورَةِ الْمُبَارَكَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَوْقُوفًا وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَبْعَ مَرَّاتٍ - كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) كَذَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَيُرَاجَعُ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ فِيهِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ فِي شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ وَبَقِيَ تَلْخِيصُ مَا فِيهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَآدَابِهِ وَسُنَنِ اللهِ فِي ذَلِكَ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى تَوْفِيقَنَا فِيهِ لِلْحَقِّ الَّذِي يَرْضَاهُ وَيَنْفَعُ عِبَادَهُ) .
خُلَاصَةُ سُورَةِ بَرَاءَةَ (التَّوْبَةِ)
(وَهِيَ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ وَفِيهَا فَصُولٌ)
(هَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطِّوَالِ نُزُولًا، فَيَقِلُّ فِيهَا ذِكْرُ أُصُولِ الدِّينِ وَمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، وَكَذَا أَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ - رَاجِعْ مُقَدِّمَةَ خُلَاصَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي ص 105 و106 وَالتَّنَاسُبُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي ص 132 و133 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
الْبَابُ الْأَوَّلُ
(فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ وَشُئُونِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ فِيهَا)
وَفِيهِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْإِضَافَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى)
(1 - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ)
فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَمِنْهَا الْمُكَرَّرُ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا أَوْ أَكْثَرَ، وَكُلٌّ مِنْهَا مَوْضُوعٌ فِي مَوْضِعِهِ الْمُنَاسِبِ لِمَعْنَاهُ فِي السِّيَاقِ أَوِ الْآيَةِ. وَأَمَّا الْفَائِدَةُ الْعَامَّةُ لِذِكْرِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَتَكْرَارِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلِفَةِ فَهِيَ تَذْكِيرُ تَالِي الْقُرْآنِ وَسَامِعِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ بِرَبِّهِ وَخَالِقِهِ وَمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّذِي يُثْمِرُ لَهُ زِيَادَةُ تَعْظِيمِهِ وَحُبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِي رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ، لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هِدَايَةِ كِتَابِهِ، أَوْ خَالَفَ حِكْمَتَهُ وَسُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ، وَهَذَا أَعْلَى مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، فِي إِكْمَالِ الْإِيمَانِ، وَإِعْلَاءِ شَأْنِ الْإِنْسَانِ (فَرَاجِعْهُ فِي 106 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
وَمِمَّا وَرَدَ فِيهَا فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(9: 78) وَقَوْلُهُ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(9: 16) وَهُمَا أَعْظَمُ مَا يُجَدِّدُ فِي الْقَلْبِ مُرَاقَبَتَهُ عز وجل عِنْدَ كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَحَسْبُكَ بِهِمَا وَازِعًا وَرَافِعًا.
(2 - الْمَعِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ)
فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْمَعِيَّةِ الْعُلْيَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْغَارِ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)(9: 40) وَهِيَ مَعِيَّةُ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ، وَالْحِفْظِ
وَالْعِصْمَةِ، وَالتَّأْيِيدِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ فِي حَالِ الْهِجْرَةِ، وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا، وَمِنْ أَعْظَمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِكَلِيمِهِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ عليهما السلام:(لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)(20: 46) فَرَاجِعْ (ص 369 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي الْآيَةِ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(9: 123) وَهَذِهِ مَعِيَّةُ النَّصْرِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَيُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعْنَاهَا: إِنَّهَا مَعِيَّةٌ تَلِيقُ بِهِ تَعَالَى.
(3 - الدَّرَجَةُ وَالْعِنْدِيَّةُ الْإِلَهِيَّةُ وَسَكِينَتُهُ تَعَالَى)
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ)(9: 20) الْآيَةَ. وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ (ص 198 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) إِنَّهَا حُكْمِيَّةٌ (بِضَمِّ الْحَاءِ) شَرْعِيَّةٌ، وَمَكَانِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ، أَيْ هُمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَأَكْبَرُ مَثُوبَةً فِي جِوَارِ اللهِ.
وَقَالَ بَعْدَ بِشَارَتِهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْجَنَّاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْخُلُودِ فِيهَا مِنَ الْآيَةِ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(9: 22) وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، فَالْعِنْدِيَّةُ فِيهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا.
وَقَالَ: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)(9: 36) فَالْعِنْدِيَّةُ هُنَا يُفَسِّرُهَا مَا بَعْدَهَا وَهُوَ كِتَابُ اللهِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ مَقَادِيرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَنِظَامَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ. وَقِيلَ: كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ الَّذِي فِيهِ حُكْمُهُ التَّشْرِيعِيُّ فِي الشُّهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ:(مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)(9: 36) إِلَخْ.
وَفِي الْآيَةِ (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)(9: 52) فَعِنْدِيَّةُ الْعَذَابِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ بِفِعْلِهِ تَعَالَى دُونَ كَسْبٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ (أَوْ بِأَيْدِينَا) وَالْإِضَافَةُ فِي الْعِنْدِيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ لِلتَّوْقِيفِ وَالتَّعْرِيفِ، وَفِي الْعِنْدِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ لِلتَّشْرِيفِ، وَمِثْلُهَا إِضَافَةُ السَّكِينَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى.
(4 - حُبُّ اللهِ وَرِضَاهُ وَكُرْهُهُ وَسُخْطُهُ وَغَضَبُهُ)
قَالَ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(9: 7) وَقَالَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(9: 100) وَقَالَ فِي جَزَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)(9: 72) وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ مَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ مَقَامِ الرُّؤْيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَقَالَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ:(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(9: 96) .
أَسْنَدَ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ الْحُبَّ وَالرِّضَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي سُوَرٍ أُخْرَى، كَمَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْكُرْهَ فِي قَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ) (9: 46) وَالسُّخْطَ وَالْغَضَبَ فِي سُوَرٍ أُخْرَى. وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْإِثَابَةِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ لَوَازِمَ الْحُبِّ وَالرِّضَا،
وَبِالْعُقَابِ مِنْ لَوَازِمِ السُّخْطِ وَالْكُرْهِ وَالْغَضَبِ، فِرَارًا مِنْ تَشْبِيهِ الْخَالِقِ بِعَبِيدِهِ الَّذِينَ تُعَدُّ هَذِهِ الصِّفَاتُ انْفِعَالَاتٍ نَفْسِيَّةً لَهُمْ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا.
وَمَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ حُبَّ اللهِ تَعَالَى وَكُرْهَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ صِفَاتٌ تَلِيقُ بِهِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَهِيَ لَا تُمَاثِلُ مَا سُمِّيَ بِاسْمِهَا مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ وَعِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ لَا تُمَاثِلُ ذَوَاتِ الْبَشَرِ وَعِلْمَهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ بِلَا فَرْقٍ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّ مِنْ خَلْقِ اللهِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يُمَاثِلُ فِي إِدْرَاكِهِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ، بَلْ رُوِيَ فِي ثَمَرِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ مِثْلَهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَطْعِمَةِ الدُّنْيَا إِلَّا الْأَسْمَاءَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ:(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(32: 17) وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِهِ لَهُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) وَأَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْآيَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَ الِانْفِرَادَ بِهَا دُونَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فَهُوَ أَنَّ حُبَّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَالْإِيمَانِ وَالْعَدْلِ وَأَهْلِهِمَا، وَكَرَاهَةَ الْبَاطِلِ كَالْكُفْرِ، وَالشَّرِّ كَالظُّلْمِ وَمُجْتَرِحِيهِمَا، كِلَاهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَحْضِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَمَالًا مَحْضًا فَالْعَقْلُ يُوجِبُهُ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ بِأَعْلَى مِمَّا يَكُونُ
مِنْهُ لِلْوُجُودِ الْمُمْكِنِ - فَقَدِ اتَّفَقَ الْعَقْلُ مَعَ النَّقْلِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ بِمَعْنًى أَكْمَلَ مِمَّا هِيَ فِي خِيَارِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ وَضْعُ أَسْمَاءَ لَهَا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ تَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْوَحْيِ الْفَاصِلِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(42: 11) فَالتَّنْزِيهُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى السَّالِبَةِ أَزَالَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ التَّشْبِيهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الْمُوجِبَةِ، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّشْبِيهِ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
(أَفْعَالُ اللهِ فِي تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ خَلْقِهِ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ، لَا يَجْعَلُهُمْ مُجْبَرِينَ بِقُدْرَتِهِ)
قَالَ تَعَالَى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ)(9: 14) الْآيَةَ.
يَتَوَهَّمُ أَهْلُ الْجَبْرِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نِحْلَتِهِمْ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانُوا مُجْبَرِينَ لَكَانَ أَمْرُهُمْ لَغْوًا وَعَبَثًا. وَقَوْلُهُ:(يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) مَعْنَاهُ يُعَذِّبُهُمْ بِتَمْكِينِ أَيْدِيكُمْ مِنْ رِقَابِهِمْ قَتْلًا، وَمِنْ صُدُورِهِمْ وَنُحُورِهِمْ طَعْنًا، وَيُؤَكِّدُهُ الْوَعْدُ بَعْدَهُ بِنَصْرِهِمْ وَفِي مَعْنَاهُ
قَوْلُهُ: (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)(9: 52) .
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(9: 19) وَقَالَ فِي آيَتَيْ 24 و80: (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) . وَقَالَ: (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(9: 37) وَلَيْسَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَنَعَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ بِقُدْرَتِهِ فَصَارُوا عَاجِزِينَ عَنْهَا وَمُجْبَرِينَ عَلَى الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ إِجْبَارًا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهُوَ: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي رَسَخَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِكَسْبِهِمْ مُنَافِيَةٌ لِهُدَى اللهِ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ رَاجِعْ (ص 197 و211 و363 و489 فِي ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَيُقَابِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ الْآيَةِ الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيمَنْ تُرْجَى لَهُمُ الْهِدَايَةُ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)
(9: 18) .
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ بَيَانِ السُّنَنِ وَطَبَائِعِ الْبَشَرِ قَوْلُهُ فِي خَوَالِفِ الْمُنَافِقِينَ: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)(9: 87) ثُمَّ قَوْلُهُ فِيهِمْ: (وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)(9: 93) فَهُوَ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِي تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْهَا رِضَاهُمْ بِخُطَّةِ الْخَسْفِ وَالذُّلِّ. وَهُوَ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجِهَادِ - أَنَّ قُلُوبَهُمْ كَالْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا الَّتِي لَا تُفْقَهُ كُنْهُ حَالِهَا وَلَا تُعْلَمُ سُوءُ مَآلِهَا (ص 509 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي الَّذِينَ يَنْصَرِفُونَ مِنْهُمْ مُتَسَلِّلِينَ مِنْ مَجْلِسِ الْقُرْآنِ: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)(9: 127) أَيْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ فَقَدُوا صِفَةَ الْفَقَاهَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَفَهْمِ الْحَقَائِقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ ; لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِيهَا إِلَى آخِرِ مَا فَصَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا (فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) .
وَبِهَذِهِ الْمِرْآةِ تَرَى حَقِيقَةَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)(9: 46) وَرَاجِعْهُ (فِي ص 407 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلِهِ (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ)(9: 67) وَرَاجِعْهُ فِي (ص 460 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
فِي تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ فِيهِمَا
1 -
تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِإِتْمَامِ الْعُهُودِ الْمُؤَقَّتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(9: 4 و7) .
2 -
تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِ التَّائِبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(9: 5) .
- تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِإِجَارَةِ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ بِقَوْلِهِ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ)(9: 6) .
4 -
تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ النَّاكِثِينَ لِلْعَهْدِ بِقَوْلِهِ (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(9: 12) .
5 -
تَرَى تَعْلِيلَ عَدَمِ قَبُولِ صَدَقَاتِ الْمُنَافِقِينَ بِفِسْقِهِمْ ثُمَّ بِكُفْرِهِمْ فِي آيَتَيْ 53 و54.
6 -
تَرَى تَعْلِيلَ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَفِسْقِهِمْ فِي الْآيَةِ 9: 80.
7 -
تَرَى تَعْلِيلَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فِي الْآيَةِ 9: 84.
8 -
تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَطْهِيرِهِمْ وَتَزْكِيَتِهِمْ بِهَا 9: 103.
9 -
تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ فِتْنَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلِّ عَامٍ بِأَمَلِ التَّوْبَةِ وَالتَّذَكُّرِ 9: 126.
فَيُعْلَمُ مِنْ كُلِّ تَعْلِيلٍ أَنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ مَنْفَعَةُ عِبَادِهِ وَمَصْلَحَتِهِمْ وَخَيْرِهِمْ.
سُنَنُهُ تَعَالَى فِي أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَأَقْوَامِهِمْ وَأُمَمِهِمْ:
بَيَّنَّا سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ فِي الْأَعْمَالِ، وَتَرَتُّبِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ (مِنْهَا) إِخْزَاءُ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى (وَمِنْهَا) نَفْيُ هِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى لِلظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الْآيَاتِ 19 و24 و27 و80 (وَمِنْهَا) كَرَاهَتُهُ تَعَالَى انْبِعَاثَ الْمُنَافِقِينَ لِلْقِتَالِ وَتَثْبِيطَهُ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ:(اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) فِي الْآيَةِ 46 (وَمِنْهَا) طَبْعُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِي الْآيَتَيْنِ 87 و93 وَفِي مَعْنَاهُ صَرَفَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ فِي الْآيَةِ 127 وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.
وَمِنْ بَيَانِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)(9: 39) فَبَقَاءُ الْأُمَمِ وَعِزَّتِهَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى قُوَّةِ الدِّفَاعِ الْحَرْبِيَّةِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 368 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا قَوْلُهُ: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا)(9: 47) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص 408 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا قَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)(9: 115) .
(الْفَصْلُ الرَّابِعُ)
فِي قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَوِلَايَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ
هَذِهِ عِدَّةُ عَقَائِدَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَكَمَالِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيقَانِ، جُمِعَتْ كُلُّهَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرُدَّ بِهَا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ تَسُوءُهُمْ كُلُّ حَسَنَةٍ تُصِيبُهُ كَالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَتُفْرِحُهُمْ كُلُّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُهُ كَالنَّكْبَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (9: 51) فَتَصَوَّرْ حَالَ مُؤْمِنٍ يُوقِنُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَهُ اللهُ
لَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ هَذَا الْمَكْتُوبَ لَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَعْدُو فِي جُمْلَتِهِ وَعْدَهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤْمِنٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّصْرِ وَالشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُمَا بِالْحُسْنَيَيْنِ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ (أَيْ آيَةِ 52) وَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي يَتَوَلَّى نَصْرَهُ وَتَوْفِيقَهُ ; فَهُوَ بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، تَصَوَّرْ حَالَ مُؤْمِنٍ تَمَكَّنَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَلَكَتْ عَلَيْهِ وِجْدَانَهُ، هَلْ يَخَافُ مِنْ غَيْرِ اللهِ؟ هَلْ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ؟
هَلْ يَمْنَعُهُ أَيُّ خَطْبٍ مِنَ الْخُطُوبِ عَنِ الْجِهَادِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَإِقَامَةِ دِينِ اللهِ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَدِّ بِسَاطِ الْبِرِّ وَالْفَضْلِ؟ وَتَصَوُّرْ حَالَ أُمَّةٍ يَغْلِبُ عَلَى أَفْرَادِهَا مَا ذُكِرَ، أَلَا تَكُونُ أَعَزَّ الْأُمَمِ نَفْسًا، وَأَشَدَّهَا بَأْسًا؟
وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ وَيَزِيدُهَا رُسُوخًا فِي قَلْبِ تَالِي هَذِهِ السُّورَةِ خَتْمُهَا بِقَوْلِهِ عز وجل (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(9: 129) فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَأَمَّلَ مَعْنَاهَا وَيُطَالِبَ نَفْسَهُ بِالتَّحَقُّقِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ بِهِ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ مَا يَحْتَقِرُ بِهِ خَسَائِسَ الْمَادَّةِ الَّتِي يَتَكَالَبُ الْمَادِّيُّونَ عَلَيْهَا، وَيَبْخَعُونَ أَنْفُسَهُمُ انْتِحَارًا إِذَا فَاتَهُمْ أَوْ أَعْيَاهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى ((حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) سَبْعَ مَرَّاتٍ كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 129.
الْبَابُ الثَّانِي
(فِي مَكَانَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِنْدَ رَبِّهِ وَفِي هِدَايَةِ دِينِهِ وَحُقُوقِهِ عَلَى أُمَّتِهِ)
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي اقْتِرَانِ اسْمِهِ بَاسِمِ رَبِّهِ وَحَقِّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَقِّهِ عز وجل
وَفِيهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَاهِدًا
(1 و2) افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وَعَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)(9: 3) إِلَخْ فَقَرَنَ تَعَالَى اسْمَ نَبِيِّهِ بِاسْمِهِ فِي تَبْلِيغِ أَحْكَامِهِ وَتَنْفِيذِهَا.
(3)
قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْآيَةِ (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً)(9: 16) أَيْ دَخِيلَةً وَبِطَانَةً مِنْ غَيْرِهِمْ يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى الْأَسْرَارِ، وَلِهَذَا أَشْرَكَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِهِمْ فِي وِلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ دُونِ أَعْدَائِهِمْ، وَيَضُرُّهُمْ
أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَلَائِجُ وَدَخَائِلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. دُونَ
مَا قَبْلَهُ الَّذِي هُوَ تَشْرِيعٌ، هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى، وَتَبْلِيغٌ وَتَنْفِيذٌ: هَمَّا حَقُّ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَهْدِهِ، وَوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
(4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ)(9: 24) فَجَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ مَشْرُوطًا بِتَفْضِيلِ حُبِّ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَلَى كُلِّ مَا يُحَبُّ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ النَّاسِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَدْنَى حَقٍّ وَلَا شَرِكَةَ مَعَ اللهِ عز وجل فِي عِبَادَتِهِ.
(5)
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ شَرَعَ قِتَالَهُمْ مِنَ الْآيَةِ (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ)(9: 29) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ((رَسُولَهُ)) فِي الْآيَةِ هُوَ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمُفَسِّرِينَ يُقَابِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَسُولُهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ وَهُوَ مُوسَى عليه السلام لِلْيَهُودِ وَعِيسَى عليه السلام لِلنَّصَارَى.
وَهَلِ الْعَطْفُ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ أَعْطَاهُ اللهُ حَقَّ التَّحْرِيمِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَمْ حَظُّهُ مِنْهُ التَّبْلِيغُ عَنِ اللهِ تَعَالَى نَصًّا وَلَوْ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ أَوِ اسْتِنْبَاطًا؟ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي التَّشْرِيعِ الدُّنْيَوِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ الدِّينِيِّ الْمَحْضِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْأَوَّلِ وَجَعَلُوا مِنْهُ تَحْرِيمَهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمَدِينَةِ كَمَكَّةَ أَنْ يُصَادَ صَيْدُهَا أَوْ يُخْتَلَى خَلَاهَا إِلَخْ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الثَّانِي وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالتَّفْصِيلِ.
(6)
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سَبَبِ مَنْعِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ مِنَ الْآيَةِ (أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ)(9: 54) وَمِثْلُهُ فِي سَبَبِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْآيَةِ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ)(9: 80) وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الدِّينَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنَّى يُعْرَفُ اللهُ وَمَا يُرْضِيهِ مِنْ عِبَادَتِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ رُسُلِهِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ؟
(7)
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ لَمَزُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيْ عَابُوهُ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ وَكَانُوا يَرْضَوْنَ إِذَا أُعْطَوْا وَيَسْخَطُونَ إِذَا مُنِعُوا: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ
وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولِهِ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ) (9: 59) وَالْجَمْعُ فِيهَا بَيْنَ اسْمِ اللهِ وَاسْمِ رَسُولِهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الرِّضَاءُ بِمَا آتَيَا وَأَعْطَيَا بِالْفِعْلِ وَالثَّانِي الرَّجَاءُ فِيمَا يُؤْتِيَانِ مِنْ بَعْدُ، فَأَمَّا الْعَطَاءُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ وَيُنْعِمُ بِالْغَنَائِمِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ الَّذِي شَرَعَ قِسْمَتَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَجَعَلَ خُمْسَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَالَّذِي فَرَضَ
فِيهَا مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَأَمَّا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الْقَاسِمُ لِلْغَنَائِمِ وَالصَّدَقَاتِ بِإِعْطَائِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَلِذَلِكَ خُصَّ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بِالْفَضْلِ. وَفِيهَا مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَمَا لَهُ وَلِلرَّسُولِ أَمْرَانِ:(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمُحْسِبَ الْكَافِيَ لِلْعِبَادِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلِهَذَا أَرْشَدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا:(حَسْبُنَا اللهُ) وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ فِي الْإِيتَاءِ، وَ (ثَانِيهِمَا) أَنَّ تَوَجُّهَ الْمُؤْمِنِ فِيمَا يَرْغَبُهُ وَيَرْجُوهُ مِنَ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ:(إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ)(9: 59) وَمِنْهُ (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(94: 8) أَيْ دُونَ غَيْرِهِ (رَاجِعْ ص 241 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(8)
قَوْلُهُ تَعَالَى (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)(9: 62) فَمُقْتَضَى الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِدُونِهِ - تَحَرِّي الْمُؤْمِنِ إِرْضَاءَ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَوْلَى وَإِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَاتِهِمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ التَّابِعَةِ الْأُولَى ; ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُرْضِي رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم يُرْضِيهِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ يُرْضِي بَعْضُهُمْ مَا لَا يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ لِجَهْلِهِ بِمَا يُرْضِيهِمَا أَوْ غَفْلَتِهِ عَنْهُ أَوِ اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ فِيهِ. وَمِنْهُ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ فِي أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رُبَّمَا كَانُوا يُصَدِّقُونَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي اعْتِذَارِهِمْ عَمَّا اتُّهِمُوا بِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ بَاطِنِ أَمْرِهِمْ وَمَا أَعْلَمَ بِهِ رَسُولَهُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(9: 96) .
(9)
قَوْلُهُ (تَعَالَى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ)
(9: 63) الْآيَةَ هَذِهِ مُقَابِلَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فَإِنَّ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ أَيْ يُعَادِيهِ يُعَادِي رَسُولَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ يُرْضِي أَحَدَهُمَا يُرْضِي الْآخَرَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْجَزَاءُ وَاحِدًا.
(10)
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي مَسْأَلَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَيَهْزَءُونَ بِمُحَاوَلَةِ غَزْوِ الرُّومِ وَرَجَاءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم النَّصْرَ عَلَيْهِمْ وَبِمَا كَانَ وَعَدَ بِهِ أَصْحَابَهُ مِنَ الظَّفَرِ بِمُلْكِهِمْ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)(9: 65) فَحُكْمُ الِاسْتِهْزَاءِ بِاللهِ وَآيَاتِهِ الْكُفْرُ، وَهُوَ حُكْمُ الِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِهِ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي وَعَدَ رَسُولَهُ بِالنَّصْرِ وَأَمَرَهُ بِالْغَزْوِ، وَرَسُولُهُ إِنَّمَا بَلَّغَ عَنْهُ آيَاتِهِ وَوَعْدَهُ فِي ذَلِكَ.
(11)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ)(9: 90) الْآيَةَ. مَعْنَى كَذِبِهِمْ إِيَّاهُمَا إِظْهَارُ الْإِيمَانِ بِهِمَا كَذِبًا وَخِدَاعًا وَمَنْ
كَذَّبَ الرَّسُولَ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ فَقَدْ كَذَّبَ اللهَ - وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ - وَاسْتَحَقَّ الْجَزَاءَ الَّذِي فِي الْآيَةِ.
(12)
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الصَّادِقَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)(9: 19) فَاشْتَرَطَ لِقَبُولِ عُذْرِهِمْ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ النُّصْحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِمَا فِي مُقَاوَمَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُسَاعَدَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالنُّصْحُ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ.
(13)
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُعْتَذِرِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى تَبُوكَ (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ)(9: 94) الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ رُؤْيَةِ الرَّسُولِ لَهَا إِعْلَامُهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَيُعَامِلُهُمْ بِمُقْتَضَاهَا فِي الدُّنْيَا، دُونَ أَقْوَالِهِمْ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ وَغَيْرِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ اللهِ تَعَالَى لَهَا فَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (9: 105) هَذِهِ الْآيَةُ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْمُؤْمِنُونَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِتَذْكِيرِ الْعَامِلِينَ
بِأَنَّ اللهَ يَرَى أَعْمَالَهُمْ وَهُوَ الَّذِي يُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِحْسَانُ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ شَرْعِهِ فِيهَا. وَبِأَنَّ رَسُولَهُ يَرَاهَا وَيُعَامِلُهُمْ بِمُقْتَضَاهَا.
وَهَذَا خَاصٌّ بِحَالِ حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ فِيهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِيَتَحَرَّوْا أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ - ثُمَّ لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهَا فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا فِيهَا سَبِيلَهُمْ وَيَتَحَرَّوْا فِيهَا مَا يُوَافِقُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَشْتَرِكُونَ فِيهَا، وَجَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ)
(14)
قَوْلُهُ تَعَالَى (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ)(9: 99) فَهَذَا ضَرْبٌ مِنِ اقْتِرَانِ اسْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ مَعَ الْفَصْلِ فِيهِ بَيْنَ مَا لَهُ تَعَالَى وَمَا لِرَسُولِهِ. فَالَّذِي لِلَّهِ عز وجل مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ هُوَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَابْتِغَاءُ الْمَرْضَاةِ وَالْمَثُوبَةِ، وَالَّذِي لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم هُوَ طَلَبُ صَلَوَاتِهِ أَيْ أَدْعِيَةٍ إِذْ كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ) .
وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِمَّا يُفَنِّدُ دَعْوَى بَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْقُرْآنُ وَحْدَهُ دُونَ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ مَا تَرَى فِي الْفَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
(فِي عُلُوِّ مَكَانَتِهِ وَعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ وَتَكْرِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَتَكْمِيلِهِ إِيَّاهُ)
(وَفِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَنْقَبَةً بِالْإِجْمَالِ وَأَضْعَافُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ)
(الْمَنْقَبَةُ الْأَوْلَى) جَعْلُ الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَحُبِّهِ وَإِرْضَائِهِ مَقْرُونَةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ وَالثَّنَاءِ وَالثَّوَابِ بِمَا لَهُ عز وجل مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَعْلُ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَعِصْيَانِهِ وَبُغْضِهِ وَإِغْضَابِهِ وَإِيذَائِهِ مَقْرُونَةٌ فِي الْحَظْرِ وَالْكُفْرِ وَالْوَعِيدِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بِالْكُفْرِ بِاللهِ وَعِصْيَانِهِ إِلَخْ. وَتَجِدُ مَا فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُفَصَّلًا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، فَهِيَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَا مَنْقَبَةٌ وَاحِدَةٌ.
(الثَّانِيَةُ) إِنْزَالُ اللهِ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَتَأْيِيدُهُ بِجُنُودِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
حِينَ انْهَزَمَ الْمُؤْمِنُونَ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْآيَتَيْنِ 25 و26 (وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي ص 217 - 221 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الثَّالِثَةُ) نَصْرُ اللهِ لَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلْهِجْرَةِ مَعَ صَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ، وَمَعِيَّتُهُ الْخَاصَّةُ لَهُمَا، وَإِنْزَالُ سَكِينَتِهِ عَلَيْهِمَا، وَتَأْيِيدُهُمَا بِجُنُودِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهَا عِدَّةُ مَنَاقِبَ كَمَا تَرَاهُ فِي آيَةِ الْغَارِ (40) وَتَفْسِيرُهَا الْبَدِيعُ (فِي ص 368 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الرَّابِعَةُ) إِتْمَامُ اللهِ تَعَالَى نُورَهُ بِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ 32 وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم نُورُ اللهِ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، فَانْظُرْ تَفْسِيرَهَا (ص 333 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(9: 33) الْآيَةَ. وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عِدَّةِ مَنَاقِبَ. فَانْظُرْ تَفْسِيرَهَا (فِي ص 338 - 343 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(السَّادِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)(9: 43) الْآيَةَ. وَفِيهَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِهِ وَتَكْرِيمِهِ إِيَّاهُ أَنْ أَعْلَمَهُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِخَطَأِ الِاجْتِهَادِ فِي إِذْنِهِ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى تَبُوكَ، وَتَجِدُ فِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقَ الْكَلَامِ فِي ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام (ص 401 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(السَّابِعَةُ) إِعْلَامُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِأَنَّ اسْتِغْفَارَهُ لِلْمُشْرِكِينَ وَعَدَمَهُ سِيَّانِ فِي جَانِبِ حُكْمِ اللهِ فِيهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِلْمُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَذَلِكَ فِي الْآيَةِ (80) وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِنَفْعِ الدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ.
(الثَّامِنَةُ) إِعْلَامُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ - مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ - وَلَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَهَذَا نَصُّ الْآيَةِ 113 وَهِيَ إِرْشَادٌ مِنَ اللهِ لَهُمْ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يَقِفُوا عِنْدَهُ مِنْ مَوَدَّةِ الْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) .
(التَّاسِعَةُ) نَهْيُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ عِنْدَ الدَّفْنِ بَعْدَ صَلَاتِهِ عَلَى زَعِيمِهِمُ الْأَكْبَرِ الْأَكْفَرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ عِنْدَ دَفْنِهِ تَكْرِيمًا لِنَجْلِهِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ، وَتَأْلِيفًا لِقَوْمِهِ - وَكَانَ أَكْثَرُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ - وَهَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ الْإِنْكَارَ وَالتَّأْدِيبَ وَالْحَدَّ الَّذِي يَجِبُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ فِي مُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
(الْعَاشِرَةُ) نَهْيُهُ عَنِ الْإِعْجَابِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّ اللهَ يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ 55 و58 عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهِمَا لَهُ صلى الله عليه وسلم وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ أَوْ يَقْرَؤُهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ تَأْدِيبٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَتَكْمِيلٌ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالسُّمُوِّ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ قُوَّةِ الْأَمْوَالِ وَعِزَّةِ الْأَوْلَادِ. وَزِينَتُهُمَا يَكُونَانِ لِلْمَحْرُومِينَ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَعِزَّتِهِ، وَهُمَا اللَّتَانِ لَا يَعْلُوهُمَا شَيْءٌ - وَتَعْلِيمُهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْ أَنَّ النِّعَمَ الصُّورِيَّةَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَا تَتِمُّ لِأَهْلِهَا النِّعْمَةُ بِهَا إِلَّا بِاطْمِئْنَانِ الْقُلُوبِ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَتَزَكِّي الْأَنْفُسِ بِأَعْمَالِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ السَّعَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ سَعَادَةُ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ وَعُلُوِّ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ مُتَمِّمَاتِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ كَثْرَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِفَقْدِهِمْ لِهَذِهِ النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ، لَا سَعَادَةَ لَهُمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُنَغِّصَاتٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا نَفْسِهَا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ (فِي ص 418 و495 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) تَوْبَتُهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى خِيَارِ أَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مُنْتَهَى التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ عز وجل فِي إِثْرِ غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّتِي أُرْهِقُوا فِيهَا أَشَدَّ الْعُسْرِ، وَقَاسَوْا أَعْظَمَ الْجُهْدِ، مِنَ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ وَالنَّصَبِ، وَمُفَارَقَةِ مَوْسِمِ الرُّطَبِ، فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَقِلَّةِ الزَّادِ وَالظَّهْرِ، (الرَّوَاحِلِ) فَكَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ بَعْضَ الْهَفَوَاتِ الْجَدِيرَةِ بِرَأْفَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فِي جَانِبِ تِلْكَ الْحَسَنَاتِ، الَّتِي أُشِيرَ إِلَى مُضَاعَفَةِ أَجْرِهَا فِيمَا يَلِي الْإِخْبَارَ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (9: 117) ثُمَّ ذَكَرَ فِيمَا يَلِيهَا تَوْبَتَهُ عَلَى الَّذِينَ خُلِّفُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ عَنْ تَبُوكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ)(9: 118) إِلَخْ.
وَالتَّوْبَةُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ هِيَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِيهِ وَتَحَرِّيهِ مَا يُرْضِيهِ، وَهِيَ
تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ التَّائِبِينَ فِيمَا يَتُوبُونَ عَنْهُ حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُهُ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَمِنَ التَّقْصِيرِ فِي اسْتِكْمَالِ الْجُهْدِ فِي الطَّاعَةِ.
وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنَ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ فَهِيَ قَبُولُ تَوْبَتِهِ، وَالتَّجَاوُزُ عَنْ ذَنْبِهِ أَوْ هَفْوَتِهِ،
أَوْ عَنْ تَقْصِيرِهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَتَنْفِيذِ شَرِيعَتِهِ - وَعَطْفُهُ عَلَيْهِ بِمَا يَكُونُ مَزِيدَ كَمَالٍ فِي إِعْلَاءِ دَرَجَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ التَّوْبَةَ هِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَهِيَ آخِرُ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ فِي الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتِهِ، وَإِنَّهَا كَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِمْرَارِهَا مِنْ أَوَّلِ سِنِّ التَّكْلِيفِ إِلَى آخِرِهَا.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
(فِي فَضْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ، وَحُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهَا، وَحُكْمِ إِخْلَالِهَا بِهَا وَتَقْصِيرِهَا فِيهَا)
(وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ)
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي صِفَاتِهِ الْخَاصَّةِ وَفِيهِ بِضْعُ مَزَايَا وَفَضَائِلَ)
(الْأَوَّلُ) وَصْفُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِأَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ: (أُذُنُ خَيْرٍ)(9: 61) فِي الرَّدِّ الْحَكِيمِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ (هُوَ أُذُنٌ)(9: 61) يَعْنُونَ أَنَّهُ يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ خِدَاعُهُ، وَقَدْ فَسَّرَ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ أُذُنُ خَيْرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(9: 61) وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِاللهِ: وَيُصَدِّقُ مَا يُوجِبُهُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْقَطْعِيُّ الْيَقِينِيُّ، وَيَلِيهِ أَنَّهُ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَبِرِسَالَتِهِ تَصْدِيقَ ثِقَةٍ بِهِمْ وَائْتِمَانٍ لَهُمْ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَخَيْرٌ لِلنَّاسِ حَتَّى الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ إِلَّا مَا كَانَ حَقًّا وَخَيْرًا، دُونَ الْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 445 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الثَّانِيَةُ) وَصْفُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بَعْدَ مَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)(9: 61) أَيْ بِمَا كَانَ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِمْ وَإِسْبَاغِ اللهِ عَلَيْهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَعَمَلِهِمْ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهَا، دُونَ الْمُنَافِقِينَ الْمُكَذِّبِينَ أَوِ الْمُرْتَابِينَ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(21: 107) فَهُوَ فِي مَعْنَى إِرْسَالِهِ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِمَا هُوَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَمَا يَأْتِي قَرِيبًا مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مَعْنَى آخَرُ وَسَتَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا.
(الثَّالِثَةُ) وَصْفُهُ فِي آيَةِ (103) بِتَطْهِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَزْكِيَتِهِمْ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي تَبْلِيغِهِ لِفَرْضِ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ، وَفِي أَخْذِهِ لَهَا وَقِسْمَتِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا - كَمِثْلِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمَفْرُوضَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْأَمْوَالِ إِتَاوَاتٍ وَضَرَائِبَ قَهْرِيَّةً يُؤَدُّونَهَا كَمَا يُؤَدُّونَ سَائِرَ الْمَغَارِمِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تُنْفَقُ بِحَسَبِ أَهْوَاءِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، وَيَكُونُ لَهُمْ مِنْهَا أَكْبَرُ نَصِيبٍ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَإِنَّمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ حِكْمَةَ مَا فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَكَانَ يُقَسِّمُهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ بِالْعَدْلِ، وَيَحْرُمُ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَبِهَذَا وَذَاكَ أَسْنَدَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِعْلَ التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ لَهُمْ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي حِكْمَةِ بَعْثَتِهِ فِي قَوْلِهِ:(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(62: 2) وَتَجِدُ التَّفْصِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) .
(الرَّابِعَةُ) وَصْفُ دُعَائِهِ لِلْمُتَصَدِّقِينَ بَعْدَ مَا ذُكِرَ بِأَنَّهُ: (سَكَنٌ لَهُمْ)(9: 103) تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَتَرْتَاحُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَيَثِقُونَ بِقَبُولِ اللهِ لِصَدَقَاتِهِمْ، وَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُتَصَدِّقٍ مُخْلِصٍ يَنَالُهُ حَظٌّ مِنْ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَصَدِّقِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي سِيرَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَطْلُبُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ الدُّعَاءَ لِأَحَدٍ.
(الْخَامِسَةُ) وَصْفُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ)(9: 128) فَأَثْبَتَ لَهُ شِدَّةَ الْحُبِّ لَهُمْ وَالْحِرْصِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُ يَعِزُّ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُصِيبَهُمُ الْعَنَتُ وَالْإِرْهَاقُ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ.
(السَّادِسَةُ) وَصْفُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(9: 128) وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ غَيْرِ الْخَاصَّةِ بِاللهِ عز وجل إِلَّا فِي كَمَالِهِمَا. وَرَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ صلى الله عليه وسلم بِالْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ إِرْسَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ رَحْمَةً لَهُمْ خَاصَّةً، وَغَيْرُ إِرْسَالِهِ رَحْمَةً لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَإِنَّ رَحْمَتَهُ بِهِمْ مِنْ صِفَاتِ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي سِيَاسَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ، وَتَأْدِيبِهِ إِيَّاهُمْ، وَتَنْفِيذِ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، كَمَا تَرَى فِي هَذِهِ
السُّورَةِ كَغَيْرِهَا، وَشَوَاهِدِ سِيرَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِهَا، فَتَأَمَّلْ خُطْبَتَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَنْصَارِ فِي أَثَرِ إِنْكَارِ بَعْضِ شُبَّانِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ حِرْمَانَهُ إِيَّاهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ (ص 229 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) فَهِيَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ، وَالْكَمَالُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ لِبَشَرٍ كَمَا تَمَّ لَهُ عليه الصلاة والسلام.
وَأَمَّا إِرْسَالُهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحِكْمَةِ رِسَالَتِهِ وَفَوَائِدِهَا فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ رَحْمَةِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ وَرِضْوَانِهِ لِمَنِ اهْتَدَى بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَحَلِّهِ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ لَهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَفِيهِ خَمْسُ وَاجِبَاتٍ)
(الْأَوَّلُ) وُجُوبُ حُبِّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّبَعِ لِحُبِّ اللهِ تَعَالَى وَفِي الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي دَرَجَتَهُ فِي ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ، وَتَفْضِيلِ نَوْعِ حُبِّهَا عَلَى كُلِّ مَا يَجِبُ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا، فَرَاجِعْ بَيَانَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (24) تَجِدْ فِيهِ مَا لَا تَجِدُ مَثَلَهُ فِي تَفْسِيرٍ آخَرَ (ص 202 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الثَّانِي) وُجُوبُ تَحَرِّي مَرْضَاتِهِ بِالتَّبَعِ لِمَرْضَاةِ اللهِ عز وجل فِي الْآيَةِ (62) .
(الثَّالِثُ) وُجُوبُ طَاعَتِهِ بِالتَّبَعِ لِطَاعَةِ اللهِ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْآيَةِ (71) .
(الرَّابِعُ) وُجُوبُ النُّصْحِ لَهُ بِالتَّبَعِ لِلنُّصْحِ لِلَّهِ عز وجل فِي صِفَاتِ الْمَعْذُورِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ مِنَ الْآيَةِ (91) .
وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ لَهُ قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ.
(الْخَامِسُ) وُجُوبُ نَصْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ آيَةِ (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ)(9: 40) وَيُؤَيِّدُهَا مَا يَأْتِي فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ حَظْرِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ.
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيمَا يَحْظُرُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِيذَاءٍ وَتَقْصِيرٍ فِي حَقِّهِ وَهُوَ خَمْسَةُ مَحْظُورَاتٍ) :
(الْأَوَّلُ) حَظْرُ إِيذَائِهِ - فِدَاؤُهُ أَبِي وَأُمِّي وَنَفْسِي - وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ (61) .
(الثَّانِي) حَظْرُ مُحَادَّتِهِ أَيْ مُعَادَاتِهِ، وَالْوَعِيدُ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ (63) .
(الثَّالِثُ) الْكُفْرُ الصَّرِيحُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ فِي الْآيَةِ (65) .
(الرَّابِعُ) حَظْرُ الْقُعُودِ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ لِلْجِهَادِ فِي الْآيَتَيْنِ (81 و90) .
(الْخَامِسُ) حَظْرُ تَخَلُّفِهِمْ عَنْهُ وَالرَّغْبَةُ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَةِ (120) . وَهَذَا تَعْبِيرٌ بَلِيغٌ جِدًّا يَتَضَمَّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصُونُ نَفْسَهُ عَنْ جِهَادٍ وَعَمَلٍ، بَذَلَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ فِيهِ، فَهُوَ مُفَضِّلٌ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فِي عَهْدِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِيمَنْ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ظَاهِرًا مِنْ نَاحِيَةِ مُلَاحَظَةِ ذَلِكَ وَعَدَمِهَا، وَمِنْ نَاحِيَةِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ بِمَا لَا تَقُومُ بِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَضْلًا عَمَّنْ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالْإِمْكَانِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَتَأَسَّى بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَذْلِهِ مَالَهُ وَنَفْسَهُ لِلَّهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِقَدْرِ إِمْكَانِهِ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (33: 21) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ (فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) .
الْبَابُ الثَّالِثُ
فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا فِي السُّورَةِ مِنْ حُجَجِهِ وَأُصُولِهِ وَصِفَاتِ أَهْلِهِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حُجَجِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَالنُّذُرِ وَالْأَخْبَارِ بِالْغَيْبِ وَهِيَ عَشْرٌ)
(الْأُولَى) قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ)(9: 2) .
(الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ)(9: 14) .
(الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)(9: 8) .
(الرَّابِعَةُ) بِشَارَتُهُ بِخَذْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فِيمَا يُحَاوِلُونَ مِنْ إِطْفَاءِ نُورِهِ تَعَالَى - الْإِسْلَامِ - وَوَعْدُهُ بِإِتْمَامِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (9: 32 و33) .
(الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ)(9: 64) .
(السَّادِسَةُ) قَوْلُهُ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)(9: 65) الْآيَةَ، وَلِذَلِكَ كُلِّهِ وَلِمَا سَيَأْتِي قَالَ:(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(9: 78) .
(السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ) قَوْلُهُ: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ)(9: 94) . الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: (سَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) (9: 95) وَقَوْلُهُ: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ)(9: 96) الْآيَاتِ وَهِيَ أَظْهَرُ فِي خَبَرِ الْغَيْبِ مِنْ قَوْلِهِ (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ)(9: 56) وَقَوْلُهُ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ)(9: 62) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ بِهَذَيْنِ الْحَلِفَيْنِ بَعْدَ وُقُوعِهِمَا لِبَيَانِ غَرَضِهِمْ وَمَا فِي بَاطِنِهِمْ وَهُوَ عَيْنُ تَعْلِيلِ حَلِفِهِمْ فِي الْآيَةِ 96.
(الْعَاشِرَةُ) قَوْلُهُ (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ)(9: 101) أَيْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَدْ تَمَّ كُلُّ ذَلِكَ وَصَدَقَ وَعْدُ اللهِ وَوَعِيدُهُ وَخَبَرُهُ.
وَفِي السُّورَةِ أَخْبَارٌ أُخْرَى بِالْغَيْبِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ طَبِيعَةِ الْعُمْرَانِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ وَتَرَى مِثَالَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
(فِي صِفَةِ الْإِسْلَامِ وَمَدْخَلِهِ وَأَهَمِّ أُصُولِ التَّشْرِيعِ فِيهِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ أُصُولٍ)
(الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ نُورُ اللهِ تَعَالَى الْعَامِّ، وَهُدَاهُ الْكَامِلُ التَّامُّ، الَّذِي نَسَخَ بِهِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَوَعَدَ اللهُ عز وجل بِإِتْمَامِهِ، وَخِذْلَانِ مُرِيدِي إِطْفَائِهِ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَتَيْنِ (32 و33) وَتَجِدُ فِي تَفْسِيرِهِمَا فِي (ص 333 - 343 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) مَا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْأُخْرَى مِنْ إِظْهَارِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَالْهِدَايَةِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْعِلْمِ وَالْعُمْرَانِ، وَالسِّيَادَةِ وَالسُّلْطَانِ.
(الْأَصْلُ الثَّانِي) مَدْخَلُ الْإِسْلَامِ وَمِفْتَاحُهُ وَمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)(9: 5) وَيُؤَكِّدُهَا قَوْلُهُ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)(9: 11) وَالْمُرَادُ التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَحْصُلُ بِالْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَتَجِدُ فِي تَفْسِيرِهِمَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَمَانِعِ الزَّكَاةِ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ (ص 151 و169 وَمَا بَعْدَهُمَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) بِنَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ دُونَ التَّقْلِيدِ الَّذِي ذَمَّهُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَشَنَّعَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَدَلِيلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِإِجَارَةِ الْمُشْرِكِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) (9: 6) وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(9: 11) وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ فِي مُقَلِّدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ)(9: 31) مَعَ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ فِيمَا يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ (ص 317 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) أَنَّ التَّكْلِيفَ الْعَامَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدِّينِيِّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَأَصْلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَشَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)(9: 115) وَبَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا (فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) .
(الْأَصْلُ الْخَامِسُ) جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَعَدَمُ السَّمَاحِ بِهِمْ بِالْإِقَامَةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ فِي آيَاتٍ، مِنْهَا الْآيَةُ الَّتِي سَمَّوْهَا آيَةَ السَّيْفِ وَهِيَ الْخَامِسَةُ (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (9: 5) وَهِيَ غَيْرُ نَاسِخَةٍ لِآيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قِيلَ، وَتَرَى فِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقَ الْآيَاتِ
النَّاسِخَةِ وَالْمَنْسُوخَةِ (ص 150 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَسَتَأْتِي أَحْكَامُ الْقِتَالِ وَقَوَاعِدُهُ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ الْآتِي.
(الْأَصْلُ السَّادِسُ) جَعْلُ الْغَايَةِ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ لَنَا بِشَرْطِهَا إِلَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ (29) وَسَتُذْكَرُ فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ.
(الْأَصْلُ السَّابِعُ) الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وِلَايَةِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَصِفَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْعَامَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي قَوْلِهِ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)(9: 71) وَيَدْخُلُ فِي إِطْلَاقِ الْوِلَايَةِ وِلَايَةُ النَّصْرِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْأُمَّةِ وَالْبِلَادِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ الْقِتَالُ إِلَّا فِي حَالِ النَّفِيرِ الْعَامِّ (ص 466 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي جَمِيعِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ تَبَعًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ)(9: 71) إِلَخْ.
(الْأَصْلَانُ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ) وُجُوبُ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ. وَوُجُوبُ بَثِّ الْعِلْمِ مَقْرُونًا بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ الَّذِي يُرْجَى تَأْثِيرُهُ النَّافِعُ - وَهُمَا فِي الْآيَةِ (122) .
وَفِي السُّورَةِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ عَقِيدَةُ الْبَعْثِ وَجَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ
فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ (تُرَاجَعُ الْآيَاتُ 3 و17 و18 و19 و21 و22 و31 و44 و45 و49 و61 و63 و68 و69 و74 و81 و95) .
وَفَائِدَةُ هَذَا التَّكْرَارِ أَنَّ تَرْسَخَ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ فِي قُلُوبِ الْمُتَعَبِّدِينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، بِكَثْرَةِ تَذَكُّرِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ ذِكْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْجَزَاءُ، وَإِنَّ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنْ يَرِدَ فِيهِ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فِي الْعَشَرَاتِ أَوِ الْمِئَاتِ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَلَا يَمَلُّ تَكْرَارَهُ الْقَارِئُ وَلَا السَّامِعُ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
(فِي آيَاتِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَصِفَاتِ أَهْلِهِ وَطَبَقَاتِهِمْ وَفِيهِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ شَاهِدًا)
(الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ) آيَةُ صِدْقِ الْإِيمَانِ الْمُمَيِّزَةُ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ الَّتِي تَظْهَرُ بِالِامْتِحَانِ - وَهُوَ الْجِهَادُ - وَحِفْظِ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ وَالدَّوْلَةِ - أَنْ يُفْضِيَ بِهَا إِلَى وَلِيجَةٍ أَوْ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهُمْ جَوَاسِيسُ الْأَعْدَاءِ. وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (16) رَاجِعْ (181) وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(2)
آيَةُ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَمَا يُنَافِيهِ مِنْ وِلَايَةِ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ فِي الْآيَةِ (23) ، رَاجِعْ (201 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(3)
آيَةُ صِدْقِ الْإِيمَانِ تَفْضِيلُ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالتِّجَارَةِ وَالْمَسَاكِنِ الْمَرْضِيَّةِ. وَذَلِكَ مُفَصَّلٌ فِي الْآيَةِ (24) وَتَجِدُ مِنْ بَيَانِ مَعَانِيهَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا لَا تَجِدُ مِثْلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ (ص 202 - 216. ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(4)
أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الدِّينِيَّةُ فِي الْآيَةِ (11) ، وَتَفْسِيرُهَا فِي (ص 169 و172 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(5 و6) عِمَارَةُ مَسَاجِدِ اللهِ حِسًّا وَمَعْنًى، وَعَدَمُ خَشْيَةِ أَحَدٍ إِلَّا اللهَ فِي الْآيَةِ (18) .
(7)
وِلَايَةُ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ ذُكُورًا وَإِنَاثًا.
(8)
الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.
(9)
طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ - فِي الْآيَةِ (71)
(1)
.
(10)
صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُمَيِّزَةُ لَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ (44 و45)(ص 404 و405 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَبَيْنَ الْآيَةِ (68) وَمَا بَعْدَهَا وَالْآيَةِ (71) وَمَا بَعْدَهَا. (466 ج 10 ط الْهَيْئَةِ 9 وَالْآيَةِ (86) وَمَا بَعْدَهَا وَالْآيَةِ (88) وَمَا بَعْدَهَا (ج 10 تَفْسِيرٌ) وَبَيْنَ الْآيَتَيْنِ (98 و99)(بِأَوَّلِ ج 11 تَفْسِيرٌ) وَبَيْنَ الْآيَاتِ (124 - 125 و126 و127)(أَوَّلُ ج 11 تَفْسِيرٌ) .
(11)
طَبَقَاتُ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ الثَّلَاثُ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي الْآيَةِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْمِائَةِ (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) وَفِي الْآيَةِ (117) بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ.
(12)
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فِي الْآيَةِ (102)(بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَرْجَأَ اللهُ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ فِي الْآيَةِ (106) بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ.
(13)
الْإِخْلَاصُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ ابْتِغَاءَ الْقُرُبَاتِ عِنْدَ اللهِ، وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَيْ أَدْعِيَتِهِ - الْآيَةُ (99) .
(14)
الْعَمَلُ النَّافِعُ لِلدُّنْيَا وَالدِّينِ الَّذِي يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ - الْآيَةُ (105) .
(15)
حُبُّ التَّطَهُّرِ مِنَ الْأَدْرَانِ الْحِسِّيَّةِ وَالْأَرْجَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ - الْآيَةُ (108) .
(16)
بَيْعُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْجَنَّةِ فِي الْآيَةِ (111) .
(17 - 25) صِفَاتُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: التَّوْبَةُ. الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. السِّيَاحَةُ. رُكُوعُ الْخُضُوعِ. سُجُودُ الْخُشُوعِ. الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحِفْظُ لِحُدُودِ اللهِ فِي الْآيَةِ (112) .
(26)
آيَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَدَمُ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى - الْآيَةُ (113) .
(27)
تَقْوَى اللهِ عز وجل.
(28)
مُلَازَمَةُ الصَّادِقِينَ - الْآيَةُ (119) .
(29)
النَّفَقَةُ فِي الدِّينِ.
(30)
إِنْذَارُ النَّاسِ وَتَعْلِيمُهُمْ - الْآيَةُ (122) .
(31)
الْغِلْظَةُ فِي الْقِتَالِ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ - الْآيَةُ (123) .
(32)
زِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي الْآيَةِ (124) .
الْبَابُ الرَّابِعُ
(فِي الْمَسَائِلِ الْمَالِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْعُهُودِ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ)
(تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَحْكَامُ الْغَنَائِمِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَمْوَالِ الْحَرْبِ، وَفَرْضِ الْخُمُسِ فِيهَا، وَمَصَارِفِهِ، وَحَقِّ آلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَمَا لِلْأُمَّةِ فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَبَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأُمَّهَاتِ مَقَاصِدِهَا فِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُتَمِّمٌ لِمَا قَبْلَهُ فِي الْأَمْوَالِ، كَمَا أَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَشُئُونِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ.
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
(1)
الْمَسَائِلُ الدِّينِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي الْأَمْوَالِ.
(2)
أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ وَمَصَارِفُهَا.
(3)
فَوَائِدُ إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ.
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ)
(فِي مَكَانِ إِنْفَاقِ الْمَالِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْبُخْلِ بِهِ مِنَ النِّفَاقِ، وَفِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ) .
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) كَوْنُ الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ أَحَدَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ مِنَ الْكَفَّارِ بِدُونِ الْتِزَامِهَا، وَلَا تَحْصُلُ أُخُوَّتُهُ الدِّينِيَّةُ إِلَّا بِأَدَائِهَا، وَاعْتِبَارُ مَانِعِيهَا مِنَ الْجَمَاعَاتِ مُرْتَدِّينَ تَجِبُ مُقَاتَلَتُهُمْ. وَفِي الْأَفْرَادِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ، وَنَصُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)(9: 5) وَقَوْلُهُ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)(9: 11) وَيُؤَكِّدُ عَدَّ الزَّكَاةِ كَالصَّلَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّاسِخَةِ فِي آيَةِ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(9: 71) إِلَخْ.
(م 2) كَوْنُ بَذْلِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ آيَةَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَقِوَامَ الدِّينِ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ الْآيَتَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا آنِفًا فِي فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ، وَمِنْهَا الْآيَةُ (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) (9: 20)
إِلَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(9: 22) وَمِنْهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِمَنْ أَمْوَالُهُ وَتِجَارَتُهُ وَسَائِرُ حُظُوظِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ فِي
الْآيَةِ (24) وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ النَّفِيرِ الْعَامِّ (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ)(9: 41) وَقَوْلُهُ: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)(9: 44) وَيُتِمُّ مَعْنَاهَا الْآيَتَانِ بَعْدَهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(9: 55) .
(م 3) كَوْنُ الْبُخْلِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ آيَةَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فَمِنْ شَوَاهِدِهِ عَدَمُ قَبُولِ نَفَقَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَوْنُ أَمْوَالِهِمْ بَلَاءً وَوَبَالًا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي الْآيَاتِ (53 و54 و55) ، (وَمِنْهَا) لَمْزُ الْمُنَافِقِينَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ لِلطَّمَعِ فِي الْمَالِ فِي الْآيَةِ (58)، (وَمِنْهَا) وَصْفُ الْمُنَافِقِينَ بِالْبُخْلِ وَقَبْضِ الْأَيْدِيِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي قَوْلِهِ:(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) - إِلَى قَوْلِهِ: (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)(9: 67) وَيُؤَكِّدُهَا ضَرْبُ الْمَثَلِ لَهُمْ فِي الْآيَةِ (70) بَعْدَهَا بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْمَغْرُورِينَ بِالْقُوَّةِ وَالْمَالِ، وَوَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَهَا بِصِفَاتٍ مِنْهَا ((إِيتَاءُ الزَّكَاةِ)) .
(وَمِنْهَا) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ)(9: 75) الْآيَةَ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى الْبُخْلِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي بَعْدَهَا (وَمِنْهَا) لَمْزُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُتَطَوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ (79) وَمِنْهَا (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (9: 81) الْآيَةَ.
(م 4) وَصْفُ كَثِيرٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ تَحْذِيرًا مِنْ فِعْلَتِهِمْ، وَرَفْعًا لِقَدْرِ كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُسِفَّ وَيَسْفُلَ إِلَى دَرَكَتِهِمْ.
(م 5) الْوَعِيدُ عَلَى كَنْزِ الْأَمْوَالِ وَعَدَمِ إِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فِي الْآيَتَيْنِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) - إِلَى قَوْلِهِ - (فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(9: 34 و35) .
(م 6) آيَةُ (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا)(9: 98) وَهُمْ مُنَافِقُوهُمْ كَبَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ، كَانُوا يُعْطُونَ الصَّدَقَاتِ رِيَاءً. وَخَوْفًا لَا يَرْجُونَ مِنْهَا نَفْعًا بِتَأْيِيدِ الْإِسْلَامِ وَلَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، فَهِيَ فِي نَظَرِهِمْ مَغَارِمُ يَلْتَزِمُونَهَا لِيُصَدَّقُوا بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ وَفِي الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ لَا يَبْذُلُونَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، بَلْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَهُوَ فِي نَظَرِهِمْ غَرَامَةٌ.
(م 7) آيَةُ (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ)(9: 99)
وَهُمْ بَنُو أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَجُهَيْنَةَ، وَحَسْبُكَ شَهَادَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ وَحُسْنِ نِيَّتِهِمْ فِي نَفَقَاتِهِمْ، وَحُكْمُهَا عَامٌّ.
(م 8) التَّرْغِيبُ فِي الصَّدَقَاتِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْ قَبُولِهَا وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهَا بِأَخْذِ اللهِ عز وجل لَهَا كَمَا فِي الْآيَةِ (104) .
(م9) التَّرْغِيبُ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(9: 111) الْآيَةَ.
(م10) فَضْلُ النَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَكَوْنُ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (121) وَتَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي)
(أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَحْكَامُهَا بِالْإِجْمَالِ وَمَصَارِفُهَا وَفِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً) :
(1)
مَالُ الْجِزْيَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا وَتَارِيخَهَا وَأَحْكَامَهَا وَشُرُوطَهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْجِزْيَةِ (29) وَهُوَ فِي (248 - 249 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(2)
أَنْوَاعُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ الْمُقَدَّرَةِ الْمَوْقُوتَةِ، وَهِيَ النَّقْدَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالتِّجَارَةِ فِي اسْتِغْلَالِهِمَا، وَالْأَنْعَامُ وَالزَّرْعُ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَقْوَاتِ، وَالرِّكَازُ: وَهُوَ الْمَدْفُونُ فِي الْأَرْضِ يُعْثَرُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْدِنُ (رَاجِعْ 423 و439 ج 10 تَفْسِيرٌ) .
(3)
سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَهَلْ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ يَنْقَسِمُ بِالْوَصْفِ إِلَى قِسْمَيْنِ؟ (رَاجِعْ ص 423 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(4)
سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ مِنْ جُبَاةٍ وَخَزَنَةٍ وَكَتَبَةٍ (ص 426) .
(5)
سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَهُمْ سِتَّةُ أَصْنَافٍ (ص 426) .
(6)
سَهْمُ الرِّقَابِ: أَيْ تَحْرِيرُ الرَّقِيقِ بِإِعَانَتِهِ عَلَى شِرَائِهِ لِنَفَسِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْكِتَابَةِ، أَوْ شِرَائِهِ مِنْ مَالِكِهِ وَعِتْقِهِ (ص 429) .
(7)
سَهْمُ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ رَكِبَتْهُمْ دُيُونٌ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا، وَالَّذِينَ يَغْرِمُونَ
عَمْدًا مَا يُنْفِقُونَهُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَمَنْعِ الْفِتَنِ الثَّائِرَةِ (ص 430) .
(8)
سَهْمُ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ الَّذِينَ لَا نَفَقَةَ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (ص 430 - 436) .
(9)
سَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ بَلَدِهِ فِي سَفَرٍ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِيهِ الْوُصُولُ إِلَى مَالِهِ
إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَيُعْطَى لِفَقْرِهِ الْعَارِضِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى إِتْمَامِ سِيَاحَتِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ وَأَهْلِهِ (ص 435) .
(10)
الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ (ص 439) .
(11)
تَوْزِيعُ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ (ص 439) .
(12)
الزَّكَاةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُعَيَّنَةُ وَمَكَانَتُهَا فِي الدِّينِ، وَحُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ فِيهَا، وَالْبِلَادِ الْمُذَبْذَبَةِ بَيْنَ الدَّارَيْنِ (ص 441) .
(13)
لَا تُعْطَى الزَّكَاةُ لِلْمُرْتَدِّينَ وَلَا لِلْإِبَاحِيِّينَ وَالْمَلَاحِدَةِ (ص 442) .
(14)
الْتِزَامُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ كَافٍ لِإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ (ص 443) .
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ)
(فِي فَوَائِدِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ)
(وَامْتِيَازُ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ)
وَفِيهِ مُقَدِّمَةٌ فِي مَنَافِعِ الْمَالِ وَارْتِبَاطِ جَمِيعِ مَصَالِحِ الْبَشَرِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ بِهِ وَشَأْنِهِمْ فِي حُبِّهِ وَكَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ وَإِمْسَاكِهِ، وَإِرْشَادِ الدِّينِ فِيهِ، وَكَوْنِ الْإِسْلَامِ وَسَطًا بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ فِيهِ، وَغُلُوِّ عِبَادِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْإِفْرِنْجِ فِي جَمْعِهِ وَاسْتِغْلَالِهِ، وَبَيْنَ بِدْعَةِ الْبُلْشُفِيَّةِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ فِي مُقَاوَمَةِ الشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ الْمَالِيَّةِ وَغُلُوِّهَا فِي ذَلِكَ وَفِي عَدَمِ الْأَدْيَانِ. وَتَلْخِيصُ الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ الْمَالِيِّ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَصْلًا (فَتُرَاجَعُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) .
(الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْمُعَاهَدَاتِ وَهِيَ عِشْرُونَ حُكْمًا)
(الْحُكْمُ الْأَوَّلُ) الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَنَبْذُ عُهُودِ الْمُعَاهِدِينَ مِنْهُمْ، ذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ قَدْ نَاصَبُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْعَدَاوَةَ مُنْذُ دَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ، وَتَبِعَهُمْ سَائِرُ الْعَرَبِ فَكَانُوا حَرْبًا لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنْهُمْ أَوْ يُعَذِّبُونَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمَّا هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ صَارُوا يُقَاتِلُونَهُمْ فِي دَارِ هِجْرَتِهِمْ وَكَانَ اللهُ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ كَمَا وَعَدَهُ، حَتَّى إِذَا مَا كَثُرُوا وَصَارَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ اضْطُرَّ الْمُشْرِكُونَ إِلَى عَقْدِ أَوَّلِ صُلْحٍ مَعَهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَعَاهَدُوهُمْ سَنَةَ سِتٍّ لِلْهِجْرَةِ عَلَى السِّلْمِ وَالْأَمَانِ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَمْ تَلْبَثْ قُرَيْشٌ مَعَ أَحْلَافِهَا مِنْ بَنِي بَكْرٍ أَنْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، ثُمَّ جَمَعَ الْمُشْرِكُونَ جُمُوعَهُمْ لِقِتَالِهِ فِي حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ فَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ فِي السَّنَةِ التَّالِيَةِ بِأَنْ يَنْبِذَ لِلْمُشْرِكِينَ عُهُودَهُمْ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ (137 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الثَّانِي) أَذَانُ الْمُشْرِكِينَ (إِعْلَامُهُمْ) بِذَلِكَ أَذَانًا عَامًّا فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي تَجْتَمِعُ بِهِ وُفُودُ الْحَاجِّ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ فِي مِنًى بِحَيْثُ يَعُمُّ هَذَا الْبَلَاغُ جَمِيعَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُحَرِّمُ الْغَدْرَ وَأَخْذَ الْمُعَاهِدِينَ عَلَى غِرَّةٍ، فَكَّانِ لَا بُدَّ مِنْ إِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ بِمَا يَنْتَشِرُ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِهِمْ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْوَسِيلَةَ الْوَحِيدَةَ لِعِلْمِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِعَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ وَرَحْمَتِهِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ دَوْلَةٌ وَلَا رَئِيسٌ عَامٌّ يُبَلِّغُهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِشُئُونِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ فَيُكْتَفَى بِإِبْلَاغِهِ مِثْلَ هَذَا كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الدُّوَلِ الْمَلَكِيَّةِ أَوِ الْجُمْهُورِيَّةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِمْ صُحُفٌ مُنَشَّرَةٌ عَامَّةٌ وَلَا آلَاتٌ لِلْأَخْبَارِ الْبَرْقِيَّةِ تَنْشُرُ مِثْلَ هَذَا الْبَلَاغِ.
(الثَّالِثُ) مَنْحُهُمْ هُدْنَةً أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُ شَاءُوا آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ أَحْرَارًا فِي سَيْرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ وَسَائِرِ أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ لِيَتَرَوَّوْا فِي أَمْرِهِمْ، وَيَتَشَاوَرُوا فِي عَاقِبَتِهِمْ. وَفِي هَذَا مِنْ رَحْمَةِ الْقَادِرِ بِعَدُوِّهِ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ بِحَقٍّ. وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ صَرِيحَةٌ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْأُولَى مِنَ السُّورَةِ (ص 133 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الرَّابِعُ) وَعْظُهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ وَمَا يُغْرِيهِمْ بِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ
وَقِتَالِهِمْ وَالْغَدْرِ بِهِمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ يُعْجِزُوهُ هَرَبًا مِنْهَا، وَقَدْ وَعَدَ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكْثُرَ أَتْبَاعُهُ وَيُبَايِعَهُ أَنْصَارُهُ، وَأَنْجَزَ لَهُ وَعْدَهُ فِي جُمْلَةِ غَزَوَاتِهِ مَعَهُمْ، وَسَبَبُ هَذَا الْوَعْظِ أَنَّ الْإِيمَانَ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ طَرِيقُهُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ وَدَلَائِلُ الْإِقْنَاعِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) إِلَخْ. وَفِيهَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَا صَدَّقَهُ الْوَاقِعُ.
(الْخَامِسُ) اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ نَبْذِ عَهْدِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَلَمْ يَنْقُصُوهُمْ مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ وَمَوَادِّهِ شَيْئًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا وَيُعَاوِنُوا عَلَيْهِمْ أَحَدًا مِنْ أَعْدَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا نَقَضَ أَهْلُ مَكَّةَ الْعَهْدَ، بِمُظَاهَرَةِ أَحْلَافِهِمْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى أَحْلَافِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَنِي خُزَاعَةَ. وَالْأَمْرُ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّتِهِ، وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ مِنَ التَّقْوَى الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى، وَهَذَا نَصُّ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَظَلُّوا مُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ.
(السَّادِسُ) الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ أَشْهُرِ الْهُدْنَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُ وَحَرُمَ فِيهَا، وَهِيَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَالْحَصْرُ وَالْقُعُودُ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْمَرَاصِدِ لِمُرَاقَبَتِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ التَّجْوَالِ وَالتَّغَلُّبِ فِي الْبِلَادِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ اسْتِعْمَالِ مَا يَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ مِنْ وَسَائِلِ الْقِتَالِ الْمُوَافِقَةِ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ الْعَادِلَةِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَ الْعَدُوُّ
مَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهَا قَابَلْنَاهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ)(2: 194) .
(السَّابِعُ) تَخْلِيَةُ سَبِيلِ مَنْ يَتُوبُونَ مِنَ الشِّرْكِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، لِأَنَّهُمْ بِهَذَا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ قَبِلَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْتَزَمَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَلْتَزِمَ غَيْرَهُمَا. وَهَذَا نَصُّ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ.
(الثَّامِنُ) إِيجَابُ إِجَارَةِ مَنْ يَسْتَجِيرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ، وَفِي حُكْمِهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ وَنَائِبُهُ وَالْقَائِدُ الْعَامُّ فِي حَالِ الْحَرْبِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ وَيَقِفَ عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِبْلَاغِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي يَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.
(التَّاسِعُ) تَعْلِيلُ نَبْذِ عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ السَّابِقِ وَعَدَمِ اسْتِئْنَافِهِ مَعَهُمْ بِالْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ:
(أ) أَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْغَدْرِ فَلَمْ يُخْبِرُوا الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ لِيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ.
(ب) أَنَّ مِنْ دَأْبِهِمْ وَشَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرُجْحَانِ قُوَّتِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِيهِمْ عَهْدًا وَلَا ذِمَّةً وَلَا قَرَابَةً، بَلْ يَفْتِكُونَ بِهِمْ بِدُونِ رَحْمَةٍ.
(ج) أَنَّهُمْ يُنَافِقُونَ وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الضَّعْفِ فَيُرْضُونَهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَهُمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَكْثَرُهُمْ أَيِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ أَيْ خَارِجُونَ عَنْ قُيُودِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ.
(د) أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيُعَادُونَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا، وَيَخَافُونَ أَنْ تُسْلَبَ مِنْهُمْ بِالْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ الَّتِي تُحَرِّمُ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالْغَصْبِ وَالْغَزْوِ لِأَجْلِ الْكَسْبِ، وَكَانُوا يَسْتَبِيحُونَ كُلَّ ذَلِكَ.
(هـ) أَنَّهُمْ - عَلَى كَوْنِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَلَا فِي حَالِ الضَّعْفِ - هُمُ الْمُعْتَدُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظَلُّوا مَعَهُمْ كَذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ.
(و) أَنَّهُمْ نَكَثُوا عُهُودَهُمُ السَّابِقَةَ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهَا فَلَا ثِقَةَ بِهَا فَتُرَاعَى.
(ز) أَنَّهُمْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ وَطَنِهِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ اضْطَرُّوهُ إِلَى الْخُرُوجِ هُوَ وَسَائِرُ مَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَوَاطَئُوا عَلَى قَتْلِهِ.
(ح) أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَبَقِيَتِ الْحَرْبُ مُسْتَمِرَّةً، فَلَمَّا أَنْهَتْ مُعَاهَدَةُ الْحُدَيْبِيَةِ حَالَةَ الْقِتَالِ أَعَادُوهَا بِغَدْرِهِمْ فِيهَا وَنَقْضِهِمْ لَهَا، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّمَانِيَةُ صَرِيحَةٌ فِي الْآيَاتِ (7 - 10) .
(الْحُكْمُ الْعَاشِرُ) وُجُوبُ قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَافَّةً إِلَّا أَنْ يُسْلِمُوا، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ:(وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)(9: 36) وَجْهُهُ مَا عُلِمَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ فِي قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَعَدَمُ إِقْرَارِهِمْ عَلَى السُّكْنَى وَالْمُجَاوَرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ وَلَا عُهُودَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ الْمُؤْمِنُونَ مَعَهُمْ بِسَلَامٍ.
(الْحُكْمُ 11) تَحْرِيمُ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَوْنُهَا مِنَ الظُّلْمِ فِي الْآيَةِ (23) .
(الْحُكْمُ 12) حُكْمُ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِشَرْطِهِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فِي الْآيَةِ (29) .
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْقُ فِي الْقِتَالِ بَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْوَثَنِيِّينَ. وَمِنْهَا أَنَّ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قِتَالِهِمْ وَقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِنَّمَا هُوَ فِي بَيَانِ غَايَتِهِ لَا فِي بِدَايَتِهِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ التَّشْرِيعِ فِي الْقِتَالِ آيَاتُ سُورَةِ الْحَجِّ (22: 39 - 41) ثُمَّ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا (2: 190)(رَاجِعْ آخِرَ ص 247 وَمَا بَعْدَهَا وَص 255 ج 10) وَيَلِيهَا آيَاتُ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، فَسُورَةُ مُحَمَّدٍ، فَهَذِهِ السُّورَةُ.
(الْحُكْمُ 13) وَصْفُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَيَّنَ حُكْمَ قِتَالِهِمْ هُنَا بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ سَلْبِيَّةٍ هِيَ عِلَّةُ عَدَاوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ، وَوُجُوبُ خُضُوعِهِمْ لِحُكْمِهِ لِيَأْمَنَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَحُرِّيَّةُ دِينِهِمْ مَعَهُمْ (فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ آيَةِ الْجِزْيَةِ فِي ص 248 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(فَصْلٌ) فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وَتَارِيخِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا وَسِيرَةِ الصَّحَابَةِ فِيهَا (ص 256 - 269) ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(اسْتِطْرَادٌ) فِي حَقِيقَةِ مَعْنَى الْجِهَادِ وَالْحَرْبِ وَالْغَزْوِ وَإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ فِيهِ ص 269 - 274 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(فَصْلٌ) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدْلِ. وَدَارِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ، وَحُقُوقِ الْأَدْيَانِ وَالْأَقْوَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ (ص 274 - 281 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الْحُكْمُ 14) إِبْطَالُ النَّسِيءِ فِي الْأَشْهُرِ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهِ تَشْرِيعًا جَاهِلِيًّا، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (37) .
(الْحُكْمُ 15) النَّفِيرُ الْعَامُّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ الْقِتَالُ بِهِ وَاجِبًا بِشَرْطِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ كَمَا فُصِّلَ فِي الْآيَاتِ (38 و39 و41) وَأَمَّا النَّفِيرُ الْخَاصُّ فَهُوَ فِي الْآيَةِ (122) .
(الْحُكْمُ 16) الِاسْتِئْذَانُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ،
وَمُنَافَيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ (44 و45) وَمَا قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَتِمَّةُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ (86 - 93) .
(الْحُكْمُ الْأَوَّلُ) وُجُوبُ مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَهُمُ الْخَاضِعُونَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْآيَةِ (73) .
(الْحُكْمُ 18) الْأَعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى) 9: 91 إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (93) .
(الْحُكْمُ 19) وُجُوبُ بَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَهِيَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ بِاشْتِرَاءِ اللهِ إِيَّاهُمَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (111) وَتَقَدَّمَ تَحْرِيمُ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
(الْحُكْمُ 20) قِتَالُ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (123) .
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
فِي الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَصْلًا:
(1)
جَوَازُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُهُودِ وَنَبْذُهَا لِلْمُعَاهِدِينَ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى بَقَائِهَا، وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ.
(2)
عَقْدُ الْمُعَاهَدَاتِ مَعَ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ لَهَا غُنْمُهَا وَعَلَيْهَا غُرْمُهَا، وَإِنَّمَا يَعْقِدُهَا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْمُمَثِّلُ لِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مَنْطُوقُ إِسْنَادِهَا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى:(عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(9: 1) مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي تَوَلَّى الْعَقْدَ وَكُتِبَ بِاسْمِهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
(3)
نَبْذُ الْمُعَاهَدَاتِ يَجِبُ أَنْ يُذَاعَ وَيُنْشَرَ بِحَيْثُ يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْعَمَلِ بِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ بِالْأَذَانِ بِهِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَالْإِذَاعَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَأَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي حَضَارَتِهِمْ وَبَدَاوَتِهِمْ.
(4)
وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالْمُعَاهَدَةِ مَا دَامَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مِنَ الْأَعْدَاءِ يَفِي بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا، كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ (4 و7 و12 و13) إِكْمَالًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
(5)
الْمُعَاهَدَةُ الْمَوْقُوتَةُ تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهَا بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) (9: 4) وَقَوْلِهِ: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)(9: 7) .
(6)
أَنَّ الْقَبَائِلَ وَالشُّعُوبَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا دِينٌ وَلَا شَرْعٌ يُحَرِّمُ عَلَيْهَا نَقْضَ الْعُهُودِ وَجُرِّبَ
عَلَيْهَا نَكْثُهَا لِلْإِيمَانِ لَا يَجِبُ الْتِزَامُ مُعَاهَدَاتِهَا السَّابِقَةِ، وَلَا تَجْدِيدُ مَا انْتَهَتْ مُدَّتُهُ مِنْهَا كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ الْأَوْلَى مِنَ السُّورَةِ، وَدُوَلُ الْإِفْرِنْجِ تَعْمَلُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَلَا تَعْقِدُ الْمُعَاهَدَاتِ إِلَّا مَعَ الدُّوَلِ الْمُنَظَّمَةِ الَّتِي تَلْتَزِمُ الشَّرَائِعَ وَالْقَوَانِينَ الدَّوْلِيَّةَ.
(7)
الْهُدْنَةُ بَيْنَ الْمُحَارِبِينَ مَشْرُوعَةٌ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبْدَءُوا بِهَا إِذَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ، وَمِنْهَا الرَّحْمَةُ بِالْمُشْرِكِينَ فِيمَا لَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) .
(8)
تَأْمِينُ الْحَرْبِيِّ بِالْإِذْنِ لَهُ بِدُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ جَائِزٌ لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا اسْتَأْمَنَ لِأَجْلِ سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ أَوِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَجَبَتْ إِجَارَتُهُ ثُمَّ إِبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ.
(9)
انْتِهَاءُ قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَنُوطٌ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِفْتَاحُهُ التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَأَهَمُّهَا رُكْنَا الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ.
(10)
انْتِهَاءُ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ يُنَاطُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ مَعَ الْخُضُوعِ لِأَحْكَامِ شَرْعِنَا، كَمَا تَرَى فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ (29) وَفِي تَفْسِيرِهَا بَيَانُ حُكْمِ سَائِرِ الْمِلَلِ.
(11)
النَّفِيرُ الْعَامُّ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْآيَةِ (41) وَتَرَى فِي تَفْسِيرِهَا مَا تَكُونُ بِهِ فَرْضِيَّتُهُ، وَمَا يَكُونُ بِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ.
(12)
امْتِنَاعُ نَفْرِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ لِلْجِهَادِ فِي غَيْرِ حَالِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فِي الْآيَةِ (122) .
(13)
الْعَجْزُ عَنِ الْقِتَالِ أَوْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ وَتَجِدُ بَيَانَ أَنْوَاعِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ (91 - 93) وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ.
الْبَابُ الْخَامِسُ
(فِي شُئُونِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَحُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ وَسِيَاسَتِهِ فِيهِمْ وَفِيهِ فُصُولٌ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي ذَمِّ الْقُرْآنِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَزَاهَتِهِ فِيهِ عَنِ السَّبِّ وَالشَّتْمِ)
(تَنْبِيهٌ وَتَمْهِيدٌ)
الذَّمُّ: الْوَصْفُ بِالْقَبِيحِ، وَالسَّبُّ وَالشَّتْمُ: مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْيِيرُ وَالتَّشَفِّي مِنَ الذَّمِّ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا وَاقِعًا أَوْ إِفْكًا مُفْتَرًى. وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى:(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)(6: 108) فَنُهِيَ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْكُفَّارِ وَمَعْبُودَاتِهِمْ وَمِنْهَا الْأَصْنَامُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الْمُتَسَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ
وَيَتَكَاذَبَانِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
فَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَيَانٌ لِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ وَقُبْحِ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يَعْقُبُهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ بِهِمْ وَسُخْطِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِعِقَابِهِ، وَبُعْدِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ؛ بِقَصْدِ الْإِنْذَارِ وَالْوَعْظِ، لِأَجْلِ التَّنْفِيرِ وَالزَّجْرِ، وَلِذَلِكَ تَرَاهَا مُوَجَّهَةً إِلَيْهِمْ بِوَصْفِهِمْ أَوْ إِلَى وَصْفِهِمُ الْعَامِّ: الْمُشْرِكِينَ، الْكَافِرِينَ، الْمُنَافِقِينَ، الْفَاسِقِينَ، الظَّالِمِينَ، الْمُجْرِمِينَ، الْمُفْسِدِينَ، أَوِ الْخَاصِّ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ كَبَعْضِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَا كُلِّهِمْ دُونَ الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنِينَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَلْقَابِهِمْ، مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شِدَّةِ كُفْرِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي كَانَ شَرَّهُمْ وَأَجْرَأَهُمْ عَلَى الضَّرَرِ، فَقَدْ كَانَ ضَرَرُهُ فِي الْمَدِينَةِ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فِي مَكَّةَ (كَأَبِي جَهْلٍ) .
وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هِجَاءِ الْعَرَبِ وَسِبَابِهِمُ الْبَذِيءِ وَقَذَعِهِمُ الْفَاحِشِ أَدْرَكَ نَزَاهَةَ الْقُرْآنِ، وَعُلُوَّهُ عَنْ مِثْلِ بَذَاءَتِهِمْ فِي الْكَلَامِ.
يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فِي ذَمِّ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا نَزَلَ فِي ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتِهِ فِي سُورَةٍ وَجِيزَةٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ آزَرَ وَالِاسْتِطْرَادِ إِلَى آبَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُولِي قُرْبَاهُمْ
وَمَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ فِي أَبَوَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَمَّيْهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي لَهَبٍ، لِإِثْبَاتِ قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَالْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِنَعِيمِهَا إِنَّمَا هُوَ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا الْأَنْفُسُ وَتَكُونُ بِصِفَاتِهَا الْعَالِيَةِ أَهْلًا لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى وَمَرْضَاتِهِ.
وَأَنَّ الْأَدْيَانَ الْوَثَنِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّعَادَةَ وَالنَّجَاةَ وَالْفَوْزَ إِنَّمَا تَكُونُ بِوَسَاطَةِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تُوصَفُ بِالْوِلَايَةِ وَالْقَدَاسَةِ أَوِ النُّبُوَّةِ، وَيُدْعَى لَهَا التَّأْثِيرُ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَكَوْنِهَا تُحَابِي بِشَفَاعَتِهَا وَوَسَاطَتِهَا أُولِي الْقَرَابَةِ مِنْهَا وَالْمُتَقَرِّبِينَ إِلَيْهَا بِالْمَدْحِ لَهَا وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهَا، وَدُعَائِهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ عز وجل.
وَقَدْ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَغْنَى بَنِي هَاشِمٍ، وَمِنْ أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ غُرُورًا بِمَالِهِ وَثَرْوَتِهِ وَنَشَبِهِ وَنَسَبِهِ وَكَانَ بِهَذَا الْغُرُورِ أَوَّلَ مَنْ جَاهَرَ بِعَدَاوَةِ ابْنِ أَخِيهِ (مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ) مُحْتَقِرًا لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ، الَّذِي لَمْ يُدْرِكْهُ، وَعَمُّهُ الَّذِي كَفَلَهُ بَعْدَ جَدِّهِ - أَفْقَرَ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ لَهُ حِينَ جَمَعَ عَشِيرَتَهُ وَبَلَّغَهُمْ دَعْوَةَ رَبِّهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (26: 214)
: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ وَكَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَشَدَّ الْمُشْرِكِينَ صَدًّا لِلنَّاسِ عَنْهُ وَتَكْذِيبًا لَهُ كُلَّمَا دَعَا أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ كَلَامُهُ مَقْبُولًا عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ جَاهَرُوا بِعَدَاوَتِهِ كَأَبِي جَهْلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ لِقَرَابَتِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ جَمِيلٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْرِفَةً فِي عَدَاوَتِهِ وَذَمِّهِ، وَالصَّدِّ عَنْ دَعْوَتِهِ بِالنَّمِيمَةِ وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ عَنْهُ لِتَبْغِيضِهِ لِلنَّاسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ كُنْيَتِهَا:(حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْمَعُ الْحَطَبَ الشَّائِكَ وَتُلْقِيهِ فِي طَرِيقِهِ بِالْفِعْلِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ تَكُنِ السُّورَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهِ إِلَّا دُعَاءً عَلَيْهِ بِالتَّبَّاتِ، وَهُوَ الْخَسَارُ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ إِخْبَارًا بِهِ، وَبِكَوْنِهِ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الْكَثِيرُ وَمَا كَسَبَهُ مِنَ الْجَاهِ وَالْوَلَدِ شَيْئًا - فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ - فَهُوَ إِخْبَارٌ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمَا وَمَوْتِهِمَا عَلَى كُفْرِهِمَا، وَخُسْرَانِهِمَا سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ صَدَقَ
خَبَرُ اللهِ وَوَعِيدُهُ لَهُ، فَهُوَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ الَّتِي سَاعَدَ عَلَيْهَا بِمَالِهِ، آسِفًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ، فَذَاقَ وَبَالَ أَمْرِهِ بِخِذْلَانِ أَقْرَانِهِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَرُءُوسِ الشِّرْكِ، وَخُسْرَانِ مَالِهِ الَّذِي أَنْفَقَهُ فِيهَا مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)(8: 36) وَرَأَى بِمِصْدَاقِهَا مَبَادِئَ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ. مَاتَ بَعْدَهَا بِأَيَّامٍ قَلِيلَةٍ بِالْعَدَسَةِ شَرَّ مَيْتَةٍ، وَتُرِكَ مَيِّتًا حَتَّى أَنْتَنَ، ثُمَّ اسْتُؤْجِرَ بَعْضُ السُّودَانِ حَتَّى دَفَنُوهُ. وَكَانَ فُجِعَ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ بِوَلَدِهِ عُتْبَةَ الَّذِي كَانَ يَعْتَزُّ بِهِ، افْتَرَسَهُ أَسَدٌ فِي طَرِيقِ الشَّامِ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَمَا أَسْلَمَ أَخُوهُ وَثَانِيهِ فِي جَمْعِ الْمَالِ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه لَرَأَى مِثْلَ مَا رَأَى هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ عِزِّ الْإِسْلَامِ، وَصِدْقِ ابْنِ أَخِيهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فِي وَعْدِهِ لَهُمْ بِأَنَّ كَلِمَةَ:((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) تَجْمَعُ عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَجَمُ.
ذَكَرْتُ هَذَا التَّنْبِيهَ الطَّوِيلَ لِبَيَانِ غَلَطِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى سَبِّهِمْ وَسَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَتَفْنِيدًا لِمَا يَهْذِي بِهِ بَعْضُ مَلَاحِدَةِ الْكُتَّابِ فِي الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ أَدَبِهِ وَالْأَدَبِ الْجَاهِلِيِّ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ سَبَبْتَ الْآبَاءَ وَعِبْتَ الدِّينَ وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، فَذِكْرُ السَّبِّ وَالشَّتْمِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْكَارِ، عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَفِيهِ رَجُلٌ مُتَّهَمٌ. وَهَاكَ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَعْدَاءَهُ وَأَعْدَاءَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ أَشَدُّهُ.
(شَوَاهِدُ ذَمِّ الْقُرْآنِ النَّزِيهِ لِلْكَفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ)
(1 - 4) وَصَفَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآيَاتِ (8 - 10) بِأَنَّهُمْ لَا يَرْقُبُونَ وَلَا يُرَاعُونَ فِي أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، حَتَّى قَطَعُوا أَرْحَامَهُمْ بِهِمْ خِلَافًا لِعَادَاتِهِمْ فِي عَصَبِيَّةِ النَّسَبِ، وَأَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعْتَدُونَ.
(5)
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَنْعِهِمْ عَنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ وَمِنَ التَّعَبُّدِ فِيهِ: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ)
(9: 17) .
(6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)(9: 28) وَكَانَتْ نَجَاسَتُهُمْ مَعْنَوِيَّةً وَهِيَ الشِّرْكُ وَخُرَافَاتُهُ، وَحِسِّيَّةً إِذَا كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وَلَا يَدِينُونَ بِالطَّهَارَةِ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَا الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ.
(7 - 10) وَصَفَ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ (30) بِأَنَّهُمْ بِاتِّخَاذِ ابْنٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَوَثَنِيِّ قُدَمَاءِ الْهِنْدِ وَالْمِصْرِيِّينَ، وَقَوْلِهِ:(قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(9: 30) وَوَصَفَهُمْ فِي الْآيَةِ (31) بِأَنَّهُمْ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) وَفِي الْآيَةِ (32) بِأَنَّهُمْ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) أَيْ بِكَلَامِهِمُ الْبَاطِلِ فِي الصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفِي الْآيَةِ (34) بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ. وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ ظَاهِرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي تَارِيخِهِمُ الْمَاضِي وَسِيرَتِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمِنْ دَقَائِقِ الصِّدْقِ فِي الْقُرْآنِ الْحُكْمُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَثِيرِ مِنْهُمْ دُونَ الْجَمِيعِ كَمَا قَالَ فِي الْمُشْرِكِينَ:(وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)(9: 8) وَلَمْ يُعْهَدْ مِثْلُ هَذَا التَّحَرِّي فِي كَلَامِ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا وَصْفُهُ لِشُرُورِ الْمُنَافِقِينَ وَذَمِّهِمْ فِيهَا فَنُلَخِّصُهُ فِيمَا يَأْتِي تَابِعًا فِي الْعَدَدِ لِمَا قَبْلَهُ.
(11)
ذَكَرَ فِي اسْتِئْذَانِ الْمُنَافِقِينَ وَاعْتِذَارِهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَيَانِ مَا يَكُونُ شَأْنُهُمْ لَوْ خَرَجُوا مِنِ ابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وَالْإِفْسَادِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّثْبِيطِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَزِدْ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِ فِيهِمْ:(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(9: 47) وَقَوْلِهِ: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)(9: 49)(رَاجِعِ الْآيَاتِ 42 - 49) .
(12 و13) تَعْلِيلُ عَدَمِ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ فِي الْآيَةِ (53) بِفِسْقِهِمْ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ:(وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)(9: 54) .
(14 و15) وَصَفَهُمْ بَعْدَ إِثْبَاتِ اسْتِهْزَائِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ وَاعْتِذَارِهِمْ عَنْهُ
بِقَوْلِهِمْ: (إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)(9: 65) بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ صِفَاتِهِمُ الْعَامَّةِ مِنَ الْآيَةِ:(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(9: 67) أَيِ الْخَارِجُونَ مِنْ مُحِيطِ هِدَايَةِ الدِّينِ وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ.
(16)
قَوْلُهُ فِي لَمْزِهِمْ وَعَيْبِهِمْ لِلْمُتَطَوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَسُخْرِيَتِهِمْ
مِنْهُمْ فِي الْآيَةِ (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(9: 79) وَهَذَا التَّعْبِيرُ يُسَمَّى بِالْمُشَاكَلَةِ أَيْ عَاقَبَهُمْ بِمِثْلِ جُرْمِهِمْ فَجَعَلَهُمْ سُخْرِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَضَحَ بِهِ نِفَاقَهُمُ الَّذِي كَانُوا يُخْفُونَهُ.
(17)
قَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ غُفْرَانِ اللهِ لَهُمْ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(9: 80) وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)(9: 84) وَقَدْ نَزَلَ هَذَا فِي زَعِيمِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَلَكِنْ جُعِلَ حُكْمُ النَّهْيِ عَامًّا.
(18 و19) أَشَدُّ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي الْآيَةِ (95) أَنَّهُمْ رِجْسٌ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا نَزَلَتْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ زَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ، حَتَّى مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ كَمَا فِي الْآيَةِ (125) وَأَنَّهُمْ عِنْدَ نُزُولِهَا يَنْصَرِفُونَ مِنْ مَجْلِسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ غَفْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ:(صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) أَيْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبِّبَاتِهَا وَهَذَا آخِرُ مَا ذُكِرُوا بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ 127.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ كُلَّ مَا وُصِفُوا بِهِ بَيَانٌ لِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ بِأَنْزَهِ تَعْبِيرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَقْرُونًا بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ وَالسَّرَائِرِ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْهَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِوَصْفِهِمُ التَّنْفِيرُ مِنْهُ لِإِعْدَادِ مَنْ فِيهِ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ الْحَقِّ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَابَ أَكْثَرُهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
(فِي الْمُنَافِقِينَ وَصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَسِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ)
النِّفَاقُ خُلُقٌ رَدِيءٌ وَوَصْفٌ خَبِيثٌ تَتَلَوَّثُ بِهِ الْأَنْفُسُ الدَّنِيئَةُ الْفَاسِدَةُ الْفِطْرَةِ، فَلَا يَرَى أَهْلُهَا وَسِيلَةً إِلَى مَطَامِعِهِمْ فِي الْمَالِ وَمَطَامِحِهِمْ إِلَى الْجَاهِ إِلَّا الْكَذِبَ، وَالرِّيَاءَ، وَلِقَاءَ النَّاسِ بِالْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالتَّصَنُّعَ، وَالْخِدَاعَ، وَلِينَ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ:(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)(63: 4) وَهُمْ يُوجَدُونَ فِي كُلِّ شِعْبٍ وَكُلِّ قَبِيلَةٍ، لَا تَخْلُو مِنْهُمْ بَادِيَةٌ وَلَا حَاضِرَةٌ، وَالنِّفَاقُ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَعَامٌّ، فَالْخَاصُّ: هُوَ الشَّخْصِيُّ الَّذِي يُحَاوِلُ صَاحِبُهُ لِقَاءَ كُلِّ أَحَدٍ مِمَّا يُرْضِيهِ
عَنْهُ وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا الْحُكَّامِ وَأَصْحَابِ الْجَاهِ وَالْمَنَاصِبِ وَالثَّرَاءِ الَّذِينَ يُرْجَى الِانْتِفَاعُ مِنْهُمْ أَوْ يُخْشَى ضَرُّهُمْ، فَهُوَ يَلْبَسُ لِلصَّالِحِينَ مِنْهُمْ لِبَاسَ التَّقْوَى
وَالصَّلَاحِ، وَيَخْلَعُ لِلْفُسَّاقِ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ، وَيُفْرِغُ عَلَى الْمُسْتَكْبِرِينَ حُلَلَ الْإِطْرَاءِ، وَهُوَ أَهْوَنُ الْمُنَافِقِينَ.
وَأَمَّا النِّفَاقُ الْعَامُّ فَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَخِيَانَةِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، وَمَا وُجِدَ النِّفَاقُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، لَمَّا صَارَ لِلْإِسْلَامِ قُوَّةُ الدَّوْلَةِ، إِذْ أَسْلَمَ أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ بِظُهُورِ نُورِ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ تَحْجُبُ هَذَا النُّورَ عَنْ بَصَائِرِهِمْ، أَوْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَجُحُودِهِ، كَكُبَرَاءِ قُرَيْشٍ الْمَغْرُورِينَ بِثَرْوَتِهِمُ الْوَاسِعَةِ، وَجَاهِهِمْ فِي الْعَرَبِ بِسِدَانَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَإِسْرَافِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ بِالسُّكْرِ وَالزِّنَا وَأَكْلِ الرِّبَا وَالشَّهَوَاتِ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُسَاوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ، وَيُفَضِّلُ الْفَقِيرَ الْمُتَّقِيَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْغَنِيِّ الْمُسْرِفِ فِي الْفُسُوقِ، وَيَقْتَصُّ لِلسُّوقَةِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ، وَيُحَقِّرُ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَيُكْرِمُ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَيَزْدَرِي الظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ، فَيَسْلُبُهُمْ بِهَذَا جَمِيعَ مَا يَمْتَازُونَ بِهِ عَلَى دَهْمَاءِ النَّاسِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مَنِ اهْتَدَى بِهِ فِي مَكَّةَ الْفُقَرَاءَ وَبَعْضَ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْعُقُولِ الْحُرَّةِ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى، وَكَانَ أَعْلَاهُمْ فِطْرَةً وَأَزْكَاهُمْ نَفْسًا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَسَائِرُ الْعَشَرَةِ الْكِرَامِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ.
آمَنَ بَعْضُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَوَّلًا بِلِقَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَدَعَوْا قَوْمَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَوْدَتِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَصَادَفَتْ دَعْوَتُهُمْ رَوَاجًا لِقُوَّةِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَفَضَائِلُ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا كَثُرُوا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ إِذْ عَاهَدَهُ نُقَبَاؤُهُمْ فِي مِنًى عَلَى نَصْرِهِ وَمَنْعِهِ (أَيْ حِمَايَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ) مِمَّا يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ نُورُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَظْهَرْ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ قَوْمُهُمْ مُوَاتَاةً لَهُمْ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ نِظَامٍ لِدِيَانَتِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ يَرْتَبِطُ بِهِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيُقِيمُونَهُ وَيَذُبُّونَ عَنْهُ، فَكَانَ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِمَّنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا الْإِسْلَامَ كَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ.
وَكَانَ هُنَالِكَ يَهُودٌ كَثِيرُونَ يُقِيمُ أَكْثَرُهُمْ فِي حُصُونٍ لَهُمْ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَدِينَةِ كَبَنِي قُرَيْظَةَ وَبُنِيَ النَّضِيرِ، وَقَدْ عَاهَدَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُضُونَ عَهْدَهُ وَيُظَاهِرُونَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ كُلَّمَا جَاءُوا لِقِتَالِهِ، بَلْ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَيْهِ، فَكَانُوا فِي إِظْهَارِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ مُنَافِقِينَ، وَكَانَ لَهُمْ أَحْلَافٌ مِنْ عَرَبِ الْمَدِينَةِ، فَحَافَظَ عَلَى مَوَدَّتِهِمْ مُنَافِقُوهَا بِالسِّرِّ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَحَلِّهِ.
فَكَانَتْ سِيَاسَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يُعَامَلُ كَمَا يُعَامَلُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ،
لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ، وَيُعَاقِبُ عَلَى السَّرَائِرِ، وَأَنَّ مَنْ حَافَظَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُوَفَّى لَهُ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ خِيَانَتِهِمْ وَغَدْرِهِمُ اعْتَذَرُوا عَنْهُ، حَتَّى إِذَا مَا افْتَضَحَ أَمْرُهُمْ حَارَبَهُمْ صلى الله عليه وسلم وَأَجْلَاهُمْ عَنِ الْبِلَادِ، كَمَا تَرَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (55 - 58) مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (42 - 52 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
وَقَدْ قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا فِي سُورَةِ الْحَشْرِ مَا كَانَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْإِخَاءِ وَالْوَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا، عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ ظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَفُوا لِلْيَهُودِ بِمَا وَعَدُوهُمْ بِهِ مِنْ نَصْرِهِمْ إِذَا هُمْ أَظْهَرُوا عَدَاوَتَهُمْ ; لِأَنَّ الْمُنَافِقَ الْقُحَّ دُونَ الْمُتَدَيِّنِ الْكَافِرِ هِمَّةً وَشَرَفًا وَخُلُقًا. قَالَ تَعَالَى:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ)(59: 11 و12) .
كَانَ سَبَبُ مُعَاهَدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ وَإِقْرَارِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ حُرِّيَّةٍ وَعَدْلٍ، وَدَعْوَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْذِ أَوْلَادِهِمُ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا وَانْضَمُّوا إِلَى الْيَهُودِ بِالْقُوَّةِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُخَيِّرُوهُمْ إِذْ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)
(2: 256) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَبَبَ مُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ بِظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ هُوَ أَنَّ أَمْرَ السَّرَائِرِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُهَا، وَهُوَ الَّذِي يُجَازِي عَلَيْهَا، وَلَا يُبَاحُ لِحَاكِمٍ وَلَا لِنَبِيٍّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى إِنْسَانٍ بِأَنَّهُ يُسِرُّ الْكُفْرَ فِي نَفْسِهِ وَلَا أَنْ يَتَّهِمَهُ بِذَلِكَ وَيُعَاقِبَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ الْكُفْرُ عَلَى مَنْ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا بِإِقْرَارٍ صَرِيحٍ مِنْهُ، أَوْ صُدُورِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ أَوِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ جُحُودِ كَوْنِهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ; وَالشِّرْكِ بِاللهِ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ تَأْوِيلٌ، كَجُحُودِ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، أَوِ اسْتِحْلَالِ الزِّنَى وَالرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
وَأَمَّا حِكْمَةُ ذَلِكَ وَفَائِدَتُهُ فَهِيَ أَنَّ مَنْ يَلْتَزِمُ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامَهُ وَلَوْ بِغَيْرِ إِيمَانٍ يَقِينِيٍّ فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ - بِطُولِ الْعَمَلِ - أَنْ يَنْشَرِحَ صَدْرُهُ لِلْإِيمَانِ وَيَطْمَئِنَّ بِهِ قَلْبُهُ، وَيُوقِنَ بِهِ عَقْلُهُ، وَإِلَّا كَانَتِ اسْتِفَادَتُهُ وَإِفَادَتُهُ لِلْأُمَّةِ دُنْيَوِيَّةً فَقَطْ.
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ مُقْتَضَى حُرِّيَّةِ الدِّينِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْإِسْلَامُ فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ - إِذْ
أَقَرَّهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِدِينِهِمْ حَتَّى فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا فِيهِ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُمْ - أَنْ يَسْمَحَ لِلْمُنَافِقِينَ بِأَنْ يُظْهِرُوا كَفْرَهُمْ (قُلْنَا) إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إِظْهَارِ كُفْرِهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُمْ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ. تَنَاقُضٌ لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ عَادِلٌ، وَمَثَلُهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يُسْمَحُ لَهُ بِحُقُوقِ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ وَلَا يُطَالَبُ بِالْخُضُوعِ لِقَوَانِينِهَا، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى انْتِهَاكِهَا وَمُخَالَفَةِ أَحْكَامِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ حُرِّيَّةُ الدِّينِ الْمَعْقُولَةُ لِأَهْلِهِ فِي دَائِرَةِ مُحِيطِهِ بِأَلَّا يُحَاسِبَ أَحَدُهُمْ أَحَدًا عَلَى عَقِيدَتِهِ وَوِجْدَانِهِ فِيهِ، وَلَا اجْتِهَادِهِ فِي فَهْمِهِ، إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، وَلَيْسَ مِنْهَا أَنْ يُخَالِفَ أُصُولَهُ الْقَطْعِيَّةَ الَّتِي لَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا بِدُونِهَا وَيُعَدُّ مَعَ ذَلِكَ مُسْلِمًا، إِذًا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَالِبَ حُكُومَتَهُ الْمُتَدَيِّنَةَ بِالسَّمَاحِ لَهُ بِالْخُرُوجِ عَلَى دِينِهَا، كَمَا لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالسَّمَاحِ لَهُ بِالْخُرُوجِ عَلَى قَوَانِينِهَا، فَتَكُونُ حُرِّيَّتُهُ هُنَا مُتَعَارِضَةً مَعَ حُرِّيَّتِهَا هِيَ وَحُرِّيَّةِ أُمَّتِهَا.
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ فَضَحَ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَحَكَمَ بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ يُنَفِّذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ بَقِيَ يُعَامِلُهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ
مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ (قُلْنَا) إِنَّ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا كَانَ وَصْفًا لِأُنَاسٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ بِأَشْخَاصِهِمْ، إِنْذَارًا وَزَجْرًا لَهُمْ لِيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، وَيَخْشَوْا سُوءَ مَآلِهِمْ، عَسَى أَنْ يَتُوبَ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلتَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَابَ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ، بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ إِخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنْهُمْ، بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِهِمْ.
وَكَانَ الَّذِينَ عَرَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَشْخَاصَهُمْ - قَلِيلِينَ جِدًّا، كَالَّذِينِ هَمُّوا بِاغْتِيَالِهِ صلى الله عليه وسلم بِتَشْرِيدِ رَاحِلَتِهِ فِي عَقَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ - مُنْصَرَفَهُمْ مِنْ تَبُوكَ - لِيَطْرَحُوهُ مِنْهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَفِيهِمْ نَزَلَ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) (9: 74) وَلَمَّا اسْتَأْمَرَهُ أَصْحَابُهُ بِقَتْلِهِمْ قَالَ: ((أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ وَيَقُولُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ)) أَيْ فِي رِقَابِهِمْ بِقَتْلِهِمْ، وَهَذَا أَكْبَرُ مُنَفِّرٍ عَنِ الْإِيمَانِ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ كَانَ يَسْتَحْسِنُ هَذَا الدِّينَ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ فِي أَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ لِذَاتِهَا، قَبْلَ أَنْ تَقُومَ عِنْدَهُمُ الْحُجَّةُ عَلَى الْيَقِينِ بِكَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَيَدْخُلُونَ فِيهِ، ثُمَّ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ مَعْرِفَتِهِ التَّفْصِيلِيَّةِ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِالْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لِأَكْثَرِ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى تَفْضِيلِهِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِدَعْوَتِهِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ إِسْلَامُهُمْ وَيُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ:(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا)(49: 14) وَلَوْ سَمِعَ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسُلَّمَ يَقْتُلُ بَعْضَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَصَحِبَهُ لِظُهُورِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ لِإِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، لَنَفَرُوا مِنَ الْإِسْلَامِ وَخَافُوا عَاقِبَةَ الدُّخُولِ فِيهِ.
وَثَمَّ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْإِشَاعَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارَ يُذِيعُونَ فِيهَا مَا شَاءُوا مِنَ التُّهَمِ الْبَاطِلَةِ وَالْإِفْكِ الْمُفْتَرَى، كَزَعْمِهِمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَ مَنْ ظَهَرَ لَهُمْ مِنْهُ مَا دَلَّهُمْ عَلَى بُطْلَانِ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ صَدَّقُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ.
عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِالْكُفْرِ بِالْقَوْلِ وَبِالْهَمِّ بِشَرِّ نَتَائِجِهِ مِنَ الْفِعْلِ (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)
(9: 74) . الْآيَةَ، فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي (ص 473 - 481 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
وَيْلِي هَذَا فِي السُّورَةِ خَبَرُ الَّذِي عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَاهُ مِنْ فَضْلِهِ لَيَصَّدَّقَنَّ (فِي الْآيَاتِ 75 - 77) وَمَا رَوَوْا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا خَاصَّةً وَأَنَّهُ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ ثَعْلَبَةُ، وَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَاتُ تَابَ وَأَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِهِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ هَلَكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ فِي حَدِيثِ سَبَبِ نُزُولِهَا إِشْكَالَاتٍ فِي سَنَدِهِ وَفِي مَتْنِهِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ الْقَطْعِيِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ، فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِمَا فَصَّلُوهُ بِهِ تَفْصِيلًا (رَاجِعْ تَفْسِيرَ ص 481 - 484 ج 10 ط الْهَيْئَةِ)
وَيَقْرُبُ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى مَا رُوِيَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)(9: 84) وَأَنَّهُ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ زَعِيمِ الْمُنَافِقِينَ الْأَكْبَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّعَارُضِ مَعَ الْقُرْآنِ فَرَاجِعْهُ (فِي ج 10 تَفْسِيرٌ) .
وَمِنَ الْمُشْكَلِ فِي هَذَا الْبَابِ قِصَّةُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ فِي الْآيَاتِ (107 - 110) فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ لِأَرْبَعَةِ أَغْرَاضٍ مِنْهَا الْكُفْرُ وَسَائِرُهَا أَقْبَحُ مَقَاصِدِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَدْمِهِ فَهُدِمَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَ اللهُ بِكَذِبِهِمْ فِيمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ نِيَّتِهِمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ بَنَوْهُ لِلْمَقَاصِدِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ كَانُوا كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ مُنَافِقِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَتْبَاعِ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِأَنْ يَتَوَسَّلَ بِنَصْرَانِيَّتِهِ إِلَى قَيْصَرِ الرُّومِ وَالشَّامِ فَيُرْسِلَ مَعَهُ جُنْدًا يَكْفِيهِمْ أَمْرَ الرَّسُولِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ صِدْقَهُمْ فِي ظَاهِرِ عَمَلِهِمْ وَمَا زَعَمُوهُ مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ - كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَارَكُوهُمْ وَصَلَّوْا مَعَهُمْ فِيهِ، وَكَانَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ مُتَعَذِّرًا، فَصَحَّ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَخْفِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (48: 25) .
وَالسَّبَبُ الْخَاصُّ لِعَدَمِ عِقَابِ أَصْحَابِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي أَثْبَتَهُ
النَّصُّ الصَّرِيحُ - أَمْرَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْآيَاتِ فِي قِصَّتِهِمْ قَدْ بُدِئَتْ بِمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمْ فِيهَا مَعْطُوفًا عَلَى الَّذِينَ أَرْجَأَ اللهُ الْبَتَّ فِي أَمْرِهِمْ وَجَعَلَ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ مَرْجُوَّةً، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (9: 106) وَالثَّانِي خَتَمَ قِصَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(9: 110) فَيَظْهَرُ فِي مَعْنَى (تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمُ) احْتِمَالٌ هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ تَقَطُّعُهَا مِنَ الْأَسَفِ وَالْحُزْنِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ، وَوُقُوعُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُحْتَمَلٌ، وَإِذًا يَكُونُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَأَصْدَقِهَا، وَيَكْفِي الِاحْتِمَالُ لِمَنْعِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ سِيَاسَةَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُنَافِقِينَ أَنْ يُعَامَلُوا بِحَسَبِ ظَوَاهِرِهِمْ وَمَا يَبْدُو مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوْ عَلَيْهِ - وَمِثْلُهُ نُوَّابُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ - أَنْ يُعَرِّضَ فِي الْخُطَبِ الْعَامَّةِ وَالتَّصْرِيحَاتِ الرَّسْمِيَّةِ بِتَقْبِيحِ مَا يَعْلَمُ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَالْإِنْذَارِ بِسُوءِ عَوَاقِبِهَا لِيَعُدَّهُمْ لِلتَّوْبَةِ مِنْهَا، أَوِ الْحَذَرِ مِنْ إِظْهَارِ مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ.
وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ السِّيَاسَةُ الْأُصُولَ الْآتِيَةَ:
(الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ فِي حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَمُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ)
1 -
إِنَّ حُرِّيَّةَ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ مَرْعِيَّةٌ لَا سَيْطَرَةَ عَلَيْهَا لِلرُّؤَسَاءِ الْحَاكِمِينَ، وَلَا لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُرْشِدِينَ، وَإِنَّمَا لِهَؤُلَاءِ حَقٌّ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّهِمَ إِنْسَانًا بِإِضْمَارِ الْكُفْرِ وَلَا بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ لِمِلَّتِهِ أَوْ دَوْلَتِهِ، وَلَا بِإِرَادَةِ السُّوءِ لِقَوْمِهِ وَأُمَّتِهِ، وَلَا أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَلِكَ بِعِقَابٍ بَدَنِيٍّ وَلَا مَالِيٍّ، وَلَا بِحِرْمَانِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا غَيْرُهُ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ.
2 -
إِنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ يُضْمِرُ الْكُفْرَ بِاللهِ أَوْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ، أَوِ الطَّعْنِ فِي عَقَائِدِهِمْ، أَوْ إِظْهَارِ مَا يُنَافِيهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَعْوَةً وَلَا طَعْنًا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَكَانَ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ يُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْمِلَّةِ، إِنْ كَانَ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْكُفْرِ صَرِيحًا قَطْعِيًّا مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ مِنِ اسْتِتَابَتِهِ وَعِقَابِهِ إِنْ لَمْ يَتُبْ (وَمِنْهُ مَنْعُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفَسْخُ نِكَاحِهِ بِالْمُسْلِمَاتِ، وَعَدَمِ تَشْيِيعِ جِنَازَتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ حُرِّيَّةَ كُلٍّ أَحَدٍ فِي اعْتِقَادِهِ تَقِفُ
عِنْدَ حَدِّ حُرِّيَّةِ غَيْرِهِ. وَلَا سِيَّمَا احْتِرَامِ عَقَائِدَ الْمِلَّةِ الَّتِي يَعِيشُ فِي ظِلِّ شَرِيعَتِهَا، وَسَائِرِ شَعَائِرِهَا وَعِبَادَاتِهَا.
وَلَيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَسْرَفُوا فِي أَبْوَابِ الرِّدَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يُحْكَمُ فِيهَا بِالْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَبَنَوْا كَثِيرًا مِنْهُ عَلَى اللَّوَازِمِ الْبَعِيدَةِ، وَالْمُحْتَمِلَةِ لِلتَّأْوِيلَاتِ الْقَرِيبَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّ مَا كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِفَاقًا لَا يُنَافِي ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْآنَ كُفْرٌ مَحْضٌ لَا تُقْبَلُ مَعَهُ دَعْوَى الْإِيمَانِ، فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، فَكِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم هُمَا الْحُجَّةُ فِي الدِّينِ، وَالِاهْتِدَاءُ بِهِمَا هُوَ الْوَاجِبُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِ كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَا يُنَافِيهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَمِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ احْتِمَالًا ظَاهِرًا جَمِيعُ الْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.
3 -
إِنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ فِي الدِّينِ، أَوِ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ بِمَا هُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ، مِمَّا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِحَدٍّ وَلَا تَعْزِيرٍ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَعِظَهُ بِالتَّعْرِيضِ، ثُمَّ بِالتَّصْرِيحِ وَالتَّكْشِيفِ، وَلَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِمَا يُرْجَى أَنْ يَزَعَهُ عَنْ غَيِّهِ مِنَ التَّأْدِيبِ، كَالْحِرْمَانِ مِنْ مَظَاهِرِ التَّشْرِيفِ، أَوِ الْإِزْوِرَارِ وَالتَّقْطِيبِ، أَوِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْنِيفِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (9: 73) وَمِنْهُ حِرْمَانُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)(9: 83) الْآيَةَ.
وَلَكِنَّ الْمُلُوكَ الْمُسْتَبِدِّينَ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِمُ الْمُنَافِقِينَ فَيَزِيدُونَهُمْ فَسَادًا، وَيُجَرِّئُونَ غَيْرَهُمْ بَلْ يُرَغِّبُونَهُ فِي النِّفَاقِ وَخِيَانَةِ الْأُمَّةِ جِهَارًا، حَتَّى إِنَّ الْمَنَاصِبَ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ صَارَتْ تُنَالُ بِالنِّفَاقِ، وَيُذَادُ عَنْهَا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
(انْتَهَى بَيَانُ مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ)
(وَكُتِبَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ فِي سَنَةٍ عَسِرَةٍ شَدِيدَةٍ)
(وَتَمَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 1350)
- سُورَةُ يُونُسَ
(السُّورَةُ الْعَاشِرَةُ فِي الْمُصْحَفِ وَآيَاتُهَا 109 عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الشَّامِيِّ 110)
هِيَ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) وَقِيلَ سُورَةِ هُودٍ. وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ كَوْنِهَا مَدَنِيَّةً غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةِ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ بَلْ لِلْإِجْمَاعِ الَّذِي يُؤَيِّدُهُ مَوْضُوعُ السُّورَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَهُوَ يَدُورُ عَلَى إِثْبَاتِ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَهَدْمِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَدَفْعِ الشُّبَهَاتِ عَنْهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ فَكَيْفَ يُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّ الرُّوَاةَ لَمْ يَتْرُكُوا مُتَرَدَّمًا، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ: اسْتُثْنِيَ مِنْهَا: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) الْآيَتَيْنِ (94 و95) - وَقَوْلُهُ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ)(10 - 40) الْآيَةَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَقِيلَ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مَكِّيٌّ وَالْبَاقِي مَدَنِيٌّ: حَكَاهُ ابْنُ الْفَرَسِ وَالسَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ انْتَهَى. وَأَقُولُ: إِنَّ مَوْضُوعَ السُّورَةِ لَا يَقْبَلُ هَذَا مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ، وَهُوَ مِمَّا لَمْ تَثْبَتْ بِهِ رِوَايَةٌ. وَكَوْنُ الْمُرَادِ: بِـ (الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ) فِي الْآيَةِ (94) الْيَهُودَ لَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِيَّةِ فِيهَا الْفَرْضُ لَا وُقُوعُ الشَّكِّ حَقِيقَةً ; وَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ)) وَهُوَ مُرْسَلٌ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِهَا (وَثَانِيهِمَا) أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى نَزَلَ فِي سُوَرٍ مَكِّيَّةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ)
(17: 101) وَقَوْلِهِ فِي سُورَتَيِ النَّحْلِ الْآيَةِ (43) وَالْأَنْبِيَاءِ الْآيَةِ (7)(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) .
وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ تِلْكَ خُتِمَتْ بِذِكْرِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ افْتُتِحَتْ بِهَا، وَأَنَّ جُلَّ تِلْكَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمِنْهُ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ، وَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَالْآيَاتِ (124 - 127) وَهَذِهِ فِي أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، وَمِنْهَا مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْقُرْآنِ كَالْآيَاتِ (15 و16 و17 و37 - 40) .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّنَاسُبَ الَّذِي يُوجَدُ بَيْنَ السُّورِ لَيْسَ سَبَبًا فِي هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي بَيْنَهَا، فَرُبَّ سُورَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقْوَى التَّنَاسُبِ فِي مَوْضُوعِ الْآيَاتِ وَمَسَائِلِهَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا تَارَةً وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا أُخْرَى، فَمِنَ الْأَوَّلِ الْفَصْلُ بَيْنَ سُورَتَيِ الْهُمَزَةِ وَاللهَبِ وَمَوْضُوعُهُمَا وَاحِدٌ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ السُّوَرِ الْمَبْدُوءَةِ بِلَا تَسْبِيحٍ بِسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَيُقَابِلُهَا مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي الْوَصْلُ بَيْنَ سُوَرِ الطَّوَاسِينِ وَسُوَرِ آلَ حَامِيمَ، وَبَيْنَ سُورَتَيِ الْمُرْسَلَاتِ وَالنَّبَأِ وَسُورَتَيِ التَّكْوِيرِ وَالِانْفِطَارِ، وَرُبَّمَا يُقَالُ إِنَّ التَّنَاسُبَ بَيْنَ أَكْثَرِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ أَقْوَى مِنْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. وَمِنْ حِكْمَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقَوِيَّةِ التَّنَاسُبُ فِي الْمَعَانِي كَالْمَكِّيَّةِ الَّتِي مَوْضُوعُ أَكْثَرِهَا الْعَقَائِدُ وَالْأُصُولُ الْعَامَّةُ وَالزَّوَاجِرُ الصَّادِعَةُ، وَالْمَدَنِيَّةِ الَّتِي مَوْضُوعُ أَكْثَرِهَا الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ - أَنَّهُ أَدْنَى إِلَى تَنْشِيطِ تَالِي الْقُرْآنِ بِالتَّرْتِيبِ وَأَنْأَى بِهِ عَنِ الْمَلَلِ، وَأَدْعَى لَهُ إِلَى التَّدَبُّرِ، فَهَذِهِ الْحِكْمَةُ تُشْبِهُ حِكْمَةَ تَفْرِيقِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ عَقَائِدَ وَقَوَاعِدَ وَأَحْكَامٍ عَمَلِيَّةٍ، وَحِكَمٍ أَدَبِيَّةٍ، وَتَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ، وَبِشَارَاتٍ وَنُذُرٍ، وَأَمْثَالٍ وَقَصَصٍ، وَالْعُمْدَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ التَّوْقِيفُ وَالِاتِّبَاعُ.
وَهَأَنَذَا أَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مُلْتَزِمًا فِيهَا الْقَصْدَ وَالِاخْتِصَارَ فِي كُلِّ مَا سَبَقَ لَهُ بَيَانٌ مُفَصَّلٌ فِي تَفْسِيرِ السُّوَرِ السَّابِقَةِ وَلَا سِيَّمَا السُّورَتَيْنِ الْمَكِّيَّتَيْنِ مِنَ السُّوَرِ الطُّوَلِ - الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ - وَإِنَّمَا أَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيمَا لَمْ أَبْسُطْهُ فِيهِ تَمَامَ الْبَسْطِ مِنْ قَبْلُ، وَأَهَمُّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَسْأَلَةُ الْوَحْيِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) .
(الر) تُقْرَأُ هَذِهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ بِأَسْمَائِهَا سَاكِنَةً غَيْرَ مُعْرَبَةٍ هَكَذَا: أَلِفْ، لَامْ، رَا.
وَالْحَرْفُ الْأَخِيرُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَفَائِدَةُ النُّطْقِ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا هَكَذَا تَنْبِيهُ الَّذِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمُ السُّورَةُ لِمَا بَعْدَهَا لِأَجْلِ الْعِنَايَةِ بِفَهْمِهِ حَتَّى لَا يَفُوتَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ شَيْءٌ، وَهِيَ أَقْوَى فِي هَذَا التَّنْبِيهِ مِنْ حَرْفِ الْهَاءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمِنْ كَلِمَةِ ((أَلَا)) الِافْتِتَاحِيَّةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَعِيدَةُ الشَّأْوِ، الرَّفِيعَةُ الشَّأْنِ الَّتِي تَأَلَّفَتْ مِنْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، أَوِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْحِكْمَةِ فِي مَعَانِيهِ، وَالْأَحْكَامِ فِي مَبَانِيهِ، الْحَقِيقِ بِهِدَايَةِ مُتَدَبِّرِهِ وَوَاعِيهِ.
(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ عَجَبِ الْكُفَّارِ وَاسْتِنْكَارِ إِنْكَارِهِمْ لِلْوَحْيِ إِلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَالْوَحْيُ الْإِعْلَامُ الْخَفِيُّ
الْخَاصُّ لِامْرِئٍ بِمَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ. أَيْ أَكَانَ إِيحَاؤُنَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا نُكْرًا اتَّخَذُوهُ أُعْجُوبَةً بَيْنَهُمْ يَتَفَكَّهُونَ بِاسْتِغْرَابِهَا؟ كَأَنَّ مُشَارَكَتَهُمْ لَهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ اللهِ إِيَّاهُ بِمَا شَاءَ مِنَ الْعِلْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ كُفَّارُ مَكَّةَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالنَّاسِ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَلَى الرِّسَالَةِ قَدْ سَبَقَتْهُمْ إِلَيْهَا أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ
وَهُوَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ)(7: 63 و69) وَهَذَا الْمَعْنَى مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ دَحَضْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)((أَنْ)) هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْإِنْذَارُ الْإِعْلَامُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَسَائِرِ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْمُقْتَرِنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِأَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ كَافَّةً (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) التَّبْشِيرُ مُقَابِلُ الْإِنْذَارِ، أَيِ الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِالْبِشَارَةِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالْمَعْنَى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ خَاصَّةً (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يَجْزِيهِمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ - وَالصِّدْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ضِدُّ الْكَذِبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْإِيمَانِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ وَالْوَفَاءِ وَسَائِرِ مَوَاقِفِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ (مَقْعَدِ صِدْقٍ) (54: 55) وَ (مُدْخَلَ صِدْقٍ)(17: 80) وَ (مُخْرَجَ صِدْقٍ)(17: 80) وَ (قَدَمَ صِدْقٍ) وَالْقَدَمُ هَاهُنَا السَّابِقَةُ وَالتَّقَدُّمُ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: سَابِقَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ سُمِّيَتْ قَدَمًا لِأَنَّ السَّبْقَ بِهَا كَمَا سُمِّيَتِ النِّعْمَةُ يَدًا لِأَنَّهَا تُعْطَى بِالْيَدِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى الصِّدْقِ لِتَحَقُّقِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَنَالُونَهَا بِصِدْقِ الْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكُوفِيُّونَ (لَسَاحِرٌ) يَعْنُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَالْبَاقُونَ (لَسِحْرٌ) وَيَعْنُونَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَكُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَدْ قَالُوا، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يُشِيرُ إِلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم ; فَإِنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ جَاءَ بِهِ سَاحِرٌ يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمَا فَوْقَ الْمَعْهُودِ وَالْمَعْلُومِ لِلْبَشَرِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لَهُمْ، وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَإِنَّ وَاللَّامِ، وَبِوَصْفِ السِّحْرِ أَوِ
السَّاحِرِ بِالْمُبِينِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِ الْوَلِيدِ (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَسَمَّوْهُ سِحْرًا لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِقُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ وَجَذْبِهِ لِلنُّفُوسِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَحَمْلِهَا عَلَى احْتِقَارِ الْحَيَاةِ وَلَذَّاتِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَزَوْجِهِ وَبَنِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَتَمْنَعُهُ وَتَحْمِيهِ. وَإِنَّمَا السِّحْرُ مَا كَانَ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِبَعْضِ النَّاسِ يَتَعَلَّمُهَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ إِمَّا حِيَلٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِمَّا خَوَاصُّ طَبِيعِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجَمَاهِيرِ، وَإِمَّا تَأْثِيرُ قُوَى النَّفْسِ وَتَوْجِيهُ الْإِرَادَةِ، وَكُلُّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا وَقَدِ اسْتَبَانَ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ ثُمَّ لِغَيْرِهِمْ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِسِحْرٍ يُؤْثَرُ بِالتَّعْلِيمِ وَالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مَجْمُوعَةُ عُلُومٍ عَالِيَةٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ وَالِاجْتِمَاعِ مُرَقِّيَةٌ لِلْعُقُولِ، مُزَكِّيَةٌ لِلْأَنْفُسِ، مُصْلِحَةٌ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَإِخْبَارِهِ
بِالْغَيْبِ (1) وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ وَحْيٌ مِنْهُ تَعَالَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِثْبَاتَهُ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا مَا فِي بَحْثِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي (ص 181 - 182 ج 1 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَفْسِيرُ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ)(4: 163) الْآيَةَ. وَهُوَ فِي (ص 55 وَمَا بَعْدَهَا ج 6 ط الْهَيْئَةِ) . وَمِنْهَا رَدُّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص 258 - 267 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا فِي خُلَاصَتِهِمَا (ص 242 - 247 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِمُنَاسَبَةِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى عليه السلام (ص 154 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَسْطُ الْقَوْلِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ، وَشُبْهَةُ النُّفَاةِ لِعَالَمِ الْغَيْبِ عَلَيْهَا وَتَصْوِيرُهُمْ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ صُورَتِهِ، فَنَعْقِدُ لَهُ الْفَصْلَ التَّالِيَ:
فَصْلٌ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ
(فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)
الْكَلَامُ فِي الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ:
أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلِمَ عِلْمًا عَقْلِيًّا وِجْدَانِيًّا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُؤْمِنَ إِيمَانًا عِلْمِيًّا بِأَنَّ تِلْكَ كُتُبُ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ كَتَبُوهَا أَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِيمَا كَتَبُوهُ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ فَقِيهٌ أَنْ يُنْكِرَ فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا نَحْوِيٌّ أَنْ يَجْحَدَ نَحْوَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ جِنِّيٍّ، وَلَا شَاعِرٌ أَنْ يَنْفِيَ شَاعِرِيَّةَ الرَّضِيِّ وَالْبُحْتُرِيِّ، بَلْ كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ بَصِيرٌ أَنْ يُكَابِرَ حِسَّهُ فَيُفَضِّلَ نُورَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ السِّرَاجِ عَلَى نُورِ النَّهَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْبُوصِيرِيِّ حَيْثُ قَالَ:
اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا
لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ
طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفِئِ الْقِنْدِيلَا
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ نَشَئُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَاطُوا بِهَا عِلْمًا وَخَبَرًا، ثُمَّ عَرَفُوا الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً وَلَوْ غَيْرَ تَامَّةٍ. وَهَاكَ شَهَادَةً حَدِيثَةً لِعَالِمٍ مُسْتَشْرِقٍ مِنْهُمْ.
كَتَبَ الْأُسْتَاذُ إِدْوَارْ مُونْتِيهِ الْمُسْتَشْرِقُ مُدَرِّسُ اللُّغَاتِ الشَّرْقِيَّةِ فِي مَدْرَسَةِ جِنِيفَ الْجَامِعَةِ فِي مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ لِلْقُرْآنِ مَا تَرْجَمْتُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ.
((كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا صَادِقًا كَمَا كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَدِيمِ، كَانَ مِثْلُهُمْ يُؤْتَى رُؤْيَا وَيُوحَى إِلَيْهِ، وَكَانَتِ الْعَقِيدَةُ الدِّينِيَّةُ وَفِكْرَةُ وُجُودِ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِيهِ كَمَا كَانَتَا مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِي أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ أَسْلَافِهِ، فَتُحْدِثُ فِيهِ كَمَا كَانَتْ تُحْدِثُ فِيهِمْ
ذَلِكَ الْإِلْهَامَ النَّفْسِيَّ، وَهَذَا التَّضَاعُفُ فِي الشَّخْصِيَّةِ اللَّذَيْنِ يُحْدِثَانِ فِي الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ الْمَرَائِيَ، وَالتَّجَلِّيَاتِ، وَالْوَحْيَ، وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي مِنْ بَابِهَا)) اهـ.
فَهَذَا الْعَالِمُ الْأُورُبِّيُّ الْمُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْبِيَاءَ كَانَ ثَابِتًا لِمُحَمَّدٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ جَمِيعَ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ هِيَ أَكْمَلُ شَكْلًا وَمَوْضُوعًا وَأَصَحُّ رِوَايَةً وَأَبْعَدُ عَنِ الشُّبَهَاتِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ، وَأَمَّا مَا فُسِّرَ بِهِ هَذِهِ الْخَصَائِصُ فَهُوَ التَّعْلِيلُ الَّذِي يُعَلِّلُ بِهِ الْمَادِّيُّونَ الْوَحْيَ الْمُطْلَقَ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَقَدْ لَخَّصَ هَذَا الْعَالِمُ خَبَرَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ كُتُبٍ إِسْلَامِيَّةٍ مُذْعِنًا لِصِحَّةِ رِوَايَتِهَا وَفَصَّلَهَا بَعْدَهُ الْعَالِمُ الْمُسْتَشْرِقُ الْفَرَنْسِيُّ إِمِيلْ دِرِمْنِغَامْ فِي كِتَابِهِ (حَيَاةُ مُحَمَّدٍ) مُذْعِنًا لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ وَلِمَوْضُوعِهَا مُفَصِّلًا نُبُوَّتَهُ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ، مُتَمَنِّيًا الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى، آسِفًا لِلشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ.
وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا تَعْرِيفَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْآيَاتِ (الْعَجَائِبِ) عَنْ أَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالتَّوَارِيخِ وَهُوَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتِ الشَّهِيرُ مُؤَلِّفُ كِتَابِ (قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) بِالْعَرَبِيَّةِ ; لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُسْتَقِلُّ الْعَقْلِ حُكْمَهُ فِي نُبُوَّةِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوُحْيِهِمْ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَالْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
تَعْرِيفُ الْوَحْيِ عِنْدَهُمْ
جَاءَ فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ ((وَحْيٍ)) مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ مَعَ حَذْفِ رُمُوزِ الشَّوَاهِدِ:
((تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةٍ خَاصَّةٍ بِمَدِينَةٍ أَوْ شَعْبٍ، وَجَاءَ فِي (حَزَّ 12: 1) وَهَذَا الْوَحْيُ هُوَ الرَّئِيسُ)) أَيْ أَنَّهُ آيَةٌ لِلشَّعْبِ. وَعَلَى الْعُمُومِ يُرَادُ بِالْوَحْيِ الْإِلْهَامُ. وَعَلَى ذَلِكَ
يُقَالُ: ((إِنَّ كُلَّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ)) وَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ حُلُولُ رُوحِ
اللهِ فِي رُوحِ الْكُتَّابِ الْمُلْهَمِينَ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ.
(1)
إِفَادَتُهُمْ بِحَقَائِقَ رُوحِيَّةٍ أَوْ حَوَادِثَ مُسْتَقْبَلَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ.
(2)
إِرْشَادُهُمْ إِلَى تَأْلِيفِ حَوَادِثَ مَعْرُوفَةٍ أَوْ حَقَائِقَ مُقَرَّرَةٍ، وَالتَّفَوُّهُ بِهَا شِفَاهًا أَوْ تَدْوِينُهَا كِتَابَةً بِحَيْثُ يُعْصَمُونَ مِنَ الْخَطَأِ فَيُقَالُ ((تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) وَهُنَا لَا يَفْقِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَوِ الْكَاتِبُ شَيْئًا مِنْ شَخْصِيَّتِهِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّوحُ الْإِلَهِيُّ بِحَيْثُ يَسْتَعْمِلُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَى وَالصِّفَاتِ وَفْقَ إِرْشَادِهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا تَرَى فِي كُلِّ مُؤَلِّفٍ مِنَ الْكُتَّابِ الْكِرَامِ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ الطَّبِيعِيَّةِ وَنَمَطِ التَّأْلِيفِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيمِ دِقَّةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ شَرْحِهِ، غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَسِيحِيِّينَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ قَدْ أَوْحَى لِأُولَئِكَ الْكُتَّابِ لِيُدَوِّنُوا إِرَادَتَهُ وَيُفِيدُوا الْإِنْسَانَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ لِكَيْ يَنَالَ الْخَلَاصَ الْأَبَدِيَّ)) اهـ.
تَعْرِيفُ النُّبُوَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُمْ
وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ ((نَبِيٍّ. أَنْبِيَاءَ. نُبُوَّةٍ)) مِنْهُ مَا نَصُّهُ:
((النُّبُوَّةُ لَفْظَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللهِ وَعَنِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا عَمَّا سَيَحْدُثُ فِيمَا بَعْدُ.
وَسُمِّي هَارُونُ نَبِيًّا ; لِأَنَّهُ كَانَ الْمُخْبِرَ وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْ مُوسَى نَظَرًا لِفَصَاحَتِهِ. أَمَّا أَنْبِيَاءُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ فَكَانُوا يُنَادُونَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَيُنَبِّئُونَ بِمَجِيءِ الْمَسِيحِ. وَلَمَّا قَلَّتْ رَغْبَةُ الْكَهَنَةِ وَقَلَّ اهْتِمَامُهُمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ فِي أَيَّامِ صَمُوئِيلَ أَقَامَ مَدْرَسَةً فِي الرَّامَّةِ وَأَطْلَقَ عَلَى تَلَامِذَتِهَا اسْمَ بَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَاشْتُهِرَ مِنْ ثَمَّ صَمُوئِيلُ بِإِحْيَاءِ الشَّرِيعَةِ وَقُرِنَ اسْمُهُ بَاسِمِ مُوسَى وَهَارُونَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَتَأَسَّسَتْ أَيْضًا مَدَارِسُ أُخْرَى لِلْأَنْبِيَاءِ فِي بَيْتِ أُبَلَّ وَأَرِيحَا وَالْجَلْجَالِ وَأَمَاكِنَ أُخْرَى. وَكَانَ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يُدْعَى أَبًا أَوْ سَيِّدًا، وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي هَذِهِ الْمَدَارِسِ تَفْسِيرَ التَّوْرَاةِ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ شُعَرَاءَ وَأَغْلَبُهُمْ كَانُوا يُرَنِّمُونَ وَيَلْعَبُونَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ. وَكَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَدَارِسِ أَنْ يُرَشَّحَ الطَّلَبَةُ فِيهَا لِتَعْلِيمِ الشَّعْبِ.
أَمَّا مَعِيشَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَكَانَتْ سَاذَجَةً لِلْغَايَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ يُضَافُونَ عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ.
((وَيَظْهَرُ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا فِي تِلْكَ الْمَدَارِسِ لَمْ يُعْطُوا قُوَّةً عَلَى الْإِنْبَاءِ بِمَا سَيَأْتِي، إِنَّمَا اخْتُصَّ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ أُنَاسٌ مِنْهُمْ كَانَ اللهُ يُقَيِّمُهُمْ وَقْتًا دُونَ آخَرَ حَسَبَ مَشِيئَتِهِ، وَيَعِدُهُمْ بِتَرْبِيَةٍ فَوْقَ الْعَادَةِ لِوَاجِبَاتِهِمُ الْخَطِيرَةِ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلْهَمِينَ كَانَ يَخُصُّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ قَبْلُ وَلَا دَخَلُوا تِلْكَ الْمَدَارِسَ كَعَامُوسَ مَثَلًا فَإِنَّهُ كَانَ رَاعِيًا وَجَانِيَ
جُمَّيْزٍ. أَمَّا النُّبُوَّةُ فَكَانَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْأَحْلَامِ وَالرُّؤَى وَالتَّبْلِيغِ، وَأَحْيَانًا كَثِيرَةً كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَرَوْنَ الْأُمُورَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا، فَكَانَتْ تَقْتَرِنُ فِي رُؤَاهُمُ الْحَوَادِثُ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ مَعَ الْبَعِيدَةِ كَاقْتِرَانِ نَجَاةِ الْيَهُودِ مِنَ الْآشُورِيِّينَ بِخَلَاصِ الْعَالِمِ بِوَاسِطَةِ الْمَسِيحِ، وَكَانْتِصَارِ إِسْكَنْدَرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِإِتْيَانِ الْمَسِيحِ، وَكَاقْتِرَانِ انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اقْتِرَانُ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ بِحَوَادِثِ يَوْمِ الدَّيْنُونَةِ.
((وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الْأَنْبِيَاءَ الْمُلْهَمِينَ لِيُعْلِنُوا مَشِيئَتَهُ وَلِيُصْلِحُوا الشُّئُونَ الدِّينِيَّةَ، وَعَلَى الْأَخَصِّ لِيُخْبِرُوا بِالْمَسِيحِ الْآتِي لِتَخْلِيصِ الْعَالَمِ، وَكَانُوا الْقُوَّةَ الْعَظِيمَةَ الْفَعَّالَةَ فِي تَعْلِيمِ الشَّعْبِ وَتَنْبِيهِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، وَكَانَ لَهُمْ دَخْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ انْتَهَى بِنَصِّهِ.
مَا يَرِدُ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ مِنْ تَعْرِيفِهَا:
أَمَّا تَفْسِيرُ الْإِلْهَامِ بِحُلُولِ رُوحِ اللهِ فِي رُوحِ الْمُلْهَمِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ لِلنَّصَارَى لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْتَرِفُ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا عُلَمَاؤُهُمْ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتُهُ وَلَا دَفْعُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْخُلْفِ فِيمَا كَتَبَهُ أُولَئِكَ الْمُلْهَمُونَ وَمَا خَالَفُوا فِيهِ الْوَاقِعَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فَى شَرْحِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ دِقَّةً وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَرْحِهِ إِلَخْ، وَمَنْ حَلَّ فِيهِ رُوحُ اللهِ صَارَ إِلَهًا ; إِذًا الْمَسِيحُ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا عِنْدَ النَّصَارَى إِلَّا بِهَذَا الْحُلُولِ، فَكَيْفَ يَقَعُ فِي مِثْلِ مَا ذُكِرَ وَيَتَخَلَّفُ وَحْيُهُ أَوْ يُخَالِفُ الْوَاقِعَ؟
وَأَمَّا كَلَامُهُ فِي النُّبُوَّةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يَأْتِي:
(1)
إِنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَخَرَّجُونَ فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ يَتَعَلَّمُونَ فِيهَا تَفْسِيرَ شَرِيعَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا شُعَرَاءَ وَمُغَنِّينَ وَعَزَّافِينَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ، وَبَارِعِينَ فِي كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَنْفُسِ وَيُحَرِّكُ الشُّعُورَ
وَالْوِجْدَانَ، وَيُثِيرُ رَوَاكِدَ الْخَيَالِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ عِزْرَا وَنَحْمِيَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْبِيَائِهِمْ سَاقِيَيْنِ مِنْ سُقَاةِ الْخَمْرِ لِمَلِكِ بَابِلَ (أَرْتَحْشَشْتَا) وَمُغَنِّيَيْنِ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَا قَدِ اسْتَعَانَا بِتَأْثِيرِ غِنَائِهِمَا فِي نَفْسِهِ عَلَى سَمَاحِهِ لَهُمَا بِالْعَوْدَةِ بِقَوْمِهِمَا إِلَى وَطَنِهِمَا وَإِقَامَةِ دِينِهِمَا فِيهِ.
فَالنُّبُوَّةُ عَلَى هَذَا كَانَتْ صِنَاعَةً تُعَلَّمُ مَوَادُّهَا فِي الْمَدَارِسِ وَيُسْتَعَانُ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِهَا بِالتَّخْيِيلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْإِلْهَامَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَالْمُؤَثِّرَاتِ الْغِنَائِيَّةِ وَالْمُوسِيقِيَّةِ. وَالْمَعْلُومَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ فَأَيْنَ هِيَ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَدْ جَاءَ بِأَعْظَمِ مِمَّا جَاءُوا بِهِ كُلُّهُمْ؟
(2)
إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَوْلَادِهِمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ عَلَى النَّاسِ يَعِيشُونَ ضُيُوفًا عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ الْمُحِبِّينَ لِرِجَالِ الدِّينِ كَمَا هُوَ مِنْ دَرَاوِيشِ الْمُتَصَوِّفَةِ أَهْلِ
الطُّرُقِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ مِنْ رِجَالِ التَّنَسُّكِ كُلَّ مَا يَقُولُونَ، وَيُسَلِّمُونَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، وَيُذِيعُونَ عَنْهُمْ كُلَّ مَا يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ نَقَلَتْ عَنْهُمْ كُتُبُهُمُ الْمُقَدَّسَةُ بَعْضَ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّ مِنْ أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ وَالنُّسَّاكِ وَالسُّيَّاحِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ تَفْضُلُ سِيرَتُهُمْ سِيرَةَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِهِمْ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَرْتَفِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى دَرَجَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي نَشْأَتِهِ الْفِطْرِيَّةِ وَمَعِيشَتِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَالَةً عَلَى النَّاسِ فِي شَيْءٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلَا بَعْدَهَا.
(3)
أَشْهَرُ أَنْوَاعِ نَبُّوتِهِمُ الْأَحْلَامُ وَالرُّؤَى الْمَنَامِيَّةُ وَالتَّخَيُّلَاتُ الْمُبْهَمَةُ وَكُلُّهَا تَقَعُ لِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مَبْدَأَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَحْيِ التَّشْرِيعِ الَّذِي كَانَ لَهُ صُوَرٌ أَعْلَى مِنْهَا سَنُبَيِّنُهَا بَعْدُ. وَالرُّؤَى: صُوَرٌ حِسِّيَّةٌ فِي الْخَيَالِ تَذْهَبُ الْآرَاءُ وَالْأَفْكَارُ فِي تَعْبِيرِهَا مَذَاهِبَ شَتَّى قَلَّمَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَ الصَّادِقِ مِنْهَا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ كَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ الَّتِي عَبَرَهَا يُوسُفُ عليه السلام، وَرُؤْيَاهُ هُوَ فِي صِغَرِهِ.
(4)
إِنَّ نُبُوَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَهِيَ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى كَوْنِهِمْ مُخْبَرِينَ عَنِ اللهِ تَعَالَى كَانَتْ أَحْيَانًا كَثِيرَةً بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا وَلَا حَوَادِثِهَا: فَكَانَ بَعْضُهَا يَخْتَلِطُ بِبَعْضٍ فَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ الْمُرَادُ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ حَمْلِهَا عَلَى شَيْءٍ وَاضِحٍ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَا يُعْهَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، بَلْهَ الرُّوحَانِيِّينَ الْمُكَاشِفِينَ،
وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ خِلَافُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَشْرَحْهُ وَلَكِنَّ التَّارِيخَ شَرَحَهُ. وَكَانَ أَعْظَمُ نُبُوَّاتِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِخْبَارَهُمْ عَنِ الْمَسِيحِ (مِسْيَا) وَمُلْكِ إِسْرَائِيلَ ثُمَّ إِخْبَارَ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ عَنْ خَرَابِ الْعَالَمِ وَمَجِيءِ الْمَلَكُوتِ لِأَجْلِ دَيْنُونِيَّةِ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَضِي الْجِيلُ الَّذِي خَاطَبَهُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَقَدْ مَرَّ أَجْيَالٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
امْتِيَازُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى نُبُوَّةٍ مَنْ قَبْلَهُ:
فَأَنَّى تُضَاهِئُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ (النُّبُوَّاتِ) ، وَهِيَ كَمَا عَلِمْتَ - أَنْبَاءُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا هُوَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) الْآيَاتِ (1 - 4) وَقَوْلُهُ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)(24: 55) وَأَيْنَ هِيَ مِنْ إِنْبَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ بَعْدَهُ بِلَادَ الشَّامِ وَبِلَادَ الْفُرْسِ وَمِصْرَ وَسَيَسْتَوْلُونَ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ حَتَّى إِنَّهُ سَمَّى كِسْرَى عَصْرَهُ بِاسْمِهِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ إِلَخْ؟
هَذَا مَا يُقَالُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَحَدِ مَوْضُوعَيِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَمَّا سَيَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ
الزَّمَانِ، فَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَبْعَدُ عَنِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ، وَأَعْصَى عَلَى إِنْكَارِ الْمُرْتَابِينَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ، وَسَأَذْكُرُ مَا يَتَأَوَّلُهُ بِهِ الْجَاحِدُونَ لِلنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ شُبْهَتِهِمْ.
وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ الثَّانِي لِلنُّبُوَّةِ وَهُوَ الْأَهَمُّ الْأَعْظَمُ أَيْ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَالنَّظَرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) مَا ذَكَرُوهُ مَنْ كَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ عَقْلُ مَنْ جَاءَ بِهِ وَفِكْرُهُ وَلَا عُلُومُهُ وَمَعَارِفُهُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ (وَثَانِيهِمَا) أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ هِدَايَةِ النَّاسِ وَصَلَاحِ أُمُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ أَعْلَى فِي نَفْسِهِ مِنْ مَعَارِفِ الْبَشَرِ فِي عَصْرِهِ، فَيَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ الْخَاصُّ بِشَخْصِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُسْتَقِلَّ الْمُفَكِّرَ إِذَا عَرَفَ تَارِيخَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَتَارِيخَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عليهم السلام فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَدْ نَشَأَ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمِ الْقِرَاءَةَ وَلَا الْكِتَابَةَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ كَانُوا أُمِّيِّينَ وَثَنِيِّينَ جَاهِلِينَ بِعَقَائِدِ الْمِلَلِ وَتَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَعُلُومِ التَّشْرِيعِ وَالْفَلْسَفَةِ، حَتَّى إِنَّ مَكَّةَ عَاصِمَةَ بِلَادِهِمْ، وَقَاعِدَةَ
دِينِهِمْ، وَمَثْوَى كُبَرَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَمَثَابَةَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ لِلْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَالْمُفَاخَرَةِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي أَسْوَاقِهَا التَّابِعَةِ لَهَا، لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِيهَا مَدْرَسَةٌ وَلَا كِتَابٌ مُدَوَّنٌ قَطُّ، فَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ التَّامِّ الْكَامِلِ، وَالشَّرْعِ الْعَامِّ الْعَادِلِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا وَلَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا بِعَقْلِهِ وَفِكْرِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَسَنَدْفَعُ مَا يَرُدُّ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَيُرَى تُجَاهَ هَذَا أَنَّ مُوسَى أَعْظَمَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَمَلِهِ وَفِي شَرِيعَتِهِ وَفِي هِدَايَتِهِ - قَدْ نَشَأَ فِي أَعْظَمِ بُيُوتِ الْمَلِكِ لِأَعْظَمِ شَعْبٍ فِي الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُ تَشْرِيعًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً وَفَنًّا وَصِنَاعَةً، وَهُوَ بَيْتُ فِرْعَوْنِ مِصْرَ، وَرَأَى قَوْمَهُ فِي حُكْمِ هَذَا الْمَلِكِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ مُسْتَعْبَدِينَ مُسْتَذَلِّينَ، تُذَبَّحُ أَبْنَاؤُهُمْ وَتُسْتَحْيَا نِسَاؤُهُمْ، تَمْهِيدًا لِفَنَائِهِمْ وَمَحْوِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَكَثَ بِضْعَ سِنِينَ عِنْدَ حَمِيهِ فِي مَدْيَنَ وَكَانَ نَبِيًّا - أَوْ كَاهِنًا كَمَا يَقُولُونَ - فَمِنْ ثَمَّ يَرَى مُنْكِرُو الْوَحْيِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْخَاصَّةِ بِشَعْبِهِ لَيْسَ بِكَثِيرٍ عَلَى رَجُلٍ كَبِيرِ الْعَقْلِ عَظِيمِ الْهِمَّةِ، نَاشِئٍ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحِكْمَةِ إِلَخْ.
ثُمَّ ظَهَرَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مُوَافِقَةٌ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا لِشَرِيعَةِ حَمُورَابِي الْعَرَبِيِّ مَلِكِ الْكَلْدَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ مُوسَى وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ عَثَرُوا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي حَفَائِرِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُسْتَمَدَّةٌ مِنْهَا لَا وَحْيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا شَرَحْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ وَذَكَرْنَا خُلَاصَتَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ (9: 30) وَهُوَ فِي (ص 305 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَأَقَلُّ مَا يَقُولُهُ مُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ
مُسْتَمَدَّةً مِنْهَا فَلَا تُعَدُّ أَحَقَّ مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حَمُورَابِيَ ادَّعَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
ثُمَّ يَرَى النَّاظِرُ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلتَّوْرَاةِ مُتَعَبِّدِينَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ تَفْسِيرَهَا فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ وَبِأَبْنَائِهِمْ مَعَ عُلُومٍ أُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَيَرَى أَيْضًا أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّذِي شَهِدَ الْمَسِيحَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ وَلَا بِنَبَأٍ غَيْبِيٍّ - بَلْ إِنَّ عِيسَى عليه السلام وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ ذِكْرًا، وَأَجَلُّهُمْ أَثَرًا، لَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ بَلْ كَانَ تَابِعًا لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ نَسْخِ قَلِيلٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ أَدَبِيٍّ لِجُمُودِ الْيَهُودِ الْمَادِّيِّ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا، فَأَمْكَنَ لِجَاحِدِي الْوَحْيِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَا يَكْثُرُ عَلَى رَجُلٍ مِثْلِهِ زَكِيِّ
الْفِطْرَةِ ذَكِيِّ الْعَقْلِ نَاشِئٍ فِي حِجْرِ الشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَالْحِكْمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ وَالرُّوحَانِيَّةُ، أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا الْأَدَبِيَّةِ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَقُولُ هَذَا وَإِنَّمَا يَقُولُهُ الْمَادِّيُّونَ وَالْمُلْحِدُونَ وَالْعَقْلِيُّونَ، وَأُلُوفٌ مِنْهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَذَاهِبِ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَلَا يَرْتَابُ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُفَكِّرُ غَيْرُ الْمُقَلِّدِ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِي أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ: مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمِنْ بَيَانِ هِدَايَةِ رُسُلِهِ، وَمِنْ عِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ الْمُرَقِّيَةِ لِلْعَقْلِ، وَمِنْ تَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ وَحُكْمِهِ الشُّورِيِّ الْمُرَقِّي لِلِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ - كُلُّ ذَلِكَ أَرْقَى مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، بَلْ هُوَ الْإِصْلَاحُ الَّذِي بَلَغَ بِهِ دِينُ اللهِ أَعْلَى الْكَمَالِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِنَا وَوِجْهَةِ نَظَرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ التَّفْسِيرِ (آخِرُهَا ص 313 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
وَمَنْ نَظَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَسِيرَةِ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَائِرِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْقِصَصَ فِي الْقُرْآنِ يَرَى الْفَرْقَ الْعَظِيمَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِسِيرَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ ; فَفِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يَرَى وَصْفَ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالنَّدَمِ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَوَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي مِمَّا هُوَ قُدْوَةٌ سُوأَى، مِنْ حَيْثُ يَجِدُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ وَصْفِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ بِالْكَمَالِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، مَا هُوَ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَزِيدُ قَارِئَهَا إِيمَانًا وَهُدًى، فَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ تُشْبِهُ بُسْتَانًا فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ وَالشَّوْكِ، وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ
وَالْحَشَرَاتِ، وَأَخْبَارُهُمْ فِي الْقُرْآنِ تُشْبِهُ الْعِطْرَ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْهَارِ، وَالْعَسَلَ الْمُشْتَارَ مِنْ تِلْكَ الثِّمَارِ، وَيَرَى فِيهِ رِيَاضًا أُخْرَى جَمَعَتْ جَمَالَ الْكَوْنِ كُلِّهِ.
وَنَدَعُ هُنَا ذِكْرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارُ فِي نَقْدِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَالطَّعْنِ فِيهَا، وَمِنْ أَخْصَرِهَا وَأَغْرَبِهَا كِتَابُ (أَضْرَارِ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) لِأَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ، وَالْقُرْآنُ خَالٍ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
(صَدُّ الْكَنِيسَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَبَغْيُهُ عِوَجًا)
إِنَّ رِجَالَ الْكَنِيسَةِ لَمْ يَجِدُوا مَا يَصُدُّونَ بِهِ أَتْبَاعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ أَنْ رَأَوْهُ قَدْ قَضَى عَلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَكَادَ يَقْضِي عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، ثُمَّ امْتَدَّ نُورُهُ إِلَى الْغَرْبِ - إِلَّا تَأْلِيفَ الْكُتُبِ، وَنَظْمَ الْأَشْعَارِ وَالْأَغَانِي فِي ذَمِّ الْإِسْلَامِ وَنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَفُحْشِ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَدَيِّنِينَ أَكْذَبُ الْبَشَرِ وَأَشَدُّهُمْ عَدَاوَةً لِلْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، فِي سَبِيلِ رِيَاسَتِهِمُ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ.
وَقَدْ كَانَ أَتْبَاعُهُمْ يُصَدِّقُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَكْتُبُونَ. وَيَتَهَيَّجُونَ بِمَا يَنْظُمُونَ وَيُنْشِدُونَ، حَتَّى إِذَا مَا اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَرَأَوُا الْمُسْلِمِينَ وَعَاشَرُوهُمْ فَضَحُوهُمْ أَقْبَحَ الْفَضَائِحِ، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ (الْإِسْلَامِ خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْكُونْتِ دِي كَاسْتِرِي، وَكَمَا تَرَى فِي الْكِتَابِ الْفَرَنْسِيِّ الَّذِي ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَهْدِ بَاسِمِ (حَيَاةِ مُحَمَّدٍ) لِلْمُوسِيُو دِرِمِنْغَامْ وَهَذَانِ الْكِتَابَانِ فَرَنْسِيَّانِ مِنْ طَائِفَةِ الْكَاثُولِيكِ اللَّاتِينِ، وَقَدْ صَرَّحَا كَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ كَنِيسَتَهُمْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَبِأَدَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّفَاعِ.
وَلَمَّا ظَهَرَتْ طَائِفَةُ الْبُرُوتُسْتَانِ وَغَلَبَ مَذْهَبُهَا فِي شُعُوبِ الْأَنْجُلُوسَكْسُونِ وَالْجِرْمَانِ، وَكَانَ الْفَضْلُ فِي دَعْوَتِهِمُ الْإِصْلَاحِيَّةِ لِمَا انْعَكَسَ عَلَى أُورُبَّةَ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَتَعَفَّفْ قُسُوسُهُمْ وَدُعَاتُهُمْ (الْمُبَشِّرُونَ) عَنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ، وَلَا تَجَمَّلُوا فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّزَاهَةِ وَالْأَدَبِ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ مَطَاعِنِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَسُوءِ أَدَبِهِمْ أَشَدَّ مِمَّا نَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنِ الَّذِينَ أَنْصَفُوا الْإِسْلَامَ مِنْ أَحْرَارِ عُلَمَائِهِمْ أَصْرَحُ قَوْلًا، وَلَعَلَّهُمْ أَكْثَرُ مِنَ اللَّاتِينِ عَدَدًا، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالِاسْتِقْلَالَ فِي تَرْبِيَتِهِمْ أَقْوَى، وَسَيَكُونُونَ هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الْإِسْلَامَ فِي أُورُبَّةَ وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرْكَانِيَّةِ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الْعَالَمِ كَمَا جَزَمَ الْعَلَّامَةُ بِرْنَارْدُ شُو الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ) .
مَسْأَلَةُ الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ أَيِ الْخَوَارِقِ:
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَجَائِبِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِهَا الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهَا. وَفِيمَا يَدَّعُونَهُ مَنْ تَجَرُّدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ لِبَاسِهَا، وَهِيَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ لَا لَهُ، وَصَادَّةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَنْهُ لَا مُقْنِعَةً بِهِ، وَلَوْلَا حِكَايَةُ الْقُرْآنِ لِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام لَكَانَ إِقْبَالُ أَحْرَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، وَاهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَعَمَّ وَأَسْرَعَ ; لِأَنَّ أَسَاسَهُ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ، وَتَرْقِيَةِ مَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَمَّا آيَتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هِيَ الْقُرْآنُ، وَأُمِّيَّةُ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، فَهِيَ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ.
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ
وَأَمَّا تِلْكَ الْعَجَائِبُ الْكَوْنِيَّةُ فَهِيَ مَثَارُ شُبَهَاتٍ وَتَأْوِيلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي رِوَايَتِهَا وَفِي صِحَّتِهَا وَفِي دَلَالَتِهَا وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَقَعُ مِنْ أُنَاسٍ كَثِيرِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْمَنْقُولُ مِنْهَا عَنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنِ الْعَهْدَيْنِ: الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَنْ مَنَاقِبِ الْقِدِّيسِينَ ; وَهِيَ مِنْ مُنَفِّرَاتِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الدِّينِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِيهَا مِنَ الْفَصْلِ.
الْعَجَائِبُ وَمَا لِلْمَسِيحِ مِنْهَا:
جَاءَ فِي تَعْرِيفِ الْعَجَائِبِ وَأَنْوَاعِهَا مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ:
((عَجِيبَةٌ: حَادِثَةٌ تَحْدُثُ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ خَارِقَةٍ مَجْرَى الْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ لِإِثْبَاتِ إِرْسَالِيَّةِ مَنْ جَرَتْ
عَلَى يَدِهِ أَوْ فِيهِ. وَالْعَجِيبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ فَوْقَ الطَّبِيعَةِ لَا ضِدُّهَا تَحْدُثُ بِتَوْقِيفِ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ لَا بِمُعَاكَسَتِهَا، وَهِيَ إِظْهَارُ نِظَامٍ أَعْلَى مِنَ الطَّبِيعَةِ يَخْضَعُ لَهُ النِّظَامُ الطَّبِيعِيُّ، وَلَنَا فِي فِعْلِ الْإِرَادَةِ مِثَالٌ يُظْهِرُ لَنَا حَقِيقَةَ أَمْرِ الْعَجَائِبِ إِذْ بِهَا نَرْفَعُ الْيَدَ وَبِذَلِكَ نُوقِفُ نَامُوسَ الثِّقَلِ وَيَتَسَلَّطُ اللهُ عَلَى قُوَى الطَّبِيعَةِ، وَيُرْشِدُهَا، وَيَمُدُّ مَدَارَهَا أَوْ يَحْصُرُهُ ; لِأَنَّهَا عَوَامِلُ لِمَشِيئَتِهِ وَيُنَاطُ فِعْلُ الْعَجَائِبِ بِاللهِ وَحْدَهُ أَوْ بِمَنْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ.
وَإِذَا آمَنَّا بِالْإِلَهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ بِإِمْكَانِ الْعَجَائِبِ. وَكَانَتِ الْعَجِيبَةُ الْأَوْلَى خَلِيقَةَ الْكَوْنِ مِنَ الْعَدَمِ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى. أَمَّا الْمَسِيحُ فَأُقْنُومُهُ عَجِيبَةٌ أَدَبِيَّةٌ عَظِيمَةٌ وَعَجَائِبُهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا إِظْهَارَ هَذَا الْأُقْنُومِ وَأَعْمَالِهِ، وَإِذَا آمَنَّا بِالْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ الْعَدِيمِ الْخَطِيَّةِ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا تَصْدِيقُ عَجَائِبِهِ. أَمَّا الشَّيْطَانُ فَعَجَائِبُهُ كَذَّابَةٌ.
وَلَابُدَّ مِنَ الْعَجَائِبِ لِتَعْزِيزِ الدِّيَانَةِ، فَكَثِيرًا مَا يَسْتَشْهِدُ الْمَسِيحُ بِعَجَائِبِهِ لِإِثْبَاتِ هُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ الْمَسِيحَ، وَكَانَ يَفْعَلُهَا لِتَمْجِيدِ اللهِ وَلِمَنْفَعَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ، كَانَ يَفْعَلُهَا ظَاهِرًا أَمَامَ جَمَاهِيرِ أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَعْدَاؤُهُ غَيْرَ أَنَّهُمْ نَسَبُوهَا لِبَعْلَزْبُولَ، وَسَوَاءٌ امْتَحَنَّاهَا بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَبِمُنَاسَبَتِهَا إِلَى إِرْسَالِيَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ كَانَ خَالِيًا مِنَ الْغَرَضِ صَحِيحَةً. فَإِذَا لَمْ نُسَلِّمْ بِصِحَّتِهَا الْتَزَمْنَا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ مُقَرِّرِيهَا كَذَّابُونَ ; الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَسُوغُ ظَنُّهُ بِالْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ.
وَبَقِيَتْ قُوَّةُ الْعَجَائِبِ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ، وَلَمَّا امْتَدَّتِ الدِّيَانَةُ الْمَسِيحِيَّةُ زَالَ الِاضْطِرَارُ إِلَيْهَا وَلَا يَلْزَمُنَا الْآنَ سِوَى الْعَجَائِبِ الْأَدَبِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَانَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الدَّاخِلِيَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ)) اهـ.
ثُمَّ وَضَعَ الْمُؤَلِّفُ حُلُولًا أَحْصَى فِيهِ عَجَائِبَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ خَرَابِ سَدُومَ
وَعَمُّورَةَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِلَى ((خَلَاصِ يُونَانَ (يُونُسَ) بِوَاسِطَةِ حُوتٍ)) فَبَلَغَتْ 67 عَجِيبَةً، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِجَدْوَلِ الْعَجَائِبِ الْمَقْرُونَةِ بِحَيَاةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْحَبَلِ بِهِ ((بِفِعْلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) إِلَى ((الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ)) فَبَلَغَتْ 37، وَعَزَّزَ الْجَدْوَلَيْنِ بِثَالِثٍ فِي ((الْعَجَائِبِ الَّتِي جَرَتْ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ)) أَيِ الَّذِينَ بَثُّوا دَعْوَةَ الْمَسِيحِ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ((انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ)) إِلَى ((شِفَاءِ أَبِي بُوبْلِيُوسَ وَغَيْرِهِ)) فَكَانَتْ عِشْرِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ.
بَحْثٌ فِي عَجَائِبِ الْمَسِيحِ عليه السلام
أَقُولُ: إِنَّ 27 مِنْ عَجَائِبِ الْمَسِيحِ الْمَذْكُورَةِ شِفَاءُ مَرْضَى وَمَجَانِينَ لَابَسَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا إِقَامَةُ مَوْتَى عَقِبَ مَوْتِهِمْ، وَمَا بَقِيَ فَمَسْأَلَةُ الْحَبَلِ بِهِ وَتَحْوِيلُهُ الْمَاءَ إِلَى خَمْرٍ وَسَحْبِ الشَّبَكَةِ فِي بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَإِشْبَاعِ خَمْسَةِ آلَافٍ مَرَّةً وَأَرْبَعَةِ آلَافٍ مَرَّةً أُخْرَى، وَضَرْبُ التِّينَةِ الْعَقِيمَةِ بِمَا أَيْبَسَهَا، وَقِيَامَةُ الْمَسِيحِ، وَصَيْدُ السَّمَكِ وَالصُّعُودِ.
وَإِنَّنَا نُلَخِّصُ رِوَايَةَ الْأَنَاجِيلِ لِأَهَمِّهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَنَذْكُرُ مَا يَقُولُهُ فِيهَا مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ
الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ شَابٌّ مِنْ مَدِينَةِ نَابِينَ كَانَ مَحْمُولًا فِي جَنَازَةٍ وَأُمُّهُ تَبْكِي فَاسْتَوْقَفَ النَّعْشَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ ; فَجَلَسَ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ (لُوقَا 7: 11 - 16)
الثَّانِي: صَبِيَّةٌ مَاتَتْ فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا وَكَانَ رَئِيسًا: ابْنَتِي الْآنَ مَاتَتْ لَكِنْ تَعَالَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا. فَجَاءَ بَيْتَ الرَّئِيسِ وَوَجَدَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ ((تَنَحَّوْا فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ)) فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الْجَمْعَ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ (مَتَّ 9: 18 - 24) .
فَمُنْكِرُو الْعَجَائِبِ يَقُولُونَ إِنَّ كُلًّا مِنَ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ لَمْ يَكُونَا قَدْ مَاتَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَدْ قَامُوا مِنْ نُعُوشِهِمْ، بَلْ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَلِذَلِكَ تَمْنَعُ الْحُكُومَاتُ الْمَدَنِيَّةُ دَفْنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْتُبَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ شَهَادَةً بِمَوْتِهِ.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْآيَاتِ أَنْ يَجْزِمُوا أَيْضًا بِأَنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مَيِّتَةً أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه السلام.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ ((لِيعَازِرُ)) حَبِيبُهُ وَأَخُو مَرْثَا وَمَرْيَمَ حَبِيبَتِهِ: مَرِضَ فِي قَرْيَتِهِمْ ((بَيْتِ عَنَيَا)) فَأَرْسَلَتَا إِلَى الْمَسِيحِ قَائِلَتَيْنِ: ((هُوَ ذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ)) فَمَكَثَ يَوْمَيْنِ وَحَضَرَ فَوَجَدَ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَاقَتْهُ مَرْثَا وَقَالَتْ: يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي، ثُمَّ دَعَتْ أُخْتَهَا مَرْيَمَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً كَمَا قَالَتْ مَرْثَا، وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا إِلَى عِنْدِ الْقَبْرِ لِلْبُكَاءِ، فَلَمَّا رَآهَا تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ ((انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ)) وَقَالَ:((أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟)) فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ فَبَكَى وَانْزَعَجَ فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ، فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحَجَرِ فَرَفَعُوهُ ((وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: أَيُّهَا الْأَبُ أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي)) وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ((لِعَازِرَ! هَلُمَّ خَارِجًا)) فَخَرَجَ الْمَيِّتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مَرْبُوطَتَانِ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ. انْتَهَى. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ 11 مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا.
أَتَدْرِي أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا يَقُولُ مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ؟ إِنَّنِي سَمِعْتُ طَبِيبًا سُورِيًّا بُرُوتُسْتَنْتِيًّا يَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ بِتَوَاطُؤٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ حَبِيبَتَيْهِ وَحَبِيبِهِ لِإِقْنَاعِ الْيَهُودِ بِنُبُوَّتِهِ. وَحَاشَاهُ عليه السلام. وَإِنَّمَا نَنْقُلُ هَذَا لِنُبَيِّنَ أَنَّ النَّصَارَى لَا يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ فَضْلًا عَنْ أُلُوهِيَّتِهِ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ وَتَنْفِي الْأُلُوهِيَّةَ، كَمَا فَهِمَ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ إِلَى كَاتِبِيهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا، دَعْ قَوْلَ الْمُنْكِرِينَ بِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَالِ وَالتَّلْبِيسِ أَوِ الْمُصَادَقَةِ فِيهَا، أَوْ عَدَّهُمْ إِيَّاهَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا مِنْ فَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ.
وَإِذَا كَانَ أَعْظَمُهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ يَحْتِمَلُ مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ فَمَا الْقَوْلُ فِي شِفَاءِ الْمَرْضَى وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَا يَدَّعِي الْعَوَّامُ مِنْ دُخُولِ الشَّيَاطِينِ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ مَا هُوَ إِلَّا أَمْرَاضٌ عَصَبِيَّةٌ تُشْفَى بِالْمُعَالَجَةِ أَوْ بِالْوَهْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَدُونَهَا مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالسَّمَكِ وَيُبْسِ التِّينَةِ.
آيَةُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَسَائِرُ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ:
هَذَا وَإِنَّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ تَارَةً وَبِالْمُرْسَلَةِ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم هِيَ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ مَا رَوَاهُ الْإِنْجِيلِيُّونَ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّأْوِيلِ. وَلَمْ يَجْعَلْهَا بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ الدِّينِ وَلَا أَمَرَ بِتَلْقِينِهَا لِلنَّاسِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ قَائِمَةً عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فِي ثُبُوتِهَا وَفِي مَوْضُوعِهَا ; لِأَنَّ الْبَشَرَ قَدْ بَدَءُوا يَدْخُلُونَ فِي سِنِّ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ النَّوْعِيِّ الَّذِي لَا يَخْضَعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ فِيهِ لِاتِّبَاعِ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنِّظَامِ الْمَأْلُوفِ فِي سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ لَا يَكْمُلُ ارْتِقَاؤُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ مَوَانِعِهِ، فَجَعَلَ حُجَّةَ نُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَيْنَ مَوْضُوعِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كِتَابُهُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ بِهِدَايَتِهِ وَعُلُومِهِ وَإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ: كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِيُرَبِّيَ الْبَشَرَ عَلَى التَّرَقِّي فِي هَذَا الِاسْتِقْلَالِ، إِلَى مَا هُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ.
هَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ النُّبُوَّاتِ الْخَاصَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَالنُّبُوَّةِ الْعَامَّةِ الْبَاقِيَةِ، قَدْ عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ (الْعَجَائِبَ) عَلَى رَسُولِهِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ الَّتِي
لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ، وَبِهِدَايَتِهِ وَبِعُلُومِهِ وَبِإِعْجَازِهِ، وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ وَلَا جَمَاعَةٍ وَلَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (17: 88) .
وَأَمَّا مَا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ فِي الشَّدَائِدِ: كَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَفُوقُونَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا وَاسْتِعْدَادًا بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَامِ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَالنَّصْرِ فِيهَا، ثُمَّ بِغَزْوَةِ الْأَحْزَابِ إِذْ تَأَلَّبَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحَاطُوا بِمَدِينَتِهِمْ فَرَدَّهُمُ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ شِفَاءُ الْمَرْضَى وَإِبْصَارُ الْأَعْمَى وَإِشْبَاعُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا وَقَعَ لِلْمَسِيحِ عليه السلام، وَمِنْهُ تَسْخِيرُ اللهِ السَّحَابَ لِإِسْقَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَثْبِيتُ أَقْدَامِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَسِيخُ فِي الرَّمْلِ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يُصِبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْثِهَا شَيْءٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذْ نَفِدَ مَاءُ الْجَيْشِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْحَرُّ شَدِيدٌ حَتَّى كَانُوا يَذْبَحُونَ الْبَعِيرَ وَيُخْرِجُونَ الْفَرْثَ مِنْ كَرِشِهِ لِيَعْتَصِرُوهُ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَقِلُّ مَنْ يَجِدُ مِنْ عُصَارَتِهِ مَا يَشْرَبُهُ شُرْبًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى كَانَتِ السَّمَاءُ قَدْ سَكَبَتْ لَهُمْ مَاءً مَلَئُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الرَّوَايَا وَلَمْ تَتَجَاوَزْ عَسْكَرَهُمْ.
تَأْثِيرُ الْعَجَائِبِ فِي الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ.
لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ الْمُرْسَلِينَ حُجَّةً عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ اسْتَحَقُّوا بِجُحُودِهَا عَذَابَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا مِمَّنْ شَاهَدُوهَا إِلَّا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ بِهَا، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِآيَاتِ مُوسَى، وَإِنَّ أَكْثَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْقِلُوهَا، وَقَدِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا. وَقَالَ الْيَهُودُ فِي الْمَسِيحِ: لَوْلَا أَنَّهُ رَئِيسُ الشَّيَاطِينِ لَمَا أَخْرَجَ الشَّيْطَانَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَقَالُوا: إِنَّ إِبْلِيسَ أَوْ بَعْلَزْبُولَ يَفْعَلُ أَكْبَرَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَقَدْ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ سَحَابَةً وَاحِدَةً فِي إِبَّانِ الْقَيْظِ قَدْ مَطَرَتْ عَسْكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ عِنْدَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّنَا مُطِرْنَا بِتَأْثِيرِ النَّوْءِ لَا بِدُعَائِهِ.
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِنَّمَا خَضَعَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ لِمَا لَا يَعْقِلُونَ لَهُ سَبَبًا، وَقَدِ انْطَوَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ فَالْآتِي بِهِ مَظْهَرٌ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْخَالِقَ نَفْسَهُ وَكَانَ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ يَخْضَعُ مِثْلَ هَذَا الْخُضُوعِ نَفْسِهِ لِلسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ وَالدَّجَّالِينَ وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ.
وَقَدْ نَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ عليه السلام أَنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ
وَيُعْطَوْنَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يَضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا (مَتَّى 24: 24) وَقَدْ ذَكَرَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْهُمْ وَأَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْهُمُ الْقَادْيَانِيُّ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ مُسْلِمِي الْهِنْدِ، وَتَذْكُرُ صُحُفُ الْأَخْبَارِ ظُهُورَ هِنْدِيٍّ آخَرَ يُرِيدُ إِظْهَارَ عَجَائِبِهِ فِي أَمْرِيكَا فِي هَذَا الْعَامِ وَنَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ:((الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ مَقْبُولًا فِي وَطَنِهِ)) وَجَعَلَ الْقَاعِدَةَ لِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ فِي النَّاسِ لَا الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ فَقَالَ: ((مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ)) وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدَهُ - وَلَا قَبْلَهُ - نَبِيٌّ كَانَتْ ثِمَارُهُ الطَّيِّبَةُ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ كَثِمَارِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (16: 12 إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ، وَأَمَّا مَتَّى جَاءَ ذَلِكَ (أَيِ الْبَارْقَلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ) إِلَخْ وَمَا جَاءَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ أَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ فِي الدِّينِ مِنْ تَوْحِيدٍ وَتَشْرِيعٍ وَحِكْمَةٍ وَتَأْدِيبٍ غَيْرَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ.
وَمَنِ اسْتَقْرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ أَكْثَرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَجَائِبِ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، وَرَأَى الْجَمِيعَ يَنْقُلُونَ مِنْهَا عَنْ مُعْتَقِدِيهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ أَكْثَرَ مِمَّا نَقَلُوا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا مِنَ الْخُرَافِيِّينَ.
ثُبُوتُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِهَا وَإِثْبَاتِهَا لِغَيْرِهَا:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَدْ ثَبَتَتْ بِنَفْسِهَا، أَيْ بِالْبُرْهَانِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ لَا بِالْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ قَائِمٌ مَاثِلٌ لِلْعُقُولِ وَالْحَوَاسِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ آيَاتِ النَّبِيِّينَ السَّابِقِينَ إِلَّا بِثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَالْحُجَّةُ الْوَحِيدَةُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الطَّوْرِ الْعِلْمِيِّ الِاسْتِقْلَالِيِّ مِنْ أَطْوَارِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ هُوَ شَهَادَتُهُ لَهَا. فَإِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي نَقَلَتْهَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عَزْوِهَا إِلَى مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ ; إِذْ لَا يُوجَدُ نُسَخٌ مِنْهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِاللُّغَاتِ الَّتِي كَتَبُوهَا بِهَا لَا تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا كَتَبُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَتَنَاقُضِهِ وَتَعَارُضِهِ، وَلَا إِثْبَاتُ صِحَّةِ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ بِهَا، كَمَا قُلْنَا آنِفًا وَبَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ مِرَارًا.
الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ بِنَصِّهِ الْحَرْفِيِّ تَوَاتُرًا عَمَّنْ جَاءَ بِهِ بِطَرِيقَتَيِ
الْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ مَعًا هُوَ الْقُرْآنُ، وَالنَّبِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ تَارِيخُهُ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّصِلَةِ الْأَسَانِيدِ حِفْظًا وَكِنَايَةً هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَالدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ أَنْ يَعْقِلُوهُ وَيَبْنُوا عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَأَمَّا خُلَاصَةُ مَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ لِثُبُوتِ قَضَايَاهُ الْإِجْمَالِيَّةِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، فَهُوَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي جَمِيعِ أُمَمِ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ
دُعَاةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَى تَرْكِ الشُّرُورِ وَالرَّذَائِلِ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِيهِمْ حُكَمَاءُ يَبْنُونَ إِرْشَادَهُمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيَضُرُّهُمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ - وَوُجِدَ فِي جَمِيعِ مَا نُقِلَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ أُمُورٌ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ وَلِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَأُمُورٌ خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَبِزَمَانِهِمْ، وَخُرَافَاتٌ يُنْكِرُهَا الْعَقْلُ وَيَنْقُضُهَا الْعِلْمُ.
وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيُّهُ هُوَ الدِّينَ الْوَحِيدَ الَّذِي عُرِفَتْ حَقِيقَتُهُ وَتَارِيخُهُ بِالتَّفْصِيلِ فَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا شُبْهَةَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَادِّيِّينَ وَمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي شَهَادَتِهِمُ الْإِجْمَالِيَّةِ لَهُ، تَمْهِيدًا لِدَحْضِ الشُّبْهَةِ، وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ، فَنَقُولُ:
(دَرْسُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ لِلسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَشَهَادَتُهُمْ بِصِدْقِهِ صلى الله عليه وسلم)
دَرَسَ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ تَارِيخَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي النَّقْدِ وَالتَّحْلِيلِ، وَدَرَسُوا السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَفَلَوْهَا فَلْيًا وَنَقَشُوهَا بِالْمَنَاقِيشِ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ وَقَرَءُوا مَا تَرْجَمَهُ بِهِ أَقْوَامُهُمْ، وَكَانُوا عَلَى عِلْمٍ مُحِيطٍ بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَتَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا الدِّيَانَتَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبِمَا كَتَبَهُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْكَنِيسَةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ آنِفًا، فَخَرَجُوا مِنْ هَذِهِ الدُّرُوسِ كُلِّهَا بِالنَّتِيجَةِ الْآتِيَةِ:
(إِنَّ مُحَمَّدًا كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، كَامِلَ الْعَقْلِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، صَادِقَ الْحَدِيثِ، عَفِيفَ النَّفْسِ، قَنُوعًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، غَيْرَ طَمُوعٍ بِالْمَالِ وَلَا جَنُوحٍ إِلَى الْمُلْكِ، وَلَا يُعْنَى بِمَا كَانَ يُعْنَى بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْفَخْرِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي تَحْبِيرِ الْخُطَبِ وَقَرْضِ الشِّعْرِ، وَكَانَ يَمْقُتُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَيَحْتَقِرُ مَا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ وَبِمَا ثَبَتَ مِنْ سِيرَتِهِ وَيَقِينِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سِنِّهِ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ، وَإِقْرَائِهِ إِيَّاهُ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْبَائِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ قَوْمِهِ فَسَائِرِ النَّاسِ) .
وَزَادَهُمْ ثِقَةً بِصِدْقِهِ أَنْ كَانَ أَوَّلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِهِ وَاهْتِدَاءً بِنُبُوَّتِهِ أَعْلَمَهُمْ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ، وَأَوَّلُهُمْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّبْلِ وَالْفَضِيلَةِ، وَمَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَلْحَقَ بِوَالِدِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَيَكُونَ مَعَهُمْ حُرًّا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَرَبِ حُرِّيَّةً وَاسْتِقْلَالًا فِي الرَّأْيِ وَلَا سِيَّمَا أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِأَنَّ لِلْبَشَرِ أَرْوَاحًا خَالِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَدْ آمَنُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى عِلْمٍ وَبُرْهَانٍ، وَهُمْ يَزِيدُونَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، بِقَدْرِ مَا يُتَاحُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَوِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي
لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا، وَبِتَصْوِيرِهَا بِالصُّورَةِ الَّتِي يَقْبَلُهَا الْعَقْلُ، الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِمَا وَرَاءَ الْمَادَّةِ أَوِ الطَّبِيعَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
قَدَحُوا زِنَادَ الْفِكْرِ، وَاسْتَوَرُوا بِهِ نَظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفَةِ، فَلَاحَ لَهُمْ مِنْهُ سَقْطٌ أَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهِ الضَّئِيلِ الصُّورَةَ الْخَيَالِيَّةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا الْأُسْتَاذُ مُونْتِيِهْ فِي عِبَارَتِهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْهُ آنِفًا وَفَصَّلَهَا إِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ وَغَيْرُهُ بِمَا نَشْرَحُهُ هَاهُنَا.
(شُبْهَةُ مُنْكِرِي عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ)
(وَتَصْوِيرُهُمْ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)
خُلَاصَةُ رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ أَنَّ الْوَحْيَ إِلْهَامٌ يَفِيضُ مِنْ نَفْسِ النَّبِيِّ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ الْعَالِيَةَ، وَسَرِيرَتَهُ الطَّاهِرَةَ، وَقُوَّةَ إِيمَانِهِ بِاللهِ وَبِوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ مَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةٍ وَثَنِيَّةٍ، وَتَقَالِيدَ وِرَاثِيَّةٍ، يَكُونُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يَتَجَلَّى فِي ذِهْنِهِ وَيُحْدِثُ فِي عَقْلِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ، فَيَتَصَوَّرُ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ إِرْشَادًا إِلَهِيًّا نَازِلًا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، أَوْ يَتَمَثَّلُ لَهُ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَدْ يَسْمَعُهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْيَقَظَةِ
كَمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْوَحْيِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْ كَلَامٍ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَوْ مَلَكٌ أَلْقَاهُ عَلَى سَمْعِهِ فَهُوَ خَبَرٌ صَادِقٌ عِنْدَهُ.
يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيُّونَ: نَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ عَمَّا رَأَى وَسَمِعَ، وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ مَنْبَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ جَاءَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ; فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مَا يَنْفِيهِ وَيُلْحِقُهُ بِالْمُحَالِ، وَإِنَّمَا نُفَسِّرُ الظَّوَاهِرَ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ بِمَا عَرَفْنَا وَثَبَتَ عِنْدَنَا دُونَ مَا لَمْ يَثْبُتْ.
وَيَضْرِبُونَ مَثَلًا لِهَذَا الْوَحْيِ قِصَّةَ جَانْ دَارْكِ الْفَتَاةِ الْإِفْرَنْسِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَتِ الْكَنِيسَةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ قَدَاسَتَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا بِزَمَنٍ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الَّذِي يُصَوِّرُونَ بِهِ ظَاهِرَةَ الْوَحْيِ قَدْ سَرَتْ شُبْهَتُهُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُرْتَابِينَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ فِي نَظَرِيَّاتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ أَوْ يَقْتَنِعُونَ بِهَا.
وَإِنَّنِي أَفْتَتِحُ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ بِالْكَلَامِ عَلَى جَانْ دَارْكْ فَقَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ سُؤَالٌ عَنْهَا نَشَرْتُهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ فِي صَفْحَةِ 788 مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ 1321 هـ) وَهَذَا نَصُّهُ.
شُبْهَةٌ عَلَى الْوَحْيِ
حَضْرَةَ الْأُسْتَاذِ الرَّشِيدِ
عَرَضَتْ لِي شُبَهَاتٌ فِي وُقُوعِ الْوَحْيِ (وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ) فَعَمَدْتُ إِلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ - حَيْثُ وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَيْهَا - وَقَرَأْتُ فِي بَابَيْ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْوَحْيِ) وَ (إِمْكَانِ الْوَحْيِ) فَوَجَدْتُ الْكَلَامَ وَجِيهًا مَعْقُولًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّيْءِ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ، وَكَذَا إِمْكَانُهُ وَعَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ. ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدُ مِنْ أَنَّ حَالَةَ النَّبِيِّ وَسُلُوكَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ وَبِوُقُوعِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ دَلِيلُ نُبُوَّتِهِ وَتَأْيِيدُ بَعْثَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ (كَوْنُ) النَّبِيِّ حَمِيدَ السِّيرَةِ فِي عَشِيرَتِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَتِهِ - أَعْنِي مُعْتَقِدًا فِي نَفْسِهِ - سَبَبًا فِي نُهُوضِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الِاعْتِقَادِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.
وَلَقَدْ حَدَثَ بِفَرَنْسَا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ إِذْ كَانَتْ مَقْهُورَةً لِلْإِنْكِلِيزِ
أَنَّ بِنْتًا تُدْعَى (جَانْ دَارْكْ) مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ سِيرَةً وَأَسْلَمِهِنَّ نِيَّةً اعْتَقَدَتْ وَهِيَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِهَا بَعِيدَةً عَنِ التَّكَالِيفِ السِّيَاسِيَّةِ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِإِنْقَاذِ وَطَنِهَا وَدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَصَارَتْ تَسْمَعُ صَوْتَ الْوَحْيِ فَأَخْلَصَتْ فِي الدَّعْوَةِ لِلْقِتَالِ، وَتَوَصَّلَتْ بِصِدْقِ إِرَادَتِهَا إِلَى رِئَاسَةِ جَيْشٍ صَغِيرٍ وَغَلَبَتْ بِهِ الْعَدُوَّ فِعْلًا، ثُمَّ مَاتَتْ غِبَّ نُصْرَتِهَا مَوْتَةَ الْأَبْطَالِ مِنَ الرِّجَالِ، إِذْ خَذَلَهَا قَوْمُهَا، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ عَدُوِّهَا فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ حَيَّةً، فَذَهَبَتْ تَارِكَةً فِي صَحَائِفِ التَّارِيخِ اسْمًا يَعْبَقُ نَشْرُهُ وَتَضُوعُ رَيَّاهُ، وَهِيَ الْآنَ مَوْضِعُ إِجْلَالِ الْقَوْمِ وَإِعْظَامِهِمْ، فَلَقَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمُ النَّهْضَةُ بَعْدَهَا وَجَرَوْا فِي الْعِلْمِ وَالرُّقِيِّ بَعِيدًا.
فَهَلْ نَجْزِمُ لِذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْبِنْتَ نَبِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ؟ ؟ رُبَّمَا تَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ عَمَلَهَا لَا يُذْكَرُ مُقَارَنًا بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا وَصَلَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِهِمْ، فَأَقُولُ: هَلْ هُنَاكَ مِنْ مِيزَانٍ نَزِنُ بِهِ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ لِنَعْلَمَ إِنْ كَانَتْ وَصَلَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا أَنْ نُصَدِّقَ دَعْوَةَ صَاحِبِهَا؟ وَهَلْ لَوْ سَاعَدَتِ الصُّدَفُ (كَذَا) رَجُلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ النَّاسِ فِعْلًا وَأَبْقَاهُمْ أَثَرًا وَاعْتَقَدَ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ لِوَهْمٍ قَامَ (عِنْدَهُ) يُفْضِي بِنَا ذَلِكَ إِلَى التَّيَقُّنِ مِنْ رِسَالَتِهِ؟
أَظُنُّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُضَافًا لِغَيْرِهِ يَدْعُو إِلَى التَّرْجِيحِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ أَبَدًا. عَلَى أَنَّنِي أَنْتَظِرُ أَنْ تَجِدُوا فِي قَوْلِي هَذَا خَطَأً تُقْنِعُونِي بِهِ أَوْ تَزِيدُونِي إِيضَاحًا يَنْكَشِفُ بِهِ الْحِجَابُ وَتَنَالُونَ بِهِ الثَّوَابَ. هَذَا وَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ فِئَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَفَّظُونَ فِي الْكِتْمَانِ، وَيَسْأَلُونَ الْكُتُبَ خَشْيَةَ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ فِي السُّؤَالِ عَارًا، وَكُلُّ عَقْلٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَيَزِلُّ وَيَسْتَقِيمُ. (أَحَدُ قُرَّائِكُمْ) .
(جَوَابُ الْمَنَارِ)
لَقَدْ سَرَّنَا مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يُذْعِنْ لَهَا تَمَامَ الْإِذْعَانِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِي تَعَدِّي حُدُودِ الدِّينِ إِلَى فَضَاءِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الْأَرْوَاحَ وَالْأَجْسَامَ، بَلْ أَطَاعَ شُعُورَ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَلَجَأَ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ السُّؤَالِ مِمَّنْ يُظَنُّ فِيهِمُ الْعِلْمُ بِمَا يَكْشِفُ الشُّبْهَةَ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَنْصَرِفُونَ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ أَوَّلِ قَذْعَةٍ مِنَ الشُّبَهِ تَلُوحُ فِي فَضَاءِ أَذْهَانِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شَبُّوا عَلَى حُبِّ التَّمَتُّعِ وَالِانْغِمَاسِ فِي اللَّذَّةِ، وَيَرَوْنَ الدِّينَ صَادًّا لَهُمْ عَنِ
الِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهَا، فَهُمْ يُحَاوِلُونَ إِمَاتَةَ شُعُورِهِ الْفِطْرِيِّ، كَمَا أَمَاتَ النُّشُوءُ فِي الْجَهْلِ بُرْهَانَهُ الْكَسْبِيَّ.
أَرَى السَّائِلَ نَظَرَ مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَوَعَاهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدَقِّقِ النَّظَرَ فِي الْمَقَاصِدِ وَالنَّتَائِجِ ; لِذَلِكَ نَرَاهُ مُسَلِّمًا بِالْمُقَدَّمَاتِ دُونَ النَّتِيجَةِ مَعَ اللُّزُومِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا هُوَ عَادَ إِلَى مَبْحَثِ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الرِّسَالَةِ) وَتَدَبَّرَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَأَنَّهُ أَقَامَ الْكَوْنَ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّظَامِ الْكَامِلِ فَإِنَّنِي أَرْجُو لَهُ أَنْ يَقْتَنِعَ. ثُمَّ إِنَّنِي آنَسْتُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ مَبْحَثَ (وُقُوعِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) أَوْ لَعَلَّهُ قَرَأَهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبُرْهَانَ عَلَى نَفْسِ الرِّسَالَةِ وَيَبْنِي الشُّبْهَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَنَاهَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَهِيَ الْقَوْلُ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الرُّسُلِ عليهم السلام. وَإِنَّنِي أَكْشِفُ لَهُ شُبْهَتَهُ أَوَّلًا فَأُبَيِّنُ أَنَّهَا لَمْ تُصِبْ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَأْيِي فِي الْمَوْضُوعِ.
إِنَّ (جَانْ دَارْكْ) الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا بِوَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَقُمْ بِدَعْوَةٍ إِلَى دِينٍ أَوْ مَذْهَبٍ تَدَّعِي أَنَّ فِيهِ سَعَادَةَ الْبَشَرِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَمْ تَأْتِ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَلَا عِلْمِيَّةٍ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ تَتَحَدَّى بِهَا النَّاسَ لِيُؤْمِنُوا بِهَا. وَإِنَّمَا كَانَتْ فَتَاةً ذَاتَ وِجْدَانٍ شَرِيفٍ هَاجَهُ شُعُورُ الدِّينِ وَحَرَّكَتْهُ مُزْعِجَاتُ السِّيَاسَةِ، فَتَحَرَّكَ، فَنَفَرَ، فَصَادَفَ مُسَاعَدَةً مِنَ الْحُكُومَةِ، وَاسْتِعْدَادًا مِنَ الْأُمَّةِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَكَانَ التَّحَمُّسُ الَّذِي حَرَّكَتْهُ سَبَبًا لِلْحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ عَلَى الْعَدْوِ وَخِذْلَانِهِ. وَمَا أَسْهَلَ تَهْيِيجَ حَمَاسَةِ أَهْلِ فَرَنْسَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَبِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، فَإِنَّ نَابِلْيُونَ الْأَوَّلَ كَانَ يَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَوْتِ مُخْتَارِينَ بِكَلِمَةٍ شِعْرِيَّةٍ يَقُولُهَا كَكَلِمَتِهِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْأَهْرَامِ.
وَأُذَكِّرُ السَّائِلَ الْفَطِنَ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقِ الصَّوَابَ فِي إِبْعَادِ الْفَتَاةِ عَنِ السِّيَاسَةِ وَمَذَاهِبِهَا فَقَدْ جَاءَ فِي تَرْجَمَتِهَا مِنْ (دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْبُسْتَانِيِّ) مَا نَصُّهُ:
((كَانَتْ مُتَعَوِّدَةً الشُّغْلَ خَارِجَ الْبَيْتِ كَرَعْيِ الْمَوَاشِي وَرُكُوبِ الْخَيْلِ إِلَى الْعَيْنِ وَمِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي جِوَارِ دُومَرْمَى (أَيْ بَلَدِهَا) مُتَمَسِّكِينَ بِالْخُرَافَاتِ، وَيَمِيلُونَ
إِلَى حِزْبِ أُورْلِيَانْ فِي الِانْقِسَامَاتِ الَّتِي مَزَّقَتْ مَمْلَكَةَ فَرَنْسَا، وَكَانَتْ جَانْ
تَشْتَرِكُ فِي الْهِيَاجِ السِّيَاسِيِّ وَالْحَمَاسَةِ الدِّينِيَّةِ. وَكَانَتْ كَثِيرَةَ التَّخَيُّلِ وَالْوَرَعِ تُحِبُّ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي قِصَصِ الْعَذْرَاءِ وَعَلَى الْأَكْثَرِ فِي نُبُوَّةٍ كَانَتْ شَائِعَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهِيَ إِحْدَى الْعَذَارَى سَتُخَلِّصُ فَرَنْسَا مِنْ أَعْدَائِهَا. وَلَمَّا كَانَ عُمُرُهَا 13 سَنَةً كَانَتْ تَعْتَقِدُ بِالظُّهُورَاتِ الْفَائِقَةِ الطَّبِيعَةَ وَتَتَكَلَّمُ عَنْ أَصْوَاتٍ كَانَتْ تَسْمَعُهَا وَرُؤًى كَانَتْ تَرَاهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبِضْعِ سِنِينَ خُيِّلَ لَهَا أَنَّهَا قَدْ دُعِيَتْ لِتُخَلِّصَ بِلَادَهَا وَتُتَوَّجَ مُلْكَهَا. ثُمَّ أَوْقَعَ (الْبَرِغْنِيُورُ) تَعَدِّيًا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي وُلِدَتْ فِيهَا فَقَوَّى ذَلِكَ اعْتِقَادَهَا بِصِحَّةِ مَا خُيِّلَ لَهَا)) .
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَوَسُّلَهَا إِلَى الْحُكَّامِ وَتَعْيِينَهَا قَائِدَةً لِجَيْشِ مَلِكِهَا وَهُجُومَهَا بِعَشَرَةِ آلَافِ جُنْدِيٍّ ضُبَّاطُهُمْ مَلَكِيُّونَ عَلَى عَسْكَرِ الْإِنْكِلِيزِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاصِرُونَ أُورْلِيَانْ، وَأَنَّهَا دَفَعَتْهُمْ عَنْهَا حَتَّى رَفَعُوا الْحِصَارَ فِي مُدَّةِ أُسْبُوعٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ 1429 م ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ زَالَتْ خَيَالَاتُهَا الْحَمَاسِيَّةُ، وَلِذَلِكَ هُوجِمَتْ فِي السَّنَةِ التَّالِيَةِ سَنَةِ 1430 م فَانْكَسَرَتْ وَجُرِحَتْ وَأُسِرَتْ.
فَمِنْ مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ تَهَيُّجٌ عَصَبِيٌّ سَبَّبَهُ التَّأَلُّمُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا مَنْ نَشَأَتْ بَيْنَهُمْ مَعَ مَعُونَةِ التَّحَمُّسِ الدِّينِيِّ وَالِاعْتِقَادِ بِالْخُرَافَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ ذَائِعَةً فِي زَمَنِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ عَادِيٌّ مَعْرُوفُ السَّبَبِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بَاسِمِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ كَمُحَمَّدِ أَحْمَدَ السُّودَانِيِّ وَالْبَابِ (وَكَذَا الْبَهَاءُ وَالْقَادْيانِيُّ) بَلِ الشُّبْهَةُ فِي قِصَّتِهَا أَبْعَدُ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي قِصَّةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُ النَّهْضَةِ مُتَقَارِبَةً فَإِنَّ هَذَيْنِ كَانَا كَأَمْثَالِهِمَا يَدْعُوَانِ إِلَى شَيْءٍ (مُلَفَّقٍ) يَزْعُمَانِ أَنَّهُ إِصْلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ.
أَيْنَ هَذِهِ النَّوْبَةُ الْعَصَبِيَّةُ الْقَصِيرَةُ الزَّمَنِ، الْمَعْرُوفَةُ السَّبَبِ، الَّتِي لَا دَعْوَةَ فِيهَا إِلَى عِلْمٍ وَلَا إِصْلَاحٍ اجْتِمَاعِيٍّ إِلَّا الْمُدَافَعَةَ عَنِ الْوَطَنِ عِنْدَ الضِّيقِ الَّتِي هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، الَّتِي لَا حُجَّةَ تَعْمِدُهَا، وَلَا مُعْجِزَةَ تُؤَيِّدُهَا، الَّتِي اشْتَعَلَتْ بِنَفْخَةٍ وَطَفِئَتْ بِنَفْخَةٍ؟ أَيْنَ هِيَ مِنْ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهَا حَاجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ حَاجَاتِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، طَلَبَهَا هَذَا النَّوْعُ بِلِسَانِ اسْتِعْدَادِهِ فَوَهَبَهَا لَهُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ:(الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(20: 50) فَسَارَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ إِلَى كَمَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَدْنَى مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْحَيَّةِ النَّامِيَةِ بَلْ أَرْقَى وَأَعْلَى. وَأَيْنَ دَلِيلُهَا مِنْ أَدِلَّةِ
النُّبُوَّةِ وَأَيْنَ أَثَرُهَا مِنْ أَثَرِ النُّبُوَّةِ؟ إِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي ارْتَقَتْ بِمَا أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ تَعَالِيمُ الْوَحْيِ إِنَّمَا ارْتَقَتْ بِطَبِيعَةِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ وَتَأْثِيرِهِ، وَإِنَّ فَرَنْسَا لَمْ تَرْتَقِ بِإِرْشَادِ (جَانْ دَارْكْ) وَتَعْلِيمِهَا، وَإِنَّمَا مِثْلُهَا مِثْلُ قَائِدٍ انْتَصَرَ فِي وَاقِعَةٍ فَاصِلَةٍ بِشَجَاعَتِهِ وَبِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ، وَاسْتَوْلَتْ أُمَّتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى بِلَادٍ رَقَّتْهَا بِعُلُومِ عُلَمَائِهَا وَحِكْمَةِ حُكَمَائِهَا وَصُنْعِ صُنَّاعِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْقَائِدُ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَمْ يُرْشَدْ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ
إِنَّ ذَلِكَ الْقَائِدَ هُوَ الَّذِي أَصْلَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَعَمَّرَهَا وَمَدَّنَهَا، وَإِنْ عُدَّ سَبَبًا بَعِيدًا فَهُوَ شَبِيهٌ بِالسَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ، كَهُبُوبِ رِيحٍ تُهَيِّجُ الْبَحْرَ فَيَغْرَقُ الْأُسْطُولُ وَتَنْتَصِرُ الْأُمَّةُ.
أَيْنَ حَالُ تِلْكَ الْفَتَاةِ الَّتِي كَانَتْ كَبَارِقَةٍ خَفَّتْ (أَيْ ظَهَرَتْ وَأَوْمَضَتْ) ثُمَّ خَفِيَتْ، وَصَيْحَةٍ عَلَتْ وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ خَفَتَتْ، مَنْ حَالِ شَمْسِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أَشْرَقَتْ فَأَنَارَتِ الْأَرْجَاءَ، وَلَا يَزَالُ نُورُهَا وَلَنْ يُزَالَ مُتَأَلِّقَ السَّنَاءِ، أُمِّيٌّ يَتِيمٌ قَضَى سِنَّ الصِّبَا وَسِنَّ الشَّبَابِ هَادِئًا سَاكِنًا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ عِلْمٌ وَلَا تَخَيُّلٌ، وَلَا وَهْمٌ دِينِيٌّ، وَلَا شِعْرٌ، وَلَا خَطَابَةٌ، ثُمَّ صَاحَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ بِالْعَالَمِ كُلِّهِ صَيْحَةً ((إِنَّكُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَاتَّبِعُونِ أَهْدِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) فَأَصْلَحَ وَهُوَ الْآدَمِيُّ أَدْيَانَ الْبَشَرِ عَقَائِدَهَا وَآدَابَهَا وَشَرَائِعَهَا، وَقَلَبَ نِظَامَ الْأَرْضِ فَدَخَلَتْ بِتَعْلِيمِهِ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ عَظِيمٌ إِذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ الْعَاقِلُ.
لَا سَعَةَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ لِتَقْرِيرِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا أُحِيلَ السَّائِلَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي بَقِيَّةِ بَحْثِ النُّبُوَّةِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ وَمُرَاجَعَةِ مَا كَتَبْنَاهُ أَيْضًا مِنَ الْأَمَالِي الدِّينِيَّةِ فِي الْمَنَارِ لَا سِيَّمَا الدَّرْسِ الَّذِي عُنْوَانُهُ (الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، عَلَى صِدْقِ النُّبُوَّاتِ) وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ الْمَثَلُ ((كُلُّ صَيْدٍ فِي جَوْفِ الْفَرَا)) فَإِنْ بَقِيَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِزِيَارَتِنَا لِأَجْلِ الْمُذَاكَرَةِ الشِّفَاهِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ، فَإِنَّ الْمُشَافَهَةَ أَقْوَى بَيَانًا، وَأَنْصَعُ بُرْهَانًا، وَنَحْنُ نُعَاهِدُهُ بِأَنْ نَكْتُمَ أَمْرَهُ وَإِنْ أَبَى فَلْيَكْتُبْ إِلَيْنَا مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا فِي الرِّسَالَةِ وَالْأَمَالِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ النُّبُوَّةِ بِالْفِعْلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نُسْهِبُ فِي الْجَوَابِ بِمَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُقْنِعًا، عَلَى أَنَّ الْمُشَافَهَةَ أَوْلَى كَمَا هُوَ مَعْقُولٌ وَكَمَا ثَبَتَ لَنَا بِالتَّجْرِبَةِ مَعَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْتَبِهِينَ وَالْمُرْتَابِينَ اهـ.
هَذَا وَإِنَّ مَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْوَحْيِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ فَهْمَهُ حَقَّ الْفَهْمِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ وَيُذْعِنَ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ لَازِمٌ عَقْلِيٌّ لِعِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَكَوْنِهِ هُوَ:(الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(20: 50) وَلَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ نَصِيبًا مِنْ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَحِكْمَةِ الْوُجُودِ وَسُنَنِهِ وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَنَصِيبًا آخَرَ مِنْ بَلَاغَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَإِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَرِسَالَتَهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِمَا دُونَ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهُوَ مَا قَهَرَ عُقُولَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى تَصْدِيقِ دَعْوَتِهِ. وَحَمَلَ الْمَادِّيِّينَ عَلَى تَصْوِيرِهَا بِمَا نَبْسُطُهُ فِيمَا يَأْتِي وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ بُطْلَانِهِ.
تَفْصِيلُ الشُّبْهَةِ وَدَحْضُهَا بِالْحُجَّةِ
قَدْ فَصَّلَ إِمِيلْ دِرِمِنْغَامِ الشُّبْهَةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا مُونْتِيِهْ بِمَا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ كُتَّابِ الْإِفْرِنْجِ حَتَّى اغْتَرَّ بِكَلَامِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنْ كَانَ حَكِيمُنَا السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ قَالَ لِبَعْضِ مُجَادِلِي النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا مِنْ رِقَاعِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَأَلْبَسْتُمُوهَا لِلْمَسِيحِ عليه السلام فَنَحْنُ نَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا آخَرَ مِمَّا فَهِمْتُمْ مِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ نُصُوصِهِ وَحَاوَلْتُمْ خَلْعَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّنِي أَشْرَحُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِأَوْضَحِ مِمَّا كَتَبَهُ دِرِمِنْغَامْ وَمَا بَلَغَنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَكُرُّ عَلَيْهَا بِالنَّقْضِ وَالدَّحْضِ فَأَقُولُ:
(1)
قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ لَقِيَ بَحِيرَى الرَّاهِبَ فِي مَدِينَةِ بُصْرَى بِالشَّامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ نَسْطُورِيًّا مِنْ أَتْبَاعِ آرْيُوسَ فِي التَّوْحِيدِ وَيُنْكِرُ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ وَعَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ مِنْهُ عَقِيدَتَهُ، وَقَالُوا فِي بَحِيرَى أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا فَلَكِيًّا مُنَجِّمًا وَحَاسِبًا سَاحِرًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ ظَهَرَ لَهُ وَأَنْبَأَهُ بِأَنْ سَيَكُونُ هَادِيًا لِآلِ إِسْمَاعِيلَ إِلَى الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ.
بَلْ سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِمُحَمَّدٍ وَمُصَاحِبًا لَهُ بَعْدَ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَا حَرَّمَ الْخَمْرَ إِلَّا لِأَنَّهُ قَتَلَ أُسْتَاذَهُ بَحِيرَى وَهُوَ سَكْرَانُ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الِافْتِرَاءِ وَالْبُهْتَانِ. وَكُلُّ مَا عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُوَاةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ
وَقِيلَ 12 سَنَةً رَآهُ هَذَا الرَّاهِبُ مَعَ قُرَيْشٍ وَرَأَى سَحَابَةً تُظَلِّلُهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَذَكَرَ لِعَمِّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ وَحَذَّرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ - وَفِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ إِلَّا رِوَايَةً لِلتِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا اسْمُ بَحِيرَى وَفِيهَا غَلَطٌ فِي الْمَتْنِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ مِنْ بَحِيرَى شَيْئًا مِنْ عَقِيدَتِهِ أَوْ دِينِهِ.
(2)
قَالُوا إِنَّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ كَانَ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ الْعُلَمَاءِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَدَ أَقَارِبِ خَدِيجَةَ - يُوهِمُونَ الْقَارِئَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَالَّذِي صَحَّ مِنْ خَبَرِ وَرَقَةَ هَذَا هُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ خَدِيجَةَ أَخَذَتْهُ صلى الله عليه وسلم عَقِبَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهَا بِرُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي حِرَاءَ إِلَى وَرَقَةَ هَذَا وَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَهُ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ وَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ (وَسَأَذْكُرُ نَصَّ الْحَدِيثِ فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ) وَقَدِ اسْتَقْصَى الْمُحَدِّثُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ كُلَّ مَا عُرِفَ عَنْ وَرَقَةَ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ وَمِمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَنَدٌ كَدَأْبِهِمْ فِي كُلِّ مَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَرَفَ عَنْهُ دَعْوَةً إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ كِتَابَةً فِيهَا.
وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ عَلِمَ مِنْ خَدِيجَةَ خَبَرَ مُحَمَّدٍ: إِنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ عَاشَ حَتَّى رَأَى بِلَالًا يُعَذِّبُهُ
الْمُشْرِكُونَ لِيَرْجِعَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ أَعْمَى وَلَمْ يَنْشَبْ أَيْ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، وَقَدْ كَانَ تَعْذِيبُ بِلَالٍ بَعْدَ إِظْهَارِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ هَذَا بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِثَلَاثِ سِنِينَ - وَإِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ قَدْ غَلِطَ فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ خَبَرِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ لِاخْتِلَاطِ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهِ فِيهَا وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا دُوِّنَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا كَانَ هَمُّ الْمُحَدِّثِينَ فِي خَبَرِ وَرَقَةَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَانَ صَحَابِيًّا أَمْ لَا، فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ هُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْبَعْثَةِ مُؤْمِنًا بِهِ، وَلَوْ بَلَغَهُمْ عَنْهُ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ بِالتَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ لَنَقَلُوهُ.
(3)
ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنِ انْتِشَارِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَتَنَصُّرِ بَعْضِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَشُعَرَائِهِمْ كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَيَادِيِّ وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَإِشَادَةِ هَؤُلَاءِ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَكُتُبِ النُّبُوَّاتِ فِي تَفْسِيرِ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ)(157) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
فَأَمَّا الْقُسُّ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَآهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَوْرَقَ، بِكَلَامٍ لَهُ مُونِقٍ، قَالَ فِيهِ: إِنَّ لِلَّهِ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَنَبِيًّا قَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ، وَأَدْرَكُكُمْ أَوَانُهُ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَهُ فَاتَّبَعَهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ - وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا ضَعِيفَةٌ، وَتَعَدُّدُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا.
وَأَمَّا أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ فَهُوَ شَاعِرٌ مَشْهُورٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اتَّفَقَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أُمَيَّةَ أَشْعَرُ ثَقِيفَ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَظَرَ الْكُتُبَ وَقَرَأَهَا وَلَبِسَ الْمُسُوحَ تَعَبُّدًا وَكَانَ يَذْكُرُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْحَنِيفِيَّةَ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَتَجَنَّبَ الْأَوْثَانَ وَطَمِعَ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْكُتُبِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ بِالْحِجَازِ فَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَسَدَهُ فَلَمْ يُسْلِمْ. وَهُوَ الَّذِي رَثَى قَتْلَى بَدْرٍ (الْمُشْرِكِينَ) بِالْقَصِيدَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا:
مَاذَا بِبَدْرٍ وَالْعَقَنْ
…
قَلِ مِنْ مَرَازِبَةٍ جَحَاجِحْ
وَفِي الْمِرْآةِ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدِمَ الْحِجَازَ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَيُهَاجِرَ، فَعَلِمَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِيهَا فَجَدَعَ أَنْفَ نَاقَتِهِ وَشَقَّ ثَوْبَهُ وَبَكَى ; لِأَنَّ فِيهِمُ ابْنَيْ خَالِهِ وَعَادَ إِلَى الطَّائِفِ وَمَاتَ فِيهَا. وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْشَدَ الشَّرِيدَ بْنَ عَمْرٍو مِنْ شِعْرِهِ فَأَنْشَدَهُ فَقَالَ: ((كَادَ أَنْ يُسْلِمَ)) وَلَكِنَّهُ كَانَ حَنِيفِيًّا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَتَنَصَّرْ وَمِنْ شِعْرِهِ:
كُلُّ دَيْنٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللهِ
…
إِلَّا دِينَ الْحَنِيفَةِ زُورٌ
(4)
إِسْلَامُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه كَانَ فَارِسِيًّا مَجُوسِيًّا فَتَنَصَّرَ عَلَى يَدِ بَعْضِ الرُّهْبَانِ وَصَحِبَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ عُبَّادِهِمْ وَسَمِعَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ آخِرِهِمْ بِقُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى وَالْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْعَرَبِ فَقَصَدَ بِلَادَ الْعَرَبِ وَبِيعَ لِبَعْضِ يَهُودِ يَثْرِبَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَأَسْلَمَ وَكَاتَبَ سَيِّدَهُ. وَفِي قِصَّتِهِ رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا لِدِرِمِنْغَامْ وَغَيْرِهِ.
(5)
ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنْ رِحْلَةِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ وَاجْتِمَاعِهِمْ بِالنَّصَارَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كُلَّمَا مَرُّوا بِدَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَتَحَدَّثُونَ بِقُرْبِ ظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ.
(6)
زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ بِمَكَّةَ نَفْسِهَا أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَبِيدًا وَخَدَمًا لِأَنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا يَسْمَحُونَ لَهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي مَكَّةَ حَرَمِهِمُ الْمُقَدَّسِ الْخَاصِّ بِوَثَنِيَّتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ يَسْكُنُونَ فِي أَطْرَافِ مَكَّةَ ((فِي الْمَنَازِلِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْكَعْبَةِ الْمُتَاخِمَةِ لِلصَّحْرَاءِ)) ! ! وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِقِصَصٍ عَنْ دِينِهِمْ لَا تَصِلُ إِلَى مَسَامِعِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَعُظَمَائِهِمْ أَوْ مَا كَانُوا يَحْفَلُونَ بِهَا لِسَمَاعِ أَمْثَالِهَا فِي رِحْلَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ. وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ عَتَبَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ كَثْرَةَ تَكْرِيرِهِ لِمَا يَذْكُرُهُ الرُّهْبَانُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ.
فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ يَذْكُرُهَا كُتَّابُ الْإِفْرِنْجِ لِتَعْلِيلِ مَا ظَهَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ عَلَى طَرِيقِهِمْ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يُسَمُّونَهُ النَّقْدَ التَّحْلِيلِيَّ، وَيُقْرِنُونَ بِهَا مُقَدِّمَاتٍ أُخْرَى فِي وَصْفِ حَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَمَا اسْتَفَادَهُ مِنْهَا مِنْ تَأْثِيرٍ وَعِبْرَةٍ، فَنُلَخِّصُهَا مَضْمُومَةً إِلَى مَا قَبْلَهَا مَعَ الْإِلْمَامِ بِنَقْدِهَا.
(7)
قَالَ دِرِمِنْغَامْ فِي كَفَالَةِ أَبِي طَالِبٍ لِمُحَمَّدٍ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فَلَمْ يُتَحْ لَهُ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ الَّذِي بَقِيَ أُمِّيًّا طُولَ حَيَاتِهِ (يُوهِمُ الْقَارِئَ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُوسِرِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ كَأَنَّ هُنَالِكَ مَدَارِسَ يُعَلَّمُ فِيهَا النَّشْءُ بِالْأُجُورِ كَمَدَارِسِ بِلَادِ الْحَضَارَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ - ثُمَّ قَالَ) :
((وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَصْحِبُهُ وَإِيَّاهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَسِيرُ وَالْقَوَافِلَ خِلَالَ الصَّحْرَاءِ يَقْطَعُ هَذِهِ الْأَبْعَادَ الْمُتَنَائِيَةَ وَتُحَدِّقُ عَيْنَاهُ الْجَمِيلَتَانِ بِمَدْيَنَ وَوَادِي الْقُرَى وَدِيَارِ ثَمُودَ وَتَسْتَمِعُ أُذُنَاهُ الْمُرْهَفَتَانِ إِلَى حَدِيثِ الْعَرَبِ وَالْبَادِيَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ وَحَدِيثِهَا وَمَاضِي نَبَئِهَا. وَيُقَالُ إِنَّهُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الرِّحْلَاتِ إِلَى الشَّامِ الْتَقَى بِالرَّاهِبِ بَحِيرَى فِي جِوَارِ مَدِينَةِ بُصْرَى، وَأَنَّ الرَّاهِبَ رَأَى فِيهِ
عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا تَدُلُّهُ عَلَيْهِ أَنْبَاءُ كُتُبِهِ. وَفِي الشَّامِ عَرَفَ مُحَمَّدٌ أَحْبَارَ الرُّومِ وَنَصْرَانِيَّتَهُمْ وَكُتَّابَهُمْ وَمُنَاوَأَةَ الْفُرْسِ مِنْ عُبَّادِ النَّارِ لَهُمْ وَانْتِظَارَ الْوَقِيعَةِ بِهِمْ)) .
كُلُّ مَا ذَكَرَهُ دِرِمِنْغَامْ هُنَا فَهُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ خَيَالِهِ وَمُبْتَدَعَاتِ رَأْيِهِ إِلَّا مَسْأَلَةَ بَحِيرَى الرَّاهِبِ فَأَصْلُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْفَلْ بِإِثْبَاتِهَا لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مُفْتَرَيَاتِ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ فِيهَا.
فَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْهَبْ مَعَ عَمِّهِ إِلَى التِّجَارَةِ فِي الشَّامِ إِلَّا وَهُوَ طِفْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ أَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ إِتْمَامِ رِحْلَتِهِ. ثُمَّ سَافَرَ إِلَيْهَا فِي تِجَارَةِ خَدِيجَةَ وَهُوَ شَابٌّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَتَجَاوَزْ سُوقَ بُصْرَى فِي الْمَرَّتَيْنِ. وَالْقَوَافِلُ الَّتِي تَذْهَبُ إِلَى الشَّامِ لَمْ تَكُنْ تَمُرُّ بِمَدْيَنَ وَهِيَ فِي أَرْضِ سَيْنَاءَ. وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقَوَافِلُ تُضَيِّعُ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا لِلْبَحْثِ مَعَ الْعَرَبِ أَوِ الْأَعْرَابِ فِي طَرِيقِهَا عَنْ أَنْبَائِهَا وَالتَّارِيخِ الْقَدِيمِ لِبِلَادِهَا، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ تُجَّارِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْنَوْنَ بِلِقَاءِ أَحْبَارِ النَّصَارَى وَمُبَاحَثَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ لِدِرِمِنْغَامْ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي كَانَ يَشْتَغِلُ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأُمَمِ وَالتَّوَارِيخِ وَالْكُتُبِ وَالْأَدْيَانِ وَيُعْنَى بِلِقَاءِ رُؤَسَائِهَا وَالْبَحْثِ مَعَهُمْ؟ إِنَّمَا اخْتَرَعَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَعْلِيلَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ الْإِنْبَاءُ بِغَلَبِ الرُّومِ لِلْفَرَسِ كَمَا سَيَأْتِي. وَسَتَرَى مَا نُفَنِّدُ بِهِ تَعْلِيلَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَرْكِيبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا زَعَمَهُ كُلَّهُ.
(8)
ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَصْرِفُونَ مُعْظَمَ أَوْقَاتِهِمْ بَعْدَ مَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ حَرْبٍ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِاللَّذَّاتِ مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّارِيخَ يَشْهَدُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَرَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا لِفَقْرِهِ وَضِيقِ ذَاتِ يَدِهِ قَالَ:((لَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ كَانَتْ شَغِفَةً بِأَنْ تَرَى وَأَنْ تَسْمَعَ وَأَنْ تَعْرِفَ، وَكَأَنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ التَّعْلِيمِ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ أَنْدَادُهُ جَعَلَهُ أَشَدَّ لِلْمَعْرِفَةِ شَوْقًا وَبِهَا تَعَلُّقًا، كَمَا أَنَّ النَّفْسَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَجَلَّتْ مِنْ بَعْدُ آثَارُهَا، وَمَا زَالَ يَغْمُرُ الْعَالَمَ سُلْطَانُهَا، كَانَتْ فِي تَوْقِهَا إِلَى الْكَمَالِ تَرْغَبُ عَنْ هَذَا اللهْوِ الَّذِي يَطْمَحُ إِلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي مِنْ كُلِّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ لِمَنْ هَدَاهُ الْحَقُّ إِلَيْهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ عَلَيْهِ وَمَا تَحَدَّثَ الْمَوْهُوبُونَ بِهِ)) .
هَذَا الْخَبَرُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ دِرِمِنْغَامْ فَمُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ شَغُوفًا بِأَنْ يَرَى مَا يَفْعَلُهُ فُسَّاقُ قَوْمِهِ مِنْ فُسُوقٍ وَفُجُورٍ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَحَرَّى أَنْ يَعْرِفَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ سَمَرَهُمْ وَلَهْوَهُمْ إِلَّا مَرَّتَيْنِ أَلْقَى الله عَلَيْهِ النُّوَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا حَتَّى طَلَعَتِ
الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَ وَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، وَقَدْ بَطَلَ بِهَذَا مَا عَلَّلَ بِهِ الْخَبَرَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ الْمُتَضَمِّنِ لِدَسِيسَتَيْنِ (إِحْدَاهُمَا) أَنَّ أَنْدَادَهُ فِي قُرَيْشٍ كَانُوا مُتَعَلِّمِينَ وَكَانَ هُوَ مَحْرُومًا مِمَّا لُقِّنُوهُ مِنَ الْعِلْمِ وَكَانَ حِرْمَانُهُ هَذَا يَزِيدُهُ شَغَفًا بِالْبَحْثِ وَالِاسْتِطْلَاعِ (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ بِسَبَبِ هَذَا تَزْدَادُ طُمُوحًا إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي فِي جَمِيعِ مَظَاهِرِهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ، فَهَذِهِ مِدْحَةٌ غَرَضُهُ مِنْهَا تَعْلِيلُ مَا انْبَثَقَ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَسَتَرَى بُطْلَانَهُ.
(9)
ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ مَسْأَلَةَ أَبْنَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَاسِمِ وَالطَّيِّبِ وَالطَّاهِرِ وَهُوَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ وَيَقُولُ: إِنَّ تَكْنِيَتَهُ بِأَبِي الْقَاسِمِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ وَلَدٍ لَهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ وُلِدُوا فَقَدْ مَاتُوا فِي الْمَهْدِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ سَمَّاهُ الْقَاسِمَ وَكُنِّيَ بِهِ وَأَنَّهُ مَاتَ طِفْلًا، وَقِيلَ عَاشَ إِلَى أَنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ وَأَنَّ الطَّيِّبَ وَالطَّاهِرَ لَقَبَانِ لِلْقَاسِمِ. وَلَكِنَّ دِرِمِنْغَامْ قَدْ كَبَّرَ مَسْأَلَةَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ. وَبَنَى عَلَيْهَا حُكْمًا. وَأَثَارَ وَهْمًا، قَالَ بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُطِقْ عَلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الْبَنِينَ صَبْرًا.
((فَمِنْ حَقِّ الْمُؤَرِّخِ أَنْ يَجْعَلَ لِهَذَا الْحَادِثِ بَلِ الْحَوَادِثِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَصَابَتْ مُحَمَّدًا فِي بَنِيهِ مَا هِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَتْرُكَهُ فِي حَيَاتِهِ وَفِي تَفْكِيرِهِ مِنْ أَثَرٍ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِنَوْعٍ خَاصٍّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أُمِّيًّا، فَلَمْ تَكُنِ الْمُضَارَّاتُ الْجَدَلِيَّةُ (كَذَا) لِتَصْرِفَهُ عَنِ التَّأْثِيرِ بِعِبَرِ الْحَوَادِثِ وَدُرُوسِهَا، وَحَوَادِثُ أَلِيمَةٌ كَوَفَاةِ أَبْنَائِهِ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَسْتَوْقِفَ تَفْكِيرَهُ وَأَنْ تَلْفِتَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِمَا كَانَتْ خَدِيجَةُ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى أَصْنَامِ الْكَعْبَةِ وَتَنْحَرُ لِهُبَلٍ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى تُرِيدُ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْ أَلَمِ الثُّكْلِ فَلَا تُفِيدُ الْقُرْبَانُ وَلَا تُجْدِي النُّحُورُ)) .
((وَالْأَمْرُ كَانَ كَذَلِكَ لَا رَيْبَ أَنْ كَانَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ قَدْ بَدَأَتْ تَتَزَعْزَعُ فِي النُّفُوسِ تَحْتَ ضَغْطِ النَّصْرَانِيَّةِ الْآتِيَةِ مِنَ الشَّامِ مُنْحَدِرَةً إِلَيْهَا مِنَ الرُّومِ وَمِنَ الْيَمَنِ مُتَخَطِّيَةً إِلَيْهَا مِنْ خَلِيجِ الْعَرَبِ (الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ) مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ)) .
غَرَضُ دِرِمِنْغَامْ مِنْ تَكْبِيرِ الْمُصِيبَةِ بِمَوْتِ الْأَبْنَاءِ الْمَشْكُوكِ فِي وِلَادَتِهِمْ هُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُسَوِّغَةً لِمَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تَوَسُّلِ خَدِيجَةَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِالْقَرَابِينِ لِيُنْقِذُوهَا مِنْ
مَعْصِيَةِ الثُّكْلِ، ثُمَّ يَسْتَنْبِطُ مِنْ ذَلِكَ زَعْزَعَةَ إِيمَانِهَا وَإِيمَانَ بَعْلِهَا بِعِبَادَتِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبُهُ تَأْثِيرَ النَّصْرَانِيَّةِ فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، ثُمَّ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ التَّحْلِيلِيَّةِ لِتَعْلِيلِ الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَا تَبَنَّى زَيْدًا إِلَّا لِأَنَّهُ آثَرَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حُرًّا مَعَ وَالِدِهِ وَعَمِّهِ عِنْدَمَا جَاءَا مَكَّةَ لِافْتِدَائِهِ بِالْمَالِ. فَقَالَ لَهُمَا:((ادْعُوهُ فَخَيِّرُوهُ فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ فِدَاءٌ)) ثُمَّ دَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فَعَرَفَهُمَا قَالَ: ((فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ وَقَدْ رَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا)) فَقَالَ زَيْدٌ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا. أَنْتَ مِنِّي بِمَكَانِ الْأَبِ وَالْعَمِّ. فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَعَلَى أَبِيكَ وَعَمِّكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا مَا أَنَا الَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إِلَى الْحِجْرِ فَقَالَ: ((اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ)) فَلَمَّا رَأَى أَبُوهُ وَعَمُّهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمَا. فَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ.
رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَنَحْوُهُ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
هَذَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ جَزُوعًا عِنْدَ مَوْتِ وَلَدٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَانَ أَصْبَرَ الصَّابِرِينَ وَإِنَّ
خَدِيجَةَ لَمْ تَيْأَسْ - بِمَوْتِ الْقَاسِمِ - مِنَ اللهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهَا بِوَلَدٍ آخَرَ، وَلَمْ تَنْحَرْ لِلْأَصْنَامِ شَيْئًا، وَإِنَّ اللَّاتَ كَانَتْ صَخْرَةً فِي الطَّائِفِ تَعْبُدُهَا ثَقِيفُ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ، وَالْعُزَّى كَانَتْ شَجَرَةً بِبَطْنِ نَخْلَةَ تَعْبُدُهَا قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَغَطَفَانُ، وَمَنَاةَ كَانَتْ صَنَمًا فِي قُدَيْدٍ لِبَنِي هِلَالٍ وَهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ.
وَقَدْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَعِيفِ الْوَثَنِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ - وَزَعَمَ أَنَّهُ سَبَّبَهُ انْتِشَارُ النَّصْرَانِيَّةِ - جَدِيرًا بِأَنْ يَمْنَعَ خَدِيجَةَ وَهِيَ مِنْ أَعْقَلِ الْعَرَبِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً، وَأُقْرَبُهُمْ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ لِتَنْحَرَ لَهَا وَتَتَقَرَّبَ إِلَيْهَا لِتَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا عَقْلُهَا وَفِطْرَتُهَا فَأَجْدَرُ بِبَعْلِهَا الْمُصْطَفَى أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عَدُوُّ الْوَثَنِيَّةِ وَالْأَصْنَامِ مِنْ طُفُولَتِهِ كَمَا يَعْتَرِفُ دِرِمِنْغَامْ، وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُنْسِي صَاحِبَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَاهُ لَوْلَاهُ.
(10)
زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَغَلْغُلِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْجَدَ فِيهَا حَالَةً نَفْسِيَّةً أَدَّتْ إِلَى زِيَادَةِ إِمْعَانِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ التَّحَنُّثَ أَوِ التَّحَنُّفَ وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ:
(وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَجِدُ فِي التَّحَنُّثِ طُمَأْنِينَةً لِنَفْسِهِ أَنْ كَانَ لَهُ بِالْوَحْدَةِ شَغَفٌ، وَأَنْ
كَانَ يَجِدُ فِيهَا الْوَسِيلَةَ إِلَى مَا بَرِحَ شَوْقُهُ يَشْتَدُّ إِلَيْهِ مِنْ نِشْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَاسْتِلْهَامِ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ أَسْبَابِهَا فَكَانَ يَنْقَطِعُ كُلَّ رَمَضَانَ طُولَ الشَّهْرِ فِي غَارِ حِرَاءَ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ مُكْتَفِيًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الزَّادِ يُحْمَلُ إِلَيْهِ لِيَمْضِيَ أَيَّامًا بِالْغَارِ طَوِيلَةً فِي التَّأَمُّلِ وَالْعِبَادَةِ بَعِيدًا عَنْ ضَجَّةِ النَّاسِ وَضَوْضَاءِ الْحَيَاةِ)) .
وَأَقُولُ: إِنَّ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ تُفِيدُ أَنَّهُ حُبِّبَ إِلَيْهِ التَّحَنُّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ فِي الْعَامِ الَّذِي جَاءَهُ فِيهِ الْوَحْيُ وَكَانَ هُوَ يَحْمِلُ الزَّادَ وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ تَعَبُّدِهِ فِيهِ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّ سَنَةٍ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا سَيَأْتِي:
وَهَاهُنَا وَصَلَ دِرِمِنْغَامْ إِلَى آخِرِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالنَّتِيجَةِ الْمَطْلُوبَةِ لَهُ فَأَرْخَى لِخَيَالِهِ الْعِنَانَ وَنَزَعَ مِنْ جَوَادِهِ اللِّجَامَ، وَنَخَسَهُ بِالْمَهَارَةِ، فَعَدَا بِهِ سَبْحًا، وَجَمَحَ بِهِ جَمْحًا، وَقَدَحَتْ حَوَافِرُهُ لَهُ قَدْحًا، وَأَثَارَتْ لَهُ نَقْعًا، وَأَذِنَ لِشَاعِرِيَّتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ أَنْ تَصِفَ مُحَمَّدًا عِنْدَ ذَلِكَ الْغَارِ بِمَا تُحْدِثُهُ فِي نَفْسِهِ مَشَاهِدُ نُجُومِ اللَّيْلِ وَمَا تُسْعِفُهُ بِهِ شَمْسُ النَّهَارِ، وَمَا تَصَوَّرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ فِي تِلْكَ الْقُنَّةِ مِنَ الْجَبَلِ مِنْ صَحَارَى وَقِفَارٍ، وَخِيَامٍ وَآبَارٍ، وَرُعَاةٍ تَهُشُّ عَلَى غَنَمِهَا حَيْثُ لَا أَشْجَارَ، حَتَّى ذَكَرَ الْبِحَارَ عَلَى بُعْدِ الْبِحَارِ وَقَدْ أَتْقَنَ التَّخَيُّلَ الشِّعْرِيَّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ بِهِ الْوَصْفَ الْمَوْضِعِيَّ، ثُمَّ قَالَ مُصَوِّرًا لِمَا يَبْتَغِيهِ مِنْ مُشَاهَدَاتِهِ صلى الله عليه وسلم:
((وَهَذِهِ النُّجُومُ فِي لَيَالِي صَيْفِ الصَّحْرَاءِ كَثِيرَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرِيقِ حَتَّى لَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْمَعَ بَصِيصَ ضَوْئِهَا وَكَأَنَّهُ نَغَمُ نَارٍ مُوقَدَةٍ.
((حَقًّا! إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَشَارَاتٍ لِلْمُدْرِكِينَ. وَفِي الْعَالَمِ غَيْبٌ بَلِ الْعَالَمُ غَيْبٌ كُلُّهُ، لَكِنْ!
أَلَا يَكْفِي أَنْ يَفْتَحَ الْإِنْسَانُ عَيْنَيْهِ لِيَرَى، وَأَنْ يُرْهِفَ أُذُنَهُ لِيَسْمَعَ؟ لِيَرَى حَقًّا، وَلِيَسْمَعَ الْكَلِمَ الْخَالِدَ! لَكِنَّ لِلنَّاسِ عُيُونًا لَا تَرَى وَآذَانًا لَا تَسْمَعُ. . . أَمَّا هُوَ فَحَسْبٌ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى وَهَلْ تَحْتَاجُ لِكَيْ تَسْمَعَ مَا وَرَاءَ السَّمَاءِ مِنْ أَصْوَاتٍ إِلَّا إِلَى قَلْبٍ خَالِصٍ وَنَفْسٍ مُخْلِصَةٍ وَفُؤَادٍ مُلِئَ إِيمَانًا؟
((وَمُحَمَّدٌ فِي رَيْبٍ مِنْ حِكْمَةِ النَّاسِ فَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ إِلَّا الْحَقَّ الْخَالِصَ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ لَيْسَ فِيمَا يَرَى حَوْلَهُ، فَحَيَاةُ الْقُرَشِيِّينَ لَيْسَتْ حَقًّا، وَرِبَا الْمُرَابِينَ وَنَهْبُ الْبَدْوِ وَلَهْوُ
الْخُلَعَاءِ وَكُلُّ مَا إِلَى ذَلِكَ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْأَصْنَامُ الْمُحِيطَةُ بِالْكَعْبَةِ لَيْسَتْ حَقًّا وَهُبَلُ الْإِلَهُ الطَّوِيلُ الذَّقْنِ الْكَثِيرُ الْعُطُورِ وَالْمَلَابِسِ لَيْسَ إِلَهًا حَقًّا.
((إِذًا فَأَيْنَ الْحَقُّ وَمَا هُوَ)) ؟
((وَظَلَّ مُحَمَّدٌ يَتَرَدَّدُ عَلَى حِرَاءَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ سَنَوَاتٍ مُتَتَالِيَةً وَهُنَاكَ كَانَ يَزْدَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ ابْتِغَاءَ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَكَانَ يَنْسَى نَفْسَهُ، وَيَنْسَى طَعَامَهُ، وَيَنْسَى كُلَّ مَا فِي الْحَيَاةِ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَرَى فِي الْحَيَاةِ لَيْسَ حَقًّا وَهُنَاكَ كَانَ يُقَلِّبُ فِي صُحُفِ ذِهْنِهِ كُلَّ مَا وَعَى، فَيَزْدَادُ عَمَّا يُزَاوِلُ النَّاسُ مِنْ أَلْوَانِ الظَّنِّ رَغْبَةً وَازْوِرَارًا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَطْمَعُ فِي أَنْ يَجِدَ فِي قِصَصِ الْأَحْبَارِ وَفِي كُتُبِ الرُّهْبَانِ الْحَقَّ الَّذِي يَنْشُدُ، بَلْ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْمُحِيطِ بِهِ: فِي السَّمَاءِ وَنُجُومِهَا وَقَمَرِهَا وَشَمْسِهَا، وَفِي الصَّحْرَاءِ سَاعَاتِ لَهِيبِهَا الْمُحْرِقِ تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الْبَاهِرَةِ اللَّأْلَاءِ، وَسَاعَاتِ صَفْوِهَا الْبَدِيعِ إِذْ تَكْسُوهَا أَشِعَّةُ الْقَمَرِ أَوْ أَضْوَاءُ النُّجُومِ بِلِبَاسِهَا الرَّطْبِ النَّدِيِّ، وَفِي الْبَحْرِ وَمَوْجِهِ وَفِي كُلِّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْوُجُودِ وَتَشْمَلُهُ وَحْدَةُ الْوُجُودِ - فِي هَذَا الْكَوْنِ كَانَ يَلْتَمِسُ الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَابْتِغَاءُ إِدْرَاكِهَا كَانَ يَسْمُو بِنَفْسِهِ سَاعَاتِ خَلْوَتِهِ لِيَتَّصِلَ بِهَذَا الْكَوْنِ وَلِيَخْتَرِقَ شِغَافَ الْحُجُبِ إِلَى مَكْنُونِ سِرِّهِ.
قَالَ دِرِمِنْغَامْ: فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ 610 م أَوْ نَحْوُهَا كَانَتِ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي يُعَانِيهَا (مُحَمَّدٌ) عَلَى أَشُدِّهَا فَقَدْ أَبْهَظَتْ عَاتِقَهُ الْعَقِيدَةُ بِأَنَّ أَمْرًا جَوْهَرِيًّا يَنْقُصُهُ وَيَنْقُصُ قَوْمَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ نَسُوا هَذَا الْأَمْرَ الْجَوْهَرِيَّ وَتَشَبَّثَ كُلٌّ بِصَنَمِ قَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَخَشِيَ النَّاسُ الْجِنَّ وَالْأَشْبَاحَ وَالْبَوَارِحَ وَأَهْمَلُوا الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَكِنَّهُمْ نَسُوهَا نِسْيَانًا هُوَ مَوْتُ الرُّوحِ وَقَدْ خَلَصَتْ نَفْسُ ((مُحَمَّدٍ)) مَنْ كُلِّ هَذِهِ الْآرَاءِ التَّافِهَةِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُوَى الَّتِي تَخْضَعُ لِقُوَّةِ غَيْرِهَا وَمِنْ كُلِّ كَائِنٍ لَيْسَ مَظْهَرًا لِلْكَائِنِ الْوَاحِدِ.
وَلَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ فِي الشَّامِ وَمَكَّةَ لَهُمْ دِينٌ أُوحِيَ بِهِ، وَأَنَّ أَقْوَامًا غَيْرَهُمْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَعَوْهُ أَنْ جَاءَهُمْ عِلْمٌ مِنْ أَنْبِيَاءَ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بِهِ، وَكُلَّمَا ضَلَّ النَّاسُ بَعَثَتِ السَّمَاءُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَيُذَكِّرُهُمْ
بِالْحَقِيقَةِ الْخَالِدَةِ.
وَهَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ دِينٌ وَاحِدٌ وَكُلَّمَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّمُ عِوَجَهُمْ. وَقَدْ كَانَ الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ يَوْمَئِذٍ فِي أَشَدِّ تَيْهَاءِ الضَّلَالِ. أَفَمَا آنَ لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِمْ مَرَّةً أُخْرَى وَأَنْ تَهْدِيَهُمْ إِلَى الْحَقِّ)) ؟
((وَتَزَايَدَتْ رَغْبَةُ مُحَمَّدٍ عَنِ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ، وَوَجَدَ فِي وَحْدَةِ غَارِ حِرَاءَ مَسَرَّةً تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ عُمْقًا، وَجَعَلَ يَقْضِي الْأَسَابِيعَ وَمَعَهُ قَلِيلٌ مِنَ الزَّادِ وَرُوحُهُ تَزْدَادُ بِالصَّوْمِ وَالسَّهَرِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى تَقْلِيبِ فِكْرَتِهِ صِقَالًا وَحِدَّةً. وَنَسِيَ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَجَعَلَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ، أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ، أَوْ سَائِرًا بِخُطًى وَاسِعَةٍ فِي طُرُقٍ الصَّحْرَاءِ الْحَجَرِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ تَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ أَحْجَارِهَا تُنَادِيهِ مُؤْمِنَةً بِرِسَالَتِهِ.
((وَقَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَأَسَرَّ بِمَخَاوِفِهِ إِلَى خَدِيجَةَ فَطَمْأَنَتْهُ وَجَعَلَتْ تُحَدِّثُهُ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ وَأَنَّ الْجِنَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْهُ وَفِيمَا هُوَ يَوْمًا نَائِمٌ بِالْغَارِ جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، قَالَ ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ)) وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ الْوَحْيِ وَأَوَّلَ النُّبُوَّةِ.
((وَهُنَا تَبْدَأُ حَيَاةٌ جِدَّةٍ رُوحِيَّةٍ قَوِيَّةٍ غَايَةَ الْقُوَّةِ، حَيَاةٌ تَأْخُذُ بِالْأَبْصَارِ وَالْأَلْبَابِ وَلَكِنَّهَا حَيَاةُ تَضْحِيَةٍ خَالِصَةٍ لِوَجْهِ اللهِ وَالْحَقِّ وَالْإِنْسَانِيَّةِ)) .
أَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا هُنَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ جُلَّهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ هَذَا الْإِفْرَنْسِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا نَسِيَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ إِلَخْ وَأَنَّهُ قَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ - قَدِ افْتَرَى فِي الْأَخْبَارِ لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهَا أَنَّهُ صَارَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، غَائِبًا عَنْ حِسِّهِ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا أَصَحَّ الْأَخْبَارِ فِي خَبَرِ تَحَنُّثِهِ فِي الْغَارِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا - لِتَفْنِيدِ مُفْتَرَيَاتِهِ وَلِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَمَّا نَقَلَهُ مِنَ الْخَلْطِ فِي صِفَةِ الْوَحْيِ مِنَ الْفَصْلِ الْآتِي - وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا وَهَذَا نَصُّ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ رضي الله عنه.
(بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)
افْتَتَحَ الْبَابَ بَلِ الْكِتَابَ كُلَّهُ بِرِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ
رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمَثَلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ:
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)(96: 1 - 3) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ
فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: ((لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)) فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي
الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَبَرِ مَا أَرَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -
أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ
وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ ((بَيْنَا أَنَا مَاشٍ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(74: 1 - 5) فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ اهـ.
(وَأَقُولُ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا أَنَّ أَوَّلَهَا أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مُطْلَقًا وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ أَنَّهَا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَالَّتِي هُنَا وَقَدْ عَبَّرَ صلى الله عليه وسلم عَنْ رُعْبِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ: ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ
رُعْبًا)) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ)) أَيْ فَزِعْتُ وَخِفْتُ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِالتَّاءِ لِلْمَفْعُولِ.
هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ تَامَّةً وَبَعْدَهَا بَقِيَّةُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ سُورَةُ (ن وَالْقَلَمِ)(68: 1) وَهُوَ غَلَطٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْجِيهِ كَوْنِهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ تَامَّةٍ بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِالتَّمْهِيدِ التَّكْوِينِيِّ ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ الْإِجْمَالِيِّ وَتَلَاهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ وَنُزُولُ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ أَوْ نَزَلَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
(بَسْطُ مَا يُصَوِّرُونَ بِهِ الْوَحْيَ النَّفْسِيَّ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)
هَأَنَذَا قَدْ بَسَطْتُ جَمِيعَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَحَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَوَطَنِهِ، وَمَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ خَلَوَاتِهِ وَتَحَنُّثِهِ وَتَفَكُّرِهِ فِيهَا، وَقَفَّيْتُ عَلَيْهَا بِأَصَحِّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ وَكَيْفَ كَانَ بَدْؤُهُ وَفَتْرَتُهُ، ثُمَّ كَيْفَ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِتَبْلِيغِهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَكَيْفَ حَمِيَ وَتَتَابَعَ.
وَأُبَيِّنُ الْآنَ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ قَدْ نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ وَأَفْكَارِهِ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي وِجْدَانِهِ وَعَقْلِهِ، بِمَا لَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ فِي تَقْرِيبِهِ إِلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ أُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا يَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ وَالصَّحِيحِ مِنْ وَصْفِ حَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقُولُ:
يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْلَ مُحَمَّدٍ الْهُيُولَانِيَّ قَدْ أَدْرَكَ بِنُورِهِ الذَّاتِيِّ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا أَدْرَكَ ذَلِكَ أَفْرَادٌ آخَرُونَ مِنْ قَوْمِهِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فِطْرَتَهُ الزَّكِيَّةَ قَدِ احْتَقَرَتْ مَا كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فَقْرَهُ وَفَقْرَ عَمِّهِ (أَبِي طَالِبٍ) الَّذِي كَفَلَهُ صَغِيرًا قَدْ حَالَ دُونَ انْغِمَاسِهِ فِيمَا كَانُوا يُسْرِفُونَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالشَّهَوَاتِ، مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَعَزْفِ الْقِيَانِ - الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ احْتِقَارًا لَهُ لَا عَجْزًا عَنْهُ -
وَأَنَّهُ طَالَ تَفَكُّرُهُ فِي إِنْقَاذِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ الْقَبِيحِ وَتَطْهِيرِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ - لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ -، وَإِنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ أَسْفَارِهِ وَمِمَّنْ لَقِيَهُ فِيهَا وَفِي مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنَ النَّصَارَى كَثِيرًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ - هَذَا وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا وَلَا يَضُرُّنَا -، وَإِنَّ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا مَقْبُولَةً فِي عَقْلِهِ لِمَا عَرَضَ لِلنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الْبِدَعِ - هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مَعْقُولٌ غَيْرُ مَنْقُولٍ - وَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِثْلَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ قَدْ بَشَّرَ بِهِ
عِيسَى الْمَسِيحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - وَإِنَّ هَذَا عَلَقَ بِنَفْسِهِ فَتَعَلَّقَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ النَّبِيَّ الَّذِي آنَ أَوَانُهُ - وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ لَهُمْ مِمَّا قَبْلَهُ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ - وَنَتِيجَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ بِغَارِ حِرَاءَ فَقَوِيَ هُنَالِكَ إِيمَانُهُ، وَسَمَا وِجْدَانُهُ، فَاتَّسَعَ مُحِيطُ تَفَكُّرِهِ، وَتَضَاعَفَ نُورُ بَصِيرَتِهِ، فَاهْتَدَى عَقْلُهُ الْكَبِيرُ إِلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مُبْدِعِ الْوُجُودِ، وَسِرِّ النِّظَامِ السَّارِي فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، بِمَا صَارَ بِهِ أَهْلًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَا زَالَ يُفَكِّرُ وَيَتَأَمَّلُ، وَيَنْفَعِلُ وَيَتَمَلْمَلُ، وَيَتَقَلَّبُ بَيْنَ الْآلَامِ وَالْآمَالِ، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ، الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَتَجَلَّى لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي الرُّؤَى الْمَنَامِيَّةِ، ثُمَّ قَوِيَ حَتَّى صَارَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ يُلَقِّنُهُ فِي الْيَقَظَةِ.
وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي هَذَا الْوَحْيِ فَهِيَ مُسْتَمَدَّةُ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَمِمَّا هَدَاهُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَتَفَكُّرُهُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَجَلَّى لَهُ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهَا خِطَابُ الْخَالِقِ عز وجل بِوَاسِطَةِ النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ مَلَكِ الْوَحْيِ جِبْرِيلَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّبِيِّينَ عليهم السلام.
وَقَالَ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ الْمِصْرِيِّينَ: إِنْ سُولُونَ الْحَكِيمَ الْيُونَانِيَّ وَضَعَ قَانُونًا وَشَرِيعَةً لِقَوْمِهِ فَلَيْسَ بِدْعًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يَضَعَ مُحَمَّدٌ شَرِيعَةً أَيْضًا، وَسَأُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الرَّأْيِ.
(تَفْنِيدُ تَصْوِيرِهِمْ لِلْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَإِبْطَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ)
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ أَكْثَرَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي أَخَذُوا مِنْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةَ هِيَ آرَاءٌ مُتَخَيَّلَةٌ، أَوْ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ، لَا قَضَايَا تَارِيخِيَّةٌ ثَابِتَةٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ بَطَلَ التَّسْلِيمُ بِالنَّتِيجَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم سَمِعَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ خَبَرَ غَلَبِ الْفُرْسِ وَظُهُورِهِمْ عَلَى الرُّومِ ; لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْمَسْأَلَةِ وَبِأَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الْفُرْسَ بَعْدَ ذَلِكَ - هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِمَّا سَمِعَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَصَارَى الشَّامِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِدَلَائِلِ التَّارِيخِ وَالْعَقْلِ. فَأَمَّا التَّارِيخُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا بِأَنَّ ظُهُورَ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ كَانَ فِي سَنَةِ 610م وَذَلِكَ بَعْدَ رِحْلَةِ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرَةِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَبْلَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ التَّارِيخَ أَنْبَأَنَا أَنَّ دَوْلَةَ الرُّومِ كَانَتْ مُخْتَلَّةً مُعْتَلَّةً فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرْجُو أَنْ تَعُودَ لَهَا الْكَرَّةُ وَالْغَلَبُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْفُسَهُمْ هَزِئُوا بِالْخَبَرِ وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ أَحَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَازَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَبِحَ الرِّهَانَ
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي سُمُوِّ إِدْرَاكِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّ الْغَلَبَ سَيَعُودُ لِلرُّومِ عَلَى الْفَرَسِ فِي مُدَّةِ بِضْعِ سِنِينَ - لَا مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَلَا مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الْمُسْتَمَدِّ مِنَ الْأَخْبَارِ غَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ انْتِصَارَ الرُّومِ حَصَلَ سَنَةَ 622م وَكَانَ وَحْيُ التَّبْلِيغِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ 614م فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ سُورَةَ الرُّومِ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَكُونُ النَّصْرُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ وَإِنْ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ الْمُدَّةُ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْبِضْعُ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالتِّسْعِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا النَّبَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ)(30: 1 - 4) وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ مَثَلًا - هِيَ إِفَادَةٌ أَنَّ الْغَلَبَ يَكُونُ فِي الْحَرْبِ الْمُمْتَدَّةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَأَنْبَاءُ الْوَحْيِ وَالْعِبَرِ لَا تَكُونُ بِأُسْلُوبِ التَّارِيخِ الَّذِي يُحَدِّدُ الْوَقَائِعَ بِالسِّنِينَ، وَلَيْسَ فِي وُعُودِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ذِكْرُ السِّنِينَ وَلَا الشُّهُورِ فَهَذِهِ الْآيَةُ فَرِيدَةٌ فِي بَابِهَا.
وَمِثَالٌ آخَرُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ مُرُورِهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَحَدِيثِهِ مَعَ أَهْلِهَا، الَّذِي أَرَادُوا بِهِ أَنْ يَجْعَلُوهُ أَصْلًا لِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِهَا، وَالْخَبَرُ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ نَقْلِنَا إِيَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ أُنَاسٍ مَجْهُولِينَ، وَمَعَارِفُهُمْ لَا يُوثَقُ بِهَا أَصْلًا لِلْوَحْيِ الَّذِي جَاءَهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عليهما السلام.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَلَقَّى عَنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي الشَّامِ شَيْئًا أَوْ عَاشَرَهُمْ لَنَقَلَ ذَلِكَ إِلَى أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا عُلِمَ عَنْهُ أَوْ قِيلَ فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا دَوَّنُوهُ وَوَكَلُوا أَمْرَ صِحَّتِهِ أَوْ عَدَمِهَا إِلَى إِسْنَادِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) لَوْ وَقَعَ مَا ذَكَرَ لَاتَّخَذَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُشْرِكِينَ شُبْهَةً يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْوَحْيِ قَدْ تَعَلَّمَهُ فِي الشَّامِ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَضْعَفُ وَأَسْخَفُ مِنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ قَيْنٌ (حَدَّادٌ) رُومِيٌّ يَصْنَعُ السُّيُوفَ وَغَيْرَهَا فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ عِنْدَهُ أَحْيَانًا يُشَاهِدُ صَنْعَتَهُ فَاتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(16: 103) .
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) نُصُوصُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَقِصَصِهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ عز وجل، كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ أَبُو جَهْلٍ، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ عز وجل وَيَقِينِهِ بِكُلِّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)(28: 44، 45) وَقَوْلُهُ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(11: 49) وَنَحْوُهَا فِي قِصَّةِ يُونُسَ مِنْ سُورَتِهِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم
كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الَّذِي كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ بَعْثَتِهِ، وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَدَوَّنَهُ الْمُحَدِّثُونَ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا شَيْئًا بَلَغَهُمْ عَنْهُ إِلَّا دَوَّنُوهُ كَمَا رَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ حَدِيثَ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ تَجِدْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الْعَاقِلَةُ الْمُفَكِّرَةُ وَسِيلَةً يَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَتَطْمَئِنُّ هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِفْتَاءَ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الَّذِي كَانَ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَمْرًا كَانَ يَرْجُوهُ مُحَمَّدٌ وَيَتَوَقَّعُهُ، وَكَانَ قَدْ تَمَّ اسْتِعْدَادُهُ لَهُ بِاخْتِلَائِهِ وَتَعَبُّدِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا صَوَّرُوا بِهِ حَالَهُ فِيهِ مِنَ الْفِكْرِ الْمُضْطَرِبِ، وَالْوِجْدَانِ الْمُلْتَهِبِ، وَالْقَلْبِ الْمُتَقَلِّبِ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ اسْتِعْدَادُهُ تَجَلَّى لَهُ رَجَاؤُهُ وَاعْتِقَادُهُ، بِمَا تَمَّ بِهِ مُرَادُهُ، لَظَهَرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْوَثَّابَةُ، وَفِكْرَتُهُ الْوَقَّادَةُ، فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فِي بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَتَوْحِيدِ الدَّيَّانِ، وَاجْتِثَاثِ شَجَرَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْذَارِ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، مَا سَيَلْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، كَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَلَا سِيَّمَا (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (50: 1) وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ. ثُمَّ الْحَاقَّةِ وَالنَّبَأِ - أَوْ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْوُسْطَى الَّتِي تُقَرِّعُهُمْ بِالْحُجَجِ، وَتَأْخُذُهُمْ بِالْعِبَرِ، وَتَضْرِبُ لَهُمُ الْمَثَلَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الرُّسُلِ، كَسُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَجِّ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَتْلُ فِيهَا عَلَى النَّاسِ سُورَةً، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحَدَّثَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا إِلَى أَصْدِقَائِهِ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا مِنْ ذَمِّ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ الَّذِي ضَاقَ بِهِ ذَرْعُهُ، إِذْ لَوْ تَحَدَّثَ بِذَلِكَ لَنَقَلُوهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِأَلْصَقِ النَّاسِ بِهِ. خَدِيجَةُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي بَيْتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الَّذِي عَاشَرَهُ طُولَ عُمُرِهِ - فَهَذَا السُّكُوتُ وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ
مَا صَوَّرُوا بِهِ اسْتِعْدَادَهُ لِلْوَحْيِ الذَّاتِيَّ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَاسْتِمْدَادَهُ لِعُلُومِهِ مِنَ التَّلَقِّي وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ.
(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ تَرْتِيبِ نُزُولِ الْوَحْيِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمُجْرَيَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَقَدْ نَزَلَ مَا بَعْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَقِبَ قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الَّذِي قَالَهُ فِي الْقُرْآنِ - فَقَدْ أَرَادَهُ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَهُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَحَرَّى اسْتِمَاعَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأُعْجِبَ بِهِ.
قَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ لَا بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُنِيرٌ أَعْلَاهُ، مُشْرِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِأَثَرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ:(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)(74: 11) إِلَخْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ الَّتِي تَصَوَّرَهَا هَؤُلَاءِ الْمُحَلِّلُونَ لِمَسْأَلَةِ الْوَحْيِ قَلِيلَةُ الْمَوَادِّ، ضَيِّقَةُ النِّطَاقِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِوَحْيِ الْقُرْآنِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَأَعْلَى وَأَوْسَعُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مِثْلُ بَحِيرَى وَنَسْطُورَ وَكُلِّ نَصَارَى الشَّامِ وَنَصَارَى الْأَرْضِ وَيَهُودِهَا، دَعِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ كَانَ يَمُرُّ بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالطَّرِيقِ إِلَى الشَّامِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ وَحْيِ اللهِ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ - وَنَزَلَ أَيْضًا مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا أَيْ رَقِيبًا وَحَاكِمًا كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ (48) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5) وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْيَهُودِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ)(4: 44 و51) وَنَسُوا نَصِيبًا أَوْ حَظًّا آخَرَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا، وَبَدَّلُوا (5: 13، 14) وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى مِمَّا خَالَفُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعُلْيَا عَلَيْهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَمَدَّةً مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ الرُّهْبَانِ أَوْ غَيْرِ الرُّهْبَانِ، أَفَاضُوهَا عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَى رِحْلَتِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمُوسَوِيِّ وَالْعِيسَوِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ آرْيُوسُ وَأَتْبَاعُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي حَكَمَتِ الْكَنِيسَةُ الرَّسْمِيَّةُ بِعَدَمِ قَانُونِيَّتِهَا (أَبُو كَرِيفٍ) كَإِنْجِيلِ طُفُولَةِ الْمَسِيحِ وَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا أَمْ لَا، فَمُحَمَّدٌ
لَمْ يَعْقِدْ فِي الشَّامِ وَلَا فِي مَكَّةَ مَجْمَعًا مَسِيحِيًّا كَمَجَامِعِ الْكَنِيسَةِ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَنَاجِيلِ وَالْمَذَاهِبِ الْمَسِيحِيَّةِ وَيَحْكُمُ بِصِحَّةِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
إِنَّ وُقُوعَ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ مِمَّا يَعْلَمُ وَاضِعُو هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ مَعَ عَدَمِ النَّقْلِ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَعَلَى فَرْضِ وُقُوعِهِ يُقَالُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَتِلْكَ الْمَذَاهِبِ بِرَأْيِهِ فِي تِلْكَ الْخِلْسَةِ التِّجَارِيَّةِ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَيَأْمَنُ عَلَى حُكْمِهِ الْخَطَأَ؟ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ: ((لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ)) يَعْنِي فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ لِئَلَّا يَكُونَ مَا كَذَّبُوهُمْ فِيهِ مِمَّا حَفِظُوا، وَيَكُونَ مَا صَدَّقُوهُمْ بِهِ مِمَّا نَسُوا حَقِيقَتَهُ أَوْ حَرَّفُوا أَوْ بَدَّلُوا.
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَى الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ بِهِ، كَمُخَالَفَةِ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيمَنْ تَبَنَّتْ مُوسَى فَفِيهِ أَنَّهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ وَفِي الْقُرْآنِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ - وَفِيمَا قَرَّرَهُ مِنْ عَزْوِ صُنْعِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَارُونَ عليه السلام بِعَزْوِهِ إِيَّاهُ إِلَى السَّامِرِيِّ وَإِثْبَاتِهِ لِإِنْكَارِ هَارُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
بَلْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
رُوَيْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُفْتَاتُونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ وَحْيَ الْقُرْآنِ أَعْلَى مِمَّا تَزْعُمُونَ، وَأَكْبَرُ مِمَّا تَتَصَوَّرُونَ، وَتُصَوِّرُونَ. وَإِنَّ مُحَمَّدًا أَقَلُّ عِلْمًا كَسْبِيًّا مِمَّا تَدَّعُونَ وَأَكْمَلُ اسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي كَلَامِ اللهِ عَنِ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِمَّا تَسْتَكْبِرُونَ.
وَإِذَا كَانَ وَحْيُ الْقُرْآنِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ مَا حُفِظَ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لِأَنَّهُ الْخَاتَمُ لَهُمُ الْمُكَمِّلُ لِشَرَائِعِهِمُ الْخَاصَّةِ الْمَوْقُوتَةِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا وَضَعَهُ سُولُونُ الْفَيْلَسُوفُ الْيُونَانِيُّ الَّذِي شَبَّهَ مُحَمَّدًا بِهِ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ عَصْرِنَا فِي مِصْرِنَا، مَعَ بُعْدِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَفَيْلَسُوفٍ نَشَأَ فِي أُمَّةِ حِكْمَةٍ وَتَشْرِيعٍ وَدَوْلَةٍ
وَسِيَاسَةٍ، وَدَخَلَ فِي كُلِّ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ.
الْقَوْلُ الْحَقُّ فِي اسْتِعْدَادِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلنُّبُوَّةِ:
التَّحْقِيقُ فِي صِفَةِ حَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، وَإِعْدَادِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، هُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْفِطْرَةِ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْعَقْلِ الِاسْتِعْدَادِيِّ الْهَيُولَانِيِّ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الْعِلْمِيِّ، وَأَنَّهُ كَمَّلَهُ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ لِيَبْعَثَهُ مُتَمِّمًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةَ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهَا وَرَذَائِلَهُمْ مِنْ صِغَرِ سِنِّهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْعُزْلَةَ حَتَّى لَا تَأْنَسَ نَفْسُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ مُنْكِرَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، كَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَطَامِعِ الدَّنِيئَةِ كَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ - لِيَبْعَثَهُ مُصْلِحًا لِمَا فَسَدَ مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ بِالتَّأَسِّي بِهِ، وَجَعَلَهُ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، لِتَنْفِيذِ مَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ الْأَعْلَى، فَكَانَ مِنْ عِفَّتِهِ أَنْ سَلَخَ مِنْ سِنِي شَبَابِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ زَوْجِهِ خَدِيجَةَ كَانَتْ فِي 15 مِنْهَا عَجُوزًا يَائِسَةً مِنَ النَّسْلِ فَتُوُفِّيَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَظَلَّ يَذْكُرُهَا وَيُفَضِّلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهَا، حَتَّى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمَالِهَا وَحَدَاثَتِهَا وَذَكَائِهَا وَكَمَالِ اسْتِعْدَادِهَا لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ - وَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ يَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَلَوْ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلَى شَجَاعَتِهِ
الْكَامِلَةِ يَقُودُ أَصْحَابَهُ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لِأَجْلِ صَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ (هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) كَانَ مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَهَجَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ بِالْحَدِيدِ مِنْ مِغْفَرٍ وَدِرْعٍ فَلَمْ يَجِدْ صلى الله عليه وسلم بُدًّا مِنْ قَتْلِهِ فَطَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ خَلَلِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، وَظَلَّ طُولَ عُمْرِهِ وَبَعْدَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ يُؤْثِرُ الْقَشَفَ وَشَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى نِعْمَتِهِ، مَعَ إِبَاحَةِ شَرْعِهِ لِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَنَهْيِهِ لِمَنْ كَانَ يَتْرُكُهَا تَدَيُّنًا، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، مَعَ إِبَاحَةِ دِينِهِ لِلزِّينَةِ وَأَمْرِهِ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا قَطُّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ إِلَّا الْمَاءَ الْعَذْبَ النَّقِيَّ.
وَأَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادَهُ الذَّاتِيَّ ((لَا الْكَسْبِيَّ)) لِلْبَعْثَةِ بِإِكْمَالِ دِينِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالتَّشْرِيعِ الْكَافِي الْكَافِلِ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، بِأَنْ أَنْشَأَهُ كَأَكْثَرِ قَوْمِهِ أُمِّيًّا وَصَرَفَهُ فِي أُمِّيَّتِهِ عَنِ اكْتِسَابِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَدْنَى عِنَايَةٍ بِمَا يَتَفَاخَرُ بِهِ قَوْمُهُ مِنْ فَصَاحَةِ
اللِّسَانِ، وَقُوَّةِ الْبَيَانِ، مِنْ شِعْرٍ وَخَطَابَةٍ، وَمُفَاخَرَةٍ وَمُنَافَرَةٍ، إِذْ كَانُوا يَؤُمُّونَ أَسْوَاقَ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَأَشْهَرُهَا عُكَاظُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي لِإِظْهَارِ بَلَاغَتِهِمْ وَبَرَاعَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ لِارْتِقَاءِ لُغَتِهِمْ، وَلِوُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي شِعْرِهِمْ، فَكَانَ مِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يَزْهَدَ فِي مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَتِهِ لِمَا عَسَاهُ يَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَقَدْ سَمِعَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ زُهَاءَ مِائَةِ قَافِيَةٍ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ فَقَالَ:((إِنْ كَادَ لَيُسْلِمُ)) وَقَالَ: ((آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ)) وَقَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
قُلْنَا: إِنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَطَرِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ لِسَانِيٍّ وَلَا نَفْسِيٍّ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْجُوهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، بَلْ رُوِيَ عَنْ خَدِيجَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ أَخْبَارَ أَمَانَتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَا قَالَ بَحِيرَى الرَّاهِبُ فِيهِ تَعَلَّقَ أَمَلُهَا بِأَنْ يَكُونَ
هُوَ النَّبِيَّ الَّذِي يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُقَوِّيهِ حَلِفُهَا بِاللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخْزِيهِ أَبَدًا، قُلْنَا: إِنَّهَا عَلَّلَتْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَرَأَتْ أَنَّهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى اسْتِفْتَاءِ ابْنِ عَمِّهَا أُمَيَّةَ فِي شَأْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم وَتَعَبُّدُهُ فِي الْغَارِ عَامَ الْوَحْيِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ كَانَ عَمَلًا كَسْبِيًّا مُقَوِّيًا لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ السَّلْبِيِّ مِنَ الْعُزْلَةِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ وَلَا عَادَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الِاسْتِعْدَادَ لِلنُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِهَا لَاعْتَقَدَ حِينَ رَأَى الْمَلِكَ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَتِهِ حُصُولَ مَأْمُولِهِ وَتَحَقُّقِ رَجَائِهِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَاعِثُ لِهَذَا الِاخْتِلَاءِ، وَالتَّحَنُّثِ اشْتِدَادَ الْوَحْشَةِ مِنْ سُوءِ حَالِ النَّاسِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى الْأُنْسِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالرَّجَاءِ فِي هِدَايَتِهِ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهَا، كَمَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الضُّحَى:(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)(93: 7) وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عز وجل فِي سُورَةِ الشُّورَى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(42: 52 و53) وَأَلَمَّ بِهِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ إِلْمَامًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يَتِيمًا فَقِيرًا أُمِّيًّا مِثْلَهُ تَنْطَبِعُ نَفْسُهُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى زَمَنِ كُهُولَتِهِ، وَيَتَأَثَّرُ عَقْلُهُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ يُخَالِطُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَأَهْلِ عَصَبَتِهِ،
وَلَا كِتَابَ يُرْشِدُهُ، وَلَا أُسْتَاذَ يُنَبِّهُهُ، وَلَا عَضُدَ إِذَا عَزَمَ يُؤَيِّدُهُ، فَلَوْ جَرَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى جَارِي السُّنَنِ لَنَشَأَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَأَخَذَ بِمَذَاهِبِهِمْ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَيَكُونَ لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ مَجَالٌ، فَيَرْجِعُ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ، إِذَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ضَلَالَاتِهِمْ، كَمَا فَعَلَ الْقَلِيلُ مِمَّنْ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَجْرِ عَلَى سُنَّتِهِ، بَلْ بُغِّضَتْ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ مَبْدَأِ عُمُرِهِ، فَعَاجَلَتْهُ طَهَارَةُ الْعَقِيدَةِ، كَمَا بَادَرَهُ
حُسْنُ الْخَلِيقَةِ، وَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ:(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)(93: 7) لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ، قَبْلَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، حَاشَ لِلَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الْإِفْكُ الْمُبِينُ، وَإِنَّمَا هِيَ الْحَيْرَةُ تُلِمُّ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ، فِيمَا يَرْجُونَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَطَلَبِ السَّبِيلِ إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ مِنْ إِنْقَاذِ الْهَالِكِينَ، وَإِرْشَادٍ لِلضَّالِّينَ، وَقَدْ هَدَى اللهُ نَبِيَّهُ إِلَى مَا كَانَتْ تَتَلَمَّسُهُ بَصِيرَتُهُ بِاصْطِفَائِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ لِتَقْرِيرِ شَرِيعَتِهِ)) اهـ.
(أَقُولُ) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى رُوحَهُ الْكَرِيمَةَ كَمِرْآةٍ صَقِيلَةٍ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْآدَابِ الْوِرَاثِيَّةِ وَالْعَادَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ، إِلَى أَنْ تَجَلَّى فِيهَا الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهِ، وَأَبْلَغِ مَبَانِيهِ، لِتَجْدِيدِ دِينِ اللهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ، وَجَعَلَ بَعْثَةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِهِ لِلْبَشَرِ عَامَّةً دَائِمَةً لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهَا إِلَى وَحْيٍ آخَرَ، فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ وَرُوحِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمَا نَزَلَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَمَا أَشْرَقَ فِيهَا مِنْ نُورِ اللهِ عز وجل الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الشُّورَى، هُوَ مَضْرَبُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ:(اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(24: 35) .
فَزَيْتُ مِصْبَاحِ الْمَعَارِفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، يُوقَدُ مِنْ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، بَلْ هِيَ إِلَهِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ.
هَذَا مَا نَرَاهُ كَافِيًا لِتَفْنِيدِ مَزَاعِمِ مُصَوِّرِي الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ مِنْ نَاحِيَةِ شَخْصِ مُحَمَّدٍ وَاسْتِعْدَادِهِ، وَيَتْلُوهُ مَا هُوَ أَقْوَى دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا، وَهُوَ تَفْنِيدُهُ بِمَوْضُوعِ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ آيَةُ نُبُوَّتِهِ الْخَالِدَةُ، وَحُجَّتُهُ النَّاهِضَةُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
آيَةُ اللهِ الْكُبْرَى - الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ
(الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، الْكِتَابُ الْعَزِيزُ)
الَّذِي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
هُوَ كِتَابٌ لَا كَالْكُتُبِ، هُوَ آيَةٌ لَا كَالْآيَاتِ، هُوَ مُعْجِزَةٌ لَا كَالْمُعْجِزَاتِ، هُوَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَهُوَ سِرٌّ لَا كَالْأَسْرَارِ، هُوَ كَلَامٌ لَا كَالْكَلَامِ، هُوَ كَلَامُ اللهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَيْسَ لِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ الْأَمِينِ عليه السلام مِنْهُ إِلَّا نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ مِنْ سَمَاءِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَا لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ لِلنَّاسِ لِيَهْتَدُوا بِهِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِنْ سُورِهِ بِكَسْبِهِ وَمَعَارِفِهِ، وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا بَلِيغًا مُمْتَازًا إِلَّا بِهِ، بَلْ فِيهِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِ كَفِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ (رَاجِعْ ص 72 و82 و401 و409 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 23) أَهَمَّ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِالْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ الْمُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ مِنَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا حَفِظَهُ التَّارِيخُ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَوَاضِعِي الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، وَسَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ.
فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا عَلِيمًا حَكِيمًا رَحِيمًا مُرِيدًا فَاعِلًا مُخْتَارًا فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ وَلَا مَنَاصَ مِنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ لَدُنْهُ عز وجل أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ رَحْمَةً بِهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أُمَمِهِمْ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ فَرْضًا إِلَهِيًّا لَازِبًا عَامًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (7: 158) .
وَمَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِوُجُودِ هَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ الْجَزْمِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْهَادِينَ الْمَهْدِيِّينَ،
وَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَوْلَاهُمْ بِالِاتِّبَاعِ بِعُنْوَانِ (سَيِّدِ الْبَشَرِ وَحَكِيمِهِمُ الْأَعْظَمِ) .
وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْمُنْصِفِينَ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا قَوْلًا وَكِتَابَةً (مِنْهُمْ) الْأُسْتَاذُ مُولَرِ الْإِنْكِلِيزِيُّ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهُمْ ذَلِكَ الْفَيْلَسُوفُ الطَّبِيبُ السُّورِيُّ الْكَاثُولِيكِيُّ النَّشْأَةِ الَّذِي رَأَى فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ بَعْضَ الْمَنَاقِبِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ: أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَى مُحَمَّدٍ كَنَبِيٍّ فَتَرَاهُ عَظِيمًا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ كَرَجُلٍ فَأَعُدُّهُ أَعْظَمَ، وَذَكَرَ أَبْيَاتًا فِي وَصْفِهِ وَوَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُحْكَمِ الْآيَاتِ، الْمَانِعَةِ لِمَنْ عَقَلَهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْعُمْرَانِ بِالْعَادَاتِ، وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ بِحِكْمَةِ بَيَانِهِ وَقُوَّةِ بَنَانِهِ، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:
بِبَيَانِهِ أَرْبَى عَلَى أَهْلِ النُّهَى
…
وَبِسَيْفِهِ أَنْحَى عَلَى الْهَامَاتِ
مِنْ دُونِهِ الْأَبْطَالُ فِي كُلِّ الْوَرَى
…
مِنْ سَابِقٍ أَوْ حَاضِرٍ أَوْ آتٍ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ أَحْرَارِ مُفَكِّرِي الشُّعُوبِ كُلِّهَا كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ الْجَاحِدِينَ لِوُجُودِ رَبٍّ مُدَبِّرٍ لِلْعَالَمِينَ قَلِيلُونَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَحَجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي نَشْأَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ صِدْقِهِ الْفِطْرِيِّ الْمَطْبُوعِ، ثُمَّ بِمَا جَاءَ بِهِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ الْمُصْلِحَةِ لِجَمِيعِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِذَا عَقَلُوهَا وَاهْتَدَوْا بِهَا، وَإِسْنَادِهِ إِيَّاهَا إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَهُوَ صلى الله عليه وسلم بِمَزَايَاهُ هَذِهِ حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، بَلْ مَجْمُوعَةُ حُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ - وَهَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا أَزُفُّهُ إِلَيْكَ مِنْ قَوَاعِدِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْإِصْلَاحِيَّةِ بَعْدَ تَمْهِيدٍ وَجِيزٍ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَحِكْمَةِ جَعْلِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ مُتَفَرِّقَةً فِي سُورِهِ بِأُسْلُوبِهِ الْغَرِيبِ الْعَجِيبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا نُعِيدُهُ مَعَ زِيَادَةٍ مُفِيدَةٍ وَإِيضَاحٍ اقْتِدَاءً بِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ فِي تَكْرَارِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ إِيجَازٍ أَوْ إِسْهَابٍ، وَتَفْصِيلٍ أَوْ إِجْمَالٍ.
(أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ وَحِكْمَتُهُ وَإِعْجَازُهُ بِهِ)
لَوْ أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَدَارِ الثَّوَابِ وَدَارِ الْعِقَابِ جُمِعَتْ وَحْدَهَا مُرَتَّبَةً فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ مَثَلًا كَكُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمُدَوَّنَةِ - وَلَوْ أَنَّ عِبَادَاتِهِ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ وُضِعَ كُلٌّ مِنْهَا فِي بِضْعِ سُوَرٍ أَيْضًا كَكُتُبِ الْفِقْهِ الْمُصَنَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ آدَابَهُ وَحِكَمَهُ وَفَضَائِلَهُ الْوَاجِبَةَ وَالْمَنْدُوبَةَ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، أُفْرِدَتْ هِيَ وَمَا يَقْتَضِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْأَمْثَالِ الْبَاعِثَةِ لِشُعُورَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي بِضْعِ سُوَرٍ أُخْرَى كَكُتُبِ
الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْمُؤَلَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ قَوَاعِدَهُ التَّشْرِيعِيَّةَ وَأَحْكَامَهُ الشَّخْصِيَّةَ وَالسِّيَاسِيَّةَ وَالْحَرْبِيَّةَ وَالْمَدَنِيَّةَ وَحُدُودَهُ وَعُقُوبَاتِهِ التَّأْدِيبِيَّةَ رُتِّبَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ خَاصَّةٍ بِهَا كَأَسْفَارِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ - ثُمَّ لَوْ أَنَّ قِصَصَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ سُرِدَتْ فِي سُورِهَا مُرَتَّبَةً كَدَوَاوِينِ التَّارِيخِ - لَوْ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَرَادَ اللهُ بِهَا إِصْلَاحَ شُئُونِ الْبَشَرِ جُمِعَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا وَحْدَهُ كَتَرْتِيبِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ التَّارِيخِيِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مُرَتِّبَهُ، أَوْ كُتُبِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْقَوَانِينِ لَفَقَدَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ مَزَايَا هِدَايَتِهِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لِلْغَايَةِ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَيْهَا، وَهُوَ التَّعَبُّدُ بِهِ وَاسْتِفَادَةُ كُلِّ حَافِظٍ لِلْقَلِيلِ مِنْ سُوَرِهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِي جَمِيعِ السُّورِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُوجَدُ فِيهَا فِي هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَّا مَقْصِدٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحْكَامُ الطَّلَاقِ أَوِ الْحَيْضِ، فَهُوَ يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَلَاشَكَّ أَنَّهُ يَمَلُّهَا، وَأَمَّا سُوَرُهُ الْمُنَزَّلَةُ فَفِي كُلٍّ مِنْهَا حَتَّى أَقْصَرِهَا عِدَّةُ مَسَائِلَ مِنَ الْهِدَايَةِ فَتَرَى فِي سُورَتَيِ الْفِيلِ وَقُرَيْشٍ (الْمُتَعَلِّقَةُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى حَتَّى فِي الْإِعْرَابِ) ذِكْرَ مَسْأَلَتَيْنِ تَارِيخِيَّتَيْنِ قَدْ جُعِلَتَا حُجَّةً عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ بِمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنَايَتِهِ بِحِفْظِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ عِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَشَرَفِهِمْ وَتَأْمِينِ تِجَارَتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ - وَلَفَقَدَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ أَخَصَّ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ أَيْضًا.
يُعْلَمُ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا نُبَيِّنُهُ مِنْ فَوَائِدِ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَلِيمُ، الْحَكِيمُ، الرَّحِيمُ، وَهُوَ مَزْجُ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ كُلِّهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَتَفْرِيقُهَا فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، الطَّوِيلَةِ مِنْهَا وَالْقَصِيرَةِ، بِالْمُنَاسَبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَكْرَارُهَا بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْقُلُوبِ، الْمُحَرِّكَةِ لِلشُّعُورِ، النَّافِيَةِ لِلسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَرْتِيلِهَا بِنَغَمَاتِ نَظْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ وَفَوَاصِلِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْقَابِلَةِ لِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّغَنِّي الَّذِي يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ وِجْدَانَ الْخُشُوعِ، وَخَشْيَةَ الْإِجْلَالِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَالرَّجَاءَ فِي رِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْخَوْفَ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالِاعْتِبَارَ بِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مِنْ خَطَابَةٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا رَجْزٍ وَلَا سَجْعٍ، فَبِهَذَا الْأُسْلُوبِ الرَّفِيعِ فِي النَّظْمِ الْبَدِيعِ وَبَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ السَّنِيعِ، كَانَ كَمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ: لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ وَلَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ التَّرْدِيدِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ تُعْلَمُ مِمَّا وَقَعَ بِالْفِعْلِ وَهَاكَ بَيَانَهُ بِالْإِجْمَالِ.
الثَّوْرَةُ وَالِانْقِلَابُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقُرْآنُ فِي الْبَشَرِ:
الْقُرْآنُ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ نَشَأَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ سَلِيمِ الْعَقْلِ صَقِيلِ النَّفْسِ طَاهِرِ الْأَخْلَاقِ لَمْ تَمْلِكْهُ تَقَالِيدُ دِينِيَّةٌ وَلَا أَهْوَاءُ دُنْيَوِيَّةٌ ; لِأَجْلِ إِحْدَاثِ ثَوْرَةٍ وَانْقِلَابٍ كَبِيرٍ فِي الْعَرَبِ، فَسَائِرُ الْأُمَمِ يَكْتَسِحُ مِنَ الْعَالِمِ الْإِنْسَانِيِّ مَا دَنُسَ فِطْرَتُهُ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ
الَّذِي هَبَطَ بِهَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ أُفُقِهِ الْأَعْلَى فِي عَالَمِ الْأَرْضِ إِلَى عِبَادَةِ مِثْلِهِ وَمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا أَفْسَدَ عَقْلَهُ وَذَهَبَ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرِهِ مِنَ الْبِدَعِ الْكَنَسِيَّةِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمَذْهَبِيَّةِ، الَّتِي أَحَالَتْ تَوْحِيدَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ شِرْكًا وَحَقَّهُمْ بَاطِلًا، وَهِدَايَتَهُمْ غِوَايَةً - وَمَا أَفْسَدَ بَأْسَهُ، وَأَذَلَّ نَفْسَهُ، وَسَلَبَهُ إِرَادَتَهُ، مِنِ اسْتِبْدَادِ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، وَالرُّؤَسَاءِ الْقَاهِرِينَ، ثَوْرَةٌ تُحَرِّرُ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ وَالْإِرَادَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ رِقِّ الْمُنْتَحِلِينَ لِأَنْفُسِهِمْ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوِ النِّيَابَةِ عَنْهَا فِي التَّحَكُّمِ فِي النَّاسِ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، فَيَكُونُ كُلُّ امْرِئٍ اهْتَدَى بِهِ حُرًّا كَرِيمًا فِي نَفْسِهِ، عَبْدًا خَالِصًا لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، يُوَجِّهُ قُوَاهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ إِلَى تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَجِنْسِهِ.
مَثَلُ هَذِهِ الثَّوْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ((إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(13: 11) وَكَيْفَ يَكُونُ تَغْيِيرُ الْأَقْوَامِ
لِمَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي طَبَعَتْهَا عَلَيْهَا الْعِبَادَاتُ الْمَوْرُوثَةُ وَالْعَادَاتُ الرَّاسِخَةُ؟
هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ قِيَامُ مُصْلِحٍ فِيهِمْ يَضَعُ لَهُمْ كِتَابًا تَعْلِيمِيًّا جَافًّا كَكُتُبِ الْفُنُونِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ضَالُّونَ فَاسِدُونَ، وَمُضِلُّونَ مُفْسِدُونَ، فَاعْمَلُوا بِهَذَا الْكِتَابِ تَهْتَدُوا وَتَصْلُحُوا أَوْ قَانُونًا مَدَنِيًّا يَقُولُ فِي مُقَدِّمَتِهِ: نَفِّذُوا هَذَا الْقَانُونَ تُحْفَظْ حُقُوقُكُمْ، وَتَعْتَزَّ أُمَّتُكُمْ وَتَقْوَ دَوْلَتُكُمْ؟ أَنَّى وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّاسِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ سُوءُ التَّصَرُّفِ بِكُتُبِ أَنْبِيَائِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِهْمَالِ قَوَانِينِ حُكَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ، (كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَإِنَّمَا تُوضَعُ الْقَوَانِينُ لِلْحُكُومَاتِ الْمُنَظَّمَةِ ذَاتِ السُّلْطَةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي تَكْفُلُ تَنْفِيذَهَا، وَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ فِعْلُ هَذَا فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَقَدْ بُعِثَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَرِيدًا وَحِيدًا لَا عُصْبَةَ لَهُ مِنْ قَوِمِهِ وَلَا سُلْطَانَ؟ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِأَعْدَلِ الْأُصُولِ الَّتِي تَبْنِي عَلَيْهَا أُمَّتُهُ قَوَانِينَهَا عِنْدَ تَكْوِينِ دَوْلَتِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
كَلَّا إِنَّ هَذِهِ الثَّوْرَةَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا بِمَا حَدَثَتْ بِهِ وَهُوَ تَأْثِيرُ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَشَدَّ الْأُمَمِ الْبَدَوِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ اسْتِعْدَادًا فِطْرِيًّا لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالْإِقْنَاعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي كِتَابِنَا (خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ) وَسَنُلِمُّ بِهِ قَرِيبًا.
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ. إِنَّ مُجَرَّدَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إِذَا عَارَضَ الْمُقْتَضَى الْعِلْمِيَّ لَهُمَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الْمَوَانِعِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ. بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي النَّفْسِ وَصُدُورِ آثَارِهِمَا عَنْهُمَا بِالْعَمَلِ، إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْإِيمَانِ بِهِمَا إِذْعَانًا وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى الْقَلْبِ، رَاجِحًا عَلَى مَا يُخَالِفُهُ مِنْ رَغَبٍ وَرَهَبٍ
وَأَلَمٍ وَأَمَلٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي الْأَحْدَاثِ بِالتَّرْبِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ لَهُمْ فِيمَنْ يَنْشَئُونَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْمُعَاشِرِينَ.
وَأَمَّا كِبَارُ السِّنِّ فَلَا سَبِيلَ إِلَى جَعْلِ الْإِيمَانِ بِالْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْخَيْرِ الْعَامِّ إِذْعَانًا
وِجْدَانِيًّا لِجُمْهُورِهِمْ إِلَّا بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فَقَلَبَ بِهِ طِبَاعَ الْكُهُولِ وَالشُّبَّانِ وَأَخْلَاقَهُمْ وَتَقَالِيدَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى ضِدِّهَا عِلْمًا وَعَمَلًا بِمَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَشَرِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ آيَةً خَارِقَةً لِلْمَعْهُودِ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي تَأْثِيرِهِ، بِالتَّبَعِ لِكَوْنِهِ آيَةً مُعْجِزَةً لِلْبَشَرِ فِي لُغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ.
وَاعْتَبِرَ هَذَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سُلَالَةِ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ كُلَّ مَا رَأَوْهُ بِمِصْرَ مِنْ آيَاتِ مُوسَى عليه السلام، ثُمَّ مَا رَأَوْهُ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا مُدَّةَ التِّيهِ مِنْهَا، وَمِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَمِنْ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى بِآذَانِهِمْ فِي لَهِيبِ النَّارِ الْمُشْتَعِلَةِ عَلَى مَا تَرْوِيهِ تَوْرَاتُهُمْ - وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا التَّكْلِيمُ إِلَّا لِنَبِيِّهِمْ - لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَأْثِيرِ الْوَثَنِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَخُرَافَاتِهَا وَمَهَانَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا، فَقَدْ عَذَّبُوا مُوسَى عَذَابًا نُكْرًا، وَعَانَدُوهُ فِي كُلِّ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَعَبَدُوا صَنَمَ الْعِجْلِ الذَّهَبِيِّ فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ، حَتَّى وَصَفَهُمُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَلَادَةِ وَالْعِنَادِ، وَعَصْلِ الطِّبَاعِ الْمَانِعِ مِنَ الِانْقِيَادِ، وَظَلَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ بَادَ ذَلِكَ الْجِيلُ الْفَاسِدُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً نَشَأَ فِيهِمْ جِيلٌ جَدِيدٌ مِمَّنْ كَانُوا أَطْفَالًا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ وَمِمَّنْ وُلِدَ فِي التِّيهِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْقِلُوا التَّوْحِيدَ وَالشَّرِيعَةَ، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهَا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عليه السلام.
فَأَيْنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ تَرَبَّوْا بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتَرْتِيلِهِ وَتَدَبُّرِهِ فِي رُسُوخِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَاضْطِهَادِهِمْ إِيَّاهُمْ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ فِي مُجَاهَدَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (الْيَهُودِ) وَتَطْهِيرِهِمُ الْحِجَازَ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ كُفْرِ الْفَرِيقَيْنِ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كُلِّهَا عِشْرِينَ سَنَةً أَيْ نِصْفَ مُدَّةِ التِّيهِ، وَكَانَ ذَهَبَ نِصْفُهَا فِي الدَّعْوَةِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ لِلْأَفْرَادِ بِمَكَّةَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي تَمَّ فِيهِ الِانْقِلَابُ الْعَرَبِيُّ مِنْ تَشْرِيعٍ وَتَنْفِيذٍ وَجِهَادٍ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَدَفُّقِهِمْ هُمْ أَنْفُسِهِمْ كَالسَّيْلِ الْآتِي عَلَى الْأَقْطَارِ مِنْ نَوَاحِي الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا وَالظُّهُورِ عَلَى مَلِكَيْ قَيْصَرَ وَكِسْرَى أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَإِزَالَةِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ مِنْهُمَا، وَنَشْرِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِيهِمَا، وَدُخُولِ الْأُمَمِ فِي دِينِ اللهِ
أَفْوَاجًا مُخْتَارِينَ اهْتِدَاءً بِهِمْ،
وَعِنَايَتِهِمْ بِتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالتَّبَعِ لِعِنَايَتِهِمْ بِالدِّينِ، حَتَّى فَتَحُوا لَهُمْ وَتَلَامِيذُهُمْ نِصْفَ كُرَةِ الْأَرْضِ فِي زُهَاءِ نِصْفِ قَرْنٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَكَانُوا مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ وَمَوْضِعَ الْحَيْرَةِ لِعُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَقُوَّادِ الْحَرْبِ.
وَأَنَّى يَبْلُغُ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ فِي كِتَابِهِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ رُتْبَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا)(48: 29) الْآيَاتِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي طُبِعَ وَشَبَّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ يَطْبُخُ الطَّعَامَ هُوَ وَزَوْجُهُ لَيْلًا لِامْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ تَلِدُ وَبَعْلُهَا حَاضِرٌ لَا يُسَاعِدُهُمَا إِذْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
لَا جَرَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي الْمُصْحَفِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُجَاهِدُ بِهِ الْكَافِرِينَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)(25: 25) ثُمَّ كَانَ بِهِ يُرَبِّي الْمُؤْمِنِينَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَبِهِدَايَتِهِ وَالتَّأَسِّي بِمَبْلَغِهِ صلى الله عليه وسلم رَبَّوُا الْأُمَمَ وَهَذَّبُوهَا، وَقَلَّمَا يَقْرَؤُهُ أَحَدٌ كَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ، إِلَّا وَيَهْتَدِي بِهِ كَمَا كَانُوا يَهْتَدُونَ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الِاسْتِعْدَادِ النَّفْسِيِّ وَاللُّغَوِيِّ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانِ لَا يَخْفَى.
وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ بِأُسْلُوبِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي غَيَّرَ مَا بِأَنْفُسِ الْعَرَبِ فَغَيَّرُوا بِهِ أُمَمَ الْعَجَمِ، فَكَانُوا كُلُّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ عز وجل بِقَوْلِهِ:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)(3: 110) .
وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ وَإِدَارَتِهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ بِمُبَلِّغِهِ وَمُنَفِّذِهِ الْأَوَّلِ عليه الصلاة والسلام، وَلَنْ يَعُودَ لِلْمُسْلِمِينَ مَجْدُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا إِذَا عَادُوا إِلَى هِدَايَتِهِ، وَتَجْدِيدِ ثَوْرَتِهِ، وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مَنْ يَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ زَاعِمِينَ اسْتِغْنَاءَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ وَبِسُّنَةِ نَبِيِّهِ، بِكُتُبِ مَشَايِخِهِمُ الْجَافَّةِ الْخَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُحْيِي الْإِيمَانَ وَيُنْهِضُ الْهِمَمَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.
(فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهُ نَوْعَانِ)
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ وَإِحْدَاثَهُ تِلْكَ الثَّوْرَةِ الْكُبْرَى فِيهِمْ قَدْ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا جَذْبُهُ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَثَانِيهِمَا تَزْكِيَتُهُمْ وَتَغْيِيرُ كُلِّ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلٍ وَفَسَادٍ إِلَى ضِدِّهِ، حَتَّى أَعْقَبَ مَا أَعْقَبَ مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ. وَهَاكَ التَّفْصِيلَ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ لِذَلِكَ.
بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ وَلَا سِيَّمَا قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهَا لِمَا أَرَادَهُ
مِنَ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ لِلْبَشَرِ بِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَقْرَبَ الْأُمَمِ إِلَى سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَأَرْقَاهُمْ لُغَةً وَأَقْوَاهُمُ اسْتِقْلَالًا فِي الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ ; لِعَدَمِ وُجُودِ مُلُوكٍ مُسْتَبِدِّينَ وَرُؤَسَاءَ دِينٍ أُولِي سُلْطَانٍ رُوحِيٍّ يَتَحَكَّمُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِشَهَوَاتِهِمْ.
فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْقُرْآنِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِقَبُولِ دَعْوَتِهِ، وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ كَانُوا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مُلُوكِ شُعُوبِ الْعَجَمِ فِي التَّمَتُّعِ بِالثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْعَظَمَةِ الْكَاذِبَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْفَاتِنَةِ وَالسَّرَفِ فِي التَّرَفِ، وَعَلَى حَظٍّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ فِيهَا مِنَ الْمَكَانَةِ الدِّينِيَّةِ بِسَدَانَتِهِمْ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ الَّذِي أَوْدَعَ اللهُ تَعْظِيمَهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَسْلُبُهُمُ الِانْفِرَادَ بِهَذِهِ الْعَظَمَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَقَدْ يُفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَوَالِي، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ يُفَاخِرُونَ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَيُشَبِّهُهُمْ بِسَائِمَةِ الْأَنْعَامِ - فَوَجَّهُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَنُفُوذِهِمْ إِلَى صَدِّ مُحَمَّدٍ عَنْ دَعْوَتِهِ وَلَوْ بِتَمْلِيكِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ أَغْنَى رَجُلٍ فِيهِمْ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ إِقْنَاعُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا بِالتَّرْغِيبِ، حَتَّى التَّمْوِيلِ وَالتَّمْلِيكِ، فَقَدْ أَجَابَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ مَا أَرَادُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا:((يَا عَمِّ وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلَكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ)) حِينَئِذٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِهَا بِالْقُوَّةِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَبِصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ أَنْ يَأْتُوهُ وَيَسْتَمِعُوا لَهُ، وَبِاضْطِهَادِ مَنِ اتَّبَعَهُ بِالدَّعْوَةِ الْفَرْدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ مِنْهُمْ لِقَرَابَةٍ أَوْ
جِوَارٍ أَوْ ذِمَّةٍ، فَهَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءُ الْمُتْرَفُونَ الْمُسْرِفُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(6: 33) فَقَدْ كَابَرُوا الْحَقَّ بَغْيًا وَاسْتِكْبَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَكَانُوا أَجْدَرَ الْعَرَبِ بِقَبُولِ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(27: 14) كَفِرْعَوْنَ وَقَارُونَ وَهَارُونَ.
فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ
قُلْنَا إِنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: فِعْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَفِعْلِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَالْأَوَّلُ تَأْثِيرُ رَوْعَةِ بَلَاغَتِهِ، وَدَهْشَةِ نَظْمِهِ، وَأُسْلُوبِهِ الْجَاذِبِ لِفَهْمِ دَعْوَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، إِذْ لَا يَخْفَى حُسْنُهَا عَلَى أَحَدٍ فَهِمَهَا، وَكَانُوا يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا النَّوْعِ تَفَاوُتًا كَبِيرًا لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي بَلَاغَةِ اللُّغَةِ وَفَهْمِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ.
فَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ بِكَلِمَتِهِ الْعَالِيَةِ فِيهِ لِأَبِي جَهْلٍ
الَّتِي اعْتَرَفَ فِيهَا بِأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَالَّذِي يُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، وَكَانَتْ كَلِمَةً فَائِضَةً مِنْ نُورِ عَقْلِهِ وَصَمِيمِ وِجْدَانِهِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً أُخْرَى فِي الصَّدِّ عَنْهُ بَعْدَ إِلْحَاحِ أَبِي جَهْلٍ عَلَيْهِ بِاقْتِرَاحِهَا إِلَّا بِتَكْلِيفٍ لِمُكَابَرَةِ عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَبَعْدَ أَنْ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، وَنَظَرَ وَعَبَسَ وَبَسَرَ، وَأَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَسَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)(74: 11) الْآيَاتِ مِنْهَا.
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْذِبُ رُءُوسَ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْهُ وَنَأْيِهِمْ عَنْهُ، وَتَوَاصِيهِمْ وَتَقَاسُمِهِمْ لَا يَسْمَعُنَّ لَهُ، ثُمَّ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فُرَادَى مُسْتَخْفِينَ، وَيَتَلَاقَوْنَ فِي الطَّرِيقِ مُتَلَاوِمِينَ.
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مَنْعِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فِي الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلًا لِمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ وَبُكَائِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْجَاذِبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفْتِنُ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَاتَّخَذَ مَسْجِدًا لَهُ بِفِنَاءِ دَارِهِ فَطَفِقَ النِّسَاءُ وَالْأَوْلَادُ النَّاشِئُونَ يَنْسَلُّونَ إِلَى بَيْتِهِ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَنَهَاهُ أَشْرَافُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَزَالُ، وَأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ يَغْلِبَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا أَلْجَئُوهُ إِلَى الْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ ابْنَ الدُّغُنَّةِ سَيِّدَ قَوْمِهِ
فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ هِجْرَتِهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَهُوَ يَعْرِفُ فَضَائِلَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَأَجَارَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ بِجِوَارِهِ، فَعَادَ إِلَى قِرَاءَتِهِ، وَعَادَ النِّسَاءُ وَالنَّشْءُ الْحَدِيثُ إِلَى الِاسْتِمَاعِ لَهُ، حَتَّى اضْطَرَّ الْمُشْرِكُونَ ابْنَ الدُّغُنَّةِ إِلَى إِقْنَاعِهِ بِتَرْكِ رَفْعِ صَوْتِهِ بِالْقُرْآنِ أَوْ يَرُدُّ عَلَيْهِ جِوَارَهُ، فَرَدَّ أَبُو بَكْرٍ جِوَارَهُ اكْتِفَاءً بِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى، وَخَبَرُهُ هَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ وَأَوْرَدْنَاهُ بِطُولِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ (ص 377 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
بَلْ هَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى صَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُوَّةِ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفِي أَسْوَاقِ الْمَوْسِمِ وَمَجَامِعِهِ، وَعَلَى تَوَاصِيهِمْ بِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)(41: 26) .
وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا أَحَدُ فَلَاسِفَةِ فَرَنْسَةَ فَذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ قَوْلَ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ بِآيَةٍ عَلَى ثُبُوتِهِ كَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ خَاشِعًا أَوَّاهًا مُتَأَلِّهًا فَتَفْعَلُ قِرَاءَتُهُ فِي جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ (أَقُولُ) : وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ الْمُرَتَّبَةِ وَكُتُبِ الْفُنُونِ الْمُبَوَّبَةِ، لَمَا كَانَ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا كَانَ لِسُوَرِهِ الْمُنَزَّلَةِ.
كَانَ كُلُّ مَا يَطْلُبُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ بِتِلَاوَةِ
الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(6: 19) أَيْ وَأَنْذِرْ بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(27: 91 - 93) إِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ عَرَفُوا مِنْ قُوَّةِ جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِوَقْعِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِجُمْهُورِ الْعَرَبِ مِثْلُ مَا لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْجُحُودِ وَالْمُكَابَرَةِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ)) فَفَعَلُوا. وَكَانَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى بَثِّ الدَّعْوَةِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مَا أَفْضَى بِهِمْ إِلَى الِاضْطِهَادِ وَأَشَدِّ الْإِيذَاءِ لَهُ وَلِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، ثُمَّ إِجْمَاعُ الرَّأْيِ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى
أَلْجَئُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ صَارُوا يُقَاتِلُونَهُ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَمَا حَوْلَهَا، وَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، إِلَى أَنِ اضْطُرُّوا إِلَى عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ أَهَمُّ شُرُوطِ الصُّلْحِ السَّمَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَدُخُولِهِمْ بِتَأْثِيرِهِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، فَكَانَ انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ بِالسِّلْمِ وَالْأَمَانِ أَضْعَافَ انْتِشَارِهِ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ
كَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يُلَقَّنُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ - لِيَعْبُدَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ - وَيَعْلَمَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ غَيْرُهَا، فَيُرَتِّلُ مَا يَحْفَظُهُ فِي صَلَاتِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ التَّهَجُّدَ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ - الَّتِي قِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهَا الْمُدَّثِّرُ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ - وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (73: 1 - 4) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)(73: 20) أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَعْذَارَ الْمَانِعَةَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَمَا سَيَكُونُ بَعْدَ سِنِينَ وَهُوَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّ الَّذِي كَانَ يَمُرُّ بِبُيُوتِهِمْ لَيْلًا يَسْمَعُ مِنْهَا مِثْلَ دَوِيِّ النَّحْلِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ غَلَا بَعْضُهُمْ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى شَكَا مِنْهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
رَكْعَةً يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَمَا قَبْلَهَا مَثْنَى مَثْنَى، وَكَانَ هُوَ يُطِيلُ فِيهِنَّ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مُرَفِّهًا وَمُسَلِّيًا (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (20: 1 و2) .
فَتَرْبِيَةُ الصَّحَابَةِ الَّتِي غَيَّرَتْ كُلَّ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مَفَاسِدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَزَكَّتْهَا تِلْكَ التَّزْكِيَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا وَأَحْدَثَتْ أَعْظَمَ ثَوْرَةٍ رُوحِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ فِي التَّارِيخِ
إِنَّمَا كَانَتْ بِكَثْرَةِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ اللَّيْلَةَ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ يُكَرِّرُهَا مُتَدَبِّرًا لَهَا، وَكَانُوا يَقْرَءُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ وَمُضْطَجِعِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ:(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)(3: 191) وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللهِ تِلَاوَةُ كِتَابِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ وَالْفُنُونِ لَمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ فِي قَلْبِ الطِّبَاعِ، وَتَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ، بَلْ لَكَانَتْ تِلَاوَتُهُ تُمَلُّ فَتُتْرَكُ، فَأُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ آنِفًا مَنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ اللُّغَوِيِّ، وَتَأْثِيرِهِ الرُّوحِيِّ، وَمَنِ ارْتَابَ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا السُّورَةُ مِنْهُ وَلِيُحَاوِلْ كِتَابَتَهَا نَفْسَهَا أَوْ مِثْلَهَا بِأُسْلُوبِ تِلْكَ السُّورَةِ وَنَظْمِهَا أَوْ أُسْلُوبِ سُورَةٍ أُخْرَى، كَالسُّوَرِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ فِيهَا الْمَوْضُوعُ الْوَاحِدُ بِالْإِجْمَالِ الْمُوجَزِ تَارَةً وَبِبَعْضِ التَّفْصِيلِ تَارَةً وَبِالْإِطْنَابِ فِيهِ أُخْرَى، - كَالِاعْتِبَارِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي سُورِ الْمُفَصَّلِ (كَالذَّارِيَاتِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ) وَفِيمَا فَوْقَهَا (كَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ) وَفِيمَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْهَا (كَالْأَعْرَافِ وَهُودٍ) - ثُمَّ لِيَنْظُرْ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ عَجْزُهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ تَكْرَارَ الدَّعَوَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ الْجَمَاعَاتِ وَتَدَعُّهُمْ إِلَى الِانْهِمَاكِ وَالتَّفَانِي فِيهَا دَعًّا، وَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ يَعْلَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ فَوْقَ مَا يَعْلَمُهُ حُكَمَاءُ عَصْرِنَا وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ إِلَّا مَا لَهُ أَكْبَرُ الشَّأْنِ فِي انْقِلَابِ الْأَفْكَارِ، وَتَحْوِيلِ مَا فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الِانْقِلَابِ الْإِصْلَاحِيِّ بِدُونِهِ كَمَا تَعْلَمُ مِنَ التَّفْصِيلِ الْآتِي.
(مَقَاصِدُ الْقُرْآنِ، فِي تَرْقِيَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ) .
إِنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ مِنْ إِصْلَاحِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَجَمَاعَاتِهِمْ وَأَقْوَامِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَتَحْقِيقِ أُخُوَّتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَوَحْدَتِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مَا يَكْفِي بَيَانُهُ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا قَلِيلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا تَحْصُلُ
الْغَايَةُ إِلَّا بِتَكْرَارٍ كَثِيرٍ لِأَجَلِ أَنْ يَجْتَثَّ مِنْ أَعْمَاقِ الْأَنْفُسِ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ آثَارِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَيَغْرِسُ فِي مَكَانِهَا أَضْدَادَهَا، وَيَتَعَاهَدُ هَذَا الْغَرْسَ بِمَا يُنَمِّيهِ حَتَّى يُؤْتِيَ أُكُلَهُ وَيَيْنَعَ ثَمَرُهُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ
بِهَا كَامِلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ كَمَالُهُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُوضَعُ لَهُ بَعْضُ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ وَمِنْهَا مَا يَكْفِي فِيهِ الْفَحْوَى وَالْكِنَايَةِ.
وَالْقُرْآنُ كِتَابُ تَرْبِيَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَتَعْلِيمٍ، لَا كِتَابُ تَعْلِيمٍ فَقَطْ، فَلَا يَكْفِي أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاضِحَةً تَامَّةً كَالْمَعْهُودِ فِي كُتُبِ الْفُنُونِ وَالْقَوَانِينِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي مَوْضُوعِ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ:(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(62: 2) وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا أُصُولَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ كَمَا وَعَدْنَا عِنْدَ قَوْلِنَا إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ فَيْضِ اسْتِعْدَادِهِ الشَّخْصِيِّ، وَإِنَّنَا نُقَسِّمُ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ إِلَى أَنْوَاعٍ وَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ، وَمَا امْتَازَ بِهِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا بِالْإِجْمَالِ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا يَسَّرَ اللهُ لَنَا مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا فِي أَبْوَابٍ نُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا وَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَكَوْنَ الْقُرْآنِ وَفَّى بِهَذِهِ الْحَاجَةِ بِمَا نَأْتِي بِهِ مِنْ جُمْلَةِ آيَاتِهِ فِيهِ.
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِهِ الْإِصْلَاحُ الدِّينِيُّ لِأَرْكَانِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ) .
إِنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى وَنَاطَ بِهَا سَعَادَةَ الْبَشَرِ هِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُبَيَّنَةُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(2: 62) وَهَاكَ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا بِالْإِيجَازِ.
(الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى)
فَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى - قَدْ ضَلَّ فِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ حَتَّى أَقْرَبُهُمْ عَهْدًا بِهِدَايَةِ الرُّسُلِ، فَالْيَهُودُ جَعَلُوا اللهَ كَالْإِنْسَانِ يَتْعَبُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ كَخَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِثْلَهُ. ((أَوْ مِثْلَ الْآلِهَةِ)) وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي شَكْلِ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِنَّهُ صَارَعَ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْهُ حَتَّى بَارَكَهُ فَأَطْلَقَهُ! وَعَبَدُوا بَعْلًا وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالنَّصَارَى جَدَّدُوا مِنْ عَهْدِ قُسْطَنْطِينَ الْوَثَنِيَّاتِ الْقَدِيمَةَ، فَغَمَرَ الشِّرْكُ بِاللهِ هَذِهِ الْأَرْضَ بِطُوفَانِهِ وَطَغَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى أَهْلِهَا، حَتَّى صَارَتْ كَنَائِسُ النَّصَارَى كَهَيَاكِلِ الْوَثَنِيَّةِ الْأُولَى مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ - عَلَى أَنَّ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَالصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ عَقِيدَةُ الْهُنُودِ فِي كَرْشَنَةَ وَثَالُوثُهُ فِي جُمْلَتِهَا وَتَفْصِيلِهَا، وَهِيَ مَدْعُومَةٌ بِفَلْسَفَةٍ خَيَالِيَّةٍ غَيْرِ مَعْقُولَةٍ، وَبِنِظَامٍ يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ الْمُلُوكُ وَالْقَيَاصِرَةُ، وَيُبْذَلُ فِي سَبِيلِهِ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُرَبَّى عَلَيْهِ الْأَحْدَاثُ مِنَ الصِّغَرِ تَرْبِيَةً وِجْدَانِيَّةً خَيَالِيَّةً لَا تَقْبَلُ حُجَّةً
وَلَا بُرْهَانًا، فَهَدْمُ مَعَاقِلِ هَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ وَحُصُونِهَا الْمُشَيَّدَةِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْقُلُوبِ مَا كَانَ لِيَتِمَّ بِإِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ أَوْ عِدَّةِ بَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ عز وجل، بَلْ فِيهِ مِنْ دَحْضِ الشُّبَهَاتِ وَتَفْصِيلِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْخَطَابِيَّةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ ; لِذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ الْمَسَائِلِ تَكْرَارًا فِي الْقُرْآنِ مَسْأَلَةَ تَوْحِيدِ اللهِ عز وجل فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ مِلْكًا وَعَبِيدًا لَهُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ دُونِهِ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا لِأَحَدٍ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ إِلَّا فِيمَا سَخَّرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.
وَأَمَّا تَكْرَارُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَيْسَ سَبَبُهُ كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى، بَلْ سَبَبُهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِ الْعِبَادَةِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ وَابْتِغَاءِ شَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ، فَشَرُّ الشِّرْكِ وَأَعْرَقُهُ فِي الْكُفْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَقَدْ ذُكِرَ الدُّعَاءُ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً،
بَلْ زُهَاءَ سَبْعِينَ بَعْدَ سَبْعِينَ مَرَّةً ; لِأَنَّهُ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَحْنُهَا، بَلْ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ كُلُّهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَوَضْعِيٌّ تَشْرِيعِيٌّ.
بَعْضُ آيَاتِ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِدُعَائِهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا نَهْيٌ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهَا حُجَجٌ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ أَوْ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهَا أَمْثَالٌ، تُصَوَّرُ كُلًّا مِنْهُمَا بِالصُّوَرِ اللَّائِقَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَمِنْهَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ دُعَاءَ غَيْرِهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُسْتَجَابُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ وَأَنَّ أَفْضَلَهُمْ وَخِيَارَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ يَدْعُونَهُ هُوَ وَيَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَلْخِيصُهُ.
وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى تُغَذِّي التَّوْحِيدَ، وَتَصْعَدُ بِأَهْلِهِ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً فِي السُّمُوِّ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّوَلُّهِ فِي حُبِّهِ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ، وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مَمْزُوجَةً بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، حَتَّى أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِرْثِ وَالْأَمْوَالِ. وَبِحِكَمِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ، وَسُنَنِهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَفِي شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَوَضْعِ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُنَاسِبِ لَهُ مِنْ رَحْمَةٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَحِلْمٍ وَعَفْوٍ وَمَغْفِرَةٍ وَحُبٍّ وَرِضًا وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِي فَضْلِهِ إِلَخْ وَنَاهِيكَ بِمَا سَرَدَ مِنْهَا سَرْدًا لِجَذْبِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ إِلَى كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَفَنَائِهَا فِيهِ كَمَا تَرَاهُ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ فَتَأَمَّلْهَا، وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ:(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(3)
وَمِنْهَا اسْتَمَدَّ الْأَوْلِيَاءُ الْعَارِفُونَ وَالْأَئِمَّةُ الرَّبَّانِيُّونَ تِلْكَ الْكُتُبَ الْعَالِيَةَ فِي مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَأَسْرَارِ خَلْقِهِ، بَعْدَ أَنْ تَرَبُّوا بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ.
بِهَذَا التَّكْرَارِ الَّذِي جَعَلَهُ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ مَقْبُولًا غَيْرَ مَمْلُولٍ طَهَّرَ اللهُ عُقُولَ الْعَرَبِ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَكَّاهَا بِالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ وَالْفَضَائِلِ السَّامِيَةِ وَكَذَا غَيْرُ الْعَرَبِ مَنْ آمَنَ وَأَتْقَنَ لُغَةَ كِتَابِهِ وَصَارَ يُرَتِّلُهُ فِي عِبَادَتِهِ وَيَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ، حَتَّى إِذَا دَبَّ فِي الْأُمَّةِ دَبِيبُ الْجَهْلِ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَقَلَّ
تَدَبُّرُهُ، وَاعْتَمَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي فَهْمِ عَقِيدَتِهِمْ عَلَى الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُصَنَّفَةِ، ضَعُفَ التَّوْحِيدُ وَابْتَغَوْا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَتَأَوُّلًا وَجَدَلًا فَصَارَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ يَتَأَوَّلُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ بِشُبَهَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَمَعْلُومٌ.
عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ قَدْ بَالَغُوا فِي التَّوْحِيدِ حَتَّى أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ تَأْثِيرَ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَانْتَهَى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى بِدْعَةِ الْجَبْرِ الَّتِي أَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِهَا كُلَّ شَيْءٍ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ النَّظَرُ الْعَقْلِيُّ، أَوْ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَمَا تُثْمِرُهُ مِنَ الشُّعُورِ الْوِجْدَانِيِّ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ الْبُرْهَانِ وَلَا مِنَ الْوِجْدَانِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الْعَوَامَّ وَيَتَأَوَّلُونَ لَهُمْ بِكَلَامِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ الْجَاهِلِينَ وَلَوْ فَقِهُوا أَقْصَرَ سُورَةٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ كَمَا يَجِبُ - وَهِيَ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ - لَمَا وَجَدَ الشِّرْكُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلًا.
قَدْ كَانَ تَوْحِيدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ لِلَّهِ وَمَعْرِفَتُهُمْ بِهِ وَحُبُّهُمْ لَهُ وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي زَكَّى أَنْفُسَهُمْ، وَأَعْلَى هِمَمَهُمْ، وَكَمَّلَهَمْ بِعِزَّةِ النَّفْسِ وَشِدَّةِ الْبَأْسِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، وَإِعْتَاقِهَا مِنْ رِقِّ الْكَهَنَةِ وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَالْبُوذَاتِ وَالْمُوبَذَانَاتِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَتَحْرِيرِهِمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ وَاسْتِبْدَادِهِمْ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَضَارَةِ، وَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمَيِّتَةِ وَتَرْقِيَتِهَا فِيهِمْ وَقَدْ تَمَّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُقَارِبُهُ لِأُمَّةٍ مَنْ أَمَّمِ الْأَرْضِ، حَتَّى قَالَ الدُّكْتُورُ غُوسْتَافْ لُوبُونِ الْمُؤَرِّخُ الِاجْتِمَاعِيُّ الشَّهِيرُ: إِنَّ مَلَكَةَ الْفُنُونِ لَمْ يَتِمَّ تَكْوِينُهَا لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ النَّاهِضَةِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَجْيَالٍ، أَوَّلُهَا جِيلُ التَّقْلِيدِ، وَثَانِيهَا جِيلُ الْخَضْرَمَةِ وَثَالِثُهَا جِيلُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ - قَالَ: إِلَّا الْعَرَبَ وَحْدَهُمْ فَقَدِ اسْتَحْكَمَتْ لَهُمْ مَلَكَةُ الْفُنُونِ فِي الْجِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي بَدَءُوا فِيهِ بِمُزَاوَلَتِهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَرْبِيَةُ الْقُرْآنِ لَهُمْ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَاحْتِقَارِ التَّقْلِيدِ. وَتَوْطِينِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ الْبَشَرِ وَقِيَادَتِهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا، وَقَدْ خَفِيَ كُلُّ هَذَا عَلَى سَلَائِلِهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَزَوَالِ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ،
وَتَحَوُّلِ السُّلْطَانِ إِلَى الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ.
(الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ عَقِيدَةُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ)
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي. وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ كَانَ جُلُّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يُنْكِرُونَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَيَكُونُ بَاعِثًا لِلْأُمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِدُونِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمِلَلِ الَّتِي كَانَ لَهَا كُتُبٌ وَتَشْرِيعٌ دِينِيٌّ وَمَدَنِيٌّ، ثُمَّ فُقِدَتْ كُتُبُهُمْ أَوْ حُرِّفَتْ وَاسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ - يُؤْمِنُونَ بِحَيَاةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَهُمْ هَذَا قَدْ شَابَهُ الْفَسَادُ بِبِنَائِهِ عَلَى بِدَعٍ ذَهَبَتْ بِجُلِّ فَائِدَتِهِ فِي إِصْلَاحِ النَّاسِ. وَأَسَاسُهَا عِنْدَ الْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ وَخَلْفِ النَّصَارَى - وُجُودُ الْمُخَلِّصِ الْفَادِي، الَّذِي يُخَلِّصُ النَّاسَ مِنْ عُقُوبَةِ الْخَطَايَا وَيَفْدِيهِمْ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْأُقْنُومُ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنُ الْآخَرِ. وَكُلُّ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى فِي فِدَاءِ الْمَسِيحِ لِلْبَشَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ نُسْخَةٌ مُطَابِقَةٌ لِمَا يَقُولُهُ الْهُنُودُ فِي (كَرْشَنَةَ) فِي اللَّفْظِ وَالْفَحْوَى كَمَا تَقَدَّمَ، لَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا فِي الِاسْمَيْنِ: كَرْشَنَةَ، وَيَسُوعَ.
وَأَمَّا الْيَهُودُ فَكُلُّ دِيَانَتِهِمْ خَاصَّةٌ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَمُحَابَاةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّعُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُسَمُّونَهُ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ كَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَحْدَهُمْ لَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَدِيَانَتُهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمَادِّيَّةِ مِنْهَا إِلَى الرُّوحِيَّةِ. فَكَانَ فَسَادُ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ تَابِعًا لِفَسَادِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ، وَمُحْتَاجًا إِلَى الْإِصْلَاحِ مِثْلَهُ.
جَاءَ الْقُرْآنُ لِلْبَشَرِ بِهَذَا الْإِصْلَاحِ، فَقَدْ أَعَادَ دِينَ النَّبِيِّينَ فِي الْجَزَاءِ إِلَى أَصْلِهِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ مَا كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ جَعْلِ سَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ مَنُوطَيْنِ بِإِيمَانِهِ
وَعَمَلِهِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ لَا مَنْ عَمْلِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى بَيْنَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بِدُونِ مُحَابَاةِ شَعْبٍ عَلَى شَعْبٍ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَكُونُ بِمُقْتَضَى الْفَضْلِ، فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَقَدْ يُضَاعِفُهَا اللهُ تَعَالَى أَضْعَافًا كَثِيرَةً.
وَمَدَارُ كُلِّ ذَلِكَ قَاعِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(91: 7 - 10) أَيْ إِنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ النَّفْسَ وَسَوَّاهَا بِمَا وَهَبَهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ. قَدْ جَعَلَهَا بِإِلْهَامِ الْفِطْرَةِ وَالْغَرِيزَةِ مُسْتَعِدَّةً لِلْفُجُورِ الَّذِي يُرْدِيهَا وَيُدَسِّيهَا، وَالتَّقْوَى الَّتِي تُنْجِيهَا وَتُعْلِيهَا، وَمُتَمَكِّنَةً مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِإِرَادَتِهَا، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ خَوَاطِرِهَا وَمَطَالِبِهَا. وَمَنْحِهَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ يُرَجِّحَانِ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، فَبِقَدْرِ طَهَارَةِ النَّفْسِ وَأَثَرِ تَزْكِيَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، يَكُونُ ارْتِقَاؤُهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَالضِّدُّ بِالضِّدِّ فَالْجَزَاءُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ النَّفْسِيِّ وَالْبَدَنِيِّ الَّذِي يُزَكِّي
النَّفْسَ أَوْ يُدَسِّيهَا وَيُدَنِّسُهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُثْبِتُهُ مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ، وَحِكْمَةَ الدَّيَّانِ وَهُوَ مِمَّا أَصْلَحَهُ الْقُرْآنُ مِنْ تَعَالِيمِ الْأَدْيَانِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنْ إِنْكَارِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَمِنْ فَسَادِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْمِلَلِ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَلِمْتَ أَنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ تَذَكُّرَهَا هُوَ الَّذِي يُقَوِّي الْوَازِعَ النَّفْسِيَّ الَّذِي يَصُدُّ الْإِنْسَانَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ - عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ لِيَفْعَلَ فِعْلَهُ الْعَاجِلَ فِي شَعْبٍ كَبِيرٍ إِلَّا بِتَكْرَارِهِ فِي الْقُرْآنِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ، وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ مِنَ الْأَذْهَانِ. تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، لَعَلَّهَا تَبْلُغُ الْمِئَاتِ، وَمِنْ إِعْجَازِهِ أَنَّهَا لَا تُمَلُّ وَلَا تُسْأَمُ.
الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، مِنْ لَوَازِمَ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ الْمُتَّصِفِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ الْبَعْثِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَظْهَرِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (23: 115) وَقَوْلُهُ: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)(75: 36 - 40) فَكُفْرُ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ يَسْتَلْزِمُ كُفْرَهُ بِحِكْمَةِ رَبِّهِ وَعَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ، وَكُفْرَهُ بِنِعْمَتِهِ بِخَلْقِهِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى أَهْلِ عِلَلِهِ (الْأَرْضِ) حَيْثُ سَخَّرَهَا وَكُلَّ مَا فِيهَا لِمَنَافِعِهِ، وَعَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَعَدَهُ بِمَصِيرِهِ إِلَيْهِ وَجِهَادٍ بِمَا وَهَبَهُ مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى وَالْعَقْلِ، وَجَهْلِهِ بِحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ مُسْتَعِدًّا لِمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَنِهَايَةٌ مِنَ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ لِحَيَاةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ - وَمِنْ لَوَازِمَ هَذَا الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ كُلِّهِ، احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ خُلِقَ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْأَرْضِ مَوْقُوتٌ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الْمُنَغَّصِ بِالْهُمُومِ وَالْمَصَائِبِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْآثَامِ، وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى لَا يُجْزَى كُلُّ ظَالِمٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِظُلْمِهِ، وَكُلُّ عَادِلٍ بِعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِذْ كَانَ هَذَا الْجَزَاءُ غَيْرَ مُطَّرِدٍ فِي الدُّنْيَا لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الْآخِرَةِ هُوَ الْمَظْهَرَ الْأَكْبَرَ لِلْعَدْلِ الْعَامِّ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ يَكُونُونَ أَكْمَلَ أَرْوَاحًا وَأَجْسَادًا مِمَّا كَانُوا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ وَالْأَرْوَاحِ السَّافِلَةِ يَكُونُونَ أَنْقَصَ وَأَخْبَثَ مِمَّا كَانُوا بِتَدْسِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُعْلَمُ مِمَّا ثَبَتَ
عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْدَمِينَ أَنَّ الْأَدْيَانَ الْقَدِيمَةَ كَانَتْ تُعْلِمُ النَّاسَ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ.
وَلَوْ كَانَ الْبَعْثُ لِلْأَرْوَاحِ وَحْدَهَا لَنَقَصَ مِنْ مَلَكُوتِ اللهِ تَعَالَى هَذَا النَّوْعُ الْكَرِيمُ الْمُكَرَّمُ مِنَ الْخَلْقِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ رُوحٍ وَجَسَدٍ، فَهُوَ يُدْرِكُ اللَّذَّاتِ الرُّوحِيَّةَ وَاللَّذَّاتِ الْجُثْمَانِيَّةَ، وَيَتَحَقَّقُ بِحِكَمِ اللهِ (جَمْعُ حِكْمَةٍ) وَأَسْرَارِ صُنْعِهِ فِيهِمَا مَعًا، مِنْ حَيْثُ حَرَمَ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ مِنَ الْأُولَى وَالْمَلَائِكَةَ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَمَا جَنَحَ مَنْ جَنَحَ مِنْ أَصْحَابِ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ إِلَى الْبَعْثِ الرُّوحَانِيِّ الْمُجَرِّدِ، إِلَّا لِاحْتِقَارِهِمْ لِلَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ
وَتَسْمِيَتِهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ مَعَ شَغَفِ أَكْثَرِهِمْ بِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ نَقْصًا فِي الْإِنْسَانِ إِذَا سَخَّرَ عَقَلَهُ وَقُوَاهُ لَهَا وَحْدَهَا، حَتَّى يَصْرِفَهُ اشْتِغَالُهُ بِهَا عَنِ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَأَصْلُ هَذَا الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ غُلُوُّ الْهُنُودِ فِي احْتِقَارِ الْجَسَدِ وَتَرْبِيَةِ النَّفْسِ بِالرِّيَاضَةِ وَتَعْذِيبِ الْجَسَدِ، وَتَبِعَهُمْ فِيهِ نُسَّاكُ النَّصَارَى كَمَا تَبِعُوهُمْ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ وَالتَّثْلِيثِ، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ تَلَامِيذِهِ لَمَّا وَدَّعَهُمْ فِي الْفِصْحِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مِنَ الْآنَ لَا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هَذَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي (مَتَّى 26: 29) وَجَرَى الْيَهُودُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِالِاعْتِدَالِ فَأَعْطَى الْإِنْسَانَ جَمِيعَ حُقُوقِهِ، وَطَالَبَهُ بِمَا يَكُونُ بِهَا كَامِلًا فِي إِنْسَانِيَّتِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ جَمِيعِ أَطْرَافِهَا الْعِلْمِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَكَشْفِ شُبَهَاتِهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِمَسَائِلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ، وَدَحْضِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا ص 417 - 427 ج 8 ط الْهَيْئَةِ.
وَيُؤْخَذُ مِمَّا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ صِفَةِ حَيَاةِ الْآخِرَةِ أَنَّ الْقُوَى الرُّوحِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ وَالْمُتَصَرِّفَةَ فِي الْأَجْسَادِ، فَتَكُونُ قَادِرَةً عَلَى التَّشَكُّلِ بِالصُّوَرِ اللَّطِيفَةِ وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الْبَعِيدَةِ فِي الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ، وَالتَّخَاطُبِ بِالْكَلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ - وَإِنَّ تَرَقِّيَ الْبَشَرِ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ وَخَوَاصِّ الْكَهْرَبَاءِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْآلَاتِ فِي عَصْرِنَا قَدْ قَرَّبَ كُلَّ هَذَا مِنْ حِسِّ الْإِنْسَانِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَادِّيُّونَ الْمُلْحِدُونَ يُعِدُّونَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(7: 44) مِنْ تَخَيُّلَاتِ مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نُخَاطِبُ مِنْ مِصْرَ أَهْلَ عَوَاصِمِ أُورُبَّةَ بِآلَةِ التِّلِيفُونِ، وَنَسْمَعُ خُطَبَهُمْ وَمَعَازِفَهُمْ بِآلَةِ الرَّادْيُو وَسَنَرَاهُمْ وَيَرَوْنَنَا بِآلَةِ التِّلِيفِزْيُونْ مَعَ التَّخَاطُبِ حِينَمَا يَعُمُّ انْتِشَارُهَا.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الرُّوحِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ فِي أَجْسَادٍ تَأْخُذُهَا مِنْ مَادَّةِ الْكَوْنِ كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَوْ مَسَائِلُ قَدْ شَرَحْنَاهَا
مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَإِنَّمَا نَذْكُرُهَا هُنَا بِالْإِجْمَالِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنْ عَقْلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِلْهَامَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ.
وَيُنَاسِبُ هَذَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَبَأِ خَرَابِ الْعَالِمِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ بَدْءُ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِذَكَائِهِ أَوْ نَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ قَارِعَةً - وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَوْكَبٌ - تَقْرَعُ الْأَرْضَ وَتَصُخُّهَا صَخًّا وَتَرُجُّهَا رَجًّا فَتَكُونُ هَبَاءً (غُبَارًا رَقِيقًا) مُنْبَثًّا فِي الْفَضَاءِ وَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ بِالْجَاذِبِيَّةِ لِلْعَامَّةِ فَتَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ إِلَخْ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ مِنْ أَحَدٍ فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي سَفَرِهِ وَلَا يَعْقِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بِرَأْيِهِ وَفِكْرِهِ، فَهُوَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَدْحَضُ زَعْمَ الْقَائِلِينَ بِالْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْمُعَاصِرِينَ بِأَنَّ خَرَابَ الْعَالَمِ بِهَذَا السَّبَبِ هُوَ أَقْرَبُ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِخَرَابِهِ.
(الرُّكْنُ الثَّالِثُ لِلدِّينِ الْعَمَلُ الصَّالِحِ)
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ ; لِإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَهُ الْبَشَرُ فِيهِ بِجَعْلِهِ تَقْلِيدِيًّا غَيْرَ مُزَكٍّ النَّفْسَ وَلَا مُصْلِحٍ لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنْ دُونَ تَكْرَارِ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَقْدِيسِهِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ، وَلَوْلَا الْحَاجَةُ إِلَى هَذَا التَّكْرَارِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْثِيرِ لَكَانَتْ سُورَةُ الْعَصْرِ كَافِيَةً فِي الْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ الْعَمَلِيِّ عَلَى قِصَرِهَا، كَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ فِي الرُّكْنِ الْأَوَّلِ الِاعْتِقَادِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تُكْتَبُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا مِنْ مُعْجِزَاتِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ بِاللهِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ عَرَفَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ وَالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَرَجَاءً فِي الثَّوَابِ.
وَيَدْخُلُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَسَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تُرْضِيهِ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِكْرَامِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَمِنْ أُصُولِهِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةُ فِي آيَاتِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ:
(وَقَضَى رَبُّكَ) إِلَى قَوْلِهِ: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)(17: 23 - 39) إِلَخْ وَهِيَ أَجْمَعُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ. وَآيَاتُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(6: 151) إِلَخْ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ الْحَثِّ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ
بِالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ، وَمَثَارُهَا الْأَكْبَرُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطَاعَةُ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وَيُضَمِّدُهُمَا مَلَكَةُ التَّقْوَى، فَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يَقِي النَّفْسَ مِنْ كُلِّ مَا يُدَنِّسُهَا وَتَسُوءُ بِهِ عَاقِبَتُهَا فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا تُذْكَرُ فِي الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي (ص 538 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِالشَّوَاهِدِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا.
وَسُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَيَانُ أُصُولِهَا وَمَجَامِعِهَا، وَتَكْرَارُ التَّذْكِيرِ بِهَا بِالْإِجْمَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَحُثُّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الرُّوحِيَّةُ الْعُلْيَا وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ الْمُثْلَى، وَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الْكُبْرَى، كَرَّرَ الْأَمْرَ بِهِمَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبَيَّنَ أَهَمَّ مَنَافِعِهِمَا بِقَوْلِهِ:(إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)(29: 45) وَقَوْلِهِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)(70: 19 - 26) الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)(9: 103) .
وَلَمْ يُكَرِّرْ مَا يُحْفَظُ بِالْعَمَلِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالرَّسُولِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا إِلَّا لِمَا لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ، وَذُكِرَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الصِّيَامِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَلَا عَدَدُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ ; لِأَنَّ كُلَّ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ وَيُحْفَظُ بِالْعَمَلِ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ وَلَا تَغْذِيَةٌ لِلْإِيمَانِ.
تَرْجِيحُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى فَضَائِلِ الْإِنْجِيلِ:
وَأَذْكُرُ فَضِيلَتَيْنِ مِنْ فَضَائِلِهِ يَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ مَا هُوَ مَأْثُورٌ عِنْدَهُمْ فِيهَا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ:
(الْأُولَى) قَوْلُ الْمَسِيحِ عليه السلام: ((أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ. وَمَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ
فَأَدِرْ لَهُ الْأَيْسَرَ)) وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ امْتِثَالَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ يَتَعَذَّرُ عَلَى غَيْرِ الْأَذِلَّةِ الْمُسْتَعْبَدِينَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ بِإِغْرَاءِ الْأَقْوِيَاءِ بِالضُّعَفَاءِ الْخَاضِعِينَ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ أُعْصَى النَّاسِ لَهَا مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَسِيحِيِّينَ.
أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَوَامِرِ لَا تَأْتِي فِي دِينِ الْفِطْرَةِ الْعَامِّ ; لِأَنَّ امْتِثَالَهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ.
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)(2: 286) وَإِنَّمَا قَرَّرَ الْقُرْآنُ فِي مَوْضُوعِهَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالْمَصْلَحَةِ. قَالَ تَعَالَى:
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(42: 40 - 43) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ لِلْمُسِيءِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الِانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ فَضْلُهُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِبْدَالِ الْمَوَدَّةِ بِالْعَدَاوَةِ، فِي مَكَانِ الْإِغْرَاءِ بِالتَّعَدِّي وَدَوَامِ الظُّلْمِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(41: 34، 35) فَانْظُرْ كَيْفَ بَيَّنَ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ وَدَرَجَاتِهِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ. وَكَيْفَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَحُكْمِ الْعَقْلِ، أَفَلَيْسَ هَذَا الْإِصْلَاحُ الْأَعْلَى عَلَى لِسَانِ أَفْضَلِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْشِدِينَ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ؟ بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فَكَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.
(الثَّانِيَةُ) مُبَالَغَةُ الْمَسِيحِ عليه السلام فِي التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَمْرِ بِتَرْكِهَا وَذَمِّ الْغَنِيِّ، حَتَّى جَعَلَ دُخُولَ الْجَمَلِ فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ أَيْسَرَ مِنْ دُخُولِ الْغَنِيِّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. وَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَسَابِقَتَهَا إِنَّمَا كَانَتَا إِصْلَاحًا مُوَقَّتًا لِإِسْرَافِ الْيَهُودِ وَغُلُوِّهِمْ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ حَتَّى أَفْسَدَ أَخْلَاقَهُمْ وَآثَرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. وَالْغُلُوُّ يُقَاوَمُ مُوَقَّتًا بِضِدِّهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ دَوْلَةُ الرُّومَانِ السَّالِبَةُ لِاسْتِقْلَالِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ دَوْلَةً مُسْرِفَةً فِي الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ دِينُ الْبَشَرِ الْعَامُّ الدَّائِمُ، فَلَا يُقَرَّرُ فِيهِ إِلَّا مَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذَمَّ اسْتِعْمَالَ الْمَالِ فِيمَا يَضُرُّ مِنَ الْإِسْرَافِ
وَالطُّغْيَانِ وَذَمَّ أَكْلَهُ بِالْبَاطِلِ وَمَنْعَ الْحُقُوقِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَالْبُخْلَ بِهِ عَنِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَمَدَحَ أَخْذَهُ بِحَقِّهِ، وَبَذْلَهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْفَاقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُعِزُّ الْمِلَّةَ وَيُقَوِّي الْأُمَّةَ وَيَكُونُ عَوْنًا لَهَا عَلَى حِفْظِ حَقِيقَتِهَا وَاسْتِقْلَالِهَا - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِمَّا أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، فِيمَا أَوْحَاهُ مِنْ كِتَابِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا كَانَ لِرَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَنْ يَصِلَ بِعَقْلِهِ إِلَى أَمْثَالِ هَذَا الْإِصْلَاحِ لِتَعَالِيمِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ بِهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ وَلِكُتُبِ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَيْضًا، فَهَلِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ عز وجل أَمْ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ ! .
وَعَلَى ذِكْرِ الْفَلَاسِفَةِ أَذْكُرُ شُبْهَةً لِمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَى الْفَضَائِلِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ الدِّينِيَّةِ، يَلُوكُونُهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُونَ فَسَادَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْكَمَالَ الْبَشَرِيَّ أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ لِذَاتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَا لِعِلَّةٍ، وَيَعُدُّونَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِلَلِ أَنْ يَعْمَلَهُ رَجَاءً فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهَا، وَمَعْنَى هَذَا إِنْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَنَّ مَنْ يَقْصِدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ
وَتَرْقِيَةِ رُوحِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ذِي الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ الْأَعْلَى - وَأَهْلًا لِجِوَارِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ يَكُونُ نَاقِصًا وَإِنَّمَا يَكُونُ كَامِلًا إِذَا خَرَجَ عَنْ طَبْعِهِ، وَقَصَدَ النَّفْعَ بِعَمَلِهِ لِغَيْرِهِ دُونَ نَفْسِهِ، وَدُونَ إِرْضَاءِ رَبِّهِ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَحِدُّ حَقِيقَةَ هَذَا الْخَيْرِ لِلْبَشَرِ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ؟
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ ثَلَاثَةٌ مَأْثُورَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْوَحْيُ وَهِدَايَةُ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ دَبَّ إِلَيْهَا الْفَسَادُ بِتَعَالِيمِ الْوَثَنِيَّةِ وَبِدَعِهَا، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَأَصْلَحَ مَا كَانَ مِنْ فَسَادِهَا الَّذِي جَعَلَهَا غَيْرَ كَافِلَةٍ لِسَعَادَةِ الْبَشَرِ الْآخِذِينَ بِهَا، مِنْ شَوْبِ الْإِيمَانِ بِاللهِ بِالشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ بِالْخَلْقِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ بِالْمُحَابَاةِ وَالْفِدَاءِ، لَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَجَعَلَ الْعِبَادَاتِ تَقَالِيدَ كَاللَّعِبِ وَاللهْوِ، غَيْرَ مُثْمِرَةٍ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَلَا رَاجِحَةً فِي مِيزَانِ الْعَقْلِ، وَعِبَادَاتُ الْإِسْلَامِ وَآدَابُهُ كُلُّهَا مَعْقُولَةٌ مُكَمِّلَةٌ لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ.
وَإِنَّنَا نُقَفِّي عَلَى هَذَا بِبَيَانِ الْقُرْآنِ لِمَا جَعَلَهُ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَيَانِ مَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ الدَّائِمِ لِلْبَشَرِ، الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ مَعَارِفِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم النَّابِعَةِ مِنْ نَفْسِهِ.
الْمَقْصِدُ الثَّانِي مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(بَيَانُ مَا جَهِلَ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ)
كَانَتِ الْعَرَبُ تُنْكِرُ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ إِلَّا أَفْرَادًا مِنْ بَقَايَا الْحُنَفَاءِ فِي الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لِأَهْلِهِمَا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَكَانَتْ شُبْهَةُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْوَحْيِ اسْتِبْعَادَ اخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى بَعْضَ الْبَشَرِ بِهَذَا التَّفْضِيلِ عَلَى سَائِرِهِمْ، وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ بِزَعْمِهِمْ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يُخْتَصَّ تَعَالَى بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْمِنَّةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُرَ النُّبُوَّةَ فِي شَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَحْدَهُ، كَأَنَّ بَقِيَّةَ الْبَشَرِ لَيْسُوا مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ مَا أَعْطَاهُ لِلْيَهُودِ مِنْ هِدَايَةِ النُّبُوَّةِ. عَلَى أَنَّهُمْ وَصَفُوا الْأَنْبِيَاءَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ عَلَى اللهِ وَمُصَارَعَتِهِ وَارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَسَمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَوَافَقَهُمُ النَّصَارَى عَلَى حَصْرِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، وَأَثْبَتُوا قَدَاسَةَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رُسُلِ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ وَعَبَدُوهُمْ أَيْضًا، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ بَعْضِ خَوَاصِّ تَلَامِيذِهِ إِنْكَارَهُ إِيَّاهُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَسْلَمَهُ لِأَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: ((كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَاتَّخَذَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَقُسُوسَهُمْ أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، بِأَنْ نَحَلُوهُمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ مِنْ وَضْعِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللهِ وَإِنْكَارِ عَدْلِهِ، وَعُمُومِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَمُفْسِدَاتِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَجَعْلِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُ مُسْتَعْبَدًا لِأَفْرَادٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَأَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى كُلَّ ذَلِكَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَأَثْبَتَ بَعْثَةَ الرُّسُلِ وَالْمُنْذِرِينَ لِجَمِيعِ شُعُوبِهِ بِقَوْلِهِ:(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ)(16: 36) وَقَوْلِهِ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)(35: 24) وَكَرَّمَ الْإِنْسَانَ بِجَعْلِ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ
مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحْدَهُ. وَإِنَّمَا النَّبِيُّونَ وَالرُّسُلُ مُبَلِّغُونَ عَنْهُ وَلَيْسُوا بِمُسَيْطِرِينَ عَلَى الْأَقْوَامِ، وَطَاعَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِطَاعَتِهِ، فَقَدْ أَبْطَلَ مَا نَحَلَهُمُ النَّاسُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ التَّشْرِيعِ، كَمَا أَبْطَلَ عِبَادَتَهُمْ وَعِبَادَةَ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْقِدِّيسِينَ، وَبِذَلِكَ تَحَرَّرَ الْإِنْسَانُ مِنَ الرِّقِّ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي مُنِيَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْمُتَدَيِّنَةُ وَلَا سِيَّمَا النَّصَارَى.
وَلِضَلَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فِي ذَلِكَ، كَرَّرَ هَذَا الْإِصْلَاحَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرُّسُلَ بَشَرٌ مِثْلُ سَائِرِ الْبَشَرِ يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ لَيْسُوا إِلَّا مُبَلِّغِينَ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى الْمُوحَى إِلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِهِمُ الْمُكَمِّلِ لِدِينِهِمْ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)(18: 110) الْآيَةَ. وَقَالَ فِي جُمْلَتِهِمْ مِنْ وَسَطِهَا: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(18: 56) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 48) وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ أُخْرَى. بَعَثَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالتَّنْفِيذِ، وَبِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِلنَّاسِ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا هِدَايَةً وَلَا نَجَاةً مِنَ الْعِقَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(7: 188) وَسَيَأْتِي نَظِيرُهَا فِي الْآيَةِ 49 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوَاضُعِ بِمَا لَا يَدَعُ لِتَأْوِيلِ الْآيَاتِ سَبِيلًا حَتَّى فَطِنَ لِذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارِ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا رَأَى خِزْيَ النَّصَارَى بِتَأْلِيهِ نَبِيِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ، لَمْ يَكْتَفِ بِتَلْقِيبِ نَفْسِهِ بِرَسُولِ اللهِ، حَتَّى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا:((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)) .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يُثْبِتُونَهَا لِمَعْبُودَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُثْبِتُونَهَا لِأَنْبِيَائِهِمْ وَقِدِّيسِيهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَدْ نَفَاهَا الْقُرْآنُ وَأَبْطَلَهَا، وَأَثْبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ (يَعْلَمُ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (21: 28، 29)
وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِ مِرَارًا (مِنْهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْأَحَادِيثِ غَيْرُ الشَّفَاعَةِ الْوَثَنِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ) . وَكَرَّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ دُونَ تَكْرَارِ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ لَهَا فَالْإِقْنَاعُ بِهَا أَسْهَلُ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، فَهَلْ كَانَ هَذَا مِمَّا اسْتَمَدَّهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَادُوا بِهِ عَلَيْهِ وَبَخِلُوا بِهِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ؟ أَمْ هُوَ نَابِعٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَنْبُعُ مِنْهَا أَعْلَى مِنْ وَحْيِ اللهِ لِغَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ دَعْوَى أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ؟ كَلَّا إِنَّمَا هِيَ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى لَهُ:
الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ:
وَمِمَّا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ كَالْكُفْرِ بِهِمْ كُلِّهِمْ ; لِأَنَّ إِضَافَتَهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَوَظِيفَتُهُمْ فِي إِرْشَادِ الْمُكَلَّفِينَ تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ وَشَرْعِهِ وَاحِدَةٌ.
قَالَ تَعَالَى فِي خَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)(2: 285) وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ هُوَ الْكُفْرُ حَقُّ الْكَفْرِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَفْرِقَةٍ هُوَ الْإِيمَانُ حَقُّ الْإِيمَانِ، وَهُوَ فِي الْآيَاتِ (4: 150 - 152) .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَاحِدٌ فِي مَقَاصِدِهِ مِنْ هِدَايَةِ الْبَشَرِ وَإِصْلَاحِهِمْ، وَإِعْدَادِهِمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ صُوَرُ الْعِبَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَقْوَامِ وَمُقْتَضَيَاتِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. فَالْإِيمَانُ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى فِي الْإِيمَانِ، وَجَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْكُفْرِ.
وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعَادِلَةِ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَبِيهِمْ وَجَدِّهِمْ عَلَى مَا يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ عُيُوبٍ وَمُنْكَرَاتٍ وَفَوَاحِشَ يَرْمُونَهُمْ بِهَا.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ رُسُلًا هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، يُؤْمِنُونَ بِهِمْ إِجْمَالًا وَبِمَا قَصَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْصِيلًا، فَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ بِهَذَا نَوْعَ الْإِنْسَانِ، وَمَهَّدَ بِهِ السَّبِيلَ لِلْأُلْفَةِ وَالْأُخُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي نُبَيِّنُهَا بَعْدُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ، أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ بِتَخْصِيصِ
اللهِ تَعَالَى، وَبِمَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْ نَفْعِ الْعِبَادِ وَهِدَايَتِهِمْ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ جِدًّا. قَالَ اللهُ تَعَالَى:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(2: 253) .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَأَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، هُوَ الَّذِي رَفَعَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ دَرَجَاتٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ بِالْإِجْمَالِ وَفَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ أَقْصَدَ التَّفْصِيلِ.
وَإِنَّكَ لَتَجِدُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَتْبَاعِهِ: ((لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ)) قَالَهُ إِنْكَارًا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَطَمَ يَهُودِيًّا لِأَنَّهُ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا عَلَى صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ وَقَالَهُ.
وَبَيَّنَ مَزِيَّةً لِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ:((وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)) وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ:((لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ)) وَفِي بَعْضِهَا ((لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى)) وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَنْعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَنْقِيصِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَمِنَ التَّعَادِي بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ قَالَ فِي تَعْلِيلِ نَهْيِهِ عَنْ سُؤَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ:((وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
فَصْلٌ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ
(وَمَا يُشْبِهُ بَعْضَهَا مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَمَا يُشْتَبَهُ بِهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَضَلَالِ الْمَادِّيِّينَ وَالْخُرَافِيِّينَ فِيهَا)
تَكَلَّمْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّصَارَى بِالْعَجَائِبِ، وَيُسَمِّيهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنَّا بِالْمُعْجِزَاتِ، وَيَعُدُّونَهَا قِسْمًا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا عِدَّةَ أَقْسَامٍ، وَنَقُولُ هُنَا كَلِمَةً وَجِيزَةً فِي إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ لِضَلَالِ الْبَشَرِ فِيهَا، وَالصُّعُودِ بِهِمْ أَعْلَى مَرَاقِي الْإِيمَانِ، اللَّائِقِ بِطَوْرِ الرُّشْدِ الْعَقْلِيِّ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِسُنَنِ الْأَكْوَانِ، الَّذِي مَنَحُوهُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عليه الصلاة والسلام، فَنَقُولُ:
آيَاتُ اللهِ نَوْعَانِ:
آيَاتُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ نَوْعَانِ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَهِيَ أَكْثَرُهَا وَأَظْهَرُهَا وَأَدَلُّهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَسَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. (وَالنَّوْعُ الثَّانِي) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ
الْمَعْرُوفَةِ لِلْبَشَرِ وَهِيَ أَقَلُّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَدَلَّهَا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى اخْتِيَارِهِ عز وجل فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ وَمَا يَخْلُقُ، وَكَوْنِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ غَيْرَ مُقَيَّدَتَيْنِ بِسُنَنِ الْخَلْقِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْكَوْنِ، فَالسُّنَنُ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَإِتْقَانِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَقَدْ يَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى مِنْ حِكَمِهِ الْبَالِغَةِ، وَلَوْلَا هَذَا الِاخْتِيَارُ لَكَانَ الْعَالَمُ كَالْآلَاتِ الَّتِي تَتَحَرَّكُ بِنِظَامٍ دَقِيقٍ لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا إِرَادَةَ وَلَا اخْتِيَارَ فِيهِ. كَآلَةِ السَّاعَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا أَوْقَاتُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَآلَاتِ الْبَوَاخِرِ وَالْمَعَامِلِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمَادِّيُّونَ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُ الْعِلَّةَ الْفَاعِلَةَ لِلْوُجُودِ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا النِّظَامِ بِنَظَرِيَّةِ (الْمِيكَانِيكِيَّةِ) وَهُمْ يَتَكَلَّفُونَ اخْتِرَاعَ الْعِلَلِ
وَالْأَسْبَابِ لِكُلِّ مَا يَرَوْنَهُ مُخَالِفًا لِسُنَنِهِ الْمَعْرُوفَةِ، وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَيَقِيسُونَ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ تَعْلِيلُهُ عَلَى مَا اقْتَنَعُوا بِتَعْلِيلٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُثْبِتُهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الْيَوْمَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا غَدًا.
سُنَنُ اللهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ:
وَنَحْنُ مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ جُنْدُ اللهِ الْأَكْبَرُ، وَمَا لَهُمْ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ الْمَادِّيِّ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، نَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سُنَنًا فِي نِظَامِ ذَلِكَ الْعَالَمِ غَيْرَ سُنَنِهِ الْخَاصَّةِ بِعَالَمِ الْمَادَّةِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَلْقَةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ.
فَجَسَدُهُ وَوَظَائِفُهُ الْحَيَوِيَّةُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي عَالَمِ الْجَسَدِ الْمَادِّيِّ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَارِكِهِ تَكُونُ مَشْغُولَةً مِنَ الْمَادَّةِ وَسُنَنِهَا وَحَاجَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ مِنْهَا بِمَا يَحْجُبُهُ عَنْ عَالَمِ الرُّوحِ الْغَيْبِيِّ حَتَّى رُوحِهِ الْمُتَمِّمِ لِحَقِيقَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ الظُّهُورُ وَالسُّلْطَانُ لِلرُّوحِ عَلَى الْجَسَدِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، إِلَّا مَنِ اصْطَفَى اللهُ تَعَالَى مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، فَأَعَدَّهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لِلِاتِّصَالِ بِمَلَائِكَتِهِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ لِيُبَلِّغُوا عِبَادَهُ عَنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
الْغَيْبُ قِسْمَانِ حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ:
الْغَيْبُ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ النَّاسِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ يُعْلِمُهُ بَعْضَ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ ; لِأَسْبَابٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَمَنْ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ رُسُلِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَسْبٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ غَيْرِ الْمُكْتَسَبَةِ.
وَمِنْ دُونِهِمْ أَفْرَادٌ مِنْ خَوَاصِّ أَتْبَاعِهِمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ بِانْكِشَافِ
مَا لِلْحِجَابِ، وَإِدْرَاكِ مَا لِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ، كَانَ بِهَا إِيمَانُهُمْ بِرُسُلِهِمْ فَوْقَ إِيمَانِ أَهْلِ الْبُرْهَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا.
وَمِنْ دُونِ هَؤُلَاءِ أَفْرَادٌ آخَرُونَ، قَدْ يَكُونُ مَنْ لَهُمْ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ، أَوْ مُعَالَجَةُ النَّفْسِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الرِّيَاضَةِ أَوْ مِنْ طُرُوءِ مَرَضٍ يَصْرِفُ قُوَى النَّفْسِ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِشَهَوَاتِ الْجَسَدِ، أَوْ مِنْ سُلْطَانِ إِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى إِرَادَةٍ ضَعِيفَةٍ، تَصْرِفُهَا عَنْ حِسِّهَا، وَتُوَجِّهُ قُوَاهَا النَّفْسِيَّةَ إِلَى مَا شَاءَتْ أَنْ تُدْرِكَهُ لِقُوَّتِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا - قَدْ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحِ مَا يَلْمَحُونَ بِهِ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْأَشْخَاصِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُمْ، وَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ بَعْضُ الْأُمُورِ قَبْلَ وُقُوعِهَا مُرْتَسِمَةً فِي خَيَالِهِمْ، فَيُخْبِرُونَ بِهَا فَتَقَعُ كَمَا أَخْبَرُوا.
الْخَوَارِقُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالصُّورِيَّةُ عِنْدَ الْأُمَمِ:
إِنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تَأَتَّى فِي الظَّاهِرِ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ، أَوِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ مَنْقُولَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا فِي جِنْسِهِ دُونَ أَفْرَادِ وَقَائِعِهِ وَلَيْسَتْ كُلُّهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَهُ أَسْبَابٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجُمْهُورِ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ صِنَاعِيٌّ يُسْتَفَادُ بِتَعْلِيمٍ خَاصٍّ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ قُوَى النَّفْسِ وَتَأْثِيرِ أَقْوِيَاءِ الْإِرَادَةِ، فِي ضُعَفَائِهَا وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ الْمُكَاشَفَةُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالتَّنْوِيمُ الْمِغْنَاطِيسِيُّ، وَشِفَاءُ بَعْضِ الْمَرْضَى وَلَا سِيَّمَا الْمُصَابِينَ بِالْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الِاعْتِقَادُ وَالْوَهْمُ، وَمِنْهَا بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعَمَى وَالْفَالِجِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْقِدُ بَصَرَهُ بِمَرَضٍ يَطْرَأُ عَلَى أَعْصَابِ عَيْنَيْهِ وَهُمَا صَحِيحَتَانِ تَلْمَعَانِ فِي وَجْهِهِ، أَوْ يَغْشَاهُمَا بَيَاضٌ عَارِضٌ مَعَ بَقَاءِ طَبَقَاتِهِمَا صَحِيحَةً. وَلَيْسَ مِنْهُ الْكَمَهُ وَالْعَمَى الَّذِي يَقَعُ بِطَمْسِ الْعَيْنَيْنِ وَغُئُورِهِمَا كَالَّذِي أَبْرَأَهُ الْمَسِيحُ عليه السلام بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْخَوَارِقِ الصُّورِيَّةِ فِي بَحْثِ السِّحْرِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي عَقَدْنَاهَا لِلْكَرَامَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَعْلِيلِهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّانِي مِنَ الْمَنَارِ وَأَتْمَمْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنْهُ.
إِنَّ عَوَامَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ، وَمَا وُجِدَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْغَرَائِبِ، وَمَا كَشَفَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حِيَلٍ فِيهَا وَعِلَلٍ، يَغْتَرُّونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَيَخْضَعُونَ
لِلدَّجَّالِينَ وَالْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَهَا، وَيُمَكِّنُونَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَسْلُبُونَهَا، وَيَأْتَمِنُونَهُمْ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ فَيَنْتَهِكُونَهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا يَأْتُونَ مَا يَأْتُونَ مِنْهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَعَجَائِبِ الْقِدِّيسِينَ، وَيَقِلُّ تَصْدِيقُ هَذَا وَالِانْقِيَادُ لِأَهْلِهِ حَيْثُ يَنْتَشِرُ تَعْلِيمُ التَّوَارِيخِ وَمَا عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مِنْ ذَلِكَ
عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ بِلَادِ أُورُبَّةَ وَأَمْرِيكَةَ، وَلَعَلَّهُ دُونَ مَا فِي بِلَادِ الشَّرْقِ وَلَا سِيَّمَا الْقُرَى وَهَمَجِ الزُّنُوجِ وَغَيْرِهِمْ.
بَيْدَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْمُعْجِزَاتِ، هِيَ فَوْقَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصِّنَاعِيَّةِ الْغَرِيبَةِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَإِنَّ مَا أَيَّدَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا عَمَلِهِمْ وَلَا تَأْثِيرِهِمْ حَتَّى مَا يَكُونُ بَدْؤُهُ بِحَرَكَةٍ إِرَادِيَّةٍ يَأْمُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا، أَلَمْ يَهْدِ لَكَ كَيْفَ خَافَ مُوسَى عليه السلام حِينَ تَحَوَّلَتْ عَصَاهُ حَيَّةً تَسْعَى، فَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْهَا، حَتَّى هَدَّأَ اللهُ رَوْعَهُ وَأَمَّنَ خَوْفَهُ؟ أَوَلَمْ تَقْرَأْ قَوْلَهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى)(8: 17) ؟ أَوَلَمْ تَفْهَمْ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)(17: 93) وَقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ)(29: 50) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
جَهِلَ هَذَا الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ مِنْ سَدَنَةِ الْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ وَغَيْرِهِمْ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ أُمُورٌ كَسَبِيَّةٌ كَالصِّنَاعَاتِ الْعَادِيَّةِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَفْعَلُونَهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ مَتَى شَاءُوا، وَيُغْرُونَ النَّاسَ بِإِتْيَانِ قُبُورِهِمْ وَلَوْ بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا لِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالشَّدَائِدِ، الَّتِي يَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهَا بِكَسْبِهِمْ وَكَسْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ كَالْأَطِبَّاءِ مَثَلًا، وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا سُحْتًا حَرَامًا، وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَجْسَادِهِمْ وَيَتَوَلَّوْنَ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ، وَكَشْفَ الْكُرُبَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي كِتَابٍ مَطْبُوعٍ: إِنَّ فُلَانًا مِنَ الْأَقْطَابِ يُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ:
أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُؤَيِّدْ رُسُلَهُ بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا لِتَكَوُّنَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ يَهْدِي بِهَا الْمُسْتَعِدَّ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقُّ بِهَا الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ فَتَقَعُ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِظْهَارِهَا، فَهُوَ وَاجِبٌ لِإِتْمَامِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ الَّتِي أُرْسِلُوا لِتَبْلِيغِهَا، وَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ غَيْرِ حُجَّةِ الرِّسَالَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَكَانَ خَاتَمُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى يَصْبِرُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَا يَدْعُو لَهُمْ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِلَّا نَادِرًا، وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهَا بِالشِّفَاءِ فَأَرْشَدَهَا إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مُصِيبَتِهَا خَيْرٌ لَهَا. فَشَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَتَكَشَّفُ عِنْدَ النَّوْبَةِ وَأَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا وَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.
وَالْأَصْلُ فِي الْكَرَامَةِ الْإِخْفَاءُ وَالْكِتْمَانُ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ظُهُورُهَا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَمَا كَانَ أَهْلُهَا يُظْهِرُونَ مَا لَهُمْ كَسْبٌ فِيهِ مِنْهَا كَالْمُكَاشِفَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْعُلَمَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ بَيْنَ الْعَامَّةِ.
قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي سِيَاقِ حُجَجِ مُنْكِرِي جَوَازِ وُقُوعِ الْكَرَامَاتِ مِنْ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ: (الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَتِ الْكَرَامَةُ لَاشْتَبَهَتْ بِالْمُعْجِزَةِ، فَلَا تَدُلُّ الْمُعْجِزَةُ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: مَنْعُ الِاشْتِبَاهِ، بِقَرْنِ الْمُعْجِزَةِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، دُونَ الْكَرَامَةِ فَهِيَ إِنَّمَا تَقْتَرِنُ بِكَمَالِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ مِنَ الْوَلِيِّ - وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا الِاشْتِهَارُ، وَالْكَرَامَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَلَا تَظْهَرُ إِلَّا عَلَى النُّدْرَةِ وَالْخُصُوصِ، لَا عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْعُمُومِ، وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِجَمِيعِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْكَرَامَةُ تَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَلَامِ الْقُشَيْرِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ. ثُمَّ قَالَ:
(الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَ ظُهُورُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى أَيْدِي الصَّالِحِينَ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِظُهُورِهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ، لِجَوَازِ أَنْ تَظْهَرَ عَلَى يَدِ الْوَلِيِّ سِرًّا، فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مُعْظَمِ جَمَاعَتِكُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ لَا يُظْهِرُونَ الْكَرَامَاتِ وَلَا يَدْعُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ سِرًّا وَرَاءَ سُتُورٍ، وَيَتَخَصَّصُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا آحَادُ النَّاسِ،
وَيَكُونُ ظُهُورُهَا سِرًّا مُسْتَمِرًّا بِحَيْثُ لَا يَلْتَحِقُ بِحُكْمِ الْمُعْتَادِ، فَإِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ وَتَحَدَّى بِمُعْجِزَةٍ، جَازَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا اعْتَادَهُ أَوْلِيَاءُ عَصْرِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ خَرْقُ الْعَادَةِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَصْدِيقِهِ مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ فِي حَقِّهِ؟ وَأَيْضًا تَكَرُّرُ الْكَرَامَةِ يُلْحِقُهَا بِالْمُعْتَادِ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ تَصْحِيحِ النَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَةِ إِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ فِي زَمَنِهِمْ))
وَقَالَ فِي الْجَوَابِ: لِأَئِمَّتِنَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ مَنْعُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَاسْتِمْرَارُهَا حَتَّى تَصِيرَ فِي حُكْمِ الْعَوَائِدِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ظُهُورُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا تَصِيرُ عَادَةً فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ وَالثَّانِي - وَهُوَ لِمُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا - قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ وَلَا يَشِيعُ وَلَا يُعْتَادُ، لِئَلَّا تَخْرُجَ الْكَرَامَاتُ عَنْ كَوْنِهَا كَرَامَاتٍ. انْتَهَى مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّانِي.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يُوَافِقُونَ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ عَلَى مَنْعِ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَتَكْرَارِهَا، وَمَنْعِ إِظْهَارِهَا، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ: إِنَّ مَا يَتَكَرَّرُ لَا يَكُونُ كَرَامَةً لِأَنَّهُ يَكُونُ عَادَةً، وَإِنَّمَا الْكَرَامَةُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الرِّفَاعِيُّ إِنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْكَرَامَةِ كَمَا تَسْتَتِرُ الْمَرْأَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَأَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِمَّا عَلَيْهِ الدَّجَّالُونَ الْخُرَافِيُّونَ وَسَدَنَةُ الْقُبُورِ الْمُعْتَقِدَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْكَرَامَةَ الْوَاحِدَةَ تَتَكَرَّرُ لِأَوْلِيَاءَ كَثِيرِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً وَكُلُّهَا ظَاهِرَةٌ ذَائِعَةٌ شَائِعَةٌ، بَلْ صِنَاعَةٌ ذَاتُ بِضَاعَةٍ رَابِحَةٍ؟
الْكَافِرُونَ بِالْآيَاتِ صِنْفَانِ. مُكَذِّبُونَ وَمُشْرِكُونَ، وَعِلَاجُ كُلٍّ مِنْهُمَا:
الْكَافِرُونَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى صِنْفَانِ: صِنْفٌ يُكَذِّبُهَا كُلَّهَا وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَصِنْفٌ يُشْرِكُ بِاللهِ غَيْرَهُ فِيهَا، فَيَنْحَلُهُ مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ عز وجل لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَيُشَرِّعُ لِلنَّاسِ أَنْ يَعْبُدُوا هَؤُلَاءِ الْأَغْيَارَ بِدُعَائِهِمْ مِنْ دُونِهِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بِدَعْوَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ الْغَيْبِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَجَاهِهِمْ عِنْدَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فَأَعْطَاهُمْ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَتَحَامَوْنَ أَلْفَاظَ الْعِبَادَةِ وَالشِّرْكِ وَالْخَلْقِ دُونَ مَعَانِيهَا، فَيَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِمْ بِمَا يُكَذِّبُهُمْ بِهِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ، وَنَبِيُّهُ الْمُرْسَلُ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ
آيَاتِ الْكِتَابِ فَيَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَيَذْكُرُونَ أَنَّ اللهَ كَانَ يَرْزُقُ مَرْيَمَ عليها السلام بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَا كَانَ رِزْقُهَا مِنْ فِعْلِهَا، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ كَيْفَ سَخَّرَهُ اللهُ لَهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِتَسْخِيرِ بَعْضِ النَّاسِ لَهَا، وَوَحْيِهِ إِلَى أُمِّ مُوسَى وَمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهَا. وَقَدْ قِيلَ بِنُبُوَّتِهَا.
وَإِنَّ إِفْسَادَ هَؤُلَاءِ الْخُرَافِيِّينَ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَأَشَدُّ مِنْ إِفْسَادِ الْمُنْكِرِينَ لِلْآيَاتِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا، بِأَنَّهُمْ أَكْبَرُ أَسْبَابِ هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْخَلْقِ بِمَا يُخَالِفُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ يُبَدِّلُهَا بِغَيْرِهَا وَيُحَوِّلُهَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ. وَزَعْمُهُمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَجَعَلَهُ أَسَاسَ دِينِهِ، فَكَذَّبُوا بِالدِّينِ مِنْ أَسَاسِهِ، فَتَكُونُ فِتْنَتُهُمْ شَامِلَةً لِفَرِيقَيِ الْكَفَّارِ بِالْآيَاتِ - فَرِيقِ الْمُكَذِّبِينَ وَفَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْلٌ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ شَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِاللهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ مُتَعَدٍّ بِمَا فِيهِ مِنْ إِضْلَالِ النَّاسِ بِاعْتِقَادٍ بَاطِلٍ يَتْبَعُهُ عِبَادَةٌ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ.
عِلَاجُ خُرَافَةِ تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْكَوْنِ:
أَمَّا الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ فِي عِبَادَتِهِ بِجَهْلِهِمْ لِآيَاتِهِ، وَتَقْلِيدِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فِي خُرَافَاتِهِمْ فَلَا عِلَاجَ لَهُمْ إِلَّا تَعْلِيمُهُمْ تَوْحِيدَ اللهِ الْخَالِصَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، دُونَ نَظَرِيَّاتِ كُتُبِ الْكَلَامِ، وَتَعْلِيمُهُمْ وَظَائِفَ الرُّسُلِ وَكَوْنَهُمْ بَشَرًا، اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَحْيِهِ لِتَبْلِيغِ عِبَادِهِ مَا ارْتَضَاهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَحَصْرِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ تَبْشِيرًا وَإِنْذَارًا وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِ شَرْعِهِ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَلَمْ يُؤْتِهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ فِي خَلْقِهِ مَا يَقْدِرُونَ بِهِ عَلَى هِدَايَةِ أَقْرَبِ النَّاسِ وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ بِالطَّبْعِ كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى، فَوَالِدُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَاشَ كَافِرًا وَمَاتَ كَافِرًا عَدُوًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ وَوَلَدُ نُوحٍ
أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ مَاتَ كَافِرًا وَلَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِحَمْلِهِ فِي السَّفِينَةِ فَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُغْرَقِينَ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ عَمُّ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ أَعْدَائِهِ الصَّادِّينَ عَنْهُ الْمُؤْذِينَ لَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَمِّهِ وَوَعِيدِهِ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ يَتَعَبَّدُ بِهَا
الْمُؤْمِنُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ يَنْزِلْ مِثْلُهَا فِي أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، بَلْ كَانَ مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ عَمَّهُ الَّذِي كَفَلَهُ وَرَبَّاهُ وَكَفَّ عَنْهُ أَذَى الْمُشْرِكِينَ مَا اسْتَطَاعَ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لِيَشْهَدَ لَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَامْتَنَعَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ:(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ)(6: 74) الْآيَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَظَائِفَ الرُّسُلِ عليهم السلام بِمَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَاجِعَهُ مَنْ يُحِبُّ اسْتِيفَاءَ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَإِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ لَمْ يُؤْتُوا الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ فَكَيْفَ يُؤْتَاهُ الْأَوْلِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ؟
الْمُنْكِرُونَ لِلْمُعْجِزَاتِ وَشُبْهَةُ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ عَلَيْهَا:
وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لَهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ مَا يَنْقُلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهَا مِنَ النَّبِيِّينَ عليهم السلام وَلَا يُسَلِّمُونَ صِحَّةَ تَوَاتُرِهَا، إِذْ يَقِيسُونَ نَقْلَهُمْ لَهَا عَلَى مَا يَنْقُلُهُ الْعَوَامُّ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَقِدِينَ فِي بِلَادِهِمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَادِعَةِ الَّتِي مَثَارُهَا الْوَهْمُ وَالتَّخَيُّلُ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الْمُعَاصِرَ لِلْمَسِيحِ عليه السلام لَمْ يَنْقُلْ لِلنَّاسِ أَخْبَارَ عَجَائِبِهِ الَّتِي تَقُصُّهَا الْأَنَاجِيلُ الَّتِي أُلِّفَتْ بَعْدَهُ، وَيُعَلِّلُونَهَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ الْخَوَارِقَ الصُّورِيَّةَ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَعْلِيلَهَا قَالُوا: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ يَظْهَرُ لَنَا أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ فَاعِلُوهَا، كَمَا وَقَعَ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ صُوفِيَّةِ الْهِنْدُوسِ (الْفُقَرَاءِ) كَالِارْتِفَاعِ فِي الْهَوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَغْرَبُ مِنْهُ.
رَوَتْ إِحْدَى الْجَرَائِدِ الْمِصْرِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ أَخْبَارِ سَائِحِي الْإِفْرِنْجِ فِي الْهِنْدِ حَادِثَةً لِفَقِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ اسْمُهُ سَارَجُوهَا رَدْيَاسْ وَقَعَتْ فِي سَنَةِ 1837، وَخُلَاصَتُهَا أَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ جَاءَ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا رَانْجِيتْ سَنْجَا أَمِيرِ بَنْجَابَ وَعَرَضَ
عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ كَرَامَاتِهِ، وَكَانَ الْمَهَرَاجَا لَا يُصَدِّقُ مَا يُنْقَلُ مِنْ خَوَارِقِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، فَسَأَلَهُ عَمَّا يُرِيدُ
إِظْهَارَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ يُدْفَنُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِمْ حَيًّا، فَأَحْضَرَ الْمَهَرَاجَا نَفَرًا مِنْ أَطِبَّاءِ الْإِنْكِلِيزِ وَالْفَرَنْسِيسِ وَأُمَرَاءِ بَنْجَابَ، فَجَلَسَ الْفَقِيرُ الْقُرْفُصَاءَ أَمَامَهُمْ فَكَفَّنُوهُ بَعْدَ أَنْ وَضَعُوا الْقُطْنَ وَالشَّمْعَ عَلَى أُذُنَيْهِ وَأَنْفِهِ - كَمَا أَوْصَاهُمْ - وَخَاطُوا عَلَيْهِ الْكَفَنَ وَوَضَعُوهُ فِي صُنْدُوقٍ مِنَ الْخَشَبِ السَّمِيكِ وَسَمَّرُوا غِطَاءَهُ وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا عَلَيْهِ خِتْمَهُ، وَدَفَنُوهُ فِي قَبْوٍ دَاخِلَ حُجْرَةٍ صَغِيرَةٍ فِي حَدِيقَةِ الْقَصْرِ وَأَقْفَلُوا بَابَهَا وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا خِتْمَهُ بِالشَّمْعِ عَلَى قُفْلِهَا، وَأَمَرَ اثْنَيْنِ مِنْ رِجَالِ حَرَسِهِ الْأُمَنَاءِ بِحِرَاسَتِهَا وَطَائِفَةً مِنْ جُنْدِهِ بِمُعَاوَنَتِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَشْهَدِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ وَالْبَنْجَابِيِّينَ وَحَاشِيَةِ الْمَهَرَاجَا.
وَلَمَّا تَمَّتِ الْأَرْبَعُونَ حَضَرَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا وَشَاهَدُوا خِتْمَ الْحُجْرَةِ كَمَا كَانَ، وَالْعُشْبَ أَمَامَهَا فِي الْحَدِيقَةِ لَمْ تَطَأْهُ قَدَمُ أَحَدٍ، ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ الْحُجْرَةِ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَ الْقَبْوِ ثُمَّ أَخْرَجُوا الصُّنْدُوقَ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَهُ فَوَجَدُوهَا كُلَّهَا عَلَى حَالِهَا، فَفَتَحُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ كَمَا وَصَفَهُ أَحَدُ أُولَئِكَ مِنَ الْإِنْجِلِيزِ. قَالَ:
لَمَّا فَتَحُوا الصُّنْدُوقَ وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ وَجَدْتُ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ صُلْبَةً وَالرَّأْسَ مَائِلًا عَلَى إِحْدَى الْكَتِفَيْنِ، فَخِلْتُنِي أَمَامَ جُثَّةٍ هَامِدَةٍ فَارَقَتْهَا الْحَيَاةُ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، فَطَلَبْتُ مِنْ طَبِيبِي أَنْ يَفْحَصَهَا فَانْحَنَى عَلَيْهَا وَجَسَّ الْقَلْبَ وَالصُّدْغَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا لِلنَّبْضِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ شَعَرَ بِحَرَارَةٍ فِي مِنْطَقَةِ الدِّمَاغِ إِلَخْ.
ثُمَّ نَفَّذَ مَا أَوْصَى الْفَقِيرُ أَنْ يُعْمَلَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ، فَغَسَلَ الْجِسْمَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَرَدَّ عَلَى الْأَوْصَالِ لِينَهَا السَّابِقَ بِالتَّدْرِيجِ، وَأُزِيلَ الْقُطْنُ وَالشَّمْعُ عَنِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَوُضِعَتْ أَكْيَاسٌ دَافِئَةٌ عَلَى الرَّأْسِ فَدَبَّتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ الْمُسَجَّى، وَتَقَلَّصَتِ الْأَعْصَابُ وَالْأَطْرَافُ ثُمَّ اضْطَرَبَتْ فَسَالَ مِنْهَا عَرَقٌ غَزِيرٌ وَعَادَتِ الْأَعْضَاءُ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، وَبَعْدَ دَقَائِقَ اتَّسَعَتْ حَدَقَتَا الْعَيْنَيْنِ وَعَادَ إِلَيْهِمَا لَوْنُهُمَا الطَّبِيعِيُّ، فَلَمَّا رَأَى الْفَقِيرُ الْمَهَرَاجَا شَاخِصًا إِلَيْهِ دَهِشًا مُتَحَيِّرًا قَالَ لَهُ: ((أَرَأَيْتَ يَا مَوْلَايَ صِدْقَ قَوْلِي وَفِعْلِي؟ وَبَعْدَ نِصْفِ سَاعَةٍ خَرَجَ مِنَ التَّابُوتِ وَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ الْحَاضِرِينَ أَحْسَنَ حَدِيثٍ وَيُطْرِفُهُمْ بِمَا يُحَيِّرُ الْعُقُولَ. اهـ.
إِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَظْهَرَتْهَا الرِّيَاضَةُ الْمُكْتَسَبَةُ، وَهِيَ أَعْجَبُ مِنْ رِوَايَةِ الْإِنْجِيلِ لِمَوْتِ لِيعَازِرَ ثُمَّ حَيَاتِهِ بِدُعَاءِ الْمَسِيحِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ عَجَائِبِهِ عليه السلام وَأَغْرَبُ مِنْ حَادِثَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَيْضًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْفَقِيرَ الْهِنْدِيَّ قَدْ سُدَّ أَنْفُهُ وَلُفَّ فِي كَفَنٍ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ دُفِنَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَوَاءِ الَّذِي لَا يَعِيشُ أَحَدٌ بِدُونِهِ عَادَةً، وَأَهْلُ الْكَهْفِ نَامُوا فِي فَجْوَةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ كَهْفٍ بَابُهُ إِلَى الشِّمَالِ، مَهَبِّ الْهَوَاءِ اللَّطِيفِ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ تُصِيبُ مَدْخَلَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ عِنْدَ شُرُوقِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا مَائِلَةً
مُتَزَاوِرَةً عَنْهُمْ، فَتُلَطِّفُ هَوَاءَهُ مِنْ حَيْثُ لَا تُصِيبُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْبَرُ الْغَرَابَةِ فِي نَوْمِهِمْ طُولَ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِيهِ وَكَانَتْ طَوِيلَةً جِدًّا حَتَّى عَلَى نَقْلِ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ)(18: 25) الْآيَةَ - حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ السِّيَاقِ فَقَدْ يُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا:(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)(18: 26) وَاللهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ خَفِيَ سِرُّ آيَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِمُحَالٍ. وَقَدْ نَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ بِمَرَضِ النَّوْمِ عِدَّةَ أَشْهُرٍ.
وَلَكِنْ مَا جَرَى لِلْفَقِيرِ الْهِنْدِيِّ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ فِي النَّاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَقَعَ بِطَرِيقَةٍ كَسَبِيَّةٍ مِنْ طَرَائِقَ رِيَاضَةِ هَؤُلَاءِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبْدَانِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِمَا تَبْقَى بِهِ الْحَيَاةُ كَامِنَةً فِي أَجْسَادِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، مَعَ انْتِفَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الِاعْتِيَادِيَّةِ مِنْ دَوْرَةِ الدَّمِ وَالنَّفَسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِاتِّخَاذِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِنْكَارَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ السُّنَنَ الْعَامَّةَ قَاعِدَةً عَامَّةً وَلَا سِيَّمَا فِعْلِ الْخَالِقِ عز وجل لَهَا وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، وَوَاضِعُ نِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَكْثَرُ مُنْكِرِي الْخَوَارِقِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِسُنَنِهِ بِأَنَّهُ مُنَافٍ لِحِكْمَتِهِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي أَحَاطَ بِحِكَمِهِ أَوْ بِسُنَنِهِ عِلْمًا؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ أَلَّا نُصَدِّقَ بِوُقُوعِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الْمَادَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ خَوَاصِّ
الْكَهْرَبَاءِ وَغَيْرِهَا مَا لَوْ قِيلَ لِعُقَلَاءِ النَّاسِ وَحُكَمَائِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ إِنَّهُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، لَحَكَمُوا عَلَى مُدَّعِي إِمْكَانِهِ بِالْجُنُونِ لَا بِتَصْدِيقِ الْخُرَافَاتِ، كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَسْرَارَ هَذَا الْكَوْنِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا خَالِقُهُ عز وجل وَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَقَائِعُ غَرِيبَةٌ تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ نِظَامِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، بِحَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لِلْجُمْهُورِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَإِنَّ مَا يَتَنَاقَلُهُ الْجُمْهُورُ الْمُولَعُ بِالْغَرَائِبِ مِنْهَا - مِنْهُ مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهُ مَا لَهُ أَسْبَابٌ عِلْمِيَّةٌ أَوْ صِنَاعِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ الْوَهْمُ كَشِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، أَوِ انْخِدَاعِ الْبَصَرِ بِالتَّخَيُّيِلِ الَّذِي يَحْذَقُهُ الْمُشَعْوِذُونَ، وَمِنْهُ مَا فَعَلَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)(20: 66) وَمِنْهُ انْخِدَاعُ السَّمْعِ كَالَّذِي يَفْعَلُهُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اسْتِخْدَامَ الْجِنِّ، إِذْ يَتَكَلَّمُونَ لَيْلًا بِأَصْوَاتٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ أَصْوَاتِهِمُ الْمُعْتَادَةِ فَيَظُنُّ مُصَدِّقُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ صَوْتُ الْجِنِّيِّ، وَقَدْ يَتَكَلَّمُونَ نَهَارًا مِنْ بُطُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكُوا شِفَاهَهُمْ، فَلَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَلَا مِنْ نَقْلِهِمْ - وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى كَذِبِ الْمُنْتَحِلِينَ
لِهَذِهِ الْغَرَائِبِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا وَسِيلَةً لِمَعَايِشِهِمُ الدَّنِيئَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيهَا لَتَنَافَسَ الْمُلُوكُ وَكِبَارُ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي صُحْبَتِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِمْ.
الْمُعْجِزَاتُ قِسْمَانِ: تَكْوِينِيَّةٌ وَرُوحَانِيَّةٌ تُشْبِهُ الْكَسْبِيَّةَ:
الْمُعْجِزَاتُ كُلُّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَسْبِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهَا بِحَسَبِ مَظْهَرِهَا قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا فَهُوَ يُشْبِهُ الْأَحْكَامَ الِاسْتِثْنَائِيَّةَ فِي قَوَانِينِ الْحُكُومَاتِ أَوْ مَا يَكُونُ بِإِرَادَةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ الْمُلُوكِ لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ.
((وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) وَقِسْمٌ يَقَعُ بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ رُوحَانِيَّةٍ لَا مَادِّيَّةٍ.
أَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى عليه السلام وَأَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ لَهُ، كَالْآيَاتِ التِّسْعِ بِمِصْرَ فَهِيَ مِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا بِكَسْبٍ لَهُ حَقِيقِيٍّ وَلَا صُورِيٍّ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْأُخْرَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَثْنَاءِ خُرُوجِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُدَّةَ التِّيهِ،
بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِدُونِ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ لِمُوسَى عليه السلام إِلَّا مَا يَأْمُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْبَحْرِ أَوِ الْحَجَرِ بِعَصَاهُ الَّتِي هِيَ آيَتُهُ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَرِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَةٌ كَهَذِهِ الْآيَاتِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ، وَلَا هِيَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِالرِّيَاضَةِ الرُّوحِيَّةِ أَوْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا.
وَأَمَّا الْمَسِيحُ عليه السلام فَالْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - عَلَى كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ الْكَسْبِيَّةِ وَعَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ - قَدْ يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّهَا كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا حَدَثَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا كَانَ خَلْقُهُ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَمَلَتْ أُمُّهُ بِهِ بِنَفْخَةٍ مِنْ رُوحِ اللهِ عز وجل فِيهَا - وَهُوَ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ عليه السلام كَانَتْ سَبَبَ عُلُوقِهَا بِهِ بِفِعْلِهَا فِي الرَّحِمِ مَا يَفْعَلُ تَلْقِيحُ الرَّجُلِ بِقُدْرَةِ اللهِ عز وجل، فَلَا غَرْوَ أَنْ كَانَتْ مَظَاهِرُ آيَاتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَظَاهِرِ سَائِرِ الرُّوحِيِّينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، كَالْكَشْفِ وَشِفَاءِ بَعْضِ الْمَرْضَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّوحَانِيِّينَ مِنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُ عليه السلام أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِعَمَلٍ كَسْبِيٍّ مِنْهُ، بَلْ مِنْ أَصْلِ خَلْقِ اللهِ عز وجل لَهُ بِآيَةٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ:(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)(21: 91)(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)(23: 50) فَآيَتُهُمَا هِيَ الْحَمْلُ بِهِ وَخَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْإِلَهِيِّ لَا بِسَبَبِ التَّلْقِيحِ الْبَشَرِيِّ، وَلَا بِمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ وُجُودِ مَادَّتَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي رَحِمِهَا.
وَأَعْظَمُ آيَاتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ التَّنْزِيلُ وَلَمْ يَنْقُلْهَا مُؤَلِّفُو الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ (وَرُوِيَ أَنَّهَا
مَنْصُوصَةٌ فِي إِنْجِيلِ الطُّفُولِيَّةِ الَّذِي نَبَذَتْهُ الْمَجَامِعُ الْكَنَسِيَّةُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَفُقِدَ مِنَ الْعَالَمِ هِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ قِطْعَةً مِنَ الطِّينِ فَيَجْعَلُهَا بِهَيْئَةِ طَيْرٍ، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَيْ مِنْ رُوحِهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَطِيرُ قَلِيلًا وَيَقَعُ مَيِّتًا. وَدُونَ هَذَا إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ الصَّحِيحِ الْجِسْمِ الْقَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّ تَوْجِيهَ سَيَّالِ رُوحِهِ الْقَوِيِّ إِلَى جُثَّةِ الْمَيِّتِ مَعَ تَوْجِيهِ قَلْبِهِ إِلَى اللهِ عز وجل وَدُعَائِهِ، كَانَ يَكُونُ سَبَبًا رُوحَانِيًّا لِإِعَادَةِ رُوحِهِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، كَمَا يَمَسُّ النُّورُ ذُبَالَ السِّرَاجِ الْمُنْطَفِئِ فَتَشْتَعِلُ أَوْ كَمَا يَتَّصِلُ السِّلْكُ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسِّلْكِ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا فَيَتَأَلَّقُ النُّورُ مِنْهُمَا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ أَطِبَّاءِ هَذَا الْعَصْرِ إِعَادَةُ الْحَيَاةِ
الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى فَاقِدِهَا عَقِبَ فَقْدِهَا بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ أَوْ مُعَالَجَةٍ لِلْقَلْبِ
وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ شِفَاءُ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَلَا سِيَّمَا الْعَصَبِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهَا مَسَّ الشَّيْطَانِ وَتَلَبُّسَهُ بِالْمَجْنُونِ كَمَا فِي الْأَنَاجِيلِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رُوحٌ خَبِيثٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَقَاءَ مَعَ تَوَجُّهِ الرُّوحِ الطَّاهِرِ الَّذِي هُوَ شُعْلَةٌ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ عليه السلام، وَاتِّصَالِهِ بِمَنْ تَلَبَّسَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ، وَمَا مِنْ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ ضَعْفٌ فِي الْحَيَاةِ بِأَنْ يَزُولَ بِاتِّصَالِ هَذَا الرُّوحِ بِالْمُصَابِ بِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَالْقُوَّةِ.
وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ الْمُكَاشَفَاتُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)(3: 49) وَقَدْ أَنْبَأَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرُهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ وَلَا سِيَّمَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّهَا دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَطُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا، وَالثِّقَةِ بِالْمَرْئِيِّ وَعَدَمِهَا، وَإِدْرَاكِ الْحَاضِرِ الْمَوْجُودِ، وَالْغَائِبِ الْمَفْقُودِ، وَمَا كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا يَأْتِي فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَأَعْلَاهَا خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ وَلَنْ يُوجَدَ بَشَرٌ يَعْلَمُ بِالْكَشْفِ مَا وَقَعَ مُنْذُ الْقُرُونِ الْأُولَى كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ أَوْ مَا يَقَعُ بَعْدَ سِنِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِخْبَارِهِ عَنْ عَوْدِ الْكَرَّةِ لِلرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ، وَإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِ الْأَمْصَارِ وَاتِّبَاعِ الْأُمَمِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ بِتَدَاعِيهِمْ عَلَيْهَا مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الثَّابِتَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يُسَمُّونَهُ قِرَاءَةَ الْأَفْكَارِ وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ فَعَلَهُ، وَمِنْهَا مُرَاسَلَةُ الْأَفْكَارِ.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمَشْهُورَةَ لِمُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى دُونَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الظَّاهِرَةِ فِي قُوَاهُ الرُّوحِيَّةِ، وَأَنَّ آيَاتِهِ لِعِيسَى عليه السلام بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي أَفْعَالِهِ فِي نَظَرِ الْبَشَرِ، لِبُعْدِهَا عَنْ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَفْعَالُهُمْ.
عِبَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ لِلْمَسِيحِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ دُونَ مُوسَى:
وَإِنَّمَا عَبَدَ بَعْضُ الْبَشَرِ عِيسَى وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَلَمْ يَعْبُدُوا مُوسَى كَذَلِكَ وَآيَاتُهُ أَعْظَمُ ; لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ آيَاتِ عِيسَى جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ رُوحِيَّةٍ عَامَّةٍ قَدْ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَظَنُّوا
أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لِحُلُولِهِ فِيهِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَآيَاتُ مُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَفْطِنُوا لِاتِّبَاعِ عِيسَى لِمُوسَى فِي شَرْعِهِ - التَّوْرَاةِ - إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا نَسَخَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ إِحْلَالِ بَعْضِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمِنْ تَحْرِيمِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ.
وَمِثْلُ النَّصَارَى فِي هَذَا مَنْ يَفْتَتِنُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُونَ لَهُمُ النَّفْعَ بِالتَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ الْخَارِجِ عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، الدَّاخِلِ عِنْدَهُمْ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمُ اسْمَ الرَّبِّ وَلَا الْإِلَهِ وَلَا الْخَالِقِ، إِذِ الْأَسْمَاءُ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْفَرْقَانُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ، أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ لِمَنْ شَاءَ وَصَرْفِهِمَا عَمَّنْ شَاءَ بِمَا يُسَخِّرُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَبِدُونِهَا إِنْ شَاءَ - وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمَرْبُوبَ هُوَ الْمُقَيَّدُ فِي أَفْعَالِهِ الْكَسْبِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي سَخَّرَهَا تَعَالَى لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهَا كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِقُوَى الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ وَفِي وَسَائِلِهَا، وَقَدْ بَلَغَ الْبَشَرُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيَّيْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ قَبْلَهُمْ لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يُبْعَثُوا لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُعِثُوا لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ بِهَا، فَمَنَافِعُ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا وَإِنَّمَا تُطْلَبُ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ عز وجل. وَقَدْ قَتَلَ الظَّالِمُونَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَآذَوْا بَعْضَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ; وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ نَفْيُ هَذَا النَّفْعِ وَالضُّرِّ عَنْ كُلِّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ:(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)(10: 18) الْآيَةَ وَمِثْلُهَا آيَاتٌ، وَأَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ:(قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(7: 188) وَقَالَ:
(قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا)(72: 21) الْآيَاتِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا.
وَنُلَخِّصُ الْمَوْضُوعَ هُنَا فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ:
(1)
إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَجَعَلَهُ بِإِحْكَامٍ وَنِظَامٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَالَ، وَسُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ رَبَطَ فِيهَا الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ. فَمَخْلُوقَاتُهُ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَلِهَذَا قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ: لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ. وَهَذَا النِّظَامُ الْمُطَّرِدُ فِي الْأَكْوَانِ، الثَّابِتُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ - هُوَ الْبُرْهَانُ الْأَعْظَمُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (21: 22) .
(2)
إِنَّ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْدَاعِ خَلْقِهِ وَنِظَامِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ فِيهِ لَا يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا غَيْرُهُ عز وجل. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْبَشَرُ فِيهَا نَظَرًا وَتَفَكُّرًا وَاخْتِبَارًا وَتَدَبُّرًا وَتَجْرِبَةً وَتَصَرُّفًا، ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ أَسْرَارِهَا وَعَجَائِبِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ وَلَا يَظُنُّونَ، وَمِنْ مَنَافِعِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَتَخَيَّلُونَ وَلَا يَتَوَهَّمُونَ. وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى مَرَاكِبَهُمُ الْهَوَائِيَّةَ مِنْ تِجَارِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ تُحَلِّقُ فِي الْأَجْوَاءِ، حَتَّى تَكَادَ تَتَجَاوَزُ مُحِيطَ الْهَوَاءِ، وَمَرَاكِبَهُمُ الْبَحْرِيَّةَ تَغُوصُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَنَرَاهُمْ يَتَخَاطَبُونَ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَقْطَارِ، كَمَا نَطَقَ الْوَحْيُ بِتَخَاطُبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ فَيَسْمَعُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَأَهْلُ الْجَنُوبِ حَدِيثَ أَهْلِ الشَّمَالِ وَخُطَبَهُمْ وَأَغَانِيَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْكَلَامُ. وَقَدْ يَغْمِزُ أَحَدُهُمْ زِرًّا كَهْرَبَائِيًّا فِي قَارَّةِ أُورُبَّةَ فَتَتَحَرَّكُ بِغَمْزَتِهِ آلَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي قَارَّةٍ أُخْرَى فِي طَرْفَةِ عَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا الْمَهَامِهُ الْفِيَحُ وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةُ، وَمِنْ دُونِهِمَا الْبِحَارُ الْوَاسِعَةُ، وَالْجَاهِلُونَ بِهَذِهِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ، لَا يَزَالُونَ يَلْجَئُونَ فِي طَلَبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ - الَّتِي ضَيَّقَ الْجَهْلُ عَلَيْهِمْ سُبُلَهَا - إِلَى قُبُورِ الْمَوْتَى مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَعْرُوفِينَ وَالْمَجْهُولِينَ لِيَقْضُوا لَهُمْ حَاجَتَهُمْ،
وَيَشْفُوا مَرْضَاهُمْ، وَيُعِينُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ زَوْجٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَوَطَنِيٍّ، وَأَعْدَاؤُهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ قَدْ سَادُوا حُكُومَتَهُمْ، وَاسْتَذَلُّوا أُمَّتَهُمْ، وَاسْتَأْثَرُوا بِجُلِّ ثَرْوَتِهِمْ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءُ بِمَا يَدْفَعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ.
(3)
إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَسُنَنِ اللهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْعِلْمُ، وَأَخْبَرَنَا الْوَحْيُ بِأَنَّهُ لَا تَغْيِيرَ فِيهَا وَلَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ فَكُلُّ خَبَرٍ عَنْ حَادِثٍ يَقَعُ مُخَالِفًا لِهَذَا النِّظَامِ وَالسُّنَنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا اخْتَلَقَهُ الْمُخْبِرُ الَّذِي ادَّعَى شُهُودَهُ أَوْ خُدِعَ بِهِ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَجْهَلُهَا الْمُخْبِرُ كَمَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي بَحْثِ الْخَبَرِ وَمَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ مِنْهُ.
(4)
إِنَّ آيَاتِ اللهِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى غَيْرِ سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ فِي خَلْقِهِ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ أَيَّدَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ وَتَخْوِيفِ الْمُعَانِدِينَ لَهُمْ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَسَبَبُ ذَلِكَ أَوْ حِكْمَتُهُ خَتْمُ النُّبُوَّةِ بِرِسَالَتِهِ. وَجَعَلَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ آيَةً دَائِمَةً وَهِدَايَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ الْبَشَرِ مُدَّةَ بَقَائِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(21: 107) لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَ هَذَا الْوَحْيِ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ وَلَا إِلَى آيَةٍ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ نَفْسَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ دَلَالَتِهِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى.
خَتْمُ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعُ الْخَوَارِقِ بِهَا وَمَعْنَى الْكَرَامَاتِ:
(5)
لَوْ كَانَ لِلْبَشَرِ حَاجَةٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْآيَاتِ، كَمَا يَدَّعِي الْمَفْتُونُونَ بِالْكَرَامَاتِ وَمُخْتَرِعُو الْأَدْيَانِ وَالنِّحَلِ الْجَدِيدَةِ لَمَا كَانَ لِخَتْمِ النُّبُوَّةِ مَعْنًى ; وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ الْبَهَائِيَّةُ وَالْقَادْيَانِيَّةُ خَتْمَ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعَ الْوَحْيِ، وَيَدَّعُونَهُمَا لِلْبَابِ وَالْبَهَاءِ، وَلِغُلَامِ أَحْمَدَ الْقَادْيَانِيِّ وَخُلَفَائِهِ بِلَا انْقِطَاعٍ، حَتَّى سَامَهَا الْمُرْتَزِقَةُ مِنْهُمْ وَالرَّعَاعُ.
وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ كَيْفَ ارْتَقَى التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ فِي الْأُمَمِ بِارْتِقَاءِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، كَارْتِقَاءِ الْأَفْرَادِ مِنْ طُفُولَةٍ إِلَى شَبَابٍ إِلَى كُهُولَةٍ بَلَغَ فِيهَا رُشْدَهُ وَاسْتَوَى، وَصَارَ يُدْرِكُ بِعَقْلِهِ هَذِهِ الْهِدَايَةَ الْعَقْلِيَّةَ
الْعُلْيَا (هِدَايَةَ الْقُرْآنِ) بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى إِذْعَانِهِ لِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ، إِلَّا مَا يُدْهِشُ حِسَّهُ وَيُعْيِي عَقْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْكَوْنِ
بَيَّنَ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ أَنَّ سُمُوَّ عَقْلِ الْإِنْسَانِ وَسُلْطَانَهُ عَلَى قُوَى الْكَوْنِ الْأَعْظَمِ بِمَا هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُ تُنَافِي خُضُوعَهُ وَاسْتِكَانَتَهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا، إِلَّا مَا عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ سَبَبِهِ وَمَنْشَئِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى لِمُدَبِّرِ الْكَوْنِ وَمُسَخِّرِ الْأَسْبَابِ فِيهِ فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ أَتَاهُ مَنْ أَضْعَفِ الْجِهَاتِ فِيهِ وَهِيَ جِهَةُ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَأَقَامَ لَهُ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِهِ مُرْشِدِينَ هَادِينَ، وَمَيَّزَهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ بِخَصَائِصَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْإِقْنَاعِ بِآيَاتٍ بَاهِرَاتٍ تَمْلِكُ النُّفُوسَ، وَتَأْخُذُ الطَّرِيقَ عَلَى سَوَابِقِ الْعُقُولِ فَيَسْتَخْذِي الطَّامِحُ وَيَذِلُّ الْجَامِحُ، وَيَصْطَدِمُ بِهَا عَقْلُ الْعَاقِلِ فَيَرْجِعُ إِلَى رُشْدِهِ وَيَنْبَهِرُ لَهَا بَصَرُ الْجَاهِلِ فَيَرْتَدُّ عَنْ غَيِّهِ)) .
ثُمَّ قَالَ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: نَبِيٌّ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْإِقْنَاعِ بِرِسَالَتِهِ بِمَا يُلْهِي الْأَبْصَارَ أَوْ يُحَيِّرُ الْحَوَاسَّ أَوْ يُدْهِشُ الْمَشَاعِرَ، وَلَكِنْ طَالَبَ كُلَّ قُوَّةٍ بِالْعَمَلِ فِيمَا أُعِدَّتْ لَهُ، وَاخْتَصَّ الْعَقْلَ بِالْخِطَابِ، وَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ، وَجَعَلَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الدَّلِيلِ، مَبْلَغَ الْحُجَّةِ وَآيَةَ الْحَقِّ الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (41: 42) .
لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ:
(6)
إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِحُجَّةٍ لَا يُمْكِنُ لِمَنْ عَقَلَهَا رَدُّهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْهَا، بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ الْعُلَمَاءِ الْوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِ الْأَدْيَانِ الَّتِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ - حَتَّى كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - وَعَلَى تَوَارِيخِهَا لِتَوَاتُرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاشْتِبَاهِ فِي كَوْنِهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ التَّوَاتُرَ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي نَقْلِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ نَقْلُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِخَبَرٍ أَدْرَكُوهُ بِالْحِسِّ، وَحَمَلَهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ بِدُونِ انْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحَالَةُ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى
الْكَذِبِ بِأُمُورٍ، أَهَمُّهَا عَدَمُ التَّحَيُّزِ وَالتَّشَيُّعِ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ وَعَدَمُ تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهِ، وَآيَةُ صِحَّةِ هَذَا التَّوَاتُرِ حُصُولُ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِهِ وَإِذْعَانُ النَّفْسِ لَهُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ رَدِّهِ اعْتِقَادًا وَوِجْدَانًا. وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا آيَةُ الْقُرْآنِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ بِبَقَائِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَارِيخِ الْإِسْلَامِ يَعْلَمُ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا مُتَّصِلًا فِي كُلِّ عَصْرٍ، مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى الْآنَ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهُوَ وُجُوهُ إِعْجَازِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا شُبْهَتَهُمْ عَلَيْهِ وَبَيَّنَّا بُطْلَانَهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ كَوْنُهُ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي خُلُقِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِتَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ أَمْ لَا، وَكَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَا، يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِانْقِطَاعِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَإِذْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ بِوُقُوعِ كَرَامَةٍ كَوْنِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ بَعْدَ ((مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم)) فَلَا يَضُرُّ مُسْلِمًا فِي دِينِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ كَمَا يَعْتَقِدُ أَكْثَرُ عُقَلَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ النَّاسُ مِنَ الْخَوَارِقِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَبَعْضُهُ صِنَاعَةُ عِلْمٍ، أَوْ شَعْوَذَةُ سِحْرٍ، وَأَقَلُّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ الْغَالِيَةِ.
(7)
إِنَّ الثَّابِتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعَيَّنَةِ قَلِيلٌ جِدًّا، فَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ فَصَرْفُهُ عَنْهَا بِالتَّحَكُّمِ فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأْبَاهُ مَدْلُولَاتُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَنْقُضُ شَيْئًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْقَطْعِيَّةِ ارْتِدَادٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، فَإِنْ عَارَضَهُ فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِالْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ ابْتِدَاعٌ.
(خُلَاصَةُ الْخُلَاصَةِ لِهَذَا الْفَصْلِ)
إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَأَنَّهُ (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (32: 7) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ (آلم) السَّجْدَةِ، فَهُوَ:(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)(27: 88) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ تَفَاوُتٌ وَلَا فُطُورٌ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، الْآيَةِ (3) وَأَنَّهُ خَلَقَهُ بِنِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ لَا جُزَافًا وَلَا أُنُفًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ:(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)(54: 49) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)(25: 2) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)(15: 19)(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(15: 21) .
وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ، وَفِيمَا هَدَى إِلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً تَتَّصِلُ فِيهَا الْأَسْبَابُ بِالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ مُحَابَاةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَامَّةٌ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّنَنِ بِاللَّفْظِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَأَنَّ لَهُ فِي آيَاتِهِ حِكَمًا جَلِيَّةً أَوْ خَفِيَّةً، وَأَنَّ مَا مَنَحَنَا إِيَّاهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ يَأْبَيَانِ عَلَيْنَا أَنْ نُثْبِتَ وُقُوعَ شَيْءٍ فِي الْخَلْقِ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ نِظَامِ التَّقْدِيرِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ، إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ يَشْتَرِكُ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ فِي إِثْبَاتِهِ وَتَمْحِيصِهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا عَنْ خَلَلٍ وَلَا عَبَثٍ، وَأَنَّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا مِنْ حُكْمِهِ كَسَائِرِ مَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، نَبْحَثُ عَنْهَا لِنُزَادَ عِلْمًا بِكَمَالِهِ وَنُكْمِلَ بِهِ أَنْفُسَنَا بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا وَلَا نَتَّخِذَهَا حُجَّةً وَلَا عُذْرًا عَلَى الْكُفْرِ بِهِ لِجَهْلِنَا، وَقَدْ ثَبَتَ لِأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ مِنَّا أَنَّ مَا نَجْهَلُ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ أَكْثَرُ مِمَّا نَعْلَمُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحِيطَ الْبَشَرُ بِهِ عِلْمًا.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ مَنَحَنَا رُسُلًا هَدَوْنَا بِآيَاتِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَضِيقِ مَدَارِكِ الْحِسِّ، وَمَا يَسْتَنْبِطُهُ الْفِكْرُ مِنْهَا بَادِيَ الرَّأْيِ، إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ سَعَةِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَوْلَا هِدَايَتُهُمْ لَظَلَّ الْبَشَرُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ مَا لَمْ يَكُونُوا يُدْرِكُونَهُ بِحَوَاسِّهِمْ مِنَ الْأَجْسَامِ وَأَعْرَاضِهَا، وَبِقِيَاسِهِمْ مَا جَهِلُوا عَلَى مَا عَلِمُوا مِنْهَا.
وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ التَّارِيخِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِآيَاتِهِ لِرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ هُوَ الَّذِي وَجَّهَ عُقُولَ الْبَشَرِ إِلَى الْبَحْثِ فِي أَسْرَارِ الْوُجُودِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الِارْتِقَاءِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي الْأَجْيَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَمْ
يَكُنْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَصِيبٌ فِي ذَلِكَ - فَهَذَا الْإِيمَانُ بِالْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْغَيْبِ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَ الْبَشَرَ إِلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ كَانَ يَعُدُّهَا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنْ مُحَالَاتِ الْعُقُولِ كَالْغَيْبِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ، حَتَّى لَمْ يُعَدَّ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ بَعِيدًا عَنِ الْعَقْلِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.
فَتَبَيَّنَ لَنَا بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ كَانَ لِلْبَشَرِ بِآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ، هِيَ مِنْ حِكَمِ نَصْبِهِ تَعَالَى لِتِلْكَ الْآيَاتِ:(الْأُولَى) جَعْلُهَا دَلِيلًا حِسِّيًّا عَلَى اخْتِيَارِهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَكَوْنِ سُنَنِ النِّظَامِ فِي الْخَلْقِ خَاضِعَةً لَهُ لَا حَاكِمَةً عَلَيْهِ وَلَا مُقَيِّدَةً لِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. (الثَّانِيَةُ) جَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ بِوَحْيِهِ وَنُذُرًا لِلْمُعَانِدِينَ لَهُمْ مِنَ الْكَفَّارِ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ بِكَسْبِهِمْ أَوْ تَقَعُ مِنْهُمْ بِاسْتِعْدَادٍ رُوحِيٍّ لَمَا كَانَتْ آيَةً عَلَى صِدْقِهِمْ (الثَّالِثَةُ) هِدَايَةُ عُقُولِ الْبَشَرِ بِرُؤْيَتِهَا إِلَى سَعَةِ دَائِرَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَضِيقِ نِطَاقِ الْمُحَالِ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَإِلَى أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ بَعِيدًا عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ وَالْأُمُورِ الْمَعْهُودَةِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ - لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُحَالًا يُجْزَمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَبِكَذِبِ الْمُخْبِرِ بِهِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمَ الثُّبُوتِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلَا يَنْقُصُهُمْ لِتَكْمِيلِ عِلْمِهِمْ إِلَّا ثُبُوتُ آيَةٍ للَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِلَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْكَوْنِ.
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْعُلُومِ
وَالْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ لِآيَاتِ الرُّسُلِ وَمَا دَعَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعُقُولِ، قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ نَفْسُهَا سَبَبًا لِإِنْكَارِهِمْ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُمْ وَمُوصِلًا إِلَيْهَا (وَهُوَ الْآيَاتُ وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ) - لَا إِنْكَارَ إِمْكَانِهِ بَلْ إِنْكَارَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ، فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ قَدْ فَعَلَ مَا صَارُوا يَفْعَلُونَ بِإِقْدَارِهِ وَتَوْفِيقِهِ نَظِيرًا لَهُ فِي الْغَرَابَةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ مُبَيِّنًا لِحَقِيقَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (41: 53) وَلَكِنَّهُمْ كُلَّمَا أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مِنْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآفَاقِ، الْتَمَسُوا لَهَا سُنَّةً بِقِيَاسِ مَا لَمْ يَعْرِفُوا عَلَى مَا عَرَفُوا، فَأَخْرَجُوهَا عَنْ كَوْنِهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَإِبْدَاعِهِ، وَظَلُّوا عَلَى لَبْسِهِمْ، كَالَّذِينِ طَلَبُوا أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا رَسُولًا فَقَالَ فِيهِمْ:(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)(6: 9) أَيْ لَمَّا كَانُوا لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُدْرِكُوا الْمَلَكَ وَيَتَلَقَّوْا عَنْهُ إِلَّا إِذَا كَانَ بِصُورَةِ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرُوهُ مِنْ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَلَوْ جَعَلَ اللهُ الْمَلَكَ رَجُلًا مِثْلَهُمْ لَالْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ بِمَا يُلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنِ اسْتِنْكَارِ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ الْآنَ: ظَهَرَتْ لَهُمْ فِي عَصْرِنَا عِدَّةُ آيَاتٍ رُوحِيَّةٍ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ فَشَبَّهُوهَا بِمَا عَرَفُوا مِنْ نَقْلِ الْكَلَامِ بِالسَّيَّالِ الْكَهْرَبَائِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَعْتَرِفُوا بِآيَةٍ إِبْدَاعِيَّةٍ مِنَ الْخَالِقِ لَا تَخْضَعُ لِعِلْمِهِمْ.
الْخَطَرُ عَلَى الْبَشَرِ مِنِ ارْتِقَاءِ الْعِلْمِ بِدُونِ الدِّينِ:
إِنَّ حِرْمَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِآيَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ، قَدْ جَعَلَ حَظَّ الْبَشَرِ مِنْ هَذَا الِارْتِقَاءِ الْعَجِيبِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمُ ازْدَادُوا بِهِ شَقَاءً، حَتَّى صَارَتْ حَضَارَتُهُمْ مُهَدَّدَةً بِالتَّدْمِيرِ الْعِلْمِيِّ الصِّنَاعِيِّ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَجَمِيعُ عُلَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ وَسَاسَتِهِمُ الدَّهَاقِينَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَلَنْ يُتَلَافَى إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَهَذَا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ; وَلِأَجْلِهِ أَثْبَتَ الْآيَاتِ بِكِتَابِهِ وَفِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْضَعَ الْبَشَرُ إِلَّا لِمَا هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، بِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْإِلَهِيِّ الَّذِي فَوْقَ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْجَمْعَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ الْمُثْبِتِ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ) .
قَدْ أَتَى عَلَى الْبَشَرِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالِيمُ خَارِجَةٌ عَنْ مُحِيطِ الْعَقْلِ، كُلِّفَ الْبَشَرُ بِهَا مُقَاوَمَةَ فِطْرَتِهِمْ، وَتَعْذِيبَ أَنْفُسِهِمْ، وَمُكَابَرَةَ عُقُولِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ، خُضُوعًا لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَهُمْ إِيَّاهَا، فَإِنِ انْقَادُوا لِسَيْطَرَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا كَانُوا مِنَ الْفَائِزِينَ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ سِرًّا أَوْ جَهْرًا كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ.
حَتَّى إِذَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دِينَ اللهِ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَأَنْ لَا سَيْطَرَةَ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ وَضَمِيرِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَإِنَّمَا رُسُلُ اللهِ هُدَاةٌ مُرْشِدُونَ، مُبَشِّرُونَ وَمُنْذِرُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَقْصِدِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَزَايَا بِالشَّوَاهِدِ الْمُخْتَصَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ:
(1)
الْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(30: 30) الْحَنِيفُ صِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْعِوَجِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ. وَعَنِ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَعَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَيُقَابِلُهُ الزَّيْغُ وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ إِلَخْ. وَفِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا هِيَ الْجِبِلَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ: الْجِسْمَانِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَالرُّوحَانِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَعْرِفَةِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ فِيهِمَا، وَمَا أُودِعَ فِيهَا مِنْ غَرِيزَةِ الدِّينِ الْمُطْلَقِ، الَّذِي هُوَ الشُّعُورُ الْوِجْدَانِيُّ بِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ
فَوْقَ قُوَى الْكَوْنِ وَالسُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي قَامَ بِهِمَا نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ، فَرَبُّ هَذَا السُّلْطَانِ هُوَ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، وَالْمَصْدَرُ الذَّاتِيُّ لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ الْمُحَرِّكَيْنِ لِشُعُورِ التَّعَبُّدِ الْفِطْرِيِّ، وَطَلَبِ الْعِرْفَانِ الْغَيْبِيِّ، فَالْعِبَادَةُ الْفِطْرِيَّةُ هِيَ التَّوَجُّهُ الْوِجْدَانِيُّ إِلَى هَذَا الرَّبِّ الْغَيْبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ مِنْ نَفْعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ، وَدَفْعِ ضُرٍّ يَمَسُّهُ أَوْ يَخَافُهُ وَيَرَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَفِي كُلِّ مَا تَشْعُرُ فِطْرَتُهُ بِاسْتِعْدَادِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَأَعْنِي بِالْإِنْسَانِ جِنْسَهُ، فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ دُونَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ يَعُدُّهُ مِنْ مَقْدُورِهِ، وَيَعُدُّ مُسَاعَدَةَ غَيْرِهِ لَهُ مِنْ جِنْسِ كَسْبِهِ، فَطَلَبُهُ لِلْمُسَاعَدَةِ مِنْ أَمْثَالِهِ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعَبُّدِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ - فَتَعْظِيمُ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ بِوَسَائِلِ اسْتِجْدَائِهِ، وَخُضُوعُ الضَّعِيفِ لِلْقَوِيِّ لِاسْتِنْجَادِهِ وَاسْتِعْدَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَخُنُوعُ السُّوقَةِ لِلْمَلِكِ أَوِ الْأَمِيرِ لِخَوْفِهِمْ مِنْهُ أَوْ رَجَائِهِ - لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي عُرْفِ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَلَا مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَإِنَّمَا رُوحُ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَمُخُّهَا هُوَ دُعَاءُ ذِي السُّلْطَانِ الْعُلْوِيِّ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ مَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْقِلُهُ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَلَاسِيَّمَا الدُّعَاءَ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالشَّدَائِدِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم:((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) هَكَذَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، أَيْ هُوَ الرُّكْنُ الْمَعْنَوِيُّ الْأَعْظَمُ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوحُهَا الْمُفَسَّرُ بِرِوَايَةِ ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) وَكُلُّ تَعْظِيمٍ وَتَقَرُّبٍ قَوْلِيٍّ أَوَعَمَلِيٍّ لِصَاحِبِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ فَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ - هَذَا أَصْلُ دِينِ الْفِطْرَةِ الْغَرِيزِيِّ فِي الْبَشَرِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ التَّشْرِيعِيُّ، الَّذِي هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ يُوحِيهِ اللهُ إِلَى رُسُلِهِ، لِئَلَّا يَضِلَّ عِبَادُهُ بِضِعْفِ اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى غَرِيزَةِ الدِّينِ كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْبَشَرُ بِالْإِذْعَانِ وَالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُلَقِّنُ لَهُمْ إِيَّاهُ مُؤَيَّدًا فِي تَبْلِيغِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى، وَالتَّصَرُّفِ الذَّاتِيِّ الْمُطْلَقِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، الَّذِي تَخْضَعُ لَهُ الْأَسْبَابُ وَالسُّنَنُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَخْضَعُ لَهَا، وَهُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِرَارًا، وَبَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنَ
التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ مَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ شُرِّعَ لِتَكْمِيلِ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِلرُّقِيِّ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ عز وجل الْمُعِدَّةِ إِيَّاهُمْ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُصَادِمُهَا.
فَهَذَا الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ حَاجَةٌ مِنْ حَاجِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ كَمَالُهَا النَّوْعِيُّ بِدُونِهِ، فَهُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِ كَمَا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
(2)
الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ:
تَقْرَأُ قَامُوسَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فَلَا تَجِدُ فِيهِ كَلِمَةَ ((الْعَقْلِ)) وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَسْمَاءِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي فَضُلَ الْإِنْسَانُ بِهَا جَمِيعَ أَنْوَاعِ هَذَا الْجِنْسِ الْحَيِّ كَاللُّبِّ وَالنُّهَى، وَلَا أَسْمَاءَ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فِي الْعَالَمِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَظَائِفِ الْعَقْلِ، وَلَا أَنَّ الدِّينَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ، وَقَائِمٌ بِهِ وَعَلَيْهِ. أَمَّا ذِكْرُ الْعَقْلِ بِاسْمِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فَيَبْلُغُ زُهَاءَ خَمْسِينَ مَرَّةً، وَأَمَّا ذِكْرُ ((أُولِي الْأَلْبَابِ)) فَفِي بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَأَمَّا كَلِمَةُ ((أُولِي النُّهَى)) أَيِ الْعُقُولِ فَقَدْ جَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ آخِرِ سُورَةِ طه.
أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِعْلُ الْعَقْلِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ اللهِ، وَكَوْنِ الْمُخَاطَبِينَ وَالَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَهْتَدُونَ بِهَا الْعُقَلَاءُ، وَيُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْغَالِبِ آيَاتُ الْكَوْنِ الدَّالَّةُ عَلَى عِلْمِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(2: 164) وَيَلِي ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ آيَاتُ كِتَابِهِ التَّشْرِيعِيَّةُ وَوَصَايَاهُ، كَقَوْلِهِ فِي تَفْصِيلِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ:(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(6: 151) وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ كَأَمْرٍ لِرَسُولِهِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْمِهِ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)(10: 16) وَجَعَلَ إِهْمَالَ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ سَبَبَ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنْ سُورَةِ الْمُلْكِ: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(67: 10) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (7: 179) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)(22: 46) الْآيَةَ.
كَذَلِكَ آيَاتُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّفْكِيرِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَمَنْ تَأَمَّلَهَا عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الدِّينِ هُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَنَّ الْغَافِلِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ كَالْأَنْعَامِ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ، الَّتِي لَا تُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَلَا تَصْعَدُ بِهَا فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، بِعِرْفَانِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)(34: 46)
وَقَوْلُهُ: (أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى)(30: 8) وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ الْعُقَلَاءِ أُولِي الْأَلْبَابِ: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(3: 191) وَقَوْلُهُ بَعْدَ نَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالتَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَحَصْرِ وَظِيفَتِهِ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ)(6: 50) .
وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ، بِمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ فِي الْأَرْضِ، مِنْ أَنَّ التَّفَكُّرَ هُوَ مَبْدَأُ ارْتِقَاءِ الْبَشَرِ، وَبِقَدْرِ جَوْدَتِهِ يَكُونُ تَفَاضُلُهُمْ فِيهِ اهـ. وَقَدْ كَانَتِ التَّقَالِيدُ الدِّينِيَّةُ حَجَّرَتْ حُرِّيَّةَ التَّفَكُّرِ وَاسْتِقْلَالَ الْعَقْلِ عَلَى الْبَشَرِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَبْطَلَ بِكِتَابِهِ هَذَا الْحَجْرَ، وَأَعْتَقَهُمْ مِنْ هَذَا الرِّقِّ، وَقَدْ تَعَلَّمَ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ أُمَمُ الْغَرْبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُكِسَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى عَادَ بَعْضُهُمْ يُقَلِّدُونَ فِيهَا مَنْ أَخَذُوهَا عَنْ أَجْدَادِهِمْ.
(3)
الْإِسْلَامُ دِينُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ:
ذُكِرَ اسْمُ الْعِلْمِ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً فِي عَشَرَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَذُكِرَتْ مُشْتَقَّاتُهُ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِأَنْوَاعِهَا، فَمِنَ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ:(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(17: 36) قَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لَاتَحْكُمْ بِالْقِيَافَةِ وَالظَّنِّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: وَلَا تَتَّبِعْ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمُكَ تَقْلِيدًا أَوْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ فِي التَّارِيخِ:(اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(46: 4) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي عُلُومِ
الْبَشَرِ الْمَادِّيَّةِ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(30: 6 و7) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ فِيهَا دُونَ الْعِلْمِ الرُّوحِيِّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)(17: 85) .
وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ)(22: 8) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِيهِ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْهُدَى وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ وَهُوَ هُدَى الدِّينِ. وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ:(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)(30: 22) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفِ أَلْوَانُهَا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ الطَّرَائِقِ فِي الْجِبَالِ وَأَلْوَانِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ:(إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(35:28)
الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ هُنَا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَسْرَارَ الْكَوْنِ وَأَسْبَابَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَلْوَانِهَا وَآيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا.
عَظَّمَ الْقُرْآنُ شَأْنَ الْعِلْمِ تَعْظِيمًا لَا تُعْلُوهُ عَظْمَةٌ أُخْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)(3: 18) الْآيَةَ، فَبَدَأَ عز وجل بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ، وَجَعَلَ أُولِي الْعِلْمِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ فِي قَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (58: 11) وَأَمَرَ أَكْرَمَ رُسُلِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَهُ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (20: 114) .
وَيُؤَيِّدُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةَ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ الظَّنِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (10: 36) وَمِثْلُهُ: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (53: 28) وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ (4: 157) .
وَبَلَغَ مِنْ تَعْظِيمِهِ لِشَأْنِ الْعِلْمِ وَالْبُرْهَانِ أَنْ قَيَّدَ بِهِ الْحُكْمَ بِمَنْعِ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَهُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأَقْصَى الْكُفْرِ فَقَالَ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (7: 33) السُّلْطَانُ الْبُرْهَانُ.
وَقَالَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا
وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا (29: 8) وَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ لَا يَكُونُ بِعِلْمٍ وَلَا بِبُرْهَانٍ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْبُطَلَانِ، وَتَرَى تَفْصِيلَ هَذَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ وَمَا يَلِيهِ مِنْ ذَمِّ التَّقْلِيدِ.
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا الْمُطْلَقِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (2: 269) : وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (62: 2) وَفِي مَعْنَاهَا آيَتَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ لِرَسُولِهِ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (4: 113) وَقَالَ لَهُ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (16: 125) وَقَالَ لَهُ فِي خَاتِمَةِ الْوَصَايَا بِأُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ وَالنَّهْيِ عَنْ كَبَائِرِ الرَّذَائِلِ، مَعَ بَيَانِ عِلَلِهَا وَمَا لَهَا مِنَ الْعَوَاقِبِ:
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (17: 39) وَقَالَ لِنِسَائِهِ رضي الله عنهن: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ (33: 34) .
وَقَدْ آتَى اللهُ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْحِكْمَةَ، وَلَكِنْ أَضَاعَهَا أَقْوَامُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِالتَّقَالِيدِ وَالرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَنَسَخَهَا بُولَسْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (4: 54) فَالْكِتَابُ أَعْلَى مَا يُؤْتِيهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَيَلِيهِ الْحِكْمَةُ وَيَلِيهَا الْمُلْكُ. وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ دَاوُدَ عليه السلام: وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (2: 251) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ عِيسَى عليه السلام: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (5: 110) وَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (31: 12) وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَصَايَاهُ لِابْنِهِ بِالْفَضَائِلِ وَمَنَافِعِهَا وَنَهْيَهُ عَنِ الرَّذَائِلِ مُعَلَّلَةً بِمَضَارِّهَا. فَالْحِكْمَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، هِيَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ كَعِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَأَسْرَارِ الْخَلْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (17: 39) وَلَوْلَا اقْتِرَانُ تِلْكَ الْوَصَايَا بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا وَمَنَافِعِهَا لَمَا سُمِّيَتْ حِكْمَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى
فِيهَا الْمُبَذِّرِينَ لِلْمَالِ ((إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)) لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ نِظَامَ الْمَعِيشَةِ بِإِسْرَافِهِمْ، وَيَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ بِعَدَمِ حِفْظِهَا وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِهَا بِالِاعْتِدَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَهُ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (17: 27) ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)(17: 29) فَعَلَّلَ الْإِسْرَافَ فِي الْإِنْفَاقِ بِأَنَّ عَاقِبَةَ فَاعِلِهِ أَنْ يَكُونَ مَلُومًا مِنَ النَّاسِ وَمَحْسُورًا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْسُورُ مَنْ حُسِرَ عَنْهُ سَتْرُهُ فَانْكَشَفَ مِنْهُ الْمُغَطَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنِ انْحَسَرَتْ قُوَّتُهُ وَانْكَشَفَتْ عَنْ عَجْزِهِ، وَالْمَحْسُورُ الْمَغْمُومُ أَيْضًا. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصِحُّ فِي وَصْفِ الْمُسْرِفِ فِي النَّفَقَةِ، يُوقِعُهُ إِسْرَافُهُ فِي الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ إِلَخْ. وَحَسِيرُ الْبَصَرِ كَلَيْلُهُ وَقَصِيرُهُ.
وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ لِلْحَقَائِقِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَالِمُ حَكِيمًا.
(4)
الْإِسْلَامُ دِينُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ:
قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (4: 174) وَقَالَ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (23: 117) قَيَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى الشِّرْكِ بِكَوْنِهِ لَا بُرْهَانَ لِصَاحِبِهِ يَحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأُمَمَ مَعَ رُسُلِهِمْ وَوَرَثَتِهِمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبُهُمْ بِحَضْرَتِهِمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ:
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28: 75) .
وَأَقَامَ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا)(21: 220) ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهِ بِمُطَالَبَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِهِ مُطَالَبَةَ تَعْجِيزٍ فَقَالَ: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)(21: 24) الْآيَةَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (27: 64) .
وَقَالَ فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ وَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الْعِلْمِيَّةِ لَهُمْ عَلَى بُطْلَانِ
شِرْكِهِمْ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(6: 81) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(6: 83) فَالدَّرَجَاتُ هُنَا دَرَجَاتُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْحِكْمَةِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِلْمِ آيَةُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِيهِ.
وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْبُرْهَانُ بِلَفْظِ السُّلْطَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا)(40: 35) الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) (40: 56) الْآيَةَ، وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ بِآيَاتِهِ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ.
(5)
الْإِسْلَامُ دِينُ الْقَلْبِ وَالْوِجْدَانِ وَالضَّمِيرِ:
قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: ضَمِيرُ الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ وَبَاطِنُهُ، وَقَالَ: وَالْقَلْبُ مِنَ الْفُؤَادِ مَعْرُوفٌ - يَعْنِي أَنَّهُ ضَمِيرُهُ وَوِجْدَانُهُ الْبَاطِنُ (قَالَ) : وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَقْلِ اهـ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهُ هَذَا وَطَرِيقَ اسْتِعْمَالِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي مِائَةِ آيَةٍ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً.
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (50: 37) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(26: 88، 89) وَمَدْحُهُ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ)(37: 84) وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُ (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(2: 26) وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(13: 28)
وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى عليه السلام: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)(57: 72) وَوَصَفَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخُشُوعِ وَالْإِخْبَاتِ لِلَّهِ وَتَمْحِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَقُلُوبِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالرِّجْسِ وَالْمَرَضِ وَالْقَسْوَةِ وَالزَّيْغِ. وَعَبَّرَ عَنْ فَقْدِهَا لِلِاسْتِعْدَادِ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ بِالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا، أَيْ أَنَّهَا كَالْمَخْتُومِ عَلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ جَدِيدٌ.
وَإِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ، وَحُرِّيَّةِ الضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، مَنَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَالْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ لِمُخَالِفِيهِمْ فِيهِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي مَحَلِّهَا، وَمِنْ دَلَائِلِهَا ذَمُّ الْقُرْآنِ لِلتَّقْلِيدِ وَتَضْلِيلُ أَهْلِهِ.
(6)
مَنْعُ التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالْجُدُودِ:
كُلُّ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَحُرِّيَّةِ الْوِجْدَانِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّهِ وَالنَّعْيِ عَلَى أَهْلِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ)(2: 170) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ يَاأَيُّهَا) (5: 104) ذَمَّهُمْ مِنْ نَاحِيَتَيْنِ: (إِحْدَاهُمَا) الْجُمُودُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ عَنِ التَّرَقِّي فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ الْعَاقِلِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ تَقْتَضِي النُّمُوَّ وَالتَّوْلِيدَ، وَالْعَقْلُ يَطْلُبُ الْمَزِيدَ وَالتَّجْدِيدَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ قَدْ فَقَدُوا مَزِيَّةَ الْبَشَرِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْحُسْنِ وَالْقَبِيحِ، بِطَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَطَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ فِي الْعَمَلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(7: 28) وَقَالَ تَعَالَى فِي عِبَادَةِ الْعَرَبِ لِلْمَلَائِكَةِ: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (43: 20 - 23) وَقَدْ وَرَدَتِ الشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالصَّافَّاتِ.
فَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ يَهْدِي جَمِيعَ مُتَّبِعِي الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ مَعَ ضَمَائِرِهِمْ لِلْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ وَالْهُدَى فِي الدِّينِ، وَأَلَّا يَكْتَفُوا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ
هَذَا جِنَايَةٌ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ
وَالْقَلْبِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْبَشَرُ، وَبِهَذَا الْعِلْمِ وَالْهُدَى امْتَازَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ أَفْوَاجًا، ثُمَّ نُكِسَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّقْلِيدِ لِآبَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمُ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ عُلَمَائِهِمْ، الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ، فَأَبْطَلُوا بِذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأُمَمِ وَصَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَدْعِيَاءَ الْعِلْمِ الرَّسْمِيِّ فِيهِمْ يُنْكِرُونَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ أَهْلِهِ وَنَحْنُ مَعَهُمْ فِي بَلَاءٍ وَعَنَاءٍ، نُقَاسِي مِنْهُمْ مَا شَاءَ الْجَهْلُ وَالْجُمُودُ مِنِ اسْتِهْزَاءٍ وَطَعْنٍ وَبِذَاءٍ، وَتَهَكُّمٍ بِلَقَبِ ((الْمُجْتَهِدِ)) الَّذِي احْتَكَرَهُ الْجَهْلُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَلَوْ كَانَ فِينَا عُلَمَاءُ كَثِيرُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ فِي صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، لِدَخَلَ النَّاسُ الْمُسْتَقِلُّونَ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ أَفْوَاجًا حَتَّى يَعُمَّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الْعَصْرِيَّ فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْأَرْضِ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ وَاتِّبَاعِ الدَّلِيلِ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْأَفْرُعِ وَالْبِلَادِ الْمُقَلِّدَةِ لَهُمْ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ تَقْلِيدِيَّةً وَيَعْتَدُّونَهَا نُظُمًا أَدَبِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً لِلْأُمَمِ، فَلِهَذَا يَرَوْنَ الْأَوْلَى بِحِفْظِ نِظَامِهِمُ اتِّبَاعَ دِينِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ، وَبِهَذَا يَعْسُرُ عَلَيْنَا أَنْ نُقْنِعَهُمْ بِامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ عَلَى دِينِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقِلُّ فِينَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَصَّهُ بِهَا الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
(دَحْضُ شُبْهَةٍ، وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ)
يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ فِي فَهْمِهِمَا الَّتِي اشْتُهِرَ الْمَنَارُ فِي عَصْرِنَا بِهَا، هِيَ الَّتِي جَرَّأَتْ بَعْضَ الْجَاهِلِينَ عَلَى دَعْوَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ وَالِانْتِقَادِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِمَا هُوَ ابْتِدَاعٌ جَدِيدٌ، وَاسْتِبْدَالٌ لِلْفَوْضَى بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ وَهْمٌ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَبِالتَّارِيخِ فَمَذَاهِبُ الِابْتِدَاعِ وَالْإِلْحَادِ قَدِيمَةٌ قَدْ نَجَمَتْ قُرُونُهَا فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَعَهْدِ أَكْبَرِ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّهَا إِفْسَادًا لِلدِّينِ الدَّعْوَةُ إِلَى اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يُسْأَلُونَ عَنِ الدَّلِيلِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ أَحَدٍ لَذَّاتِهِ فِي الدِّينِ بَعْدَ
مُحَمَّدٍ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا مَعْصُومَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّمِينَ لِلتَّقْلِيدِ قَدِ اتَّبَعُوا الْقَائِلِينَ بِعِصْمَةِ أَئِمَّتِهِمْ، حَتَّى مَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَرُدُّونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ بَلْ بِأَقْوَالِ كُلِّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا تَرُوجُ الْبِدَعُ فِي سُوقِ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَتْبَعُ أَهْلُهُ كُلَّ نَاعِقٍ، لَا فِي سُوقِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْأَخْذِ بِالدَّلَائِلِ
وَمِنْ بَابِ التَّقْلِيدِ دَخَلَ أَكْثَرُ الْخُرَافَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِانْتِسَابِ جَمِيعِ الدَّجَّالِينَ مِنْ أَهْلِ الطَّرَائِقِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُمْ فِي دَعْوَى اتِّبَاعِهِمْ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَنَحْنُ دُعَاةَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَحَقُّ مِنْهُمْ بِاتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ.
إِنَّ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ لِلْعُلَمَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَتَرَى عُلَمَاءَ الرُّسُومِ الْجَامِدِينَ يَحْتَجُّونَ بِذِكْرِهَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا وَعَلَى رَدِّ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهَا، وَصَاحِبُ الْمَنَارِ قَدِ انْفَرَدَ دُونَ عُلَمَاءِ مِصْرَ بِالرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الْبَابِيَّةِ وَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ وَالتِّيجَانِيَّةِ وَالْقُبُورِيِّينَ وَسَائِرِ مُبْتَدَعَةِ عَصْرِنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
(7)
الْحُرِّيَّةُ الشَّخْصِيَّةُ فِي الدِّينِ بِمَنْعِ الْإِكْرَاهِ وَالِاضْطِهَادِ وَرِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ:
هَذِهِ الْمَزِيَّةُ مِنْ مَزَايَا الْإِسْلَامِ هِيَ نَتِيجَةُ الْمَزَايَا الَّتِي بَيَّنَّا بِهَا كَوْنَهُ دِينَ الْفِطْرَةِ، فَأَمَّا مَنْعُ الْإِكْرَاهِ فِيهِ وَعَلَيْهِ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)(10: 99 - 101) عَلَّمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ فِي الْبَشَرِ أَنْ تَخْتَلِفَ عُقُولُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَتَتَفَاوَتُ أَنْظَارُهُمْ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيُؤْمِنُ بَعْضٌ وَيَكْفُرُ بَعْضٌ، فَمَا كَانَ يَتَمَنَّاهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِيمَانِ جَمِيعِ النَّاسِ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى فِي اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ مَنُوطٌ بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَأَنْظَارِهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ هِدَايَةِ الدِّينِ وَضَلَالَةِ الْكُفْرِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ عِنْدَمَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ أَخْذَ مَنْ كَانَ عِنْدَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ
عِنْدَ إِجْلَائِهِمْ عَنِ الْحِجَازِ وَكَانَ قَدْ تَهَوَّدَ بَعْضُهُمْ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(2: 256) الْآيَةَ - فَأَمَرَهُمْ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخَيِّرُوهُمْ، فَمَنِ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ أُجْلِيَ مَعَ الْيَهُودِ وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ بَقِيَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا مَنْعُ الْفِتْنَةِ، وَهِيَ اضْطِهَادُ النَّاسِ لِأَجْلِ دِينِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوهُ، فَهُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ لِشَرْعِيَّةِ الْقِتَالِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)(2: 193) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ 39 مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي بِلَفْظِهَا مَعَ زِيَادَةِ (كُلُّهُ) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي ص 552 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ.
وَأَمَّا مَنْعُ رِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ الدِّينِيَّةِ كَالْمَعْهُودَةِ عِنْدَ النَّصَارَى فَفِيهَا آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا
فِي الْكَلَامِ عَلَى وَظَائِفِ الرُّسُلِ عليهم السلام، وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ عز وجل لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (88: 21، 22) .
الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(الْإِصْلَاحُ الِاجْتِمَاعِيُّ الْإِنْسَانِيُّ وَالسِّيَاسِيُّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِالْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ)
وَحْدَةُ الْأُمَّةِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ - وَحْدَةُ الدِّينِ - وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ - وَحْدَةُ الْأُخُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي التَّعَبُّدِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ - وَحْدَةُ الْقَضَاءِ - وَحْدَّةُ اللُّغَةِ.
جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالْبَشَرُ أَجْنَاسٌ مُتَفَرِّقُونَ، يَتَعَادَوْنَ فِي الْأَنْسَابِ وَالْأَلْوَانِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَالْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، وَالشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَالْحُكُومَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ، يُقَاتِلُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَصَاحَ الْإِسْلَامُ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً دَعَاهُمْ بِهَا إِلَى الْوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ وَفَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانُ هَذَا التَّفْرِيقِ وَمَضَارِّهِ بِالشَّوَاهِدِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَانُ أُصُولِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَسُنَّةِ
خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْجَامِعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، لَا يُمْكِنُ بَسْطُهُمَا إِلَّا بِمُصَنَّفٍ كَبِيرٍ، فَنَكْتَفِي فِي هَذِهِ الْخُلَاصَةِ الِاسْتِطْرَادِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ، بِسَرْدِ الْأُصُولِ الْجَامِعَةِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ الْإِنْسَانِيِّ الدَّاعِي إِلَى جَعْلِ النَّاسِ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَدِينًا وَاحِدًا وَشَرْعًا وَاحِدًا، وَحُكْمًا وَاحِدًا وَلِسَانًا وَاحِدًا، كَمَا أَنَّ جِنْسَهُمْ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُمْ وَاحِدٌ.
وَنَبْدَأُ بِالْأَصْلِ الْجَامِعِ فِي هَذَا وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ وَالشَّوَاهِدِ الْمُفَصِّلَةِ لَهُ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَاطِبًا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(21: 92) .
ثُمَّ بَيَّنَ لَهَا فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) أَنَّهُ خَاطَبَ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ لِلْأُمَّةِ فَقَالَ: يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (23: 51، 52) وَلَكِنْ كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ هُمْ قَوْمُهُ، وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأَمَّتُهُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ رُسُلِهِ وَعَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْإِيمَانُ بِخَاتَمِهِمْ كَالْإِيمَانِ بِأَوَّلِهِمْ وَبِمَنْ بَيْنَهُمَا، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُلُوكِ أَوِ الْوُلَاةِ
فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَثَلُ اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ بِنَسْخِ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا لِمَا قَبْلَهُ كَمَثَلِ تَعْدِيلِ الْقَوَانِينِ فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَيْضًا إِلَى أَنْ كَمَلَ الدِّينُ.
(الْأَصْلُ الثَّانِي) الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْبَشَرِ وَشُعُوبِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ.
وَشَاهِدُهُ الْعَامُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(49: 13) وَقَدْ بَلَّغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ يَوْمَ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَهَذِهِ الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّآلُفِ بِالتَّعَارُفِ، وَإِلَى تَرْكِ التَّعَادِي بِالتَّخَالُفِ.
(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) وَحْدَةُ الدِّينِ بِاتِّبَاعِ رَسُولٍ وَاحِدٍ جَاءَ بِأُصُولِ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَكْمَلَ تَشْرِيعَهُ بِمَا يُوَافِقُ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَشَاهِدُهُ الْأَعَمُّ قَوْلُهُ تَعَالَى:(قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)(7: 158) وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْفِطْرَةِ وَحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ جُعِلَ الدِّينُ اخْتِيَارِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(2: 256) .
(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُقُوقِ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمَلِكِ وَالسُّوقَةِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ شَوَاهِدِهِ فِي إِصْلَاحِ التَّشْرِيعِ فِيهِ.
(الْأَصْلُ الْخَامِسُ) الْوَحْدَةُ الدِّينِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الدِّينِ، فِي أُخُوَّتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَعِبَادَاتِهِ، وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلِاجْتِمَاعِيِّ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَاؤُهُمْ وَكِبَارُ عُلَمَائِهِمْ يَخْتَلِطُونَ بِالْفُقَرَاءِ وَالْعَوَّامِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَسَائِرِ مَوَاطِنِ الْحَجِّ. لَا تَجِدُ شُعُوبَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ يَرْضَوْنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ لِلْعَمَلِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ، قَالَ تَعَالَى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(49: 10) وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارَبِينَ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)(9: 11) .
(الْأَصْلُ السَّادِسُ) وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ، بِأَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْبِلَادِ الْخَاضِعَةِ لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ، إِلَّا حَقَّ الْإِقَامَةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ الْحِجَازِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لِلْحَرَمَيْنِ وَسِيَاجِهِمَا مِنَ الْجَزِيرَةِ حُكْمَ الْمَعَابِدِ وَالْمَسَاجِدِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي مَعَابِدِ الْمَلَلِ كُلِّهَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَلَهَا حُرْمَتُهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهَا دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُمْ، الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
(الْأَصْلُ السَّابِعُ) وَحْدَةُ الْقَضَاءِ وَاسْتِقْلَالُهُ وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيهَا أَمَامَ الشَّرِيعَةِ الْعَادِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّخْصِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُرَاعِي فِيهَا حُرِّيَّةَ الْعَقِيدَةِ وَالْوِجْدَانِ بِنَاءً عَلَى
أَسَاسِهِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ يَسْمَحُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى عُلَمَاءِ مِلَّتِهِمْ وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَإِنَّنَا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِعَدْلِ شَرِيعَتِنَا النَّاسِخَةِ لِشَرَائِعِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (5: 42) وَقَوْلُهُ بَعْدَ آيَاتٍ: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)
(5: 48) .
(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) وَحْدَةُ اللُّغَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ الِاتِّحَادُ وَالْإِخَاءُ بَيْنَ النَّاسِ، وَصَيْرُورَةُ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ. وَمَازَالَ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ فِي مَصَالِحِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يَكُونُ لَهُمْ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرِكَةٌ، يَتَعَاوَنُونَ بِهَا عَلَى التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَمَنَاهِجِ التَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمْنِيَةُ قَدْ حَقَّقَهَا الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ لُغَةِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحُكْمِ لُغَةً لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْخَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِ، إِذْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ مَسُوقِينَ بِاعْتِقَادِهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِفَهْمِهِمَا وَالتَّعَبُّدِ بِهِمَا وَالِاتِّحَادِ بِإِخْوَتِهِمْ فِيهِمَا، وَهُمَا مَنَاطُ سِيَادَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانَ كَوْنِهِ كِتَابًا عَرَبِيًّا وَحُكْمًا عَرَبِيًّا، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَالِاتِّعَاظِ وَالتَّأَدُّبِ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَتَعَلَّمُونَ لُغَةَ الشَّرْعِ الَّذِي يَخْضَعُونَ لِحُكْمِهِ، وَالْحُكُومَةِ الَّتِي يَتْبَعُونَهَا لِمَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا.
وَقَدْ بَيَّنْتُ مِنْ قَبْلُ وُجُوبَ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَوْنَهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي رِسَالَتِهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ خُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ، إِلَى أَنْ كَثُرَ الْأَعَاجِمُ وَقَلَّ الْعِلْمُ وَغَلَبَ الْجَهْلُ، فَصَارُوا يَكْتَفُونَ مِنْ لُغَةِ الدِّينِ بِمَا فَرَضَهُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ (فَرَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص 264 وَمَا بَعْدَهَا) ج 9 ط الْهَيْئَةِ.
وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنْكِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ، الَّذِي يُنَافِي وَحْدَتَهُمْ وَجَعْلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ كَمَا شَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى لَهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه وَكَانَ يَخُصُّ بِمَقْتِهِ وَإِنْكَارِهِ التَّفَرُّقَ فِي الْجِنْسِ النِّسْبِيِّ أَوِ اللُّغَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَشْهُورٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَجْمَعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ الشَّاهِدُ الْآتِي.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:
جَاءَ قَيْسُ بْنُ مُطَاطِيَّةَ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ، وَبِلَالٌ
الْحَبَشِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدْ قَامُوا بِنُصْرَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَمَا بَالُ هَذَا (يَعْنِي هَذَا الْمُنَافِقُ بِالرَّجُلِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ يَنْصُرُونَهُ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، فَمَا الَّذِي يَدْعُو الْفَارِسِيَّ وَالرُّومِيَّ وَالْحَبَشِيَّ إِلَى نَصْرِهِ؟) .
فَقَامَ إِلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ (أَيْ بِمَا عَلَى لَبَبِهِ وَنَحْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ) ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَتِهِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ - وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ، وَالْأَبَ وَاحِدٌ، وَإِنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتِ الْعَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ اللِّسَانُ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ)) فَقَامَ مُعَاذٌ، فَقَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي بِهَذَا الْمُنَافِقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((دَعْهُ إِلَى النَّارِ)) فَكَانَ قَيْسٌ مِمَّنِ ارْتَدَّ فِي الرِّدَّةِ فَقُتِلَ.
أَرَأَيْتَ لَوْ ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَكَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْحُرُوبِ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ وَأَدَّى بِهِمْ إِلَى هَذَا الضَّعْفِ الْعَامِّ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ حَافَظُوا عَلَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَكَانَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنْ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ تَجِدُ سَبِيلًا لِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الدَّوْحَةِ الْبَاسِقَةِ مِنْ جَنَّةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَامْتِلَاخِ هَذَا السَّيْفِ الصَّارِمِ مِنْ غِمْدِهِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كِتَابِ اللهِ الْمَعْصُومِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُصْلِحِ لِشُعُوبِ الْبَشَرِ وَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِأَجْلِ تَكْوِينِ هَذَا الشَّعْبِ وَمَا أُدْغِمَ وَيُدْغَمُ فِيهِ مِنَ الشُّعُوبِ تَكْوِينًا جَدِيدًا، بِرَابِطَةِ لُغَةٍ تُخْلَقُ خَلْقًا جَدِيدًا، لِأَجْلِ أَنْ يَلْحَقَ بِالشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ دَعِيًّا، كَمَا يُلْصَقُ الْوَلَدُ بِغَيْرِ أَبِيهِ إِلْصَاقًا فَرِيًّا، فَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا عَظِيمًا جَدَّدَ أَوْ أَوْجَدَ شَعْبًا وَلُغَةً وَدَوْلَةً وَدِينًا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا يَبْغُونَ.
لَقَدْ كَانَ هَذَا الشَّعْبُ (التُّرْكُ) قَائِمًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى رِيَاسَةٍ رُوحِيَّةٍ، يَدِينُ لَهَا أَوْ بِهَا زُهَاءَ أَرْبَعِمِائَةِ مِلْيُونٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا يُحْسِنُ بِهِ الْقِيَامَةَ، وَمِنَ الْحَزْمِ وَالْعَزْمِ مَا يُعَزِّزُ بِهِ الْقِيَادَةَ، وَمِنَ النِّظَامِ مَا يُحْكِمُ بِهِ السِّيَاسَةَ، لَأَمْكَنُهُ أَنْ يَسُوسَ بِهَا الشَّرْقَ ثُمَّ يَسُودَ بِنُفُوذِهَا الْغَرْبَ، كَمَا كَانَ يَقْصِدُ نَابِلْيُونُ الْكَبِيرُ لَوْ تَمَّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي مِصْرَ.
يَعْتَرِضُ بَعْضُ أُولِي النَّظَرِ الْقَصِيرِ وَالْبَصَرِ الْكَلِيلِ عَلَى تَوْحِيدِ اللُّغَةِ فِي الشُّعُوبِ الْمُخْتَلِفَةِ
بِأَنَّهُ خِلَافُ طَبِيعِيَّةِ الْبَشَرِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الدِّينِ أَبَعْدُ مِنْ تَوْحِيدِ اللُّغَةِ عَنْ طَبِيعَةِ
الْبَشَرِ إِنْ أُرِيدَ بِالْبَشَرِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِمْ، وَأَنَّ الْحُكَمَاءَ، مَا زَالُوا يَسْعَوْنَ لِجَمْعِ الْبَشَرِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ تَرَقِّيَ بَعْضِ اللُّغَاتِ بِتَرَقِّي أَهْلِهَا فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْقُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ أَنْ يَرْغَبُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَمْ يَسْعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِجَمْعِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي شَرَعَ تَوْحِيدَ الدِّينِ مَعَ شَرْعِهِ وَلُغَتِهِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَأْبَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً تَدِينُ بَدِينٍ وَاحِدٍ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (11: 118، 119) وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِيَقِلَّ الشَّقَاءُ الَّذِي يُثِيرُهُ الْخِلَافُ فِيهِمْ - هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي جَعَلَ أَعْلَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُمْ فِي الْعُمْرَانِ يَبْذُلُونَ فِي هَذَا الْعَهْدِ أَكْثَرَ مَا تَسْتَغِلُّهُ شُعُوبُهُمْ مِنْ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ فِي سَبِيلِ الْحُرُوبِ الَّتِي تُنْذِرُ عُمْرَانَهُمْ بِالْخَرَابِ وَالدَّمَارِ.
دَعَا الْإِسْلَامُ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا، حَتَّى امْتَدَّ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ مَا بَيْنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْهِنْدِ، وَلَوْلَا مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الِابْتِدَاعِ، وَعَلَى حُكُومَاتِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، وَعَلَى شُعُوبِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ، وَالتَّفَرُّقِ بِالِاخْتِلَافِ، لَدَخَلَ فِيهِ أَكْثَرُ الْبَشَرِ، وَلَصَارَتْ لُغَتُهُ لُغَةً لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي حَظِيرَتِهِ مِنَ الْأُمَمِ، فَمِنْ غَرَائِزِهِمُ اخْتِيَارُ الْأَفْضَلِ إِذَا عَرَفُوهُ.
قَالَ أَحَدُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي الْأَسِتَانَةِ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ أَحَدُ شُرَفَاءِ مَكَّةَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقِيمَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي مَيْدَانِ كَذَا مِنْ عَاصِمَتِنَا (بَرْلِينْ) قِيلَ لَهُ: لِمَاذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَوَّلَ نِظَامَ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ عَنْ قَاعِدَتِهِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْغَلَبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَلَكُنَّا نَحْنُ الْأَلَمَانَ وَسَائِرَ شُعُوبِ أُورُبَّةَ عَرَبًا وَمُسْلِمِينَ.
فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي تُوَحِّدُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَهَا بِمَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ عَلَيْهَا بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الَّذِي نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْأُمِّيِّ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ فَفَاقَ بِهَا جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، أَمِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيِ اللهِ تَعَالَى أَفَاضَهُ عَلَيْهِ؟ ! .
الْمَقْصِدُ الْخَامِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(تَقْرِيرُ مَزَايَا الْإِسْلَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ)
(وَنُلَخِّصُ أَهَمَّهَا بِالْإِجْمَالِ فِي عَشْرِ جُمَلٍ)
(1)
كَوْنُهُ وَسَطًا جَامِعًا لِحُقُوقِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(2: 143) الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَسَطٌ بَيْنَ الَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْحُظُوظُ الْجَسَدِيَّةُ وَالْمَنَافِعُ الْمَادِّيَّةُ كَالْيَهُودِ، وَالَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّعَالِيمُ الرُّوحِيَّةُ، وَتَعْذِيبُ الْجَسَدِ وَإِذْلَالُ النَّفْسِ وَالزُّهْدُ كَالْهِنْدُوسِ وَالنَّصَارَى، وَإِنْ خَالَفَ هَذِهِ التَّعَالِيمَ أَكْثَرُهُمْ.
(2)
كَوْنُ غَايَتِهِ الْوُصُولَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، لَا بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ وَالِاتِّكَالِ، وَلَا بِالشَّفَاعَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
(3)
كَوْنُ الْغَرَضِ مِنْهُ التَّعَارُفَ وَالتَّأْلِيفَ بَيْنَ الْبَشَرِ، لَا زِيَادَةَ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ فِي كَوْنِهِ عَامًّا مُكَمِّلًا وَمُتَمِّمًا لِدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي.
وَإِنَّمَا تَفْصِيلُ أُصُولِهِ فِي تِلْكَ الْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي الْمَقْصِدِ الرَّابِعِ.
(4)
كَوْنُهُ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا عُسْرَ وَلَا إِرْهَاقَ وَلَا إِعْنَاتَ، قَالَ اللهُ عز وجل:(لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)(2: 286) وَقَالَ بَلَغَتْ حِكْمَتُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ)(2: 220) وَقَالَ عَظُمَتْ رَأْفَتُهُ: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(2: 185) وَقَالَ جَلَّتْ مِنَّتُهُ: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(22: 78) وَقَالَ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)(5: 6) .
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَدَاؤُهُ وَيُحْرِجُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ أَوْ مُطْلَقًا، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَمِثْلُهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ - الْأَوَّلُ يَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ وَيَقْضِيهِ كَالْمُسَافِرِ، وَالثَّانِي لَا يَقْضِي
بَلْ يُكَفِّرُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ إِذَا قَدَرَ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَيُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الرِّبَا وَآيَاتِ الصِّيَامِ، وَآيَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ يُسْرِ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(5: 101)
مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَجُمِعَ فِي رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ.
(5)
مَنْعُ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَإِبْطَالُ جَعْلِهِ تَعْذِيبًا لِلنَّفْسِ، بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ بِدُونِ إِسْرَافٍ وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي تَفْسِيرِ:(يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(7: 31 و32) وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) وَهُوَ فِي (4: 171) وَ (5: 77) وَفِي هَذَا النَّهْيِ اعْتِبَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْغُلُوِّ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْيُسْرِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَةِ وَعَنْ تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَعَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْخِصَاءِ مُبَيِّنَةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مِصْدَاقُ تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.
(6)
قِلَّةُ تَكَالِيفِهِ وَسُهُولَةُ فَهْمِهَا، وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَجِيءُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُسْلِمُ، فَيُعْلِمُهُ مَا أَوْجَبَ اللهُ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَيُعَاهِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَيَقُولُ:((أَفْلَحَ الْأَعْرَابِيُّ إِنْ صَدَقَ)) وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ قَبُولِ النَّاسِ لَهُ. وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ أَكْثَرُوا التَّكَالِيفَ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَتَّى صَارَ الْعِلْمُ بِهَا مُتَعَسِّرًا، وَالْعَمَلُ بِهَا مُتَعَذِّرًا.
(7)
انْقِسَامُ التَّكْلِيفِ إِلَى عَزَائِمَ وَرُخَصٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرُّخَصِ، وَابْنُ عُمَرَ يُرَجِّحُ الْعَزَائِمَ. وَالنَّاسُ دَرَجَاتٌ فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّشْمِيرِ
وَالِاعْتِدَالِ، فَيُوَافِقُ الْبَدَوِيَّ السَّاذَجَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْحَكِيمَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّبَقَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)(35: 32) .
(8)
نُصُوصُ الْكِتَابِ وَهَدْيُ السُّنَّةِ مُرَاعًى فِيهِمَا دَرَجَاتُ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَضَعْفِهَا، فَالْقَطْعِيُّ مِنْهَا هُوَ الْعَامُّ، وَغَيْرُ الْقَطْعِيِّ تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَفْهَامُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُقِرُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ، كَمَا فَعَلَ عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فَتَرَكَهُمَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَأَقَرَّ كُلًّا عَلَى اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَتَا الْمَائِدَةِ بِالتَّحْرِيمِ الْقَطْعِيِّ. قَالَ تَعَالَى:(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(29: 43) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ فِيهِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ
أَيْضًا، وَأَمَّا الْآيَاتُ الظَّنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ، وَالْأَحَادِيثُ الْأُحَادِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ الرِّوَايَةِ أَوِ الدَّلَالَةِ، فَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ مَنْ يَثْبُتُ عِنْدَهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَإِلَى اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ.
(9)
مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ وَجَعْلُ الْبَوَاطِنِ مَوْكُولَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَّامِ وَلَا الرُّؤَسَاءِ الرَّسْمِيِّينَ وَلَا لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا وَلَا أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَوْ يُضْمِرُ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا الْعُقُوبَاتُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الْعَمَلِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ: بَرَاءَةٌ ((التَّوْبَةِ)) .
(10)
مَدَارُ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا عَلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الظَّاهِرِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا رَأْيٌ شَخْصِيٌّ وَلَا رِيَاسَةٌ، وَمَدَارُهَا فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ النِّيَّةِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرَيْنِ كَثِيرَةٌ.
الْمَقْصِدُ السَّادِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ
(بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ: نَوْعِهِ وَأَسَاسِهِ وَأُصُولِهِ الْعَامَّةِ)
الْإِسْلَامُ دِينُ هِدَايَةٍ وَسِيَادَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَحُكْمٍ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَمَصَالِحِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى السِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَفِيهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ.
(الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ الْأُولَى لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ)
الْحُكْمُ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ، وَشَكْلُهُ شُورَى، وَرَئِيسُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوِ (الْخَلِيفَةُ) مُنَفِّذٌ لِشَرْعِهِ، وَالْأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تَمْلِكُ نَصْبَهُ وَعَزْلَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (42: 38) وَقَالَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(3: 159) وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ مِمَّا لَا نَصَّ فِيهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ تَرْكِ الشُّورَى لِاجْتِهَادِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)(4: 159) وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالرَّأْيِ الْحَصِيفِ فِي مَصَالِحِهَا، الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَتْبَعُهُمْ فِيمَا يُقِرُّونَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ سُورَتِهَا:(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(4: 83) فَأُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ، وَكَانَ
الْأَمْرُ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَغَيْرِهِمَا، هُمُ الَّذِينَ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَالسِّرِّيَّةِ الْمُهِمَّةِ. وَكَانَ يَسْتَشِيرُ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَهُمْ بِهِ عَلَاقَةٌ عَامَّةٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ، كَاسْتِشَارَتِهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: الْحِصَارِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ
الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ. وَكَانَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ بَعْضِ كِبَارِ الْأُمَّةِ الْأَوَّلَ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ الثَّانِيَ، فَنَفَّذَ رَأْيَ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَشَارَ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ خَوَاصَّ أُولِي الْأَمْرِ وَعَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (4: 59) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ وَكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُكْمِ النِّيَابِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ دُوَلُ هَذَا الْعَصْرِ.
وَمِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْقَضَائِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ هُوَ حَقُّ الْأُمَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ بِالْجَمَاعَةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ بِهَا جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْخَاصَّتَيْنِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ وَالدَّوْلَةِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، كَقَوْلِهِ:(بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(9: 1) وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَالْحَرْبِ وَالصُّلْحِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(49: 9) وَكَذَلِكَ خِطَابُهُ لَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ كَالْغَنَائِمِ وَتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا (وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ) .
وَقَدْ صَرَّحَ كِبَارُ النُّظَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِأَنَّ السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ يَتَوَلَّاهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءَ وَالْأَئِمَّةَ، وَيَعْزِلُونَهُمْ، إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ عَزْلَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَعْرِيفِ الْخِلَافَةِ: هِيَ رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ. وَقَالَ فِي الْقَيْدِ الْأَخِيرِ (الَّذِي زَادَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ) هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ إِذَا عَزَلُوا الْإِمَامَ لِفِسْقِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْرِيفِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ الْقَيْدَ الْأَخِيرَ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ الْأُمَّةِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَ رِئَاسَتَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ أَوْ عَلَى كُلٍّ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ. اهـ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِنَا (الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى) .
فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ إِصْلَاحٍ سِيَاسِيٍّ لِلْبَشَرِ، قَرَّرَهَا
الْقُرْآنُ فِي عَصْرٍ
كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ مُرْهَقَةً بِحُكُومَاتٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ اسْتَعْبَدَتْهَا فِي أُمُورِ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مُنْقِذٍ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُنْ يَقْطَعُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ؛ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِمَنْ بَعْدَهُ.
ثُمَّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زِغْتُ فَقَوِّمُونِي. وَقَالَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِيَّ عِوَجًا فَلْيُقَوِّمْهُ فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: لَوْ رَأَيْنَا فِيكَ عِوَجًا لَقَوَّمْنَاهُ بِسُيُوفِنَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَوِّمُ عِوَجَ عُمَرَ بِسَيْفِهِ. وَكَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَيَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةٌ أَوْ قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الثَّالِثُ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُ الْخَلِيفَةِ الرَّابِعِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى رضي الله عنه وَكَرَّمَ وَجْهَهُ، وَلَا أَذْكُرُ لَهُ كَلِمَةً مُخْتَصَرَةً مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَإِذَا أَوْجَبَ اللهُ الْمُشَاوَرَةَ عَلَى رَسُولِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَدْنَى مِنْ حُكْمِ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالشُّورَى، وَوُجِدَ ذَلِكَ فِي أُمَمٍ أُخْرَى، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَلَكِنَّ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ زَاغُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَشَايَعَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ الْمُنَافِقُونَ، وَخُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِحُكُومَةِ دِينِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّ الْإِفْرِنْجِ فِي حَرْبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ أَنْ كَانَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَفِي فِي حُكْمِهِ أَثَرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَيُّوبِيُّ رحمه الله الَّذِي قَالَ لِأَحَدِ رِجَالِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ عِنْدَهُ وَقَدِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى رَجُلٍ غَشَّهُ:((مَا عَسَى أَنْ أَصْنَعَ لَكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ قَاضٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَالْحَقُّ الشَّرْعِيُّ مَبْسُوطٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ مُمْتَثِلَةٌ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ الشَّرْعِ وَشِحْنَتُهُ، فَالْحَقُّ يَقْضِي لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) وَمَعْنَى عِبَارَةِ السُّلْطَانِ: أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا
مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ - كَالشِّحْنَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ - وَأَنَّ الْقُضَاةَ مُسْتَقِلُّونَ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْمُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدِ اقْتَبَسَ الصَّلِيبِيُّونَ مِنْهُ طَرِيقَةَ حُكْمِهِ، ثُمَّ دَرَسُوا تَارِيخَ الْإِسْلَامِ فَعَرَفُوا مِنْهُ مَا جَهِلَهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى أَسَّسُوا حُكْمَ دُوَلِهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَصَارُوا يَدَّعُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعِيبُونَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ بِاسْتِبْدَادِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ سَبَبَ هَذَا الِاسْتِبْدَادِ وَالْحُكْمِ الشَّخْصِيِّ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُصَدِّقُونَهُمْ، وَيَرَى الْمُشْتَغِلُونَ
بِالسِّيَاسَةِ وَعِلْمِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِحُكُومَاتِهِمْ إِلَّا بِتَقْلِيدِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ ضَيَاعِ أَعْظَمِ مَزَايَا الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيَّةِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَذَهَابِ أَكْثَرِ مُلْكِهِ.
(أُصُولُ التَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ)
الْمَعْرُوفُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أُصُولَ التَّشْرِيعِ الْأَسَاسِيَّةَ أَرْبَعَةٌ:
(1)
الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةَ فِيهِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَقَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ لَا تَبْلُغُ عُشْرَ آيَاتِهِ، وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ الصَّرِيحَ مِنْهَا وَأَكْثَرُهَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أُمُورِ الدُّنْيَا مَوْكُولَةٌ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَاجْتِهَادِهِمْ.
(2)
مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَمَلِ وَالْقَضَاءِ بِهِ مِنْ بَيَانٍ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَالُوا أَيْضًا إِنَّ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ الْأُصُولِ خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ تَمُدُّهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيمَا أَذْكُرُ.
(3)
إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي الدِّينِيَّاتِ، وَفِي إِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ تَفْصِيلٌ.
(4)
اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْقُوَّادِ فِي الْأُمُورِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (بِالْقِيَاسِ) وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْقِيَاسَ وَقَيَّدَهُ آخَرُونَ كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (5: 101) .
وَوَرَدَ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَحَادِيثُ وَآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ (مِنْهَا) حَدِيثُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ((كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟)) قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ)) ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ)) قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو. قَالَ مُعَاذٌ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرِي ثُمَّ
قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ مَقَالٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي مَحَلِّهِ وَبِهِ أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه قَاضِيَهُ شُرَيْحًا فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُقَدِّمُونَ الْإِجْمَاعَ حَتَّى الْعُرْفِيَّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ - وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ - عَلَى النَّصِّ.
وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِلْحُكَّامِ حَدِيثُ ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ.
بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا حَقَّ الْحُكْمِ بِمَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةِ بِقَوْلِهِ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ: ((وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ
اللهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي إِنْزَالِهِمْ عَلَى ذِمَّةِ الْأَمِيرِ دُونَ ذِمَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِئَلَّا يَخْفِرَهَا.
(قَوَاعِدُ الِاجْتِهَادِ مِنَ النُّصُوصِ)
أَحْكَامُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْأَعْمَالِ وَالْوَقَائِعِ، وَمِنْهَا قَوَاعِدُ عَامَّةٌ لِلتَّشْرِيعِ، وَالْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ مِنْهَا مَا هُوَ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَا مَعْدِلَ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ إِلَّا لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنْ فَوَاتِ شَرْطٍ كَدَرْءِ حَدٍّ بِشُبْهَةٍ أَوْ عُذْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي الْمَجَاعَةِ أَلَّا يُحَدَّ سَارِقٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ يُعْمَلُ فِيهِ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ وَالتَّنْفِيذُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ قَائِدِ جَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ.
وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ فَهِيَ مَا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَهَمُّهَا فِي الْإِسْلَامِ تَحَرِّي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ، وَمُرَاعَاةُ الْعُرْفِ بِشَرْطِهِ، وَدَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبَهَاتِ، وَكَوْنُ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَقْدِيرُ الضَّرُورَةِ بِقَدْرِهَا، وَدَوَرَانُ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَنَكْتَفِي بِالشَّوَاهِدِ فِي الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ.
(نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي إِيجَابِ الْعَدْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَحَظْرِ الظُّلْمِ)
لَمَّا كَانَ الْعَدْلُ أَسَاسَ الْأَحْكَامِ، وَمِيزَانَ التَّشْرِيعِ وَقِسْطَاسَهُ الْمُسْتَقِيمَ، أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِهِ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (16: 90) وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (4: 58) وَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(4: 135) أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ الْقَوَّامَ (بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ بِالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَبِأَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي الْمُحَاكَمَاتِ وَغَيْرِهَا لِلَّهِ عز وجل لَا لِهَوَى وَلَا مَصْلَحَةِ أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ وَالِدَيْهِمْ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْهُمْ، وَأَلَّا يُحَابُوا فِيهَا غَنِيًّا لِغِنَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ أَوْ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلَا فَقِيرًا لِفَقْرِهِ رَحْمَةً بِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ أَوِ الشَّهَادَةِ كَرَاهَةً أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِمَا لِمُرَاعَاةِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْذَرَهُمْ عِقَابَهُ إِنْ لَوَوْا وَمَالُوا عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(5: 8) فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فَهُنَاكَ يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ بَيْنَ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَهَاهُنَا يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَعْدَائِهِ مَهْمَا يَكُنْ سَبَبُ عَدَاوَتِهِمْ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ، فَالشَّنَآنُ: الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ، وَقِيلَ مَعَ الِاحْتِقَارِ وَقَدْ قَالَ (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (5: 8) لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُهُمْ وَعَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ أَوْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، فَالْعَدْلُ بِالْمُسَاوَاةِ أَقْرُبُ إِلَى تَقْوَى اللهِ، وَأَنْذَرَ تَارِكَ الْعَدْلِ لِلشَّنَآنِ بِمِثْلِ مَا أَنْذَرَ تَارِكَهُ لِلْمُحَابَاةِ، أَنْذَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِأَنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُ عَلَى عَمَلِهِ وَعَلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ مِنْهُ، فَيُثِيبُهُ أَوْ يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ.
فَالْعَدْلُ هُوَ الْمِيزَانُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ)(42: 17) وَقَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)(57: 25) الْآيَةَ: فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَصُدُّهُمُ الْعَدْلُ الَّذِي يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ، وَشَرُّهُمْ مَنْ لَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيدِ.
فَقِوَامُ صَلَاحِ الْعَالَمِ بِالْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الَّذِي يُحَرِّمُ الظُّلْمَ وَسَائِرَ الْمَفَاسِدِ، فَيَجْتَنِبُهَا الْمُؤْمِنُ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَجَاءً فِي ثَوَابِهِ فِيهِمَا، وَبِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ الَّذِي يَرْدَعُ النَّاسَ عَنِ الظُّلْمِ بِعِقَابِ السُّلْطَانِ.
وَيُؤَيِّدُ قَاعِدَةَ إِقَامَةِ الْعَدْلِ مَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. فَقَدْ ذُكِرَ الظُّلْمُ فِي مِئَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَسْوَأَ الذِّكْرِ، وَقُرِنَ فِي بَعْضِهَا بِأَسْوَأِ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِمَا أَثَرٌ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ وَالْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ، وَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (18: 49) وَمِنْ أَثَرِهِ وَعَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مُهْلِكُ الْأُمَمِ وَمُخَرِّبُ الْعُمْرَانِ، قَالَ تَعَالَى:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)(11: 117) أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ، أَوْ بِشِرْكٍ بِهِ يَقَعُ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُصْلِحُونَ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، كَمَا قَالَ:(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)(18: 59) وَقَالَ فِي الْأَحْكَامِ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(5: 45) وَرَدَ هَذَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ.
(قَوَاعِدُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ)
مَنِ اسْتَقْرَأَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ شَخْصِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ يَرَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا كُلِّهَا قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَشَرَهِ التِّجَارَةِ بِالدِّينِ وَالْخُرَافَاتِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْإِصْلَاحِ الْحَرْبِيِّ.
وَالْعِبْرَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ، الَّتِي فَضُلَ بِهَا الْإِسْلَامُ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوَانِينِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ، فَهَلْ كَانَتْ بِوَحْيٍ نَبَعَ بَعْدَ الْكُهُولَةِ مِنْ نَفْسِهِ، أَمْ هُوَ كَمَا بَلَغَنَا رُوحِيٌّ مِنْ رَبِّهِ؟ .
الْمَقْصِدُ السَّابِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(الْإِرْشَادُ إِلَى الْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ)
(تَمْهِيدٌ) بَيِّنَّا مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ أَوْ أُصُولَ فِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ مِنْ طَرِيقِ التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ وَالسُّلْطَانِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْمَفَاسِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّذِي يَتَوَقَّفُ كَمَالُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ وَهِيَ: - طُغْيَانُ الثَّرْوَةِ وَدَوْلَتِهَا. عُدْوَانُ الْحَرْبِ وَقَسْوَتُهَا. ظُلْمُ الْمَرْأَةِ وَاسْتِبَاحَتُهَا. ظُلْمُ الضَّعْفَةِ وَالْأَسْرَى وَسَلْبُ حُرِّيَّتِهِمْ، وَهُوَ الرِّقُّ الْمُطْلِقُ - ذَلِكَ بِأَنَّ جَمِيعَ حُظُوظِ الدُّنْيَا مَنُوطَةٌ - مِنْهَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِصْلَاحُ فِيهَا إِلَّا بِتَعَاوُنِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ وَإِنَّنَا نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَالِ، مُبْتَدِئِينَ بِالْمَالِ، وَالْآيَاتُ فِيهِ تَدُورُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْطَابٍ، فَنَقُولُ:
(1 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي الْمَالِ كَوْنُهُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ)
الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْقُرْآنِ فِي الْمَالِ أَنَّهُ فِتْنَةٌ، أَيِ اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانٌ لِلْبَشَرِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَعَايِشَ وَمَصَالِحَ، إِذْ هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَهُوَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّنَافُسِ فِي كَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ، وَكَنْزِهِ وَاحْتِكَارِهِ وَجَعْلِهِ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَتَدَاوُلِهِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ اللهُ عز وجل: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)(3: 186) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام حِينَ رَأَى عَرْشَ مَلِكَةِ سَبَأٍ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكَرُ أَمْ أَكْفُرُ)(27: 40)
الْآيَةَ. وَقَالَ: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضَّعْفِ بِمَا عَمِلُوا)(34: 37) الْآيَةَ. وَقَالَ: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(30: 39) وَقَالَ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)(3: 14) الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(8: 28) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ (64: 15) وَيَلِيهَا التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ وَقَصْرُ الْفَلَاحِ عَلَى الْوِقَايَةِ مِنْ شُحِّ النَّفْسِ، وَقَالَ تَعَالَى:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)(18: 46) انْظُرْ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْكَهْفُ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(7) وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْعُمْرَانِ، وَأَحْسَنُهُ أَنْفَعُهُ لِلنَّاسِ وَأَرْضَاهُ لِلَّهِ بِشُكْرِهِ، ثُمَّ مَا ضَرَبَهُ مِنَ الْمَثَلِ بِصَاحِبَيِ الْجَنَّتَيْنِ، وَالْمَثَلِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِنَبَاتِ الْأَرْضِ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)(59: 7) وَالدُّولَةُ بِضَمِّ الدَّالِّ الْمَالُ الْمُتَدَاوَلُ، أَيْ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَالُ مَحْصُورًا
فِي الْأَغْنِيَاءِ مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ وَحْدَهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(9: 34) إِلَخْ، الْكَنْزُ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ التَّدَاوُلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَالُ نَافِعًا لِلنَّاسِ.
وَالشَّوَاهِدُ فِي فِتْنَةِ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ تَجِدُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَلَا سِيَّمَا الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنْهُ فَمِنَ الْآيَاتِ فِي ارْتِبَاطِ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَالشَّقَاءِ بِمَنْعِهِ مَا هُوَ لِلتَّرْهِيبِ وَمَا هُوَ لِلتَّرْغِيبِ، وَجَمَعَ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي قَوْلِهِ:(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(2: 195) الْآيَةَ، أَيْ إِنَّ مَنْعَ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّهْلُكَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ:(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(2: 195) وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ اللَّيْلِ: (92: 5 - 11) .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ شَوَاهِدُ الْقُطْبِ الثَّانِي مِنْ آيَاتِ الْمَالِ وَهِيَ:
(2 - الْآيَاتُ فِي ذَمِّ طُغْيَانِ الْمَالِ وَغُرُورِهِ وَصَدِّهِ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ)
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَلَقِ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(96: 6 و7) أَيْ حَقًّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ غَنِيًّا بِالْمَالِ. وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَبِي جَهْلٍ أَشَدِّ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَهِيَ
أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْمَسَدِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)(111: 1 و2) إِلَخْ وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْهُمَزَةِ: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)(104: 2 و3) إِلَخْ. وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ مِنْ سُورَتَيِ الْمُدَّثِّرِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِمَا.
(3 - ذَمُّ الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِهِ وَالرِّيَاءِ فِي إِنْفَاقِهِ) .
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(3: 180) وَقَالَ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)(2: 268) الْآيَةَ، فَسَّرُوا الْفَحْشَاءَ بِالْبُخْلِ. أَيِ الشَّيْطَانُ
يَصُدُّكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِتَخْوِيفِكُمْ مِنَ الْفَقْرِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْبُخْلِ الَّذِي فَحَشَ شَرُّهُ وَضَرَرُهُ، وَقَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ:(وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ)(57: 23 و24) وَمِنَ الشَّوَاهِدِ آيَاتُ 9: 76 و77 وَآيَةُ 47: 38 وَآيَةُ 4: 39 وَآيَةُ 2: 188 وَآيَةُ 4: 161 وَآيَةُ 4: 29 وَآيَةُ: 9: 34 و35.
(4 - مَدْحُ الْمَالِ وَالْغِنَى بِكَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ وَجَزَائِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ)
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ عليه السلام حِكَايَةً عَنْهُ: (فَقَلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)(71: 10 - 12) وَفِي مَعْنَاهُ مَا حَكَاهُ عَنْ هُودٍ عليه السلام فِي سُورَتِهِ (11: 52) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ (72: 13 - 17) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيَانُ نِعْمَتِهِ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِمَا بِهِدَايَةِ الدِّينِ فِي آخِرِ قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طه (20: 122 و123) الْآيَاتِ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى عَطْفًا عَلَى الْأَمْرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ)(9: 28) أَيْ وَإِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا يَعْرِضُ لَكُمْ بِحِرْمَانِ مَكَّةَ مِمَّا كَانَ يُنْفِقُهُ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ وَغَنَائِمِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ لِلَّذِينِ أَعْطَوُا الْفِدَاءَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ:(إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ)(8: 70) وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْعَرَبَ الْفُقَرَاءَ عَامَّةً وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَسْرَى بِالْإِسْلَامِ، فَجَعَلَهُمْ أَغْنَى الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ الْأَعْظَمِ بِقَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)(93: 8) وَامْتَنَّ عَلَى قَوْمِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتِّجَارَةِ الْوَاسِعَةِ بِرِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فِي سُورَةٍ خَاصَّةٍ بِذَلِكَ، وَسَمَّى
الْمَالَ الْكَثِيرَ خَيْرًا بِقَوْلِهِ فِي صِفَاتِ الْإِنْسَانِ: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لِشَدِيدٌ)(100: 8) وَقَالَ: (إِنَّ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(2: 180) الْآيَةَ.
(5 - مَا أَوْجَبَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالِاقْتِصَادِ فِيهِ) .
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا)(4: 5) قِيَامُ الشَّيْءِ وَقِوَامُهُ (بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ) مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ وَيُحْفَظُ وَيَثْبُتُ، أَيْ جَعَلَهَا قِوَامَ مَعَايِشِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ وَالسُّفَهَاءُ هُمُ الْمُسْرِفُونَ الْمُبَذِّرُونَ لَهَا لِصِغَرِ سِنِّهِمْ دُونَ الرُّشْدِ أَوْ لِفَسَادِ أَخْلَاقِهِمْ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ:(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)(25: 67) الْإِسْرَافُ: التَّبْذِيرُ وَالْإِفْرَاطُ وَالْقَتْرُ وَالْقُتُورُ وَالْإِقْتَارُ: الْإِقْلَالُ وَالتَّضْيِيقُ فِي النَّفَقَةِ.
(6 - إِنْفَاقُ الْمَالِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَالْوَسِيلَةِ لِحَيَاةِ الْأُمَّةِ وَعَزَّةِ الدَّوْلَةِ) .
هَذَا هُوَ الْقُطْبُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَقْطَابِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْمَالِ وَأَكْثَرِهَا فِيهِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَسَائِلُ لَهُ، وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَأَظْهَرُ الشَّوَاهِدِ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ هُوَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ الْمُقْتَرِنِ بِالْإِذْعَانِ، الْمَبْنِيِّ عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِدُونِ شَهَادَتِهِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْإِسْلَامِ تُقَبْلُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ الْعَمَلِيَّةَ تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى السَّرَائِرِ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)(49: 14 و15) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، فَقَدَّمَ الْجِهَادَ بِالْمَالِ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي تَحْقِيقِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ. وَيَلِي هَذَا الشَّاهِدَ آيَةُ الْبِرِّ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ بِالِاخْتِيَارِ، أَوَّلُ آيَاتِ الْإِيمَانِ:(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)(2: 177) إِلَخْ.
وَمِنَ الْآيَاتِ فِي تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى)(4: 95) اقْرَأْ تَتِمَّةَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ
وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (57: 10) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَثِيرَةٌ، وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُهَا فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي وَالْجُزْءِ الْعَاشِرِ وَهَذَا الْجُزْءِ (11) مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَلِيغَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَمُضَاعَفَةِ ثَوَابِهِ، وَبَيَانِ آدَابِهِ، عِشْرُونَ آيَةً
مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هِيَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ يَتَخَلَّلُهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا فَرَاجِعْهَا مِنْ آيَةِ 261 - 281 مَعَ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ.
ثُمَّ رَاجِعْ فِي فِهْرِسِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ كَلِمَةَ (الْمَالُ: الْجِهَادُ بِهِ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ وَقِوَامُ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ) يُرْشِدْكَ إِلَى عَشْرِ صَفَحَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَصَّلْنَا فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
(7 - الْحُقُوقُ الْمَفْرُوضَةُ وَالْمَنْدُوبَةُ فِي الْمَالِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ فِي الْإِسْلَامِ)
قَدْ عَقَدْتُ لِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)(9: 103) فَصْلًا: ((فِي فَوَائِدِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ وَامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ)) وَلَخَّصْتُ أُصُولَ هَذَا الْإِصْلَاحِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَصْلًا، فَرَاجِعْهَا فَمَا هِيَ مِنْكَ بِبَعِيدٍ.
وَمَوْضُوعُ بَحْثِنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ وَهُوَ ((دَلَائِلُ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي عَرَفْنَا خُلَاصَةَ تَارِيخِهِ قَدِ اهْتَدَى بِعَقْلِهِ، أَوْ بِوَحْيٍ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الَّتِي فَاقَتْ وَعَلَتْ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ فِي أَرْقَى عُصُورِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ، وَإِنَّمَا الْمَعْقُولُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عز وجل أَفَاضَهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فَلَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهُ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ.
الْمَقْصِدُ الثَّامِنُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(إِصْلَاحُ نِظَامُ الْحَرْبِ وَدَفْعُ مَفَاسِدِهَا وَقَصْرُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لِلْبَشَرِ)
التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ فِي مَرَافِقِ الْمَعِيشَةِ وَوَسَائِلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ غَرِيزَةٌ مِنْ غَرَائِزِ الْحَيَاةِ، وَإِفْضَاءُ التَّنَازُعِ إِلَى التَّعَادِي وَالِاقْتِتَالِ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ، سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، أَوَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، فَإِنْ كَانَ
التَّنَازُعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَانَ الْفَلْجُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَانَ الظَّفَرُ لِلْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النِّظَامِ وَالِاخْتِلَالِ كَانَ النَّصْرُ لِلنِّظَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ كَانَ الْغَلَبُ لِلصَّلَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ:(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)(21: 18) وَقَالَ فِي بَيَانِ نَتِيجَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُمَا: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)(13: 17) .
وَأَمَّا التَّنَازُعُ وَالتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالسُّلْطَةِ الظَّالِمَةِ، وَاسْتِبْعَادُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُ كَبِيرٌ، وَشَرَّهُ مُسْتَطِيرٌ، وَيَزِيدُ ضَرَاوَةَ الْبَشَرِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيُورِثُهُمُ الْحِقْدَ وَيُؤَرِّثُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ
فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَتَّى خِيفَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى هَذَا الْعُمْرَانِ الْعَظِيمِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ، بِمَا اسْتَحْدَثَهُ الْعِلْمُ الْوَاسِعُ مِنْ وَسَائِلِ التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ، كَالْغَازَاتِ السَّامَّةِ وَمَوَادِّ الْهَدْمِ وَالتَّحْرِيقِ تَقْذِفُهَا الطَّيَّارَاتُ الْمُحَلِّقَةُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، عَلَى الْمَدَائِنِ الْمُكْتَظَّةِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَتَقْتُلُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ سَاعَاتٍ مَعْدُودَةٍ.
وَقَدْ حَارَتِ الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فِي تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَتَرَى دَهَاقِينَ السِّيَاسَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَفَاوَضُونَ مَعَ أَقْرَانِهِمْ لِوَضْعِ نِظَامٍ لِتَقْرِيرِ السَّلَامِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ الْخِصَامِ، بِمُعَاهَدَاتٍ يَعْقِدُونَهَا، وَأَيْمَانٍ يَتَقَاسَمُونَهَا، ثُمَّ يَنْفَضُّونَ خَائِبِينَ، أَوْ يَنْقُضُونَ مَا أَبْرَمُوا مُتَأَوِّلِينَ، وَيَعُودُونَ إِلَى مِثْلِهِ مُخَادِعِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ سَبَبَ هَذِهِ الْخَيْبَةِ بِمَا وَجَدْنَا مِصْدَاقَهُ فِي هَذِهِ الدُّوَلِ بِأَظْهَرِ مِمَّا كَانَ فِي عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ نَزَلَ هَذَا الْبَيَانُ فِي عَهْدِهِمْ، كَأَنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِعَهْدِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ:(وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ)(16: 92) وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا فِي نَقْضِ عُهُودِكُمْ وَالْعَوْدِ إِلَى تَجْدِيدِهَا كَالْمَرْأَةِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ إِبْرَامِهِ نَقْضَ أَنْكَاثٍ (وَهُوَ جَمْعُ نِكْثٍ بِالْكَسْرِ: مَا نُقِضَ لِيُغْزَلَ مَرَّةً أُخْرَى) حَالَ كَوْنِكُمْ تَتَّخِذُونَ عُهُودَكُمْ دَخْلًا بَيْنَكُمْ
(وَالدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَسَادُ وَالْغِشُّ الْخَفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ وَمَا هُوَ مِنْهُ) لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى رِجَالًا، وَأَكْثَرَ رِبْحًا وَمَالًا، وَأَقْوَى أَسِنَّةً وَنِصَالًا.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ مُعَاهَدَاتِ الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْأُمَمِ، يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْإِصْلَاحُ وَالْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ، فَتُبْنَى عَلَى الْإِخْلَاصِ دُونَ الدَّخَلِ وَالدَّغَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَا ذُكِرَ.
وَلَوْ طَلَبُوا الْمَخْرَجَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ لَوَجَدُوهُمَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ دِينُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالسَّلَامِ، وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ.
(أَهَمُّ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسَّلَامِ وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ) .
قَدِ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ 28 قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْحَرْبِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فِي الْقِتَالِ وَالصُّلْحِ وَالْمُعَاهَدَاتِ، أَجْمَلْنَاهَا فِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ (125 - 130 ج 10 ط الْهَيْئَةِ) وَأَحَلْنَا فِي تَفْصِيلِهَا عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهَا، ثُمَّ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ التَّوْبَةِ 13 قَاعِدَةً حَرْبِيَّةً أَكْثَرُهَا فِي الْمُعَاهَدَاتِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا وَشَرْطِ نَبْذِهَا، وَفِي الْهُدْنَةِ وَتَأْمِينِ الْحَرْبِيِّ لِلدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - و20 حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالْجِزْيَةِ سَرَدْنَاهَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ أَتَيْنَا بِبِضْعِ قَوَاعِدَ مِنْهُمَا وَمَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ السُّورِ فِيمَا
أَفْرَدْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ الْمُحَمَّلَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ مِنَ الْقُرْآنِ، لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْعُلُومِ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مِنْ آرَاءِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، الَّذِي عَاشَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِيشَةَ الْعُزْلَةِ وَالِانْفِرَادِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنْ رَعْيِ الْغَنَمِ فِي الصِّبَا وَالتِّجَارَةِ فِي الشَّبَابِ، وَقَدْ قَصَّرَتْ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا كُتُبُ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكُتُبُ الْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ الْبَشَرِيَّةِ.
(الْقَاعِدَةُ الْأَوْلَى فِي الْحَرْبِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْعًا)
وَرَدَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْمُعْتَدِّينَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَتَوْطِيدِ الْمَصَالِحِ، مُقْتَرِنًا بِالنَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ وَالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(2: 190) وَتَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ مُطْلَقًا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُحْكَمٌ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّسَخِ، وَمِنْ ثَمَّ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي أَنَّ حُرُوبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْكُفَّارِ كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعُدْوَانِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْغَرَضِ مِنَ الْحَرْبِ وَنَتِيجَتِهَا)
وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الْإِيجَابِيَّةُ مِنَ الْقِتَالِ - بَعْدَ دَفْعِ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ وَاسْتِتْبَابِ الْأَمْنِ - حِمَايَةَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَعِبَادَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَمَصْلَحَةَ الْبَشَرِ، وَإِسْدَاءَ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، لَا الِاسْتِعْلَاءَ عَلَيْهِمْ وَالظُّلْمَ لَهُمْ، وَالشَّاهِدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ بِالْقِتَالِ الدِّفَاعِيِّ لِلْمَظْلُومِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَجْلِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(22: 40 و41) .
ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِ إِذْنِهِ لَهُمْ بِالْقِتَالِ الْمَذْكُورِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ.
(أَوَّلُهَا) كَوْنُهُمْ مَظْلُومِينَ مُعْتَدًى عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمُخْرَجِينَ نَفْيًا مِنْ أَوْطَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا سَبَبٌ خَاصٌّ بِهِمْ بِقِسْمَيْهِ الشَّخْصِيِّ وَالْوَطَنِيِّ، أَوِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ.
(ثَانِيهَا) أَنَّهُ لَوْلَا إِذْنُ اللهِ لِلنَّاسِ بِمِثْلِ هَذَا الدِّفَاعِ، لَهُدِّمَتْ جَمِيعُ الْمَعَابِدِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا اسْمَ اللهِ تَعَالَى أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، كَصَوَامِعِ الْعِبَادِ وَبِيَعِ النَّصَارَى وَصَلَوَاتِ الْيَهُودِ
(كَنَائِسِهِمَا) وَمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ بِظُلْمِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا سَبَبٌ دِينِيٌّ عَامٌّ صَرِيحٌ فِي حُرِّيَّةِ الدِّينِ فِي الْإِسْلَامِ وَحِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا وَلِمَعَابِدِ أَهْلِهَا وَكَذَلِكَ كَانَ.
(ثَالِثُهَا) أَنْ يَكُونَ غَرَضَهُمْ مِنَ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ وَالْحُكْمِ فِيهَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ بِنَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا وَصَفَهَا تَعَالَى، وَالْمُرَبِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الْمُصْلِحَةِ لِلْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ - وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الشَّامِلِ لِكُلِّ خَيْرٍ وَنَفْعٍ لِلنَّاسِ - وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الشَّامِلِ لِكُلِّ شَرٍّ وَضُرٍّ يَلْحَقُ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ إِيثَارُ السَّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ)
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَاعِدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا إِذَا عُلِمَ بِهِمَا أَنَّ الْحَرْبَ ضَرُورَةٌ يَقْتَضِيهَا مَا ذُكِرَ فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَأَنَّ السَّلْمَ هِي الْأَصْلُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا النَّاسُ؛ فَلِهَذَا أَمَرَنَا اللهُ بِإِيثَارِهَا عَلَى الْحَرْبِ إِذَا جَنَحَ الْعَدُوُّ لَهَا، وَرَضِيَ بِهَا، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(8: 61) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 59، 126 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ.
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْتِعْدَادُ التَّامُّ لِلْحَرْبِ لِأَجْلِ الْإِرْهَابِ الْمَانِعِ مِنْهَا)
إِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدَّوْلَةُ قَبْلَ الْحَرْبِ، هُوَ إِعْدَادُ الْأُمَّةِ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسْبِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَلِكَ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ وَإِخَافَتُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ التَّعَدِّي عَلَى بِلَادِ الْأُمَّةِ أَوْ مَصَالِحِهَا، أَوْ عَلَى أَفْرَادٍ مِنْهَا أَوْ مَتَاعٍ لَهَا حَتَّى فِي غَيْرِ بِلَادِهَا؛ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً فِي عُقْرِ دَارِهَا، مُطَمْئِنَةً عَلَى أَهْلِهَا وَمَصَالِحِهَا وَأَمْوَالِهَا، وَهَذَا يُسَمَّى فِي
عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالسِّلْمِ الْمُسَلَّحَةِ أَوِ التَّسْلِيحِ السِّلْمِيِّ، وَتَدَّعِيهِ الدُّوَلُ الْعَسْكَرِيَّةُ فِيهِ زُورًا وَخِدَاعًا فَتُكَذِّبُهَا أَعْمَالُهَا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَلَى الشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِأَنْ جَعْلَهُ دِينًا مَفْرُوضًا، فَقَيَّدَ بِهِ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْمُرَابَطَةِ لِلْقِتَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ)(8: 60) .
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ الرَّحْمَةُ فِي الْحَرْبِ)
إِذَا كَانَ الْغَلَبُ وَالرُّجْحَانُ فِي الْقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُعَبَّرِ بِالْإِثْخَانِ فِي الْأَعْدَاءِ، وَأَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ظُهُورَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَتْلِ، وَيَكْتَفُوا بِالْأَسْرِ، ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ فِي الْأُسَارَى إِمَّا بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِإِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ، وَإِمَّا بِأَخْذِ الْفِدَاءِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(47: 4) الْآيَةَ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا وَبَيَّنَّا مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ)(8: 67) الْآيَةَ: (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص 72 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) .
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ الْوَفَاءُ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهَا)
وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا سِرًّا أَوَ جَهْرًا، كَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، كِلَاهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا تَدَعُ مَجَالًا لِإِبَاحَةِ نَقْضِ الْعَهْدِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ وَقْتَ الْقُوَّةِ، وَعَدِّهِ قُصَاصَةَ وَرَقٍ عِنْدَ إِمْكَانِ نَقْضِهِ بِالْحِيلَةِ (مِنْهَا) وَالْآيَاتُ فِيهَا كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ أَهَمُّهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنَ التَّفْسِيرِ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ الْجِزْيَةُ وَكَوْنُهَا غَايَةً لِلْقِتَالِ لَا عِلَّةً)
قُلْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ آيَةِ الْجِزْيَةِ: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)(9: 29) مَا نَصُّهُ:
هَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْتَهِي بِهَا إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَنَا، أَيْ قَالُوا مَنْ ذُكِرَ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ، كَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْكُمْ أَوْ عَلَى بِلَادِكُمْ أَوِ اضْطِهَادِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَهْدِيدِ أَمْنِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ كَمَا فَعَلَ الرُّومُ فَكَانَ سَبَبًا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى تَأْمَنُوا عُدْوَانَهُمْ بِإِعْطَائِكُمُ الْجِزْيَةَ فِي الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ قُيِّدَتْ بِهِمَا. (ثُمَّ قُلْتُ) :
هَذَا - وَإِنَّ الْجِزْيَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ تَكُنْ كَالضَّرَائِبِ الَّتِي يَضَعُهَا الْفَاتِحُونَ عَلَى مَنْ يَتَغَلَّبُونَ عَلَيْهِمْ فَضْلًا عَنِ الْمَغَارِمِ الَّتِي يُرْهِقُونَهُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ قَلِيلٌ عَلَى مَا تَلْتَزِمُهُ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِعَانَةٌ لِلْجُنْدِ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ أَيْ يَحْمِيهِمْ مِمَّنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِمْ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْدَلُهُمْ فِي تَنْفِيذِهَا. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ أَوْرَدْنَا طَائِفَةً مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقِ الْإِسْلَامَ إِلَى مِثْلِهَا دِينٌ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَلَا قَانُونٌ دَوْلِيٌّ، وَلَا إِرْشَادٌ فَلْسَفِيٌّ أَوْ أَدَبِيٌّ، وَلَا تَبِعَتْهُ بِهَا أُمَّةٌ بِتَشْرِيعٍ وَلَا عَمَلٍ، أَفَلَيَسَ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلًا وَاضِحًا لَدَى مَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُوبِ رَبٍّ لِلْبَشَرِ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، بِأَنَّ مُحَمَّدًا الْعَرَبِيَّ الْأُمِّيَّ قَدِ اسْتَمَدَّهَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عز وجل، وَأَنَّ عَقْلَهُ وَذَكَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَبْلُغَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْمُعْضِلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِدُونِ هَذَا الْوَحْيِ؟ فَكَيْفَ إِذَا أَضَفْنَا إِلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَنْبَاءِ الْغَيْبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم؟ ! .
الْمَقْصِدُ التَّاسِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(إِعْطَاءُ النِّسَاءِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ)
كَانَ النِّسَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَظْلُومَاتٍ مُمْتَهَنَاتٍ مُسْتَعْبَدَاتٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَفِي جَمِيعِ شَرَائِعِهَا وَقَوَانِينِهَا، حَتَّى عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَأَكْمَلَ اللهُ دِينَهُ بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَأَعْطَى اللهُ النِّسَاءَ بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَبِسُنَنِهِ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، جَمِيعَ الْحُقُوقِ الَّتِي أَعْطَاهَا لِلرِّجَالِ، إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ اخْتِلَافُ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَوَظَائِفُهَا النِّسَوِيَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، مَعَ مُرَاعَاةِ تَكْرِيمِهَا وَالرَّحْمَةِ بِهَا وَالْعَطْفِ عَلَيْهَا، حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((مَا أَكْرَمَ النِّسَاءَ إِلَّا كَرِيمٌ، وَلَا أَهَانَهُنَّ إِلَّا لَئِيمٌ)) رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عليه السلام.
وَإِنَّنِي أُشِيرُ هُنَا إِلَى أَهَمِّ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ النِّسَوِيِّ الَّتِي بَسَطْتُهَا بِكِتَابٍ وَسِيطٍ فِي ((حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ)) بَيَّنْتُ فِي مُقَدِّمَتِهِ حَالَهُنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عِنْدَ أُمَمِ الْأَرْضِ إِجْمَالًا بِقَوْلِي: ((كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُشْتَرَى وَتُبَاعُ، كَالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاعِ، وَكَانَتْ تُكْرَهُ عَلَى الزَّوَاجِ وَعَلَى الْبِغَاءِ، وَكَانَتْ تُورَثُ وَلَا تَرِثُ، وَكَانَتْ تُمْلَكُ وَلَا تَمْلِكُ، وَكَانَ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَمْلِكُونَهَا يَحْجُرُونَ عَلَيْهَا التَّصَرُّفَ فِيمَا تَمْلِكُهُ بِدُونِ إِذْنِ الرَّجُلِ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لِلزَّوْجِ الْحَقَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَالِهَا مِنْ دُونِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرِّجَالُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فِي كَوْنِهَا إِنْسَانًا ذَا نَفْسٍ وَرُوحٍ خَالِدَةٍ كَالرَّجُلِ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تُلَقَّنُ الدِّينَ وَتَصِحُّ مِنْهَا الْعِبَادَةُ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ الْمَلَكُوتَ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا؟ فَقَرَّرَ أَحَدُ الْمَجَامِعِ فِي رُومِيَّةَ أَنَّهَا حَيَوَانٌ نَجِسٌ لَا رُوحَ لَهُ وَلَا خُلُودَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِبَادَةُ وَالْخِدْمَةُ، وَأَنْ يُكَمَّ فَمُهَا كَالْبَعِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ لِمَنْعِهَا مِنَ الضَّحِكِ وَالْكَلَامِ، لِأَنَّهَا أُحْبُولَةُ الشَّيْطَانِ، وَكَانَتْ أَعْظَمُ الشَّرَائِعِ تُبِيحُ لِلْوَالِدِ بَيْعَ ابْنَتِهِ، وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَرَوْنَ أَنَّ لِلْأَبِ الْحَقَّ فِي قَتْلِ بِنْتِهِ بَلْ فِي وَأْدِهَا - دَفْنِهَا حَيَّةً - أَيْضًا. وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الرَّجُلِ فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَلَا دِيَةَ)) .
وَكَتَبْتُ فِي مُقَدِّمَةِ الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ النِّسَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَا مُخْتَصَرُهُ:
((قَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ كُلَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ مِنْ حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ التَّمَلُّكِ أَوِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَا يَمْلِكْنَ، وَاسْتِبْدَادَ أَزْوَاجِ الْمُتَزَوِّجَاتِ مِنْهُنَّ بِأَمْوَالِهِنَّ، فَأَثْبَتَ لَهُنَّ حَقَّ الْمِلْكِ بِأَنْوَاعِهِ وَالتَّصَرُّفَ بِأَنْوَاعِهِ الْمَشْرُوعَةِ، فَشَرَعَ الْوَصِيَّةَ وَالْإِرْثَ لَهُنَّ كَالرِّجَالِ، وَزَادَهُنَّ مَا فُرِضَ لَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَهْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَأَوْلَادِهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، وَأَعْطَاهُنَّ حَقَّ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ حُقُوقُ الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهَا كَالدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا بِالتَّقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ إِلَى الْيَوْمِ مُقَيَّدَةٌ بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ))
وَإِنَّنِي أُلَخِّصُ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمَسَائِلَ الْآتِيَةَ بِالْإِيجَازِ:
(1)
كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ يَعُدُّونَ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ أَوْ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَبَعْضُهُمْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَتْلُو عَلَيْهِمْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى:(يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى)(49: 13) الْآيَةَ: وَقَوْلَهُ: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً (4: 1) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
(2)
كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ فِي أُورُبَّةَ وَغَيْرِهَا يَرَوْنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهَا دِينٌ، حَتَّى كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَيْهَا قِرَاءَةَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ رَسْمِيًّا، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يُخَاطِبُ بِالتَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مَعًا بِلَقَبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ.
كَانَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً، وَهِيَ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مُبَايَعَتَهُ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ بَايَعَ الرِّجَالَ بِمَا جَاءَ فِيهَا، وَلَمَّا جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ جَمْعًا رَسْمِيًّا وُضِعَ عِنْدَ امْرَأَةٍ هِيَ حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَظَلَّ عِنْدَهَا مِنْ عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الثَّالِثِ عُثْمَانَ رضي الله عنهم فَأُخِذَ مِنْ عِنْدِهَا وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهِ فِي نُسَخِ الْمَصَاحِفِ الرَّسْمِيَّةِ الَّتِي كُتِبَتْ وَأُرْسِلَتْ إِلَى الْأَمْصَارِ لِأَجْلِ النَّسْخِ عَنْهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا.
(3)
كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رُوحٌ خَالِدَةٌ فَتَكُونَ مَعَ الرِّجَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَنَّةِ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ - وَهَذَا الزَّعْمُ أَصْلٌ لِعَدَمِ تَدَيُّنِهَا -
فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يَقُولُ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)(4: 123 و124) وَيَقُولُ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(3: 195) الْآيَةَ. وَفِيهَا الْوَعْدُ الصَّرِيحُ بِدُخُولِ الْفَرِيقَيْنِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
(4)
كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَحْتَقِرُونَ الْمَرْأَةَ فَلَا يَعُدُّونَهَا أَهْلًا لِلِاشْتِرَاكِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَعَابِدِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَحَافِلِ الْأَدَبِيَّةِ، وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِرْشَادَاتِ الْإِصْلَاحِيَّةِ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَارِحُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(9: 71) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(9: 72) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُمَا فِي ص 466 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ.
(5)
كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَحْرِمُونَ النِّسَاءَ مِنْ حَقِّ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّمَلُّكِ، وَبَعْضُهُمْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِيمَا يَمْلِكْنَ، فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ هَذَا الظُّلْمَ وَأَثْبَتَ لَهُنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِنَّ فِي دَائِرَةِ الشَّرْعِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا)(4: 7) وَقَالَ: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)(4: 32) .
وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دَوْلَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِيكِيَّةِ لَمْ تَمْنَحِ النِّسَاءَ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ إِلَّا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ مُقَيَّدَةً بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ، وَقَدْ مُنِحَتِ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ هَذِهِ الْحُقُوقَ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنِصْفَ قَرْنٍ.
(6)
كَانَ الزَّوَاجُ فِي قَبَائِلِ الْبَدْوِ وَشُعُوبِ الْحَضَارَةِ ضَرْبًا مِنِ اسْتِرْقَاقِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، فَجَعَلَهُ الْإِسْلَامُ عَقْدًا دِينِيًّا مَدَنِيًّا؛ لِقَضَاءِ حَقِّ الْفِطْرَةِ بِسُكُونِ النَّفْسِ مِنِ اضْطِرَابِهَا الْجِنْسِيِّ بِالْحُبِّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَوْسِيعِ دَائِرَةِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ الْعَشِيرَتَيْنِ، وَاكْتِمَالِ عَاطِفَةِ الرَّحْمَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَانْتِشَارِهَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْأَوْلَادِ، عَلَى مَا أَرْشَدَ
إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(30: 21) .
(7)
الْقُرْآنُ سَاوَى بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ بِاقْتِسَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ بِالْمَعْرُوفِ، مَعَ جَعْلِ حَقِّ رِيَاسَةِ الشَّرِكَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِلرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحِمَايَةِ بِقَوْلِ اللهِ عز وجل فِي الزَّوْجَاتِ:(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)(2: 228) وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)(4: 34) فَجَعَلَ مِنْ وَاجِبَاتِ هَذِهِ الْقِيَامَةِ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ لَا تُكَلَّفُ مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ كَانَتْ أَغْنَى مِنْهُ، وَزَادَهَا الْمَهْرَ فَالْمُسْلِمُ يَدْفَعُ لِامْرَأَتِهِ مَهْرًا عَاجِلًا مَفْرُوضًا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ لَزِمَهُ فِيهِ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَلَهُمَا أَنْ يُؤَجِّلَا بَعْضَهُ بِالتَّرَاضِي، عَلَى حِينِ نَرَى بَقِيَّةَ الْأُمَمِ حَتَّى الْيَوْمِ تُكَلِّفُ الْمَرْأَةَ دَفْعَ الْمَهْرَ لِلرَّجُلِ.
وَكَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ يُجْبِرُونَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بِمَنْ تَكْرَهُ، أَوْ يَعْضُلُونَهَا بِالْمَنْعِ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا وَطَلَّقَهَا فَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَسُنَّتِهِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ.
(8)
كَانَ الرِّجَالُ مِنَ الْعَرَبِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَا شَاءُوا غَيْرَ مُقَيَّدِينَ بِعَدَدٍ، وَلَا مُشْتَرَطٍ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْعَدْلُ، فَقَيَّدَهُمُ الْإِسْلَامُ بِأَلَّا يَزِيدُوا
عَلَى أَرْبَعٍ، وَأَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَعْدِلَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الزِّيَادَةَ لِمُحْتَاجِهَا الْقَادِرِ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ.
وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّعَدُّدِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، ثُمَّ زِدْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ (حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ) مَا هُوَ مُقْنِعٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ مُنْصِفٍ بِأَنَّ مَا شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ فِي التَّعَدُّدِ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ.
(9)
الطَّلَاقُ قَدْ يَكُونُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَحُقُوقِ الْإِحْصَانِ وَالنَّفَقَةِ
وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ مِنْهُ وَفِيهِ ظُلْمٌ كَثِيرٌ وَغَبْنٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهُ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فِيهِ بِالْإِصْلَاحِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ شَرْعٌ وَلَمْ يَلْحَقْهُ بِمِثْلِهِ قَانُونٌ، وَكَانَ الْإِفْرِنْجُ يُحَرِّمُونَهُ وَيَعِيبُونَ الْإِسْلَامَ بِهِ، ثُمَّ اضْطُرُّوا إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَأَسْرَفُوا فِيهِ إِسْرَافًا مُنْذِرًا بِفَوْضَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَانْحِلَالِ رَوَابِطِ الْأُسْرَةِ وَالْعَشِيرَةِ.
جَعَلَ الْإِسْلَامُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَيَتْبَعُهُ حَقُّ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُمْ أَحْرَصُ عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِمَا تُكَلِّفُهُمْ مِنَ النَّفَقَاتِ فِي عَقْدِهَا وَحَلِّهَا، وَكَوْنِهِمْ أَثْبَتَ مِنَ النِّسَاءِ جَأْشًا وَأَشَدَّ صَبْرًا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ، وَقَدْ أَوْصَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا بِمَا يَزِيدُهُمْ قُوَّةً عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ وَحَبْسِهَا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَقَالَ:(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)(4: 19) عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ تُعْطِي الْمَرْأَةَ حَقَّ اشْتِرَاطِ جَعْلِ عِصْمَتِهَا بِيَدِهَا لِتُطَلِّقُ نَفْسَهَا إِذَا شَاءَتْ، وَأَعْطَتْهَا حَقَّ طَلَبِ فَسْخِ عَقْدِ الزَّوَاجِ مِنَ الْقَاضِي إِذَا وَجَدَ سَبَبَهُ مِنَ الْعُيُوبِ الْخِلْقِيَّةِ أَوِ الْمَرَضِيَّةِ كَالرَّجُلِ، وَكَذَا إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ. وَجَعَلَتْ لِلْمُطَلَّقَةِ عَلَيْهِ حَقَّ النَّفَقَةِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ الَّتِي لَا يَحِلُّ لَهَا فِيهَا الزَّوَاجُ، وَذَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الطَّلَاقَ بِأَنَّ اللهَ يَبْغَضُهُ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهَا، وَفِي كِتَابِنَا الْجَدِيدِ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ.
(10)
بَالَغَ الْإِسْلَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَرَنَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَكَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ حَقَّ الْأُمِّ فَجَعَلَ بِرَّهَا مُقَدَّمًا عَلَى بَرِّ الْأَبِ، ثُمَّ بَالَغَ فِي الْوَصِيَّةِ بِتَرْبِيَةِ الْبَنَاتِ وَكَفَالَةِ الْأَخَوَاتِ، بِأَخَصِّ مِمَّا وَصَّى بِهِ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، بَلْ جَعْلَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ قَيِّمًا شَرْعِيًّا يَتَوَلَّى كِفَايَتَهَا وَالْعِنَايَةَ بِهَا وَمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ مِنْ أَقَارِبِهَا وَجَبَ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَمْرَهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا وُجِدَ دِينٌ وَلَا شَرْعٌ وَلَا قَانُونٌ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ أَعْطَى النِّسَاءَ مَا أَعْطَاهُنَّ
الْإِسْلَامُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ، أَفَلَيَسَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ وَحْيِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ لِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْمَبْعُوثِ فِي الْأُمِّيِّينَ؟ بَلَى وَأَنَا عَنْ ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الْمُبَرْهِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الْمَقْصَدُ الْعَاشِرُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ
إِنَّ اسْتِرْقَاقَ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ قَدِيمٌ فِي شُعُوبِ الْبَشَرِ، بَلْ هُوَ مَعْهُودٌ فِي الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَعِيشُ عِيشَةَ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ أَيْضًا كَالنَّمْلِ، فَإِذَا حَارَبَتْ قَرْيَةٌ مِنْهُ أُخْرَى فَظَفِرَتْ بِهَا وَانْتَصَرَتْ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَأْسِرُ مَا سَلِمَ مِنَ الْقِتَالِ وَتَسْتَعْبِدُهُ فِي خِدْمَةِ الظَّافِرِ مِنَ الْبِنَاءِ وَجَمْعِ الْمَئُونَةِ وَخَزْنِهَا فِي مَخَازِنِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
كَانَتْ شُعُوبُ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَابِلِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْهُنُودِ وَالْيُونَانِ وَالرُّومِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهَا تَتَّخِذُ الرَّقِيقَ وَتَسْتَخْدِمُهُ فِي أَشَقِّ الْأَعْمَالِ، وَتُعَامِلُهُ بِمُنْتَهَى الْقَسْوَةِ وَالظُّلْمِ، وَقَدْ أَقَرَّتْهُ الدِّيَانَتَانِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَظَلَّ الرَّقِيقُ مَشْرُوعًا عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ إِلَى أَنْ حَرَّرَتِ الْوِلَايَاتُ الْأَمِيرِيكِيَّةُ الْمُتَّحِدَةُ رَقِيقَهَا فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ، وَتَلَتْهَا إِنْكِلْتِرَهْ بِاتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْعَالَمِ كُلِّهِ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُ كُلٍّ مِنْهُمَا خَالِصًا لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ وَجُنُوحًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ الْأُولَى لَا تَزَالُ تُفَضِّلُ الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ الْأُورُبِّيَّ الْمُتَغَلِّبَ عَلَى الْجِنْسِ الْأَحْمَرِ الْوَطَنِيِّ الْأَصْلِيِّ بِمَا يَقْرُبُ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ السِّيَاسِيِّ الْمُبَاحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْإِفْرِنْجِ لِلشُّعُوبِ، كَمَا أَنَّ إِنْكَلْتِرَهْ تَحْتَقِرُ الْهُنُودَ وَتَسْتَذِلُّهُمْ وَلَكِنَّ النَّهْضَةَ الْهِنْدِيَّةَ فِي هَذَا الْعَهْدِ قَدْ خَفَّضَتْ مِنْ غُلَوَائِهِمْ، وَطَامَنَتْ مِنْ إِشْنَاقِ كِبْرِيَائِهِمْ.
فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ، وَأَشْرَقَ نُورُهُ الْمَاحِي لِكُلِّ ظَلَامٍ، كَانَ مِمَّا أَصْلَحَهُ مِنْ فَسَادِ الْأُمَمِ إِبْطَالُ ظُلْمِ الرَّقِيقِ وَإِرْهَاقُهُ، وَوَضْعُ الْأَحْكَامِ لِإِبْطَالِ الرِّقِّ بِالتَّدْرِيجِ السَّرِيعِ، إِذْ كَانَ إِبْطَالُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَعَذِّرًا فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ: نَاحِيَةِ مَصَالِحِ السَّادَةِ الْمُسْتَرِقِّينَ، وَنَاحِيَةِ مَعِيشَةِ الْأَرِقَّاءِ الْمُسْتَعْبَدِينَ.
فَإِنَّ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةَ لَمَّا حَرَّرَتْ رَقِيقَهَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ يَلْتَمِسُ وَسِيلَةً لِلرِّزْقِ فَلَا يَجِدُهَا، فَيَحُورُ إِلَى سَادَتِهِ يَرْجُو مِنْهُمُ الْعَوْدَ إِلَى خِدْمَتِهِمْ كَمَا كَانَ.
وَكَذَلِكَ جَرَى فِي السُّودَانِ الْمِصْرِيِّ، فَقَدْ جَرَّبَ الْحُكَّامُ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يَجِدُوا لَهُمْ رِزْقًا بِعَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ فِيهِ مُكْتَفِينَ بِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَاضْطُرُّوا إِلَى الْإِذْنِ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى خِدْمَةِ الرِّقِّ السَّابِقَةِ، بِيَدَ أَنَّهَا لَا تَسْمَحُ لِلْمَخْدُومِينَ بِبَيْعِهِمْ وَالِاتِّجَارِ بِهِمْ.
هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ وَأَحْكَامِهِ
قَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لِإِبْطَالِ الرِّقِّ طَرِيقَتَيْنِ: عَدَمُ تَجْدِيدِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ، وَتَحْرِيرُ الرَّقِيقِ الْقَدِيمِ بِالتَّدْرِيجِ الَّذِي لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِيهِ.
(الطَّرِيقَةُ الْأُولَى) مَنَعَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ إِلَّا اسْتِرْقَاقَ الْأَسْرَى وَالسَّبَايَا فِي الْحَرْبِ، الَّتِي اشْتَرَطَ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ وَمَنْعِ الِاعْتِدَاءِ وَمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَهِيَ شُرُوطٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَهُ مَشْرُوعَةً عِنْدَ الْمِلِّيِّينَ، وَلَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَضَارَةِ فَضْلًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا شَرْعَ لَهُمْ وَلَا قَانُونَ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَعَ لَنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِرْقَاقِ كُلَّ مَا كَانَتِ الْأُمَمُ تَفْعَلُهُ مُعَامَلَةً لَهُمْ بِالْمِثْلِ، بَلْ شَرَعَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ لِلْبَشَرِ فِي إِمْضَائِهِ أَوْ إِبْطَالِهِ بِأَنْ خَيَّرَهُمْ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِيَّةِ، وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، وَهُوَ نَوْعَانِ: فِدَاءُ الْمَالِ، وَفِدَاءُ الْأَنْفُسِ، إِذَا كَانَ لَنَا أُسَارَى أَوْ سَبْيٌ عِنْدَ قَوْمِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي قَوَاعِدِ الْحَرْبِ:(فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مِنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)(47: 4) وَلَمَّا كُنَّا مُخَيَّرِينَ فِيهِمْ بَيْنَ إِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، جَازَ أَنْ يُعَدَّ هَذَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لِإِبْطَالِ اسْتِئْنَافِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْأَمْرَ الثَّالِثَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِرْقَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ، لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُتَّبَعُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَمِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ وَالضَّرَرِ أَنْ يَسْتَرِقُّوا أَسْرَانَا وَنُطْلِقَ أَسْرَاهُمْ وَنَحْنُ أَرْحَمُ بِهِمْ وَأَعْدَلُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. وَلَكِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْحَصْرِ، وَلَا صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ عَنِ الْأَصْلِ، فَكَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ مُطْلَقًا غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ، فَبَقِيَ حُكْمُهُ مَحَلَّ اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ، إِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي إِبْقَائِهِ أَبْقَوْهُ، وَإِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي تَرْجِيحِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ - وَهُوَ إِبْطَالٌ اخْتِيَارِيٌّ لَهُ - أَوِ الْفِدَاءُ بِهِمْ عَمِلُوا بِهِ.
(الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ مَا شَرَعَهُ لِتَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ وُجُوبًا وَنَدْبًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ) .
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ وَوَسَائِلِ تَحْرِيرِهِ اللَّازِبَةِ وَفِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ) .
(1)
إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ الْحُرِّيَّةُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ. (2) تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ وَبُطْلَانُهُ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ بِشَرْطِهِ. (3) الْكِتَابَةُ: وَهِيَ شِرَاءُ الْمَمْلُوكِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ يَكْسِبُهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِهَا لِمَنْ يَبْتَغِيهَا، وَأَمَرَ بِمُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ مِنَ الْمَالِكِ نَفْسِهِ. (4) إِذَا خَرَجَ الْأَرِقَّاءُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُونَ أَحْرَارًا. (5) مَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ عُتِقَ كُلُّهُ عَلَيْهِ
وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ لِغَيْرِهِ فَلَهُ أَحْكَامٌ. (6) مَنْ عَذَّبَ مَمْلُوكَهُ أَوْ مَثَّلَ بِهِ كَأَنْ خَصَاهُ أَوْ جَبَّهُ عُتِقَ عَلَيْهِ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. (7) مَنْ آذَى مَمْلُوكَهُ بِمَا دُونَ التَّمْثِيلِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، فَكَفَّارَةُ ذَنْبِهِ أَنْ يَعْتِقَهُ. (8) التَّدْبِيرُ عِتْقٌ لَازِمٌ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَ مَمْلُوكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا بَعْدَ مَوْتِهِ. (9) إِذَا وَلَدَتِ الْجَارِيَةُ لِسَيِّدِهَا وَلَدًا مِنْهُ حَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا لِغَيْرِهِ، وَتَصِيرُ حُرَّةً بِمَوْتِهِ لَا تُورَثُ عَنْهُ. (10) مَنْ مَلَكَ أَحَدَ أَقَارِبِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) الَّذِي بَسَطْنَا بِهِ هَذَا الْبَحْثَ مِنَ التَّفْسِيرِ.
(النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ وَسَائِلِ تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ الْكَفَّارَاتُ)
وَالْمُرَادُ بِهَا الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَمْحُو الذُّنُوبَ، وَأَعْظَمُهَا عِتْقُ الرِّقَابِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:(أَحَدُهَا) وَاجِبٌ حَتْمٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْعِتْقِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ ثَمَنِهَا، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهُوَ تَشْبِيهُ الرَّجُلِ زَوْجَهُ بِأُمِّهِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَفَّارَةِ إِفْسَادِ الصِّيَامِ عَمْدًا بِشَرْطِهِ وَقَيْدِهِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي الْفِقْهِ.
(ثَانِيهَا) وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَحَنَثَ فِيهَا فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَحِكْمَةُ التَّخْيِيرِ ظَاهِرَةٌ.
(ثَالِثُهَا) مَنْدُوبٌ وَهُوَ الْعِتْقُ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مُكَفِّرَاتِهَا.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ وَسَائِلِ إِلْغَاءِ الرِّقِّ الْمَوْجُودِ)
جَعْلُ سَهْمٍ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ (فِي الرِّقَابِ) بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعِتْقَ وَالْإِعَانَةَ عَلَى شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ نَفْسِهِ (الْكِتَابَةُ) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ زَكَاةَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَدْ تَبْلُغُ مِئَاتِ الْأُلُوفِ وَأُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَلَوْ نُفِّذَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَحْدَهَا لَأَمْكَنَ تَحْرِيرُ جَمِيعِ الرَّقِيقِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
(النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْهَا الْعِتْقُ الِاخْتِيَارِيُّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى أَيِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ) .
قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ مَا يَدْخُلُ تَدْوِينُهُ فِي سِفْرٍ كَبِيرٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَأُصُولِ الْبَرِّ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 177) .
وَمِنْ أَشْهَرِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ
((عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجُهُ بِفَرْجِهِ)) وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ)) قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا)) الْحَدِيثَ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ إِلَّا مَالِكًا ((أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ)) وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا رَوَى قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: ((لِلْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ)) قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَادُ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ.
(الْوَصِيَّةُ بِالْمَمَالِيكِ)
أَضِفْ إِلَى هَذَا وَصَايَا اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْمَمَالِيكِ، وَمِنْهَا تَخْفِيفُ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلُ حَدِّ الْمَمْلُوكِ فِي الْعُقُوبَاتِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ، وَقَدْ قَرَنَ اللهُ الْوَصِيَّةَ بِهِمْ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِ السَّيِّدِ:((عَبْدِي وَأَمَتِي)) وَأَمَرَهُ أَنْ
يَقُولَ: ((فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي)) وَأَمَرَ بِأَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يَأْكُلُونَ وَيُلْبِسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ وَيُعِينُوهُمْ عَلَى خِدْمَتِهِمْ إِنْ كَلَّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ يُوصِي بِالنِّسَاءِ وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ حَتَّى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إِلَى أَنِ الْتَحَقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى صلى الله عليه وسلم. وَسَأَلَهُ ابْنُ عُمَرَ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ قَالَ:((اعْفُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً)) وَهَذَا مُبَالَغَةٌ، أَيْ كُلَّمَا أَذْنَبَ.
وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُبَالِغُونَ فِي تَكْرِيمِ الرَّقِيقِ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِالْحِلْمِ حَتَّى صَارُوا يُقَصِّرُونَ فِي الْخِدْمَةِ. وَلَعَمْرُ الْحَقِّ إِنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ أَعَزُّ نَفْسًا وَأَطْيَبُ عَيْشًا مِنْ جَمِيعِ الْأَحْرَارِ الَّذِينَ ابْتُلُوا فِي هَذِهِ الْعُصُورِ بِحُكْمِ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ مَنْ غَيْرِهِمْ أَوْ نُفُوذِهِمْ، وَإِنَّ حُكُومَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ لَتُعَامِلُ الْجِنْسَ الْأَحْمَرَ مِنْ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْأَصْلِيِّينَ الَّذِينَ تَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ بِغَيْرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعَامِلُ بِهَا الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ، حَتَّى إِنَّ مَنِ اعْتَدَى مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ بَيْضَاءَ يُقْتَلُ شَرَّ قِتْلَةٍ - إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ الْحُكُومَةُ قَتَلَهُ الشَّعْبُ - بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ.
خُلَاصَةُ الْبَحْثِ
رَاجِعْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ النَّصَارَى، وَمِنَ الْكَلَامِ فِي تَنْفِيذِ شُبْهَةِ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ، وَالْكَلَامِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللُّغَوِيِّ وَالْعِلْمِيِّ، وَمَا أَحْدَثَهُ مِنَ الِانْقِلَابِ الْبَشَرِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ثُمَّ أَضِفْ إِلَيْهَا هَذِهِ الْعَشْرَةَ الْأَنْوَاعَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ وَتَكْمِيلِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِي التَّشْرِيعِ الرُّوحِيِّ وَالْأَدَبِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ
وَالْمَالِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، وَهِي الَّتِي اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَيْهَا، مُوَضَّحَةً بِأُصُولٍ وَقَوَاعِدَ هِيَ أَصَحُّ وَأَكْمَلُ وَأَكْفَلُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْقَدِيمَةِ وَالطَّارِئَةِ، مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَهَا مِنْ تَعَالِيمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفَلْسَفَةِ الْحُكَمَاءِ، وَقَوَانِينِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ، مَعَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا يُؤْثِرُ بِطَبْعِهِ عِيشَةَ الْعُزْلَةِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ وَالْقَوَانِينِ،
وَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْحَثُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَا أَنَّهُ نَطَقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِهَا، وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِهَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ سِنِّ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنٌّ لَمْ يُعْرَفْ فِي اسْتِعْدَادِ أَنْفُسِ الْبَشَرِ وَمُدْرَكَاتِ عُقُولِهِمْ، وَلَا فِي تَارِيخِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهَا يَأْتَنِفُ مِثْلَهَا ائْتِنَافًا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ الْبَدْءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي أَنْفِ عُمْرِهِ، وَآنِفَةِ شَبَابِهِ وَشَرْخِهِ، رَاجِعْ هَذَا كُلَّهُ وَتَأَمَّلْهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً تَجِدْ عَقْلَكَ مُضْطَرًّا إِلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ بَشَرٍ أُمِّيٍّ أَوْ مُتَعَلِّمٍ، وَأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَسَرَّبَ إِلَى ذِهْنِهِ بَعْضُ مَسَائِلِهَا مِنْ أَفْوَاهِ عُقَلَاءِ قَوْمِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَقِيَ فِي أَسْفَارِهِ الْقَلِيلَةِ، أَوْ أَنَّهُ فَكَّرَ فِي حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى مِثْلِهَا مِمَّا أَدْرَكَهُ بِذَكَائِهِ الْفِطْرِيِّ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ. فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْفَلَتَاتُ الشَّارِدَةُ، وَهَذِهِ الْخَطَرَاتُ الْوَارِدَةُ، تَبْلُغُ هَذَا الْحَدَّ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْوَفَاءِ بِحَاجَةِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، وَأَنْ تَظَلَّ كُلُّهَا مَكْتُومَةً مِنْ سِنِّ الصِّبَا وَعَهْدِ حُبِّ الظُّهُورِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، بِهَذِهِ الرَّوْعَةِ مِنَ الْبَيَانِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَقُوَّةِ الْبُرْهَانِ فِي الْعُقُولِ، فَتُحْدِثَ هَذِهِ الثَّوْرَةَ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُغَيِّرَةِ لِطِبَاعِهَا، الْمُبَدِّلَةِ لِأَوْضَاعِهَا، بِحَيْثُ تَسُودُ بِهَا شُعُوبُ الْمَدَنِيَّةِ كُلِّهَا وَيَتْلُو ذَلِكَ مَا قَصَّهُ التَّارِيخُ مِنَ الِانْقِلَابِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَظْهَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ أُمَمَ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ الْعَجِيبَةِ أَشَدُّ حَاجَةً إِلَيْهَا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ؟ كَلَّا إِنَّ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُهُ فِي الْبَشَرِ.
وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ هَذَا؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيَهْتَدِيَ بِهِ لِتَكْمِيلِ إِنْسَانِيَّتِهِ وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنِ اعْتَرَضَتْهُ شُبْهَةٌ عَلَيْهِ فَلْيَبْحَثْ عَنْهَا أَوْ لِيَنْبِذْهَا، فَمَا كَانَ لِعَاقِلٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ نَفْعُ عِلْمِ الطَّلَبِ أَنْ يَتْرُكَ مُرَاعَاتَهُ فِي حِفْظِ صِحَّتِهِ أَوْ مُدَاوَاةِ مَرَضِهِ لِشُبْهَةٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ، أَوْ خَيْبَةِ الْأَطِبَّاءِ فِي بَعْضِ مُعَالَجَاتِهِمْ لِلْمَرْضَى، وَإِنَّ حَاجَةَ الْبَشَرِ إِلَى طِبِّ الْأَرْوَاحِ وَالِاجْتِمَاعِ، لَأَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى طِبِّ الْأَبْدَانِ. (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لِهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الْأَنْعَامِ 6: 149) .
((رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا))
(وَنَعُودُ إِلَى نَسَقِ التَّفْسِيرِ بِاسْمِ اللهِ وَحَمْدِهِ) .
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) .
افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ آيَاتِ الْكِتَابِ، النَّاطِقِ بِالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ وَأَنْكَرَ عَلَى النَّاسِ عَجَبَهُمْ أَنْ يُوحِيَ رَبُّهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ بِهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ، مُنْذِرًا مَنْ كَفَرَ بِالْعِقَابِ، وَمُبَشِّرًا مَنْ آمَنَ بِالثَّوَابِ وَحَكَى عَنِ الْكَافِرِينَ وَصْفَهُمْ لِهَذَا الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَلِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ بِالسِّحْرِ؛ إِذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْبَشَرِ مُشَعْوِذُونَ وَدَجَّالُونَ يَأْتُونَ بَعْضَ الْخَوَارِقِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ الْجَمَاهِيرُ أَسْبَابَهَا، فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْمُعْجِزَ لِلْبَشَرِ بِأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَبِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَبِتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَوْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مِنْ هَذَا السِّحْرِ الْمَعْهُودِ وَجُودُهُ، الْمَجْهُولِ سَبَبُهُ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْقَوْلِ، وَلَا مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَالْعِلْمُ، يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُنْتَحَلًا لِلسِّحْرِ، وَلَكِنَّ السِّحْرَ لَمْ يَكُنْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ حَقَائِقَ عِلْمِيَّةً وَلَا هِدَايَةً نَافِعَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالسَّحَرَةُ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أُنَاسًا مِنَ الْمُتَكَسِّبِينَ بِإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى غَرَائِبِهِمُ الْمَجْهُولَةِ لَهُمْ، فَأَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، مِنْ حَقَائِقَ سَاطِعَةٍ، وَهُوَ لَا يَسْأَلُ عَلَيْهَا أَجْرًا وَلَا يَبْتَغِي بِهَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا إِذْ هِيَ بَاقِيَةٌ بِنَفْسِهَا وَبِآثَارِهَا النَّافِعَةِ، وَالسِّحْرُ بَاطِلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ؟ فَالْمُتَعَيَّنُ عِنْدَ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْعُلُوِّ عَلَى كَلَامِ الْبَشَرِ، وَالْإِعْجَازِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ بِالتَّحَدِّي، وَحْيًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَنِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، الَّذِي هُوَ لِجُمْلَتِهِمْ، كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِمْ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ حِكْمَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَالِمِينَ، وَإِلَّا كَانَتْ صِفَاتُهُ نَاقِصَةً بِحِرْمَانِ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْأَعْلَى مِنَ الْعِرْفَانِ، وَالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وَلِذَلِكَ قَفَّى حِكَايَةَ عَجَبِهِمْ وَمَا عَلَّلُوهُ بِهِ، مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْحُجَّةِ الَّتِي تَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ، فَقَالَ عز وجل:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَفْنِيدِهِمْ فِي عَجَبِهِمْ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ، وَبَيَانٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِي كَمَالُهَا ثُبُوتَهُ وَبُطْلَانَ الشَّرَكِ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلنَّاسِ الَّذِينَ عَجِبُوا أَنْ يُوحَى إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ بِأُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ الْمُنَبِّهِ لِلذِّهْنِ، يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبَّكُمْ هُوَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَوَالِمَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي
فَوْقَكُمْ، وَهَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي يَعِيشُونَ عَلَيْهَا فِي سِتَّةِ أَزْمِنَةٍ ثُمَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِهَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَحُدُّهُ حَدَثٌ يَحْدُثُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أُلُوفَ السِّنِينَ مِنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي وُجِدَتْ بَعْدَ خَلْقِهَا، أَيْ أَوْجَدَهَا كُلَّهَا بِمَقَادِيرَ قَدَّرَهَا فَإِنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي جَعَلَهُ مَرْكَزَ التَّدْبِيرِ، لِهَذَا الْمُلْكِ الْكَبِيرِ، اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَتَنْزِيهِهِ وَكَمَالِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ، بِمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ مِنَ النِّظَامِ، وَحِكْمَتُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِهِمَا، وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ مِنْ قَبْلِهِمَا، شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ فِيمَا لَا نَعْلَمُ كُنْهَهُ وَلَا صِفَتَهُ مِنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْمُلْكِ، وَكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، لَا يُدْرِكُ كُنْهَ شُئُونِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ.
وَالتَّدْبِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَوَائِلِ الْأُمُورِ وَمَبَادِئِهَا، وَأَدْبَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَبَادِئُ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْ غَايَاتِهَا، كَمَا أَنَّ تَدَبُّرَ الْأَمْرِ أَوِ الْقَوْلِ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي دُبُرِهِ وَهُوَ مَا وَرَاءَهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لَا يَسْتَنْكِرُ مِنْ تَرْبِيَتِهِ لِعِبَادِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِهِمْ، أَنْ يَفِيضَ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ، مَا يَهْدِيهِمْ بِهِ لِمَا فِيهِ كَمَالُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ وَصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْعَالِمِ بِهَذَا التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ آيَاتُهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ مِنْهُ عز وجل، إِذْ هُوَ مِنْ كَمَالِ تَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (7: 54) الِاخْتِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ، وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ آيَاتِ عُلُوِّ الْخَالِقِ تَعَالَى فَوْقَ خَلْقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ الْجَامِعُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ.
ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ، فِي ضِمْنِ حَقِيقَةٍ نَاقِضَةٍ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ، ذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَمُقَلِّدَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَهُمُ النَّفْعَ فِي الدُّنْيَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُثْبِتُونَ لَهُمُ الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ بِالْأَوْلَى، وَيُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ الَّتِي وُضِعَتْ لِذِكْرَى أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ شُفَعَاءَ أَيْضًا بِالتَّبَعِ، وَسَيَأْتِي فِي (الْآيَةِ 18) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَيُقَالُ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا: إِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلَّهِ شُفَعَاءَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُقَرِّبِينَ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ بِمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَدْفَعُ عَنْكُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَكُمُ النَّفْعَ - وَهُوَ قَوْلٌ مِنْكُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ - فَمَا لَكُمْ تُنْكِرُونَ وَتَعْجَبُونَ أَنْ يُوحِيَ تَعَالَى إِلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْطَفِيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ مَنْ يُعَلِّمُكُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَهْدِيكُمْ إِلَى الْعَمَلِ
الْمُوَصِّلِ إِلَى كُلِّ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ بِاسْتِحْقَاقٍ بِدُونِ عَمَلٍ مِنْكُمْ وَلَا اسْتِحْقَاقٍ لِمَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ؟ .
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ النَّاقِضَةُ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ فِي الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ تَعَالَى إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(2: 255) وَلَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَعَالَى بِمَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ وَمَنْ يَقَبْلُ شَفَاعَتَهُ إِلَّا بِإِعْلَامٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي وَحْيِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ إِلَّا مَنِ ارْتَضَاهُ لِلشَّفَاعَةِ (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (20: 109) وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى رَاضِيًا عَنْهُ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ كَمَا قَالَ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(21: 28) مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)(39: 44) .
(ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) احْتِجَاجٌ بِمَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، عَلَى شِرْكِهِمْ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ يَأْذَنُ بِهَا لِمَنْ شَاءَ فِيمَا شَاءَ هُوَ اللهُ رَبُّكُمْ وَمُتَوَلِّي أُمُورِ الْعَالَمِ وَمِنْهَا أُمُورُكُمْ، فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلَا مَعَهُ
أَحَدًا، لَا لِأَجْلِ الشَّفَاعَةِ، وَلَا لِأَجْلِ مَطْلَبٍ آخَرَ مِنْ مَطَالِبِكُمْ، فَالشُّفَعَاءُ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ مِنْ دُونِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ رَبُّكُمْ وَحْدَهُ، وَقَدْ هَدَاكُمْ إِلَى أَسْبَابِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ الْكَسْبِيَّةِ بِعُقُولِكُمْ وَمَشَاعِرِكُمْ وَسَخَّرَهَا لَكُمْ، وَهَدَاكُمْ إِلَى أَسْبَابِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ الْغَيْبِيَّةِ بِوَحْيِهِ وَأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهَا، وَكُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فَإِنَّمَا يُطْلَبُ مِنْ أَسْبَابِهِ الَّتِي سَخَّرَهَا تَعَالَى وَبَيَّنَهَا لَكُمْ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ أَوْ جَهِلَهُ مِنْ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ الْإِلَهِيِّ. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَيْ أَتَجْهَلُونَ هَذَا الْحَقَّ الْمُبِينَ، فَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَحْدَهُ، وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِ الْمُلْكِ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ وَحْدَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْفَعَ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، هُوَ رَبُّكُمُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَأَلَّا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ؟ وَهُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَمَا إِنْكَارُهُ إِلَّا ضَرْبٌ مِنَ الْغَفْلَةِ عِلَاجُهَا التَّذْكِيرُ.
هَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّعْجِيبِيُّ مِنْ غَفْلَةِ الْمُشْرِكِينَ مُنْكِرِي الْوَحْيِ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مِنَ الْخَلْقِ أَحَدٌ إِلَّا رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ، يُوَجَّهُ بِالْأَوْلَى إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْقُبُورِيِّينَ وَعُبَّادِ الصَّالِحِينَ، كَيْفَ لَا يَتَذَكَّرُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا كُلَّمَا شَعَرُوا بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا عَجَزُوا عَنْهُ بِكَسْبِهِمْ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ؟ إِذْ نَرَاهُمْ يُوَجِّهُونَ وُجُوهَهُمْ إِلَى قُبُورِ الْمَشْهُورِينَ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي بِلَادِهِمْ، وَيَشُدُّونَ الرِّحَّالَ إِلَى مَا بَعُدَ مِنْهَا عَنْهُمْ، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِالنُّذُورِ وَيَطُوفُونَ بِهَا كَمَا يَطُوفُ الْحُجَّاجُ بِبَيْتِ اللهِ عز وجل، دَاعِينَ مُتَضَرِّعِينَ
مُسْتَغِيثِينَ خَاشِعِينَ، وَهَذَا مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا وَأَجْلَى مَظَاهِرِهَا، وَلَا تَرَى مِثْلَهُ مِنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْفَعُهُمْ كَهَذِهِ الْقُبُورِ، ذَلِكَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَتَلَقَّوْنَ عَقَائِدَ دِينِهِمْ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ، وَهُمْ قُبُورِيُّونَ لَا يَعْرِفُونَ مَلْجَأً وَلَا مُلْتَحَدًا عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى السُّلْطَانِ الرَّبَّانِيِّ الْغَيْبِيِّ إِلَّا هَذِهِ الْقُبُورَ، وَأَقَلُّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ بَعْضَ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الْكَلَامِيَّةِ الْجَافَّةِ مِمَّنْ أَلِفُوا عِبَادَةَ الْقُبُورِ قَبْلَ أَنْ يَقْرَءُوهَا، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلْعَوَّامِ تِلْكَ الْعِبَادَةَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا كَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَيْهَا نَفْسُ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، لَا فَرْقَ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَأَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ.
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) .
هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِلرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَهُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ.
يَقُولُ تَعَالَى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) أَيْ إِلَى رَبِّكُمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمْ وَشُفَعَائِكُمْ وَأَوْلِيَائِكُمْ تَرْجِعُونَ جَمِيعًا بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْكُمْ أَحَدٌ (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أَيْ وَعَدَ اللهُ هَذَا وَعْدًا حَقًّا لَا يُخْلِفُ (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) هَذَا بَيَانٌ لِمُتَعَلِّقِ الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ مَرَّتَيْنِ بِدَلِيلِهِ، أَيْ إِنَّ شَأْنَهُ تَعَالَى أَنْ يَبْدَأَ الْخَلْقَ وَيُنْشِئَهُ عِنْدَ التَّكْوِينِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى بَعْدَ انْحِلَالِهِ وَفَنَائِهِ، فَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُسْتَقَبْلِ (يَبْدَأُ) لِتَصْوِيرِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقَبْلَ، وَلَفْظُ الْخَلْقِ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ السِّيَاقِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ الْمَادِّيُّونَ مِنْهُمْ وَالرُّوحِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَجَمِيعَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، مَا يُرَى مِنْهَا بِالْأَبْصَارِ وَالْآلَاتِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ وَمَا لَا يُرَى، كُلُّهَا قَدْ وُجِدَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَإِنْ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَبْحَثُونَ فِي نَشْأَةِ تَكْوِينِهَا وَالْقُوَّةِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي أَصْلِ مَادَّتِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَوَقُّعِ خَرَابِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُرْتَبِطَةِ مَعَهَا فِي هَذَا النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ الْجَامِعِ لَهَا، عَلَى أَنَّ أَقْرَبَ الْأَسْبَابِ الْمُوَافِقَةِ لِأُصُولِ الْعِلْمِ الثَّابِتَةِ أَنْ تُصِيبَ الْأَرْضَ قَارِعَةٌ مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ فَتَبُسُّهَا بَسًّا، حَتَّى تَكُونَ هَبَاءً مُنْبَثًّا، كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ سُورَةُ الْقَارِعَةِ وَالْوَاقِعَةِ وَغَيْرُهُمَا.
فَأَمَّا بَدْؤُهُ فَقَدْ حَصَلَ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا إِعَادَتُهُ فَدَلِيلُهَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْبَدْءِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ:(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(30: 27) الْآيَةَ. وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ - وَهِيَ تُقَرِّبُ إِلَى الْعُقُولِ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ - أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَادَ الْحَيَّةَ
يُنْحَلُ مِنْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَتَبَخَّرُ فِي الْهَوَاءِ وَمَا يَمُوتُ فِي دَاخِلِ الْجِسْمِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ، وَيَحِلُّ مَحَلَّ كُلِّ مَا يَزُولُ وَيَنْدَثِرُ مَوَادُّ حَيَّةٌ جَدِيدَةٌ حَتَّى يَفْنَى جَسَدُ كُلِّ حَيَوَانٍ، فَهُوَ يَزُولُ فِي سِنِينَ قَلِيلَةٍ وَيَتَجَدَّدُ غَيْرُهُ، فَالْبَدْءُ وَالْإِعَادَةُ فِي كُلِّ جَسَدٍ دَائِمَانِ مَا دَامَ حَيًّا، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ الْبَعْثِ بِالْبَيَانِ الْعِلْمِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (ص 417 - 427 ج 8 ط الْهَيْئَةِ)(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ (هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْإِعَادَةِ، أَيْ يُعِيدُهُ لِأَجْلِ جَزَائِهِمْ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: النَّصِيبُ مِنَ الْعَدْلِ، أَيْ لِيَجْزِيَهُمْ بِعَدْلِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ كُلِّ عَامِلٍ حَقَّهُ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِعَمَلِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُظْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)(21: 47) الْآيَةَ. وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَزِيدَهُمْ وَيُضَاعِفَ لَهُمْ كَمَا وَعَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ: (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)(4: 173) وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)(26) فَالْحُسْنَى هِي الْجَزَاءُ بِالْقِسْطِ الْمُضَادِّ لِلْجَوْرِ وَالظُّلْمِ. وَالزِّيَادَةُ فَضْلٌ مِنْهُ عز وجل. وَسَيَأْتِي فِيهَا أَيْضًا قَوْلُهُ: (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)(10: 47، 54) وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ يَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(57: 25) وَقَوْلِهِ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ)(7: 29) عَلَى أَنَّ الْقِسْطَ فِي الْآيَتَيْنِ عَامٌّ شَامِلٌ لِأُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانُ أَوِ التَّوْحِيدُ الْمُقَابِلُ لِظُلْمِ الشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(31: 13) وَالْمُتَبَادَرُ الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الثَّانِي إِلَّا بِالتَّبَعِ لِلْأَوَّلِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ فِيهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ مِنَ الشَّرْعِ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) الْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ أَوِ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ الَّذِي يُسْتَحَمُّ بِهِ، وَالْعَرَقُ، يُقَالُ: اسْتَحَمَّ الْفَرَسُ إِذَا عَرِقَ، وَالْحَمَّامُ الَّذِي هُوَ مَكَانُ الِاسْتِحْمَامِ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ مِنَ الثَّانِي. وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجَزَاءِ الْكَافِرِينَ فِي مُقَابَلَةِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ عَلَى مَنْهَجِ الْقُرْآنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرِينَ لَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ شَرَابٌ مِنْ مَاءٍ حَمِيمٍ يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ
وَعَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ (وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ) وَنُكْتَةُ هَذَا الْخَاصِّ أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا وَنَزَلَ بِلُغَتِهِمْ - وَلَا سِيَّمَا عَرَبِ
الْحِجَازِ - يَشْعُرُونَ بِمَا لَا يَشْعُرُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ بِشُرْبِ الْمَاءِ الْحَمِيمِ وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ - وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ هَذَا الْجَزَاءُ بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ الْمُسْتَمِرَّةِ إِلَى الْمَوْتِ، كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَالنَّذْرِ لِغَيْرِهِ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ لِغَيْرِهِ، وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا لَهُمُ الْكُفْرُ وَيَصُدُّ عَنْهَا الْإِيمَانُ، فَقَوْلُهُ:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلُهُ: (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) لِأَنَّ الَّذِي يَتَجَدَّدُ مِنَ الْكُفْرِ أَعْمَالُهُ لَا عَقِيدَتُهُ. عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْعَقِيدَةِ هُوَ أَثَرُهَا، يَزِيدُهَا قُوَّةً وَرُسُوخًا وَاسْتِمْرَارًا، وَسَيُعَادُ ذِكْرُ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ آيَتَيْنِ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ لِعَمَلِهِمَا.
وَلَعَلَّ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ النَّظْمِ أَوِ الْأُسْلُوبِ - فِي جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ وَتَعْلِيلِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى هُنَا - هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى هُوَ جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُنْتَهَى كَمَالِ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ لِلَّذِينِ زَكَّوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَلَبَةِ سُلْطَانِ الْأَرْوَاحِ عَلَى الْأَجْسَادِ، وَجَعْلِهَا تَابِعَةً لَهَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَيَلْقَى الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ هُنَالِكَ مِنَ النَّعِيمِ الْمَادِّيِّ الْخَالِي مِنَ الشَّوَائِبِ وَالتَّنْغِيصِ الَّذِي عَهِدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ سُورَةِ التَّوْبَةِ: 72 - مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ فَضْلُ الْإِنْسَانِيَّةِ الْجَامِعَةِ، عَلَى الرُّوحَانِيَّةِ الْخَالِصَةِ، وَمَا أَعَدَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهَا مِمَّا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (32: 17) وَمَا فُسِّرَتْ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَعْلَاهُ مَقَامُ رُؤْيَةِ اللهِ عز وجل كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 143) وَأَدْنَاهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي الْآيَةِ التَّاسِعَةِ.
وَأَمَّا جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، عَلَى تَدْسِيَتِهِمْ وَتَدْنِيسِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْخَطَايَا - وَهِيَ لَهَا كَأَعْرَاضِ الْأَمْرَاضِ الَّتِي سَبَبُهَا مُخَالَفَةُ سُنَّةِ اللهِ فِي حِفْظِ الْأَبْدَانِ وَصِحَّتِهَا - فَلَيْسَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ
الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهَا مُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ، وَمُقْتَضَى اطِّرَادِ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَالْعِلَلِ بِالْمَعْلُولَاتِ، فَهُوَ جَزَاءٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ عز وجل.
وَقَدْ سَأَلَنِي رَجُلٌ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْإِنْكِلِيزِ: هَلْ يَلِيقُ بِعَظَمَةِ اللهِ أَنْ يُعَذِّبَ هَذَا الْإِنْسَانَ الضَّعِيفَ عَلَى ذُنُوبِهِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى ضَعْفِهِ؟ قُلْتُ إِنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ وَالْكُفْرَ بِنِعَمِهِ، وَاقْتِرَافَ الْخَطَايَا الْمُخَالِفَةِ لِشَرَائِعِهِ وَلِلْوِجْدَانِ الْفِطْرِيِّ فِي الْإِنْسَانِ، تُدَنِّسُ نَفْسَ فَاعِلِهَا وَتُفْسِدُهَا بِمَا يَجْعَلُهَا غَيْرَ أَهْلٍ لِلنَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الْخَاصِّ بِالْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ، فَيَكُونُ الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا
لِهَذَا الْفَسَادِ، كَمَا يَكُونُ الْمَرَضُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِمُخَالَفَةِ قَوَانِينِ الصِّحَّةِ وَوَصَايَا الطَّبِيبِ. فَقَالَ: إِذَا كَانَ سَبَبُ الْعَذَابِ مِنَ الدَّاخِلِ لَا مِنَ الْخَارِجِ فَهُوَ مَعْقُولٌ.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) .
فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُنَزَّلَتَيْنِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ، الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَكَوْنِهِ مِنْ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَاطِّرَادِ النِّظَامِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَاءِ الْخَالِقِ عَلَى عَرْشِهِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَيُقِيمُ النِّظَامَ فِي الْخَلْقِ، الَّتِي سِيقَتْ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَحَقِّيَّةِ الْوَحْيِ.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) الضِّيَاءُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَضَاءَ يُضِيءُ وَجَمْعُ ضَوْءٍ، كَسِيَاطٍ وَسَوْطٍ وَحِيَاضٍ وَحَوْضٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ:(ضِئَاءً) عَلَى الْقَلْبِ بِتَقْدِيمِ لَامِ الْكَلِمَةِ عَلَى عَيْنِهَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ: (الضَّوْءُ) هُوَ النُّورُ (وَيُضَمُّ) وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ عِنْدَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: الضَّوْءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلِذَا شَبَّهَ اللهُ هُدَاهُ بِالنُّورِ دُونَ الضَّوْءِ وَإِلَّا لَمَا ضَلَّ أَحَدٌ، وَتَبِعَهُ
الطِّيبِيُّ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَأَنْكَرَهُ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا ابْنُ السِّكِّيتِ، وَحَقَّقَ فِي الْكَشْفِ أَنَّ الضَّوْءَ فَرْعُ النُّورِ وَهُوَ الشُّعَاعُ الْمُنْتَشِرُ، وَجَزَمَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا بِتَرَادُفِهِمَا لُغَةً بِحَسْبِ الْوَضْعِ، وَأَنَّ الضَّوْءَ أَبْلَغُ بِحَسْبِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقِيلَ: الضَّوْءُ لِمَا بِالذَّاتِ كَالشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَالنُّورُ لِمَا بِالْعَرَضِ وَالِاكْتِسَابِ مِنَ الْغَيْرِ، هَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَجَمْعُهُ أَضْوَاءٌ (كَالضِّوَاءِ وَالضِّيَاءِ بِكَسْرِهِمَا) لَكِنْ فِي نُسْخَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ ضَبْطُ الْأَوَّلِ بِالْفَتْحِ وَالثَّانِي بِالْكَسْرِ، وَفِي التَّهْذِيبِ عَنِ اللَّيْثِ: الضَّوْءُ وَالضِّيَاءُ مَا أَضَاءَ لَكَ، وَنَقَلَ شَيْخُنَا عَنِ الْمُحْكَمِ أَنَّ الضِّيَاءَ يَكُونُ جَمْعًا أَيْضًا، قُلْتُ: هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ)(2: 20) اهـ.
وَأَقُولُ: يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي نُورِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)(71: 16) وَقَوْلُهُ: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا)(25: 61) وَالسِّرَاجُ مَا كَانَ نُورُهُ مِنْ ذَاتِهِ. وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَ الزَّجَّاجِ: إِنَّ الضِّيَاءَ فِي الْآيَةِ جَمْعُ ضَوْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِكَوْنِ الْقَمَرِ نُورًا أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ مُفْرَدًا مِثْلُهُ.
وَجَهِلَ هَذَا الْمُسْتَبْعِدُ وَأَمْثَالُهُ مَا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَلْوَانِ النُّورِ السَّبْعَةِ، الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ فِي قَوْسِ السَّحَابِ فَهُوَ سَبْعَةُ أَضْوَاءٍ لَا ضَوْءٌ وَاحِدٌ، فَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي كَشَفَ لَنَا تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْفَلَكِيَّةِ مِنَ الْمَعْنَى فِيهَا مَا كَانَ النَّاسُ أَوِ الْعَرَبُ يَجْهَلُونَهُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، كَتَعْبِيرِهِ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ بِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ.
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ، التَّقْدِيرُ جَعَلَ الشَّيْءَ أَوِ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ فِي الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، قَالَ تَعَالَى:(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)(73: 20) وَقَالَ فِي الْقُرَى الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ سَبَأٍ وَالشَّامِ: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)(34: 18) وَقَالَ فِي الْمَقَادِيرِ الْعَامَّةِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)(25: 2) وَالْمَنَازِلُ أَمَاكِنُ النُّزُولِ جَمْعُ مَنْزِلٍ وَالضَّمِيرُ لِلْقَمَرِ كَمَا فِي سُورَةِ يس: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (36: 39) أَيْ قَدَّرَ لَهُ أَوْ قَدَّرَ سَيْرَهُ فِي فَلَكِهِ فِي مَنَازِلَ يَنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُخْطِئُهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ
وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا مَعْرُوفَةٌ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ بِأَسْمَاءِ نُجُومِهَا الْمُحَاذِيَةِ لَهَا وَهِيَ.
الشَّرَطَانِ. الْبَطِينُ. الثُّرَيَّا. الدَّبَرَانِ. الْهَقْعَةُ. الْهَنْعَةُ. الذِّرَاعُ. النَّثْرَةُ. الطَّرَفُ. الْجَبْهَةُ. الزُّبْرَةُ، الصَّرْفَةُ. الْعَوَّاءُ. السِّمَاكُ الْأَعْزَلُ. الْغَفْرُ. الزُّبَانَى. الْإِكْلِيلُ. الْقَلْبُ. الشَّوْلَةُ. النَّعَائِمُ. الْبَلْدَةُ. سَعْدُ الذَّابِحِ. سَعْدُ بُلَع. سَعْدُ السُّعُودِ. سَعْدُ الْأَخْبِيَةِ. فَرْغُ الدَّلْوِ الْمُقَدَّمِ. فَرْغُ الدَّلْوِ الْمُؤَخَّرِ (وَيُسَمَّيَانِ الْفَرْغَ الْأَوَّلَ وَالْفَرْغَ الثَّانِيَ) . الرِّشَاءُ. وَيُرَاجِعْ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ وَكُتُبِ الْفَلَكِ مَنْ شَاءَ. فَهَذِهِ الْمَنَازِلُ هِي الَّتِي يُرَى فِيهَا الْقَمَرُ بِالْأَبْصَارِ، وَيَبْقَى مِنَ الشَّهْرِ لَيْلَةٌ إِنْ كَانَ 29 وَلَيْلَتَانِ إِنْ كَانَ 30 يَوْمًا يَحْتَجِبُ فِيهِمَا فَلَا يُرَى. (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تَعْلَمُوا بِمَا ذَكَرَ مِنْ صِفَةِ النَّيِّرَيْنِ وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ حِسَابَ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ؛ لِضَبْطِ عِبَادَاتِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، فَلَوْلَا هَذَا النِّظَامُ الْمُشَاهَدُ لَتَعَذَّرَ عَلَى الْأُمِّيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ حِسَابَ السِّنِينَ وَالشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ فَنٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالدِّرَاسَةِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الشَّرْعُ الْإِسْلَامِيُّ الْعَامُّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ شَهْرَ الصِّيَامِ وَأَشْهُرَ الْحَجِّ وَعِدَّةَ الطَّلَاقِ وَمُدَّةَ الْإِيلَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ الْقَمَرِيِّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمٍ فَنِّيٍّ لَا يَكَادُ يُوجَدُ إِلَّا فِي بِلَادِ الْحَضَارَةِ. وَلِعِبَادَتَيِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ دَوَرَانُهُمَا فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ، فَيَعْبُدُ الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ فِي جَمِيعِ
الْأَوْقَاتِ مِنْ حَارَّةٍ وَبَارِدَةٍ وَمُعْتَدِلَةٍ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْحِسَابِ الشَّمْسِيِّ وَلَهُ فَوَائِدُ أُخْرَى، وَقَدْ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) (55: 5) وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ (17: 12) وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَرْغِيبٌ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْجُغْرَافِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ وَقَدْ بَرَعَ فِيهِمَا أَجْدَادُنَا بِإِرْشَادِهَا.
ثُمَّ قَالَ: (مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أَيْ مَا خَلَقَ اللهُ الشَّمْسَ ذَاتَ ضِيَاءٍ
تُفِيضُ أَشِعَّتَهَا عَلَى كَوَاكِبِهَا التَّابِعَةِ لِنِظَامِهَا، فَتَبُثُّ الْحَرَارَةَ وَالْحَيَاةَ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ فِيهِنَّ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ضَوْءٍ مِنْهَا مِنَ الْخَوَاصِّ مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ، وَيُبْصِرُ النَّاسُ فِيهَا جَمِيعَ الْمُبْصَرَاتِ فَيَقُومُونَ بِأُمُورِ مَعَايِشِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِهِمْ، وَمَا خَلَقَ الْقَمَرَ ذَا نُورٍ مُسْتَمَدٍّ مِنَ الشَّمْسِ تَنْتَفِعُ بِهِ السَّيَّارَةُ فِي سَرَاهُمْ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ يَعْرِفُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ السِّنِينَ وَالشُّهُورَ - مَا خَلَقَ ذَلِكَ إِلَّا مُتَلَبِّسًا وَمُقْتَرِنًا بِالْحَقِّ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْعَامَّةُ لِحَيَاةِ الْخَلْقِ، وَنِظَامِ مَعَايِشِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ عَبَثٌ وَلَا خَلَلٌ، بَلْ ظَهَرَ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَسْرَارِ الضَّوْءِ وَحِكَمِهِ مَا صَارَ بِهِ عِلْمًا وَاسِعًا تَحَارُ الْعُقُولُ فِي نَظْمِهِ وَحِكَمِهِ، مِنْ أَصْغَرِ ذَرَّاتِهِ إِلَى أَعْظَمِ مَجَامِعِ نَيِّرَاتِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ مِنْ هَذَا الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، أَنْ يَخْلُقَ هَذَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَيُعَلِّمَهُ الْبَيَانَ، وَيُعْطِيَهُ مَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ فِي عَالَمِهِ، مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِإِظْهَارِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ حِكَمِهِ وَخَوَاصِّ خَلْقِهِ، وَسُنَنِهِ فِي عِبَادِهِ، وَيَجْعَلَ مَدَارَ سَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ عَلَى مَا أَعْطَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَإِرَادَةٍ، ثُمَّ يَتْرُكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُدًى، يَمُوتُ وَيَفْنَى، ثُمَّ لَا يُبْعَثُ وَلَا يَعُودُ؛ لِيُجْزَى الْمُرْتَقُونَ مِنْهُ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِإِيمَانِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلِيُجْزَى الْمُشْرِكُونَ الْخُرَافِيُّونَ، وَالظَّالِمُونَ الْمُجْرِمُونَ بِكُفْرِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ أَنْعَمَ فِي الدُّنْيَا مَعِيشَةً مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ؟ (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (68: 35 و36) وَ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(38: 28) ؟ .
(يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْمُنْتَفِعِينَ بِهَذِهِ الْحُجَجِ أَيْ نُبَيِّنُ الدَّلَائِلَ مِنْ حِكَمِ خَلْقِنَا، عَلَى مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَى رَسُولِنَا مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَأَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، مُفَصَّلَةً مُنَوَّعَةً مِنْ كَوْنِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وُجُوهَ دَلَالَةِ الدَّلَائِلِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِي فَهْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مَنْ خَلَقَ هَذَيْنِ النَّيِّرَيْنِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ النِّظَامِ بِالْحَقِّ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الْعَجِيبِ عَبَثًا، وَلَا أَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى وَفِي الْآيَةِ تَنْوِيهٌ بِفَضْلِ الْعِلْمِ وَكَوْنِ
الْإِسْلَامِ دِينًا عِلْمِيًّا لَا تَقْلِيدِيًّا، وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِآيَةٍ مُذَكِّرَةٍ بِسَائِرِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ فَقَالَ:
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي حُدُوثِهِمَا وَتَعَاقُبِهِمَا فِي طُولِهِمَا وَقِصَرِهِمَا؛ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ مَوَاقِعِ الْأَرْضِ مِنَ الشَّمْسِ وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ لَهُمَا بِحَرَكَتَيْهَا الْيَوْمِيَّةِ وَالسَّنَوِيَّةِ، وَطَبِيعَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمَا يَصْلُحُ فِيهِ مِنْ نَوْمٍ وَسُكُونٍ وَعَمَلٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أَيْ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى سُنَنِهِ فِي النِّظَامِ، وَحِكَمِهِ فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، وَفِي تَشْرِيعِ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ عَوَاقِبَ مُخَالَفَةِ سُنَنِهِ فِي التَّكْوِينِ، وَسُنَنِهِ فِي التَّشْرِيعِ، فَالْأَفْرَادُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ سُنَنَ الصِّحَّةِ الْبَدَنِيَّةِ يَمْرَضُونَ، وَالشُّعُوبُ الَّتِي تُخَالِفُ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ تَخْرُبُ بِلَادُهَا، وَتَضْعُفُ دُوَلُهَا، وَيُغَيِّرُ اللهُ تَعَالَى مَا بِهَا بِتَغْيِيرِهَا مَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ هِدَايَتَهُ الشَّرْعِيَّةَ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ فَيُدَنِّسُونَهَا بِالشِّرْكِ وَالْخُرَافَاتِ، وَيُفْسِدُونَهَا بِالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، يُجْزَوْنَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُجْزَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِهَا فِي الدُّنْيَا (كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى) .
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
هَذِهِ الْآيَاتُ بَيَانٌ لِحَالِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْغَافِلِينَ، وَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ
فِي الدُّنْيَا وَجَزَائِهِمَا فِي الْآخِرَةِ، فِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ. قَالَ:
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: رَجَوْتُهُ أَرْجُوهُ رُجُوًّا - عَلَى فُعُولٍ - أَمَّلْتُهُ أَوْ أَرَدْتُهُ، قَالَ تَعَالَى:(لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا)(24: 60) أَيْ يُرِيدُونَهُ، وَالِاسْمُ
رَجَاءٌ بِالْمَدِّ، وَرَجَيْتُهُ أَرْجِيهِ مِنْ بَابِ رَمَى لُغَةً، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الرَّاجِيَ يَخَافُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ مَا يَتَرَجَّاهُ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرَّجَاءُ ظَنٌّ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا فِيهِ مَسَرَّةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:(مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)(71: 13) ؟ قِيلَ: مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ؟ وَمَثَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ لِحَقِيقَةِ الرَّجَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ، وَالرُّشْدِ فِي الْوَلَدِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ الرَّجَاءِ فِي مَعْنَى الْخَوْفِ وَالِاكْتِرَاثِ، يُقَالُ: لَقِيتُ هَوْلًا مَا رَجَوْتُهُ وَمَا ارْتَجَيْتُهُ.
وَمَثَّلَ لَهُ بِشِعْرٍ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرَّجَاءَ: الْأَمَلُ وَالتَّوَقُّعُ لِمَا فِيهِ خَيْرٌ وَنَفْعٌ، وَأَنَّ الْخَوْفَ تَوَقُّعُ مَا فِيهِ شَرٌّ وَضُرٌّ، فَهُمَا مُتَقَابِلَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)(17: 57) وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ 11 و15 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْآيَةِ 21 مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ مِنْ رَجَاءِ لِقَاءِ اللهِ مَنْفِيًّا يَحْتَمِلُ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي يَوْمِ الْحِسَابِ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِقَوْمٍ وَالرَّجَاءِ لِآخَرِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْكَافِرِينَ:(إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا)(78: 27) .
وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الرَّجَاءَ هُنَا بِمُجَرَّدِ التَّوَقُّعِ الَّذِي يَشْمَلُ مَا يَسُرُّ وَمَا يَسُوءُ. وَاللِّقَاءُ الِاسْتِقْبَالُ وَالْمُوَاجَهَةُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَنَا فِي الْآخِرَةِ لِلْحِسَابِ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤَمِّلُونَ لِقَاءَهُ الْخَاصَّ بِالْمُتَّقِينَ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِلِقَاءِ الرُّؤْيَةِ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ، فَصَارَ كُلُّ هَمِّهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ مَحْصُورًا فِيهَا، وَكُلُّ عَمَلِهِمْ لَهَا، كَمَا قَالَ فِي الْمُتَثَاقِلِينَ عَنِ النَّفِيرِ لِلْجِهَادِ:(أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ)(9: 38) ؟ الْآيَةَ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا بِسُكُونِ نُفُوسِهِمْ وَارْتِيَاحِ قُلُوبِهِمْ بِشَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا وَزِينَتِهَا لِيَأْسِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْهَا عَلَى رَسُولِنَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَالْمَعَارِفِ وَالْحِكَمِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْكَوْنِيَّةِ وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ
مِنْ حِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْجِهَادِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، فَكَانُوا بِهَذِهِ الْغَفْلَةِ كَالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَرْجُو لِقَاءَنَا، فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَشْغَلُهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ فَلَا يَسْتَعِدُّ لِحِسَابِنَا لَهُ وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ نَعِيمٍ مُقِيمٍ أَوْ عَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، الْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ مَأْوَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ دَارُ الْعَذَابِ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مِنَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ الْمُدَنِّسَةِ لِأَنْفُسِهِمْ بِخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَعْمَالِ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَظُلُمَاتِ الْمَظَالِمِ الْوَحْشِيَّةِ، وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهَا الَّذِي دَنَّسَ أَنْفُسَهُمْ وَأَحَاطَ بِهَا، فَلَمْ يَعُدْ لِنُورِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَكَانٌ فِيهَا. وَالْمَأْوَى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَلْجَأُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْمُتْعَبُ أَوِ الْخَائِفُ أَوِ الْمُحْتَاجُ مِنْ مَكَانٍ آمِنٍ أَوْ إِنْسَانٍ نَافِعٍ، كَمَا تَرَى فِي اسْتِعْمَالِ أَفْعَالِهِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)(93: 6)(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ)(18: 10)(وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا)(8: 72)(آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ)(12: 69)
(أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)(11: 80) إِلَخْ، إِلَّا لَفْظَ الْمَأْوَى فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَنَّةِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ وَعَلَى النَّارِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْهَا آيَةُ يُونُسَ هَذِهِ، وَفِي تَسْمِيَةِ دَارِ الْعَذَابِ مَأْوًى مَعْنًى دَقِيقٌ فِي الْبَلَاغَةِ دَخِيلٌ فِي أَعْمَاقِهَا، فَائِضٌ مِنْ جَمِيعِ أَرْجَائِهَا، يُشْعِرُكَ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُطْمَئِنِّينَ بِالشَّهَوَاتِ، وَالْغَافِلِينَ عَنِ الْآيَاتِ، لَيْسَ لَهُمْ مَصِيرٌ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ هَوْلِ الْحِسَابِ، إِلَّا جَهَنَّمَ دَارَ الْعَذَابِ، فَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ لَهُ كَالْمَلْجَأِ وَالْمَوْئِلِ؛ إِذْ لَا مَأْوَى لَهُ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا.
هَذَا بَيَانٌ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِقَسَمَيْهِ، وَالْقَارِئُ وَالسَّامِعُ لَهُ تَسْتَشْرِفُ نَفْسُهُ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَالْعِلْمِ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) أَيْ يَهْدِيهِمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِهِ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ وَتُهَذِّبُ أَخْلَاقَهُمْ، وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هُوَ لَازِمُ الْإِيمَانِ وَمُغَذِّيهِ وَمُكَمِّلُهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي؛ لِبَيَانِ صِنْفِهِمْ وَفَرِيقِهِمُ الْمُقَابِلِ لِلْفَرِيقِ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُمْ، وَأَخْبَرَ بِهِدَايَةِ إِيمَانِهِمْ لَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَالتَّجَدُّدِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ كَسْبِ الْكَفَّارِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ سَبَبَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ لَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَهْدِيهِمُ الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِمْ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي قَالَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ فِيهَا: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أَيْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ مَقَاعِدِهِمْ مِنْ غُرُفَاتِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ وَمِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا، وَتَقَدَّمَ لَفْظُ: جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5: 65) وَلَفْظُ: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 43) وَأَمَّا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَعْنِي الْجَنَّةَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مُكَرَّرًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالتَّوْبَةِ. وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعًا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ - وَهُوَ الْعَمَلُ - لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي حَالِ مَنْ يَمُوتُ عَقِبَ إِيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ، وَدُخُولُ مِثْلِ هَذَا الْجَنَّةِ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ النُّصُوصَ الْعَامَّةَ لِلْأَحْوَالِ الْعَادِيَّةِ الْغَالِبَةِ.
(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانٌ لِكَلِمَاتٍ ثَلَاثٍ، تُمَثِّلُ حَيَاةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ مَبَادِئِ دُعَاءِ رَبِّهِمْ وَتَنْزِيهِهِ، وَمَا يَدْعُونَهُ أَيْ يَطْلُبُونَهُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِ تَعَالَى وَتَحِيَّةِ مَلَائِكَتِهِ لَهُمْ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَ تَزَاوُرِهِمْ أَوْ تَلَاقِيهِمْ، وَمِنْ حَمْدِهِمْ لَهُ فِي خَوَاتِيمِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهِيَ خَيْرُ الْكَلِمِ وَأَخْصَرَهُ وَأَعْذَبَهُ. الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ وَالدَّعَاوَةُ فِي الشَّيْءِ وَالِادِّعَاءُ لِلشَّيْءِ، فَالدُّعَاءُ لِلنَّاسِ هُوَ النِّدَاءُ وَالطَّلَبُ الْمُعْتَادُ بَيْنَهُمْ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُمْ، وَالدُّعَاءُ التَّعَبُّدِيُّ لِلَّهِ نِدَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَالرَّغْبَةُ فِيمَا عِنْدَهُ، الصَّادِرُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَالضَّرَاعَةِ لَهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا سِيَّمَا دَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ
مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، لِلْإِيمَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسَخِّرُ لَهَا وَالْهَادِي إِلَيْهَا، وَالْقَادِرُ عَلَى تَصْرِيفِهَا، وَعَلَى الْمَنِّ بِهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا، وَالدَّعْوَى لِلشَّيْءِ تَشْمَلُ فِي اللُّغَةِ تَمَنِّيَهُ وَقَوْلَهُ وَطَلَبَهُ مِنْ مَالِكِهِ، وَادِّعَاءَ مَلَكِيَّتِهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا لِلَفْظِ الدَّعْوَى تَصِحُّ إِرَادَتُهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَخِيرَ مِنْهَا. وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي الدُّعَاءِ الْعِبَادَةَ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي الْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَإِنَّ الصِّيَامَ لَا يُسَمَّى دُعَاءً لُغَةً وَلَا شَرْعًا، وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَأَعْظَمُ أَرْكَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ
مِنْهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَكُلُّ دُعَاءٍ شَرْعِيٍّ عِبَادَةٌ، وَمَا كُلُّ عِبَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ دُعَاءٌ. وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسُهُ، وَكَلِمَةُ (اللهُمَّ) نِدَاءٌ لَهُ عز وجل أَصْلُهُ يَا أَللَّهُ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ كُلَّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ اللهَ عز وجل وَهُوَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ، وَكُلَّ طَلَبٍ لِكَرَامَةٍ أَوْ لَذَّةٍ مِنْ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَهُوَ النَّعِيمُ الْجُسْمَانِيُّ، بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ، أَيْ تَنْزِيهًا وَتَقْدِيسًا لَكَ يَا أَللَّهُ، قِيلَ: أَوْ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَأَنَّ تَحِيَّتَهُمْ فِيهَا كَلِمَةُ: سَلَامٍ الدَّالَّةُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ النَّقْصِ وَالْآثَامِ، وَهِيَ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ التَّحِيَّةُ تَكُونُ مِنْهُ عز وجل لَهُمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ:(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ (33: 44) وَفِي سُورَةِ يس: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)(36: 58) وَتَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)(9: 73) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(16: 32) وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَدْخُلُونَ فِيهِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(13: 23 و24) وَتَكُونُ مِنْهُمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ:(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)(19: 62) وَفِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)(56: 25 و26) فَإِنَّ اللَّغْوَ وَالتَّأْثِيمَ مِنْ شَأْنِ كَلَامِ الْبَشَرِ، فَلَمَّا نَفَى وُقُوعَهُمَا مِنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَاسْتَدْرَكَ عَلَى نَفْيِهِ بِاسْتِثْنَاءِ كَلِمَةِ سَلَامٍ مُنْقَطِعًا، تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ سَلَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ عَامًّا يَشْمَلُهُ. وَالْجُمْلَةُ فِي آيَتِنَا: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ تَشْمَلُ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا، وَإِنَّهُ لَإِيجَازٌ بَلِيغٌ غَفَلَ عَنْهُ مَنْ نَعْرِفُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ لَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ آخِرُ كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ دُعَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ اللهَ تَعَالَى، وَمَطْلَبٍ يَطْلُبُونَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ وَإِكْرَامِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ ثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهَا. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الزُّمَرِ بَعْدَ آيَةِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ:(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)(39: 74)
وَآخِرُ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ
أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(39: 75) .
فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ - وَقَدْ فَسَّرْنَاهَا لَهُ هُنَا بِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى - أَنْ يُمَثِّلَ لِنَفْسِهِ حَالَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، الْمُبَيِّنَةِ لِنَعِيمِهِمُ الرُّوحَانِيِّ بِلِقَاءِ اللهِ عز وجل وَمُنَاجَاتِهِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِمْ، وَلِمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَلَائِكَتِهِ وَبَيْنَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعْظَمَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ رُوحَانِيٌّ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِدُّوا لَهَا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لَهَا بِالِاتِّكَالِ عَلَى التَّوَسُّلَاتِ بِأَشْخَاصِ الْأَوْلِيَاءِ وَالتَّمَنِّي لِشَفَاعَاتِهِمْ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (4: 123 و124) وَ (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)(17: 72) .
وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: ((إِذَا قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ - أَتَاهُمْ مَا اشْتَهَوْا مِنَ الْجَنَّةِ)) وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ. فَالْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَخَدَمِهِمْ فِي إِحْضَارِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا أَكَلُوا حَمِدُوا اللهَ تَعَالَى. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ أَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَمْ لَا.
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجْلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضَرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ وَغَرَائِزِهِمْ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا
مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَشُعُورِهِمْ فِيهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاللُّجُوءِ إِلَى دُعَائِهِ لِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا، وَاسْتِعْجَالِهِمُ الْأُمُورَ قَبْلَ أَوَانِهَا، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَحُجَّةٌ عَلَى مَا يَأْتُونَ مِنْ شِرْكٍ، وَمَا يُنْكِرُونَ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ، مُتَمَّمٌ لِمَا قَبْلَهُ وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَيْهِ.
تَعْجِيلُ الشَّيْءِ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَوَانِهِ الْمَضْرُوبِ أَوِ الْمُقَدِّرِ لَهُ أَوِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَالِاسْتِعْجَالُ بِهِ طَلَبُ التَّعْجِيلِ، وَالْعَجَلُ مِنْ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الْقَابِلَةِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّثْقِيفِ، كَيْ لَا تَطْغَى بِهِ فَتُورِدَهُ الْمَوَارِدَ. قَالَ تَعَالَى:(وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)(17: 11) وَقَالَ تَعَالَى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ)(21: 37) فَأَمَّا اسْتِعْجَالُهُ بِالْخَيْرِ وَالْحَسَنَةِ فَلِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مَنَافِعِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَأَمَّا اسْتِعْجَالُهُ بِالضُّرِّ وَالسَّيِّئَةِ فَلَا يَكُونُ لِذَاتِهِ، بَلْ لِسَبَبٍ عَارِضٍ كَالْغَضَبِ وَالْجَهْلِ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعْجِيزِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ إِلَّا لِلنَّجَاةِ مِمَّا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، كَمَا يَفْعَلُ الْيَائِسُونَ مِنَ الْحَيَاةِ، أَوِ النَّجَاةِ مِنْ ذُلٍّ وَخِزْيٍ أَوْ أَلَمٍ لَا يُطَاقُ، إِذْ يَتَقَحَّمُونَ الْمَهَالِكَ أَوْ يَبْخَعُونَ أَنْفُسَهُمُ انْتِحَارًا.
قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ بِهِ، كَاسْتِعْجَالِ مُشْرِكِي مَكَّةَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ نُزُولَهُ بِهِمْ إِجْمَالًا، بِمَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَقْوَامِ الرُّسُلِ الْمُعَانِدِينَ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ وَفِيمَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا كَخِزْيِهِمْ وَالتَّنْكِيلِ بِهِمْ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى كُلَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ:(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ)(13: 6) الْآيَةَ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً)(29: 53) وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(8: 32) وَقَالَ فِي السَّاعَةِ: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ)(42: 18) وَفِي الْعَذَابِ: (يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (29: 54) وَكُلُّ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنَ الِاسْتِعْجَالِ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهَا تَعْجِيزَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُبَالَغَةً فِي التَّكْذِيبِ، وَاسْتِهْزَاءً بِالْوَعِيدِ، وَقَوْلُهُ:(اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) مَعْنَاهُ كَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالْخَيْرِ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ لِذَاتِهِ بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى أَوْ بِمُحَاوَلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا قَدْ تَأْتِي بِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجْلُهُمْ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ الْجُمْلَةَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ لَقَضَى اللهُ إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ، وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ وَقَضَاءُ الْأَجَلِ إِلَيْهِمُ انْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِهِمْ قَبْلَ وَقْتِهِ الطَّبِيعِيِّ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَاسْتَعْجَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى
أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بِالْهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَقَضَى بِأَنْ يُؤْمِنَ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَيَحْمِلُوا دِينَهُ إِلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْعَجَمِ وَأَنْ يُعَاقِبَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ قَوْمِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَكُونُ تَأْدِيبًا لِسَائِرِهِمْ، بِمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ:(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ)(9: 14) الْآيَةَ، وَيُؤَخِّرُ سَائِرَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ لَا يَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ يَكُونُ عَامًّا، بَلْ يَذَرُهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ إِلَى نِهَايَةِ آجَالِهِمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ:(فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الشَّرِّ مِنْ كُفْرٍ وَظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَطُغْيَانُ السَّيْلِ وَالْبَحْرِ وَالدَّمِ مُسْتَعَارٌ مِنْهُ، وَالْعَمَهُ (كَالتَّعَبِ) : التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ فِي الْأَمْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ، وَالْمَعْنَى: فَنَتْرُكُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ طُغْيَانٍ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، يَتَرَدَّدُونَ فِيهِ مُتَحَيِّرِينَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُ، لَا نُعَجِّلُ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِئْصَالِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى فِي جَمَاعَتِهِمْ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِي أَفْرَادِهِمْ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ وَمَوْتِ بَعْضٍ، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ مِنْهُمْ، أَيْ هَذِهِ سُنَّتُنَا فِيهِمْ لَا نُعَجِّلُ شَيْئًا قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ بِمُقْتَضَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ عَامٌّ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْكَافِرِينَ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ بِذُنُوبِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ ظُلْمٍ وَفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ وَفُسُوقٍ لَأَهْلَكَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)(35: 45) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى هُنَا دُعَاؤُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْيَأْسِ وَدُعَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ الْغَضَبِ، لَوْ يُعَجِّلُهُ اللهُ لَهُمْ لَأَهْلَكَهُمْ أَيْضًا (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ) (13: 14) بِرَبِّهِمْ أَوْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ شَرْعَهُ وَسُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (13: 14) أَيْ ضَيَاعٍ لَا يَسْتَجِيبُهُ اللهُ لَهُمْ، لِحِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ.
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، هَذَا بَيَانٌ لِغَرِيزَةِ الْإِنْسَانِ الْعَامَّةِ وَشَأْنِهِ فِيمَا يَمَسُّهُ مِنَ الضُّرِّ، يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اسْتِعْجَالَ أُولَئِكَ النَّاسِ بِالشَّرِّ، تَعْجِيزًا لِنَبِيِّهِمْ وَمُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ طُغْيَانِهِمُ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ عَنْ مُقْتَضَى طَبِيعَتِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَهُ مِنَ الضُّرِّ مَا يَشْعُرُ بِشِدَّةِ أَلَمِهِ أَوْ خَطَرِهِ مِنْ إِشْرَافٍ عَلَى غَرَقٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّهْلُكَةِ، أَوْ شَدَّةِ مَسْغَبَةٍ، أَوْ إِعْضَالِ دَاءٍ دَعَانَا مُلِحًّا فِي كَشْفِهِ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ عَلَيْهِ: دَعَانَا مُضْطَجِعًا لِجَنْبِهِ، أَوْ قَاعِدًا فِي كَسْرِ بَيْتِهِ، أَوْ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ حَائِرًا فِي أَمْرِهِ، فَهُوَ لَا يَنْسَى حَاجَتَهُ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ، مَا دَامَ يَشْعُرُ بِمَسِّ الضُّرِّ وَلَذْعِهِ لَهُ، يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنِ النَّجَاةِ مِنْهُ، قَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا أَشَدَّ عَجْزًا وَأَقْوَى شُعُورًا بِالْحَاجَةِ إِلَى رَبِّهِ فَالَّتِي تَلِيهَا فَالَّتِي تَلِيهَا، وَثَمَّ حَالَةٌ رَابِعَةٌ هِيَ سَعْيُهُ لِدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَلَمْ تُذْكَرْ
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ قَلَّمَا يَتَذَكَّرُ مَا أُودِعَ فِي فِطْرَتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ ذِي السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ، وَيَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى اللُّجُوءِ إِلَيْهِ، وَدُعَائِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، إِلَّا عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُ وَالْمُشْرِكُونَ بِاللهِ تَعَالَى أَقَلُّ النَّاسِ تَذَكُّرًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الْمَعْلُومَةِ يَلْجَئُونَ إِلَى مَظِنَّةِ الْأَسْبَابِ الْمَوْهُومَةِ، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمَعْبُودَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهَا سُلْطَانًا غَيْبِيًّا فَوْقَ الْأَسْبَابِ، مِنْ جِنْسِ سُلْطَانِ الرَّبِّ الْخَالِقِ عز وجل إِمَّا لِذَاتِهَا وَإِمَّا بِمَا لَهَا مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَ اللهِ، وَالْمَثَلُ مَضْرُوبٌ هُنَا لِهَؤُلَاءِ.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ
يُقَالَ: ((فَإِذَا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ)) ؛ إِذْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلشَّرْطِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِي جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ لَا فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَنُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْقَارِئُ وَالسَّامِعُ لِلْآيَةِ كَشْفَ الضُّرِّ بَعْدَ الدُّعَاءِ وَاقِعًا مُشَاهَدًا مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَيَرَى مَا يَفْعَلُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِبْرَةِ. أَيْ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ الَّذِي دَعَانَا لَهُ فِي حَالِ شُعُورِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ كَشْفِهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، مَرَّ وَمَضَى فِي شُئُونِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ طَرِيقَتِهِ فِي الْغَفْلَةِ عَنْ رَبِّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، كَأَنَّ الْحَالَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، وَلَمْ نَكْشِفْ عَنْهُ ضُرَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ كَهَذَا النَّحْوِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي دُعَائِهِ وَحْدَهُ فِي الشِّدَّةِ، وَنِسْيَانِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ بَعْدَ كَشْفِهَا، زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مِنْ طُغَاةِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ، حَتَّى بَلَغَ مِنْ عِنَادِهِمْ لِلرَّسُولِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا أَنْذَرَهُمْ مِنْ عَذَابٍ أَنِ اسْتَعْجَلُوهُ بِالْعَذَابِ؛ وَالْإِسْرَافُ رَدِيفُ الطُّغْيَانِ وَأَخُوهُ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ عَشْرِ آيَاتٍ بِبَيَانٍ أَبْلَغَ.
وَقَدْ أُسْنِدَ التَّزْيِينُ هُنَا إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْعِبْرَةِ دُونَ فَاعِلِهِ، وَسَبَقَ مِثْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ 3: 14 وَالْأَنْعَامِ 6: 43 وَالتَّوْبَةِ 9: 37 وَقَدْ أُسْنِدَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنْفَالِ، وَأُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ:(زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)(108) وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ الْإِسْنَادِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ رَاجِعْ ص 557 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ.
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) .
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ شَأْنَهُ فِي النَّاسِ وَشَأْنَهُمْ مَعَهُ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ وَطُغْيَانِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ؛ لِيَعْتِبَرَ بِهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَعْقِلُهُ؛ إِذْ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَسِيرَتِهِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْنِ بِمِصْدَاقِهِ مِنْ سِيرَةِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ فَقَالَ عَاطِفًا لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الْخِطَابُ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وُجِّهَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى قَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِ وَطَنِهِ مَكَّةَ إِذْ أُنْزِلَتِ السُّورَةُ فِيهَا، فَهُوَ الْتِفَاتٌ يُفِيدُ مَزِيدَ التَّنْبِيهِ وَتَوْجِيهَ أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَوْضُوعِهِ، وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ، وَهُوَ جَمْعُ قَرَنٍ بِالْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ إِهْلَاكُ الْقُرُونِ فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَبَدَأَ هَذِهِ بِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِاللَّامِ " وَلَقَدْ " وَصَرَّحَ بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ وُقُوعُ الظُّلْمِ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ:(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)(18: 59) وَلَمَّا ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ:(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (11: 102) وَقَدْ بَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ فِي أَهْلِ الْحَضَارَةِ دُونَ الْهَمَجِ.
وَإِهْلَاكُ اللهِ الْأُمَمَ بِالظُّلْمِ نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) هُوَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهِيَ أَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ لِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَضَعْفِ الْأُمَمِ، وَلِاسْتِيلَاءِ الْقَوِيَّةِ مِنْهَا عَلَى الضَّعِيفَةِ اسْتِيلَاءً مُوَقَّتًا، إِنْ كَانَ إِفْسَادُ الظُّلْمِ لَهَا عَارِضًا لَمْ يُجْهِزْ عَلَى اسْتِعْدَادِهَا لِلْحَيَاةِ وَاسْتِعَادَتِهَا لِلِاسْتِقْلَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ:(فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)(2: 243) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ دَائِمًا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْحَيَاةِ حَتَّى تَنْقَرِضَ أَوَ تُدْغَمَ فِي الْغَالِبَةِ. كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ:(وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ)(21: 11) الْآيَاتِ - وَهَذَا النَّوْعُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلظُّلْمِ بِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: ظُلْمُ الْأَفْرَادِ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْفُسُوقِ وَالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُضْعِفَةِ لِلْأَبْدَانِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَخْلَاقِ، وَظُلْمُ الْحُكَّامِ الَّذِي يُفْسِدُ بَأْسَ الْأُمَّةِ فِي جُمْلَتِهَا وَهَذِهِ السُّنَّةُ دَائِمَةٌ فِي الْأُمَمِ، وَلَهَا حُدُودٌ وَمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَأَحْوَالِ أَعْدَائِهَا، هِيَ آجَالُهَا الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ (49) الْآتِيَةِ وَأَمْثَالِهَا.
(ثَانِيهِمَا) عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلْأَقْوَامِ الَّتِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا رُسُلًا لِهِدَايَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهِ الْعَدْلُ، فَعَانَدُوا الرُّسُلَ، فَأَنْذَرُوهُمْ عَاقِبَةَ
الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ بَعْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:(وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا
جَاءُوهُمْ بِهِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا، أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَلَا مُقْتَضَى اسْتِعْدَادِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا؛ لِأَنَّهُمْ مُرِّنُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَاطْمَأَنُّوا بِهِ، وَصَارَتْ لَذَّاتُهُمْ وَمَصَالِحُهُمُ الْقَوْمِيَّةُ مِنَ الْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ مُقْتَرِنَةً بِأَعْمَالِهِ الْإِجْرَامِيَّةِ مِنْ ظُلْمٍ وَفِسْقٍ وَفُجُورٍ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ: تَذْيِيلٌ لِإِنْذَارِ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ، وَتَقْدِيرُهُ كَالَّذِي مَرَّ قَبْلَهُ فِي الْمُسْرِفِينَ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ:(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)(7: 40) وَتَفْسِيرَ: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(7: 84) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. م
(ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) الْخِطَابُ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ كُلِّهِمْ بِمَا آتَيْنَاكُمْ فِي هَذَا الدِّينِ مِنْ أَسْبَابِ الْمُلْكِ وَالْحُكْمِ وَقَدَّرْنَاهُ لَكُمْ بِاتِّبَاعِهِ، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ الَّذِي بِهِ جَاءَكُمْ هُوَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَلَا يُوجَدُ بَعْدَ أُمَّتِهِ أُمَّةٌ أُخْرَى لِنَبِيٍّ آخَرَ، وَالْخَلَائِفُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ مَنْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي الشَّيْءِ أَيْ يَكُونُ خَلَفَهُ فِيهِ، وَلَقَدْ كَانَ لِتِلْكَ الْأُمَمِ دُوَلٌ وَحُكْمٌ فِي الْأَرْضِ، كَمِلْكِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ، وَالْوَثَنِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَالْفَرَاعِنَةِ وَالْهُنُودِ، فَاللهُ يُبَشِّرُ قَوْمَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّةَ مُحَمَّدٍ بِأَنَّهَا سَتَخْلُفُهُمْ فِي الْأَرْضِ، إِذَا آمَنَتْ بِهِ وَاتَّبَعَتِ النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(24: 55) الْآيَةَ، وَقَدْ عَلَّلَ هَذَا الِاسْتِخْلَافَ عِنْدَ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ بِهِ هُنَا بِقَوْلِهِ:(لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أَيْ لِنَرَى وَنُشَاهِدَ أَيَّ عَمَلٍ تَعْمَلُونَ فِي خِلَافَتِكُمْ، فَنُجَازِيَكُمْ بِهِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِيمَنْ قَبْلَكُمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخِلَافَةَ إِنَّمَا جَعَلَهَا لَكُمْ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْأَرْضِ وَتَطْهِيرِهَا مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْفِسْقِ، لَا لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِلَذَّةِ الْمُلْكِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ آيَاتِ الْإِذْنِ لَهُمْ بِالْقِتَالِ:(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ)(22: 41) فَأَعْلَمَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ أَمْرَ بَقَاءِ خِلَافَتِهِمْ مَنُوطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَكُونُ نَاظِرًا إِلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا يَغْفُلُ عَنْهُمْ فِيهَا، حَتَّى لَا يَغْتَرُّوا بِمَا سَيَنَالُونَهُ، وَيَظُنُّوا أَنَّهُ
بَاقٍ لَهُمْ لِذَاتِهِمْ أَوْ لِنِسْبَتِهِمْ إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُمْ يَتَفَلَّتُونَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي الظَّالِمِينَ وَقَدْ بَيَّنَهَا لَهُمْ آنِفًا، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ:(أَوْ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينِ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)(7: 100) الْآيَةَ، وَقَدْ قَصَّ عَلَيْنَا فِيهَا مَا حَذَّرَ بِهِ قَوْمَ مُوسَى عِنْدَمَا وَعَدَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ بِإِرْثِ الْأَرْضِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا آبَاءَهُمْ، فِي إِثْرِ مَا شَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ إِيذَاءِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ قَبْلَ مَجِيئِهِ وَبَعْدَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ:(قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(7: 129) .
وَلْيُرَاجِعِ الْقَارِئُ تَفْسِيرَ آيَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ، وَتَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي اسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ الْعَامِّ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)
الْآيَةَ رَقْمَ 165 ص 220 ج 8 ط الْهَيْئَةِ وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ لِلْمُسْلِمِينَ كَغَيْرِهِمْ، بِمَا تَبَيَّنَ بِهِ إِعْجَازُ كِتَابِهِ وَصَدَقَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
وَكَوْنُهُ رَبَّى أُمَّتَهُ بِمَا عَلَّمَهُ رَبُّهُ مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ وَطَبَائِعِ الْعُمْرَانِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ الْأُمِّيُّونَ، بَلْ لَمْ تَصِرْ عِلْمًا مُدَوَّنًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ؛ لِغَفْلَةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا فِيهِ مِنْ أُصُولِهَا وَقَوَاعِدِهَا الصَّرِيحَةِ كَهَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَهَا الْمُؤَرِّخُ الْفَقِيهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلْدُونَ فِي مُقَدِّمَةِ تَارِيخِهِ؛ مُؤَمِّلًا أَنْ يُعْنَى بِهَا مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَيَأْتُوا بِتَوْسِيعِ مَا بَدَأَ بِهِ مِنْ مَبَاحِثِهَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ وَالْحُكْمَ فِي دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، كَانَ دَاخِلًا فِي طَوْرِ الِانْحِطَاطِ وَالِاضْمِحْلَالِ، ثُمَّ ارْتَقَى الْإِفْرِنْجُ فِيهِمَا فَتَرْجَمُوا تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ بِلُغَتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ كُلِّهَا، وَأَخَذُوا مِنْهَا عِدَّةَ عُلُومٍ فِي سُنَنِ الْعُمْرَانِ، وَنَحْنُ نَأْخُذُهَا الْيَوْمَ عَنْهُمْ غَافِلِينَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ الْمُقَلِّدِينَ حَجَبُونَا عَنْ هِدَايَتِهِ، بَلْ حَرَّمُوهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِكُتُبِ مَذَاهِبِهِمْ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَلَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمُ انْتِقَامَهُ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى هِدَايَتِهِ الَّتِي اسْتَخْلَفَ بِهَا سَلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَئِنْ عَادُوا إِلَيْهَا بِإِقَامَةِ سُنَنِ الْقُرْآنِ، لَيُتِمَّنَّ لَهُمْ وَعْدَهُ بِخِلَافَةِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَبِقَدْرِ إِقَامَةِ هَذِهِ السُّنَنِ يَكُونُ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقِيمُهَا.
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) .
بُدِئَتِ السُّورَةُ بِالْكِتَابِ الْحَكِيمِ (الْقُرْآنِ) وَإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ لِلْوَحْيِ بِشُبْهَتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، وَسِيقَتْ بَعْدَهَا الْآيَاتُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَمِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَتَارِيخِهِ،
مُتَضَمِّنَةً لِإِثْبَاتِ أَهَمِّ أَرْكَانِ الدِّينِ وَهُوَ الْوَحْيُ وَالتَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْكِتَابِ نَفْسِهِ وَتَفْنِيدِ مَا اقْتَرَحَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الرَّسُولِ فِيهِ، وَحُجَّتِهِ الْبَالِغَةِ عَلَيْهِمْ فِي كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى.
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) فِي الْآيَةِ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ هَؤُلَاءِ الْمَوْعُوظِينَ إِلَى الْغَيْبَةِ عَنْهُمْ، وَتَوْجِيهٌ لَهُ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأُسْلُوبُ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا، وَفَائِدَتُهُ الْعَامَّةُ تَلْوِينُ الْكَلَامِ بِمَا يُجَدِّدُ الِانْتِبَاهَ لَهُ وَالتَّأَمُّلَ فِيهِ، وَفِي كُلِّ الْتِفَاتٍ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ، لَوْ أَرَدْنَا بَيَانَ مَا نَفْهَمُهُ مِنْهَا لَطَالَ بِنَا بَحْثُ الْبَلَاغَةِ الْكَلَامِيَّةِ، بِمَا يَشْغَلُ الْقُرَّاءَ عَنِ الْهِدَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ مِنْ تَفْسِيرِنَا. وَيَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نُكْتَةَ حِكَايَةِ هَذَا الِاقْتِرَاحِ السَّخِيفِ بِأُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ عَنْ قَوْمٍ غَائِبِينَ إِفَادَةُ أَمْرَيْنِ:(أَحَدُهُمَا) إِظْهَارُ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ كَأَنَّهُمْ غَيْرُ حَاضِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْخِطَابَ بِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى: (ثَانِيهِمَا) تَلْقِينُهُ صلى الله عليه وسلم الْجَوَابَ عَنْهُ بِمَا تَرَى مِنَ الْعِبَارَةِ الْبَلِيغَةِ التَّأْثِيرِ، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ آيَاتُنَا الْمُنَزَّلَةُ حَالَةَ كَوْنِهَا بَارِزَةً فِي أَعْلَى مَعَارِضِ الْبَيَانِ، وَأَظْهَرِ مُقَدِّمَاتِ الْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا
وَهُمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ قَرِيبًا - وَأَعَادَهُ وَاضِعًا إِيَّاهُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ الْقَوْلِ - أَيْ قَالُوا لِمَنْ يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ وَهُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، الْأَظْهَرُ فِي سَبَبِ قَوْلِهِمْ هَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَلَّغَهُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ لِيُنْذِرَهُمْ بِهِ، وَتَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا، وَكَانُوا فِي رَيْبٍ مِنْ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ لِبَشَرٍ مِثْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَفِي رَيْبٍ مَنْ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَفُوقُهُمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، بَلْ كَانُوا يَرَوْنَهُ دُونَ كِبَارِ فُصَحَائِهِمْ مِنْ بُلَغَاءِ الشُّعَرَاءِ وَمَصَاقِعِ الْخُطَبَاءِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَمْتَحِنُوهُ بِمُطَالَبَتِهِ بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ فِي جُمْلَةِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ سُورَةٍ فِي أُسْلُوبِهَا وَنَظْمِهَا وَدَعْوَتِهَا، أَوْ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ لِمَا يَكْرَهُونَهُ مِنْهُ، كَتَحْقِيرِ آلِهَتِهِمْ وَتَكْفِيرِ آبَائِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَعَلَ هَذَا أَوْ ذَاكَ كَانَتْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مَنْقُوضَةً مِنْ أَسَاسِهَا، وَكَانَ قُصَارَى أَمْرِهِ أَنَّهُ امْتَازَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيَانِ، بِقُوَّةٍ نَفْسِيَّةٍ فِيهِ كَانَتْ خَفِيَّةً عَنْهُمْ كَأَسْبَابِ السِّحْرِ لَا بِوَحْيِ اللهِ إِلَيْهِ، وَهُمَا مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدَتُهُمْ فِي عَصْرِنَا، وَقَدْ فَنَّدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا مِمَّا تُبِيحُهُ لِي رِسَالَتِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، أَيْ بِمَحْضِ رَأْيِي وَمُقْتَضَى اجْتِهَادِي، وَكَلِمَةُ (تِلْقَاءِ) بِكَسْرِ التَّاءِ مَصْدَرٌ مِنَ اللِّقَاءِ كَتِبْيَانٍ مِنَ الْبَيَانِ، وَكَسْرُ التَّاءِ فِيهِمَا سَمَاعِيٌّ وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا الْمَصْدَرِ فَتْحُهَا كَالتَّكْرَارِ وَالتَّطْوَافِ وَالتَّجْوَالِ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أَيْ مَا أَتَّبِعُ فِيهِ إِلَّا تَبْلِيغَ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَالِاهْتِدَاءَ بِهِ فَإِنْ بَدَّلَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ شَيْئًا بِنَسْخِهِ بَلَّغْتُهُ عَنْهُ، وَمَا
عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمَحْضُ، وَأَقُولُ: إِذَا كَانَ اللهُ لَمْ يُعْطِ رَسُولَهُ الْحَقَّ فِي تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ، فَمَا حُكْمُهُ تَعَالَى فِيمَنْ يُبَدِّلُونَهُ بِأَعْمَالِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِصِدْقِ وَعْدِهِ لِأَهْلِهِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُهُ، كَالَّذِينِ قَالَ فِيهِمْ:(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ)(48: 15) أَوْ بِتَرْكِ أَحْكَامِهِ لِمَذَاهِبِهِمْ، كَالَّذِينِ قَالَ فِيهِمْ:(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ)(2: 181) إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِنَفْيِ الشَّأْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ إِنِّي أَخَافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أَيَّ عِصْيَانٍ كَانَ، عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ إِذَا عَصَيْتُهُ بِتَبْدِيلِ كَلَامِهِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِكُمْ؟ وَقَوْلُهُ: إِنْ عَصَيْتُ مِنْ بَابِ الْفَرْضِ، إِذِ الشَّرْطِيَّةُ الْمَبْدُوءَةُ بِـ ((إِنْ)) يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا شَأْنُهُ أَلَّا يَقَعَ. وَهَذَا جَوَابٌ عَنِ الشِّقِّ الثَّانِي مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ.
ثُمَّ لَقَّنَهُ الْجَوَابَ عَنِ الشَّقِّ الْأَوَّلِ مَفْصُولًا لِأَهَمِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) أَيْ لَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا أَتْلُوَ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّمَا أَتْلُوهُ بِأَمْرِهِ تَنْفِيذًا لِمَشِيئَتِهِ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ أَيْ وَلَوْ شَاءَ أَلَّا يُدْرِيَكُمْ وَيُعْلِمَكُمْ بِهِ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ لَمَا أَرْسَلَنِي وَلَمَا أَدْرَاكُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ الْأَعْلَى؛ لِتَدْرُوهُ فَتَهْتَدُوا بِهِ وَتَكُونُوا بِهِدَايَتِهِ خَلَائِفَ الْأَرْضِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بِهِ لَا بِقُرْآنٍ آخَرَ، كَمَا قَالَ:(لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)(4: 166) وَقَالَ: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(7: 52)(رَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي ج 8 تَفْسِيرٍ) فَهُوَ قَدْ أَنْزَلَهُ عَالِمًا بِأَنَّ فِيهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَأَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَأَمَرَنِي بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْكُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَهُ (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) أَيْ فَقَدْ مَكَثْتُ فِيمَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ عُمُرًا طَوِيلًا مِنْ قَبْلِهِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، لَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ فِيهِ سُورَةً مِنْ مِثْلِهِ وَلَا آيَةً تُشْبِهُ آيَاتِهِ، لَا فِي الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَلَا فِي الْبَلَاغَةِ وَرَوْعَةِ الْبَيَانِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟ إِنَّ مَنْ عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا كِتَابًا، وَلَمْ يُلَقَّنْ مَنْ أَحَدٍ عِلْمًا، وَلَمْ يَتَقَلَّدْ دِينًا، وَلَمْ يَعْرِفْ تَشْرِيعًا، وَلَمْ يُمَارِسْ أَسَالِيبَ الْبَيَانِ، فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ، مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ، وَلَا خَطَابَةٍ وَفَخْرٍ، وَلَا عِلْمٍ وَحِكَمٍ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لَكُمْ، بَلْ هُوَ يُعْجِزُ جَمِيعَ الْخَلْقِ حَتَّى الدَّارِسِينَ لِكُتُبِ الْأَدْيَانِ وَالْحِكْمَةِ وَالتَّارِيخِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ؟ فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَيَّ إِذًا أَنْ آتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ؟ وَسَيَتَحَدَّاهُمْ فِي الْآيَةِ 38 بِسُورَةٍ مِثْلِهِ.
وَمِمَّا يَمْتَازُ بِهِ الْوَحْيُ الْمُحَمَّدِيُّ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ، أَنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَبْلَ نُبُوَّتِهِمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْقَرِيبَةِ، وَفَاتَنَا فِيهَا
التَّذْكِيرُ بِمَا أُوتِيَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ الْوَهْبِيِّ قَبْلَهَا أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى فِي مُوسَى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)(28: 14) وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ يَكُونُ فِي اسْتِكْمَالِ الثَّلَاثِينَ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا
خُرُوجَهُ إِلَى مَدْيَنَ وَنُزُولَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ عَوْدَتِهِ مِنْهَا. وَكَانَ مُوسَى عَلَى عِلْمٍ بِشَرَائِعِ الْمِصْرِيِّينَ وَمَعَارِفِهِمْ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى فِي يُوسُفَ:(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)(12: 22) وَلَمْ يَقُلْ: ((وَاسْتَوَى)) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَيْضًا، وَكَانَ الْعِلْمُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ يُوسُفُ تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ وَالرُّؤَى أَيِ الْإِخْبَارَ بِمَآلِهَا. وَقَالَ فِي يَحْيَى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (19: 12) وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِلْمٌ وَلَا حُكْمٌ فِي الْأُمُورِ، اللهُمَّ إِلَّا حُكْمُهُ فِي تَنَازُعِ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ عِنْدَ بِنَائِهِمُ الْكَعْبَةَ، أَيُّهُمْ يَضَعُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَكَانِهِ مِنَ الرُّكْنِ، وَكَادُوا يَقْتَتِلُونَ فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ نُحَكِّمُهُ وَنَرْضَى بِحُكْمِهِ؛ أَيْ لِأَنَّهُ أَمِينٌ صَادِقٌ لَا يُحَابِي، فَحَكَمَ بِوَضْعِهِ فِي ثَوْبٍ يَأْخُذُ سَيِّدُ كُلِّ قَبِيلَةٍ نَاحِيَةً مِنْهُ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ إِلَى مَوْضِعِهِ مِنَ الرُّكْنِ فَرَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَوَضَعَهُ فِيهِ. وَالْخَبَرُ مِنْ مَرَاسِيلِ السِّيَرِ لَمْ يَرِدْ مَرْفُوعًا وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزَّهْرِيِّ وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِكَلِمَةِ ((غُلَامٍ)) وَفِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ أَنَّ سِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
هَذِهِ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ نَاهِضَةٌ، عَلَى بُطْلَانِ شُبْهَتِهِمُ الدَّاحِضَةِ، الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا مُطَالَبَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَقَدْ ظَهَرَ لِعُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ مَا أَيَّدَ دَلَالَتَهَا الْعِلْمِيَّةَ فَإِنَّهُمْ بِمَا حَذَقُوا عِلْمَ النَّفْسِ وَأَخْلَاقَ الْبَشَرِ وَطِبَاعَهُمْ، وَمَا عَرَفُوا مِنْ دَرَجَاتِ اسْتِعْدَادِهِمُ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ بِاسْتِقْرَاءِ تَارِيخِهِمْ، قَدْ حَقَّقُوا أَنَّ اسْتِعْدَادَ الْإِنْسَانِ الْعَقْلِيَّ لِلْعُلُومِ، وَاسْتِعْدَادَهُ النَّفْسِيَّ لِلنُّهُوضِ بِالْأَعْمَالِ الْقَوْمِيَّةِ أَوِ الْعَالَمِيَّةِ، يَظْهَرُ كُلٌّ مِنَ الِاسْتِعْدَادَيْنِ فِيهِ مَنْ أَوَائِلِ نَشْأَتِهِ، وَيَكُونُ فِي مُنْتَهَى الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ نُمُوِّهِ فِي الْعَقْدَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ عُمْرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْخَامِسَةَ وَالثَّلَاثِينَ وَلَمْ يَظْهَرْ نُبُوغُهُ فِي عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي سَبَقَ اشْتِغَالُهُ بِهَا، وَلَا النُّهُوضُ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي كَانَ اسْتَشْرَفَ لَهَا، فَإِنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ
شَيْءٌ مِنْ هَذَا أَوْ ذَاكَ مِنْ بَعْدِهَا جَدِيدًا أُنُفًا وَيَكُونُ فِيهِ نَابِغًا نَاجِحًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَبَاحِثِ إِثْبَاتِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَمْحِيصِ الْحَقَائِقِ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صَلَاحُ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ قَامَ بِتَنْفِيذِ هَذَا الْإِصْلَاحِ بِمَا غَيَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ، وَقَلَبَ أَحْوَالَ أَكْثَرِ أُمَمِهَا فَحَوَّلَهَا إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَضَاهَا فِي الْأُمِّيَّةِ. فَهَذَا الْعِلْمُ الْجَدِيدُ الَّذِي أَيَّدَ حُجَّةَ الْقُرْآنِ الْعَقْلِيَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، لَهُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ نَظَائِرُ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَبَيَّنَّا كَثِيرًا مِنْهَا فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَهُوَ مِمَّا يَمْتَازُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ التَّفَاسِيرِ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ غَافِلِينَ عَنْهُ تَبَعًا لِغَفْلَتِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، وَعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى هِدَايَتِهِ، بِصَدِّ دُعَاةِ التَّقْلِيدِ الْمُعَمَّمِينَ
إِيَّاهُمْ عَنْهُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ تَرَى أَسَاطِينَ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَفْهَمُوا مِنَ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا جَوَابًا عَنِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنِ اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ آخَرَ، وَقَدْ هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَعَ بُرْهَانِهِ بِفَضْلِهِ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخَرِ! !
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) هَذِهِ تَتِمَّةُ الرَّدِّ عَلَى اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَهُوَ أَنَّ تَبْدِيلَ الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مِمَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِهِ، بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ إِنْ فُرِضَ وُقُوعُهُ مِنْهُ - لِأَنَّهُ كَلَامُهُ الْخَاصُّ بِهِ - وَثَانِيًا بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ عَزَّزَ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ بِثَالِثَةٍ أَدَبِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ شَرَّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ فِي الْبَشَرِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَهُوَ مَا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْهِ بِجُحُودِهِمْ، وَثَانِيهِمَا التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللهِ، وَهُوَ مَا اجْتَرَحُوهُ بِإِجْرَامِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ عِنْدَ اللهِ وَأَجْدَرُ بِغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ
مِنَ الظَّالِمِينَ، وَأَنَا أَنْعِي عَلَيْكُمُ الثَّانِيَ مِنْهُمَا، فَكَيْفَ أَرْضَى لِنَفْسِي بِالْأَوَّلِ وَهُوَ شَرٌّ مِنْهُ؟ وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِي مِنْ هَذَا الْإِجْرَامِ الْعَظِيمِ وَأَنَا أُرِيدُ الْإِصْلَاحَ وَأَدْعُو إِلَيْهِ وَأَحْتَمِلُ الْمَشَاقَّ فِي سَبِيلِهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أَيْ لَا يَفُوزُونَ بِمَطْلُوبِهِمُ الَّذِي يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 21 و93 و144) وَفِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 37) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ فِي ج 8 تَفْسِيرِ) .
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَحْضِ شُبْهَتِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَهِي الشَّفَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ بُطْلَانُهَا وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ وَحْدَهُ، وَصَرَّحَ هُنَا بِإِسْنَادِ هَذَا الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ وَبِاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِ بِالشَّفَاعَةِ. ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ الْحُجَّةَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ فَقَالَ:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ بَيَانِ
شِرْكِهِمْ وَسَخَافَتِهِمْ فِيهِ، وَمُكَابَرَتِهِمْ فِي جُحُودِ الْحَقِّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْوَحْيُ، أَيْ وَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَيْ غَيْرِ اللهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَجَاوِزِينَ مَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، لَا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا وَحْدَهَا، فَمَا مَعْنَى كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (12: 106) وَفِي وَصْفِهَا بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ إِيذَانٌ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا وَضَلَالِهِمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَفْعِ مَنْ يَعْبُدُهُ، وَضُرِّ مَنْ يَكْفُرُهُ، وَيُشْرِكُ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَصْلُ غَرِيزَةِ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ فِي الْبَشَرِ، فِي سَذَاجَتِهِمُ الَّتِي لَا تَلْقِينَ فِيهَا لِحَقٍّ وَلَا
بَاطِلٍ، هِيَ الشُّعُورُ الْبَاطِنُ بِأَنَّ فِي الْوُجُودِ قُوَّةً غَيْبِيَّةً وَسُلْطَانًا عُلْوِيًّا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ لِمَنْ شَاءَ، وَإِيقَاعِ الضُّرِّ عَلَى مَنْ شَاءَ وَكَشْفِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَمَّنْ شَاءَ، غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِلنَّاسِ، فَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى تَوَارِيخِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِمُ الْبَدَوِيَّةِ وَالْحَضَرِيَّةِ، يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ التَّدَيُّنِ الْغَرِيزِيِّ فِيهِمْ، وَأَمَّا صُوَرُ التَّعَبُّدِ وَتَسْمِيَةُ الْمَعْبُودَاتِ فَمِنْهَا مَا هُوَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ تَلْقِينِ دُعَاةِ الدِّينِ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. فَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّمَا عَبَدَهُ مَنْ عَبَدَهُ لِشُبْهَةٍ فَهِمَ مِنْهَا قُدْرَتَهُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُلْطَانٍ لَهُ فَوْقَ الْأَسْبَابِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَوَّلُهَا تَفْسِيرُ الْعِبَادَةِ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَوْسَطُهَا وَأَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِيهِ آزَرَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْ آخِرِهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا جَاءَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الْخَوَارِقِ مِنْ بَحْثِ الْوَحْيِ الِاسْتِطْرَادِيِّ.
فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ - هُوَ بَيَانَ عَجْزِهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا جَمَادَاتٌ مَصْنُوعَةٌ كَالْأَوْثَانِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ، وَالْأَصْنَامِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَكَذَا الْحِجَارَةِ، أَوْ غَيْرُ مَصْنُوعَةٍ كَاللَّاتِ وَهِيَ صَخْرَةٌ كَانَتْ بِالطَّائِفِ يُلَتُّ عَلَيْهَا السَّوِيقُ ثُمَّ عُظِّمَتْ حَتَّى عُبِدَتْ، وَإِمَّا أَشْجَارٌ كَالْعُزَّى مَعْبُودَةِ قُرَيْشٍ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي قَطَعَهَا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي نَجْدٍ، وَشَجَرَةِ الْمَنْضُورَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا النِّسَاءُ فِي مِصْرَ لِأَجْلِ الْحَبَلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ قَدْ وُضِعَتْ ذِكْرَى لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ عِبَادَتُهُمْ إِلَى الْعَرَبِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِيهَا أَرْوَاحًا مِنَ الْجِنِّ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ قَطْعِ شَجَرَةِ الْعُزَّى أَوْ شَجَرَاتِهَا الثَّلَاثِ، إِذْ ظَهَرَتْ عِنْدَ قَطْعِهَا لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا جِنِّيَّةٌ، فَأَرَادَتْ أَنْ تُوَاثِبَهُ وَتُخِيفَهُ فَقَتَلَهَا، فَهِيَ كَالْقُبُورِ الَّتِي تُشَرَّفُ وَتُجَصَّصُ وَيُوضَعُ عَلَيْهَا السُّتُورُ وَتُبْنَى عَلَيْهَا الْقِبَابُ، لِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي وَضَعُوا لَهُ تَمَاثِيلَ الْأَوْثَانِ، وَعَبَدَةُ